مشكلة النظام الإيراني أنه اعتاد على تصدير أزماته الداخلية بالهروب إلى افتعال أخرى خارجية، ظناً منه أنها تستر عوار عيوبه الداخلية، ومحاولة لحشد العوام حول فزاعة أنه نظام يحارب من الخارج، وأنه صراع الروم والفرس وما شابه من التفسيرات التي يكنزها لضرورة التضليل الإعلامي، ومنها أنه يحارب بسبب نظامه «الإسلامي»، بينما واقع الحال أنه من يسيء للإسلام، فجميع عمليات تصدير الإرهاب ودعمه التي يقوم بها النظام الإيراني هي في بلدان العالم الإسلامي، بلدان لم تعلن الحرب على إيران ولا تحالفت ضدها، ومنها اليمن وسوريا ولبنان والعراق والبحرين.
النظام الإيراني المختبئ خلف عباءة «ولاية الفقيه»، هو أول من انتهك تعاليم الإسلام بالاعتداء على جيرانه بالتآمر، وزعزعة نظام الحكم والتدخل في شؤونها، وكذلك الحرب بالوكالة كالصواريخ الإيرانية التي تطلقها ميليشيات إيران في اليمن، ميليشيات الحوثي، بينما النظام الإيراني عاجز عن الدفاع عن جنوده الذين تقصفهم وتحصد رؤوسهم الصواريخ الإسرائيلية في سوريا، إذا التزم الصمت ولم يقم حتى بخطوة الدفاع عن النفس، لينجح الكيان الإسرائيلي في اختبار قوة إيران ويثبت خوار قواها، ويفضح حقيقة الكلام الذي لا يطبق إلى أفعال، والذي تمطر ميليشياته سماء المملكة العربية السعودية بصواريخ عمياء تم اعتراضها من قبل دفاعات الجيش السعودي، كادت تسقط على مدنيين أبرياء من بينهم حجاج ومعتمرون، جاؤوا من بلاد شتى وقد يكون بينهم إيرانيون، وهكذا، يفعل النظام الإيراني الذي أرهق الشعب الإيراني الأبي.
النظام الإيراني حاول اللعب مع الكبار دون إدراك لحجم الضرر الذي سيجنيه من مشروع نووي هو في الواقع مجرد بئر عميقة لا قرار لها لإهدار أموال الشعب الإيراني دون طائل، في حين يعاني الشعب الإيراني أعلى معدلات الفقر والبطالة، وانخفاض الأجور ومعدلات الدخل للفرد، مقارنة بحجم دخل إيران في سوق البترول والمعادن والتجارة.
صحيح أن البيت الأبيض الأميركي «لا يرغب في ملالي بأسنان نووية» كما وصفه الرئيس الأسبق جورج بوش، ورغم أن البرنامج النووي الإيراني الذي بدأ في خمسينات القرن الماضي، لا يزال غير ناضج ولا يمكنه إنتاج سلاح نووي حقيقي، رغم التهويل الذي أعجب النظام الإيراني، ووجد فيه مدخلاً لابتزاز العالم حول برنامج نووي لا يزال يراوح مكانه لأكثر من نصف قرن في مستوى تعليمي KG1 بين الدول النووية الكبرى، ورغم ما تنشره بعض الصحف ومنها «هآرتس» عن شراء قنابل أو نقل تكنولوجيا من دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى إيران من حين لآخر، فإن الدلائل تؤكد بأن ما تقوم به إيران، هو إهدار للمال دون أن تتقدم قيد أنملة في برنامج يمكن أن ينتج قنبلة أو رأساً نووياً.
النظام الإيراني الذي استساغ اللعبة وأعجبته الكذبة، التي جعلته في حالة تفاوض مع الخمس الكبار، ظهر عاجزاً عن حماية بضعة جنود له في سوريا حصدت رقابهم صواريخ إسرائيل، وهو يخشى المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، حتى لا يفتضح أمر «المارد» الضعيف أمام أنصاره، وهي الحقيقة التي يخفيها النظام الإيراني، فهو لا يمتلك سلاحاً جوياً متطوراً، ولا يمتلك منظومة دفاع صاروخي يمكنها اعتراض أي هجوم صاروخي جوي، ناهيك من ضعف منظومة الرادارات عنده، ولذلك ما يقوم به النظام الإيراني يبقى مجرد عبث ولعب مع الكبار، وسينتهي به سحقاً تحت أرجل الفيلة.
سلوك النظام الإيراني أعطى العذر للولايات المتحدة الأميركية، للتمهيد لضربة نزع مخالب وأسنان نظام إرهابي يدعم العنف ويجاهر به، أما المشروع النووي الإيراني والاتفاق الذي انسحب منه ترمب، فهو مجرد العنوان الكبير لضربات أميركية إسرائيلية مشتركة على إيران.
على النظام الإيراني أن يعود إلى دياره ويهتم بشعبه، وعندها تنتهي المأساة.
لماذا يقوم النظام السوري بتدمير أماكن لا يحتاج إلى تدميرها ويجرفها من سكانها؟ لماذا يمارس فائضا من العنف، لا يحتاجه من أجل إعلان انتصاره بمقياس الهزيمة والنصر؟ أي هدفٍ يسعى إلى تحقيقه في الأماكن المحطّمة المجرّفة من السكان؟ لماذا يرغب النظام دائما في إعلان نصره على أماكن يعتبرها معاديةً بعد تحطيمها تماما؟ هل هذا مجرّد رد فعل سياسي عنيف وغبي واعتباطي وفائض عن الحاجة فقط، أم أنه تعبير عن إستراتيجية إلغائية من النظام؟
النظر إلى مسار الصراع الطويل وسلوك النظام الوحشي في مواجهة المناطق التي تمرّدت عليه، يعطي فكرة أخرى عن هذا السلوك، بوصفه سلوكا مقصودا بذاته، وليس عنفا اعتباطيا أو فائضا عن الحاجة، فهو شكّل ويشكّل إستراتيجية سياسية معتمدة، اعتبرها النظام فعالة في مواجهة أعدائه الداخليين. استخدم هذه الإستراتيجية في مدينة حماة في العام 1982، وعمّمها على كل البلد في الصراع الجاري منذ العام 2011. النظر إلى هذا السلوك الوحشي، بوصفه إستراتيجية سياسية معتمدة، يجعل كثيرا من سلوك النظام الوحشي مفهوما في سياق الصراع، وهو يفسّر الاستخدام المبكر للبراميل المتفجرة عشوائية الأهداف، في وقتٍ مبكر من قمعه الاحتجاجات في المدن السورية.
إنها سياسة الأرض المحروقة التي تعمل على تبديل معالم المكان. وبالتالي، تبديل بنيته الاجتماعية. وطالما أن المكان هو الذي يحمل البنية السكانية المعادية للنظام ويحتويها، فلا يمكن تحطيم هذا المجتمع المعادي، إلا بتحطيم المكان، بالتالي اقتلاعه وتذريره في أماكن أخرى، يكون فيها غريبا حتى في وطنه، وتفكيك وحدته المجتمعية، من خلال تحطيم المكان الذي يسكن فيه هذا المجتمع.
اعتماد النظام في سورية هذه السياسة للمرة الأولى في صدامات مدينة حماة في العام 1982. لم يكن المقاتلون الذين تحصّنوا في مدينة حماة، والذين يقدّروا في أحسن الأحوال بحوالي 200 ـ 300 مقاتل. لم يكن القضاء عليهم يحتاج إلى تدمير المدينة. لكن النظام اختار أن يدمر المدينة، من أجل تحطيم مجتمعها، وبالتالي إعادة بناء المكان بمقاييس السيطرة السياسية والأمنية على المدينة التي اعتبرها النظام عدوة، وبقي يعاملها كذلك في السنوات اللاحقة. إضافة إلى جعل المدينة نموذجا تأديبيا للمدن السورية الأخرى، في ما إذا أبدت تمرّدا على النظام، أو فكرت في ذلك.
إذا، لم تكن سياسة تحطيم المكان، بوصفها إستراتيجية لتحطيم السكان، واضحةً تماما في تجربة مدينة حماة، فإن هذه الإستراتيجية تبدو جليةً جدا في سياسات النظام، لتحطيم المكان، بوصفه عنوانا للتمرّد الذي انطلق في العام 2011، والسكان بوصفهم هدفا عشوائيا، طالما اعتبر النظام أن المكان بسكانه هو حاضنة لهؤلاء الأعداء. وبالتالي، يجب تحطيم المكان لتحطيم الحاضنة الاجتماعية وتجريفها، وهي الوسيلة المثلى لانتصار النظام على أعدائه (الشعب)، وعلى الحاضنة التي أعطت الجرأة لهؤلاء للتمرّد عليه.
لم يقف تحطيم المكان عند تدمير البنية المعمارية لتدمير النسيج الاجتماعي للمناطق التي تمرّدت على النظام السياسي فحسب، بل حتى عندما يعلن النظام الانتصار في هذه المناطق، فإنه يبقيها فارغةً من سكانها. على سبيل المثال، أعلن النظام نصره في مدينة داريا في محيط دمشق القريب منذ أكثر من عامين، لكنه لم يسمح لأيٍّ من سكانها بالعودة إلى منازلهم، بمن فيهم مؤيدوه، بمعنى أن تحطيم المكان، ومعاقبة سكانه، لا يشمل الأعداء فحسب، بل ولا يشمل إعطاء امتياز العودة حتى إلى المؤيدين. وإذا كان هناك وضع خاص لداريا بوصفها مشرفة على مطار المزّة العسكري، مقر المخابرات الجوية، الأكثر إجراما في الصراع الحالي، فإن هذه السياسة تشمل مناطق أخرى، وهي سياسة متبعة اليوم في التعامل مع الغوطة الشرقية، التي دمّر النظام مدنها بالقصف على مدى سنوات، وهو اليوم يجرّف السكان إعلانا لانتصاره. حتى في الأماكن التي لم يمنع السكان من العودة إليها، فهو لم يقم بإصلاح البنية التحتية من ماء وكهرباء، ما يجعل الحياة في هذه المناطق مستحيلة.
تشبه الاستراتيجية التي اعتمدها النظام بالتعامل مع المكان الاستراتيجية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين التي اعتمدت استبدال السكان من خلال تحطيم المكان، وتحطيم البنية الاجتماعية، وترحيلها إلى خارج فلسطين، لإقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني. ولا يختلف سلوك النظام بتحطيم المجتمع السوري الذي خرج محتجّا عليه وعلى سياساته وطريقه حكمه. ولأن النظام تعامل مع المدن السورية، كتجمعات سكانية معادية، كان لا بد من تدميرها، بوصفها عنوانا للاعتراض السياسي على السلطة الحاكمة، وأيضا لأن نظاما كهذا لا يحتمل أي معارضة، بعد أن جرف الحياة السياسية في سورية، ولكن هذا التجريف لم يمنع المجتمع السوري من الثورة على هذا النظام الوحشي، على الرغم من كل سياسات النظام الإلغائية على مدار أربعة عقود سابقة على الثورة. وهذا المجتمع الذي احتج على النظام بحاجة لإعادة بناء، وحتى تتم إعادة بنائه، يجب تحطيمه بوصفه بنية معادية، وبناء "المجتمع الوطني المفيد". لذلك لم يكن غريبا أن يرى رأس النظام أن سورية، بعد كل هذا الدمار، والمجتمع السوري "أكثر انسجاما" من السابق.
ما جرى ويجري في سورية نوع من "أسرلة" النظام و"فَلَسْطنة" السوريين بأكثر الأشكال عنفا ووحشية، تدمير المكان وتجريف البشر، لإلغائهم من الوجود. وبالتالي، التعامل مع المجتمع المحلي، بوصفه عدوا يجب القضاء عليه، بصرف النظر عن الكلفة التي يمكن دفعها في هذا السياق، حتى ولو كانت إعادة بناء البلد كله بوصفه "مزرعة" للعصابة الحاكمة بالحديد والنار.
تحطيم المكان يعني تحطيم المعمار البشري الذي كان قائما، وبالتالي تدمير الذاكرة التي هي البشر وتاريخهم في المكان. لتدمير المكان هدف واضح، هو تدمير البشر، تدمير السوريين غير المفيدين، وإعادة رسم خريطة سورية المعمارية والاجتماعية، الخريطة التي يراها النظام ملائمة له، "سورية المفيدة" للعصابة الدموية الحاكمة، التي تهندس البلاد بشريا ومعمارياً على مزاجها، ووفق مصالحها الضيقة.
ظهرت إيران منقسمة على نفسها، ومضطربة، خلال الأيام القليلة الماضية، كما لم تكن طوال أربعة عقود من عمر «الثورة الإسلامية»، وذلك بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» المعروفة بـ«الاتفاق النووي».
وتسارعت وتيرة وقوّة نزعة التشكيك في قدرة النظام الإيراني على إصلاح نفسه من الداخل، نتيجة الإخفاقات المتتالية في إحداث أي انفراجه في أزمات النظام المركّبة داخلياً وخارجياً. وتفاقم الصّراع داخلياً تحت السطح بين شبكات النفوذ، ومراكز القوة، والتيارات المختلفة داخل النظام الإيراني، حول سبل مواجهة الضغوط الأميركية - الإسرائيلية الجديدة، في ظل استمرار اتساع نفوذ «الحرس الثوري» بشكل تدريجي ومضطرد، وتراجع مؤشرات قوة كل من علي خامنئي، ورئيس الجمهورية حسن روحاني.
وبينما أظهر علي خامنئي، ومن خلفه كبريات المؤسسات الاقتصادية، والتيارات السياسية المقربة منه، رغبةً في التودُّد إلى الشارع، واسترضاء الناس، عن طريق اتخاذ قرارات توصف بأنها تصالحية، أو شعبوية، حاول الرئيس حسن روحاني تعويض النقاط السياسية التي خسرها مؤخراً لصالح «الحرس الثوري» بالاقتراب من «الجيش» النظامي تارةً، والاقتراب من خامنئي تارةً أخرى، سعياً للاحتماء بهما نتيجة الضغوط المتصاعدة من «الحرس الثوري»، بعد أن خسرت الحكومة، أو كادت، المنجز الوحيد الذي تحقق لها، والمتمثل في الاتفاق النووي.
استجابات النظام الإيراني السياسية والعسكرية والاقتصادية للضغوط الأميركية والإسرائيلية الأخيرة، والتي تمثلت في خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والهجمات الإسرائيلية المتكررة على المواقع الإيرانية في سوريا، أظهرت وجود انقسامات حادّة داخل بنية النظام الإيراني حول السبل المثلى للحفاظ على البقاء في مواجهة هذه التحديات. يمكن القول إنه توجد «أربع إيرانات» متباينة، لديها أربع مقاربات مختلفة، في كيفية الرد على الضغوط الأميركية: إيران خامنئي والمحافظين، وإيران «الحرس» و«أحزاب الله»، وإيران روحاني وحكومة الاعتدال، وإيران البازار والطبقة الوسطى.
وتبدو «إيران خامنئي» محرجة، ومضطربة، وباحثة عن مخرج يحفظ ماء الوجه، ويمنع انهيار الاتفاق والاقتصاد. يشمل هذا الموقف الجهاز القضائي، والمؤسسات التابعة لمؤسسة «بيت القائد» خامنئي، و«مجلس تشخيص مصلحة النظام»، و«مجلس خبراء القيادة»، و«مجلس صيانة الدستور»، وقسماً كبيراً من نواب البرلمان الإيراني. ويعود سبب الإحراج إلى عدم قدرة خامنئي على الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه، بحرق الاتفاق إذا مزقه الرئيس الأميركي ترامب؛ فقد قال خامنئي، في 15 يونيو (حزيران) 2016، حرفياً: «نحن لا ننتهك الاتفاق النووي، ولكن مرشحي انتخابات الرئاسة الأميركية يهددون بتمزيق الاتفاق. إذا فعلوا ذلك، فإننا سنحرقه».
أما «إيران (الحرس) و(أحزاب الله)» فتدفع باتجاه الردّ على قرار الرئيس ترمب بالخروج من الاتفاق النووي، وترغب في ركوب رأسها؛ وليس هذا بمستغرب، فـ«إيران الحرس» تتغذى في الداخل والخارج على الصراع، وتُراكم ثرواتها من خلال الاحتكار، والانفراد بالأسواق الإيرانية، ولا تريد أي انفتاح ينتهي بجلب من ينافسها على مكتسباتها.
وداخل «إيران الحرس» هناك «إيران سليماني» التي تحكمها في هذا التصعيد اعتبارات أخرى لا علاقة لها بمصالح الشعب الإيراني، بل هي اعتبارات «حفظ ماء الوجه» أمام عشرات الوكلاء الإقليميين، من ميليشيات وأحزاب تقاتل تحت راية «فيلق القدس»، وتطالبه بردّ الصفعات الإسرائيلية المتتالية. إن استمرار النفوذ الإقليمي لـ«فيلق القدس» مرهون بهذه المُنازلة.
أما «إيران روحاني» فتسعى إلى تجاهل انسحاب ترمب، ومواصلة العمل مع الأوروبيين أملاً في الإبقاء على منجزها اليتيم الذي تحقق خلال سنوات ولاية روحاني. لم تنجح الابتسامات العريضة والصور ذات المؤثرات الدبلوماسية المدروسة بعناية، مع جون كيري وأقرانه، في تثبيت أي منجز على الأرض. نسف الرئيس ترمب كل شيء بجرّة قلم.
وأخيراً تفضّل «إيران البازار والطبقة الوسطى» الخضوع لإعادة التفاوض مع الإدارة الأميركية الجديدة، وحل الملف جذرياً. ويبدو أن هذا الرأي يمثل وجهة نظر أغلبية ساحقة من الشعب الإيراني الذي أنهكته مطاردة النظام لأوهامه الرسالية والتوسعية، أو على الأقل هكذا تُظهر لنا مُسوحات الرأي في وسائل التواصل الاجتماعي.
هل اقترب زمن «الربيع الإيراني» والمفترض فيه أن يذهب بعيداً بنظام الملالي في طهران ليُنهي أربعة عقود من الاستبداد والشمولية في الداخل، ومن تصدير عدم الاستقرار وزعزعة الأمن الإقليمي في الجوار، عطفاً على تدبير وترتيب المؤامرات حول العالم، سواء كان العالم الحقيقي أو العالم الافتراضي؟
ربما يكون الاحتمال أقرب إلى إيران من حبل الوريد، وما نشره الأيام القليلة الماضية بعض المواقع الأميركية عن مستقبل إيران يؤكد أن المسألة باتت تتجاوز فكرة العقوبات، وإعادة فرضها بعد الانسحاب من الاتفاقية النووية.
بعد يوم واحد من إعلانه المثير الذي وضع وجه الإيرانيين إلى الحائط تحدث الرئيس ترمب بكلام أقرب ما يكون إلى الشيفرة السرّية التي تحتاج إلى من يفكك معانيها ومبانيها، فقد أشار إلى أن: «شيئاً ما سيحدث ما لم تقبل إيران إعادة التفاوض».
يدرك ترمب تمام الإدراك أن الإيرانيين لن يقبلوا شروطه الجديدة، ذلك أن تخليهم عن برنامجهم الصاروخي، ووقف نزعات الهيمنة خليجياً وشرق أوسطي، ناهيك عن التخلي عن آمالهم وأحلامهم في حيازة سلاح دمار شامل، أمر معناه نهاية الثورة الإيرانية القائمة على تصدير فائض القوة وكذا الأفكار الثورية لتغيير شكل المنطقة.
أحد الأسئلة العميقة المطروحة على موائد النقاش الأكاديمية اليوم: هل يمكن أن تقتدي إيران بنموذج كوريا الشمالية؟
العقول الاستراتيجية ومراكز الفكر الأميركية تدرك الفارق جيداً، ذلك أن كوريا الشمالية دولة مدنية اعتيادية تمارس أعمال السياسة والسيادة من منطلقات آيديولوجية. غير أن إيران دولة عقائدية ثيولوجية تحمل، حسب رؤاها المنحولة، دعوة لهداية العالم، وهذا لا يتم في تصورها إلا من خلال السيطرة عليه، سيطرة تامة وشاملة تبدأ بتصدير الثورة إلى دول الجوار الإسلامي ومن ثم إلى بقية أرجاء العالم، في مشهدٍ كارثيّ لملّاك الحقيقة المطلقة.
ليومين بعد إعلان الانسحاب من الاتفاقية استمع الأميركيون والعالم إلى وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، متحدثاً أمام لجنة المخصصات المالية في مجس الشيوخ، وقد كان كلامه أكثر إثارة من كلام ترمب، إذ أشار إلى أن القوات المسلحة الأميركية لن تطلب المزيد من الأموال بعد انسحاب ترمب، وأن الأميركيين سيعملون مع شركائهم وحلفائهم...». وسيعملون مع آخرين «لضمان التصدي للنفوذ الإيراني الخبيث».
من هم الآخرون الذين يقصدهم ماتيس؟ وما الشيء الخطير الذي وصفه ترمب؟
يبدو أن موقع «فري بيكون» الأميركي الشهير قد بدا يقدم لنا خيطاً رفيعاً مما ترتبه واشنطن لطهران، فقد أماطت اللثام عن ملامح ومعالم مخطط تمت صياغته وصناعته في أحد المراكز الفكرية المستترة وراء مجلس الأمن القومي الأميركي، ويدعى «مجموعة الدراسات الأمنية SSG»، وهي بلا شك واحدة من الخلايا الأمنية والاستخباراتية عالية المستوى، وتتوافر لها معلومات وأدوات تميزها عن مثيلاتها.
باختصار غير مخلٍّ، الرؤية التي قُدمت لترمب تقوم على أن إيران لن تغيّر سلوكها، وأن الاتفاقية السابقة لم تكن إلا تسويفاً للوقت، وعليه فإن الخيارات تجاهها في الحال القريب جداً تمضي في اتجاهين:
الأول، أن يقبل الأميركيون بإيران نووية، مع كل التبعات والاستحقاقات لهذه الفرضية، وهو أمر مستحيل.
الثاني، العمل وبأسرع ما يمكن على تدمير أكبر قدر ممكن من القوة الإيرانية، أيْ خيار الحرب، وهو شأن تكاليفه عالية وغالية.
العقول الأميركية التي لها دالة معمقة على التعلم من تجارب الماضي، سيما التدخلات المسلحة في الشرق الأوسط، لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع إيران، وإن رغبت أبداً ودوماً في تكثيف الجهود لتخليص إيران من نظام حكمها السلطوي المتشدد، كما أن واشنطن ستكون سعيدة بالتعامل مع حكومة بديلة، وربما يكون هذا هو الطريق الأكثر احتمالاً لإيران خالية من الأسلحة النووية وأقل خطورة.
في هذا السياق يظهر إلى العلن وربما للمرة الأولى الحديث عن «الربيع الإيراني»، أي دعم المواطنين الإيرانيين الذين فاض بهم الكيل في الداخل الإيراني من الأوضاع الحياتية المزرية، سواء تعلق المشهد بمساحة الحريات الإنسانية أو الأوضاع الاقتصادية التي بلغت حداً غير مسبوق من السوء والتدهور.
يبدو من الواضح جداً أن إدارة ترمب تعمل على خيار الداخل الإيراني ليكون رأس الحربة في تغيير نظام الملالي، ورغم أن الأمر لن يكون يسيراً، فإن الانفجار المتوقع والناجم عن الضغوط الاقتصادية القادمة يمكن من جهة أن يفعل فعله.
ومن ناحية ثانية فإن التركيبة المجتمعية الإيرانية غير المنصهرة معاً تفتح نوافذ وأبواب لشيءٍ ما يجري في الخفاء، فقمع النظام الإيراني الأقليات العرقية والدينية يدفع دفعاً باتجاه تقسيم البلاد. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن ثلث سكان إيران أقليات، وأن كثيراً منهم يسعون للاستقلال بالفعل، فإن إيران تضحى في خطر داخلي يحتاج إلى عود ثقاب مشتعل لتغيير المشهد على نحو أو آخر.
هذا الطرح لم يكن خافياً عن أعين إدارات سابقة، سيما إدارة باراك أوباما التي رفضت عام 2009 استغلال المظاهرات وثورات الغضب ضد الملالي لصالح تغيير سلوك الملالي، الأمر الذي يلقي بكثير من علامات استفهام على العلاقة بين إدارته وبين طهران، وهو أمر حتماً سيحكم عليه التاريخ.
كشفت مظاهرات ديسمبر (كانون الأول) الماضية، في عموم إيران عن حالة الاهتراء التي يسعى النظام السياسي الإيراني إلى إخفائها داخل خطاب شعبوي يتباهى بقوة البلاد ومنعتها، كما أن هتافات المتظاهرين وضعت روحاني وخامنئي في سلة واحدة، بما يُسقط الخط الافتراضي الوهمي الذي كان يرسم بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين. حين ثأر الإيرانيون ضد نظام الشاه كانت ثورتهم تتصل بالداخل الإيراني الباحث عن الحرية والعدالة والمساواة، وليس الدور الإقليمي أو تصدير رؤى فقهية زائفة... هل يكرر التاريخ نفسه؟
الأسوأ لإيران وحسب الـ«SSG» هو أنه حال فشل «الربيع الإيراني» فإن العمل العسكري يعرف مساره جيداً.
أثارت تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إن دول المنطقة يجب أن تتحمل تكاليف أكبر في مواجهة "داعش"، ثم تصريحاته عن ضرورة أن تدفع السعودية أربعة مليارات دولار في مقابل بقاء القوات الأميركية في شرق سورية، أثارت تكهنات كثيرة بشأن مشاركة قوات عربية في سورية مكان القوات الأميركية التي أعلن الرئيس ترامب أنها يجب أن تنسحب قبل أن تتعدل تصريحاته؛ إنها ستبقى هناك إلى فترة لا تطول عن ستة أشهر.
وقد أرسل الرئيس الأميركي وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو إلى السعودية، كما تحادث الأخير هاتفياً مع نظيره المصري سامح شكري في الموضوع ذاته. كان رد الرياض أنها مستعدة لإرسال قوات عربية تحت غطاء التحالف الدولي إلى سورية، بل كرّر وزير الخارجية السعودية، عادل الجبير، مرات إن بلاده عرضت إرسال قوات سعودية إلى سورية مرتين خلال فترة الرئيس أوباما والآن تكرر العرض نفسه. وقال "ما زلنا نبحث آلية إرسال هذه القوات إلى سورية بغطاء من التحالف الدولي". أما الوزير المصري فقال ببساطة إن بلاده تدرس الموضوع.
ويعود موضوع تشكيل القوات العربية المشتركة إلى عقود طويلة، حيث بحث الموضوع ضمن إطار جامعة الدول العربية، وبسبب الخلافات السياسية الدائمة فشل تحقيق الموضوع، وكان عصب الفشل هذا ما سميت القوات العربية التي دخلت لبنان في عام 1976، لكنها في أغلبها كانت قوات سورية، هدفت إلى إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، غير أنها بقيت هناك حتى أُخرجت بمظاهرات شعبية حاشدة عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، وخلال العقود الثلاثة من وجودها هناك، تحولت وظيفتها من قوات حفظ سلام ضمن تنفيذ قرار جامعة الدول العربية إلى أشبه بقوات الاحتلال التي أصبحت وظيفتها تحطيم الزعامات التاريخية اللبنانية والفلسطينية في لبنان، فدخلت حرباً مع منظمة التحرير الفلسطينية في البداية، ثم مع حركة أمل وحزب الله قبل أن تتحالف معهما، ثم حرباً مع القوات المسيحية اللبنانية متمثلة بقوات الكتائب ثم تيار الرئيس اللبناني الحالي ميشال عون، فخرجت هذه القوات منهكةً، وفي الوقت نفسه، فاقدة أية شرعية قانونية أو سياسية يمكن أن تضفى عليها، أو يمكن أن تبرّر لجامعة الدول العربية، اتخاذ أي قرار آخر بإرسال قوات عربية إلى أية دولة عربية أخرى، مهما كانت، ومهما كانت الظروف.
ولذلك لم تفكر أي من السعودية أو مصر بالذهاب إلى جامعة الدول العربية للحصول على تفويض بإرسال قوات عربية إلى سورية، لأنها تعرف الانقسام السياسي داخل الجامعة. وفي الوقت نفسه، ثمة الرصيد السياسي لإرسال قوات كهذه بناءً على التجربة اللبنانية السابقة.
تزدحم الأرض السورية اليوم بقوات أجنبية من كل البلدان المجاورة تقريباً، إضافة إلى قوات من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فلدى تركيا وجود عسكري قوي، يتمثل في الشمال السوري بعد عملية ما تسمى درع الفرات والمعركة أخيراً في عفرين التي تمكّنت من خلالها من السيطرة على المدينة، بعد طرد قوات الحماية الكردية المشكلة من قوات حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً شرسة مع الحكومة التركية على الأراضي التركية والعراقية والآن السورية. كما أن العراق والأردن غالباً ما ينفذان عمليات عسكرية عابرة للحدود، بهدف ضمان أمن الحدود التي لم يعد يسيطر على أي منها النظام السوري، أما فرنسا فقد أعلنت أخيراً إرسال قوات عسكرية إلى سورية عبر العراق، حليفة للقوات الأميركية التي تتمركز في شرق سورية، وخصوصاً بعد سيطرة القوات الأميركية على الرقة وطرد "داعش" منها.
أما الولايات المتحدة فلديها وجود عسكري كبير في سورية يزيد عن ألفي جندي في شرق سورية ويسيطرون على المناطق التي كانت يوماً ما تحت سيطرة "داعش". وعلى الرغم من الجدل الكبير الذي أعقب تصريح الرئيس ترامب عن انسحاب القوات الأميركية من سورية، ثم وضع جدول زمني لذلك لا يتجاوز ستة أشهر، ثم وفي أعقاب الضربة الثلاثية الأميركية البريطانية الفرنسية على منشآت تتبع للنظام السوري، بعد استخدامه السلاح الكيميائي في دوما المحاصرة آنذاك، قرّر الرئيس ترامب إبقاء القوات الأميركية هناك، لكنه أعلن أن الدول الإقليمية ودول الخليج يجب أن تتحمل تكلفة بقاء هذه القوات، إذا كانت ترغب في مقارعة الوجود الإيراني ومنع تمدد نفوذه.
لدى إيران أيضاً وجود عسكري كبير، سواء عبر من تسميهم "المستشارين"، ويقدّرون بالآلاف، أو عناصر الحرس الثوري الإيراني الذي وُجد قائده قاسم سليماني مرات في معارك مختلفة في الشمال السوري. فضلاً عن ذلك، تعتمد إيران على تجنيد مرتزقة من الشيعة الأفغان والباكستانيين، والذين لجأوا إلى إيران، فتستخدمهم هذه عبر مليشيات تطلق عليها "زينبيون" و"فاطميون"، وهي مليشيات طائفية شيعية، أثبتت نجاعةً في الحرب السورية، لأن تكلفتها على إيران والنظام السوري رخيصة للغاية، فعلى الرغم من مقتل آلاف منهم، إلا أن لا أسر أو عائلات تمثلهم أو تدافع عن حقوقهم، ولا يشكلون بمقتلهم لا ضغطاً على إيران ولا على النظام السوري، إنهم أشبه بالمرتزقة المجانية التي تقاتل من أجل المال فقط وتحفزها عقيدة طائفية تغذّيها الأيديولوجيا الشيعية التي تسيطر عليها المرجعية الإيرانية، ممثلة بالمرشد خامنئي بشكل كامل.
وأخيراً، يحتفظ العراق في سورية بقوات غير نظامية، ممثلة بمليشيات طائفية، تعتبر امتداداً لـ "الحشد الشعبي"، مثل حركة النجباء. وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية تنفي مسؤوليتها عن مشاركة هذه المليشيات في سورية لدعم نظام بشار الأسد، إلا أنه يجب أن لا يُنسى أن النظام العراقي أخذ موقفاً داعماً للرئيس السوري تحت التأثير الإيراني من جهة، وبناء على اعتبارات طائفية من جهة أخرى، كما أن مليشيات الحشد الشعبي، ممثلة في الحكومة العراقية، وتدعمها وتمولها رسمياً، وبالتالي من الصعب تصديق أن المليشيات العراقية الموجودة في سورية لا تحظى بدعم رسمي، وإنْ لم يكن بشكل علني.
يمكن القول إذاً إن الأراضي السورية توجد فيها قوات أجنبية من كل الجنسيات، ما يجعل إرسال مزيد من القوات سيزيد المشهد تعقيداً على المستويين، السياسي والعسكري، لا سيما أنها لن تأتي ضمن اتفاق سياسي، أو ضمن إطار الأمم المتحدة، وهو ما يعقد وجودها ويجعلها عرضة للاشتباكات العسكرية، ضمن تغير الحدود العسكرية المتغيرة في الحرب السورية، وضمن الانقسام السياسي العميق الذي تشهده سورية اليوم.
انشغل الرأي العام العالمي بإعلان ترامب انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران , وانشغل الرأي العام العربي والسوري منه على وجه الخصوص بالتصعيد العسكري الإسرائيلي ضد قواعد إيرانية في سورية , موقفان مختلفان من حيث التقدير والنتائج , فعلى المستوى العالمي هناك حسابات الطاقة وأهمية المنطقة الساخنة وتحكمها بإمدادات النفط والغاز للعالم , وما الخسائر التي ستصيب اقتصادات الدول الصناعية بزيادة أسعار النفط , وكذلك مصير الاستثمارات التي تمّ الاتفاق عليها مع إيران بعد الاتفاق النووي ؟
في حين ذهبت أمنيات العرب وفي القلب منهم السوريون إلى أنّ التهديد ومن ثم التصعيد ضد إيران من قبل إسرائيل سيدمر القوة الإيرانية وحلفها الطائفي الذي فتك بالثورة السورية , وقوّى النظام الطائفي , وساعد على عمليات التهجير التي طالت ملايين السوريين فضلاً عن عمليات التغيير الديمغرافي المنظّم . أملٌ وصل ببعض السوريين إلى الدعاء للعدو الإسرائيلي بالنصر الساحق على العدو الإيراني !
بعيدًا عن التأويلات والتحليلات والأمنيات , يبقى السؤال هل ثمة حربٌ وشيكة بين إيران وإسرائيل ؟ وهل كانت الضربة الإسرائيلية مقدمة لحرب شاملة ؟
في سبعينيات القرن المنصرم وضع كسينجر نظرية "الضغط على الأطراف حتى يرتاح القلب" والتي تقوم باختصار على إغراق العالم العربي بمشكلات مع الدول المحاذية له , ومنها إيران , وبعد ثورة الخميني 1979 ظنّ العرب أنّ الخلاص من الشاه سيغير قواعد اللعبة فإذا بهم يترحمون على الشاه قياسًا بالجرائم التي ارتكبتها ومازالت ترتكبها إيران الثورة بجوارها وما بعد جوارها وكذلك العمل قبل ذلك على زعزعة الدول العربية بتصدير الثورة "تصدير التشيع" وصناعة تمايز مجتمعي يؤثر في خلخلة النسيج الاجتماعي وصولاً لحالة الاحتراب المجتمعي.
لم يكن غزو العراق 2003 بداية انهيار السدّ الذي حافظ ببقائه على البلاد العربية حكومات ومجتمعات من الخطر الإيراني أربعة وعشرين عامًا بل كان بداية تفجّر نهر دماء السُنة الذي بدأ تدفقه بالعراق ولم ينته جريانه في الشام , ولا أحد يعرف أين سنتهي وكم هي كمية الدماء التي ستسيل بعد مقتل نحو مليون ونصف عراقي ومليون سوري وضياع بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت , ومازالت ثمة عواصم عربية بانتظار الطوفان الطائفي الذي لا يبقي ولا يذر ؟
هكذا وبغفلة من الجميع كان السيف الإيراني يقتصّ من "الكتلة الصلبة" العرب السُنة بحماية أمريكية في العراق بعد أن عززت أمريكا ذلك حين استدعت "نيغربونتي" في 2004 ليصنع فرق الموت , وتبدأ قوائم المطلوبين من علماء وأساتذة جامعيين وضبّاط محترفين وطيارين , وصولاً لمنطق التهجير بعد أحداث المرقدين في سامراء 2006 ليصبح التهجير أو الذبح عنوان بغداد المتشحة بالسواد ! أحداث قلبت المعادلة في العراق ودمّرت المقاومة العراقية التي تشتت جهدها بين ثلاثة أعداء أمريكا وإيران والقاعدة , حتى كادت أن تتلاشى بعد أن كانت قبيل ذلك بقليل تتحدث التقارير عن تلاشي الاحتلال الأمريكي وإفرازاته ! خدمة قدمتها إيران لأمريكا مقابل تحقيق جملة من المكاسب , ولا سيما مدّ نفوذها في تلك المنطقة التي حلمت ومازالت أن تكون فضاءً لها أو حديقة خلفية لامبراطوريتها منذ العهد الساساني , إنّها المنطقة الحضارية الأولى في العالم القديم أو ما يُعرف بالهلال الخصيب !
أحداث جسّام كان لابدّ من التغطية عليها بحدث يذهب بالرأي العام لمكان آخر ولا يترك فرصة للشكّ بأنّ إيران في تعاون مع أمريكا في غزو العراق , هذا الغزو الذي يصبّ في مصلحة إسرائيل أولاً , فكانت حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل , حرب تحريكية تمكّن صناعها من تحقيق عدة مكاسب , فقد استطاعت إيران عبر ذراعها في لبنان أن توهم العرب والمسلمين أنّها في حرب مع إسرائيل , وأنّها تقود حلف المقاومة والممانعة ! في حين حققت إسرائيل هدفها بجعل حزب الله حامياً للحدود بموجب قرار دولي , وقد خرجت من تدمير لبنان دون تبعات قانونية كما ينصّ على ذلك القانون الدولي , فقد تبرعت الدول الخليجية بإعادة إعمار لبنان بما فيه الضاحية الجنوبية ومقرات حزب الله ! وانشغل العرب ببطولات حزب الله ونسوا الدماء التي تجري في العراق على يد حلفائه !
لقد استخدمت أمريكا إيران في القضاء على الثورة السورية , ودعم النظام الطائفي لأنّ إسقاطه يعني تغييرًا جذرياً في البناء الرسمي والإقليمي , ويؤثّر سلبًا على وجود إسرائيل , ويغير في التركيب السياسي الجديد الذي صنعته أمريكا في العراق , فكان لابدّ من تدخل خارجي داعم للنظام الطائفي فتمّت التغطية على وجود إيران ومعها نحو مئة ألف مقاتل من نحو ستة وستين فصيلاً شيعياً يقومون بذبح الشعب السوري علنًا , فضلاً عن عمليات التهجير , ومن يبقى فعليه التشيع السياسي , كل ذلك كان بحرب الإرهاب أو حرب داعش !
إن من يتابع عمليات التهجير التي حصلت في سورية , وتفريغ مناطق من سكانها سيتبادر إلى ذهنه سؤال : هل سيعود أهل تلك المناطق أم أن ثمة سكانًا آخرين سيتم زرعهم في هذه المناطق ؟ الحقيقة المرّة أنّ عمليات تجنيس هائلة تتمّ في سورية للشيعة القادمين من شتى بقاع الأرض , ولاسيما في مناطق دمشق وحمص وحدود لبنان , وهي تكرار للتجربة السابقة في العراق حيث تم تجنيس مئات الآلاف من الإيرانيين في العراق – تحت ظل الاحتلال الأمريكي – بذريعة أنهم عراقيون وقد تمّ سحب الجنسية منهم زمن نظام صدام حسين !
ومع اقتراب انتهاء دور إيران في سورية فلابدّ من حدث يبرر وجود هؤلاء , فكان التصعيد الإسرائيلي والغاية منه :
خروج إيران من سورية بعد أن تركت من هو أقوى منها على الأرض "المتشيعيون سياسياً , والمجنسون بدل الشعب السوري المهجّر" فئتان تملكان القوة والاقتصاد والتنظيم , وهذا دأب كل من يتداخل مع البلد المحتل على صعد تتخطى الحالة العسكرية , بل تمتد إلى مستويات مختلفة : ثقافية واجتماعية واقتصادية ودينية ومصلحية , يكفي تحقيق بعض منها ليصبح من يخلّفه المحتل محتلاً للبلد ..!
فقد خرج الأمريكان من العراق , ولكن من حكم العراق بعدهم كانوا أكثر إجرامًا وتطويعًا للناس , ولم ينهار حكمهم كما كان يعول بعض المتخيلين , وخرج النظام السوري من لبنان وأصبح حزب الله وحلفاؤه أقوى وبات لبنان رهينة بيد أتباع حلف المقاومة والممانعة !
وعلى صعيد آخر فقد طغى خبر التصعيد العسكري على خبر أهم انتظره الصهاينة طويلاً وهاهو يمرّ بكل سلالة وهو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس!
مجموعة ملفات في سورية والعراق ولبنان واليمن كُلّفت بها إيران كلها توضح حقيقة واحدة : إنّ المنطقة تسير إلى تطبيق الرؤية الأمريكية بتسليمها للأقليات المرتبطة عضوياً بإيران بشرط أن تبقى حالة الصراع الإعلامي بين الحلفاء قائمة , حتى وإن وصلت لبعض المعارك التكتيكية فالدور الذي تقوم به إيران في خدمة أمريكا وإسرائيل يتطلب تسخينًا لبعض المشاهد حتى يتمّ إقناع الجمهور !
السؤال في غاية البساطة. إذا كانت إيران لا تبحث عن أي توتر في المنطقة، على حدّ تعبير رئيس الجمهورية فيها حسن روحاني، فما الذي تفعله في لبنان حيث الميليشيا المذهبية التي في إمرتها تسرح وتمرح وصولا إلى خطف الطائفة الشيعية واعتبارها رهينة لديها؟
لندع لبنان جانبا، ما الذي تفعله في سوريا حيث لم تعد تتجرأ على إعلان مسؤولياتها عن إطلاق صواريخ في اتجاه مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل؟ لماذا هي شريكة في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي بحت؟ ما الذي تفعله في العراق عن طريق ميليشياتها المذهبية التي تسعى إلى الحلول مكان المؤسسات الأمنية الهشة التابعة للدولة؟
ما الذي تفعله في البحرين حيث تحرّض على تقسيم المجتمع وشن حرب داخلية في تلك المملكة الصغيرة؟ ما الذي تفعله في اليمن الذي تحول شماله إلى قاعدة إيرانية تستخدم لإطلاق صواريخ باليستية في اتجاه الأراضي السعودية؟ ما الذي تفعله في غزّة غير الاستثمار في استمرار الحصار الإسرائيلي على شعب بات محروما من الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم؟ ما الذي فعلته في الماضي من أجل إيصال الشعب الفلسطيني إلى الطريق المسدود الذي وصل إليه عبر الاستثمار في العمليات الانتحارية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، خصوصا في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو؟
مرّة أخرى المشكلة مع إيران لم تكن يوما في ملفّها النووي. كان هذا الملفّ في كلّ وقت ذريعة من أجل التغطية على مشروع توسّعي لدى نظام لا يمتلك أيّ مشروع آخر من أيّ نوع يقدّمه، لا لشعبه ولا لمحيطه في المنطقة. إنّه نظام في حال هروب مستمرّة إلى خارج حدوده. نظام يحاول إيهام دول المنطقة أنه قوة إقليمية يحقّ لها امتلاك وجود في كلّ بقعة من بقاع الشرق الأوسط والخليج وشبه الجزيرة العربية، وصولا إلى شمال أفريقيا.
لم يدعُ روحاني إلى الاستقرار في المنطقة إلا بعد المواجهة الأخيرة مع إسرائيل التي كانت المستفيد الأول من السياسة الإيرانية في المنطقة. في كل يوم يمر، تقدم إيران هدية جديدة لإسرائيل الساعية إلى تكريس احتلالها للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. رفعت إيران، بعد انتصار الثورة فيها ورحيل الشاه، شعار “تحرير القدس”. كان ذلك في العام 1979. بعد تسعة وثلاثين عاما، يتبيّن أن كل ما فعلته إيران صبّ في تقديم القدس على صحن من فضّة إلى إسرائيل. كيف ذلك؟ في ظلّ التهديدات الإيرانية بتدمير إسرائيل، انتقلت السفارة الأميركية إلى القدس. مؤسف أن لا اعتراض دوليا ومحليا على ذلك، بعدما بدأ كلّ مجتمع عربي يشعر بعمق التهديد الإيراني الذي بات مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه.
إذا كانت إيران تريد بالفعل لعب دور إيجابي في المنطقة، كلّ ما عليها عمله هو القيام بمراجعة للذات والتوقّف عن المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية أوّلا. من الصعب على القيادة الإيرانية الاعتراف بالواقع وبأنها تستطيع الانتصار على الشعب العراقي وعلى الشعب السوري وعلى الشعب اللبناني وعلى الشعب الفلسطيني، وبأنّ كلّ انتصاراتها هذه، إنّما ربح خالص لإسرائيل. أكثر من ذلك، ليست هذه الانتصارات الإيرانية سوى سلسلة من الكوارث تحلّ بالبلد الذي يصبح فيه وجود من أيّ نوع لإيران.
كان على إيران أن تُطلق بضعة صواريخ في اتجاه مواقع إسرائيلية في الجولان المحتلّ إنقاذا لماء الوجه. كشفت هذه الصواريخ أنّ إسرائيل تمتلك قدرة على الردّ جعلت روحاني يتحوّل فجأة إلى حمامة سلام مستنجدا بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أجل المحافظة على الاتفاق في شأن الملفّ النووي الموقع مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في صيف العام 2015.
من قال إن أوروبا مهتمّة بالفعل بالمحافظة على الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الذي قرّر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب منه قبل أيام قليلة. أوروبا مع الاتفاق شرط توسيعه. ماذا يعني توسيع الاتفاق، أي إعادة النظر في بنوده؟
كان هذا الاتفاق منذ البداية اتفاقا ناقصا. لم يرد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي دفع في اتجاه التوصل إليه، سماع أي كلمة عن ضرورة أن يشمل الاتفاق سلوك إيران خارج حدودها. على العكس من ذلك، تغاضى عن كلّ ما تفعله إيران وترتكبه من جرائم في سوريا وقبل ذلك في العراق وفي كلّ وقت في حقّ لبنان واللبنانيين. من يتذكر كيف أن أوباما تجاهل كل الخطوط الحمر التي وضعها لإيران والنظام السوري، خصوصا بعد استخدام السلاح الكيميائي في صيف العام 2013؟ كان مطلوبا السكوت عن كل ما يزعج إيران في تلـك المرحلة بهـدف تسهيل الوصول إلى الاتفاق في شأن الملف النووي. دفع آلاف السوريين من دمهم ثمن هـذا الاتفاق وذلك كي يتمكن السيد أوباما من القول إنه حقّق شيئا خارج حدود الولايات المتحدة في عهده.
تبدو عملية التفاوض مجددا من أجل توسيع الاتفاق في شأن الملف النووي أسوأ من الانسحاب الأميركي من الاتفاق. يعود ذلك إلى أن إيران مستعدة لكل شيء من أجل البقاء في سوريا وغير سوريا.
شيئا فشيئا، تقترب إيران من ساعة الحقيقة. لا تستطيع الاستمرار في مشروعها. جرّبت حظها مع إسرائيل، فكانت النتيجة المعروفة التي تمثلت في تدمير ممنهج لكلّ القواعد والمراكز العسكرية التي أقامتها في سوريا. لكنّ ما لا بد من الاعتراف به في الوقت ذاته أنّ إيران في مأزق حقيقي على الرغم من قدرتها الكبيرة على التدمير في هذه الدولة العربية أو تلك. يتمثل هذا المأزق الحقيقي في أنه ليس مقبولا أن تبقى في سوريا. هذا كل ما في الأمر. كيف يمكن لإيران الانسحاب من سوريا من دون سقوط النظام في طهران؟
يدور النظام الإيراني في حلقة مقفلة. لا يستطيع الانسحاب من سوريا ولا يستطيع الدخول في مواجهة مع إسرائيل. فوق ذلك كلّه لا تبدو روسيا متحمّسة لبقائه في دمشق، وليس ما يشير إلى أن موقف الرئيس فلاديمير بوتين بعيد عن الموقف الإسرائيلي. إنّه المأزق الإيراني الذي يمكن للأسف الشديد أن يقود إلى انفجار كبير في وقت يعرف كلّ مسؤول في طهران، خصوصا “المرشد” علي خامنئي أن “الجمهورية الإسلامية” التي أسسها آية الله الخميني لا تمتلك غير الهرب إلى خارج أرضها لتغطية البؤس الذي يعيش في ظله الإيرانيون.
مرّة أخرى، لا تستطيع إيران أن تكون دولة طبيعية في المنطقة. لعبت كلّ الأدوار المطلوبة منها إسرائيليا لتجد نفسها في نهاية المطاف أمام خيار مستحيل هو خيار العودة إلى الاهتمام بشؤون شعبها. قد تفضل الانفجار الكبير، على الأرجح، على هذه العودة القاتلة.
طوال الأشهر الأخيرة، تتكرر كل يوم تقريباً الأخبار والتقارير عن اغتيالات تتم ضد قيادات وكوادر سياسية ومدنية وعسكرية في سوريا. ولا تنحصر عمليات الاغتيال في منطقة واحدة، بل هي حاضرة في كل المناطق، لا سيما الثلاث الخارجة عن سيطرة قوات الأسد وحلفائه، شاملة منطقة الشمال التي تضم أريافاً من حلب وحماه وحمص إضافة إلى إدلب وريفها، حيث تسيطر «هيئة تحرير الشام - النصرة» و«جبهة تحرير سوريا» وجماعات محسوبة على بقايا «الجيش السوري الحر»، كما تتواصل الاغتيالات في مناطق الشمال والشرق السوريين الواقعة تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تقودها ميليشيات «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي»، فيما تستمر الاغتيالات في منطقة الجنوب السوري، خصوصاً في درعا وأجزاء من القنيطرة، والتي تسيطر عليها تشكيلات محسوبة على «الجيش الحر»، وتشكيلات مسلحة محلية محسوبة على «داعش» و«هيئة تحرير الشام».
وظاهرة الاغتيالات في سوريا ليست جديدة؛ إذ صاحبت انطلاق ثورة السوريين ضد نظام الأسد، ولجأت أجهزة أمن النظام مباشرة أو عبر أدوات أخرى وحلفائها إلى عمليات اغتيال ناشطين وقادة ميدانيين في إطار مواجهتها حراك السوريين ضد النظام مدنياً وسياسياً، ولعل أشهر عمليات الاغتيال، التي تمت في بداية الثورة، عملية اغتيال مشعل تمو أواخر عام 2011، على يد أعضاء من «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» وثيق الصلة بأجهزة أمن نظام الأسد، وبين كبرى عمليات الاغتيال ما أصاب قادة «حركة أحرار الشام» في اجتماعهم ببلدة رام حمدان في 2014، حيث قتل عشرات من قيادات وكوادر الحركة بينهم حسان عبود زعيم الحركة، كم اغتيل زهران علوش قائد «جيش الإسلام» في غوطة دمشق الشرقية، والشيخ وحيد البلعوس أبرز رجال الدين في السويداء في عام 2015، واغتيل أبو جعفر الحمصي قائد «لواء شهداء الإسلام» بعد خروجه ومقاتليه إلى إدلب أواخر عام 2016.
وإذا كانت عمليات الاغتيال ليست جديدة، فإنها شهدت نمواً متسارعاً بعد سقوط حلب في عام 2016، ثم توسعت أكثر بعد الحرب على غوطة دمشق الشرقية في أبريل (نيسان) 2018، وتم فيها التركيز على القيادات المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في مناطق الجزيرة وإدلب وحوران، فتم اغتيال مئات من القيادات والكوادر المحلية في التشكيلات المسلحة أو الناشطين السياسيين ومن المدنيين العاملين في الإغاثة والإعلام.
وكان من نتائج موجة الاغتيالات أن تركت بصماتها على المدنيين في مناطق وقوعها، فخلفت في أوساطهم قتلى وجرحى، وتدميراً لممتلكاتهم وقدراتهم المتواضعة، ونشرت رعباً وخوفاً، تسبب في نزوح عشرات الآلاف إلى مناطق أخرى، وعززت الفلتان الأمني في مناطق وقوعها.
وساعدت البيئة العامة السائدة في سوريا على استمرار ظاهرة الاغتيالات نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، وبفعل انتشار السلاح والمسلحين الملثمين والاختراقات الأمنية، وصراع الجماعات المختلفة وسط تناقض الأهداف والمصالح وحالة الفوضى السائدة، بل إن هذه البيئة، تساعد في تكريس الاغتيالات وتوسيعها.
ويقف نظام الأسد وحلفاؤه في مقدمة المستفيدين من حرب الاغتيالات، لأنها تضرب خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرتهم، وتساهم في انهيارها، تمهيداً لاجتياحها وفق إعلانات النظام وحلفائه، خصوصاً في ضوء استهدافها قيادات وكوادر المعارضة أو المحسوبين عليها من فاعلين سياسيين وعسكريين ونشطاء مدنيين وإعلاميين، كما تتضمن قائمة المستفيدين من الاغتيالات مجموعة من التشكيلات والجماعات المسلحة المتنافسة والمتصارعة في إطار الصراعات الداخلية والبينية، والتي يهدف كل منها إلى إضعاف الآخرين عبر إبعاد قادة وكوادر التنظيمات الأخرى عن طريقه بتغييبهم أو إخراجهم من دائرة التأثير والفاعلية في الواقع والصراعات الدائرة فيه.
وطبقاً لدائرة المستفيدين، فإن الاتهامات توجه مباشرة إلى أجهزة النظام وحلفائه والخلايا النائمة لجماعات التطرف والإرهاب، خصوصاً «داعش» و«النصرة»، وهو ما أكدته تصريحات علنية لقادة سياسيين وميدانيين في تشكيلات المعارضة، خصوصاً في ظل حقيقتين؛ أولاهما الهدف الأمني والسياسي الذي يزيد ضعف تلك المناطق على مستوى تشكيلاتها المختلفة وعلى مستوى سكانها من المدنيين. والثانية أن الاغتيالات تتم بطريقة استخباراتية وخبرات عالية، تمنع غالباً الوصول إلى القائمين بها، وينفذها مجهولون، ودون إعلان أحد مسؤوليته عنها.
خلاصة الأمر في الاغتيالات أنها فصل من فصول الحرب الدائرة في سوريا، وهي تتجاوز ذلك في أنها تمهد لفصول أخرى أشد اتساعاً من حرب لم يعد لها هدف سوى استمرار قتل السوريين، وتدمير ما تبقى من قدراتهم البشرية والمادية.
شكل القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي جديداً نوعياً لتحجيم السلطة الإيرانية، ومن ثم تغييرها، ليس في المنطقة العربية بل في إيران نفسها. العرب وليس السنة كما يشاع، متضرّرون من الوجود الإيراني. وفي سورية هناك رفض شعبي واسع لها. إسرائيل التي هي كيان استعماري ترفض أي تمدّد إقليمي لإيران، ولا سيما في سورية ولبنان. إيران التي لم تستطع إنقاذ النظام السوري من السقوط، واستعانت بروسيا لصناعة قدمين له، لا يمكنها فرض شروطها على العالم والوجود في سورية باعتبارها دولة إقليمية قوية!
كان التلاعب الايراني في المنطقة بسبب السياسة الأميركية الانكفائية والاستيعابية في آنٍ واحد، والتي أتاحت لها دوراً مركزياً في العراق، وفي سورية واليمن، وقبل ذلك في لبنان. أعطت السياسة هذه لإيران أوهاماً كبيرة، لا سيما بعد توقيع الاتفاق النووي 2015، وأنّها أصبحت دولة إقليمية ونووية مستقبلاً. مشكلة إيران الأصلية في أنّها دولة "طائفية"، أي لا تمتلك تطوراً صناعياً أو عسكرياً يتيح لها فرض نفوذها إلا وفق الطرق القروسيطة. "فجيعتها "أن الطائفية باعتبارها سياسة "إقليمية" لا تضمن لها النفوذ، ولا سيما في سورية واليمن؛ وإذا كان ذلك ممكناً في العراق أو لبنان، فإن الأمر يظل عصياً في كل هذه الدول، حيث الانتماء القومي أقوى من الديني. أيضاً، الناس لا يعيشون من خلال الطائفية، بل عبر عوامل الاستقرار؛ فأي استقرارٍ ستوفره إيران لهم؟ هنا مشكلة كبيرة، فإيران لا تمتلك ذلك في المناطق التي فيها شيعة فكيف في المناطق التي تحاول تشييعها.
لم تعد مشكلة إيران الآن مع الشعب السوري الذي رفضها، وهي لن تجد حماية من الروس، فالأخيرون أيضاً أصبحوا متضرّرين من سياساتها في سورية؛ الأسوأ لها، أن وجودها مرفوض أميركياً وإسرائيلياً. بدمار سورية وتخريبها، يصبح من مصلحة إسرائيل وأميركا طردها من سورية خصوصا. أيضاً بتلاشي "داعش" لم يعد لإيران كقواتٍ برية في الحرب أهمية تذكر في كل من العراق وسورية؛ إذا ليس أمامها إلا التحول إلى السياسة، فهل في مقدورها إنشاء قوى سياسة عربية تابعة لها. وهل يمكن لدولة كإيران أن تتحول نحو ذلك، كما يكتب بعضهم إن إيران تنتصر بحزب الله، وبأحزاب طائفية في العراق. إيران هذه في أزمة اقتصادية عميقة، وكانت هناك بوادر ثورة شعبية، واتهامات طاولت المرشد "المقدس" نفسه، وطاولت الدعم الذي يقدم لهذه الأحزاب، وفي لبنان وسورية خصوصا (!). إيران التي سقطت إيديولوجيتها الاسلامية، ولم يعد لوجودها الخارجي من مبرّرٍ شعبي، سقطت كذلك سياساتها الطائفية في كل من سورية واليمن. إن كل محاولةٍ لإظهار تشييع إيران لسوريين كثيرين، وأن ذلك ترسيخ لها في سورية هو بمثابة وهم كبير. هي تفعل ذلك فعلاً، لكن ذلك يظل هامشياً. الإشكالية هنا أن إيران لا تمتلك إلا سياسات تُجذر ما هو معاكس لمصالحها، أي الطائفية والتهجير والقتل؛ هذه السياسة كما قلت مرفوضة بالكامل سوريا وإقليمياً ودولياً.
الجديد بعد خطوة ترامب، والتي تتضمن إعلان حربٍ مقبلة، وأن على إيران أن تتخلص من النووي والباليستي والدور الإقليمي. الجديد هو التوافق الروسي الإسرائيلي على تحجيم إيران في سورية، وهو ما قُرئ من خلال الضربات الجوية الواسعة للوجود الإيراني في سورية ليلة 10 مايو/ أيار 2018، وهذا سيليه سياسة جديدة، تستهدف كل الوجود الإيراني وتضيّق عليه. لم يعد في مقدور إيران الآن التنديد بالروس، لأنهم لا يقفون ضد التدخل الإسرائيلي في سورية، وهي أيضاً ليس في مقدورها شن حربٍ حقيقية ضد إسرائيل من سورية، وكذلك ليس من لبنان. لو فعلت ذلك ستكون هناك بوادر حرب إقليمية واسعة ودولية، وستطاول الداخل الإيراني ذاته.
إيران الآن محاصرة بالكامل. وجودها في العراق ولبنان "لإزعاج" الأميركان والإسرائيليين، لن يكون مفيداً ما دامت كل من روسيا وإسرائيل وأميركا متضرّرة من سياساتها، ولا يغير من ذلك اختلاف أسباب التضرّر. ليست أوروبا في موقعٍ قوي لتواجه أميركا، وستخضع شركاتها الموجودة في إيران للعقوبات الأميركية بدورها، والتشاور الأوروبي الإيراني والتنديد بإلغاء الإتفاق النووي ليس له أية قيمة حقيقية، وكذلك لو انسحبت إيران من الاتفاق النووي الذي أصبح ميتاً. ربما انسحابها سيوفر فرصة ثمينة للأميركان لشنِ حربٍ شاملة، تستهدف نظام ولي الفقيه وتغيّره بالكامل.
ذهاب كوريا الشمالية إلى عقد اتفاقٍ يُنهي البرنامج النووي لديها مع الأميركان والبدء بتنسيق علاقاتها مع الجنوبية وأميركا، يدفع أميركا للتشدّد إزاء نظام ولي الفقيه. وبالتالي، ليس من عودة عن إعادة هيكلة هذا النظام بأكمله، وتحويله إلى دولةٍ ضعيفة ومنزوعة الأسنان النووية والبالستية والدور الإقليمي، وربما تغييرات داخلية كالتي تجري في السعودية. إيران مضطرة وبسبب أزمتها الداخلية والضغط الدولي ضدها لتغيير ذاتها.
إذاً لن يكون هناك وجود إيراني كبير في سورية. التوافقات الإسرائيلية مع الروس ستعطي للأخيرين الدور الاساسي في سورية، وهذا لا يرفضه الأميركان، وهنا ربما سيكون الاتفاق بإخراج إيران، وبشرعنة دور أساسي للروس في سورية. إذاً إيران التي تحيك السجاد "السياسي" جيداً، استُخدمت في حربٍ طويلةٍ في سورية، وذلك لتجهيز الأرض لاحتلالات متعددة للروس والأميركان والصهاينة والأتراك. إيران ستخسر كثيراً إذا لم تحاول فهم المرحلة الجديدة؛ أي أن ترامب يريد تحجيم السلطة الإيرانية ذاتها وإحداث تغيير كبير فيها.
إيران المأزومة معنيةً بتغيير ذاتها، فهل نظام ولي الفقيه يستطيع ذلك؟ هل في مقدوره إجراء تغييرٍ كبير في سياساته الخارجية والداخلية ليتوافق مع السياسات الدولية والإقليمية؟ أغلب الظن لن يتخلى عن سياساته القديمة، ومحاولاته لإرضاء أميركا بأقل مما ذكرت أعلاه ستدفع أميركا، ليس لتشديد الحصار عليها والعقوبات، بل وربما لحربٍ صغيرة تطاول أهم مؤسساتها العسكرية، وربما لحربٍ واسعة تستهدف نظام الحكم الذي أصبح مرفوضاً من أكثرية الشعب الإيراني، والذي قام بثورة خضراء ضد نظام الحكم 2009، وبثورة شعبية في أواخر عام 2017 وتم إخمادهما.
إن أفضل ما يمكن البدء به هو ما استهلَّ به الرئيس الأميركي دونالد ترمب كلمته، المبني على رأي المؤسسات الأميركية، بكل ما تحوي من إمكانيات ومتابعة ورصد، المتمثل في أن «إيران هي الدولة الرائدة في رعاية الإرهاب. فهي تصدر الصواريخ الخطرة وتغذي الصراعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكذلك تدعم الذين يحاربون عنها بالوكالة، والميليشيات الإرهابية مثل (حزب الله) و(حماس) و(طالبان) و(القاعدة)».
من السهل جدّاً أن نتعرف على الأبعاد الكارثية للاتفاق النووي الإيراني الضعيف، الذي انسحب منه أخيراً الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فيكفي أن نشاهد الأوضاع المتردية التي وصل لها الوطن العربي الآن بشكل خاص، والعالم بشكل عام؛ فحيثما حلَّت إيران حلَّ معها الفساد والعنف والإرهاب، ويتجلى ذلك بكل وضوح في الحالتين اليمنية والسورية، إذ خَلَّف الدعم الإيراني للجماعات المتطرفة والإرهابية في هاتين الدولتين كوارث إنسانية لم يعرفها الوطن العربي في تاريخه.
بالعودة للحقائق الموثقة، نجد أن تلك الجماعات الإرهابية ما كانت لتتمدد لولا الدعم الإيراني لها، وذلك الدعم ما كان ليستمر لولا وجود الاتفاق النووي، الذي فكَّ الخناق عن الأموال الإيرانية ومَنَحها الفرصة لتمويل مشروعها الشمولي، الذي توظف الجماعات الإرهابية لتحقيقه، سواء كانت تلك الجماعات، «حزب الله» في لبنان، أو «أنصار الله» (الحوثيين) في اليمن، ويبدو واضحاً تماماً ما خلَّفَته هاتان الجماعتان (على وجه التحديد) من مآسٍ إنسانية وكوارث فاجعة في البلدان العربية.
إذن، كانت العقوبات الاقتصادية المفروضة في السابق على إيران بمثابة القيد الذي كفَّ يدها عن التمدد ودعم جماعاتها الطائفية في الوطن العربي، وكان الاتفاق النووي البوابةَ التي أدخلتها مرة أخرى للدول العربية وجعلتها تتمدد وتنشر آيديولوجيتها المتطرفة في المنطقة. وبالتالي، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني هو بمثابة تصحيح خطأ تاريخي كارثي قامت به إدارة أوباما، وإعادة تلك الدولة إلى الانشغال بنفسها وبأزماتها الداخلية من فقر وبطالة وتخلُّف، التي فشلت في حلِّها على مدى عقود طويلة.
سيناريو انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي أكثر إشراقاً مما نتوقع، وبكل تأكيد هو أفضل من السيناريوهات التي حدثت في الماضي؛ فبعد الهزيمة الساحقة التي طالت تنظيم داعش الإرهابي، لم يبقَ في المنطقة مما يهدد سِلمَها سوى الجماعات الطائفية التي تغذيها إيران، والتي لا يمكن أن تستمر دون الدعم المادي واللوجيستي من طهران. كما أنه من المتوقَّع أن تنشغل الإدارة الإيرانية في الأيام المقبلة بمواجهة كثير من التحديات الاقتصادية، إذ إنه من المرجَّح أن ينفد صبر المواطن الإيراني الذي يهتم لرغيف يومه، ويتطلع لحياة كريمة كبقية الدول المجاورة له، أكثر من اهتمامه بمغامرات قادتها العبثية، التي أخذت الداخل الإيراني والعربي لكثير من الكوارث، وأدَّت إلى انتشار الفقر والتخلف والبطالة، وتزايد الإرهاب والعنف والكراهية بين أبناء الطوائف المختلفة.
علينا أن نتفاءل كثيراً بالتطورات الأخيرة التي شهدها هذا الملف، وأن نعلم أن تلك البلاد التي لطالما عبثت بأمن جيرانها وسعت لتصدير آيديولوجيتها المغيبة، قد عادت إلى حجمها الطبيعي، وبالتالي سيصبح العالم أكثر سلاماً وأمناً وتعايشاً بعد أن غادرته الطائفية وداعموها.
وأخيراً، أرى أنه من المهم الإشارة إلى رسالة ترمب للشعب الإيراني، التي قال فيها: «إن شعب أميركا يقف معكم. لقد انقضت الآن أربعون سنة منذ أن استولت هذه الديكتاتورية على السلطة، وأخذت دولة كريمة رهينةً. إن معظم المواطنين الإيرانيين البالغ عددهم 80 مليون نسمة لم يعرفوا قطّ إيران التي ازدهرت بسلام مع جيرانها وقادت إعجاب العالم». وأعتقد أن كل الشعوب العربية تقف معها، في محنتها الحالية، من أجل الوقوف في وجه إرهاب النظام الحالي، وعيش حياة مدنية كريمة، بعيداً عن كل ابتزاز ومساومة وتخويف.
لمعرفة حجم المأساة التي تسبب فيها نظام بشار الأسد لبلاده يجب التمعن بدقة في المشهد الأخير الذي حصل بين القوات الإيرانية وإسرائيل على الأراضي السورية.
إسرائيل تحتل هضبة الجولان «السورية» وتستخدمها لإطلاق الصواريخ على الأراضي السورية، ومن ناحية أخرى هناك جيش إيراني غاشم يحتل أراضي سورية بأكملها ولديه أكثر من عشر قواعد عسكرية، ووجود عسكري يزيد على العشرة آلاف مقاتل، بالإضافة لآلاف آخرين من المرتزقة والميليشيات الطائفية الإرهابية المحسوبة عليه مثل حزب الله، وهو نفس النظام الذي كان يفتخر بأنه «يحتل» دمشق بالإضافة لبغداد وبيروت وصنعاء. وأصبح المشهد الحزين المؤلم «محتل» يقاتله «محتل» من وعلى أراضٍ سورية ساهم في خسارة الأراضي نظام «محتل» لشبعه.
هذه هي حقيقة المشهد وتوصيفه الصريح بعيداً عن ترديد الشعارات الثورية القومية ولا غيرها. إسرائيل محتلة وكذلك إيران ومن المهم جداً أن يتم التعامل معهما بنفس النظرة وبذات المكيال. سوريا يحكمها نظام تعود على تسليم زمام الأمور في شكل الاحتلال المستمر سواء في شكل إسرائيل أو الاحتلال الجديد في شكل إيران أو التحكم الكامل في شكل روسيا. ما حصل في المشهد الأخير في سوريا من اشتباكات صاروخية بين إسرائيل وميليشيات إيرانية هو دليل جديد على فقدان النظام السوري لأي شرعية واحترام ومصداقية وجدارة، وأن كل جبروته وتسلطه دوماً ما يكون بحق شعبه الأعزل في المقام الأول.
قاسم سليماني الإرهابي المعروف الذي يقود فرقة الحرس الثوري الإيراني الذراع الميليشياوية الإرهابية لنظام إيران هو الآمر الناهي على القوات الموجودة لمساندة نظام بشار الأسد، ولديه سلطة مطلقة على عدد كبير من المطارات والقواعد العسكرية يقوم منها بالعمليات الإرهابية وفيها يقوم بتخزين أجهزته وأسلحته وعتاده العسكري، تنقل إليها أسلحة تقليدية وكيماوية تستخدم ضد الشعب السوري وتهديد الجيران بها. لا قيمة هنا للقرار الرئاسي من بشار الأسد ولا من أجهزة مخابراته ولا من الجيش المحسوب عليه.
سوريا انحدرت سياسياً لمستويات مخيفة ولأجل الحفاظ على نظام الطائفة العائلي تم التضحية بالسيادة والعروبة والأخوة، كلها تحولت إلى شعارات قابلة للبيع وقابلة للسخرية وقابلة للخلاص منها. وبقدر ما كان المشهد الأخير أليماً بأن يكون المعتدي والمعتدى عليه أطرافاً محتلة للأراضي السورية، إلا أنها نتائج طبيعية لوضع خاطئ في ظل نظام مجرم فرط في كرامة الأرض وسيادة الشعب، وبالتالي وصلت الأمور إلى ما آلت إليه اليوم. بعيداً عن كل شعار عاطفي يؤجج المشاعر، سوريا لا يعتدى عليها من إسرائيل «فقط»، سوريا تم تسليمها بالكامل لنظام عمل لأكثر من أربعة عقود على فصل سوريا عن محيطها العربي وعلى معاداة جيرانها بشتى الطرق والأساليب وعلى «احتلالها» من الداخل بشكل شمولي كامل.
نظام مسخ، مدعي عروبة ولكنه فارسي الهوى، مدعي العلمانية ولكنه طائفي الهدف. هذا المشهد الاقتتالي بين إسرائيل وإيران هو ترجمة ونتيجة طبيعية وواقعية لماضٍ مرير وواقع وحاضر أليم لا بد من مواجهته والاعتراف بوجوده والتعامل معه كما هو، ولا نجعل الشعارات الجوفاء تعمي الأعين وتصم الآذان وتغيب العقول لتسلب منا الحقيقة.
بعيدا عن عويل الثورجية والقومجية وجب الاعتراف بأن مواجهة المحتل ضد المحتل سببها نظام مختل. نقطة على السطر. فخار يكسر بعضه كما يقول المثل الشامي العتيق.
في أحد مؤتمراتها الجماهيرية في مدينة مرسين، قالت رئيس الحزب الجيد ميرال أكشنار إن الدينة تستضيف 200 ألف لاجئ سوري ما “خفض من مستوى المعيشة” فيها. وبعد أن حمّلت “سياسات اردوغان الخاطئة” مسؤولية هذا العدد من اللاجئين السوريين، وعدت المشاركين في اللقاء الجماهيري بأنه في حال انتخابها رئيساً “سنفطر جميعاً في رمضان القادم – 2019 مع أشقائنا السوريين في سوريا”.
تصريح أعاد للذهن وعود رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيتشدار أوغلو في انتخابات 2015 بإعادة السوريين إلى بلادهم، وجدَّد المخاوف لدى السوريين بخصوص وجودهم ومستقبلهم في تركيا بعد الانتخابات التركية وفق سيناريوهاتها المتوقعة. ففوز المعارضة قد يعني تنفيذ هذه التهديداته، بينما فوز اردوغان قد يعني نفوذاً أكبر لحزب الحركة القومية الذي لا يشارك الأخير رؤيته بخصوصهم.
ينسحب الأمر على وجود مختلف الجاليات والتيارات العربية في تركيا، ويضع الكلَّ العربي أمام نفس سؤال “ما بعد الانتخابات”، لكن التركيز الأكبر على السوريين باعتباره عددهم الكبير (أكثر من 3 ملايين)، وما يتضمنه ذلك من تحديات اجتماعية وأمنية وسياسية واقتصادية، وموقف بعض الأحزاب من الملف السوري والعلاقة مع الأسد، وملف تجنيس بعض السوريين الذي تعارضه الأخيرة.
في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، ينبغي أولاً الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية هي الأهم والأكثر تأثيراً باعتبار انتقال البلاد لتطبيق النظام الرئاسي. صحيح أن الانتخابات البرلمانية تحتفظ بأهميتها وحساباتها الخاصة، لكن على الأقل فيما يتعلق بالوجود السوري والعربي في تركيا، فإن الأمر متعلق بالرئاسية أكثر من البرلمانية.
وهنا، ثمة احتمالات ضئيلة جداً لحصول مفاجأة، حيث من المتوقع أن يحسمها اردوغان من الجولة الأولى. ولئن احتيج إلى جولة إعادة، فلا يبدو أن هناك فرصة حقيقية لتأييد كافة أطياف المعارضة المرشح المنافس له، والذي سيكون على الأغلب محرّم إينجة مرشح حزب الشعب الجمهوري[i]، ما يعني استمرار السياسات الحالية.
وأما الانتخابات البرلمانية فالحسابات فيها أكثر تعقيداً، وتحتمل عدة سيناريوهات، بما فيها إمكانية حصول تحالف الأمة المشتمل على أربعة أحزاب معارضة على أغلبية بسيطة في مواجهة تحالف الشعب، خصوصاً إذا ما استطاع حزب الشعوب الديمقراطي دخول البرلمان ثم تحالف معه[ii].
هذا الاحتمال القائم، وإن كانت فرصه ضعيفة، قد يعني نظرياً إمكانية خروج تشريعات من البرلمان بخصوص تنظيم التواجد السوري والعربي على الأراضي التركية. لكن من ناحية عملية، فمن الصعب توقع توافق كل هذه الأحزاب على كافة القضايا، وبالتالي من الصعوبة بمكان الحديث عن تحالف مستقر بينها بعد الانتخابات، وهو ما يعني أن المخاطر المتعلقة بالملف السوري والعربي في تركيا ضعيفة، وهي بالتأكيد ليست أولية هذه الأحزاب.
الأهم بعد كل هذه المقدمات أن فكرة “إعادة السوريين إلى أراضيهم” التي تهدد بها بعض أطياف المعارضة ليست أمراً يسيراً يمكن لأي رئيس أو حكومة قادمة محاولة تفعيلها. فعودة ثلاثة ملايين سوري إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم قرار يرتبط بالموقف الدولي وحل الأزمة السورية وتطورات الوضع الميداني وعملية إعادة الإعمار، وغيرها الكثير من العوامل التي تجعل قراراً كهذا شبه مستحيل وفق الظروف الحالية.
وأما ما يتعلق بفكرة سحب الجنسية من السوريين المجنسين وفق الاستثناء القانوني، فإن هذا الاحتمال الممكن قانونياً صعب جداً عملياً، ولا يفعّل إلا في ظروف خاصة جداً مثل الخيانة العظمى والعمليات الإرهابية. كما أنه قرار يتخذ فردياً وليس جماعياً، فضلاً عن أنه من صلاحيات الحكومة التي سيشكلها الرئيس.
من جهة أخرى، يبدو لي أن هناك مبالغة في التخوف من شراكة العدالة والتنمية مع الحركة القومية، واحتمالية أن تنفذ رؤية الثاني لا الأول على السوريين، خصوصاً في ظل بعض التسريبات التي تحدثت عن رغبة الحركة في منصب وزارة الداخلية. ذلك أنه:
أولاً، النظام الذي سيطبق هو الرئاسي، ومؤسسة الرئاسة هي التي ستطبق رؤيتها وبرامجها وتختار للوزارات من يفعل ذلك، وليس العكس.
ثانياً، حزب الحركة القومية هو الطرف الأصغر والأضعف في تحالفه مع العدالة والتنمية، ومدى قدرته على الضغط على الأخير مرتبط بنسبة التصويت له في الانتخابات، والتي يتوقع ألا تتخطى العتبة الانتخابية (%10). بمعنى أن الحركة القومية سيدخل البرلمان بفضل الحزب الحاكم، ما سيجعله الطرف الأضعف في الحكومة والسياسات والقرارات.
ثالثاً، وزير الداخلية الحالي من التيار القومي في حزب العدالة والتنمية، ويطبق السياسات المرسومة من قبل اردوغان والحزب.
لكن، كل ما سبق لا يعني بحال أنه لن تطرأ متغيرات على الوجود السوري/العربي في تركيا، بل لعل جزءاً من هذه التغييرات قد بدأ فعلاً. إذ يمكن رصد التالي:
أولاً، متغيرات السياسة الخارجية التركية منذ 2015 وفق استحقاقات الأمن القومي التركي وأولوياته، وشمل ذلك عدة ملفات في مقدمتها القضية السورية.
ثانياً، هناك مساعٍ حكومية في الشهور الأخيرة لضبط وتقنين تواجد الجاليات العربية على أراضيها، التي أتت في ظروف استثنائية ووقت قصير، مما سبب أحياناً بعض الأخطاء والهنات وشيء من الفوضى، ولذا تريد أنقرة لهذا الملف أن يكون أكثر قانونيةً واستقراراً وانسجاماً مع الواقع التركي.
ثالثاً، تعتمد تركيا في الخطاب والممارسة فكرة “إعادة من يريد من السوريين” إلى الشمال السوري تحديداً، باعتبارها مناطق آمنة وبعيدة عن سيطرة النظام وفيها بنية تحتية اعتنت بها تركيا بشكل خاص. وهذه سياسة مرشحة للاستمرار، لكن ليس على قاعدة إجبار السوريين على المغادرة، ولكن على تسهيل عودة من يريد منهم.
رابعاً، تتبع تركيا منذ 2015 سياسة “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم” مع مختلف الدول، ما يعني احتمال تطور العلاقات مع بعض الدول والأنظمة. تطور كهذا إن حصل، أو حين يحصل، سيكون له بطبيعة الحال تداعيات على الجاليات العربية المقيمة في تركيا، ولكن على قاعدة الضبط والتقنين والتأطير وليس الطرد والإجلاء.
في المحصلة، ليس من المتوقع فوز أي مرشح معارض في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعني بالضرورة استمرار سياسات اردوغان والعدالة والتنمية بخصوص التواجد العربي والسوري في خطوطه العريضة. وأما الانتخابات البرلمانية فقد تفرز خريطة حزبية في البرلمان تفرض إعادة النقاش في بعض الجزئيات المتعلقة بهم. وبالتالي، فلا تغييرات جذرية في هذا السياق من قبيل الترحيل أو سحب الجنسيات أو ما شابه.
لكن ذلك لا يعني أنه لن تطرأ تغيرات معينة على هذا الوجود لجهة ضبطه وتنظيمه وترتيبه، استمراراً لبعض السياسات القائمة حالياً واستحداثاً لبعض القرارات والسياسات المرتبطة بالعهد الجديد وظروفه وسياقاته. وأما إن حصلت مفاجأة ضخمة من قبيل فوز أحد المعارضين بالرئاسة أو فوز المعارضة بأغلبية كبيرة في البرلمان، فتلك نتائج ستحتاج حينها لتقييم أوسع ونقاش أعمق، ولعل ذلك من أهم أسباب دعاء الجاليات العربية لاردوغان والعدالة والتنمية وتأييدهم لهما في الانتخابات.
وبكل الأحوال، ينبغي على الجاليات والنخب العربية في تركيا ترتيب أمورها ذاتياً وبالتعاون مع السلطات التركية، لتجنب أي ارتدادات سلبية وأيضاً لتطير هذا الوجود لمصلحة الطرفين[iii].