أن تعلن روسيا، التي باتت تملك اليد العليا في سورية، أنها لا تضمن بقاء البلد موحداً، فهذا يثير إشارات استفهام كثيرة عن حقيقة الأوضاع وتطوراتها في سورية، بخاصة أن التحذير الروسي الذي ورد على لسان نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، جاء بعد الضربة الثلاثية ضد نظام الأسد مباشرة. فهل يعني ذلك أن روسيا بدأت تقرأ التطورات في سورية من زاوية تجربتها الأفغانية؟ وهل رأت في التحالف الثلاثي، الأميركي- الفرنسي- البريطاني، مقدمة ونواة لتحالف أعرض سيضع روسيا في عين الإستهداف، وبالتالي فمن الأفضل إشهار ورقة التقسيم في وجه الجميع وإرباكهم.
وتعمل روسيا، في سورية، وفق صيغتي، التقاسم والتقسيم، فمن جهة تقاسمت مع إيران وتركيا مناطق النفوذ في عملية واضحة لا لبس فيها، بحيث توزعت الجغرافية السورية حسب حاجة البلدان الثلاثة، بما يراعي المشاريع الجيوسياسية لكل منها، فالغرب السوري مصلحة روسية نظراً لوجود الموانئ المتوسطية، والوسط من حصة إيران التي ترغب في توسيع هامش مساحة حلفائها شرق لبنان والسيطرة على المقامات في دمشق وجنوبها، والشمال لتركيا لحماية أكرادها من عدوى التمرد القادم من الجنوب.
غير أن من شأن المراقب ملاحظة أن روسيا لم تضف شحطة قلم على الخريطة «الخطة»، التي أطلق عليها الإستراتيجيون، تسمية «الدولة العلوية»، وفي تسمية أخرى «سورية المفيدة» وهو المشروع الاحتياطي لنظام الأسد وحليفته إيران، في لحظات الضعف التي مروا بها، واقتربوا من تطبيقه، وحتى الإعلان عنه بشكل صريح، يوم أعلن بشار الأسد أن قواته مضطرة للتخلي عن مناطق بعيدة ونائية لحماية مناطق ذات أهمية أكبر، كان ذلك قبل أن يطير قاسم سليماني لطلب نجدة بوتين، وقبل أن يتسلّل هذا الأخير بأسلوب قرصاني على السفينة السورية المترنحة. وبناء على هذه التطورات، خرجت إيران من وضعيتها القلقة والتراجعية في سورية، إلى وضع مريح، تستطيع من خلاله استدراك إضافة تفاصيل جديدة ليتحول تدخلها لاستقطاع جغرافية محدّدة من سورية، إلى مشروع جيوسياسي يهدف إلى السيطرة على الطرق البرية، في العراق وسورية، وتسعى للسيطرة على البادية الشامية حتى البوكمال، معبر طريقها من العراق، بديلاً عن التنف الذي سيطرت عليه القوات الأميركية.
اليوم، وبعد الغارة الثلاثية، تعود روسيا إلى الاستئناس بخطتها الأثيرة، القائمة على إجتزاء مساحات معينة من سورية، على قاعدة» ليس في الإمكان أفضل مما كان» واضعة مسؤولية هذا الامر على الأخرين، والظهور بمظهر من أراد الحفاظ على وحدة سورية لكن الحلف الأخر كانت له كلمة مختلفة، وبالطبع بتلميحها بقضية التقسيم تحاول روسيا إبتزاز الغرب، وخلق إنقسامات في تحالفه، على إعتبار أن تقسيم سورية سيشكل التطبيق الحرفي لنظرية» إنهيار قطع الدمينو»، وسيتحوّل التقسيم في سورية إلى دينامية تفكيكية تشتغل على مساحة الشرق الأوسط كله، ولا أحد من داخل المنطقة أو خارجها له في مصلحة في هذا الوضع.
شكّلت فكرة تقسيم سورية، خطة بديلة يضعها الروس والإيرانيون في جيوبهم، بعد أن يحجزوا لأنفسهم مواقع تتطابق مع مشاريعهم، وكما أدارت روسيا لعبة تقاسم النفوذ مع حلفائها وأصدقائها وخصومها في سورية، فليس لديها إشكالية في التكيّف مع واقع تقسيمي مع ثلاثة أو أربعة أطراف، غير أن أي سورية من السوريات الجديدة، لا تلك التي في السواحل أو البوادي أو المناطق الحدودية، ستكون قابلة للحياة، ذلك أن جغرافية الأقاليم السورية مصممة وفق «سايكس بيكو» على منطق الاعتمادية المتبادلة، وهي الصيغة التي لم يبتدع أحد أكثر منها ملاءمةً وقابلية للحياة.
شكلت الضربة الإسرائيلية لأكبر مطار عسكري (تي فور) بريف حمص وسط سوريا، والتي أدت إلى مقتل 14 شخصا بينهم سبعة عسكريين إيرانيين، علامة فارقة في التوازن المحسوب بين إيران وإسرائيل في سوريا.
وجاءت الضربة التي شنها الطيران الإسرائيلي ضد قوات إيرانية في سوريا؛ بعد مجزرة كيماوي الغوطة التي ارتكبتها قوات النظام السوري بالتعاون مع إيران وروسيا، لتفتح تساؤلات حول إمكانية انجرار إيران وإسرائيل لتصعيد غير محسوب يؤدي لوقوع مواجهة بين الطرفين؟!
فقد أكد وزيران في إسرائيل على مواصلة "التحرك" ضد التواجد الإيراني في سوريا. وكرر وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان القول إن "التمركز العسكري لإيران في سوريا يشكل تهديدا لأمن إسرائيل"، فيما قال وزير التعليم ورئيس حزب البيت اليهودي، المتطرف نفتالي بينيت: "لا يمكن أن تصبح حدودنا الشمالية باحة مفتوحة لـ[الرئيس السوري] بشار الأسد".
ولا تزال تل أبيب تتحسب من إمكانية استهداف إيراني أو سوري لأراضيها، ردا على الضربات العسكرية الغربية الأخيرة، أو انتقاما لقصف قاعدة "تي فور" الجوية، خصوصا وأن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، توعد بأن الضربة "لن تبقى من دون رد".
الدو الروسي.. توازن دقيق
وتؤكد تقارير إسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي يستعد لإمكانية ردّ انتقامي إيراني، وأنه يتحسب لجميع السيناريوهات سواء جوا بطائرات من دون طيّار، أم بقصف صاروخي ينفذ من الأراضي السورية.
وما لا شك فيه أن الضربة الإسرائيلية التي استبقت القصف الأمريكي والبريطاني والفرنسي، كانت تهدف إلى فرض إسرائيل لنفسها كطرف مسيطر على الحدود مع سوريا، ومنع كل ما من شأنه تمادي الدور الإيراني واقترابه من الحدود، بما يمثله ذلك من تهديد جديد للدولة الصهيونية. وفي سبيل ذلك، تجازف حكومة بنيامين نتنياهو باستفزاز إيران للتلويح لها بإمكانية نشوب معركة شاملة مع النظام الإيراني الذي يشكل برنامجه النووي مصدر تهديد محتمل للعدو؛ الذي هو غير راض عن توقيع اتفاق نووي غربي مع طهران لمنعها من تشكيل تهديد لإسرائيل، خصوصا مع سيطرة إيران على أجزاء حدودية قريبة من إسرائيل.
وفي هذا السياق، تلعب موسكو دورا مهما في لجم التصعيد المحتمل بين القوتين، وذلك ضمن تفاهم مع واشنطن لمنع انجرار المنطقة لتصعيد شامل قد يصعب السيطرة عليه إن تطور. ولا شك أن طهران ضبطت نفسها لإنجاز مهمتها بالسيطرة على سوريا ودعم النظام السوري، باعتباره الضمانة الوحيدة لتواجد إيران في المنطقة وحماية نفوذها الشيعي الطائفي فيها، وعلى الأخص قوة حزب الله في المواجهة المحتملة بلبنان، وضمان استمرار التواصل الجغرافي من طهران إلى سوريا عبر العراق، وصولا إلى لبنان والشاطئ السوري.
ولكن استمرار تحرش العدو بإيران قد يدفعها للرد، ما قد يثير سلسلة من الأفعال وردود الفعل، ويحرج الدور الروسي الذي تكفل بالحفاظ على التوازن الهش بين إيران وإسرائيل.
ولا ننسى أن كل طرف معني بتحقيق إنجاز في الساحة قد يتعثر معه الدور الروسي، ولكن أغلب الظن أن التوازن المحسوب سيبقى قائما بالجهد الروسي على الأقل.
موقف أمريكي منحاز
وفي المقابل، هناك انحياز أمريكي لإسرائيل جعل ترامب يحاول إقناع حلفائه الغربيين بأن الاتفاق النووي الذي أبرم مع طهران في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما غير كاف لمحاصرة إيران ومنعها من محاولة إنجاز اختراق في تحقيق تقدم بإنتاج قنبلة نووية تشكل رادعا لإسرائيل في المستقبل، وبما يضر بالتفوق الإسرائيلي نوويا في المنطقة.
وتستفيد إسرائيل من هذا الموقف بالحفاظ على غموضها النووي، وبإبقائها متفوقة على جيرانها في الإطار النووي، فضلا عن الأسلحة التقليدية. كما تستفيد إسرائيل من الإطار السياسي من خلال الانحياز الأمريكي لها ضد إيران، الأمر الذي يجعلها مرتاحة نسبيا في التصدي للوجود الإيراني في سوريا...
غير أن هذا الموقف قد يغري إسرائيل بمغامرات (مثل مغامرة التي فور)، ويضعف بالتالي الموقف الروسي ويدفعه لإعادة حساباته بتزويد سوريا أو إيران بمنظومة "أس-300" للصواريخ، والتي كان يؤجل تزويد إيران بها حتى ما قبل ضربة التي فور.
توازن محسوب
وتبقى روسيا هي التي تتحمل العبء الأكبر في توازن الأوضاع في سوريا، في ظل انسحاب أمريكي وعدم وجود إجماع عربي الذي يتجه بجله نحو التحذير من خطر إيران، ويقدمه على خطر إسرائيل التي تشكل أصل الشرور في المنطقة.
إن التوازن السياسي مع أمريكا يظل قائما في ظل سعي روسيا لإنهاء العقوبات الغربية عليها بسبب سياساتها في القرم، وسيحد هذا من أي توسع للدور الروسي ولجما له في سوريا تحت بند الحوار في جنيف بعد فشل حوارات سوتشي.
وستظل سوريا منطقة صراع دولي وإقليمي حتى مع انتهاء ظاهرة التنظيمات المسلحة، ولكن هناك شك في تطور الصراع بين طهران وتل أبيب إلى حرب، طالما أن حسابات كل طرف تصب في اتجاهات قد لا تتعارض مع بعضها البعض. ومن ذلك مناطق النفوذ والسيطرة في المنطقة.
على الرغم من محدوديتها، وبعدها عمَّا كان متوقعاً، وعلى الرغم من الإعلان المسبق عنها الذي أتاح للنظام وحلفائه الاستعداد التام لها، حققت الضربة الأميركية الأوروبية على مواقع للنظام في سورية بعض غاياتها، خصوصا فيما يتعلّق بموضوع الأسلحة الكيميائية. لكنها، من جهة أخرى، أعادت مجدداً وضع النقاط على الحروف، فيما يتعلق بالوضع الدولي وموازين القوى ومفاعيلها السياسية، ولعل هذا الجانب هو سببها الرئيس. ومن يهمهم الأمر، سيقرأون الرسالة التي هدفت إليها الضربة بإمعان، خصوصا الذين ذهبوا بعيداً في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وعشية الحدث السوري الأكثر عمقاً وتأثيراً في منطقتنا، وهم يضعون تصوراتهم الجديدة عن عالم اليوم، وعن الانتهاء من مرحلة القطب الواحد، وعودة الحرب الباردة، وأنَّ قطباً جديداً قيد التكوّن لن يترك للأميركان مجالاً للتفرُّد بقيادة العالم. وبالطبع، لا أعني بالذين ذهبوا بعيداً الصبية الصغار التابعين الذين يعيشون، ويعيِّشون شعوبهم على وهم الشعارات فقراً وتخلفاً وهزائم متلاحقة على غير صعيد، بل الروس والإيرانيين الذين يلعبون بتلك الشعارات التي دخلوا المنطقة على أجنحتها، لا ليساهموا في حلِّ مشكلات المنطقة، وينصروا قضاياها، بل ليزيدوا الطين بلة، فعلى هؤلاء وأولئك أن يفهموا عنوان الرسالة العريض الذي قالته الضربة، وهو بالضبط:
الكلمة الفصل، والفعل المؤثر في عصرنا المتقدم علماً وتكنولوجيا رفيعة، وبالتالي إنتاجاً متميزاً يحقق نمواً متزايداً للبشرية، هما لمن يمتلك في العمق مفردات ذلك التفوق، وزمام توجيهه، لا لمن يمتلك سلاحاً واحداً مخصّصاً للقتل والتدمير، مستغلاً ضعف الشعوب وفقرها. والفكرة معروفة للجميع، ولكن فشل مجلس الأمن أخيرا في التصويت على مشروع قرار قدمته روسيا إدانة للضربة إياها، فلم يحظ بأكثر من ثلاثة أصوات، يشير إلى عزلة روسيا الدولية اليوم، على عكس ما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي، وفي ذلك كثير مما على روسيا أن تفهمه من مواقفها السياسية والعسكرية، ولعلَّ صمتها تجاه هذا الحدث، وهي الغائصة عميقاً في وحل المقتلة السورية، واكتفاءها بالقول إنها سترُدُّ إذا ما ضُربت قواعدها، وأنها أبلغت النظام وساعدته في أخذ حذره، وإخفاء ما يجب إخفاؤه. وهذا يعني أنَّ الرسالة وصلت إلى الرئيس الروسي بوتين قبل الضربة، وفهمها على أنها ليست "لعبة جودو!". وكذلك جرى الأمر بالنسبة للإيرانيين الذين على الرغم من حجم تصريحاتهم، ظلوا مكتوفي الأيدي ومعقودي الألسن، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم بالمطلق، وهم المعنيون أكثر من غيرهم، لا بالشأن السوري فحسب، بل بالملف النووي الأكثر أهمية وتأثيراً عليهم.
فهم الكل الرسالة في بعدها السياسي، وتأكيدها حقائق قائمة على الأرض. ومع ذلك، ما قالته تلك الرسالة لا يلغي حق الجميع في اللعب، وكلٌّ ضمن حدوده وإمكاناته والبهلوانيات التي يتقنها. لكن الرسالة تعني، بالوضوح كلِّه، أنَّ روسيا التي استلمت الملف السوري، بموافقة الأميركان، ووفق تفاهمات دولية محددة، لم تكن أمينة له، إذ عبثت به ميلاً نحو مصالحها، وتجاهلاً للآخرين، ناهيكم بإبراز عضلات بوتين الرياضية، وبمنطقه المخابراتي، وإعلانه أنَّ هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة التي استمرت أربعين عاماً قد انتهت، وأن أفغانستان لن تتكرّر في سورية، لا بل إنه اليوم يسعى إلى التمدد باتجاه بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي قضم له أوروبا الشرقية، فتركيا الدولة التي تعادل تلك البلدان بعدد سكانها وتفوقها مساحة، وهي الصاعدة اقتصادياً، وعلى أسس ديمقراطية، ووجه مدني علماني، وهي لا تزال، في المخيال الغربي، الإمبراطورية العثمانية، قد تكون حليفاً مناسباً وقوياً لموسكو، وقد تشكل ثقلاً إذا ما انتقمت لنفسها من مواقف الغرب تجاهها في المسألة السورية ذاتها، وانضمت إلى محور بوتين! وربما يرى بوتين في التاريخ القريب نسبياً سنداً لمساعيه، إذ هُزِمَت التكنولوجيا المتفرِّدة أمام الكثرة الأقل تطوراً (الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا الأكثر تقدماً في ذلك الوقت).
قد لا يهم السوريين كلّ ما سبق في كثير أو قليل. لكن الضربة بحد ذاتها أشارت إلى أنَّ عدالة القضية السورية لا تزال قائمة، وأن الوقت قد حان لإنصاف الشعب السوري، والعمل الجدِّي لتخليصه من مآسيه، بمساهمة القوى الدولية الأكثر قدرة على الفعل، ولإعادة الوطن السوري إلى أهله وعودتهم إليه، وذلك بوضع المسألة السورية برمتها على مسارها الصحيح الذي كان، أي العودة إلى مسار المفاوضات السياسية، وفق معطيات جنيف1، وما تلاه من قرارات، فهل تنجح فرنسا التي يبدو أنها تعود إلى لعب دور في هذا المجال، وهي التي استعادت من بشار الأسد الوسام الذي كانت قد منحته إياه قبل أن يصبح قاتلاً وشريكاً في الجرائم المرتكبة بحق سورية والسوريين كلها، وهل تجد الدعم الدولي المناسب لمشروع قرارها المزمع تقديمه إلى مجلس الأمن في الأيام المقبلة؟ وهل تجد الدعم من شركائها في الضربة ذاتها لإعطاء الضربة معناها المطلوب، فهذا ما يطمح إليه السوريون؟
لا يمكن لأي متابع للأحداث في المنطقة العربية إلا أن يتأكد من أن دور حزب الله في تنفيذ الأجندة الإيرانية أساسي، وأن هذا الحزب يسعى جاهداً لزرع الفتنة وحصد ثمارها في سوريا ولبنان والعراق وحتى اليمن وبعض دول الخليج التي زرع خلايا إرهابية طائفية نائمة فيها، فأصبحت مهمتها تلقي الأوامر من إيران وتطبيقها على أرض الواقع واستخدام شباب عرب كمرتزقة لمشروع إرهابي إيراني يسعى منذ1979 لتدمير المجتمعات العربية والإسلامية ونشر الإرهاب وتمويله ودعمه لخدمة نظام ولاية الفقيه ومخططاته في التمدد داخل دولنا العربية لتحقيق حلم إعادة أمجاد إمبراطورية بائدة.
اليوم يبدأ الحديث عن رفض المشروع النووي بحدة أكبر خصوصاً من الجانب الأميركي، وبحسب المعلومات التي توفرت لدينا فإن الإدارة الأميركية لن تنجح في إلغاء الاتفاق في هذه المرحلة بل تعديله فقط لأنها تعتبره كارثياً وغير جدي أو فعال فهذا الاتفاق لم يلجم إيران بشكل حقيقي ولم يحد من قدراتها على تمويل الإرهاب ودعمه ولم يطالبها صراحة بوقف دعم التنظيمات الإرهابية كحزب الله والحوثي وحشد العراق الطائفي وبمتابعة أكثر دقة للأحداث نجد أنه بعد إبرام الاتفاق زادت حدة تدخلات إيران في المنطقة العربية وتحريض الميليشيات التابعة لها لتنفيذ عمليات إرهابية بشكل أكبر والتطاول على دول عربية وتحديداً السعودية وتهديد أمنها وشعبها وزوارها وقصفها بالصواريخ الباليستية بشكل مستمر في محاولة للضغط عليها وإشغالها عن دورها الأساسي في المنطقة وإعطاء إيران أوراقا أكثر للتفاوض ولكن دور السعودية في التصدي لهذا المشروع أصبح أكثر وضوحاً مع عاصفة الحزم التي قالت كلمتها بحد السيف ورفضت السماح لمشروع إيران بالتمدد في المنطقة وأوقفته على أرض اليمن وطردته من البحرين وحاصرته في العراق وتعمل على إنهائه في سوريا ولبنان.
قريباً سيكون لهذا الاتفاق النووي تعديلات أبرزها فرض قيود صارمة على برنامج إيران للصواريخ الباليستية ووقف دعم وتمويل تنظيمات إرهابية كحزب الله والحوثي والحشد وغيرها من التنظيمات الطائفية ووقف تدخلاتها في الحرب السورية وإرسال السلاح والمال للحوثي فهل سيستسلم خامنئي لشروط المجتمع الدولي كما فعل رئيس كوريا الشمالية أم أنه سيتعنت ويرفض ذلك فيلاقي مصيراً يشبه مصير الزعيم النازي أدولف هتلر؟
ستكون إيران قريباً في مواجهة مع المحيط العربي من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى بعد أن أصبحت مصدر قلق حقيقياً ينذر بإشعال المنطقة وتهديد أمنها واستقرارها وزيادة التوتر الطائفي بين مكونات المجتمعات العربية، والتي حولت إيران أطيافا منهم إلى مرتزقة لا يزيد سعر الفرد منهم عن600 دولار والقائد بحجم حسن نصرالله عن 1300 دولار أميركي، وعليه فإن الاصطفاف خلف القيادة السعودية في المرحلة القادمة ودعم خياراتها وقراراتها لمواجهة ولاية الفقيه ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح، ومن يرى في إيران "شريفة" سيكون في المقلب الآخر عدواً للعرب والمسلمين وخائناً لدماء شهداء الحد الجنوبي والمدافعين عن قبلة المسلمين وأرضهم وثرواتهم ومقدراتهم والأهم اليوم إلى جانب المواجهة العسكرية في اليمن أن نحصن الداخل العربي سياسياً وخصوصاً في لبنان الذي سيشهد انتخابات نيابية قريبة وستكون نتائجه كارثية في حال حصول حزب الله وحلفائه على أغلبية نيابية، وهذا ما يعملون عليه منذ أن أقروا قانون الانتخاب الجديد الذي جاء لمصلحة محور إيران في لبنان والذي يشكل تهديداً لهوية هذا البلد وأصبح من الضروري مواجهة حزب الله فيه ومواجهة من يتحالفون معه ومع حلفائه.
باختصار شديد، تعديل لا إلغاء للاتفاق النووي مع إيران حتى الساعة وبعد ذلك لكل حادث حديث ولكل خامنئي ترمب يحاسبه.
عندما لاحظ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن الضربة الثلاثية التي قادتها الولايات المتحدة على مواقع للنظام السوري الأسبوع الماضي أحدثت شرخا في العلاقات الروسية - التركية، كان يشير إلى تحولٍ يطرأ على الاصطفافات الإقليمية والدولية في المسألة السورية التي توشك على الانتقال من طور حرب الوكالة إلى طور المواجهة المباشرة بين أطراف الصراع الرئيسيين. لكن ماكرون فاته أن التأثير الأهم للضربة طاول العلاقات الروسية - الإسرائيلية أكثر مما طاول غيرها، فمنذ قرّرت روسيا زيادة وجودها العسكري في سورية صيف العام 2015، وصولاً إلى التدخل المباشر خريف العام نفسه، وجدت إسرائيل نقاط تفاهم مشتركة عديدة مع روسيا بشأن سورية. وبمقدار ما حد الوجود العسكري الروسي من حرية حركة الطيران الإسرائيلي فوق سورية، إلا أن إسرائيل وجدت أنه يفيد أيضا في الحد من حرية الحركة الإيرانية على الأرض. فوق ذلك، كانت إسرائيل تشارك روسيا موقفها في ضرورة الحفاظ على نظام الرئيس بشار الأسد، على اعتبار أن عدوا تعرفه خيرٌ من عدو لا تعرفه، وأن بديلا إسلاميا يمكن أن يكون أسوأ لها بكثير. وعليه، تم الاتفاق خلال زيارة نتنياهو موسكو في سبتمبر/ أيلول 2015 على إنشاء لجنة عسكرية مشتركة، لمنع أي احتكاك بين الطرفين في الأجواء السورية، ما يعني السماح للطيران الإسرائيلي بضرب أهداف داخل سورية، شريطة ألا تؤثر في نتيجة الصراع بين النظام والمعارضة، وتتجنب قوات النظام التي كانت روسيا تعيد بناءها وتأهيلها، بغية هزيمة المعارضة واستعادة السيطرة على الأراضي التي خسرتها. بمعنى آخر، الاقتصار على ضرب تحرّكات وأهداف لإيران وحزب الله تعمل خارج إطار الصراع البيني السوري. وكان نتنياهو حريصًا على هذا التفاهم، بدليل أنه زار موسكو أكثر من واشنطن منذ خريف 2015، صحبة وزير حربه، أفيغدور ليبرمان، الذي تعد اللغة الروسية لغته الأم.
انتهى هذا التفاهم الآن، أو في طريقه إلى الزوال، لماذا؟ تعتقد إسرائيل أن روسيا، وليس إيران أو النظام السوري، هي من أسقط طائرة إف 15 فوق الجليل، في رحلة العودة من استهداف مطار تي فور في العاشر من فبراير/ شباط الماضي، وأن ذلك كان ردا على سلسلة هجمات طاولت الوجود العسكري الروسي في سورية، كان آخرها إسقاط طائرة السوخوي فوق إدلب بصاروخ محمول على الكتف، تشك موسكو أن واشنطن وراءها. وكان إسقاط الطائرة الاسرائيلية بمثابة رسالةٍ أن روسيا ما عادت تسمح لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية. لذلك لم تنسق إسرائيل، خلاف العادة، مع قاعدة حميميم، عندما عاودت استهداف مصنع طائرات الدرونز الإيرانية في مطار تي فور في التاسع من إبريل/ نيسان الجاري، والذي أسفر عن مقتل الضابط الإيراني المسؤول عنه مع سبعة آخرين، بل استخدمت الطائرات الإسرائيلية ممرات جوية خاصة بالطيران الأميركي، منسقة في ذلك مع القيادة المركزية الأميركية، المسؤولة عن العمليات في سورية.
أثار هذا الأمر غضبا شديداً في موسكو التي تبرعت، خلاف عادتها، بالكشف عن تنفيذ إسرائيل الضربة. وكان لافتا أن إسرائيل نفذت ضربتها في اليوم نفسه الذي باشر فيه مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد، جون بولتون، مهامه في البيت الأبيض، في مؤشر على إدراك إسرائيل معنى أن تصبح إيران القضية الوحيدة التي ينشأ عليها إجماع في واشنطن اليوم بين الرئيس ومستشاريه لشؤون الأمن القومي والخارجية والدفاع والاستخبارات.
يعني هذا أيضًا أن حسابات إسرائيل، وقراءتها الوضع في سورية وسياسة واشنطن في المنطقة، بدأت تختلف مع اتضاح عزم إيران البقاء في سورية بعد تثبيت النظام، من خلال بناء قواعد عسكرية، وإنشاء مليشيات محلية على شاكلة حزب الله. كما أن تقديرات إسرائيل الأولية المرحبة بدخول روسيا إلى الميدان السوري تغيرت أيضا، إذ تبدو روسيا إما غير راغبة أو عاجزة عن لجم النفوذ الإيراني. لهذه الأسباب، يمكن القول إن الصراع في سورية مرشح للانتقال إلى مرحلة أعلى مع تحول موقف نتنياهو من موقف يحاكي موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مناحيم بيغن، عندما أُبلغ باندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، وقال إنه يتمنى التوفيق للطرفين (!)، إلى موقفٍ يسعى إلى تغيير الوضع على الأرض في سورية.
منذ أن أرسل الرئيس دونالد ترمب تلك التغريدة المصيرية عن هجوم يَلوح في الأفق على سوريا كعقوبة على استخدام الأسلحة الكيماوية من قِبَل نظام الأسد، والعالم يترقب الخطوة التالية. قبل تغريدة ترمب، لم يكن العمل العسكري من قِبَل الغرب، بالضرورة، جزءاً من حل النزاع في سوريا. ولكن بالتأكيد كانت هناك حاجة إلى إرادة سياسية من جانب الولايات المتحدة على وجه الخصوص -باعتبارها القوة العظمى الوحيدة القادرة على ممارسة ضغط شديد على الوسيط الرئيسي في سوريا، روسيا- لإحضار الأطراف المتحاربة إلى طاولة المفاوضات.
ولكن بمجرد أن أعلن ترمب أنه سيعاقب بشار الأسد عسكرياً، كان عليه أن يتابع في ذلك المسار، لأنه لو لم يفعل فإن ذلك كان سيشكل ضربة كبيرة لمصداقية الولايات المتحدة. وأظهر استخدام الأسلحة الكيماوية في دوما أن صواريخ ترمب التي أُطلقت على أهداف للنظام العام الماضي رداً على استخدام الأسلحة الكيماوية في خان شيخون لم تمنع الأسد من تكرار الفعل. والهجوم المحدود المماثل من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في حالة الغوطة، أي لمرة واحدة، لن يحقق الكثير.
والحقيقة هي أن العقوبة العسكرية بمفردها، بغض النظر عن حجمها، لن تُنهي النزاع في سوريا. فبقاء القوات الموالية للأسد وقوات المعارضة (على الرغم من التغييرات في تكوين المعسكرين) بعد سبع سنوات من الصراع، يُظهر أنه لا يمكن لأي كيان الفوز في الحرب السورية عسكرياً.
لكنّ هذا لا يعني أنه فات الأوان لفعل أي شيء لإنهاء الصراع السوري، كما أصبح من المغري على نحو متزايد أن يدعو البعض في الغرب إلى بقاء نظام الأسد، خصوصاً في ما يبدو أن هذا النظام يستعيد مناطق من المعارضة في شتى أنحاء سوريا. حجة «لا تفعل شيئاً» تستند إلى أن ترك النظام في مكانه ليس مثالياً، لكنه على الأقل سيجلب الاستقرار إلى سوريا. مثل هذه الحجة ليست مضللة فحسب ولكنها أيضاً خطيرة. لم يصل أي صراع في التاريخ إلى وقت «متأخر جداً لفعل أي شيء». وعدم القيام بأي شيء في حالة سوريا يعني ببساطة السماح بإنهاء مرحلة واحدة من الصراع بينما تمهد الطريق لشيء أكثر دموية في المستقبل.
ومع ذلك، فإن ما يمكن عمله بشأن سوريا قد تغير خلال السنوات السبع الماضية. في البداية، قبل أن تتحول الأزمة إلى حرب، كان من الممكن استخدام الدبلوماسية الدولية للضغط على النظام السوري وإقناعه لتقديم بعض التنازلات للمحتجين. لكن لم تكن هناك إرادة سياسية بين الدول الغربية للقيام بذلك.
عندما تحول النزاع إلى صراع دموي وأصبح من الواضح أن الأسد يسير في مسار الزعيم الليبي معمر القذافي –أي، استخدام رد الفعل العنيف على الاحتجاجات المناهضة للنظام- كان من الممكن إزالته من خلال العمل العسكري، وبخاصة أن دور روسيا وإيران في دعم الأسد في ذلك الوقت كان لا يزال محدوداً. لكن تجربة ليبيا في عام 2011 وقبلها العراق عام 2003 كانت تعني عدم وجود نية في الغرب للتدخل العسكري في سوريا، رغم أن السياقات الثلاثة لم تكن متطابقة. أدى ذلك إلى رفض الأسد الدعوات له بالتنحي واعتبارها مجرد خطابة.
إن تحذير «الخط الأحمر» الفارغ الذي هدد به باراك أوباما في حال استخدام الأسلحة الكيميائية في عام 2013 أضعف مصداقية الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام في ما يتعلق بنظام الأسد. وقد واصل النظام استخدام الأسلحة الكيميائية كوسيلة لإجبار قوات المعارضة والمدنيين على الخروج من المناطق الاستراتيجية التي يريد توليها، دون خوف من المساءلة.
حتى لو وسَّع النظام سيطرته في جميع أنحاء سوريا، فإن قوات المعارضة ستستمر في العمل، مسببة عدم استقرار مماثل لما شهده العراق بشكل متقطع منذ عام 2003. وبالمثل، إذا قامت المعارضة على نحو ما بالرد على القوات الموالية للأسد وبدأت بالاستيلاء على معاقل النظام مثل دمشق والساحل الغربي، فلن تستسلم القوات الموالية للنظام ببساطة.
كل هذا يدل على أن الطريق الوحيدة لنهاية الصراع تبقى عبر عملية سياسية لتحقيق انتقال السلطة، الأمر الذي يتطلب من الولايات المتحدة تطوير استراتيجية سياسية لسوريا. الآن وقد التزمت الولايات المتحدة بالعمل العسكري، فإن الهجمات لا يمكن أن تكون سوى وسيلة للوصول إلى غاية، وبتعبير آخر، الطريق إلى ممارسة ضغط كافٍ على روسيا لإقناعها بالموافقة على مفاوضات جادة.
المفاوضات الجادة تعني إعلان موت عملية آستانة ومحادثات سوتشي والتخلي عن الواجهة التي أصبحت روسيا بارعة في عرضها خلال عملية جنيف. ولكي تتصرف روسيا بجدية في المفاوضات، عليها أن تقتنع بأن الولايات المتحدة جادة. ما يعمل لمصلحة الولايات المتحدة هو أن حلفاءها الرئيسيين -المملكة المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية- جميعهم متحدون. وهذا يمنحها فرصة فريدة للانخراط في حملة مستدامة تتمتع بتأييد دولي واسع وموجهة ضد القواعد العسكرية للأسد.
على الرغم من أن هناك اقتراحات بأن هجوم الدول الثلاث (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) قد يكون حدثاً لمرة واحدة، فإن مثل هذه الحملة يجب ألا يُعلن عن إيقافها حتى توافق روسيا على إجراء محادثات جادة حول الانتقال السياسي في سوريا. في نهاية المطاف، لا تريد روسيا أن يكون موطئ قدمها العسكري على البحر الأبيض المتوسط مكوناً من الركام.
لا ينبغي أن ننسى أن الأسلحة الكيماوية، في النهاية، ليست هي المشكلة الرئيسية في سوريا. إنها من أعراض المشكلة الحقيقية، التي هي وجود نظام الأسد في السلطة. فهذا النظام هو الذي أذن باستخدام هذه الأسلحة في المقام الأول. ولكن لا جدوى من ردع الأسد عن استخدام الأسلحة الكيماوية مع الاستمرار في السماح له باستخدام الأسلحة التقليدية ضد المدنيين والانخراط في أنشطة مثل السجن غير القانوني والتعذيب.
لا يزال هناك مَخرج من الصراع، ويبقى التحول السياسي القائم على الحل الوسط، مع حكومة انتقالية تضم البراغماتيين من معسكرات النظام وغير النظام. وبينما يحلل العالم التداعيات الفورية للهجوم، ينبغي أن ينصبّ التركيز على ما ينبغي أن يحدث على المدى الطويل، مما يؤكد الحاجة إلى العمل العسكري الممزوج مع الاستراتيجية السياسية.
لا يمكن أن يكون هناك سلام في سوريا في حين أن نظام بشار الأسد في السلطة. وما دام بقي هناك، فإن المظالم الأصلية التي دفعت الناس إلى الاحتجاج ضده سوف تستمر في الوجود، إلى جانب ازدياد الشدة بسبب سلوك النظام على مدى السنوات السبع الماضية. لن تتغير معالم هذا السلوك إذا «فاز» النظام: كما أظهر التاريخ، فإن الديكتاتور لا يتحول إلى إصلاحي بين عشية وضحاها.
الضجر من التغلغل الإيراني في مناطق الشرق الأوسط وتمدد هذا النظام الدموي عسكرياً وسياسياً وآيديولوجياً بلغ منتهاه، والعالم كله مطالب بالوقوف ضد هذا التغلغل الذي قاد إلى عدم استقرار المنطقة، وأشعل فتيل الطائفية فيها.
السعودية تتعرض لهجمات صاروخية باليستية حوثية، الضاغط على زر إطلاقها أصابع إيرانية، فإيران هي التي جلبتها وهربتها في الداخل اليمني، وهي التي دربت الحوثيين عليها، وإيران هي التي تنخر في تركيبة اليمن المذهبية لإحلال المذهب الجعفري الإثني عشري محل المذهب الزيدي السائد في اليمن، رغبة في ربط ولاء اليمن سياسياً ومذهبياً بقُم، كما فعلته في سوريا حين عملت إيران جاهدة على تغيير الخريطة المذهبية في سوريا عبر مسارين؛ المسار الأول تهجير ملايين السوريين السنة من سوريا، والمسار الثاني إحلال المذهب الجعفري الإثني عشري محل المذهب العلوي، وهو ما أطلق إشارته الرئيس حافظ الأسد كما تقول مصادر مقربة من الرئيس.
إذن إيران تعمل على كل المسارات السياسية والعسكرية والآيديولوجية لغرز براثنها في دول منطقة الشرق الأوسط تمهيداً للاحتلال الكامل كما فعلت في سوريا واليمن. وهو ما لا يمكن للسعودية السكوت عليه وقد بلغ خطر الخمينية ذروته بإطلاق إيران يد الحوثي للهجوم صاروخياً على المدن السعودية، إن الخط البياني للصراع السعودي الإيراني يأخذ مساراً تصاعدياً، فقد ظل مدة طويلة صراعاً بالوكالة في العراق وسوريا ولبنان كما تسميه بعض وسائل الإعلام العالمية، لكنه تحول في أزمة اليمن إلى صراع مباشر بين السعودية وحليف إيران في اليمن ميليشيات الحوثي، وإذا استمرت إيران في توسيع نفوذها واحتلالاتها في الشرق الأوسط، فهذا يعني أن التصادم حتمي ومسألة وقت.
لكن لا يزال الوقت متسعاً لتجنب حرب كارثية خطرة ضد الخمينية في إيران تقودها دول العالم عليها، حيث يجب العمل على تقليص نفوذ الخمينية وقصقصة أذرعتها وخلخلة تحالفاتها التي بنتها ودعمتها خلال الثلاثين سنة الماضية، وهذا يتطلب من دول المنطقة ضرورة مراجعة استراتيجيات الصراع مع غول الخمينية الخطر، وأقوى ما يمكن أن تُواجه به الخمينية المعتدية هو في ترتيب الخصومات، فمن خلال سبر حركة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط سنجد أنها تتسلل مستغلة الخصومات والخلافات الجانبية، فتستفرد بهذا أو ذاك وتجعله معبراً لنفوذها وجسراً لطلائع غزاتها، إذن متغيرات المرحلة تتطلب اتجاهاً معاكساً، أي بناء التحالفات مهما كان قدر الخلاف، فهذا من شأنه أن يضعف الجبهة الإيرانية ويقوي جبهة خصومها.
العامل الثاني الذي سيضعف جبهة الخمينية ويخلخل نفوذها هو في حث بعض الدول العربية التي لا تزال تتخذ مواقف «رخوة» من التغلغل الإيراني وتهديده لدول المنطقة، وتعتبر صد هذا النفوذ ومحاربته يندرج تحت «الصراع الطائفي»، وهذا بالتأكيد تسطيح للأزمة ونقص في الوعي.
العامل الثالث لمقاومة التغلغل الإيراني هو في تنظيم حملة متقنة للتخلص من أذرعة إيران الخيرية والثقافية والتربوية والتعليمية والتأهيلية في الدول العربية والإسلامية، فهي التي تمثل الخطوط الأمامية لنفوذها السياسي والعسكري في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، بل وفي بقية الدول العربية والأفريقية والآسيوية ودول جنوب شرقي آسيا وحتى في الدول الغربية، وذلك من خلال مسارين؛ المسار الأول مقاومة هذه المؤسسات التي تبشر بالخمينية ومحاولة التخلص منها، تماماً كما فعل التحالف الإسلامي حين قوى علاقاته بإحدى الدول الأفريقية، أقدمت هذه الدولة على إغلاق كل المؤسسات الخمينية التعليمية والتربوية والتأهيلية وحتى الإغاثية، والمسار الثاني بإحلال البديل بدعم العمل التطوعي المؤسساتي وضبط إيقاعه وتسهيل دروبه.
يختزل اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية في سورية مساعي روسيا إلى تقويض معايير القانون الدولي استراتيجياً وسياسياً ورمزياً. ولا ريب في أن التوسل السياسي بـ «خطوط حمر» هو شكل خطر من الردع. ولا ترتجى فائدة من الوقوف موقف المتفرج إثر توعد من يستخدم الأسلحة الكيماوية المحظورة. وإذا أودت الأسلحة هذه بحياة ضحايا، تولت مجموعة متعددة الأطراف تحديد المسؤول عن الهجوم على نحو ما تعرف معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. ولكن منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، أي منذ أجهضت روسيا تجديد ولاية لجنة التحقيق المشتركة من طريق حق النقض (الفيتو)، يُفتقر إلى آلية تحقيق مشتركة في الأمم المتحدة. وترمي تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية فحسب إلى تحديد الوقائع وليس المسؤوليات.
وفي بريطانيا، استخدم غاز نوفيتشوك في الهجوم على العميل الروسي السابق، سيرغي سكريبال وابنته. والغاز هذا سام عصبياً- فهو يصيب الجهاز العصبي المركزي- وهو من الجيل الرابع للغازات، وهو غير مدرج في الجدول الأول من فهرس المنتجات الكيماوية في معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. والغاز هذا ابتُكر في السبعينات والثمانينات في الاتحاد السوفياتي. ولذا، كان يسيراً على البريطانيين تحديد الجهة الواقفة وراء الهجوم واتهام الروس بعملية التسميم. ولكن إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، واستقلال جمهورياته، انتشر بعض مخزونه الكيماوي العسكري، وتشتت. ولم تسجل أمكنة حفظ الغاز هذا وكمياته. وعليه، إثبات اللجوء إلى الغاز هذا عسير.
ووثق الدكتور فيل ميرزايانوف، اللاجئ إلى الولايات المتحدة، كميات هذا الغاز وأمكنة إنتاجه، على أشكاله المختلفة. ولكن المعلومات غير وافية عن المسألة. ولا يملك الخبراء في العلوم البت في مسألة سكريبال: فبنية الغاز الكيماوية غامضة. وغاز نوفيتشوك محظور ولو لم يدرج على لائحة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية مثل غيره من الأسلحة الكيماوية. وعلى سبيل المثل، حين استخدم الكلور في سورية برزت الأسئلة نفسها. فالكلور نفسه غير محظور، ولكن حين يُتوسل به عسكرياً يتحول إلى سلاح كيماوي. وعلى رغم أن غاز نوفيتشوك غير مدرج في قائمة المنظمة هذه، استخدامه محظور.
ومنذ إقرار معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية في 1997، برزت صورة واضحة عما تملكه الدول من ترسانات. فروسيا انضمت إلى المعاهدة، والتزمت جدول تدمير مخزونها من الأسلحة الكيماوية. وهي دمرت 39967 طناً من المخزون هذا، أي مجمل المخزون (100 في المئة). ولكن الروس لم يصرحوا يوماً عن حيازتهم غاز نوفيتشوك. واحتفى المجتمع الدولي بنزع سلاحها الكيماوي في لاهاي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017. ولكننا لا نعرف عن الغاز هذا غير ما سرب في التسعينات. وتاجر بعض علماء الكيمياء بمثل هذه المواد، فباع بعضهم طائفة أوم اليابانية مواد كيماوية. ولا أحد يعرف الكميات التي بيعت في السوق السوداء. وهذه السوق موجودة ولكن لا نعرف عنها الكثير، على خلاف الكوريين الشماليين، وهم أدرى بشعابها. والأغلب على الظن أنهم يمدون هذه السوق بالـ «سلع الكيماوية»، وهذا ما أثبتته التقارير الأخيرة الصادرة عن مجلس الأمن.
وربما أخفى الروس غاز نوفيتشوك الفعّال ليستخدموه حين تدعو الحاجة. فروسيا ماهرة في التحايل على المبادئ والمعايير، على رغم أن البلد هذا، إلى الولايات المتحدة، كان من أكبر منتجي الأسلحة الكيماوية، ويُفترض أنه دمر مخزونه من السلاح هذا. فنظام الرئيس بوتين يلهو بمعاهدة الأسلحة الكيماوية ومبدأ الحظر، ويستخف بالأسلحة الكيماوية حين يعرقل عمل المفتشين ويحول دون تحديد المسؤوليات. ولا أعتقد أن عرقلته عمل المفتشين وليدة صدفة أو اعتباطية، بل هي من بنات قرار عمدي يرمي إلى تحدي منصة أمن دولي ركنها مبادئ جامعة وعامة ترسم وجه العلاقات بين الدول وتحتكم إلى القانون الدولي ومعاييره. وأشار تقرير صدر في آذار (مارس) المنصرم عن العقوبات على كوريا الشمالية، إلى أوجه تعاون سري بينها وبين سورية، كيماوي وعسكري.
ويظهر فلادمير بوتين منذ ضم القرم إلى بلاده في 2014، أنه لا يقيم وزناً للقوانين الدولية وتعدد الأقطاب وما تقتضيه الديموقراطيات العالمية الكبرى. وهذا لا لبس فيه في موقف الكرملين من معاهدة القوات التقليدية في أوروبا، شأن موقفه من معاهدة القوى النووية الوسيطة. وهذا بائن في شحّ تعاونه في مجلس الأمن في الأزمة الكورية الشمالية، وفي العرقلة الروسية الدورية في الملف السوري. والسعي الروسي إلى العرقلة متماسك وبعيد من الارتجال. فهو يأتلف من استفزاز مزمن على حدود ما هو مشروع. فالنظام الروسي يمتحن الأنظمة الديموقراطية الليبرالية. ولم يفت روسيا أن «الخطوط الحمر» التي رسمها رعاة النظام الدولي هي خطوط برتقالية اللون شاحبة ويبهت لونها أكثر فأكثر من عام إلى عام. وفي مثل هذه الظروف، لا رادع يحمل على الامتناع.
على رغم أن معاهدة الأسلحة الكيماوية جامعة وعامة- 192 دولة صادقت عليها- وأنها حازت جائزة نوبل للسلام في 2013، تلجأ الدول إلى مثل هذه الأسلحة أكثر فأكثر. وهي أداة رعب وإرهاب، وفي الغوطة استخدمت سلاحاً تكتيكياً. فاللجوء إلى السلاح الكيماوي في موازين دمشق شأن موسكو وبيونغيانغ، والأخيرة لم توقع على المعاهدة، يقوض المعايير وسلطانها، ويقوض على وجه التحديد بنية الأمن الدولي الأنجع في العالم. ومعاهدة حظر الأسلحة الكيماوية ليست رمزية فحسب، بل معاهدة حظر، وهي لا تميز بين الدول التي حازت الأسلحة هذه وتلك التي لا تملكها. وفي سبيل الحفاظ على مكانته صمام أمان الأمن الدولي، لا مناص من تهديد القانون الدولي باللجوء إلى القوة حين ينتهك حظر أسلحة الدمار الشامل. وحين تخفق الحلول الاستباقية مثل الحظر ونزع السلاح ومنع الانتشار، ترجح كفة اللجوء إلى القوة أحادياً، على نحو ما فعلت إسرائيل في 1981 حين بادرت إلى تدمير المفاعل النووي العراقي أو في 2007 حين دمرت منشأة نووية سورية في الكبر. والتهاون اليوم مع الأسلحة الكيماوية قد يؤدي في المستقبل القريب إلى تهاون أكثر خطورة في استخدام النووي العسكري.
ما إن انفضت قمة ثلاثية في أنقرة، ضمت تركيا وإيران وروسيا، ووضعت هدفها البحث في مستقبل سورية والوصول إلى حل سلمي، حتى نفّذ جيش النظام السوري هجوماً كيميائياً على دوما، فتشكلت غيمةٌ من التساؤلات عن رد الفعل الأميركي.
وقبل أن تنزل الضربة الأميركية الموعودة برداً وسلاماً، فرض الجو الكيميائي وجوده على ساحة الإعلام، وأزاح عن الواجهة الاجتماع الثلاثي في أنقرة، لكن شكل التعامل الأميركي الحذِر، والحريص على عدم إثارة مشكلة كبيرة مع روسيا داخل الأراضي السورية، أعاد الأمور إلى ما كانت عليه قبل هجوم النظام الكيميائي. تابع أهالي دوما النزوح، وتحرّكت قطعات الجيش السوري باتجاه الجنوب إلى الخاصرة الدمشقية في مخيم اليرموك، وأطراف حي التضامن، وبدأت بالقصف هناك لإخلاء المنطقة، كما يمّمت شطر القلمون، فعقد النظام اتفاقاته التي تخلص إلى تهجير جديد مع "الضمير" و"جيرود" ومجموعة البلدات الصغيرة المحيطة بهما، مفرِّغاً القلمون أيضاً من المقاتلين وذويهم.
كان ذلك كله يحدث فيما عملية غصن الزيتون العسكرية التركية تكمل فصولها، ليسيطر الجيش الحر المدعوم تركياً على عفرين بشكل كامل، وهو يعد العدة، فيما يبدو، للتحرك إلى مناطق أخرى، لتوسيع سيطرته، وجعل مدى أمانه أكبر في ظل تفهّم روسي، وغضّ بصر إيراني، وتململ أميركي لن يسفر في الغالب عن شيء.
تبدو الدول الثلاث، تركيا وروسيا وإيران، ممسكة بالفعل بجزء كبير من الملف السوري، فتركيا نشطة في الشمال، وتحاول تطهير القطاع الملاصق لحدودها من المقاتلين الأكراد، وتتحرّك إيران مع روسيا في الوسط لتعيد إلى النظام السيطرة على كل البؤر الصغيرة والكبيرة التي كانت تسيطر عليها المعارضة، مع الحفاظ على وضعية الجمود في درعا، حيث الحدود الملاصقة لفلسطين المحتلة. وفي الشمال، في محافظة إدلب بالذات، يخيم الهدوء نفسه، حيث يمكن أن تكون المنطقتان موضوعاً لمحادثات "سورية سورية" برعاية دولية في جنيف، وهو الاسم الذي تكرّر في البيان الختامي لمؤتمر القمة الثلاثي في أنقرة، مع غياب ذكر مؤتمري سوتشي وأستانة ضمن الوضع الجغرافي الجديد.
قد تصبح الحاجة ملحةً لتوسيع هذا الإطار الثلاثي في مرحلةٍ مقبلةٍ، فقد نقلت تقارير إخبارية أن طيراناً عراقياً نفذ هجماتٍ جويةً على وجود "داعش" وتجمعاتها داخل الأراضي السورية، وكذلك عن تدخلات إسرائيلية في الجنوب، ومنعها أي محاولة إيرانية من التقدم نحو حدودها.
ثمّة صعوبات تعترض توسيع التجمع الثلاثي، ليشمل دولاً أخرى، فالجميع متمترسٌ بما كسبه. وليس هناك نية بالطبع لدى أي قوةٍ من القوى الثلاث الأساسية بسحب قواتها العسكرية من سورية، لا الآن ولا في المستقبل المنظور. وهذا يفسح المجال أمام احتمالاتٍ كبيرة، فالاتفاق بين هذه الدول قد ضيق جبهات المواجهة، وحدّدها، وحصرها في أربعة أماكن رئيسية: المنطقة التي يحتفظ بها النظام، وهي تشكل حالياً القسم الأكبر من سورية. ويبدو أن هذا القطاع الكبير فيه تجاوز لـ"سورية المفيدة"، لتصبح سورية المقيدة، وهي المحاطة بما يشبه الحصار. وتحتل القوى الكردية المرتبة الثانية من حيث السيطرة المساحية، ومن خلفها دعم أميركي قلِق، سيُحدث انسحابه، في أي لحظة، تفجيراً جدياً في الوضع، وإزاحة للطاولة يميناً وشمالاً. وهناك منطقة إدلب، وهي رقعةٌ مساحيةٌ تتاخم الحدود التركية، والأهم أنها تحاذي منطقة النظام الحميمة، وتهدّده بشكل مباشر.
أما المنطقة الرابعة والأخيرة فهي الجنوب الذي يسيطر على الحدود مع الأردن و"إسرائيل"، وفي هذه المنطقة، وجود أميركي فعال، ومراقبة إسرائيلية عن بعد، وتلهف إيراني للوصول.
لم يكن الهجوم الكيميائي على الغوطة نقطة فارقة، ولا حتى الضربة الأميركية، لكن العلاقة الفارقة، ونقطة الحيرة والتساؤل هي كيفية التعامل مع المساحات الكبيرة، والمفتوحة على حدود الدول المجاورة، وقد تكون هذه مهمة مؤتمر جنيف العسيرة.
في الغارات الأميركية - الفرنسية - البريطانية «المحدودة» جداً، على أهداف لها علاقة بالسلاح الكيماوي السوري، لم تجد من يوقفها، لا صواريخ الروس ولا مضادات الإيرانيين والأسديين، هذه حقيقة واضحة.
لكن لحظة... نسينا بندقية مواطن سوري «أسطوري» أسقط الصاروخ الأميركي الذكي، ليست أدري كيف ميّز أنه أميركي وليس فرنسيا أو بريطانيا مثلا!
ما علينا، القصة كما يسردها لنا الصحافي اللبناني حازم الأمين بجريدة «الحياة»، أتت على هذا النحو: «أحد الناطقين اللبنانيين بلسان النظام السوري على إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية يروي كيف أسقط جندي سوري ببندقيته صاروخاً كانت أطلقته الطائرات الأميركية في الغارة التي نفذتها أواخر الأسبوع الفائت على قواعد النظام السوري في دمشق وحمص».
يضيف حازم: «قال الناطق إن الجندي السوري تلقى أوامر بالتصدي ببندقيته للصواريخ فأصاب محرك الصاروخ، وسقط الأخير من دون أن ينفجر، وأهداه الجيش السوري للجيش الروسي لكشف (ذكاء) هذه الصواريخ التي تحدث عنها دونالد ترمب».
يبدو هذا «البواردي» السوري، والبواردي باللهجة السعودية تعني «القناص الماهر»، أقول يبدو أن هذا البواردي السوري تفوق بمراحل على البواردي العراقي من قبل، الفلاح صاحب بندقية «البرنو» الذي أسقط مقاتلة الأباتشي الأميركية المخيفة عام 2003 في حرب إسقاط نظام صدام حسين.
حينها روّج إعلام البعث الصدّامي هذه البطولة النقية الطبيعية شبه الإلهية، - لاحقا صارت الحروب كلها إلهية صافية مع جماعة نصر الله - وتلقّف جملة من العرب وبقية المسلمين هذه «الخبرية» بكثير من الحماس الفوّار.
أتذكر وقتها أن خطيبا سعوديا شهيرا هو د. عائض القرني، دبّج قصيدة عصماء في الفلاح العراقي البواردي، المتكنّى بأبي منقاش، تشيد ببطولة صاحب بندقية «البرنو» الخارقة الحارقة، ومما جاء بقصيدته:
يا أبا منقاش أحسنت فزد / فعلكم يا ابن العلا فعل الأسد
الأباتشي أنت من أسقطها / برصاص مثل حبات البرد
اشحــن البندق بالنار ولا / تتقي الموت فإن الأمر جد
اذبـح العلج علـى خيبته / ثم رّتل: قل هـو الله أحد
قناصنا السوري، حسب إعلام البعث الأسدي، الممتزج ببخار الإعلام الخميني المقاوم، تفوق على نفسه، فالإصابة بلغت من الدقة استهداف محرك الصاروخ «الذكي» وليس جسمه أو رأسه المتفجر، أمر أذكى بكثير مما فعله أبو منقاش العراقي.
يجب الحفاظ على هذه النوادر البشرية، صائد «التوماهوك» الأميركية، سليما كاملا، مثله مثل الصاروخ الذي أسقطه سليما معافى، حتى لا تضمحل هذه القدرات ببحر الجحود العربي المعتاد!
أمة عربية واحدة... ذات بندقية خالدة.
لم يختر السوريون حافظ الأسد رئيساً لهم. ففي «الوقائع»، أن الأسد قاد انقلاباً عسكرياً في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 على رفاقه في سلطة البعث، التي كانت هي الأخرى نتيجة حركة انقلابية في الثامن من مارس (آذار) عام 1963، جرت بعده صراعات دموية بين الانقلابيين، أبرزها انقلاب 23 فبراير (شباط) الذي جعل من حافظ الأسد ورفاقه الذين تمرد عليهم يمسكون بالسلطة، وقبلها لم يكن معظم من وصلوا إلى السلطة أشخاصاً معروفين، ولا كانوا يمثلون شيئاً بالنسبة للسوريين، إنما مجرد أشخاص أوصلتهم الدبابات إلى مركز السلطة والتحكم في مصير الدولة والمجتمع في سوريا.
عندما حدث «انقلاب آذار» 1963، كان حافظ الأسد مجرد ضابط صغير برتبة نقيب متقاعد، أعاده رفاقه الانقلابيون في اللجنة العسكرية «البعثية» إلى الجيش ورفّعوه إلى رتبة مقدم، وسموه آمراً لقاعدة ضمير الجوية بالقرب من دمشق، ثم رفّعوه مرة ثانية عقب «انقلاب شباط» 1966 إلى رتبة لواء، وجرى تسليمه منصب قائد القوة الجوية، ثم جرت تسميته وزيراً للدفاع في حكومة يوسف زعين، وعندما استقالت الحكومة بعد هزيمة 1967، رفض الاستقالة من وزارة الدفاع، وخاض صراعاً عنيفاً مع رفاقه قاد لانقلابه عليهم ووضعهم في الاعتقال لأكثر من عشرين عاماً.
بعد انقلابه عام 1970، جلب أحمد الخطيب نقيب المعلمين في حينها، وولاه منصب رئاسة الدولة، واحتفظ لنفسه برئاسة الحكومة ووزارة الدفاع وقيادة القوات الجوية، ممهداً لإقامة نظام رئاسي، يتم الصعود إليه بالاستفتاء المضبوط بقوة أجهزة المخابرات وسيطرتها، التي كان قد أحكم قبضته عليها، وبفعلها وصل إلى منصب رئاسة الجمهورية في مارس 1971 وأخذ يكرر استفتاءاته المحسوبة نتائجها مسبقاً، وآخرها عام 1999.
طوال ثلاثين عاماً، لم يرَ الأسد الأب في السوريين شعباً، بل مجرد أداة لوجوده في سدة السلطة، وكان كلما أحس أو لمس مشكلة في تلك الأداة ووظيفتها، قمع حركتها السياسية والمدنية والشعبية، فكان عهده سلسلة متواصلة من القمع والإرهاب والديكتاتورية، ارتكبت فيه كل الجرائم؛ من القتل والاغتيال والاعتقال الطويل ضد معارضيه بمن فيهم رفاقه، إلى المجازر ضد الشعب في دمشق وحمص وحماة وحلب وجسر الشغور وتدمر وغيرها، ليضمن البقاء في سلطة الحكم الفردي – العائلي - الطائفي الذي سعى لتكريسه حكماً وراثياً لأبنائه، فكان لباسل، وعندما مات، استبدل ابنه الثاني بشار به.
ومثلما لم يختر السوريون حافظ الأسد لرئاستهم، فإنهم لم يختاروا وريثه بشار، وقد حمله سدنة النظام من أشخاص وأجهزة وسط قبول إقليمي ودولي إلى كرسي الرئاسة بعد تعديل «الدستور» في جلسة واحدة بما يتوافق ووصوله إلى رأس السلطة، وفق آلية الاستفتاء المحسومة النتائج سلفاً، التي كرست أباه رئيساً حتى الممات في سوريا.
ومثلما فعل الأسد الأب في بداية عهده في إسكات السوريين وتطويعهم بـ«إصلاح النظام» وذهابهم إلى عهد جديد، ساير الابن تطلعات الحراك الثقافي والاجتماعي لربيع دمشق، قبل أن ينقلب عليهم، اعتقالاً وسجناً وملاحقة، وقمعاً للحراك الوليد، وإغلاقاً لكل إمكانيات إصلاح النظام بطريقة تدرّجية وآمنة، واختار طريق أبيه، فجدد رئاسته الثانية بالاستفتاء، وقمع بالقوة الوحشية ثورة السوريين ومطالبهم بالحرية والديمقراطية وبمستقبل أفضل للسوريين وبلدهم، وفتح أبواب التطرف والإرهاب بإطلاق قواه من كل نوع وصنف، ثم استعان بالتدخلات الإقليمية والدولية للتغلب عليهم قبل أن يجدد رئاسته الثالثة وسط بحيرة من الدم والدمار وتهجير ملايين السوريين، مجسداً شعار شبيحته «الأسد أو نحرق البلد».
وسط تلك المحصلة الجهنمية، التي أغرق فيها الأسد الابن سوريا والسوريين، ثمة نقطة تثير الاستغراب، جوهرها أن ثمة من لا يزال يؤيد بقاء الأسد ونظامه في سوريا تحت مبررات مختلفة في سلسلة متواصلة من المحلي إلى الإقليمي والدولي، تارة باسم السيادة الوطنية أو القومية أو معاداة إسرائيل، وبحجة أن لا بديل له، وكلها مبررات أسقطها نظام الأسد وداس عليها بالممارسة العملية طوال أكثر من سبع سنوات.
ولعل الأغرب من الدفاع عن الأسد وتأييد بقائه ونظامه في سوريا، وصف السوريين بأنهم «شعبه» كما يرد في كلمات ومقالات مسؤولين سياسيين بينهم مؤيدون للثورة ومعارضون لنظامه، وفي تقارير دولية حقوقية، وأخرى إخبارية، يتناسى فيها الجميع، وصف الأسد للسوريين في خطابه الأول بعد الثورة عام 2011 بأنهم جراثيم، ثم حديثه عن المجتمع المتجانس الذي كرسه في خلال حربه ضد السوريين، وكلها تثبت أن السوريين ليسوا «شعبه». شعبه فقط، كل من ذهب معه في مسيرة الدم والدمار والتهجير، ومن يؤيد بقاءه في السلطة، والساكتون عن جرائمه.
من حق الأسديّة إطلاق صرخات البهجة والسرور بمناسبة ما أسمته "فشل العدوان الثلاثي" عليها، والذي لا أدري كيف كان له أن ينجح، إذا كان من نفذوه قد أرادوا له أن لا يُسقط بشار الأسد، أو يغير موازين القوى لصالح الثورة، أو يوقف الحرب الروسية/ الإيرانية/ الأسدية ضد السوريين.
وكيف تنجح الملاعبة العسكرية الأميركية/ البريطانية/ الفرنسية، إن كانت لم تستهدف الأسد، أو موازين القوى الراجحة لصالحه، أو وقف حربه ضد السوريين، أو تدمير أسلحته التي يقتل شعب"ه" بواسطتها منذ نيف وسبعة أعوام؟. وكانت أطراف "العدوان الثلاثي" لم ترغب في الضرب على يديه، لمنعه من مواصلة مجازر القتل المنظم بكل سلاح، والتي ينفذها جيشه بدعم روسي مفتوح وإيراني حثيث، بالتعاون مع أحط حثالات الإرهاب في أفغانستان والعراق ولبنان وبنغلادش وأوزبكستان.. إلخ؟. ثم، كيف يكون ما حدث عدواناً، إن كان من نفذوه لم يستهدفوا أيضاً شركاء الأسد، ولم يرموا إلى إخراجهم من سورية، أو إلى تطبيق حل سياسي دولي بقوة قرارات دولية أصدرها مجلس الأمن لوضع حدٍّ للمقتلة المستمرة منذ سبعة أعوام، التي يتعرّض لها ملايين الأطفال، لأن آباءهم ارتكبوا جريمة المطالبة بالحرية، وهي حق يكفله لهم دستور بلادهم الذي أصدرته الأسدية، وتضمنه شرعة حقوق الإنسان والقوانين الوضعية ووصايا الأديان؟.
وأيّ عدوان هذه الملاعبة العسكرية التي حرص منفذوها على عدم المسّ بجيش الأسد ومرتزقته! لذلك لم يصيبوا أحداً منهم بقنابلهم وصواريخهم التي دخلت إلى سورية، وخرجت منها من دون أن يعترضها الروس، أو يجدوا في أنفسهم الجرأة على إطلاق رصاصة واحدة عليها؟ وبأية وقاحة يجيز الأسد لنفسه الحديث عن "عدوان ثلاثي" تشبّهاً بـ "العدوان الثلاثي" على مصر الناصرية بعد تأميم قناة السويس عام 1956، وكان غرضه إسقاط جمال عبد الناصر، حسب تصريح لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك، أنطوني إيدن، واحتلال مصر، كما أعلن رئيس وزراء فرنسا، جيه موليه، بينما تستهدف "الملاعبة العسكرية الحالية" الإبقاء على الأسد وسلطته، وعلى تفوقه العسكري على الثورة، وتقتصر على أخذ سلاحه الكيميائي، وعدم المس بأسلحة أشد فتكاً منه، والسماح له باستخدامها، وهو على ثقةٍ من أن أحداً لن يزعجه، مهما أسرف في قتل شعب"ه"؟.
ما الشبه بين ما جرى عام 1956 ضد مصر، واستهدف اقتلاع الثورة العربية من جذورها، والقضاء عليها في مهدها المصري، و"عدوان" مزعوم يحافظ على من يستهدفه، ثم يعلن القائمون به توبة نصوحاً عن تكراره، من خلال تأكيدهم أنه فقد ما كان في حوزته منه، وأنهم دمروه إلى سنين عديدة مقبلة؟
هللت الأسدية لإفشال "العدوان الثلاثي" الذي لو كان عدواناً بحق لاقتلعها من جذورها، ولما وجد بطل البراميل الوقت للاحتفال بانتصاره، لأن الأموات لا ينتصرون ولا يحتفلون. بدورها، هللت الكنيسة الأرثوذكسية "المقدسة" لفشل "العدوان الثلاثي"، وانخرطت، برخصٍ وسفاهةٍ، في جوقة الدجل، فرحاً بنجاة المجرم من "عدوانٍ" لم يقع عليه، لحرص من نفذوه على مواصلته ذبح السوريين إلى آخر طفل وامرأة، وتمكين الكنيسة وكتبتها، الذين تجرّدوا من أي شعورٍ إنساني، من الزحف على بطنها أمام مخابراته.
يثير التهليل لفشل "العدوان الثلاثي" على الأسدية القرف، وأكثر ما يثير القرف فيه عدوان الأسدية الوقح على جمال عبد الناصر ومصر، الذي يشبّه مجرماً قتل الملايين من شعب"ه" وشرّدهم، بزعيم أمة العرب التاريخي الذي استشهد وهو يدافع عنها.