لم يكن حتى أشد المتشائمين يتوقّع حصول تغيير ديمغرافي بهذا الحجم الذي تشهده سوريا. أغلب التوقعات انصبت على بطش نظام الأسد والثمن الذي سيدفعه السوريون جراء ثورتهم، مع الاعتقاد بأن تلك الأثمان سيجري تعويضها بسقوط الطاغية، وبالتالي لن تكون سوى مرحلة قاسية وتنتهي.
تدحرجت الأحداث بشكل دام ومؤلم، وحصلت عمليات تدخل إقليمية ودولية، واستخدمت منظومة الأسد كل أنواع الأسلحة، بما فيها الكيماوي. وفي ظل هذا المشهد، ومن خلال كثافة دخانه، تكشّف العنصر الأبرز في هذه الحرب، والممثّل باستراتيجية اقتلاع السوريين من وطنهم.
بدت الفكرة في البداية على أنها ضرب من العبث وسياسة غير ناجحة، فمن يستطيع تهجير أكثرية واللعب بتوازنات طائفية يستحيل اللعب فيها، واعتبر الكثيرون أن هذه السياسة فاشلة حكما، إما لقيامها على فرضيات خاطئة، من نوع أنه كلما تم الضغط على البيئة الحاضنة باستخدام أشد أساليب العنف زاد منسوب هجرة هذه البيئة وبحثها عن خيارات بديلة، وإما لأن هذه السياسية تقوم على حسابات غير منطقية، ذلك أن العالم لن يقبل بحصول مثل هذه الكارثة ويدعها تمر هكذا دون ردة فعل.
وهكذا، بينما كان الطرف الآخر (إيران وحزب الله ومنظومة الأسد) يبني سياساته، على أفعال ووقائع يصنعها على أرض الحدث، ونتيجة دراية بالبيئة الدولية المتهالكة، كان أنصار الثورة ومؤيدوهم يتخبطون من الصدمة؛ غير مصدقين ما يحدث، ويرمون أحلامهم على رهانات من نوع أن نظام الأسد، وقبل أن يكمل تهجير مليون سوري، سيكون على عتبة السقوط، بل والأرجح في هذه الحالة أن تنعكس العملية، ويصار إلى تهجير البيئة المؤيدة له.
بالطبع، لم ينتبه أحد في حينها إلى أن إيران كانت قد نفذت عملية تهجير ديمغرافي واسعة في العراق، وفي غضون أقل من خمس سنوات، بعد احتلال العراق 2003، كان وجه بغداد قد تغيّر واستطاعت المليشيات تهجير مئات الآلاف من السنة عبر عمليات التصفية والتهديد التي اتبعتها، ثم بعد سنوات كانت محافظة ديالى الواقعة على خط التماس الطائفي في العراق؛ تشهد عملية تفريغ مماثلة، ومثلها الكثير من مدن وأرياف العراق.
وفي التاريخ غير البعيد أيضا، هجّرت روسيا الملايين من سكان جمهوريات البلطيق، وأحلّت مكانهم مواطنين (روس)، وفعلت الشيء نفسه في القوقاز (في جورجيا والشيشان وأرمينا، وغربا في أوكرانيا، وجعلت هذا الأمر يتحوّل إلى واقع حطّم النسيج الوطني لأوكرانيا وجورجيا، ووضع دول البلطيق (لاتفيا وأستونيا ليتوانيا) على حافة الخطر الدائم، واحتمالية تدخل روسيا بذريعة وجود جالية ومواطنين روس.
وقد دمجت روسيا، خبرتها السابقة في مجال التهجير والإحلال، مع الجهود الإيرانية، لتنتج بذلك الكارثة السورية بوجهها الحالي. فقد تعمد الطرفان استخدام سياسة التدمير الممنهج وأقصى أنواع العنف، فضلا عن سياسات إنهاك المجتمعات المحلية في سوريا ودفعها عنوة للبحث عن سبل للخلاص، خارج سوريا أو في مناطق سيطرة النظام؛ الذي سيعمل لاحقا على إعادة توزيعهم في مناطق يجري تحديدها بناء على حساباته الأمنية الخالصة.
غير أن نمط التهجير المتبع في سوريا، والأدوات والسياسات التي يتم استخدامها في هذا المجال، يحيل إلى التجربة الصهيونية في فلسطين المحتلة، بل إنه في أحيان كثيرة يبدو تطبيقا أمينا لتلك التجربة، وخاصة في تعمّد قتل الأطفال والتهديد بانتهاك الأعراض، والأهم إشاعة الفوضى وسقوط القانون الذي يضمن حق المواطن في الحماية، وفي الحالتين، الفلسطينية والسورية، كان للمليشيات الدور الأبرز في إنجاز مهمة التغيير الديمغرافي.
واليوم في فلسطين، تتجرأ إسرائيل على إقرار قانون يهودية الدولة، الذي يهدّد بقذف مليونين من عرب الداخل خارج وطنهم وديارهم. ورغم حقيقة أن إسرائيل كانت تعمل على الدوام للوصول إلى هذه النتيجة، غير أن عمليات التهجير الكبيرة الحاصلة في سوريا والعراق، شكلت محفزا لها ودافعا قويا للقيام بجريمتها القادمة، وخاصة أن رد الفعل الدولي على تلك العمليات كان معدوما، بل إنه لم يظهر صوت واحد ينادي بوقف عمليات التهجير تلك، في حين أن أغلب التدخلات الدولية جاءت احتجاجا على امتلاك نظام الأسد أسلحة كيمائية قد تهدّد في يوم ما إسرائيل.
والواقع، أن التهديد الديمغرافي بات يشكل أحد أكبر المخاطر على منطقة الشام والعراق، وهو تهديد قد يغير وجه هذه المنطقة وإلى الأبد، وربما بعد سنوات، ليست كثيرة، نستطيع القول إن هذه المنطقة كانت تسكنها أكثرية عربية.
عديدة تلك الرسائل الموجهة إلى إيران دولياً، ولكنها حتى اليوم رسائل تدور في فلك تغيير الدور الوظيفي لإيران وليس لإلغائه، ومن هنا يمكن فهم حالة الخلاف الفرنسي (وهي على الأغلب تمثل وجهة نظر الدول الأوربية) مع الموقف الأميركي، بما يتعلق بإنهاء الاتفاق النووي الموقع بين الدول الست (الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا) مع إيران نيسان (ابريل) 2015) في لوزان، وعلى رغم وصف الاتفاق بالتاريخي آنذاك من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما، إلا أن إيران أصبحت تحت أضواء الرقابة الدولية أكثر من ذي قبل، واتخذت إسرائيل قيادة هذه المهمة على عاتقها منذ أن أعلنت «أن الاتفاق خطأ تاريخي»، وأنه يسهل الطريق على إيران حيازة القنبلة النووية التي تهدد وجودها، وهذا ما جعل إسرائيل تربط بين التهديد الإيراني لها من خلال برنامجها النووي، ووجود أحد اشهر الألوية الإيرانية (فيلق القدس) على الأراضي السورية وقرب الحدود معها، ما جعلها تفرض عقوباتها الخاصة على إيران في شكل انفرادي وعملي، من خلال الضربات المتكررة التي وجهتها ضد القواعد والمراكز الإيرانية وما يتصل بها.
وإذ لا يمكن تجاهل أن تلك الضربات، التي تعامل معها النظام السوري على انها من جهة مجهولة، كانت مؤلمة ليس لإيران فقط في سورية، ولكن لإيران في لبنان، وإيران في إيران، سيما انها لا تحمل التوقيع الإسرائيلي فقط بل تحمل معها التهديدات الأميركية المسبقة الصنع، التي تم تكرار الإعلان عنها لتأكيدها خلال لقاء ترامب- ماكرون، في 26 نيسان المنصرم، وقبل ذلك عبر مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن. في المقابل يبدو شبه الصمت الروسي، أيضاً، وكأنه يحمل رسائل روسية إلى كل من إسرائيل وإيران والنظام السوري، بينما يرقى صمت المجتمع الدولي إلى مستوى الحياد الإيجابي، إلى جانب الضربات الإسرائيلية التأديبية والتحذيرية، والتي يعجز عن توجيها المجلس التزاماً بمواثيق نشأته، وضمن التفاهمات الروسية الإسرائيلية فإن عبور الصواريخ إلى مناطق تمركز القوات الإيرانية لا يمكن أن يكون من دون إشارات توافق متبادلة بين الطرفين، قد يكون الصمت أحدها.
يستنتج من ذلك أن إيران تعرف حجم خلافاتها الدولية، وتدرك من خلالها أن المواجهة العسكرية معها مقبلة، وأنها عندما اختارت أن تقود معركة النظام السوري ضد السوريين المتظاهرين ضده، لم يكن ذلك خدمة للرئيس الأسد كما يحاول أنصاره الترويج، ولكن لأن إيران تريد ساحة حرب خارجية احتياطية لها، تدير معركتها عليها وبها، محاولة منها لإبعاد خطر المعركة عن أراضيها، لأنها في تلك الحالة سيكون بإمكانها زعزعة أركان النظام فيها، لذلك يمكن القول إن إيران هيمنت على الأرض السورية، ورهنت النظام لخوض معاركها المرتقبة مع الآخرين، ومنهم، وليس كلهم، إسرائيل.
وبالمقابل لم تستطع إسرائيل ولن تستطيع تجاهل الخطر الإيراني المحيط بها، ليس لأن إيران ستفتح معركة معها، بل لأن إيران تمارس دور التغيير المنهجي الإيدلوجي، الذي يسمح لها لاحقاً باستخدام شعوب هذه الدول - التي تغزوها فكريا وطائفياً وعسكرياً- كأدوات لها في حرب مصلحية إيرانية ضد إسرائيل، أي أن تلك الحرب لا علاقة لها بالحقوق الفلسطينية، ولا بتحرير القدس، وإنما هي حرب إيدلوجية اقتصادية وسياسية، على النفوذ الإقليمي، أي انها خالية تماماً من أي مصلحة فلسطينية أو عربية.
في الجانب الآخر لا يمكن تجاهل أن هذه الضربات الإسرائيلية لها دلالاتها في لبنان، حيث المعركة الانتخابية في مراحلها الملهمة للناخبين، وهي بذلك تحاول أن تقول كلمتها أيضاً بهذه الانتخابات، من خلال وضع حزب الله في حجمه الحقيقي، بعيداً عن استغلاله بسطاء المنتخِبين (بكسر الخاء) بشعارات المقاومة، التي خرست امام الضربات الإسرائيلية لمحور المقاومة الثلاثي (إيران وحزب الله والنظام السوري) المتمركز عسكرياً في سورية، أي أن إسرائيل الحيادية في الحرب السورية بين النظام والمعارضة، ليست كذلك في لبنان حيث تختلف أجنداتها، فبينما لا تجد أن بقاء النظام السوري حاكماً لسورية يضر بأمنها، إلا بحدود تعاونه الكيماوي مع إيران، فإنها ترى في حزب الله ما يعكر صفوها، باعتباره جزءاً من ولاية الفقيه، وليس جزءاً من حكومة لبنان. ما يعني أن لبنان ليس بعيداً عن أي أجواء ستسود المنطقة حرباً ام سلاماً.
وانتهجت إيران حق كظم الغيظ بمواجهة الضربات الإسرائيلية المتكررة على مواقعها، وما هو في سياقها (مواقع حزب الله ومراكز الدراسات البحثية السورية)، معتبرة أن حصر الصراع بينها وبين الولايات المتحدة وإسرائيل على الأرض السورية يجنبها التذمر الشعبي في إيران، ودرء خطر إسقاط النظام على يد المعارضة التي بدأت حراكها في طهران، وتدفيع سورية ثمن وقوف إيران إلى جانب النظام السوري في حربه ضد شعبه، أي أننا إزاء تضحية إيران بسورية، وقبول النظام بأن يدفع الشعب السوري ثمن حربين واحدة ضده، والأخرى ضد من هم مع نظامه.
وضمن كل هذه المواجهات التي تتبلور، فإن التعويل على أن الولايات المتحدة ستنهي الاتفاق النووي المبرم يبقى ضمن إطار الجدليات والتـــفاهمات والصفقات، مايعني أن الأرجحية لتعديل الاتفاق بما يخدم المصلحة الأميركية، ويبدد مخاوف إسرائيل، ويضمن المصلحة الأوروبية التي لا ترى أن إنهاء الاتفاق يوفر حالة أمان لأوروبا وللعالم، وبالمحصلة يضع يد أميركا على كل التجربة الإيرانية النووية، وأن كل هذه المقدمات العدائية لإيران لا يمكن ترجمتها حتى اليوم باعتبار أن ما تريده الإدارة الأميركية إنهاء أدوار إيران في المنطقة، وإنما تعديل هذه الأدوار، بعد أن أحسنت إيران خلال العقدين الماضيين بإدارة الصراعات في المنطقة العربية، لمصلحة تأزيمها، وتوسيع رقعتها لتكون الولايات المتحدة هي المنقذ لها.
لذلك ليس علينا كسوريين وعرب التعويل بهكذا حرب باردة فعلى الأكثر نحن أمام حالة تقليص الدور الإيراني في سورية، حيث يخف عبء القتال الطائفي، بما يسمح أكثر بالحديث عن تسويات سياسية وفق الرغبة الأميركية المراعية للأمن الإسرائيلي ومتطلباته، وهي (أي الولايات المتحدة) غير متضررة من الوجود الروسي، بل وتسعى إلى عقد تفاهمات جادة معه، كما يمكنها عقد صفقة مع تركيا لمصلحة طمأنتها شمالاً وشرقاً، من دون أن تتخلى عن فكرة سورية اللامركزية التي طرحتها خلال اجتماع باريس مع مجموعة العمل المصغرة في 23 كانون الثاني (يناير) 2018، وعادت وأكدتها ضمناً في اجتماعها الثاني الذي ضم إليها ألمانيا (29 نيسان)، عندما تحدثت عن حاجة تفعيل المسار السياسي من خلال وقف اطلاق النار، وإجراء إصلاحات دستورية وتنظيم انتخابات جديدة، وهو الأمر الذي يتيح للسوريين إقامة نظام حكم جديد منقطع تماماً مع النظام الرئاسي المركزي السابق، ويمهد لحكم برلماني يؤسس لمساواة بين كل السوريين بمختلف مرجعياتهم القومية والمذهبية والإيديولوجية، عبر غرفتي تمثيل نيابي، أي ما يضمن حقوق الأكراد مع ضمانات لتركيا بألا تشكل هذه الحقوق أي خرق لأمنها القومي.
ولعل أهم ما يمكن التعويل عليه لاحقاً أن إيران التي أخذت دور القاتل للشعب السوري، قد تكون ضمن أعداد المقتولين دولياً وتعثر نظامها شعبياً، ما يتيح الفرصة للانتقال من ربيع الثورات العربية إلى حركات التحرر الشعبية التي تتقد شعلتها يوماً إثر يوم في إيران، القاتلة والمقتولة في سورية.
فجّرت إسرائيل قنبلة سياسية عالمية، حين كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خداع النظام الإيراني للعالم. أول هذا العالم المجموعة الأوروبية وإدارة الآفل باراك أوباما، بخصوص برنامجها النووي العسكري «السري».
على المسرح أظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية أدلة كثيرة على وجود النشاط الإيراني النووي العسكري، وليس المدني، نتنياهو اتهم إيران بتنفيذ برنامج سرّي للأسلحة النووية، عُرف باسم «مشروع عماد»، وقال إنها واصلت متابعة المعلومات الجديدة بشأن الأسلحة النووية بعد إغلاق المشروع في 2003، مضيفاً أن المشروع يهدف إلى إنتاج خمس رؤوس نووية. وتحدث عن «آلاف» الوثائق حول هذا البرنامج الخطير.
طبعاً إيران سارعت بالتكذيب، والسخرية والإنكار، عبر متحدثها بهرام قاسمي، وظريفها وزير الخارجية، ماذا يُنتظر منهم غير هذا؟ لكن الخطير هو أن مجرد وجود هذه الاحتمالية، ولو بنسبة 5% يعني الحذر والاستعداد الشديد، فنحن أمام طغمة مخبولة متوحشة تكفيرية منقوعة بخرافات القرون الغابرة، تريد قتل كل من يرفض مشروعها التكفيري.
الغريب هو إلحاح من ساهموا بالاتفاق الفاسد مع إيران، في مقدمهم فرنسا ومفوضة الاتحاد الأوروبي الإيطالية اليسارية فيدريكا موغيريني، على الحفاظ على هذا الاتفاق رغم كل شيء، والأخيرة علقت على الصدمة الإسرائيلية بأن الوثائق التي قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي، لا تثير أي تساؤل بشأن التزام إيران بالاتفاق!
الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخولة لها مراقبة برامج إيران النووية لم تعلق على اتهامات نتنياهو مباشرة، لكنها أشارت إلى تقريرها الصادر 2015 والذي وجد أنشطة في 2003، «ذات صلة بتطوير أداة نووية متفجرة».
خطورة الكشف الإسرائيلي بتوقيته، حيث من المقرر أن يعلن الرئيس الأميركي ترمب موقفه النهائي من الاتفاق النووي مع إيران، وهو أعلن دوماً رفضه له لأنه «مبنيّ على الأكاذيب»، كما علق وزير خارجيته مايك بومبيو على الوثائق الجديدة.
امتلاك إيران سلاحاً نووياً يعني بالضرورة امتلاك السعودية، التي تراها إيران العدو الرئيسي، لسلاح مماثل للردع على الأقل، وهذا هو الذي قالها بصراحة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حواره مع برنامج (Minutes 60) على قناة «سي بي إس» الأميركية، رغم أن السعودية ليست من الدول التي تعشق امتلاك هذا السلاح، لكن: ما حيلة المضطر إلا ركوبها!
صواريخ إيران «العادية» تصيب المدن السعودية، فهل من الحزم انتظار هؤلاء المخابيل حتى يمتلكوا حقاً القنبلة النووية؟
السؤال المركزي: هل يريد الغرب أن يشتعل سباق تسلح نووي في منطقة الشرق الأوسط، بصواريخ عابرة للقارات، يعني تصل أوروبا نفسها؟!
مَن نام على وسائد التخدير يستيقظ على رضّات الصخور.
إن القرار المتّخذ من قبل أردوغان والذي ينص على إجراء انتخابات رئاسية مبكّرة يحمل أهمية كبيرة بالنسبة إلى مستقبل القضية السورية أيضاً وليس مستقبل تركيا فقط، إذ ستؤدي هذه الانتخابات إلى بداية مبكّرة للنظام الرئاسي، وعند رؤية اختلاف وجهات نظر الأطراف تجاه القضية السورية نستطيع إدراك مدى أهمية هذه الانتخابات بالنسبة إلى مستقبل سوريا.
إن وجهة نظر السلطة الحالية وممثلها في الانتخابات المقبلة "أردوغان" تجاه القضية السورية واضحة منذ عدة سنوات، إذ أقرت تركيا منذ البدء على عدم شرعية بشار الأسد، وكذلك تعارض وجود الأسد فيما يخص المستقبل السوري، وتعتبر أن حماية اللاجئين السوريين من ظلم نظام الأسد هي وظيفة إنسانية، في الواقع هذا المبدأ كان سائداً لدى جميع الدول -على رأسها أمريكا- التي تزعم أنها صديقةً لسوريا، لكن اليوم نرى أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي استمرت في الالتزام بهذا المبدأ.
أدرك الغرب أن إجراء انتخابات عادلة في سوريا سينتهي برحيل الأسد وانتصار الطبقة الملتزمة والمتديّنة من المجتمع السوري، ولذلك فإن الغرب قد دعمَ الأسد بدلاً من دعم الإرادة القومية للشعب السوري مما أدى إلى وصول الأزمة السورية إلى وضعها الحالي.
استطاعت تركيا الحفاظ على هذا المبدأ من خلال حزب العدالة والتنمية، وفتحت أبوابها للاجئين السوريين، ونظراً إلى ذلك فإن الناخبين الأتراك سيصوّتون في 24 يونيو/حزيران لمستقبل القضية السورية إلى جانب مستقبل تركيا، لأن المرشّح المشترك للحكومة التركية هو رجب طيب أردوغان، وسيستمر الأخير في ممارسة سياسته الحالية تجاه القضية السورية، ويدافع عن وحدة الأراضي السورية والإرادة القومية للشعب السوري.
أما المعارضة التركية فستقوم بعكس ذلك تماماً، إذ تدافع الأحزاب المعارضة في الداخل التركي -على رأسها حزب الشعب الجمهوري- عن مشروعية الأسد وضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتركهم لإنصاف ورحمة نظام الأسد.
في هذه الحال إن انتصار أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة يعني دخول تركيا في مرحلة النظام الرئاسي مع استمرار السياسة الممارسة تجاه القضية السورية.
أما انتصار أحزاب المعارضة في الانتخابات ذاتها يعني التخلّي عن تطبيق النظام الرئاسي وبالتالي الانشغال بمشاكل جديدة وإدخال تركيا في متاهة سياسية قد لا تجد مخرجاً منها، إضافةً إلى إجراء المفاوضات مع نظام الأسد حول القضية السورية وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتركهم لإنصاف الأسد، وكذلك عودة التنظيمات الإرهاب لتسيطر على المناطق التي تم القضاء على الإرهاب الموجود فيها من خلال عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، وبالتالي الاستهتار أو غض النظر عن
يهيمن داخل سورية انطباع بأن نظام بشار الأسد انتصر، بدليل ما يستعيده من سيطرة على مناطق حول دمشق وبعيداً عنها، وما يعرضه رجال أعماله من مشاريع وخرائط للمدن المدمّرة في الغوطة وسواها من مناطق «سورية المنسجمة ديموغرافياً»، إلى حدّ أن برلمانه الخاص لم يتردّد في إصدار قانون يشرّع سلب «أملاك (السوريين) الغائبين» والتصرّف بها. ومع أن أطرافاً غربية حاولت في مشاورات مغلقة وفي اتصالات سرّية مع النظام النظر ببراغماتية إلى هذا «الانتصار»، كونه واقعاً يتأكّد يوماً بعد يوم، إلا أنها استنتجت لاحقاً أنها أبعد ما تكون عن التعاطي مع رجل دولة مدرك هول ما فعله ببلده وراغب في فتح صفحة جديدة مع «شعبه»، أو مع حاكم لديه رؤية وفاقية لـ «وطنه». أضاعت هذه الأطراف وقتاً طويلاً في ملاحقة أوهامها لاحتمالات إعادة تأهيل الأسد «إنقاذاً للدولة»، وفي تطويع «مبادئها» وقوانينها لقبوله، أقلّه من أجل مصالحها، إن لم يكن «إنقاذاً لحل سياسي»، لكنها عادت فوَعَت حقيقة أنها إزاء رجل استوعبه حُماتُه/ محتلّوه، وأن قبوله بجرائمه أفضل خدمة مجانية للاحتلالَين الروسي والإيراني.
إذا صحّ أن الحاصل الآن هو «انتصار» فإنه يثير سلسلة طويلة من الأسئلة تبدأ بـ «مَن صنعه» وتتواصل بـ «مَن انتصر» فعلاً، وعلى مَن، ومن أجل مَن، والأهم من أجل ماذا؟ لا على سبيل الجدل بل لأن التطوّرات الراهنة تصوّر ما سبقه ولا تزال آثاره أمام الأبصار كأنه مُحي وأصبح من ماضٍ سحيق، وترمي إلى تقديم «الانتصار» على أنه الحدث المعني بالمستقبل المُقترح لا لسورية والسوريين فحسب، لكن أيضاً للمنطقة وشعوبها. ذاك أن هذا «الانتصار» قد يكون النمط الأول الذي يولد مستوحياً كليّاً النموذج الإسرائيلي بأسوأ ما فيه، بل يتجاوزه بجرائمه وتفاصيله التي لم تعد حتى الدول الغربية التي سبق أن دعمت إسرائيل لتتقبّلها، على رغم استمرار الولايات المتحدة في تغطيتها وحمايتها. ومنها المجازر والدمار واقتلاع السكان وتهجيرهم أو طردهم خارج الحدود، ومنها أيضاً الاستيطان الذي يقوم الإيرانيون بما يوازيه ويستعدّ أتباع النظام لمشاركتهم فيه، ومنها أخيراً وليس آخراً أن الإصرار على أولوية «استعادة السيطرة» من دون اتفاق سياسي تعايشي، أو مجرّد التفاوض عليه، يحاكي الأولوية الإسرائيلية لإدامة الاحتلال وإحباط أي تحرّك دولي لإحياء المفاوضات حتى مع وجود طرف فلسطيني تخلّى عن العمل المسلّح ولا يكلّ من تكرار أن التفاوض على السلام هو خياره الوحيد.
صحيح أن النماذج العربية للاستبداد لا تُعزى جميعاً إلى صدمة الهزائم والاغتصاب الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، لكن النمط الذي أسسته إسرائيل في المنطقة لاحتقار القوانين الدولية والدوس على حقوق الفلسطينيين كان له أثرٌ تلقيني لبعض الحكام، فانتهجوا الاستبداد وواظبوا على تبرير شدّتهم مع شعوبهم بمقتضيات الحرب ضد إسرائيل، حتى بلغ الأمر بصدّام حسين أن يجيّر غزوه الكويت لنصرة القضية الفلسطينية، وببشار الأسد أن يستنجد بإرهاب «داعش» للخلاص من انتفاضة شعبه ضدّه. وبما أن الاستبداد الإسرائيلي الذي عصف بالمنطقة استقطب في عقوده الأولى دعماً كاملاً، أميركياً وأوروبياً وسوفياتياً، كاستثناء أوحد في سياق الحرب الباردة، فقد أشاع مع داعميه منطق العسف والإفلات من أي محاسبة ومساءلة وعقاب مهما بلغ استهتاره بالقوانين والحقوق. وإذ اعتبر صدّام والأسد أن ما يحقّ «دولياً» لإسرائيل لا بدّ أن يحقّ لهما، وبدعم خارجي أيضاً، فإن صدّام قضى مع نظامه كنتيجة لأخطائه وتخطّيه الخطوط الحمر في لحظة تحوّل للنظام العالمي، أما الأسد فيعتقد أن احتفاظه بدعم روسيا وإيران وإسرائيل مكّنه من كسر الخطوط الحمر والبقاء في السلطة، وأنه ونظامه تجاوزا كل خطر بل دخلا مرحلة تدبير مستقبلهما.
كيف لا يحقّ له أن يعتقد ذلك وقد لمس أن أشدّ خصومه و «المتآمرين الكونيين» عليه قدّموا كل مساعدة ممكنة للجم الانتفاضة الشعبية ضدّه، بدءاً بالولايات المتحدة التي تكفّلت منع إسقاطه يوم كان ذلك ممكناً عسكرياً، وصولاً إلى تركيا التي تولّت بالتفاهم مع روسيا إدارة انهيار المعارضة المسلّحة. ولكن «الانتصار» الذي يهلّل له النظام يبقى مشوباً بكثير من عدم اليقين، فأصحاب النصر الحقيقيّون هم الروس والإيرانيون، الروس باقون رسمياً لخمسين سنة والإيرانيون «إلى الأبد»، إلى ما بعد الأسد! كلّما ازداد وجودهم أهميّة واتخذ منحىً احتلالياً كلّما تراجع النظام، وكل نصر يمنحونه إياه ملغّم بهزيمة مقنّعة تقضم أجزاء من عمره. لا غنى له عنهم مهما قست ضغوطهم عليه فهو لم يعد في موقع يمكّنه من التلاعب عليهم، ولا غنى لهم عنه مهما انكشف هزاله، وطالما أنه مسكونٌ بمعاداة شعبه فإنهم يضمنون أن تبعيته لهم صارت خياره الوحيد. هناك حال انسجام لافتة بين النظام وحليفيه، فقبل تقاطع مصالحهم الجيوسياسية يتشاركون جميعاً القمع الوحشي والبطش بشعوبهم واستخدام الترهيب الدموي لانتزاع «شرعيتهم» من صناديق اقتراع مبرمجة.
ما يقلق نظام الأسد في اللحظة الراهنة هو تجمّع نذر المواجهة بين الإسرائيليين والإيرانيين، أي بين أصحاب الفضل الذين يدين لهم ببقائه. لا يمكنه «النأي بنفسه» حتى لو تمنّى ذلك، ولا يستطيع الكذب على الطرفَين كما يفعل الروس. ويمكن أن تُفهم مسائل خمس من تصريحات كبير حاخامات روسيا، الذي حمل أخيراً رسالة ممن فلاديمير بوتين إلى بنيامين نتانياهو: 1) إن روسيا حريصة على مصلحة إسرائيل وحقّها في الدفاع عن نفسها في «لحظة الخطر المحدق» و «بشرط عدم الإخلال بالتوازن في المنطقة». 2) إن حكم الأسد في سورية أفضل من حكم «داعش». 3) إن المنظومات الصاروخية الروسية في سورية ليست موجّهة ضد إسرائيل بل ضد الضربات الأميركية والغربية. 4) إن الضربات الإسرائيلية لأهداف في سورية ليست بعيدة عن التنسيق مع روسيا ولذلك فإن مستوى الإدانة الروسية لها ليس قويّاً. 5) إن روسيا «قادرة على كبح جماح إيران» وتنصح إسرائيل بـ «التقليل من مخاوفها وعدم تضخيم القوة الإيرانية، التي لها أهداف أخرى في الشرق الأوسط، فالمنطقة تهتزّ وليس فقط سورية»، كما قال الحاخام. ومع وجود تناغم بين هذه الإشارات وإعلان مايك بومبيو دعم «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، فإن رسالة بوتين تنصح إسرائيل بالتخلي عن مواجهة واسعة مع الإيرانيين في سورية والاكتفاء بضرب مواقعهم... بالتفاهم مع روسيا.
كان نظام الأسد تعايش عملياً مع قواعد الاشتباك التي وضعتها روسيا للإسرائيليين والإيرانيين، بل اعتبر نفسه مستفيداً منها، لكنها لم تعد كافية لضبط الصراع في المرحلة المقبلة. فإسرائيل التي تنسّق خططها مع واشنطن مهتمّة خصوصاً بقواعد إيران في سورية وبالأسلحة والصواريخ التي تكدّس فيها أو تمرّر إلى «حزب الله» في لبنان، وليس مؤكّداً أن الروس والنظام قادرون على منعها أو تحديد سقفٍ لها، ولذلك فإن إسرائيل لن تكتفي بضربات تعرف مسبقاً أنها لن تؤثّر في بنية الوجود الإيراني.
لا شك أن الضحيّة الدائمة لأي تصعيد هي عملية البحث عن حل سياسي. ثمة انسداد تأكّد أخيراً مع إعلان الدول الخمس (بعد اجتماع باريس) أنها تبحث في «خريطة طريق» لإحياء المفاوضات في «مسار جنيف»، أما ثلاثي «مسار آستانة/ سوتشي» فأشار (بعد اجتماع موسكو) إلى زيادة الجهود المشتركة لتسهيل التوصّل إلى تسوية سياسية دائمة بـ «استخدام كامل لآليات متعدّدة المستويات لشكل آستانة» ما يعني عملياً أن روسيا باتت أكثر إصراراً، بعد الضربات الثلاثية، على أن ينبثق الحلّ السياسي من الحسم العسكري، وليس من صيغة «مناطق خفض التصعيد» التي لم يعد سرّاً أنها كانت مجرّد خطّة لإضعاف المعارضة وخفض مطالبها. ويقوم الحلّ الذي يراه «المنتصرون» ممكناً على تحكّمهم بالمفاوضين وبـ «تسوية» جاهزة تشكّل تكريساً رسمياً لـ «انتصار» النظام، ولو كان الروس والإيرانيون والأتراك قادرين فعلاً على فرض حلٍّ كهذا لما تأخروا.
المفترض أنه معروفٌ أن الروس، ومعهم الإيرانيون ونظام بشار الأسد أيضاً، عندما يقولون إنه لا حلّ عسكرياً للأزمة السورية فإنهم يقصدون «المعارضة» ومن يساندها ويقف معها، وأنَّ الأميركيين ومن معهم عندما يقولون هذا الكلام نفسه فإنهم يقصدون روسيا وإيران، وهكذا فإنه لا جديد عندما يعلن لافروف وظريف ومعهما أوغلو في أعقاب اجتماعهم الثلاثي الأخير أنهم توافقوا على استمرار العملية السلمية، وعندما يقولون إن اتفاق هذه الدول الثلاث في هذا الاجتماع المشار إليه يعد «بداية» الحل المنشود لهذه الأزمة.
ولعل ما يؤكد أن التباعد لا يزال قائماً بين الأميركيين وحلفائهم والروس وحلفائهم أنه نُسب إلى مصدر أوروبي أن الدول الغربية لن تسهم في إعادة إعمار البنية التحتية والتنمية طويلة الأجل في سوريا إلا إذا رأت تغييراً حقيقياً في هذا النظام وتشكيلاً لحكومة تعددية، مما يعني أنه قد يكون هناك بعض التحول في الموقف الأميركي تحديداً والموقف الغربي بصورة عامة، لكنه تحوُّل، كما هو واضح، لا يعني أن مواقف المتخاصمين اقتربت من أن تصبح متطابقة، لا بل إنه يعني أن هذه المواقف قد ازدادت تباعداً، والدليل هو ما بات يجري على الأرض عسكرياً حيث التحشيد الأميركي المتواصل الذي رافقه ويرافقه تحشيد فرنسي واضح ومعلَن وعلى «عينك يا تاجر» كما يقال.
لقد حذَّر هذا الدبلوماسي، الذي لم يُكشف النقاب لا عن اسمه ولا عن مكانته ولا عن أي دولة يمثلها ويتحدث باسمها، من أن الروس قد قاموا بالكثير من الألاعيب أخيراً، وقال: «لذلك لا أعتبر أننا وصلنا إلى نهاية لهذه الألاعيب... علينا أن ننتظر قليلاً لنرى ما إذا كان غبار المعارك سينقشع وما إذا كانت هناك عملية سياسية ستظهر مجدداً في جنيف»!
وحسب «الشرق الأوسط» فقد أشارت وكالة الصحافة الفرنسية يوم الجمعة الماضي، إلى أن دولاً أوروبية، على رأسها فرنسا، تخطط لجعل محاكمة مجرمي الحرب في سوريا شرطاً أساسياً للسلام والمصالحة في هذا البلد، وذلك رغم العقبات الكثيرة التي تعيق تحقيق مثل هذا الأمر، وهنا فإن ما يؤكد أن هذا التوجه جدي وأن الولايات المتحدة داعم رئيسي له، أنَّ اجتماعاً قد عُقد يوم الأربعاء الماضي في بروكسل شاركت فيه بريطانيا والسويد وهولندا والدنمارك وبلجيكا وخُصِّصَ لمناقشة هذه المسألة ومنع إفلات نظام بشار الأسد ومن شاركه من العقاب على ارتكاب كل هذه الجرائم.
وهذا يعني أن أي حلول سياسية جدية لهذه الأزمة الطاحنة، التي لا تزال تزداد تعقيداً وتداخلاً يوماً تلو يوم، مستبعدة جداً في المدى المنظور وبخاصة أن الولايات المتحدة، خلافاً لما كان قاله الرئيس دونالد ترمب، قد أعلنت أنها لن تنسحب عسكرياً من سوريا وأن الروس بادروا أخيراً إلى اتهام أميركا بأنها تريد تقسيم هذا البلد، وكل هذا وقد بات واضحاً لكل معنيٍّ بهذا الأمر أن الروس قد بدأوا عمليات التقسيم هذه «باكراً» عندما بدأوا عمليات التفريغ الديموغرافي والتهجير المذهبي والطائفي لإنجاز مشروع «سوريا المفيدة» و«الانسجام المجتمعي» اللذين كان بشار الأسد قد تحدث عنهما ليس مرة واحدة وإنما وبكل جدية مرات كثيرة.
في كل الأحوال تجب الإشارة هنا إلى مسألة في غاية الخطورة والأهمية وهي أنَّ أي حلٍّ وفقاً لـ«آستانة» و«جنيف1» وغيرهما لا يكون أساسه المرحلة الانتقالية وإقصاء بشار الأسد عن موقع الرئاسة سيعزز حقيقة أن المقصود بهذا الذي جرى والذي يجري سابقاً ولاحقاً وحتى الآن هو العرب «السُّنة»، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو أن عمليات التهجير التي تمت على مدى الأعوام السبعة الماضية التي لا تزال مستمرة ومتواصلة لم تستهدف إلاّ هؤلاء، مما يؤكد أن المقصود ومنذ البدايات هو التخلص من أبناء هذه الطائفة ليبقى «نظام الأسد إلى الأبد» نظاماً مذهبياً وطائفياً ويتحول الشعب السوري بغالبيته إلى مجموعات طائفية سواء إنْ هي أصبحت أقليات متآخية أو متناحرة ومتحاربة.
جاء في كتاب «الصراع على السلطة في سوريا.. الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961 - 1995»، لصاحبه الدكتور نيقولاوس فاندام، أنَّ التقسيم الفرعي للسكان في هذا البلد نسبةً إلى اللغة يكشف أن 82.5% يتحدثون العربية، وأن 68.7% عربٌ مسلمون سُنيون، وأن أكبر الأقليات الدينية هم العلويون (11.5%)، وأن الدروز 3.0%، والإسماعيليين 1.5%، والمسيحيين (الروم – الأرثوذكس) 4.7%. وجاء في هذا الكتاب أيضاً أن الأقليات العرقية الرئيسية هم الأكراد (8.5%)، والأرمن (4.0%)، والتركمان (1.0%)، وذلك في حين أن معظم الأكراد والتركمان والشراكسة مسلمون سُنيون، وهم ينتمون إلى غالبية السكان، أما الأرمن فهم يمثلون أقلية عرقية ودينية... وكل هذا في حين أن العلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين (الروم الأرثوذكس) يتحدثون جميعهم ومن دون أي استثناء (تقريباً) اللغة العربية.
إنَّ ذكر هذه الحقائق كلها هو ليس إثارة للطائفية والمذهبية، التي من المفترض أنها مرفوضة رفضاً مطلقاً، وإنما لتأكيد أنَّ السنة العرب هم المستهدفون الآن، وأن المقصود بعمليات التفريغ والتهجير، المستمرة على مدى الأعوام السبعة الماضية، هو تحويلهم من أكثرية إلى أقلية مثلهم مثل الطوائف الأخرى، والواضح حتى الآن أن هذا الهدف قد تحقق الجزء الأكبر منه، وأن بقاء نظام بشار الأسد وفقاً لما يريده ويسعى إليه الإيرانيون والروس وتصْمُت تجاهه تركيا، سيؤدي إلى تغيير تركيبة هذا البلد المذهبية ويحوّلها من أغلبية سُنية إلى أغلبية تحالف مذهبي تكون القيادة فيه للطائفة العلوية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دمشق قد شهدت في عام 1940 ولادة حزب البعث على يدي المسيحي الأرثوذكسي ميشيل عفلق والمسلم السني (العربي) صلاح الدين البيطار ومعهما جلال السيد من دير الزور وبعض اللوائيين (نسبة إلى لواء الإسكندرون) وبعض الأردنيين واللبنانيين، لكن هذا الحزب ما لبث، بعد انقلاب أو «ثورة» مارس (آذار) عام 1963، أن تحوَّل إلى حزب أكثرية طائفية (علويون وإسماعيليون ودروز)، وتراجع الوجود السني لاحقاً حتى حدود التلاشي وبخاصة بعد انقلاب الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966.
لقد حاول «البعث» منذ إنشائه استبدال «الهويات» الطائفية والمذهبية (الانعزالية) بالهوية القومية – العربية، الجامعة لكنه إنْ هو قد حقق بعض الإنجاز والنجاح في البدايات فإنه بعد الوصول إلى الحكم بانقلاب عسكري قادته مجموعة سرية، تشكلت في القاهرة، من خمسة من الضباط السوريين ثلاثة منهم علويون هم: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، واثنان من الطائفة الإسماعيلية هم عبد الكريم الجندي وأحمد المير، بدأ يفقد وبالتدريج أي لون سني له إلى أنْ وقعت حركة الثالث والعشرين فبراير 1966، الآنفة الذكر، حيث وصلت الأمور إلى حدِّ أنّه لم يستطع إنشاء فرع فعلي له في دمشق التي كان قد بدأ فيها وبصبغة قومية وعروبية غالبة.
لقد ابتعد السنة السوريون عن «البعث» ليس في دمشق وحدها وإنما في كل المدن السورية الكبيرة والصغيرة، اللهم باستثناء درعا ودير الزور، فكانت تلك الانتفاضات بطابع إسلامي التي شهدتها حماة في عام 1964 وبعد ذلك، وشهدتها مدن أخرى بطرق أخرى مختلفة، وهكذا إلى أن جاء انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، حيث تحول هذا الحزب وهذا النظام إلى حزب طائفي وليس حزب الطائفة، في حين تحول النظام إلى نظام العائلة الأسدية، وهذا كله قد أدى أولاً إلى انتفاضة عام 1980 ثم إلى انتفاضة عام 2007 التي كانت ولا تزال بصورة عامة انتفاضة سُنية.
إن المقصود بهذا الاستعراض كله هو أنَّ أي حلٍّ يُبْقي على نظام الأسد وبأي شكل من الأشكال قد يؤدي إلى انتكاسة مؤقتة بالنسبة إلى هذه الثورة وبالنسبة إلى هذه المعارضة، لكن الجمر سيبقى «يعسعس» تحت الرماد، وسيبقى السنة العرب الذين لا يمكن إنهاء وجودهم في هذا البلد سيلجأون إلى انتفاضات متلاحقة، انتفاضة بعد انتفاضة، إلى حين إطاحة هذا النظام الطائفي واستبدال نظام يكون للسوريين كلهم وللطوائف والمذاهب السورية بأسرها به، وعلى من يشك في هذه الحقيقة أن يراجع التاريخ إنْ في هذا البلد العربي (سوريا) وإنْ في بلدان عربية وغير عربية أخرى كثيرة.
هناك شبه كبير بين النظامين في كوريا الشمالية وسوريا. لذلك كان لدى حافظ الأسد إعجاب شديد بالقبضة الحديدية لكيم إيل سونغ (جدّ كيم جونغ أون).
ليست القمة التي انعقدت بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي مون جاي ان سوى دليل آخر على أن التخلّف لا يمكن أن ينتصر على التقدّم والتطور. إنّه سقوط آخر لجدار برلين حيث تبيّن في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989 أن ألمـانيا الشرقية لم تكن تستطيع الانتصار على ألمانيا الغربية. إنّه سقوط للفكرة التي حاول حافظ الأسد الترويج لها وفرضها منذ سبعينات القرن الماضي، الفكرة القائمة على أن سوريا-الأسد قادرة على البقاء في لبنان إلى الأبد. لم يستطع النظام الأقلّوي الذي أسّس له الأسد الأب البقاء إلى الأبد في سوريا نفسها، فكيف كان يمكن لرجل يمتلك مقدارا كبيرا من الدهاء والحنكة تصوّر أن سوريا باقية في لبنان إلى الأبد مثلما أن نظامه باق إلى الأبد؟
من قبيل الصدف السعيدة انعقاد القمة بين الكوريتين في اليوم الذي كان اللبنانيون، اللبنانيون الشرفاء طبعا، يحيون ذكرى مرور ثلاثة عشر عاما على انسحاب الجيش السوري من لبنان.
صحيح أن “حزب الله”، أي إيران، استطاع ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب السوري. لكنّ الصحيح أيضا أنّ هذا الانسحاب حصل، وهو أمر كان يصعب على أيّ لبناني أن يصدّق أنه سيحصل في يوم من الأيّام بعدما أقام النظام السوري في البلد، عبر أجهزته وأزلامه، طوال ثلاثين عاما. لم يحرّك النظام أيّا من مواقعه العسكرية قبل اتفاق الطائف وبعده. كانت الرسالة التي أراد النظام إرسالها إلى اللبنانيين واضحة. فحوى الرسالة أن دخوله إلى لبنان عسكريا وامنيا، بضوء أخضر أميركي وإسرائيلي وعربي في العام 1976، لم يكن دخولا موقتا. دخل حافظ الأسد إلى لبنان من أجل أن يبقى النظام السوري بتركيبته الأمنية فيه، لا من أجل أن يأتي يوم يقول له اللبنانيون إن عليه أن يخرج نتيجة ارتكاب جريمة اغتيال رفيق الحريري، أو المساهمة في تغطيتها.
هناك شبه كبير بين النظامين في كوريا الشمالية وسوريا. لذلك كان لدى حافظ الأسد إعجاب شديد بالقبضة الحديدية لكيم إيل سونغ (جدّ كيم جونغ أون). كان شعار الجدّ أنّه “الزعيم المحبوب من شعبه” ومخترع نظرية “زوتشيه” التي تقوم على الاكتفاء الذاتي ورفض النظريات التي كان يروج لها الاتحاد السوفياتي. كان كيم المؤسس يؤمن بأن المهمّ تحقيق الاكتفاء الذاتي، حتّى لو كان معنى ذلك تجويع الشعب. وهذا ما حصل بالفعل في بلده الذي اضطر إلى الاستسلام نهائيا لمنطق التاريخ.
لعلّ أكثر ما جعل حافظ الأسد يعجب بكيم الجدّ تلك القدرة على التوريث في نظام يعتبر، أقلّه من الناحية النظرية، نظاما جمهوريا. بعد وفاة الأسد الأب، استطاع النظام السوري الإتيان بابنه رئيسا للجمهورية. حصل ذلك بسهولة، تماما كما حصل في كوريا الشمالية حيث خلف كيم إيل جونغ والده إثر وفاته في العام 1994، وكان حافظ الأسد لا يزال وقتذاك حيّا يرزق ويفكر في كيفية إقامة جمهورية على أساس التوريث. لا حاجة إلى التذكير بأنه أعدَّ ابنه باسل ليكون خليفته، لكن باسل قُتل في حادث سيارة. فرض ذلك البحث عن وريث جديد من العائلة. وهذا ليس سرّا عسكريا.
تشير القمّة الكورية – الكورية إلى أن النظام في كوريا الشمالية وجد نفسه عند مفترق. وجد نفسه في نهاية المطاف في طريق مسدود. نجح هذا النظام في جعل التوريث قاعدة ثابتة بعدما خلف كيم جونغ أون والده كيم جونغ إيل في 2011. تبيّن مع مرور الوقت أن الشعب في كوريا الشمالية لا يستطيع أن يأكل صواريخ باليتسية ولا قنابل نووية، ولا أن يعتاش من التجارة بتكنولوجيا الصواريخ التي تحتاج إليها دولة مثل إيران.
لعلّ أهم ما أسفرت عنه القمة بين الكوريتين، وهي تمهيد لقمّة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي يتوقع أن تنعقد الشهر المقبل، اتفاق على تجريد شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي. سيطرح ذلك سؤالا بديهيا وهو هل في استطاعة نظام مثل النظام الكوري الشمالي العيش من دون امتلاك القدرة على ممارسة الابتزاز؟
تمثل تلك القدرة على ممارسة الابتزاز وجه شبه آخر، لكنه ليس الأخير بين النظام الذي أقامه حافظ الأسد وذلك الذي أقامه كيم إيل سونغ. قامت كل سياسة النظام الأقلّوي في سوريا على الابتزاز. كان هذا النظام الإرهابي الأول في المنطقة. سعى في الوقت ذاته إلى لعب دور الحريص على مكافحة الإرهاب والشريك في الحرب على الإرهاب الذي صنعه بنفسه. من أهمّ ما تميّز به النظام السوري تلك العبقرية المتمثلة في صنع منظمات إرهابية وإدارتها بما يخدم مصالحه، ثمّ التخلص منها عندما يجد ذلك مناسبا.
لا حاجة إلى تعداد ما فعله النظام السوري في لبنان أو على الصعيد العربي. كانت لعبة الابتزاز اللعبة المفضلة لدى حافظ الأسد، وهي لعبة انتقلت إلى وريثه الذي لم يحسن الوصول بالأداء إلى المستوى الذي امتلكه والده. تعطي الطريقة التي تعاطى بها بشّار مع المملكة العربية السعودية ومع لبنان فكرة حقيقية عن سوء أدائه، وعن عدم اكتشافه باكرا أن عليه تفادي التحوّل إلى تابع لإيران بنسبة مئة في المئة.
من سقوط جدار برلين، إلى خروج الجيش السوري من لبنان، إلى القمة الكورية – الكورية، ثمّة درس لا يمكن إلا أن يبقى عالقا في الأذهان. ملخّص هذا الدرس أن الشعوب المقهورة تبحث عن نموذج تنتمي إليه. هناك نموذج واحد في العالم يصلح لتلبية مطالب الشعوب. هذا النموذج هو الحرّية والسوق الحرّة. من دون حرّية وسوق حرّة كانت ألمانيا الشرقية دولة متخلفة. من دون تداول سلمي للسلطة في ظل مؤسسات محترمة صار الفارق شاسعا بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. في كوريا الشمالية شعب جائع وفي كوريا الجنوبية اقتصاد بين الأوائل في العالم على الرغم من عدم امتلاك البلد لأي موارد طبيعية تذكر.
لم يكن في استطاعة كيم جونغ أون سوى الاستسلام لمنطق التاريخ وللواقع والحقائق وإن في ظلّ ما يحفظ له ماء الوجه. هل ينقذ الاستسلام للواقع وللغة الأرقام نظامه؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بحدّة بعد اكتشافه أن الشعب لا يأكل تكنولوجيا الصواريخ ولا الصواريخ نفسها، مثلما لا تسدّ جوعه القنابل النووية.
لم تسدّ جوع الإيرانيين والسوريين شعارات “محور المانعة” وإتقان ممارسة لعبة الابتزاز، مهما بلغت درجة البراعة في ممارسة هذه اللعبة. هل تستطيع إيران الاستسلام بعدما تبيّن أن اقتصادها لا يتحمّل مشروعها التـوسعي، خصوصا بعـدما صار العراق بلدا مفلسا ليس فيه ما تنهبه منه؟ هل خيار الاستسلام لا يزال متاحا أمام النظام السوري… أم كلّ ما يستطيع عمله هو استكمال الدور المرسوم له، وهو دور لن ينتهي إلا في اليوم الذي تنتهي فيه سوريا؟
يشهد مخيم اليرموك تدميراً مبرمجا منذ أيام، تقصفه طائرات النظام السوري ومدفعيته بالصواريخ والقنابل الثقيلة، وتشير الوقائع إلى حدوث تدمير شامل في حي المغاربة جنوب المخيم، وكذلك في دوار فلسطين والمنطقة المحيطة الممتدة إلى المدينة الرياضية جنوباً وحي التضامن ومسجد أويس القرني شمالاً، فضلاً عن تدمير كبير وشامل لحق بالمنطقة من دوار فلسطين مروراً بشارع القدس، وصولاً إلى حديقة الطلائع في وسط المخيم. ولم ينج شارع العروبة جنوبا من التدمير الكامل، حيث سوّيت حاراته بالأرض من مسجد إبراهيم الخليل في الجنوب الغربي، وصولاً إلى مدخل بلدة يلدا في الجنوب الشرقي، وهو المعبر الوحيد للفارين من المجزرة في اليرموك باتجاهها. وإضافة إلى التدمير الكامل الذي لحق بالمخيم، منازله ومحاله التجارية والبنى التحتية، استشهد نتيجة القصف في الأيام الخمسة الأولى، منذ 19 إبريل/ نيسان الجاري، 25 لاجئاً فلسطينياً، وثمّة أعداد من اللاجئين تحت أنقاض منازلهم، وفي الملاجئ. وقد شاهد فارون إلى بلدة يلدا عددا كبير من الشهداء والجرحى في شوارع المخيم، وبالقرب من أطلال الأحياء المدمرة.
ثمّة رزمة أغراض من عملية التدمير الشامل والمبرمج لمخيم اليرموك، في مقدمتها طرد من تبقوا من اللاجئين الفلسطينيين، ومنع عودة أي لاجئ فلسطيني إليه، وبالتالي تغييب شاهد مهم على النكبة، تماماً كما حصل في 1976 في مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا غرب وسط بيروت. ومن الأهمية الإشارة إلى أنه كان يتمركز في مخيم اليرموك قبل قصف الميغ جامع عبد القادر الحسيني وسط المخيم في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2012 نحو 151 ألف لاجئ فلسطيني، وفرّت غالبية العائلات إلى العاصمة دمشق ولبنان، والمنافي، ولم يتبق الآن سوى أربعة آلاف، فرّ معظمهم إلى بلدتي يلدا وبيت سحم، ولم يتسنّ للآخرين الفرار، بسبب القصف العنيف والدمار الكبير.
ومخيم اليرموك أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وقد أنشئ في 1957، على مساحة تقدر بـنحو كيلومترين مربعين، وهو من حيث تصنيف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) لا يعتبر مخيما رسميا. وقد استأجرت مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين في سورية من الدولة السورية منطقة الوسط في المخيم مدة 99 عاما. وكان اللاجئون يتوزعون في المخيم في أحياء وتجمعات وشوارع حسب قرية وبلدة المنشأ في فلسطين، كشارع صفورية، وحي طيرة حيفا وشارع صفد وعين غزال وهكذا. وسميت الشوارع بأسماء المدن والقرى الفلسطينية وكذلك أسماء بعض شهداء فلسطين والمعارك. وكان المخيم حتى نهاية عام 2012 يزدحم بالمساكن الإسمنتية والشوارع الضيقة، ويكتظ بالسكان، وهو يضم عددا كبيرا من السوريين الفقراء. وكانت ظروف المعيشة فيه أفضل بكثير من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأخرى في سورية. وفيه أربعة مستشفيات، وجميعها خارج الخدمة منذ 2013. وتوجد مدارس ثانوية حكومية، وأكبر عدد من مدارس "أونروا" (28 مدرسة للتعليم الأساسي). واللافت أن معدلات التعليم كانت عالية في مخيم اليرموك، بدلالة انتشار عيادات الأطباء المتخصصين من أهله والمكاتب الهندسية، ومكاتب المحامين والمكتبات.
ويمكن الجزم بأن الغرض الرئيسي لعملية التدمير المبرمج لمخيم اليرموك هو إسكات صوت اللاجئين في المخيم، خصوصا وأنهم ساهموا في كل مراحل الكفاح الوطني الفلسطيني، شأن كل التجمعات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني والشتات. والسؤال: ما هو موقف الفصائل الفلسطينية من تدمير المخيم وتشريد من تبقوا من أهله العزّل إلا من الانتماء للوطن الفلسطيني؟ ولمصلحة من تتم عملية تدمير أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين، عاصمة الشتات مخيم اليرموك؟
الإعلام الروسي واقع تحت هيمنة الحكومة الروسية وتأثيرها، وما زال شغله حماية النظام السوري، وتلميع صورته، وتبرئته من المجازر والجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري. وليست فقط وسائل الإعلام، وإنما كل النخب السياسية والمستشرقين، مع استثناءات، على أن عام 2012 شهد نشر مقالات نادرة للكاتب رينات محمدوف، أضاءت على طبيعة النظام السوري وسياسته الطائفية بعنوان "آخر علوي يحكم سورية"، وعن اللوبي الأسدي في موسكو، ولكن لم تنشر مقالات معمقة تشرّح النظام سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا، فذلك خط أحمر. وقد أجرى صحافيان روسيان مقابلتين مطولتين معي قبل سنتين، أحدهما من صحيفة موسكوفسكي كومسمولتس، ولكنّ إدارتي التحرير لم تسمحا بنشرهما.
وقد نشرت أخيرا في صحف ومنابر إعلامية روسية مقالات متميزة ونوعية عن سورية، تحضر فيها مقادير طيبة من الصراحة والجرأة والموضوعية، وتصور بصدق حقيقة النظام السوري والتاريخ الأسود لعائلة الأسد. وهذا غريب، نظراً لتعارضه بشكل جوهري مع السياسة الروسية الرسمية التي ما زالت تتردد من الكرملين ووزارتي الخارجية ووزارة الدفاع، وفي أغلب وسائل الإعلام، وخصوصا القنوات التلفزيونية.
وهنا نماذج لتلك المقالات الجديدة التي نشرها باحثون وخبراء واعلاميون روس، وفتحت نافذة حقيقية على سورية، وكشفت حقيقة النظام الذي يُحكَم من عائلة الأسد والمخابرات.
مقالتان في موقع إخباري
"لينتا. رو" موقع إخباري مشهور في روسيا، ومعروف بتوجهه المعارض والمختلف عن الإعلام الرسمي. نشر، يومي 18 و24 إبريل/نيسان الجاري، مقالتين، أولاهما بعنوان "بشار الأسد يخون روسيا لصالح إيران ويقتل آلاف السوريين"، كتبهما فلاديمير كورياغين وإلكسي نعوموف. والأول مدير تحرير الموقع، وقد أبلغ صاحب هذه السطور أنه، وزميله نعوموف، أرادا قول الحقيقة عما يجري في سورية. وقد استعرضا تاريخ عائلة الأسد منذ الأسد الجد الذي طلب من الفرنسيين إقامة دولة علوية، وحماية العلويين من السنّة. وأوضح الكاتبان بالتفصيل كيف تدرّج حافظ الأسد في المراكز العسكرية من خلال حزب البعث (انتسب إليه بحماس ممثلو الأقليات)، ووصوله إلى السلطة. وكيف تحالف مع القيادي في الحزب، صلاح جديد، للانقلاب على الرئيس أمين الحافظ في 1966، ثم انقلب الأسد على جديد نفسه عام 1970 وأودع رفاقه في السجن، مددا لا تقل عن عشرين عاما، حيث ماتوا إما في السجن أو بعد خروجهم منه بفترات قصيرة. وتوضح المقالتان كيفية تحويل الدولة السورية إلى دولة طائفية بامتياز. ويذكر الكاتبان كيف تحولت القيادات العسكرية والأمنية إلى أبناء الطائفة العلوية حصراً. وأهم ما أوردته المقالتان:
أولا، تعرّف المستشارون السوفييت على الطيار الشاب حافظ الأسد عام 1956 في القاهرة، وبعدها بسنة دعوه إلى الأكاديمية العسكرية في مدينة فرونز (جمهورية قيرغيزيا).
ثانيا، ساعد السوفييت حافظ الأسد، ودعموه بشكل كبير بالأسلحة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، اتجه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وشاركت قواته مع الأميركان في تحرير الكويت.
رابعا، عمل حافظ الأسد على إعداد نجله البكر باسل وريثاً له في الحكم، لكن باسل مات في حادثة سيارة 1994 في ظروف غامضة، عندها استدعى الأسد الأب نجله بشار الذي كان يختص في طب العيون في لندن، ليحل محل باسل.
وتتحدث المقالتان عن شخصية بشار الأسد الذي نشأ في العائلة منطوياً على نفسه، وكان مهملاً، لأن الأب حافظ دلل باسل واهتم به، ويروى أنه قال يوماً إن لديه ابنا هو باسل. أما الأم أنيسة مخلوف فكانت تحب ماهر. وكانت الباحثة الروسية في علم النفس الاجتماعي، يكاتيرينا إيغوروفا، قد درست شخصية بشار الأسد عام 2013 من خلال خطاباته، فوجدت أنه مريض نفسياً، ويحلم بأن يكون مثل أبيه (حاكم قوي لا يرحم). وسعى في سنوات الثورة السورية إلى أن يثبت للجميع أنه ابن أبيه. وحسب الباحثة، يعكس سلوك بشار ووحشيته ضد المدنيين تخوّفه من الشعب الذي رأى فيه وحشاً يريد قتله، ولذلك هو يبرّر استخدام وسائل البطش، لأنه يدافع عن نفسه، ويحمي نفسه من الموت.
وجاءت المقالتان على دور رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع، في تدمير حماة، حيث قتل نحو أربعين ألف إنسان. وكيف أثرت تلك الحادثة الإجرامية في ذاكرة بشار، لكي يعيدها في مواجهة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في المدن والقرى السورية. وأشار الكاتبان إلى ربيع دمشق، وكيف غدر بشار بالمعارضين، وزجّهم في السجون، وعن خطاب القسم عام 2000 الذي وعد فيه بشار الشعب السوري بالتحديث والإصلاح، وتفاءل بعضهم به، إلى درجة أنهم اعتقدوا أن مرحلة الديمقراطية والحرية ستعم سورية، ثم خاب ظن الناس. وكشفت المقالتان عن الفساد والقمع في عهدي الأسد الأب والابن، وكذلك الظروف الطبيعية القاسية التي اجتاحت سورية في السنوات 1996 - 2004، وأدت إلى الجفاف ونزوح مئات الألوف من القرية إلى المدينة، وتحوّل ملايين السوريين فقراء. وتطرقت المقالتان إلى إجبار بشار الأسد على رحيل القوات السورية من لبنان عام 2005. وتناولتا، في عرض صحيح وموضوعي، قيام الثورة السورية، وأسبابها الحقيقية، وأوردتا واقعة قتل الطفل الشهيد حمزة الخطيب في درعا، وكيف أعادته المخابرات السورية إلى أهله بعد التمثيل بجثته، ووحشية الأجهزة الأمنية والجيش النظامي ضد المدنيين، ما استدعى تأسيس الجيش السوري الحر. واعترفت المقالتان بوجود قوى مسلحة معتدلة قاومت النظام، وقوى إسلامية متطرفة ادّعت أنها تقاوم النظام، لكنها في الحقيقة كانت تعمل لأجندتها الخاصة التي لا تتفق مع أهداف الشعب السوري.
تصريحات وتقديرات
تتابعت مقالات وتصريحات روسية عن الأسد تصب في المنظور أعلاه:
صرحت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز" البريطانية في 13/4/2018: "قبل نزع السلاح الكيميائي من سورية، كان بشار الأسد الصديق الأفضل ليس لموسكو، لكن لواشنطن ولندن".. وأن "وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، كان، إبان عضويته في مجلس الشيوخ، على علاقة ودية مع الأسد الذي قضى معظم حياته في بريطانيا،.. إنه رجلكم أكثر مما هو رجلنا".
وقال رئيس تحرير صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا، كونستانتين ريمتشكوف، في 4/3/2018: "روسيا تحمي بشار الذي يستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، وهي التي استخدمت هذا السلاح في بريطانيا (في إشارة إلى عملية تسميم الجاسوس الروسي، سيرغي سكريبال). ولذلك أعتقد أننا أمام لعبة دولية جيوسياسية كبيرة. يمكن لروسيا أن تسلك فيها طرقا مختلفة. يعتقد ترامب أن موسكو يمكن أن تتخلى عن إيران. ستقول إسرائيل تريد أن تصفعها وأميركا أيضا. ولكن، ماذا يمكن أن نطلب في المقابل؟ بقاء الأسد؟ هذا هو الغباء بعينه، فالأسد ليس عمنا ولا خالنا، لكي نتحمّل كل هذه العقوبات الغربية، بسبب دعم نظامه".
ويقول خبراء روس إن هناك في موسكو من يبحث بجدية عن بدائل وعن سبل للخروج من المأزق الذي وصلت إليه روسيا، المتورطة في المستنقع السوري. ويرى مستشرقون أن بشار الأسد لم يعد قادراً على لمّ شمل السوريين، وأنه جزء من المشكلة وليس من الحل. وأصبحت نخبة من الخبراء والسياسيين والعسكريين يفكرون جدياً في البحث عن مخرج، وعن بديلٍ للأسد، مع خشية بعضهم من سحب بشار الأسد من اللعبة، وانهيار المنظومة السياسية بكاملها. ويذهب باحثون إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دافع بقوة عن بشار الأسد، ليس حبا لشخصه، بل لاستخدام الورقة السورية، لكن بوتين ذهب بعيدا في دعم الأسد، إلى درجة أنه لم يعد هناك خط رجعة، وكأنه أصبح رهينةً للأسد.
يقول الباحث الروسي، نيكولاي كوجانوف، عن مستجدات الموقف الروسي: "الآن، تغيرت المعطيات، وتمت إعادة بشار إلى منصبه. ومن حينها، أخذ زمام المبادرة. في الواقع، جرّنا السوريون إلى الغوطة الشرقية على مضضٍ منا. ونحن الآن في طريق مسدود".
ويكتب الباحث العسكري الروسي، كيريل سيميونوف، مقالتين، "من يحكم سورية؟" و"الجيش السوري تحول مليشيات". ويفصل بالتعريف بكل فرد في عائلة الأسد وأقربائهم وأهم الشخصيات العسكرية والأمنية والسياسية الموالية والمحيطة بهم. ويعرض بموضوعية وصدق الوضع في سورية، ومن ذلك أن عائلة الأسد هي التي تحكم سورية، وتساعدها في ذلك شريحة من الضباط العلويين، وأنه ما دامت هناك سلطة إدارية لدى عائلة الأسد، لا يمكن إجراء إصلاحات حقيقية في سورية. ويكتب سيميونوف: زال الآن الخطر الأساسي عن النظام، بفضل تدخّل روسيا وإيران، فلولاه لسقط النظام بيد المعارضة. ويتابع: عندما نقول إن النظام كسب الحرب يجب أن ندرك أنه لم يكسب السلام. فكل المشكلات التي أدت إلى الحالة الثورية في سورية تعمقت أكثر خلال الحرب، أي أن أسباب الثورة ما زالت قائمة، بل تعمقت أكثر نتيجة التدمير والتهجير القسري والتهجير إلى خارج سورية، ونتيجة تفتيت المجتمع. ويلاحظ الخبير أن مستوى الفساد ارتفع بدرجات غير مسبوقة، وأن الأموال تجمعت في أيدي فئةٍ محدودة، خصوصا من الشبيحة. ويستنتج الكاتب: إن لم تجر إصلاحات عميقة تمسّ أسس النظام السياسي، ستكون الظروف متاحة لمزيد من التصعيد والتوتر. ولذلك، من الأفضل تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وتشكيل هيئة حكم انتقالية. ويرى أن من الأفضل تحويل البلاد إلى نظام برلماني لتقييد سلطة الرئيس. ويجب إشراك المعارضة السياسية والمسلحة في عملية التغيير، وإلا من الصعب المضي نحو الأمام في سورية. وكانت مقالة سابقة للخبير سيميونوف تناولت الوضع الذي آل إليه الجيش السوري النظامي، واستنتجت أنه تحول إلى مليشيات.
خاتمة
بالاطلاع على محتويات المقالات المذكورة، الشاملة والموسعة والمعمقة، أرى أنها لم تنشر مصادفة، بل هناك ضوء أخضر من جهات روسية للكتابة في هذه المواضيع الحساسة التي تفضح النظام الأسدي الذي حظي وما زال برعاية ودعم منقطعي النظير من القيادة الروسية.
وأذكر هنا حديثاً مع خبير روسي في بدايات الثورة، قال لي: لو أن المعارضة تعاونت معروسيا فإن الأخيرة ستلبي مطالبها، فقلت له كيف ذلك والخطاب الرسمي الروسي متعصب لنظام الأسد، إلى درجة يمكن وصفه بأنه ملكي أكثر من الملك. رد علي: لا تأبه للتصريحات، فعند حدوث تغيير في المواقف سيتغير الخطاب في أربع وعشرين ساعة. هكذا هي السياسة... لكن الخطاب والمواقف الروسيان ما زالا منحازين لنظام الأسد الذي فقد كل سلطته وقراره السياسي.
وقد حدثت متغيرات مهمة أخيرا بدأت في قصف قاعدة حميميم الروسية في سورية من طائرات بلا طيار، وقتل الأميركيين مئات الجنود الروس في دير الزور، مرتزقة من شركة أمنية خاصة (فاغنر) يملكها مقرب جداً من الرئيس بوتين، ويملك شركة نفطية كانت تعمل في سورية قبل الثورة وما زالت.
يضاف إلى تلك المتغيرات استخدام النظام وإيران السلاح الكيميائي في مدينة دوما، والتي دفعت أميركا وبريطانيا وفرنسا إلى توجيه ضرباتٍ على مواقع عسكرية للنظام، وكذلك قيام إسرائيل بعدد من الغارات على مواقع فيها تجمع للقوات الإيرانية، وذلك كله يربك الروس. وجاءت العقوبات الغربية الهائلة على الشركات النفطية والعسكرية الروسية، وعلى أغلب رجال الأعمال الروس المقربين من الرئيس بوتين، وكذلك كل وزراء روسيا، والتي تسببت في خساراتٍ تقدر بعشرات مليارات الدولارات. وهناك تدهور سعر العملة الروسية (الروبل) وانعكاس ذلك على الأسعار وغلاء المعيشة.
وتظهر في هذه الأيام مبادرات وعروض مختلفة على القيادة الروسية لإنقاذ ماء الوجه، وإنهاء حالة الحرب في سورية، يتلخص جوهرها في ضرورة تعديل روسيا موقفها في سورية، لكي تضمن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية، فإعادة الإعمار التي تقلق الروس لا يمكن تأمين تمويل لها إلا إذا جرى حل سياسي. وروسيا أمام تحدٍّ كبير، فهي تريد أن تحقق أرباحاً، وتعوّض الخسائر التي لحقت بها نتيجة التدخل العسكري في سورية، وتريد جني ثمار ذلك التدخل، بعد أن أعلن الرئيس بوتين، في قاعدة حميميم نهاية العام الماضي، أنه تم القضاء على الإرهاب، وأن الظروف أصبحت مهيأة للبدء بعملية سياسية.
منذ عودته من واشنطن وقبل توجهه إلى أستراليا، لم ينقطع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الاتصالات الهاتفية مع الرئيسين الإيراني والروسي ومع رئيس الحكومة الإسرائيلي في شأن تعديل الاتفاق النووي الإيراني. لقد أثار الموضوع مطولاً خلال لقائه دونالد ترامب في البيت الابيض لإقناعه بإبقاء الاتفاق وإضافة أربعة عناصر عليه تطمئن الرئيس ترامب ومنها سياسة إيران في المنطقة.
والمجتمع الدولي غريب في تقلباته. عندما بدأت الدول السبع تفاوض إيران في شأن الملف النووي، كانت تردد باستمرار أنه ملف منفصل كلياً عن سياسة إيران في المنطقة في حين أنها اليوم تريد أن يتضمن التعديل هذا العنصر. وقال الرئيس الإيراني علناً أنه يرفض تعديل الاتفاق. لكن المكالمة بينه وبين الرئيس الفرنسي كانت طويلة ومفصلة وهذا يعني أن الرفض علني، ولكن في الواقع ما يحصل بين الرئيسين هو اخذ ورد في ما يمكن تعديله. بيد أن روحاني ليس الحرس الثوري وهو غير نافذ في ما يتعلق بسياسة إيران في المنطقة لا في اليمن ولا في سورية ولا في العراق ولا في لبنان. وإقناع إيران بالكف عن التدخل في كل هذه الدول مهمة مستحيلة لانها حتى اليوم تُرِكت تتدخل اينما كان دون التصدي لها.
فالكل يعرف ان ايران اصبحت تتغلغل على الارض السورية ليس فقط عبر قوات «حزب الله» بل ايضا عبر مواطنين ايرانيين ارسلتهم ليكونوا سكانا جددا في المدن التي افرغها النظام السوري. عندما بدأت الدول تفاوض ايران حول الملف النووي في ٢٠١٣ لم تكن روسيا قد دخلت الى سورية بعد ولكن كانت ايران عبر حزب الله تتوسع هناك وكانت تهيمن في العراق بفضل سياسة أوباما الذي أسرع في إخراج القوات الأميركية من العراق مسلماً الوضع لنوري المالكي الذي اتاح توسع النفوذ الايراني في البلد. واليوم يريد ترامب الخروج من سورية مثلما حصل مع اوباما في العراق ولكن ماكرون أوصاه بتأجيل ذلك خوفاً من توسع إيران في سورية. وعاجلاً أو آجلاً سيخرج ترامب قواته من سورية وقد تحل إيران مكانها بفضل النظام السوري الذي لا يمكنه استعادة المدن التي خسرها من دون قوات الوصاية الايرانية والروسية التي لن تخرج من هذا البلد.
فتعديل الاتفاق النووي الإيراني كما يتمناه ماكرون ليحتوي سياسة ايران في المنطقة لا يمكن أن يتم لأن الجانب الإيراني العسكري لن يسلم هذه الورقة لروحاني. فالحرس الثوري يمسك بزمام النفوذ في المنطقة حيث يضاعف الازمات فيها والتدخلات التي تثير غضب المدنيين الايرانيين الذين يثيرون لكون اقتصاد بلدهم في الحضيض وايران توزع الاموال على حزب الله وعلى حرب سورية ليس للمواطنين مصلحة فيها.
ان مسعى ماكرون والاوروبيين لتعديل الاتفاق النووي مع ايران لا يمكن ان يعطي اي نتيجة على صعيد تغيير نهج ايران في التدخلات في سورية واليمن والعراق ولبنان. وتزويد إيران الحوثيين و «حزب الله» وقوات النظام السوري بالصواريخ الباليستية والأسلحة المتطورة لن يجلب إلا المزيد من الحروب والكوارث في المنطقة. والاتفاق النووي الإيراني لم يحل هذه المسألة. فإذا تم سحبه أو بقاؤه لم يغير في زعزعة استقرار المنطقة. فإسرائيل تضاعف ضرباتها في سورية في أماكن وجود الأسلحة الإيرانية كما أنها تضع الوضع في لبنان على شفير الهاوية لان خطورة مواجهة الدولة العبرية و «حزب الله» قائمة باستمرار. والدول الأوروبية كما بعض الدول العربية تعول على تأثير روسيا على إيران لإقناعها بالكف عن التدخل في سورية واليمن ولكن روسيا بوتين تريد ثمنا باهظا للقيام بذلك إن تمكنت. ولدى الجمهورية الإيرانية الإسلامية كما امبراطورية الشاه طموح هيمنة يتنافس مع هيمنة روسيا في المنطقة. فالأسابيع المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة إلى الموقف الأميركي من الملف النووي، كان ترامب يقول إنه سيمزقه ولكن بعد زيارة ماكرون ومركل أصبح ووزير خارجيته الجديد بومبيو يتحدث عن تعديله. والأكيد أن الضغط على إيران سيشتد.
يتمتع قرار إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة بنفس القدر من الأهمية سواء بالنسبة لمستقبل تركيا أو على صعيد مستقبل الأزمة السورية.
تنبع الأهمية الكبرى للانتخابات المبكرة من كونها ستضع النظام الرئاسي موضع التنفيذ في وقت مبكر أكثر مما كان مقررًا.
وعند وضع وجهات نظر الأطراف المتصارعة في الأزمة السورية يتضح أيضًا مدى الأهمية الكبيرة للقرار.
وجهة نظر الحكومة التركية الحالية والمرشح الذي سيمثلها في الانتخابات الرئاسية رجب طيب أردوغان، معروفة على صعيد الأزمة السورية.
عن طريق هذه الحكومة تؤكد تركيا أن نظام الأسد فقد مشروعيته، وتعارض بشدة أن يلعب رأس النظام دورًا في مستقبل سوريا. كما أنها تعتبر حماية اللاجئين السوريين من بطش النظام واجبًا إنسانيًّا على عاتقها.
***
وفي الحقيقة فإن هذا المبدأ كان مشتركًا بين "أصدقاء سوريا"، ومنهم الولايات المتحدة، مع اندلاع شرارة الأحداث في سوريا.
لكن مع الأسف، لم يبقَ دولة واحدة تتبنى هذا المبدأ باستثناء تركيا.
بعد أن رأى العالم الغربي أن السوريين المتدينين والمحافظين سيفوزون في حال إجراء انتخابات نزيهة في البلاد، فضّل الأسد على الإرادة الوطنية للسوريين، وقدم دعمه بشكل علني أو مستور لتصل الأزمة السورية لما هي عليه اليوم.
لم تتخلَّ تركيا عن هذا المبدأ بفضل حكومة حزب العدالة والتنمية، وفتحت ذراعيها لاستقبال اللاجئين السوريين.
***
ولهذا فإن الناخب التركي سيقترع في 24 يونيو/ حزيران من أجل مستقبل بلاده ومستقبل الملف السوري في الوقت ذاته.
لأن مرشح "تحالف الشعب" أردوغان سوف يواصل السياسة نفسها، وسيدافع عن وحدة الأراضي السورية، وعن الإرادة الوطنية فيها.
أما المعارضة التركية فهي في الجانب المعاكس تمامًا..
للأسف، تتخذ أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، موقفًا يؤكد على مشروعية الأسد، وعلى ضرورة وضع اللاجئين السوريين تحت رحمته.
***
ولذلك فإن فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية يعني انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي، ومواصلة السياسة المتبعة بخصوص الأزمة السورية في الوقت نفسه.
أما فوز المعارضة، فيعني التخلي عن النظام الرئاسي وإدخال البلاد في أزمة سياسية من جهة، والتوجه لإجراء مباحثات مع نظام الأسد في الملف السوري ووضع اللاجئين السوريين تحت رحمة الأسد، وعودة الإرهاب إلى المناطق المحررة في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وتجاهل مشكلة الأمن القومي التركي من جهة أخرى.
وهذا يعني أيضًا بدء تنفيذ سيناريوهات قذرة بالنسبة للمنطقة.
هل ستبقى سورية بحدودها وشعبها كما كانت؟ سؤال مشروع طُرح، ويطرح، باستمرار من قبل السوريين وغيرهم، وذلك في ضوء المتغيّرات والتعقيدات التي تُجرى وتتراكم تباعاً في الساحة السورية، هذه الساحة التي باتت ميداناً لتحرّك القوى الإقليمية والدولية بصور مكشوفة بعد إزاحة الفصائل العسكرية بتوجهاتها ومشاريعها المختلفة عن المشهد، لتصبح كتلة رديفة تعمل تحت إمرة القوى المشار إليها، وذلك بحسب الولاءات التي لم تعد خافية على أحد.
وهذا فحواه أننا بدأنا نقترب من مرحلة تثبيت أحجار حدود مناطق النفوذ التي ستكون على الأغلب مشاريع لتقسيم غير رسمي لسورية بين كيانات، أو أقاليم، عدة، باتت ملامحها شبه واضحة سواء في الجنوب، أم في القسم الغربي، أم الشمالي الغربي، وأخيراً في الشمال الشرقي.
ويبدو أن التوافقات قد تمت على الإطار العام لخطة ما زالت في حكم المجهول بالنسبة إلى السوريين. غير أن متابعة التطورات والتصريحات والتموضعات، توحي بوجود صيغة من صيغ التفاهم والتكامل بين مختلف الأطراف. فما جرى في الغوطة الشرقية، وما يجري راهناً في القلمون وجنوب دمشق، ليس بعيداً كما جرى في منطقة عفرين، وربما عما سيجري في ادلب وريف كل من حماة وحلب.
كما أن الترتيبات التي تجري في منطقة شرق الفرات، والتصريحات الأميركية المتلاحقة المتباينة بخصوص الانسحاب والتريث، والحديث عن إدخال قوات عربية إلى المنطقة الشرقية، والصمت المتفق عليه حول المنطقة الجنوبية الي لا يمكن ترتيب أمورها بمعزل عن تفاهم أميركي- روسي- إسرائيلي- أردني.
هذا إلى جانب بعض التصريحات الروسية ذات العلاقة باحتمالية تقسيم سورية التي تطفو على السطح من حين إلى آخر، وربما أهمها التصريح الأخير لنائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.
وتجدر الإشارة أيضاً في هذا السياق إلى بعض التصريحات التي صدرت عن دي ميستورا في مناسبات عدة، وهي تصريحات أعطت انطباعاً بأن خيار التقسيم ليس مستبعداً، لا سيما في ظل أجواء عدم وجود إرادة دولية حقيقية لمعالجة الموضوع السوري بصورة واقعية ممكنة، بل ما نراه هو ما يتمثّل في تعددية المسارات التي من الواضح أنها تنسجم أكثر مع احتمالية التقسيم بين كيانات نفوذ، تعمل كل جهة على تحسين مواقعها ضمن الكيان الذي ستشرف عليه.
وعلى الأكثر لن تكون هناك مشكلات كبرى في منطقتي الشمال الغربي والجنوب، وذلك على عكس المنطقة الأوسع في القسم الغربي من سورية التي سيتقاسمها النظام مع كل من روسيا وإيران. فالنظام، الذي يعرف تماماً أنه استمر بفعل الدعم المستمر من جانب حليفيه اللدودين، يدرك جيداً أن القرار السيادي لم يعد في متناوله، وأنه قد بات الواجهة التي تغطي الحسابات الروسية والإيرانية. ولن يكون من السهل بالنسبة إلى هذا النظام أن يوفّق بين المتطلبات الروسية والإيرانية، لذلك فمن المتوقع أن تكون هناك تصدعات بين أجنحته المختلفة بمجرد انتهاء العمليات العسكرية القيصرية، وذلك تبعاً للولاءات والأولويات.
أما بالنسبة إلى كل من روسيا وإيران، فلكل طرف أهدافه، التي قد تتقاطع حيناً بصورة مرحلية، ولكنها على المدى البعيد متفارقة. فروسيا تريد عبر سورية حضوراً قوياً في الشرق الأوسط. وهي تدرك جيداً أن حضوراً كهذا لا يمكن أن يستند إلى العلاقة الوطيدة مع إيران وحدها، بل لا بد من بناء العلاقات مع القوى الإقليمية الأخرى، مثل تركيا وإسرائيل والسعودية ومصر، الأمر الذي سيتعارض عاجلاً أم آجلاً مع المشروع الإيراني. أما عن آفاق هذا التعارض، ومآلاته المرتقبة، وإمكانية احتوائه، فكل ذلك يتوقف على نتائج طبيعة وحدود الدور الأميركي، الغربي، في سورية والإقليم عموماً.
أما المنطقة الشرقية، أو الشمالية الشرقية، الخاضعة للنفوذ الأميركي بالتنسيق مع قوات سورية الديموقراطية، التي تشكل قوات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، فهي الأخرى لم تتبلور ملامحها النهائية بعد. ولكن الذي يُستشف من السياسات والتصريحات الأميركية هو أنها لن تكون منطقة لمشروع «دولة كردية» كما يُروج هنا وهناك لكسب نقاط سياسية من جانب هذه القوة أو تلك، أو حتى الحصول على المزيد من التأييد على صعيد السياسة الداخلية. فالمنطقة في الأساس مختلطة، وقد تراجع فيها الوجود الكردي نتيجة الهجرة الواسعة، وهذا معناه أن أي مشروع أميركي في المنطقة سيعتمد على صيغة من العلاقة الإدارية بين المناطق الكردية في شمال الجزيرة السورية وصولاً إلى كوباني/ عين العرب، والعربية السنية جنوباً، الأمر الذي ربما يطمئن تركيا، ويبعد منها هاجس الانفصال الكردي، وربما هذا ما يفسر المطالبة الأميركية بقدوم قوات عربية إلى المنطقة لتتولى مسؤولية الإشراف عليها، والدفاع عنها. وقد تُعتمد صيغة مشابهة في العراق أيضاً على صعيد العلاقة بين الكرد والعرب السنة، وذلك في إطار عملية إعادة هيكلة شاملة للمنطقة على صعيد الكيانات والعلاقات في ما بينها، والمعادلات التوازنية، وضبط عملية ترسيم الحدود الجديدة، وقواعد التعامل.
ونحن لا نذيع سراً إذا قلنا إن محنة السنوات السبع التي عاشها السوريون في مختلف المناطق قد أضعفت النزعة الوطنية لدى أوساط واسعة منهم، لا سيما أولئك الذين تعرضوا لبطش النظام ومجازره، وقصفه إياهم بكل أنواع الأسلحة، وارتكابه كل الجرائم بحقهم. فهؤلاء إذا ما خُيروا بين البقاء في ظل حكم بشار الأسد بعد كل الذي حصل، وبين التبعية لهذه الجهة الأجنبية أو تلك مقابل ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الأمني، فالغالبية الغالبة ستفضل، ومن دون أي تردد، الخروج من دائرة نفوذ آل الأسد.
وما يرجّح كفة هكذا خيارات صعبة هو عدم وجود قوة وطنية منظمة متماسكة، تطرح برنامجاً مطمئناً لجميع السوريين، وتمتلك شعبية واضحة مؤثرة في مختلف المناطق السورية، ومن جانب سائر المكوّنات المجتمعية السورية.
وعلى رغم جهود كثيرة بذلت، وتبذل، هنا وهناك لإيجاد هكذا قوة، فإنه لم يتم التوصل بعد إلى المطلوب حتى الآن لاعتبارات عدة، منها نخبوية تلك الجهود، أو اقتصارها على وسط معين، أو عدم قدرة أصحابها على القطع مع المنظومة المفهومية التي رسختها في أذهانهم سلطة الاستبداد على مدى عقود. فما زال الكثير ممن يعلنون انحيازهم للمشروع الوطني السوري، ودعوتهم إليه، يصرّون على المفاهيم الماضوية من قومية أو دينية، ويكتفون بالمجاملات الخاوية في سياق تعاملهم مع قضايا جادة، تستوجب رؤية واضحة، وممارسات ملموسة تعزز الثقة.
إن غياب البديل الوطني المقنع، يزيد في حظوظ بقاء بشار الأسد كواجهة للتغطية على كل ما يخطط لسورية. وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال من دون أي اختراق فاعل، فليس من المستبعد أن نكون بعد حين أمام «أجنة» تكون مستقبلاً مشاريع سوريات عدة بنكهات الدول المعنية.