ستظل لعنة مضايا تلاحق «حزب الله» ورعاته إلى أبد الآبدين. ستظل صرخة الجياع من أطفالها ونسائها وشيوخها تمثّل الكابوس المرعب لأولئك الذين باتوا أسرى أحقادهم المرضية. ستظل تلك الصرخة الدليل الدامغ الأقوى الذي يؤكد أن كل شعارات «المقاومة والممانعة» والادعاءات الإعلامية بخصوص المواجهة مع إسرائيل لم تكن سوى مسرحيات هزيلة، كان الغرض منها التستّر على الكبائر بأدوات ما بعد النفاق، وما بعد بعد النفاق.
كان السوريون يدركون أبعاد لعبة «المقاومة والممانعة» منذ اليوم الأول. لكن المشكلة أن التحالف غير المقدس بين أقطاب الشرّ تمكّن لمدة من الزمن، وفي غفلة منه، من تسويق صورة خادعة مضلّلة بخصوص الحزب المعني، حتى ذاب الثلج وبان المرج، وتبيّن لناسنا الطيبين أن الحزب الذي كان يدّعي أنه حزب المقاومة هو في جوهره حزب مبني على أساسٍ طائفي بغيض، أنهك المنطقة بالتشارك والتضايف مع «داعش»، وسلّمها لفوضى عارمة ستستمرّ على مدى عقود عجاف قادمة. هذا ما لم تتضافر جهود العقلاء من مختلف الأطراف، لوضع حدٍ مطلوب للحالة اللاعقلانية الغرائزية التي تعيشها منطقتنا راهناً.
«حزب الله» يجوّع أطفال مضايا ونساءها حتى الموت، والحجة الأقبح من الذنب أن كفريّا والفوعا تعانيان الحصار ذاته من قبل الآخرين، لأنها حجة لا تسندها الوقائع ولا شهادات المحايدين. لكن يبدو أن الحزب المعني الذي أعلن نفسه وصياً على الشيعة السوريين، ووليّ أمرهم، والمدافع عنهم، والضامن لوجودهم، يعتمد نهجاً وقائياً خاصاً به، فهو الذي يحدد طبيعته وقواعده وكأنه هو الذي حافظ على الشيعة السوريين في كفريا وغيرها، ومكّنهم من أداء شعائر مذهبهم على مدى ألف وأربعمائة عام، وهم الذين يعيشون وسط محيط سني يشملهم من جميع الجهات. واللافت هنا أن الحجة المتهافتة هذه تذكّرنا بتلك التي تمترس خلفها الحزب المعني في بداية الثورة السورية، ليبرّر إرسال قواته لقتل السوريين. وكانت الحجة حينئذ أنه فعل ذلك حماية لمقام السيدة زينب، وبقية الأماكن المقدسة لدى الشيعة.
حصار «حزب الله» لمضايا خطوة في إطار استراتيجية ايرانية مستمرة منذ عقود، تستهدف إحداث تغييرات ديموغرافية، تحسباً أو سعياً لتحوّلات في الجغرافيا السياسية للمنطقة. وهي خطة تُمكّن النظام الإيراني من تجاوز جملة الاستحقاقات في الداخل الإيراني، التي تتصل بحقوق الشعوب الإيرانية من كرد وعرب وبلوش وآذريين وغيرهم، واستحقاقات أخرى تتمحور حول تطلعات شباب إيران ونسائها، ورغبتهم في الاندماج مع محيطهم الإقليمي وعصرهم.
«حزب الله» يفرض الجوع على الأطفال والنساء. وبشار الأسد يضرب السوريين ببراميل البارود، براميل الحقد الدفين، وبالأسلحة الكيماوية، ويمارس القتل الجماعي في المعتقلات. والحرس الثوري الإيراني يشارك بقواته وعبر أدواته وعملائه في قتل السوريين وتجويعهم. وبوتين يضرب السوريين بكل أنواع الأسلحة المجرّبة وغير المجرّبة. كل ذلك من أجل انتزاع الاستسلام من السوريين والسوريات، وهو أمر لم ولن يكون أبداً.
مضايا لم تكن الأولى والوحيدة التي استخدم النظام وحلفاؤه سلاح التجويع ضدها، ولكنها أصبحت الرمز. سلاح التجويع استخدمه النظام منذ البداية ضد مختلف المناطق السورية. استخدمه في داريا والمعضمية وغوطة دمشق وحمص وغيرها من المناطق. أما أهداف هذا السلاح فمتعددة منها: فرض الاستسلام أو الانسحاب على المقاتلين، وإحداث تغييرات ديموغرافية، إلى جانب تمهيد الأرض لدخول المافيات المرتبطة بالنظام على الخط، حتى تتحكّم بإدخال المواد الغذائية والأدوية بأسعار خيالية، هذا مع العلم أن كميات كبيرة من هذه المواد دخلت، وتدخل، سورية عبر برنامج المساعدات التابع للأمم المتحدة، وهي تُسلّم في معظمها للنظام وأتباعه، على أمل أن تكون عوناً للسوريين، لكنها تغدو سلاحاً ضدهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام وحلفائه كالجزيرة مثلاً، تعاني وضعاً مأسويا نتيجة الارتفاع اللامعقول في أسعار المواد الغذائية والطبية، الأمر الذي يؤدي إلى سوء التغذية المزمن بخاصة بين الأطفال، كما ينتشر ما يمكن أن نسميه المجاعة الصامتة. وهذا ما يضغط على السكان، ويرغمهم على اعتبار الهجرة الخارجية الخيار الأقل ضرراً.
الشعب السوري يعيش محنة قاسية نتيجة التناغم بين وحشية النظام وحلفائه ورعاته وسلبية المجتمع الدولي ونفاقه. لكن شعبنا العزيز تمكّن بفعل تضحياته وثباته، وتمسّكه بحقه المشروع في الحرية والعدالة والكرامة، من إسقاط سائر الأقنعة، لتظهر قباحات أصحاب شعارات المقاومة الخلبية والممانعة الادعائية من أسرى النزعة المذهبية على حقيقتها، وليظهر نفاق كل من كان يتشدق بالقيم الإنسانية التخديرية، وبأهمية دعم تطلعات الشعوب ومساعدتها لتعيش عصرها، وتضمن مستقبلاً أفضل لأجيالها القادمة. إنها أيام صعبة نعيشها لا ننكر ذلك، ولكن تجربة السنوات الخمس علّمت السوريين كثيراً، وصقلتهم على رغم كل العذابات والمرارات ومشاعر الإحباط. فسورية ستبقى، وشعبها سيبقى ليبني وطنه من جديد، وطناً خالياً من الاستبداد والإرهاب.
«نحن لا نشكّل تهديداً لأي شعب أو حكومة»... العبارة لحسن روحاني أمام مجلس الشورى الإيراني، وليس معروفاً كيف أمكنه التلفظ بها وهو يعلم جيداً أنها كذبٌ فاقع. كان عليه، توخّياً للدقّة والصدق، أن يسأل أهل مضايا والزبداني وبلودان وبقّين ودير الزور السورية، وأهل ديالى وتكريت وبعض بغداد العراقية، وأهل تعز اليمنية، وأهل بيروت اللبنانية، وأهل البحرين، عما اذا كانت ايران تشكّل تهديداً لهم أم لا. فـ «خبراؤها» الموجودون على الأرض وميليشيات «حزب الله» اللبناني وجماعة «أنصار الله» الحوثية ورديفاتها العراقية كـ «أبو فضل العباس» والأفغانية كـ «الفاطميون» ليسوا قتلة وإرهابيين فحسب بل إنهم مهندسو حصارات التجويع وشركاء مباشرون في هذا العار الإنساني. وإيران هي التي تحرّض المعارضة في البحرين على العدوانية بدل الحوار، وهي التي حوّلت «حزب الله» من «مقاومة» لإسرائيل من جنوب لبنان الى أدوات لغزو بيروت، وأما «الحرس الثوري» فهو المشرف والمشارك في سفك دماء هذه الشعوب جميعاً.
لكن الرئيس الإيراني معذور، فليس في ملفات مجلس الأمن الدولي أي شكوى من دولة عربية ضد ايران، ولا في قرارات القمم العربية والجامعة العربية، والقمم الخليجية وبيانات مجلس التعاون، سوى كلام عام يرفض «التدخل الإيراني» أو يدعو ايران - بتهذيب وحصافة - الى «وقف تدخلاتها». لماذا؟ لأن الدول مسلوبة الإرادة، كالعراق وسورية ولبنان، واليمن قبل الانقلاب الحوثي، فتكت الانقسامات بوطنية حكامها وسلبت قرار حكوماتها وأفقدتها حسّ تمييز السيادي عما هو خضوع يبلغ حدّ التماهي مع قوة خارجية مثل ايران يعلن مسؤولون فيها على الملأ أنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية. اشتغلت ايران بدأب على تلك الانقسامات، وجعلت التعددية وبالاً على تلك الدول وتهديداً «ذاتياً» لها، حتى أن الاستلاب بلغ بوزير الخارجية «اللبناني» حدّ «التضامن» مع إيران - ضد السعودية - «حفاظاً على الوحدة الداخلية» اللبنانية، كما قال، وطبعاً لا وحدة ولا من يوحّدون، لكن الوزير تصرّف لمصلحة حزبه الذي غدا منذ تحالف مع ايران رأس حربة الانقسام الداخلي.
كان روحاني يتحدّث بعد لحظات على بدء التنفيذ الرسمي لرفع العقوبات عن ايران، معتبراً أن الاتفاق النووي والمفاوضات التي سبقته يمثلان «صفحة ذهبية» في تاريخ بلاده. وكان من شأنه أن يمجّد هذا الإنجاز الذي انتخب على أساسه وجعله استراتيجية كبرى لحكومته، وها هو يعتبره «حصيلة مقاومة وحكمة وتدبير شعب يعارض الحرب والعنف»، أي أنه أدخله في «الإيديولوجية الجهادية»، مستذكراً «شهداء الملف النووي الذين علمونا أن العزّة والفخر هما ثمرة الجهاد والصبر»... ولا في أي لحظة اعترفت ايران، لذاتها لا للآخرين، بأن هذا «الملف» كان خدعة للذات، بدليل أن اللحظات الوحيدة التي اعتبرت فيها ايران دولة ذات صدقية هي لحظات تطبيقها الاتفاق، ولم تفدها طوال عقد ونيّف تصريحات المرشد بأن «الإسلام يحرّم اقتناء سلاح نووي». وبالتالي فإن إيران صوّرت سعيها إلى العقوبات جهاداً ومقاومةً وتصوّر الآن رفع العقوبات على أنه انتصار، ناسية أن عشرات الدول حول العالم أنشأت مفاعلاتها النووية للأغراض السلمية من دون أي أزمة على الأطلاق، وأن دولاً كثيرة خامرتها أحلام الحصول على «القنبلة» وتخلّت عنها من دون أن تضع اقتصادها خارج خريطة التجارة العالمية أو تعرّض مواطنيها لمستوى عيش بائس باعتماد «استراتيجية الاقتصاد المقاوم».
لا يجهل الرئيس الإيراني أن التضحيات التي قدّمها الشعب كانت أكبر بكثير من نتيجة «الانتصار» الذي تحقق بفضل الاتفاق النووي. نعم، هناك الإنجاز العلمي، وقد حقّقه علماء إيرانيون يُشهد لهم، من دون أن يعلموا أنه سيفضي إلى هذا المآل الكارثي الهجين: واحدٌ من أكثر نتاجات التقدّم العلمي حداثة في تصرّف أكثر العقول المؤدلجة تخلّفاً، بل واحدٌ من الإنجازات التي يُفترض أن تضمن للأمّة أمنها ورفاهها تحوّل في أيدي الملالي و «الحرس الثوري» لعبة لإفقار الأمّة وإذلالها. وإذا كانت عقول هؤلاء العلماء عملت بأقصى طاقتها مدفوعةً بهدف إعلاء شأن إيران، ومعها إعلاء شأن الإسلام، فلا شك في أن لهاث البلد وراء رفع العقوبات ونيل الرضا الأميركي والمسارعة إلى تفكيك المفاعلات وترحيل اليورانيوم المخصّب وبيع المياه الثقيلة لم تكن النتيجة المُستَحقَّة لجهدهم. فإيران ربحت برنامجها النووي وخسرت عقدين من التراجع الاقتصادي، وكسبت وهم «مكانة دولية» متجدّدة لتخسر وهم العَظَمة النووية الذي رشت به الداخل لإسكاته ولم يعد هناك سبب لسكوته، لكنها بالتأكيد لم تُعلِ شأن «المقاومة» ولا شأن الإسلام بل وضعتهما في أكثر الاختبارات إجحافاً وانتهازيةً. فمعها غدت المقاومة شعاراً لتغطية أبشع الجرائم، ومعها غدا الإسلام مجرّد وسيلة للفتن والمجازر وتنكيل المسلمين بالمسلمين.
حدّد روحاني هدفين لما بعد الأزمة النووية: الأول للداخل وهو «تنمية بلادنا وتحسين رفاهية الأمة»، والآخر للخارج وهو «إرساء الاستقرار والأمن في المنطقة». كان الأفضل أن يقتصر على الأول، فهو بالكاد يستطيعه، حتى مع عشرات مليارات الدولارات التي ستستعيدها إيران، وهي حقّ للشعب الإيراني في أي حال. أما بالنسبة إلى الخارج فبرهنت إيران ما تستطيعه من عبث وتخريب، ومن دعم للإجرام والاستبداد والإرهاب، ولا داعي للمزيد منها، فهذا ما تعرفه وما طبّقته على أرض الواقع، وقد أهّلها سلوكها للتأزيم والتخريب، أما أن تكون مؤهلة للمساهمة في الاستقرار فهذه قصة أخرى. ذهبت إلى مقارعة «الشيطان الأكبر» مشتهيةً اكتساب كل سيئاته، وانبرت إلى محاربة «المجرم الإسرائيلي» محققة كل أهدافه بل ماضيةً أبعد في تجسيد كل أحلامه السوداء ضد العرب، ولا نهاية حقيقية و «منطقية» لمغامرةٍ كهذه إلا بالتماهي مع هذين الشيطانين تطبيعاً ومصالح مشتركة.
إذا اعتُبرت عهود المحافظين الإيرانيين أسوأ ما عرفه العرب فإن عهود الإصلاحيين كانت أوقاتاً مستقطعةً لإضفاء مسحة من الجمالية الخادعة على ما يبيّته المتشددون. لكن حسن روحاني ليس محمد خاتمي الذي أنهى عهده منسجماً فعلاً مع ابتسامته وخطابه وهو يُحاسَب الآن عليهما. فخلافاً لخاتمي يبدو الرئيس الحالي أكثر تشبعاً بأفكار المرشد واقتناعاً بأهداف «عصابة الحُكم»، أي أنه إصلاحيٌ في ما يعني الداخل ومتشدد في ما يعني الخارج، يريد الداخل قوياً لتتمكّن إيران من الحفاظ على «مكاسبها» و»عربدتها» الخارجيتين اللتين سيتخذهما أدواتٍ في «البزنس» الاقتصادي والسياسي مع العالم. قد يُوجب حسن النية الأخذ في الاعتبار أن روحاني يسلك طريقاً طويلاً ولا يمكن الحكم على مراميه منذ الآن، إلا أن واقعيته تبطئ رهاناته الافتراضية أو المتخيّلة، والواقع الإيراني بالغ الوضوح في غلبة الميكيافيلية الإيديولوجية على أي عملية سياسية، وهيمنة السلاح على عمل الحكومة والمؤسسات، ووطأة «الحرس الثوري» واستخباراته على فاعلية القانون والقضاء. وإذا أضفنا سيطرة «الحرس» على جانب كبير من الاقتصاد، من خلال استثماره في «الاقتصاد المقاوم» (العقوبات)، فإن التنمية التي يتأهب لها روحاني لا بدّ أن تتكيّف مع هذا الواقع أيضاً. وبذلك تكون إصلاحيته في خدمة المحافظين وتشدّدهم.
مرّة أخرى، يبدو الرئيس الإيراني معذوراً، فالإدارة الأميركية ذاتها تفاوض الإصلاحيين وتلاطف المحافظين لأنهم عصب النظام وسلاحه وسياساته، ولم يُسجّل لها أنها أزعجت المتشدّدين في أي مغامراتهم العدوانية في المنطقة العربية. ومن يرصد مواقف واشنطن من أزمات الأعوام الخمسة الماضية يخرج بحصيلة مفادها بأن اميركا لم ترِ ولم تسمع بأي دور لإيران، لا في سورية ولا في العراق واليمن أو في لبنان والبحرين، ولا حتى في تأجيج الإرهاب. ومع أن باراك أوباما نسب لذاته «الحزم» في «التنديد» بـ «سلوك إيران المزعزع للاستقرار» إلا أن التنديد لم يشكل يوماً سياسةً يعتدّ بها، وهو لم يمنع تدخلات إيران واستمرارها. لكن أوباما حرص على الإشارة إلى انتهاكات حقوق الإنسان وبرنامج الصواريخ الباليستية، باعتبارهما مشكلتين لا تزالان قائمتين مع إيران، أما الصواريخ فطُوّرت في ظلّ العقوبات ورغماً عن أميركا، وأما حقوق الإنسان فغالباً ما تنساها أميركا حين تحصل على مصالحها.
إذا صحّ ما نُشر عن حلِّ النظام السوري للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، يكون ذلك تكريساً إجرائياً لواقع قائم منذ زمن بعيد، أولاً، واعترافاً من المدرسة البعثية بنهاية الطريق التي طال إنكارها.
والحال أن القيادة القومية للفرع السوري من «البعث» لم تعقد مؤتمراً لها منذ صيف 1980 أثناء الصراع بين حافظ الأسد وجماعة «الإخوان المسلمين»، عندما سعى الأسد إلى إضفاء بعد قومي على تمسكه بالسلطة في مواجهة معارضيه. انتهى الصراع بانتصار الأسد فانتهت عملياً الحاجة إلى الوظيفة المفترضة للقيادة القومية وبات في الإمكان تركيز الاهتمام على «القيادة القطرية» التي شكلت في مرحلة معينة حكومة موازية ذات سلطات واسعة همها الوحيد تطبيق سياسات حافظ الأسد الداخلية وابتكار صنوف جديدة من عبادة الشخصية وتبرير تسلط الأجهزة الأمنية ومركزة موارد البلاد ضمن قلة من أيدي الموالين.
ظلت القيادة القومية للبعث السوري اسماً بلا مسمى عقوداً عدة تقتصر مهمتها على توفير الغطاء الأيديولوجي لتدخلات نظام الأسد في لبنان والأردن وعلى الساحة الفلسطينية وغيرها. الخبر المنشور يوم أمس يقول، إذا ثبتت صحته، أن بشار الأسد أو من يقوم مقامه قد سئم من هذه اللعبة ولم يعد يجد فائدة لها بعدما أسقطت الثورة السورية كل أقنعته وخرافاته، من «علمانية النظام التقدمي» إلى «تحرير فلسطين» مروراً بالتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل...
بيد أن كل هذا يقع في عالم السياسات الواقعية التي قدّمها حكم الأسد الأب على الادعاءات الأيديولوجية، خصوصاً بعد تولي صلاح جديد وحافظ الأسد السلطة في انقلاب شباط (فبراير) 1966 وإبعاد مؤسس الحزب ومنظّره الأول ميشال عفلق. لم يتحمل العقل الأداتي لمجموعة جديد - الأسد عبء الأيديولوجيا على مشروعها السياسي. الموقع الهامشي الذي احتله عفلق بعد إرغامه على الرحيل عن سورية في الفرع العراقي من البعث يشير إلى أن عملية مشابهة كانت تجري في بغداد ما حمله على البقاء في ظل «القائد الضرورة» صدام حسين.
كرّس حكم حافظ الأسد وصدام حسين الطلاق الناجز بين الأيديولوجيا وبين السلطة كممارسة يومية. وكان الحكمان أقل حرجاً في التخلص من الحمل البعثي في جوانبه الداخلية والانتقال إلى نفعية صريحة عندما بدا أن شعارات رئيسة من شعارات الحزب («الحرية» ثم «الاشتراكية» مع الإبقاء على «الوحدة» التي لا تكلف شيئاً) راحت تحول دون إمساك حكام الدولتين وأفراد عائلاتهم بالجوانب المربحة من اقتصاد البلدين والاضطرار في المقابل، إلى الإنفاق على قطاعات التعليم والاستشفاء والنقل والخدمات العامة الخاسرة.
بيد أن هذا أصغر مشكلات البعث. ذلك أن الرؤية إلى العالم وإلى دور العرب وقدرتهم على الاتحاد في دولة واحدة متعددة «الأقطار»، التي جاء الحزب كنتاج لها وحامل لمشروعها في المنطقة، ظهرت كواحدة من أكثر الأيديولوجيات غربة عن الواقع وإنكاراً لحقائقه بل بداهاته البسيطة. هذه الحقائق التي تعرضت إلى التهميش لعقود تجمعت وتحولت إلى انهيار عريض جاء على شكل الثورات العربية التي أعادت طرح الأسئلة عن الدولة الوطنية والمجتمع والشعب والسلطة والجماعة والطائفة والدين. بكلمات ثانية، طرحت كل الأسئلة التي تهرّب البعث من نقاشها والتفكير الجدي فيها وقدم نفسه كحل عصري لمشكلة الأقليات والاجتماع السياسي وأنظمة الحكم والشرعية التي خلفها انحسار السلطنة العثمانية قبل مئة عام.
ومن مهازل حلّ قيادة الفرع السوري من القيادة القومية للبعث القول إن قانون الأحزاب السوري الجديد «يحظر وجود فروع خارجية» لأي حزب سوري. ما يجعل شعار «البعث طريقنا» (إلى الوحدة العربية) ذات وقع غرائبي.
إن العالم يقف مراقباً لإيران بحثاً عن أي مؤشرات تدل على وجود تغيير، لتتحول من كونها دولة مارقة وثورية إلى عضو محترم في المجتمع الدولي. إلا أن إيران عوضًا عن مواجهة العزلة التي تسببت في حدوثها لدولتها، لجأت إلى تعتيم سياساتها الطائفية والتوسعية الخطيرة، إضافة إلى دعمها للإرهاب، من خلال كيل الاتهامات للمملكة العربية السعودية بلا دليل يدعم هذه الاتهامات.
من الأهمية بمكان أن نفهم الأسباب التي دفعت المملكة العربية السعودية وحلفاءها من دول الخليج للالتزام بمقاومة التوسع الإيراني وانتهاج اُسلوب الرد القوي لمواجهة أي تحركات عدوانية تقوم بها إيران. فظاهرياً، قد يبدو وكأن هناك تغييرًا في إيران، فنحن نعلم بالخطوات الأولية التي اتخذتها إيران فيما يتعلق بموافقتها على وقف برنامجها النووي بهدف تطوير سلاح نووي. كما أننا وبكل تأكيد على يقين من أن شريحة كبيرة من الشعب الإيراني تسعى لتحقيق انفتاح أكبر على الصعيد الداخلي وتكوين علاقات أفضل مع دول الجوار ودول العالم، إلا أن الحكومة الإيرانية لا تريد ذلك.
إن نهج إيران كان ثابتاً منذ ثورتها عام 1979، حيث ينص دستورها على تصدير هذه الثورة، فعمدت إلى دعم الجماعات المتطرفة والعنيفة، بما في ذلك «حزب الله» في لبنان، و«الحوثيون» في اليمن والميليشيات الطائفية في العراق. كما أن إيران أو عملاءها متهمون بارتكاب الهجمات الإرهابية التي نفذت في العالم، بما فيها التفجيرات التي استهدفت ثكنات مشاة البحرية الأميركية في لبنان عام 1983، وأبراج الخبر في المملكة العربية السعودية عام 1996، والاغتيالات التي نفذت في مطعم «ميكونوس» في برلين عام 1992. وتشير بعض التقديرات إلى أن القوات التي تدعمها إيران قتلت ما يزيد على 1100 من
القوات الأميركية في العراق منذ عام 2003.
إضافة إلى ذلك فإن إيران تلجأ إلى استهداف المواقع الدبلوماسية لتستخدم ذلك كإحدى أدوات سياستها الخارجية، وما اقتحام إيران لمبنى السفارة الأميركية عام 1979 وسيطرتها عليه إلا بداية لهذا النهج، فمنذ ذلك الحين، تعرضت السفارة البريطانية، والدنماركية، والكويتية، والفرنسية، والروسية، والسعودية للهجوم سواء كان داخل إيران أو في الخارج على أيدي عملائها، كما تعرض الدبلوماسيون الأجانب والناشطون السياسيون المحليون لعمليات اغتيال في مختلف مناطق العالم.
كما يسعى حزب الله، عميل إيران في لبنان، للسيطرة على لبنان وشن الحرب ضد المعارضة السورية، ومن خلال ذلك يقوم بمساعدة تنظيم داعش على الازدهار.
ويتضح جليًا السبب الذي يدفع إيران للإبقاء على بشار الأسد في السلطة، حيث ذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية حول الاٍرهاب الذي صدر عام 2014 أن إيران ترى في سوريا «طريقًا مهمًا يمكنها من تزويد حزب الله بالسلاح»، بأن إيران تقدم السلاح والدعم المالي والتدريب بهدف «دعم نظام الأسد ليقوم بقمع وحشي ذهب ضحيته ما لا يقل عن 191 ألف شخص»، وذكر التقرير ذاته والصادر عام 2012 وجود «انتعاش واضح في التمويل الذي تقدمه إيران للإرهاب»، والذي اتضح من خلال زيادة في النشاط الإرهابي لحزب الله بحيث بلغ «درجة لم نعهدها منذ التسعينات».
كما نتج عن دعم إيران لانقلاب الحوثيين ضد الحكومة الشرعية في اليمن، اندلاع حرب أودت بحياة الآلاف. وفي حين تدعي إيران بأن أولوياتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية تتركز حول بناء الصداقة، نجد أن نهجها يبين أن العكس صحيح؛ فإيران هي أكثر دول المنطقة عدوانية، فتعكس أفعالها التزامها بتوجهها نحو السيطرة على المنطقة وقناعاتها المترسخة بأن الإقدام على أي بادرة ودية ما هو إلا مؤشر على الضعف، سواء كان ذلك ضعف إيران أو ضعف خصومها.
ومن هذا المنطلق، قامت إيران في العاشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) بعمل اختبارات للصواريخ الباليستية، أي في غضون بضعة أشهر من توقيعها للاتفاق النووي، مما يعد خرقًا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول)، أطلقت سفينة عسكرية إيرانية الصواريخ بالقرب من سفينة أميركية وفرقاطة فرنسية تعبر مياهًا دولية. كما أنه ومنذ أن تم توقيع الاتفاق النووي، قام المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي بدفاع مستميت عن الشعار الذي تردده إيران والذي ينادي بـ«الموت لأميركا».
إن السعودية لن تسمح لإيران بالعبث بأمننا، أو بأمن حلفائنا، وسنتصدى لكل المحاولات التي تسعى للعبث به وتهديده. وفي كذب سافر، تقوم إيران بتوجيه الإساءات والإهانة لكافة السعوديين بقولها أن موطني - موطن الحرمين الشريفين- يقوم بغسل أدمغة الشعوب ويعمل على نشر التطرّف. فلسنا نحن الدولة التي وصفت بأنها الراعية للإرهاب، بل هي إيران، ولسنا نحن من يخضع لعقوبات دولية بسبب دعمها للإرهاب، وإنما هي إيران.
ولسنا نحن الدولة التي يندرج أسماء مسؤوليها ضمن قوائم الإرهاب، بل هي إيران. لا يوجد لدينا عميل صدر بحقه حكم محكمة نيويورك الفيدرالية بالسجن 25 عامًا لضلوعه في التدبير لعملية اغتيال سفير في واشنطن عام 2011، بل هي إيران.
لقد كانت السعودية ضحية للإرهاب وللعمليات التي يقوم بها في الغالب حلفاء إيران. فدولتنا هي خط الدفاع الأول لمحاربة الإرهاب، وتعمل على مواجهته بالعمل الوثيق مع حلفائنا، كما قامت المملكة العربية السعودية بعمليات اعتقال للمتورطين في عمليات إرهابية كان عددهم بالآلاف، ونفذت القصاص في المئات منهم. ونحن مستمرون في محاربتنا للإرهاب، فها هي المملكة تقود جهودًا متعددة الجنسيات لملاحقة كل من يتورط في أنشطة إرهابية، ومن يقوم بتمويلها، وكل من يتبنى الفكر الذي يحرض على الإرهاب.
إلا أن السؤال الحقيقي هو ما إذا كانت إيران تريد العمل وفقًا لقوانين الأنظمة الدولية، أو تريد أن تبقى دولة ثورية تسعى للتوسع والاستخفاف بالقانون الدولي. ففي نهاية المطاف، نريد إيران تعمل على معالجة المشكلات بما يمكن الشعوب من العيش بسلام. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب حدوث تغييرات كبيرة في سياسة إيران ونهجها. وهو أمر ما زلنا في انتظار حدوثه.
تتسارع البيانات و تتضارب حول المفاوضات بين نظام الأسد و المعارضة السورية في جنيف في تاريخ تائه كحال الدول الفاعلة و المتصارعة في الملف السوري ، وباتت سوريا عبارة عن "بيضة القبان"في العلاقات الدولية ، فمن يستحوذ عليها سيكون من نصيبه أمور كثيرة .
وكما هي "بيضة قبان" هي معركة "كسر عظم" في ساحة لا ألم مباشر يلحق بالمتنافسين ، بل مجرد أذية شعور بسيط يتعلق بكبرياء هذه الدولة أو تلك ، و فالصاراع اليوم هو سياسي في الدول البعيدة ، ويتردد الصدى على الأرض ، بقصف و تدمير و ابادة منظمة ، وإنهاء أي إمكانية للحياة حتى في المستقبل البعيد المدى ، ما المفاوضات و الوفود المشاركة بها ، إلا حلقة في سلسلة الحرب الناعمة بين الدول و النارية على الشعب السوري.
فمنذ الأمس تحول الصراع التمهيد و المستبق للوفد إلى صراع حقيقي وسط خلافات ليست عميقة بل هي "عقيمة" لا حل لها ، سيما مع الاعلان عن وفد المعارضة التي اجتمعت في الرياض ، فجاءت الأسماء الرئيسية كـ"صفعة" صامتة لروسيا التي بقيت طوال الأيام الماضية تتحدث عن وجوب السماع لطلباتها و تنفيذيها و اقحام عناصر داخل الوفد كـ"قنابل موقوتة" ، وكذلك مكون اضافي غير متجانس لتزيد من ضعضعة الوفد الذي سيواجه النظام في جنيف .
وجهت انتقادات كثيرة لوفد المعارضة ، و أبرزها أن رئيس الوفد و كبير المفاوضين إضافة لثلاثة أعضاء آخرين من أصل ١٦ هم من الجناح المسلح للمعارضة ، واعتبر البعض أن هذا دليل ضعف لدى المعارضة كونها لاتملك فريقاً سياسياً ، لذلك لجأت إلى العسكر ، و إن كان هذا النقد ليس بمكانه سيما مع اليقين التام أن الفعالية في المعارضة السورية سواء في القول أو الفعل تعود للثوار على الأرض ، و هم القادرين على الالتزام من عدمه ، و ما المعارضة الخارجية إلا ممثل شكلي ، إذ أن من بين أبرز أخطاء المعارضة السورية هو اتخاذها شكل دولة ، خارج الأرض ، و كان من الأجدر الاكتفاء بلعب دور "وزارة الخارجية" دون أن تحمل مسميات كبيرة و غير واقعية كـ"ائتلاف" أو "حكومة مؤقتة".
الوفد المشكل لتمثيل المعارضة كان معروف حجم الرد الروسي عليه ، والرفض التام له من قبلها ، سيما أن الممثل عن الفصائل كان من الفصيل الذي اغتيل قائده بتوصية روسية ، والرئيس يعبر بشكل أو بآخر عن جبهة قد تكون الأهم في مسألة الحسم "الجبهة الجنوبية" ، لذا يعتبر اعتماد الوفد بهذه الأسماء و على هذا الشكل هو الرد من المعارضة مجتمعة على روسيا ، التي يبدو أنها ستضع كل ثقلها لإنهاء أي مفاوضات قبل أن تولد ، و هذا التهديد قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام ثلاث ، بأن المفاوضات ستكون هذا الشهر و في "دمشق" ، أي في حال عدم الالتزام بشروط روسيا فسيتم مسح جنيف من المفاوضات و استعاضتها بـ"دمشق" وتم تحضير ١٥ اسماً هم بالأصل موجودون في دمشق أو يمكن حضورهم بأي حال ، لنتابع تكراراً لسيناريو مفاوضات موسكو ١ و ٢ و كذلك مفاوضات أخرى جرت في كازاخستان ، عندما اجتمع النظام مع نفسه و خرج بوثيقة تثبته ، و لكنها لم تلزم أياً كان حتى موقعيها .
ومع اعتبار أن وفد المعارضة الذي أعلن عنه رياض حجاب ، المنسق العام للهيئة العليا للتفاوض،هو "صفعة" فعلية و ليست رد سياسي كلامي على تصرفات روسيا ، ينتظر أن تتوالى الصفعات برفض الدخول في المفاوضات قبل تحقيق بنود ما أسماها قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤ (وقف اطلاق النار، فك حصار المدن ، اطلاق سراح المعتقلين) ، إضافة لعمل ميداني متوازٍ يكون فعال و مؤلم ، كي تعطي الصفعات فاعلية .
كم هم سخفاء وكاذبون أولئك «الممانعون والمقاومون» المزعومون الذين صدعوا رؤوسنا منذ بداية الثورة السورية وهم يتحدثون عن أن المتآمرين على سوريا يريدون أن ينقلوها من محور المقاومة إلى محور التبعية لأمريكا وإسرائيل. وبناء على ذلك راحوا يصورون الصراع في سوريا على أنه بين أمريكا وأتباعها من جهة، وروسيا وما يسمى «حلف الممانعة» من جهة أخرى. ألم يصبح هذا الكلام ضرباً من الهراء بعد أن بات الروس والإسرائيليون ينسقون عملياتهم في سوريا من غرفة عمليات واحدة، حتى بالتعاون مع النظام وحلفائه «الممانعين».
لا أدري لماذا يصر القومجيون والناصرجيون والمقاومجيون العرب وبقايا اليسار الهزيل على تصوير الصراع في سوريا على أنه صراع بين الشرق والغرب، كما لو أننا في ستينات القرن الماضي حيث كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا في أوجها. صحيح أن الرئيس الروسي يحاول استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي البائدة بعقلية وأيديولوجية ومعطيات جديدة، لكنه ليس أبداً في وارد التصادم مع أمريكا في الشرق الأوسط. ولا نصدق أيضاً أن الروس يملؤون الفراغ الذي بدأت تتركه أمريكا في المنطقة، كما لو أن الأمريكيين انهزموا أمام الزحف الروسي.
لا علاقة للتدخل الروسي السافر في سوريا أبداً بضعف الجبروت الأمريكي، ولا بصعود الجبروت الروسي، بل الأمر برمته مرتبط بمصالح إسرائيل في سوريا خصوصاً والمنطقة عموماً، وطبعاً بمصالح أمريكا وروسيا المشتركة. فلا يمكن لروسيا مثلاً أن تدخل الساحة المصرية بهذه القوة لولا المباركة الإسرائيلية وبالتالي الأمريكية، فمصر مازالت في الجيب الأمريكي سياسياً وعسكرياً، ومازالت تعتاش في جزء من ميزانيتها العسكرية على المعونة الأمريكية. ولو كان النفوذ الروسي سيؤثر على النفوذ الأمريكي في مصر لما تجرأ بوتين أن يلقي السلام على المصريين. لاحظوا أيضاً كيف أن الأردن بات ينسق مع روسيا أكثر مما ينسق مع أمريكا. هل كان ليجرؤ على ذلك لولا الضوء الأخضر الإسرائيلي والأمريكي؟
ولو عدنا إلى الساحة السورية، لرأينا التدخل الروسي قد حدث بعد مداولات إسرائيلية روسية على أعلى المستويات السياسية والعسكرية والاستخباراتية. لقد التقى بوتين ونتنياهو مرتين خلال أسبوعين قبل التدخل الروسي. وقد اعترف وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق جوزيف ليبرمان بأن التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا يجري على مدار الساعة سبعة أيام في الأسبوع.
حتى الأطفال الصغار يعلمون أن من يحدد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عموماً هي إسرائيل وليس وزارة الخارجية الأمريكية. وإذا كانت تل أبيب هي من ترسم السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، فمن الطبيعي أن تكون أمريكا راضية تماماً عن التدخل الروسي في سوريا عندما يكون بمباركة وبضوء أخضر إسرائيلي.
إذاً من العيب أن نسمع بعض السوريين واللبنانيين والإيرانيين المؤيدين للنظام السوري وهم يتفاخرون بالدور الروسي في سوريا كما لو كان في مواجهة الدور الإسرائيلي أو الأمريكي. ما أسخفهم عندما يقولون إن روسيا جاءت لتطهير سوريا من الإرهابيين المدعومين أمريكياً وإعادة الاستقرار إليها، كما لو كانت روسيا جمعية خيرية لمساعدة المحتاجين. ليس هناك ما يثبت أن روسيا تصارع الأمريكيين في سوريا. وفي أحسن الأحوال ربما تكون عملية تقاسم مصالح بين الروس والأمريكيين، إن لم نقل إن الروس يسمسرون للأمريكان في سوريا، كما فعلوا من قبل عندما ضغطوا على القيادة السورية لتسليم سلاحها الكيماوي الاستراتيجي نزولاً عند رغبة إسرائيل وأمريكا. من يجرد سوريا من سلاحها الاستراتيجي لصالح إسرائيل لا شك أنه أقرب لإسرائيل منه إلى النظام السوري. وعلى المطبلين والمزمرين للتدخل الروسي في سوريا أن يتذكروا «اتفاق كيري-لافروف» الذي وصفه البعض وقتها بأنه بمثابة «سايكس-بيكو» جديد وربما أخطر، على صعيد تقاسم النفوذ والثروات وتمزيق المنطقة بين الأمريكيين والروس. وقد اعترف السيناتور الأمريكي الشهير ليندسي غرايام في استجوابه الشهير لوزير الدفاع الأمريكي قبل فترة بأن أمريكا باعت سوريا برضاها لروسيا وإيران ضمن لعبة تبادل المصالح.
إذاً: مهما تبجح جماعة الممانعة والمقاومة بعلاقتهم وتحالفهم الاستراتيجي مع روسيا، فمن المعروف أن التحالف الروسي الإسرائيلي يبقى أقوى بعشرات المرات لأسباب كثيرة. فلا ننسى أن اليهود الروس الذين يزيد عددهم على المليون في إسرائيل هم من يحرك السياسة الإسرائيلية، وهم على ارتباط وثيق بروسيا. وكلنا يتذكر صورة الرئيس الروسي بوتين وهو يرتدي القلنسوة اليهودية وهو يزور موقع حفريات «الهيكل» تحت المسجد الأقصى، ويبارك الحفريات التي ستهدم ثالث الحرمين الشريفين في يوم من الأيام.
دعونا نوّصف الأمر بلغة الناس البسطاء لمن يرفض التوصيف آنف الذكر. روسيا، كما تبين الإحصائيات الدولية، ليست أقوى من أمريكا، وهي، في مقاييس القوى الدولية، مجرد دولة إقليمية وليست عظمى حسب ناتجها المحلي الذي لا يصل إلى ناتج أضعف الدول الأوربية، ناهيك عن أنها مازالت تعتمد إلى حد كبير على تصدير النفط والغاز. صحيح أن لديها قوة عسكرية وترسانة هائلة، لكن هذا لا يؤهلها وحده لتكون منافساً خطيراً لأمريكا. وبالتالي فإن ما تفعله روسيا في سوريا وغيرها لا بد أن يكون برضى أمريكا الأقوى منها. وعندما لا يرضى الكبير عن الصغير يستطيع أن يوقفه بصفعة بسيطة، أو بفركة أذن. ولو لم تكن أفعال روسيا في سوريا تروق للكبير الأمريكي، لما تجرأت روسيا أصلاً أن ترسل طائرة ورق إلى سوريا.
إن كل من يتحدث عن صراع روسي أمريكي على سوريا، كما كان الأمر أيام الحرب الباردة، فهو يهرف بما لا يعرف.
ولو أرادت أمريكا أن تعرقل التدخل الروسي في سوريا لأعطت المعارضين السوريين خمسة صواريخ مضادة للطائرات فقط لإسقاط الطائرات الروسية في الأجواء السورية، فذهبت هيبة روسيا أدراج الرياح، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى مهزلة دولية. صحيح أن وثيقة الأمن القومي الروسي الأخيرة تصف أمريكا وحلف الناتو بأنهما أكبر خطر على روسيا، لكن عندما يتعلق الأمر بسوريا، فإن الروس والإسرائيليين والأمريكان على قلب رجل واحد.
كانت الأنظمة الإرهابية باختلافِ مسمياتها و مفرداتها و الشعارات التي ترفعها أنظمةً وظيفيةً لأجهزة مخابراتٍ عالميةٍ هي من صنعها و ضخّمها و حماها .
انطلاقاً من الأنظمة الظالمة والمستبدة التي تم إسقاطها أو الجاري إسقاطها , وعلى رأسها نظام الأسد الطائفي الإجرامي, وصولا لنظامِ البغدادي وفكره المتطرف , الذي صوّر على أنه الفكر الإسلامي ،
مع ملاحظة أن الأخير أدى خدمة إضافية عظيمة وهي ربط اسم الإسلام بالإرهاب.
وبقي هذا الربط ( بين الإسلام والإرهاب ) شبه قائم إلى أن أتت الثورة السورية المباركة لتكشف للعالم عِوَر هذا الفكر وانسلاخه عن الإسلام .
وكان أحد أهم عوامل فك الإرتباط بين الإسلام والإرهاب هو ظهور بعض الفصائل والتشكيلات العسكرية من عموم المسلمين وعامّتهم حاربت إرهاب الأسد بداية ،فحاول الغرب والأسد استغلال بعض الخطابات التي وجهت لمقاتلين مسلمين يدخلون إلى معارك ضد النظام حملت طابعا دينيا ،وتم تجييرها باتجاه معين وهو إطلاق اسم إسلاميين على بعض هذه الفصائل وخاصة الكبيرة منها .
طبعا كانت الغاية إلصاق تهمة الإرهاب بها من خلال هذا الاسم وربطها بداعش وغيرها من أصحاب الإيديولجيات المصنعة المتطرفة ، لكن هذه الفصائل المسلمة والتي حاربت إرهاب الأسد أثبتت للعالم الهوة الحقيقة بين المعنى الحقيقي للإسلام والفكر الإرهابي المتطرف بكل أشكاله فكانت أول من حارب إرهاب داعش حتى قبل أن تحاربه الدول الغربية وأثخنت فيه أكثر مما أثخنوا
فوجد الأسد وحلفاؤه أنفسهم في ورطةٍ أكبرَ وهي ورطةٌ قد تهدم كل ماتم إنجازه سابقامن مكتسبات في الحرب على الإسلام ، وهو فك الارتباط الذهني الذي تكون سابقاً بين مصطلح (الإسلامي ) والفكر الإرهابي المتطرف .
فأصبح هناك تميبز عالمي بين داعش وبين الفصائل (التي أطلق عليها إسلامية) والتي حاربت داعش كما حاربت الأسد ،وهدمت فصائل الثورة السورية بوعيها وفهمها لدينها كل مابنته الأنظمة العالمية خلال عقود .
فلم يكن من هذه الأنظمة , والتي استلمت روسيا قيادتها في هذه المرحلة , كما هو واضح للجميع من بدٍّ إلا أن تخرج تصنيفاتٍ جديدة تستطيع من خلالها إدراج الثورة السورية كاملةً على قائمة الإرهاب.
ولكن يبقى الهدف الأهم لهذه الأنظمة وهو أن يتم تسويق الإسلام كإرهاب.
لذلك فإن الأهم هو طرح تصنيف الفصائل الإسلامية قبل غيرها، وهذا ماكان بطرحهم تصنيف جيش الإسلام وحركة أحرار الشام .
شهدت التحركات الروسية في الأيام القليلة الماضية ، حالة من ترتيب أوراق الجرائم في سوريا ، تمهيداً لتقديم اللائحة النهائية لقائمة المجازر و الكوارث التي تسببت بها في سوريا طوال أكثر من مئة يوم ، لضمها إلى ملف جرائم نظام الأسد ، و تخرج هي و جنودها و ساستها براءة ، ومن الممكن أن تحصل على مكافئة من الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي على انجازاتها في سوريا .
ولم يكن التدخل الروسي رد فعل من النوع الغير مدروس ، و ليس لطياريها و ضباطها أن لا يكون عليهم قيود في استخدام ما يشاؤن من الاسلحة و تنفيذ الجرائم بكل أريحية بدون أي خوف من محاسبة ، لولا الحصانة التي تم منحهم اياها من قبل نظام الأسد ، الذي رضي أن يكون المجرم الوحيد في جريمة العصر أو جريمة البشرية ، والتي من أثارها ازالة سوريا و شعبها عن الخارطة . و احتفلت اليوم روسيا بتمدد اتفاقية بقائها في سوريا إلى ما لانهاية ، اتفاقية لم يمضي على توقيعها خمسة شهور ، لكن تم العودة إليها من جديد ، ليس بغاية فتح المجال أمام الوقت ، بل لهدف اعلانها على الملئ ، و ضمها إلى ملف البراءة الروسية من دمار السوريين ، وتعبيد الطريق للمزيد من الجرائم ، و إن كانت تحمل في مضمونها أيضاً ترهيباً للثوار مفاده "أني سأقتل المزيد و أكثر و لن تستطيع أحد ردعي و لن يكون لأي كان محاسبتي".
الاتفاقية التي وقعت في ٢٦ آب العام المنصرم و قبل شهر و بضع أيام على اعلان بدء العدوان الروسي على سوريا ، تتضمن نص مريب لم يكن ظاهر للعلن حينها (وان صح التعبير لم ينتبه له أحد كون القضية كانت التدخل في حد ذاته و ليس تفاصيله) ، ولكن الكريملين أكمل الخطة بنشره للاتفاق و التركيز على نقطة أن" روسيا لا تتحمل لا تتحمل مسؤولية أي أضرار تحدث بسبب عمليات القوات الروسية أو تواجدها. وأن "الحكومة السورية مسؤولة عن أي تعويضات بسبب تدخل القوة الجوية الروسية في سوريا أو تنتج عن الخلافات لأي جهة ثالثة”، النقطة التي ستكون النافذة الذهبية للهروب من أي تهمة قد تلاحق الروس عسكر كانوا أم ساسة ، جنوداً أو ضباط ، و إنما المسؤول الوحيد عن كل ما يحدث هو "الأسد" وحده و لا أحد غيره.
الاعلان عن تمديد اتفاقية سارية بالأساس ، لم يكن منفرداً ، إذا ارتبط بتصرفات تشي بأن روسيا ليست برئة من الناحية القانونية فحسب ، و لامن الناحية الفعلية أيضاً ، فتكريم سهيل الحسن الملقب بـ"النمر" على شجعاته الخلبية ليكون أن المجرمون هم قوات الأسد على الأرض و هذا أبرزهم ، و الاعلان بالأمس عن قيام مقاتلات تابعة للنظام بالتحليق مع نظريتها الروسية و تقديم التغطية النارية خلال تنفيذ عملياتها في ضرب "الارهابيين" أي العمليات تتم بحضور و توجيه من طائرات النظام ، و كذلك التسريبات عن حصول حزب الله عن أسلحة روسية بالمجان و تقديم عناصر الحزب الاحداثيات للطيران الروسي ليكون هو الآخر حاضراً في حال اضطرت روسيا لحرقه عند اتمام الصفقة الدولية ، وسبق هذا كله أن تصريحات روسيا في بداية العدوان أن الأهداف يتم قصفها بناء على معلومات استخباراتية يقدمها النظام ، و هذا كله يمثل الملف الدفاعي الذي ستدفع به روسيا في حال حصول أي محاكمة في المستقبل ، لتيقنها أن ما فعلته و تفعله في سوريا جرائم تتجاوز جرائم الحرب ، و يمكن أن يكون لها وصف واحد جرائم "القذارة الروسية".
هذا الاعداد المدروس لملف الدفاعي الاستباقي منح روسيا قوة في "فجورها" السياسي ، لتهاجم الجميع دون أدنى احترام للأعراف الدبلوماسية ، ما قالته اليوم المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية بحق تركيا ، التي اتهمت روسيا كثيراً باستهداف المدنيين ، بأنها تنتهج "اسلوب قذر" ، يدل على مدى "العهر" الاخلاقي و السياسي و طبعا العسكري الذي وصلت له روسيا . روسيا اليوم لاتواجه شعباً مكلوماً لا يجد من يناصره ، و إنما تواجه العالم أجمع ، وتتسابق أمامهم بـ"فجورها" في عرض تقول فيه "لست قذرة .. وإنما شيء لن تجدوا له اسماً آخراً إلا روسيا الاتحادية".
باستحياء وبمواربة واضحة اعترف وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأن هناك فعلاً «ورقة» أميركية تتضمن اقتراحًا ببقاء بشار الأسد رئيسًا لسوريا حتى بدايات عام 2017، وهذا يعني أن هناك ترتيبات تم الاتفاق عليها، من دون معرفة الأطراف المعنية الأخرى بشأن الأزمة السورية، بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وهذا يفسِّر معنى ابتعاد الأميركيين والنأي بأنفسهم عن هذه القضية وإفساح المجال للروس، ليفعلوا ما يشاءون، وليتركوا «داعش» وشأنه، ويستهدفوا عسكريًّا حتى المعارضة (المعتدلة) وحتى المواطنين السوريين الذين لا حول لهم ولا قوة.
ربما أن هناك ما يبرر انكفاء الإدارة الأميركية وانسحابها تسللاً من جهود ومحاولات إيجاد حل معقول ومقبول للقضية الفلسطينية، فالفترة فترة انتخابات رئاسية، والرئيس الأميركي باراك أوباما أثبت خلال ولايته الأولى، وما مضى من ولايته الثانية، أنه أضعف رئيس أميركي ولج أبواب البيت الأبيض، وأنه لا يملك القدرة وربما ولا الرغبة لمواجهة لا هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية ولا مجموعات الضغط الصهيونية وفي مقدمتها الـ«أيباك» التي لها تأثير رئيسي في صنع قرارات واشنطن المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.
أما أن ينكفئ الأميركيون على هذا النحو ويتركوا أكثر ساحات الشرق الأوسط خطورة والتهابًا للروس ليفعلوا فيها ما يشاءون، وليصوغوا معادلة عسكرية وسياسية.. واقتصادية تضمن بقاءهم في الشرق الأوسط ربما لقرن بأكمله، فإن هذا يدل على أنهم فعلاً قد نقلوا اهتمامهم إلى الشرق الأقصى، وإلى أميركا اللاتينية وغرب أفريقيا، أو أنهم في عهد هذه الإدارة المترددة لم يجدوا أن هناك ما يعيبهم في أن يرفعوا أيديهم عاليًا استسلامًا للرئيس فلاديمير بوتين، واعترافًا بأن وضعية القطب الدولي الأوحد قد ولت بلا رجعة، وأن روسيا قد استعادت مكانتها السابقة إنْ في عهد الاتحاد السوفياتي، وإنْ في عهد الإمبراطورية القيصرية عندما كانت في ذروة تألقها.
والغريب أن هذه الإدارة الأميركية، التي تتصرف بأسلوب وبطريقة من يضع كفيه فوق عينيه ليس حتى لا يراه الآخرون، لكن حتى لا يرى هو الآخرين، قد بقيت تتصرف تجاه هذه الأزمة السورية المستفحلة وهي تخبئ ورقتها الآنفة الذكر عمن من المفترض أنهم حلفاؤها، كأنها لم تسمع تأكيد فلاديمير بوتين على أن بشار الأسد سوف يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة، مما يعني أن روسيا باتت تطارد وتلعب في هذا الميدان وحدها، وأنها لم تعد معنية حتى بمجاملة دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهذا في حقيقة الأمر تتحمل مسؤوليته إدارة الرئيس باراك أوباما التي بقيت تتراجع خلال الأعوام الأربعة الماضية، بالنسبة للأوضاع الملتهبة في سوريا، خطوة بعد خطوة، وإلى أن أصبحت الأمور على ما هي عليه الآن، وغدت سوريا مستعمرة روسية يفعل فيها الروس ما يحلو لهم وما يشاءون.
حتى بالنسبة لمحادثات ومفاوضات الخامس والعشرين من هذا الشهر، بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد، فإن الغياب الأميركي واضح وضوح الشمس، واللافت أن هذا الغياب الأميركي يكمله غياب أوروبي، مما يعني أن الأوروبيين، بعد ضربات «داعش» الأخيرة في باريس، قد تسلموا رسالة الفاعلين، وفضّلوا الابتعاد عن هذه الدائرة الملتهبة وترك قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين ليفعل في الشرق الأوسط ما يشاء وما يحلو له. وهكذا فلربما أن اجتماع جنيف الآنف الذكر لن ينعقد نهائيًا ما دام الروس يعتقدون أنهم قد ضمنوا بقاء بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى أبريل (نيسان) العام المقبل 2017، وفقًا للورقة الأميركية التي يخبئها جون كيري في جيبه، ولم يطلع عليها حتى حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، وما دام رئيس النظام السوري قد أعلن سلفًا ومنذ فترة سابقة بعيدة أن كل تنظيمات المعارضة المسلحة تنظيمات إرهابية، وأنه لا يمكن أن يفاوض أي قوى إرهابية، ولهذا فإن المعروف أنه اشترط أن يعرف سلفًا ومسبقًا أسماء أعضاء وفد المعارضة المفاوض، وأن يتسلم قائمة بأسماء الفصائل التي جرى تصنيفها على أنها تنظيمات إرهابية.
ثم وباستثناء تصريحين متضادين؛ الأول اعتبر أن أحكام القصاص التي أصدرتها المحاكم السعودية ضد 47 إرهابيًا ستؤدي إلى «توترات طائفية»، والثاني وصف إيران بأنها دولة راعية للإرهاب، فإن الملاحظ أن الولايات المتحدة قد حرصت على ألا تتعاطى مع هذا التطور الخطير المتمثل في الاعتداءات الإجرامية السافرة على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد بالجدية المتوقعة، وهذا مع أن المفترض أنها تدرك وتعرف أنَّ أي خطأ في الحسابات وتحديدًا من قبل دولة الولي الفقيه التي تتنازع اتخاذ القرارات فيها مراكز قوى متعددة وكثيرة قد يؤدي إلى اشتعال المنطقة كلها بحرب جديدة ستكون وبالتأكيد، إنْ هي اندلعت، أخطر وأسوأ الحروب المحتدمة الآن!
إن الخطير في هذا كله هو أن انكفاء الولايات المتحدة وابتعادها عن كل هذه القضايا الملتهبة في الشرق الأوسط قد ترتب عليه أن روسيا قد أصبحت ليس رقمًا رئيسيًا، وإنما الرقم الرئيسي في معادلة هذه المنطقة، مما يعني تكريس بشار الأسد ليس لولاية جديدة، بل لولايات متعددة جديدة، وأيضًا تكريس هذا الوضع القائم في العراق وليبيا، وبالطبع في إيران، مما يعني مزيدًا من تجذير الإرهاب؛ «داعش»، و«القاعدة»، و«النصرة» في هذه المنطقة، إذ إن العنف الروسي الذي يستهدف المسلمين السنة في سوريا وتركيا وغيرهما سيؤدي حتمًا إلى تعاظم وطأة هذه التنظيمات الإرهابية، بل وإلى ظهور تنظيمات وتشكيلات متطرفة جديدة، وهنا فإن المشكلة التي يجب أن يفهمها الأميركيون هي أن هناك من بات ينظر إلى الحرب التي تشنها روسيا على الشعب السوري وعلى الشعب التركي على أنها حرب مسيحية ضد الإسلام، وأن فلاديمير بوتين يقود تحالفًا مذهبيًا وطائفيًا ضد الأكثرية المسلمة في هذه المنطقة الملتهبة التي من المنتظر أنها ستزداد التهابًا إنْ قريبًا وإن على المدى الأبعد!
كان على الولايات المتحدة أن تدرك وقبل فوات الأوان أن بقاء بشار الأسد، وأن انفراد فلاديمير بوتين بسوريا.. وبالتالي بالمنطقة، سيؤديان حتمًا إلى مزيد من التوتر المذهبي والطائفي في هذه المنطقة، وبخاصة أن هناك ذلك التحالف الذي يعد نفسه منتصرًا الذي يضم روسيا وإيران، وهذا النظام السوري البائس وأيضًا هذه «التركيبة» التي تحكم العراق بإشراف حراس الثورة والجنرال قاسم سليماني، وهذا يعني أن الأميركيين قد ارتكبوا خطأً فادحًا وقاتلاً عندما بادروا إلى الانكفاء، وترك هذه المنطقة الحساسة لهذا التحالف الذي بتصرفاته وممارساته واستهدافه للأغلبية السنية سيؤدي حتمًا إلى انتعاش «داعش»، و«القاعدة»، بل وإلى ظهور كثير من التنظيمات الإرهابية الجديدة.
إنه لا يمكن أن تكون مواجهة «داعش» و«القاعدة» مثمرة ومجدية إذا بقي هذا الحلف الآنف الذكر يستهدف السنة العرب والسنة الأتراك، وإذا بقيت الولايات المتحدة مصرة على حالة الانكفاء التي تعيشها الآن، كأنه لم يعد لها هم إلا تلك الورقة التي يحتفظ بها جون كيري في جيبه التي تنص على بقاء بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى بدايات العام المقبل 2017.. إن الحرب الحقيقية على هذه التنظيمات الإرهابية تستدعي وضع حدٍّ لكل هذه التوترات الطائفية المتصاعدة والمتعاظمة، بسبب الاحتلال العسكري الروسي لهذا البلد العربي، وبسبب التدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية العربية، وبسبب كل هذه الممارسات المذهبية البغيضة إنْ في العراق وإنْ في سوريا وإنْ في اليمن وإنْ في لبنان.
مرة أخرى نقول إن انكفاء الولايات المتحدة وانسحابها من شؤون هذه المنطقة وشجونها قد عزز «التغول» الروسي في الشرق الأوسط كله، وقد فتح المجال واسعًا أمام هذا التحالف الطائفي الذي تقوده روسيا والذي يضم إيران، والعراق وسوريا بوضعهما الحالي، وهذا يعني ومرة أخرى مزيدًا من انتعاش «داعش» و«القاعدة»، ومزيدًا من ظهور تنظيمات إرهابية جديدة.
الحواجز والأعلام تتواتر بين خضراء وسوداء وصفراء وحمراء وبيضاء وهي أعلام لم يحفظها بعد كل السوريين ولكن التمييز بينها هو وسيلة النجاة الوحيدة.
تنطلق السيارة من مدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، متجهة إلى العاصمة دمشق، وتمر بسلسلة من الطرق والدروب المليئة بالمغامرات أحيانا وبالكثير من المخاطر أحيانا أخرى، وتجتاز مناطق تخضع لسيطرة قوى عسكرية مختلفة، يعرفها الركاب من شكل ولون العلم المرفوع على الحواجز وعلى الأبنية الحكومية وكثير من الجدران غير الحكومية، وتلك الأعلام هي شكل من أشكال إفرازات الحرب السورية.
يحاول ركّاب السيارة التأقلم مع كل منطقة وفقا لأيديولوجيا حاكميها، فخلال مسافة مئة كيلو متر تعبر السيارة العديد من البلدات التي تتموضع بينها حواجز عسكرية و”دشم” لحمايتها من مقاتلي البلدة التي سبقتها، والتي تليها، ويرتفع على كل حاجز علم يدلّ على القوة العسكرية التي تسيطر عليها والتي على الركاب تحضير أنفسهم للتعامل بما يرضي المقاتلين على تلك الحواجز ويضمن سلامة مرور السيارة.
في أحياء الحسكة تتموضع حواجز لقوات النظام، وأخرى لميليشيات كردية تحمل اسم وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، في الأولى يرتفع العلم السوري الرسمي بنجومه الخضراء، وفي الثانية يرتفع علم وحدات الحماية الكردية بنجمته الحمراء وحروفه الثلاثة الدالة على اسم الحزب، أو علم قوات الأسايش الكردية الأزرق الذي يتوسطه نسر تحيط به ورقتا غار، وأحيانا أخرى يرتفع دون مُبرّر علم (كردستان) بشمسه الصفراء وألوانه الثلاثة، على الرغم من أن كل أكراد سوريا يدّعون أنهم غير انفصاليين وسيبقون جزءا من الدولة السورية.
بعد ذلك يقابل الركاب حواجز لقوات مسيحية آشورية (السوتورو) أو مكتب الحماية السرياني، ترفع علما يتوسطه نسر أزرق وذهبي وأسفله كلمات بالسريانية، أو ترفع العلم السرياني الأبيض الذي تتوسطه شمس الإله (شمشا) الزرقاء وتنطلق منها أربعة أشعة متصالبة ملونة.
بين الحسكة وحلب تتموضع حواجز عديدة لتنظيم الدولة الإسلامية، ترتفع عليها الأعلام السوداء وعليها البسملة باللون الأبيض ومحمد رسول الله ضمن دائرة بيضاء، والتي باتت ماركة مسجّلة لكل التنظيمات المتشددة.
ومن أطراف حلب إلى أطراف حمص تتتالى حواجز الكتائب الثورية المسلحة المعارضة، يرتفع على بعضها علم الجيش الحر بنجومه الحمراء وخطوطه الخضراء، أو أعلام الفصائل المسلحة الإسلامية، كعلم أحرار الشام والجبهة الإسلامية وغيرها.
بين هذا وذاك تتموضع حواجز لجبهة النصرة، وهي ترفع للتأكيد على هويتها علم القاعدة المعروف بلونه الأسود ووسطه الشهادة باللون الأبيض وللتمييز يوضع اسم الجبهة أسفله، وفي القلمون قبيل دمشق يصادف الركاب حواجز لميليشيات حزب الله اللبناني، وهي ترفع بفخر علم الحزب.
على حواجز النظام التي ترفع العلم السوري الرسمي يصمت ركاب السيارة، ينظرون لصور الرئيس وأسرته بابتسامة ظاهرة، ويتجنبون التدقيق في بعض العبارات الطائفية المؤيدة للنظام، ثم يُقدّمون بهدوء بطاقاتهم الشخصية للشخص الواقف على الحاجز، وهم على استعداد للتنازل عن أي شيء يُعجبه موضوع في صندوق السيارة، بل وسيشكرونه على أخذه.
وعلى الحواجز الكردية يطلب المقاتل من أصحاب السيارة الوقوف، وينظر الجميع له وهو يستهزئ بالعرب والعروبة، ويجاملونه بشتم البعث، ويُجهدون ذاكرتهم لتذكّر كلمة كردية يحيّونه بها، عسى أن تكون جواز مرور لهم. على حواجز تنظيم الدولة الإسلامية، تسارع السيدة لوضع نقاب يحجب وجهها، ويحضّر الزوج ما يُثبت أنها قرينته على سنّة الله ورسوله، ويتحضّر الجميع لرد التحية على (الأخ) أو (الحاج) بطريقة إسلامية، ويُجهّزون أنفسهم لمدح التنظيم والتزامه الديني بل وتشدده وقسوته ضد هذا الشعب “الكافر”، والجميع ينتظر لحظة إعلان هذا المقاتل براءتهم من الزندقة ليُكملوا طريقهم.
أما على حواجز الكتائب الثورية المسلحة فالأمر أسهل، وشد الأعصاب أقل، فالمطلوب التأكد بأن ركاب السيارة ليسوا من أنصار الأسد ونظامه، ولا يحملون أسلحة.
يعود القلق من جديد عندما تصل السيارة لحواجز جبهة النصرة، فهؤلاء سلفيون متشددون، لدرجة أن البعض صدّق بأنهم سيسألون العابرين عن عدد الركعات وعن بعض السور القرآنية وأسباب نزولها، لكن لا مجال للمزاح هنا، فالمطلوب رمي السجائر قبل الوصول للحاجز بمسافة، وإطفاء الراديو، ومن الضروري أن ينزع الراكب أي ساعة أو سوار يُزيّن به معصمه، وتضع السيدة حجابها، ويُقطّب الجميع حواجبهم للدلالة على أنهم منزعجون من تفاهة المجتمع وانجرافه نحو ملذات الحياة، وهو ما سيُسهّل المرور.
يستمر هذا القلق على حواجز حزب الله، وفي غالبيتها ترفع إلى جانب الأعلام شعارات طائفية لم يعرفها الشيعة السوريون من قبل، ويتحضر الجميع لسماع إهانة أو مصادرة شيء ما يثير إعجاب ذاك المقاتل.
تتواتر الحواجز والأعلام، بين خضراء وسوداء وصفراء وحمراء وبيضاء، أعلام لم يحفظها بعد كل السوريين، ويحفظها عن ظهر قلب كل من تضطرّه حياته للمرور المتكرر بينها، فالتمييز بينها هو وسيلة النجاة الوحيدة، وحسن التعامل مع العلم ورافعيه هو جواز المرور، لكن الخطر هو أن لا يرفع الحاجز علما يدلّ على مرجعيته، عندها سيكون على ركاب السيارة الاستسلام لحدسهم وتقديرهم الشخصي والاستسلام لمصير مجهول ينتظرهم.
المكان مكتظ جداً ، و المساحة أقل من أن تحدد ، أما الوقت فهو يسير على دمائنا ، و الساعة تتحرك على الدرجات الأخيرة من أنفاسنا قبل أن تصعد روحنا ... حلمي بأن أشتم "ريحة" أمي .. هو حلمه ضم ابنه ... هذا يتسائل كيف باتت ابنته ... ذلك يفكر ماذا حل بأبيه ..
على بعد آلاف الكيلو مترات .. تتناثر صور هياكل لا اسم عليها و لا وضوح لمعالمها ... رقم موضوع على الجبين ... ستحتاج لسنين لفك طلاسم هذه الأرقام .. و عشرات السنين لمحي هذه الوجوه من أرشيف الذاكرة ... ولن تمحى .
من المفروض أن تسير مع التيار و تنقل صور الأجساد التي أنهكها الجوع و ووأدها الحصار المانع لكل شيء ... لكن في الوقت ذاته مطالبين بالتأكيد على حق من لاصوت له و لاصورة ... من لا اسم له و لا هوية ... إنما هو عبارة عن رقم يلصق على الجبين و يوضع في قائمة "مهترئة" الأوراق ، داخل أدراج العفن .
في أقبية منتشرة في كل منطقة يوجد بها نظام الاستبداد ، يوجد مئات ، آلاف ، عشرات الألوف ، يأنون و يهمهمون .. يبتهلون ... يتابعون مراحل الموت البطيء ... و يرمقون لذة القتل البربري لدى السجان الذي دُرب و تفوق في الدورات و بات متمرس و خبير كيف يقتلك بلا حتى أن يتغير حجم أو كمية الهواء الخارج من صدره ...
مئات الآلاف خلف القضبان ، و من جهة آخرى أضعافهم يقفون خارج تلك القضبان جسداً و أرواحهم مع من هم بالداخل ... و الأصعب هو أن أياً من الطرفين لا يعرف شيء عن الآخر .. و كل ما هنالك أن "الهواء يخرج و يدخل لأجسادهم .. دون طعم أو لون ... يشوون بلهيب انتظار المجهول".
تنطلق بعد أيام مفاوضات "السلام" في سوريا ، و في أجندتها طريق الحل السياسي ، و الأيام تقترب ، و الساعات تمضي على الأطراف التي تتحضر ، تُحضر الأسماء و الحقائب ، لكن هذه الساعات تمر على أرواح "المعتقلين" الذين يجتهدون و يخرج منهم الفدائيون و يضحون بأجسادهم لتحمل لنا أرواحهم رسائل لمن بقي فيه بعض الحياة ، بأن #خروجي_قبل_تفاوضكم .
بددت فضيحة المجاعة الممنهجة في مضايا وجوارها، كل الأوهام عن «أخلاقية» ما لدى نظام بشار الأسد وحلفائه، ميليشيات كانوا كـ «حزب الله» اللبناني، أم دولاً كروسيا وإيران. بل إن «اللاأخلاقية» هذه تنسحب على مجتمع دولي تعايش مع مجازر الأسد وسلاحه الكيماوي وبراميله المتفجّرة وصواريخه الباليستية وتصفيته المعتقلين تعذيباً، ومع بشاعة الدور الروسي بسياسة الأرض المحروقة والقنابل العنقودية، الى حدّ أن المجاعة لم تصدمه أو تحرّك ضميره، أو تجعله يراجع رهانه على «بقاء الأسد».
لذلك، يُظهر النظام وأعوانه الكثير من علامات الارتياح الى مسار الأحداث منذ صار التدخل الروسي واقعاً وقلب معادلات الصراع. جمع الأسد كبار الضباط، وقال لهم أن الخطر زال كلياً، ولم يعد هناك داعٍ للقلق، لكن الشهور المقبلة ستكون صعبة وعلينا أن نقاتل كي يُحسَم الموقف نهائياً لمصلحتنا. قال أيضاً، لا تخشوا شيئاً من التحركات الدولية وما يقال عن المفاوضات والحل السياسي، فالحلفاء الروس وجدوا مصالحهم معنا وأثبتوا طوال المرحلة السابقة أن رهانهم الوحيد كان على تماسكنا، ولم يخذلونا في أي لحظة.
يشاطر الضباط رئيسهم الأسد مشاعره، لكنهم لا يجهلون الوجه الآخر من الواقع، وهو غير مطمئِن، ذاك أنهم يعرفون جيداً أن استعادة السيطرة الكاملة تبقى مشروعاً وهمياً من دون مشاركة فعلية من إيران وميليشياتها، وأن روسيا نفسها وافقت على أن العمر الافتراضي للنظام ينتهي بالانتخابات المقترحة في غضون سنتين. وعلى رغم أنهم يقدّرون أن هذه المهلة نظرية، قد تُحترم في موعدها أو تمدّد قليلاً، إلا أنها تعني ما تعنيه. لذلك، لم يلمس الضباط ما يقنعهم بوقف خططهم الخاصة لاستكمال تأمين مستقبلهم مع عائلاتهم خارج سورية.
ما زاد في ارتياح الأسد، أنه وجد لنفسه دوراً جديداً يمكّنه من اللعب ولو بحذر شديد على الحساسيات بين روسيا وإيران، ليبقى مستفيداً من توافقهما وتنافرهما، موزعاً الأدوار على الأعوان المكلّفين التنسيق من كلٍّ منهما. فعلى سبيل المثل، رأى الروس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أن الهدنة ممكنة في بعض مناطق الغوطة الشرقية، وطلبوا التفاوض عليها مع أطراف المعارضة، فانتدب النظام مَن يقوم بالمهمة، وبعدما أُعلنت تلك الهدنة فعلاً، لم يحبذها الإيرانيون (ولا الأسد)، فأقدموا مع شركاء من النظام على قصف مركّز أدّى الى إسقاطها. لا تجهل طهران أن حسابات الأسد وأعوانه تغيرت جزئياً تجاهها، فمع استمرار تعاونهم معها انحازت أولويتهم أكثر الى الروس، الذين أنقذوا النظام وأوقفوا انهياره وجلسوا في غرفة عملياته معوّلين في شكل خاص على الجيش ولا يرغبون في الاستعانة بالميليشيات إلا عند الضرورة.
لكن الأسد لا يستغني عن الميليشيات سواء تلك التي استوردتها إيران أو تلك المحلّية التي أنشأتها ودرّبتها، فهي الوحيدة المتوافرة للنظام كي يعوّض النقص في قواته، إذ إن حواجز حملة اصطياد المدنيين (بمن فيهم بعض اللبنانيين!) لم تحقق نجاحاً. إضافة الى تغلغلهم في الأجهزة، أولى الإيرانيون أخيراً اهتماماً خاصّاً بحزب البعث وأنعشوا وجوده في المشهد، فعاد يتدخّل في الحياة اليومية للنظام وفي التعيينات لمناصب في المناطق، مستقوياً بميليشياه المسمّاة «كتائب البعث». وما يدفع الأسد الى التمسّك بالإيرانيين، يقينه بأنه رجلهم يستخدمهم ويستخدمونه ولا يسعون الى استبداله، فمستوى الثقة بينه وبينهم يبقى أعلى من ثقته بالروس الذين لم يفوّتوا فرصة للإعراب علناً عن عدم اهتمامهم به أو بمصيره. وإذا كان الإيرانيون عاملوه أحياناً بشيء من التهميش، وأكثروا من القول أنه لولاهم لكان سقط، فإن منسوب التهميش زاد مع الروس.
يوجز العديد من الأعوان وضع الأسد، منذ جاء الروس، بأنه يعيش حالياً «رعب البديل». فـ «القيصر» فلاديمير بوتين، يحتاج إليه لتمرير مرحلة، وبعدها سيكون لكل حادث حديث. أما البديل، فقد يكون موجوداً وقد لا يكون، لكن مجرد الشعور بأن البحث جارٍ فعلاً لا بد أن يؤرق الأسد. هنا، يقدّر قريبون منه أنه صار اليوم مهدّداً أكثر مما كان سابقاً، فبمقدار ما أن الروس أنقذوه بمقدار ما أقلقوه، لأن اللجوء إليهم قد يشبه أكثر ما يشبه اللعب بـ «الروليت الروسية».
في خلفية الثقة والارتياح، هناك وقائع كثيرة لا تخلو من الإزعاج، إذ لم يعد سرّاً أن الاهتمام الروسي مركّز على الجيش، حتى أن اللوائح السنوية للترقيات والترفيعات والإعفاءات جاءت هذه المرّة من موسكو. كما أن اتساع رقعة الإشراف الروسي على القطاعات والتحركات الأمنية بدأ يمسّ بمصالح قريبين من الأسد، فهذا رجل أعمال كانت سفنه تفرغ حمولتها فور وصولها الى ميناء طرطوس، لكنها باتت تنتظر أياماً للحصول على الموافقة الروسية، وهناك آخرون مثله، إضافة الى ضباط توزّعوا مختلف مجالات «البزنس»، من تهريب النفط والآثار مع «داعش»، الى التسلّط على وسائل النقل وجمع المحاصيل الزراعية وتحصيل الضرائب، إضافة الى غسيل الأموال. صحيح أنهم ينشطون كالمعتاد، إلا أنهم يشعرون بأن الروس يبدون اهتماماً متزايداً بأعمالهم التي لا علاقة لها بوظائفهم، أو حتى بتمويل حربهم. ولعل تكاثر مشاريعهم في رومانيا وهنغاريا وبيلاروسيا، وحركة تجاراتهم المشتبه بها عبر بيروت ودبي، وضخامة أموالهم في الخارج، هي ما جعل موسكو وطهران تحجمان منذ شهور عن تقديم مساعدات مالية للنظام.
في وقتٍ تبدو العلاقة بين الروس والنظام بالغة التواطؤية، خصوصاً على الصعيد الميداني، إلا أنها غير مريحة دائماً على المستوى السياسي. إذ يقصف الروس مناطق المعارضة وفقاً لـ «بنك أهداف» النظام وبالشدّة التي يتمنّاها، من دون اكتراث بانتقادات أميركية وأوروبية انعدمت تقريباً ولم تعد تلفت موسكو الى استهداف مواقع «داعش» بين حين وآخر، ولو حفاظاً على المظاهر. وقد أظهرت العمليات العسكرية أن الروس يريدون إنهاك المعارضة المسلّحة بعدما ظهر ممثلون عنها في مؤتمر الرياض وأضفوا طابعاً أكثر جدية على المفاوضات المزمعة، تحديداً في ما يتـعلّق بـإعادة هيكلة المؤسّستين العسكرية والأمنية. ومع وجود اختلاف شكلي بين أهداف روسيا والأسد، إلا أن أجندتيهما تلتقيان عند ضرورة تصفية قادة المعارضة المقاتلة في هذه المرحلة، على رغم أن موسكو لم تتخلَّ عن سعيها الى استعادة معظم عسكريي «الجيش الحرّ» لكن بشروطها، ومنها خصوصاً إقصاء فصيلي «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» اللذين حسمت تصنيفهما «إرهابيَّيْن»، وتتصرف إزاءهما على هذا الأساس لإقصائهما عن الجانب العسكري من العملية التفاوضية.
أما بالنسبة الى الأجندة السياسية، فثمة اختلاف غير ظاهر بين مقاربتي موسكو والأسد في ما يخصّ مستقبل هذا الأخير. فمنذ بداية لقاءات فيينا، وكان أولها غداة استدعاء الأسد الى موسكو، لم تكن دمشق مرتاحة الى اتجاه النقاشات التي تبلورت في بيان 14 تشرين الثاني (نوفمبر) ثم في قرار مجلس الأمن، تحديداً في الإشارة الى «عملية انتقالية» والانتخابات بإشراف الأمم المتحدة ومشاركة سوريي الشتات فيها. قبل صدور القرار 2254 وبعده، حاول موفدو النظام الى موسكو إقناعها بتعديلات ولم ينجحوا. وعلى رغم أن أوساط المعارضة تتخوّف من انتخابات تُجرى في ظروف غير مناسبة لها، إلا أن أوساط النظام تتداول قصة/ إشاعة معبرة عن مخاوف مماثلة، مفادها أن استطلاعاً أجراه مكتب الأمن القومي الذي يديره علي المملوك، بيّن أن مرشحي النظام لن يحصلوا على أكثر من 23 في المئة من الأصوات في أي اقتراع بشروط الأمم المتحدة.
غير أن الجدول الزمني الأميركي لبقاء الأسد حتى آذار (مارس) 2017، وفق تسريبة الى وكالة «أسوشييتد برس» لم تنفها واشنطن، أقلق أوساط النظام الذي راجع موفدوه موسكو ولم يعودوا بتطمينات صلبة، ما عنى أن الروس والأميركيين يسعون الى حلٍّ تظهر ملامحه الرئيسية قبل تولّي الرئيس الأميركي المقبل مهماته. لذلك، تبقى التفاهمات الأميركية - الروسية أكثر فاعلية من القرار 2254، إذ تعتمد صيغة وسطاً بين «حكومة وحدة وطنية» و «هيئة حكم انتقالي» لا تريح النظام ولا ترضي المعارضة، بحيث تنقل ثقل السلطة الى موقع رئيس الحكومة الذي قد يُسمّى أيضاً «نائباً للرئيس» لتسهيل تمرير الصلاحيات إليه.