لم يكن العالم في انتظار مئات الصور القادمة من مدينة مضايا السورية ليدرك حجم الكارثة الانسانية التي اودت الى الآن بحياة 28 شخصا في واحدة من مآسي هذا العصر بحسب منظمة اطباء بلا حدود.
فحتى اضطرار السكان الى اكل الاعشاب في تلك الربوع السورية لم يحل دون تحول اجسادهم الى هياكل عظمية مثيرة للفزع من هول ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
كان يعتقد للوهلة الأولى ان صور المجاعات باتت من الماضي وانها ليست من شيم القرن الحادي والعشرين ولكن ما يحصل في سوريا قلب كل المقاييس واطاح بكل المسلمات وحقوق البشر والانسان.
فأمام هول هذه المشاهد وتراكم الدمار والسوداوية التي تغلف المشهد السوري تغيب كل المعاني .
اذ يبدو ان هذه الصور لم تعد تحرك سواكن البعض وخاصة اولئك الممسكين بزمام الازمة السورية والمتحكمين في ايقاعها فتجويع المدنيين وحصار الاطفال باتا ورقة اخرى بيد فرقاء الصراع من اجل ربح هذه المعركة العدمية.
وافق أخيراً النظام السوري وحليفه (حزب الله) على دخول قافلة مساعدات إلى مدينة مضايا السورية المحاصرة من قبلهما منذ أكثر من 200 يوم بعد الصور المروعة للمجاعة التي يعيشها أكثر من 40 ألف نسمة محاصرين داخلها من أطفال ونساء وشيوخ وبعد أن أحست منظمة الأمم المتحدة التي يراقب منتسبوها أحوال الشعب السوري أنها شريكة في ما يحدث لأهل مضايا وهو ما وضع المنظمة في حرج شديد كان مطلوباً أن يرفعه عنها من تتعاون معهم في عقد الهدن وترحيل السكان وتحقيق ما يتطلعون إليه من تطهير طائفي يستهدف إخلاء جميع المناطق المحاذية للحدود اللبنانية السورية من سكانها السوريين السنة لرسم حدود الدولة العلوية – الشيعية في الشام.
وبكل تأكيد كان مطلوباً من الأمم المتحدة أن تعلن عبر مؤسساتها وخاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن عن حالة كارثة إنسانية في سورية ولكنها لم تفعل ولولا الصور المأساوية التي تسربت عما يحدث من تجويع في مضايا وغيرها من المدن السورية من نظام الأسد وحزب الله لم يمارسه سوى المغول في غزواتهم البربرية والنازيين في حربهم العالمية لما درى عنهم العالم وطبعا فإن شريكي الدم والمجازر (الأسد – حزب الله) سيبادران للتخفيف من وطأة الحرج عن الأمم المتحدة وكذلك الزخم الإعلامي عن مضايا حتى يقع حدث كبير في مكان آخر مثل قيام إرهابي مجنون بعملية في أوروبا وخلافه فيستديرا إلى مضايا مرة أخرى ليكملا جرائمهما وعمليات الترحيل والتطهير الطائفي وهو ما حدث في مخيم اليرموك داخل دمشق فعندما كان العالم مشغولاً بجريمة “داعش” بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة كان النظام السوري وحلفاؤه يقومون بأكبر عملية إبادة وتجويع وترحيل لسكان المخيم.
ولا تقوم الأمم المتحدة التي ترعى الهدن ونقل السكان السوريين أبداً بعملية تسجيل وتوثيق لأسماء وممتلكات من يتم اقتلاعهم من أرضهم في سورية حتى لا يتمكنوا أبداً من العودة وتسهل عملية إحلال سكان آخرين من طوائف أخرى في أرضهم وهو الأسلوب نفسه الذي استخدم مع الفلسطينيين الذين اقتلعوا من أرضهم .
وفي حين يتحرك حزب الله وميليشياته بكل حرية لفعل الأفاعيل في الشعب السوري، فإن أي محاولة من سني لبناني لنقل كيلوغرام واحد من القمح إلى الزبداني أو مضايا سيواجه بالنار من الجيش اللبناني المغطى والمدعوم من الولايات المتحدة والأوروبيين والأمم المتحدة والممول من دول الخليج العربي ليلعب هذا الدور لأن خلق دولة علوية – شيعية ودويلات سنية ودرزية وكردية هو أغلى أماني إسرائيل التي ستضمن وجودها الأبدي إذا تم ذلك بينما ستحافظ موسكو على وجودها الوحيد على البحر المتوسط عبر حماية ممارسات الطائفة العلوية لما قامت به من تدمير لسورية وإيغال في دماء أغلبيتها من السنة.
على الرغم من معرفة أنصار الهدن للمعوقات التي تواجه تطبيقها في سوريا إلا أن البعض منهم قد يجادل بأن الخطة السيئة تبقى أفضل من لاشيء وعليه فإذا استطاعت محاولات الهدن أن تساعد شخص واحد على الأقل فهي أفضل من لا شيء هذه الحجة صحيحة من حيث المبدأ غير أنها تتناقض مع مبدأ أساسي هام ألا وهو مبدأ عدم الإيذاء قد يكون من المتوقع للقتال أن يشتد مع بدء المحادثات التحضيرية للمفاوضات وهو ثمن الناس على استعداد لدفعه عادة لتحقيق السلام ولو مؤقتا غير أن ما حدث ويحدث في سوريا هو أن الناس يدفعون الثمن الدموي للهدن دون تحقيق أي شيء في المقابل فالهدن بشكل عام أدت إلى مزيد من القتل حيث يشتد القتال قبل المفاوضات و يشتد مرة أخرى بعد المفاوضات حيث يحاول كل طرف إعادة الطرف الآخر الى طاولة المفاوضات مع المزيد من التنازلات ولذلك من في بعض الأحيان الخطة السيئة هي أسوء من عدم وجود أي خطة خاصةَ إذا كانت الخطة السيئة تؤدي إلى مزيد من القتل و يمكن استخدامها كعذر لعدم البحث عن خطط بديلة خاصةَ في ظل غياب أي رغبة حقيقية للقيام بذلك.
مجرد أن يذكر اللون الأحمر للسوريين الحق في الذعر الكبير ، فيعني أن الأمر المشمول به سيكون بحكم الخاسر و دخل في دائرة الفقد ، من حماه إلى الكيماوي إلى حلب و ... و...و واليوم جبال اللاذقية قد دخلت هذه الكتلة المشبوهة .
يشي اللون الأحمر للسورين بالموت فقط ، و لا تعبير له ولا لغة تستطيع أن تغير من هذه الصفة ، ولا زالت الخطوط الحمراء بشأن الكيماوي علقماً في حلوقهم ، وها هي جبال اللاذقية تتساقط بتسارع مريب بتسارع مساوي لذكر اللون الأحمر و خطه الغريب الذي يحيط بكل نقطة يشمله ، و تنقلب المجريات بشكل لا يمكن العودة معه إلى المكان الذي سبق ذكر "الخط الأحمر".
أوغل الجميع في اللون الأحمر ، سواء ًبالسفك المباشر ، قتالاً على الأرض كان أم من خلال الجو أو بارسال المندوبين ، أو السفك صمتاً أو تهرباً أو تمييعاً .
لم يواجه شعب كالشعب السوري حرباً شملت كل شيء و من كل الأطراف ، و لم يجد حضناً هانئاً يربوا إليه ، بل على العكس الجفاء كان العنوان للجميع على رأسهم من يسمون بـ"الأصدقاء" ، الذين ليتهم لو كانوا أعداء على أقل الأحوال لم يحظوا بفرصة التدخل و ، وخلط الأوراق .
تسير الثورة السورية بترنح و غياب تام للتوازن ، وسط كثرة الطاعنين و العابثين ، محلياً و خارجياً ، ومن الممكن أن يكون حتى الفضاء الخارجي مشتركاً بالتلاعب بمصائر ملايين السوريين ، الذين لم يبقى أمامهم سوى طريق واحد هو الموت ، و لكن لديهم خيار في نوعيته ، قصفاً أم خنقاً أو ذبجاً و الجوع أيضاً بات متوافر .
سقوط نقطة أو هناك لا يعني سقوط الثورة ، و لكن في الوقت ذاته لايعني أن الأمر غير مهم أو غير كارثي ، سيما في هذه الفترة من الثورة التي تنتظر يوم ٢٥ الشهر ليكون مفصيلاً "تبعاً للرؤية العالمية" ، و لكنه سيكون كارثياً أكثر بالنسبة للسوريين و لثورتهم ، فتقلص المناطق و فقدان النقاط الاستراتيجية يمنح القوة للنظام المنتهي ، و أي خسارة يعني مد النظام بإكسير من نوع يجعله يرفع صوته و يضع شروطه التي يبدو أنها متطابقة مع الدول كافة التي وجدة في الوهم "داعش" شماعة لانقاذ نظام لن يأتي أفضل منه في الركوع و الخنوع و الطاعة .
الأوراق تزداد بعثرة حقيقةً ، و لايوجد طرف يمكن أن يتنبأ بشيء ، و لكن بالنسبة للسورين فهم قادرين على ذلك و من خلال بوصلة الخط الأحمر ، فابعدوا خطوطكم الحمراء عن سوريا حتى تتمكن من الاستمرار .
أربع أعوام مرت من عمر الثورة السورية والعام الخامس على الأبواب وكل يوم نسمع عن تشكيل عسكري هنا وأخر هناك يرفع رايته وينشر بيانه المناصر لثورة الشعب السوري وينذر نفسه للدفاع عنه وعن حريته ضد أرهاب أل الأسد وحلفائه حتى باتت أعداد الفصائل وأسمائها تتداخل في بعضها البعض ولم يعد الشعب الثائر يميز بين فصيل وأخر وراية وأخرى.
ومع اقتراب الثورة من بلوغ عامها السادس وتأمر كل قوى الشر على حرية وكرامة الشعب السوري وتهافت عشرات الميليشيات والدول لتدعم نظام الأسد المترنح ونتقذه من السقوط بدأت مرحلة جديدة من الثورة في صراع جديد بين الخير والشر بين الحق والباطل وبعبارة أدق وأوضح بين السنة والشيعة بعد أن توافدت عشرات الفصائل الشيعية الى سوريا وباتت هي من تقود الحرب على الأرض بدعم إيراني روسي وصل لمرحلة ارسال قوات برية وطائرات وبوارج حربية تمركزت على الأرض السورية وباتت هي من تدير العمليات وتقتل وتشرد وتسيطر على الأرض.
ومع دخول المليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والإيرانية والروسية واللبنانية باتت المعركة في سوريا معركة عقيدة ووجود أكثر من كونها معركة للحصول على حرية وديمقراطية من نظام استبد شعبه وسلبهم حريتهم لسنوات طويلة فاستوجب مقابلة هذه المعركة بسلاح أقوى وعقيدة صلبة تستطيع الصمود والوقوف في وجه كل القوى المستعمرة المتعطشة لدماء الشعب السوري وهذا مانادت به هيئات وعلماء وفعاليات شعبية ومدنية وإعلامية مطالبة فصائل الثورة بالتوحد والتكتل والتكاتف في خندق واحد وتحت راية واحدة تضع على أولوياتها مواجهة هذا الغزو الشيعي للأر ض السورية وتطالب قادة الفصائل بالتخلي عن مناصبهم وتشكيلاتهم وراياتهم والإندماج في جيش واحد تكون فيه القوة موحدة في وجه كل قوى الاستعمار.
وحتى اليوم مازالت الصيحات المطالبة بالتوحد تتعالى وتتوسع وسط تصعيد عسكري روسي غير مسبوق على المناطق المدنية والمواقع العسكرية والمقرات والساحات والشوارع دونما تمييز بين فصيل وأخر وراية وأخرى بحجة محاربة الإرهاب بالتزامن مع محاولات حثيثة للقوات البرية للتقدم في حلب وإدلب وحماة واللاذقية وحمص وريف دمشق ودرعا في محاولة لفرض خارطة عسكرية جديدة تسبق مباحثات الحل السلمي المطروحة على طاولة المؤتمرات الدولية ليكون موقف قوات الأسد وحلفائهم هو الأقوى في المفاوضات والتي ينظر إليها البعض انها وسيلة للمراوغة وكسب الوقت أكثر وشلال الدماء يسيل في الساحات وتحت ركام المباني المدمرة.
زين العمر
حتى لا تقع مضايا فريسة الخداع من جديد، فمن الضرورة أن يدرك المعنيون أن الحصار هو مدروس بعناية، ويهدف الى تحقيق نتائج كارثية على صحة الذين يتعرضون للحصار المميت في المستقبل، وهذا يعني أن هذا الحصار في مضايا وغيرها؛ يشرف عليه متخصصون، وبالتالي هؤلاء يعرفون تماما أنهم في لحظة معينة سوف يُضطرون إلى إدخال المواد الإغاثية للمدينة المحاصرة، وهنا تبدأ الحملة الإعلامية التي تهلل لفك الحصار عن المدنيين بأخذ دورها، ثم يتم طي صفحة الحصار من الإعلام، أمام المتغير الجديد، ولكن على الأرض يستمر الموت البطيء إلى ما لا نهاية.
هذه التجربة المميتة مررها النظام السوري ومليشيا حزب الله على مخيم اليرموك، ومن الضروري أن نعيد بعض التفاصيل، فالناس في مخيم اليرموك اضطروا لتناول الأعشاب وأوراق الشجر، والماء والبهارات، لفترة طويلة. وهذه الأشياء كلها ينتج عنها تبدلات مهمة في أنسجة وخلايا الإنسان، حيث تبدأ القصة من التحولات في معدة الإنسان، والتي تبدأ بإفراز مواد شبيهة بما في معدة الحيوان الآكل للعشب، ما يعني أن الأنسجة والخلايا وصولا للدماغ البشري، كلها تتعرض لمضاعفات خطيرة، أخطرها ما يقع على أجسام الأطفال، والذين بعد انتهاء الحصار سوف يحتاجون إلى سنوات طويلة من العلاج حتى تعود أجسامهم طبيعية من جديد.
في تجربة مخيم اليرموك بدأ النظام بإدخال المواد التموينية الجافة، وهذه بالطبع لم تحل المشكلة، لأنها أسكتت الجوع مؤقتا، وانتقلنا إلى مرحة ثانية من الحصار، وهي منع دخول الألبان واللحوم والخبز والبيض، وكل هذه الأشياء من المستحيل أن تستقيم صحة الأطفال بدون تناولها. ويضاف إلى ذلك الحصار منع دخول الخضروات والفواكه، وبذلك عمليا يكون الحصار مستمرا؛ لأن هدف الحصار هو هدف رخيص يقوم على قاعدة القتل والإبادة، وهكذا يستمر الحصار ويستمر الموت، ولكنه موت بطيء بطرق تبدو مختلفة، لكن أصل الموت واحد، وهو منع وصول مستلزمات الحياة كاملة للناس.
هناك صورة إضافية للحصار، وهو حصار على المواد النفطية؛ لأن هذا يمنع توفر الكهرباء اللازمة للأمور الضرورية كالعلاج في المستشفيات، وما يلحقها من الأدوية وغيرها، إضافة إلى أن عدم توفر الكهرباء هو سبب إضافي لعدم توفر طرق الحفاظ على المواد التموينية في حال توفرت، وهو يعني أن جميع الموجودين هم سجناء يتحكم بهم السجان ويتفنن بقتلهم باختيار الطريقة التي يريد.
فك الحصار عن مضايا ليس بإدخال بعض الطحين والأرز، فليس المطلوب أن نعيد تجربة مخيم اليرموك الذي لا تزال الناس تموت فيه بفعل سوء التغذية ومنع الأدوية، بمعنى أن الحصار باق ولكن أدواته مختلفة.
مؤكد أنه ليس هناك أسوأ في التاريخ من أن تقوم دولة تسمي نفسها إسلامية، مثل إيران، بهذا القتل البشع للناس، وليس هناك أسوأ من حزب يدعي أنه إسلامي ويسير نحو القدس.. وأيضا لم يسجل التاريخ أسوأ من ظاهرة القومجية العربية التي تسير وراء هؤلاء لأجل حفنة فلوس. وبمقابل ذلك، يتمنى كل سوري عدوا مثل إسرائيل، لأن إسرائيل هذه التي خرجت من صميم الحضارة الأوروبية، تحاول دائما أن تقدم صورة عصرية عن نفسها، رغم العقل العنصري الذي تقوم عليه. في مقابل ذلك، فنحن أمام دولة وحزب يقدمان الإسلام نموذجا، لكنهما يمارسان سلوك قبائل حاقدة غارقة في مجاهل التاريخ السوداء.
أمام وحشية إيران وحزب الله وبقية الأدوات الصغيرة الموجودة برفقتهم في سوريا، يمكن لأهل مضايا أن يعيدوا قول ما قاله سكان مخيم اليرموك سابقا: "اللهم ارزقنا حصارا يشبه حصار غزة".
بخطى عسكرية وفق المدرسة العسكرية الروسية ، سار ما يسمى بالنمر باتجاه أعلى رتبة في مطار حميميم مقدماً التحية له و فخوراً بانجازاته التي هي عبارة عن سلسلة مجازر بحق الشعب السوري في كل رقعة خاض فيها معركة .
سهيل الحسن ، الاسطورة الوهمية التي يتغني بها موالوا الأسد ، على أنه البطل الذي لا يقهر ، وقف أمام الضابط الروسي ليحصل على وسام "القاتل لشعبه" ، في مشهد شاهدناه تاريخياً ، ولازلنا نشهده مع وجود بقايا نظام الأسد ، الذين قرروا الجلوس في حضن المحتلن و التحصن بهم .
تاريخ قذر يحمله المسمى بـ"النمر" الذي لا يتقدم سنتمتر واحد قبل أن يحرق كل شيء أمامه ، و ازداد اجرامه مع دخول العدو الروسي الذي تكفل بالحرق و لكن بأقذر الأسلحة ، مستخدماً أقذر الأشخاص على الأرض .
النمر صاحب فلسفة "العالم عدو العالم" وقف بالأمس في مطار حميميم و قدم التحية للحاكم الفعلي على الأرض السورية الخاضعة لسيطرة الأسد اسماً و روسيا و ايران فعلاً ، ليقدم واجب السمع و الطاعة للسادة الجدد .
بارك الموالون و تغنوا بهذه الخطوة ، و الغريب أن يحتفلون بالمحتلين و بانجازاتهم ، و لا يستطيعوا أن يقدموا أى انجاز لقواتهم و عناصرهم ، سوى النعوش و بقايا صور القتلى على جدران منازلهم .
لم تشأ إيران أن تفهم أن الكيل طفح والصبر نفد عربياً، وليس سعودياً فحسب، وأنها إذا شاءت امتحان العرب خليجيين ومشرقيين ومغاربة بالنسبة إلى السعودية، بل إذا حاولت اختبار المسلمين حول العالم، فهي لن تحصد سوى خيبة أمل تناقض توقعاتها تماماً. فالاصطفاف هنا بديهي وطبيعي، أياً تكن الدوافع، سياسية أو قومية أو دينية ومذهبية. هذه مواجهة ما كان لإيران أن تذهب بها إلى شفير الهاوية، على جاري عادتها، وما كان لها أن ترسل رعاعها للاعتداء على الممثليتين الديبلوماسيتين وهي الطامحة للاعتراف بها كقوة ذات نفوذ إقليمي. لكن طبع المارقة يغلب على طبع الدولة – الندّ للقوى الكبرى كما صوّرت نفسها لحظة توقيع الاتفاق النووي.
أصبحت التدخلات الإيرانية مكشوفة، باستخدامها الاستقطاب المذهبي السنّي - الشيعي كوسيلة لتخريب العالم العربي. هذه سياسة حاقدة وانتقامية وقصيرة النظر لا تأخذ في الاعتبار حقائق المجتمعات التي تخترقها، إذ تزعزع روابط التعايش وجسور التواصل وتهدم ما بُني على مرّ العقود من وشائج بين مواطنين ينتمون إلى وطن واحد. لذلك، لم يكن لأيٍّ من تدخلاتها أي أثر إيجابي، وقد تحوّل بعضٌ منها إلى حالات احتلال تمقته المجتمعات التي يخترقها لأنه يرمي إلى تفتيت الدول، وبعضٌ آخر إلى مشاريع لتعطيل الدولة والاقتصاد. كما أن العمل على العسكرة وإنشاء الميليشيات الشيعية برهن أن وظيفته الأولى هي تفكيك الجيوش وشلّ أجهزة الأمن الوطني.
لم تشأ إيران أن تفهم أيضاً أن نهج «تصدير الثورة» عبر البوابة المذهبية انتهى إلى مآلات سيئة عدة: تأسيس ثقافة فجور سياسي تظهر أكثر ما تظهر في سلوك ميليشياتها، تعميق الانقسامات وإشعال الحروب الأهلية، وتأجيج بؤر الإرهاب واستغلال تنظيماته في «حروب بالوكالة»... وهذه يمكن أن تكون مجدية بعض الوقت وليس كلّه. لا شك في أنها بالغة الإيذاء والإضرار، ولا بدّ من أن ترتد على أصحابها في نهاية المطاف، لكنها ترتدّ أولاً على أبناء الطائفة الشيعية الذين تورّطهم إيران في عداوات داخلية مجانية ومفتعلة مع مواطنيهم، وهذا ما خبره العراقيون واللبنانيون والبحرينيون، فيما لا يزال الصراع في سورية واليمن شاهداً على أكبر جريمتين دبرتهما إيران ضد شعبين عربيين.
... والآن تسعى إيران إلى مدّ مسلسل التخريب إلى المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج، آخر منطقة عربية مستقرة، وعليها يعوّل العرب لمساعدتهم على استعادة سلمهم الداخلي. فاستهداف السعودية معروف ومعلن في خطاب إيران وميليشياتها، لا سيما «حزب الله» اللبناني، حتى قبل زمن من إعلان المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب أن إيران «استولت على العراق والآن تريد السعودية». لا سقف لمشروع التخريب هذا ولا حدود، وإنما مجرد عقل موتور لا يتوقف عن استخراج الضغائن من أوهامه الماضوية لينتج سياساته الظلامية، لكن رفضه الحقائق الجديدة في منطقة الخليج يكاد يطيح كل أحلامه، فعهد «شرطي الخليج» ولّى، فكرةً ومنظومةً ووظيفةً، إلى غير رجعة. وحتى مفهوم النفوذ، بالقوة والهمجية والإرهاب، لم يعد له مكانٌ، حتى لو غازلته الولايات المتحدة أو جاملته، لأسبابها ومصالحها. بل إن الإدارة الأميركية تقصّدت صمّ آذانها حيال عشرات التحذيرات التي أطلقها مجلس التعاون الخليجي، على مدى سنوات، من التدخلات الإيرانية المتمادية، لأنها كانت تسعى في سبيل الاتفاق النووي، وحصلت عليه، ثم واصلت تجاهل تلك التدخلات، لأنها باشرت السعي إلى مصالحها مع ايران. المؤكد أن السكوت الدولي طويلاً، خصوصاً الأميركي والروسي، عن انتهاكات إيران هو ما أوصل الوضع الخليجي والعربي والإسلامي - الإيراني إلى هذا المستوى من التوتر.
مُذ تلقّى الثور الإيراني الهائج تلك الصفعة في اليمن فَقَد صوابه عملياً. كان توصل إلى السيطرة على صنعاء، «العاصمة الرابعة» العربية، ويعيش ربع الساعة الأخير قبل أن يهيمن حوثيّوه على هذا البلد. لم تكن تفصله سوى ساعات قليلة ليشرف على باب المندب فيستكمل تطويق السعودية ويباشر اختراق حدودها... غير أن «عاصفة الحزم» طوت هذا السيناريو نهائياً. لم يعد وارداً ولا ممكناً. أصيب مشروع «الإمبراطورية» بانتكاسة خطيرة وقاتلة، ولم يبقَ لأصحابه سوى أن يمنّوا النفس بأن تكون السعودية استدرجت نفسها إلى ورطة لا نهاية لها. وسواء كانت ورطةً أم لا فإن الخيار (أو بالأحرى اللاخيار) الآخر كان السقوط في الفخّ الإيراني. من اليمن بدأ «ما بعد» الاتفاق النووي قبل شهور من إنجازه فعلاً، إذ لم يكن للسعودية وحلفائها أن ينتظروا أو يصدّقوا أن ذلك الاتفاق سيعيد إيران دولة عاقلة ومسالمة و «شريكة في حل الأزمات»، كما روّج لها باراك أوباما، مع علمه بأنها هي التي صنعت تلك الأزمات وأمعنت في تسميمها.
لم يكن استخدام إعدام رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر سوى ذريعة انتظرتها إيران لإثارة ردود الفعل المذهبية، والعودة إلى صفحة مفتوحة في الصراع مع السعودية. تريد أن تجعل من هذه الواقعة حافزاً ومبرراً لمعاودة تحريك «الورقة الشيعية» في الخليج، تحديداً في السعودية، على رغم أن النمر ليس «زعيم» شيعة السعودية، بل واحداً من الكوادر الذين اشتغلتهم طهران وضخّت في رؤوسهم أيديولوجية ولاية الفقيه. ومَن هم مثله بات معروفاً أن ولاءهم ليس لوطنهم ومجتمعاتهم بل للمرشد، ونماذج هؤلاء منتشرة من لبنان إلى العراق والبحرين واليمن. لكن مجرد التلويح بـ «الورقة الشيعية» صار وصفة مكشوفة، وقد اختُبرت في البحرين قبل خمسة أعوام ولم تكن لمصلحة المخططات الإيرانية ولا لمصلحة الشيعة الذين اختاروا التوتير والتأزيم تغليباً لمطامع طهران في بلدهم، على رغم أنهم أضاعوا عام 2011 فرصة لتحقيق طموحاتهم ومطالبهم ولا يزال بإمكانهم أن يحققوها بالحوار، لكنهم يرفضون الاسترشاد بتجارب الآخرين. فهذه «الورقة» اختُبرت أيضاً على النحو الذي صدّع العراق ودمّر سورية واليمن وعطّل لبنان.
لا مفاجآت في ما يحصل، وحدها التفاصيل لم تكن متوقعة، وفي الأيام المقبلة عندما يلتقي وزراء الخارجية الخليجيون في الرياض ثم الوزراء العرب في القاهرة لن يكون مقبولاً أن تقتصر مقارباتهم على حادث السفارة في طهران أو أي تفصيل آخر، فهذا سيكون فصلاً جديداً من فصول الهروب من طرح تدخلات إيران واعتداءاتها وانتهاكاتها بكل جوانبها، بما في ذلك التقاء أجندتها موضوعياً مع أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل، بدليل النتائج الملموسة لسياساتها التخريبية في سورية وفلسطين ودفعها في اتجاه تفتيت البلدان العربية. لم يعد واقعياً التعامي عن كل هذا العداء والأذى، وعن هذا اللعب بالإرهاب، تلك «الورقة» الأخرى الشريرة التي لم يتوانَ العرب عن مشاركة القوى الدولية في التغاضي عن دور إيران المزدوج في تخليقها أولاً من مخلفات إرهاب «القاعدة» ثم في ادعاء التصدّي لإرهاب «داعش». بل شارك العرب أيضاً في السكوت الدولي عن حال الإرهاب المبرمج التي تشكّلها ميليشيات عملت إيران على تفريخها هنا وهناك، ولم يعد جائزاً استثناؤها ولا تجاهل جرائمها وانتهاكاتها.
لا أحد يدعو الدول الخليجية والعربية إلى إعلان حرب على إيران، لكن الأخيرة التي عبثت طويلاً وعاثت فساداً من دون أن تتلقّى أي رد فعل عربي، خلصت إلى الاعتقاد بأنها إزاء منطقة ماتت بفعل تشرذمها وهوانها. لذلك، فإن المطلوب من مجلس التعاون والجامعة العربية يمكن أن يُصاغ في ثلاث لاءات: أولاها، لا للمشروع الإيراني، المذهبي - الفتنوي، لأنه يقود إلى تعميم الحروب الأهلية على المجتمعات والشعوب العربية كافة، وهو ما تمنته إسرائيل ولم تستطع تنفيذه. والثانية، لا استثناء ولا تمييز في الإرهاب، سواء كان إرهاب «داعش» و «القاعدة» وأخواتهما، أو إرهاب الدولة الإيراني أو إرهاب ميليشياتها أو إرهاب الدولة الإسرائيلي. والثالثة، لا صراع ثنائياً سعودياً - إيرانياً، بل هو صراع عربي - فارسي، وبالتالي فلا المواجهة متروكة للسعودية وحدها ولا تسوية تنتظر «حواراً» سعودياً - إيرانياً. فإيران سعت وتسعى إلى حوار كهذا بغية المساومة، والسعودية لا تريد مساومة إيران أو سواها على أرض/ أراضٍ عربية أو على شعوب عربية.
لا مقامات مقدسة في مضايا. وليست البلدة السورية بقريبة من الحدود السورية- اللبنانية بحيث يُخشى تسلل انتحارييها إلى الداخل اللبناني. ولا أقليات طائفية فيها تتعين حمايتها من بطش التكفيريين. رغم ذلك، لا يجد مسلحون لبنانيون عيباً في إماتة أهل البلدة المحاصرة منذ أكثر من سبعة شهور، جوعاً ومرضا.
كذّبَ إعلام «حزب الله» الحربي في بيان له أمس الأول، الاتهامات بالتسبب في تجويع أهالي المدينة محمّلاً المسؤولية إلى قادة «الجماعات الإرهابية المسلحة» المنتشرين في مضايا باسترهان المدنيين وحبس المواد الغذائية عنهم. كما ذكر الإعلاميون الحربيون أن المسلحين في البلدة سبق أن ذبحوا عدداً من عناصر الجيش السوري وشاركوا في المعارك التي شهدتها بلدة الزبداني المجاورة. وطمأنوا إلى أن كمية من المساعدات ستصل مضايا في الأيام القليلة المقبلة في إطار اتفاق «الزبداني- كفريا- الفوعة».
نسلم جدلاً بصحة ما جاء في البيان، بيد أن صحته (المفترضة) لا تجيب عن التساؤل عما يفعله المسلحون اللبنانيون على الأراضي السورية، ومن هي الجهة التي فوضتهم حل النزاعات بين سكان مضايا وبين «قادة الجماعات الإرهابية» من جهة وبين هؤلاء وبين عناصر الجيش السوري من جهة ثانية.
تتعارض هذه الأسئلة مع الطبيعة الاضطرارية التي برر بها «حزب الله» زجّ الآلاف من عناصره في الحرب السورية، تارة بذريعة الدفاع عن المقامات المقدسة وطوراً بحجة حماية القرى الشيعية قرب القصيْر، وحيناً بهدف منع تسلل الإرهابيين إلى لبنان، وحيناً آخر من أجل الوصول إلى القدس مروراً بالزبداني والحسكة (!!) على ما قال الأمين العام للحزب. وهذه كلها أسباب اضطرارية دفعت الحزب وعلى كره منه، إلى الانزلاق إلى الحرب السورية وتنكُّب أعبائها وأكلافها الباهظة.
والحال أن هذه الجولة السياحية المسلحة بين المدن والقرى السورية والمساهمة في تدميرها وتشريد أهلها –الذين يأتي قسم منهم إلى لبنان كلاجئين- لا تفعل غير تعميق التورط اللبناني بالدم السوري وحفر خندق عميق في مستقبل العلاقات بين الشعبين، على ما بات بديهياً ومكرراً.
مع ذلك، لا يرى الإعلام الحربي في الحديث عن حصار أتباعه المدنيين وتجويعهم وإذلالهم عند حواجزه وقنص من يحاول منهم الفرار من الموت البطيء، غير حملة رامية إلى «تشويه صورة المقاومة»... ألا تستحق مقاومة كهذه تحاصر المدنيين وتتشارك -على الأقل- مع قادة «الجماعات الإرهابية المسلحة» في ترهيب السوريين، وقفة مطولة عن معناها ودورها اليوم؟
في جميع الأحوال، تبقى الحقيقة الباهرة في سوادها، هي أن الحزب يكرس محو الحدود الوطنية اللبنانية كلما صعّد مشاركته في القتال متنقلاً بين مهمات كلها اضطراري وكلها عبثي. وربما لم ينتبه الحزب، أو فاته في زحمة «انتصاراته» من مزارع شبعا إلى ريف حلب، الانتباه إلى أن هناك من احتفل قبل أقل من عامين بتدمير الحدود التي اصطنعها الاستعمار في شرق سورية عندما عبرت آليات «داعش» من العراق.
يضمر «حزب الله» و «داعش» عداء، كل من موقعه، للحدود الوطنية ولما تمثله من علامات قيام الدول واستقرارها. بيد أن العداء هذا الذي يجعل الحزب يحاصر مضايا ويهجّر أهالي القصير، ينتهي عند الحدود الفلسطينية- اللبنانية، فلا ينتقم لقادته القتلى إلا في مكان ملتبس السيادة مثل مزارع شبعا. عجباً!
مئتي يوم من الموت المؤلم جداً ، والبطيئ جداً ، والصامت جداً ، انتهت ببيان عبارة عن عشرين سطراً حمل ترهات أممية ، بمشاعر خلبية ، لتختمه بجملة "أن النظام وافق على ادخال المساعدات" لمن تبقى فيه رمق داخل مضايا ، لكن بشرط أن يكون هناك مسساعدات أكبر لكفريا والفوعه الشيعيتان ، لينتصر حزب الله بمساعدة الأمم المتحدة ، التي وقفت صامتة بخبث طيلة ٢٠٠ يوم ، لتصل لهذه النتيجة .
مئتي يوم كان العالم بأثره بحكوماته ونظمه ومؤسساته صامتاً أمام الموت جوعا في مضايا ، لم يكن جاهلا أو غير عالما بما يحدث وبأدق التفاصيل ، لكنه شريك ذكي وفي نفس الوقت ( حقير ) في قتل فئة معينة من الشعب السوري للتتحول هذه الفئة إلى أقلية ويتم توليد أقلية لتتحول إلى أكثرية ولو كانت بزراعة أعضاء خارجية.
في مضايا عرب سنة رفضوا التشيع ، رفضوا أن يحكمهم الشيعة ، فواجه الموت قصفاً و ذبحاً و قنصاً ، و آخيراً حصاراً و جوعاً و برداً ، فاشترك العالم ضدهم ، حاصرهم حزب الله على الأرض ، و صم العالم آذانه ، لتحقيق رغبة القتلة ، ويتم ايصال مزيداً من الطعام و الشراب لمن يقطنون في كفريا و الفوعة ، مقابل فتات المساعدات سيتوجه إلى مضايا ليمنح سكانها فرصة قصيرة للفكاك من براثن الموت ، فيما ستكون مساعدات القريتين الشعيتين ، ليزداد سكانها قوة و تجذر في الأرض .
طوال السنوات الماضية لم نسمع عن وجوع مجاعة أو موت أي شخص في تلك القريتين بأي طريقة من الطرق التي يموت فيها السنة العرب في أي مكان محاصر في سوريا عموماًِ و في مضايا و بقين على وجه الخصوص ، فالمساعدات تصلهم عن طريق الجو بالحوامات، ويساهم أرزال الأرض بتهريب المزيد، و وتأتي الأمم المتحدة لتقدم لهم ما يناسب صحتهم .
في حين أن مضايا و الزبداني يحاصرون براً و جواً و يضغط عليهم ليستنفذوا مداخراتهم كاملاً ، وويصلون إلى مرحلة تسليم أسلحتهم تحت ضغط الجوع ، و أخيراً يتركوا ليموتوا بألم شديد ، و لكنه صامت ، فلا طاقة لإطلاق أي "آه"، وحتى عندما يتم ايصال مساعدات لهم ، يتم ايصالها فاسدة منتهية الصالحية ، ليتذوق الموت سماً ، فلا يجوز أن يكون هناك موت غير مجرب ، فأنت في أرض سكانها باتوا أقلية ، والعالم سعيد بتكثير تلك الأقلية الغريبة .
لا مسوّغات مقنعة يمكنها أن تُفنّد، وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، انتقادات تلقتها السعودية، لتنفيذها حكم الإعدام بحق 47 شخصاً من مواطنيها دفعة واحدة. وقد يصعب على المدافعين عن الفعل الذي جاء إعلانه مفاجئاً ومدوياً أن يزعموا خلوَّه من مضامين سياسية ترتبط بانتماء المحكومين إلى قوى مذهبية متطرفة في المعسكرين، السني والشيعي، كما قد يصعب، أيضاً، على المشككين بوجود شبهات كهذه، أن يدينوها، من دون أن يجدوا من يلفت انتباههم إلى أن رد الفعل الإيراني بدا كأنه يفسر غامضها، أو يبرّرها، على غير ما أراد أصحابه.
يختلف صوت ألمانيا، أو كندا، مثلاً، حيال هذه المسألة، عن صوت إيران. الأولى والثانية، ومعهما دول أخرى، انتقدت وندّدت انطلاقاً من موقف مبدئي يناهض عقوبة الإعدام، كانت لها خلفيات سياسية، أو لم تكن، بل حتى لو كان المحكومون من منفذي ما تسميها الهجمات الإرهابية، بينما الأخيرة تعرب بصراحة عن مباركة كل أعمال الموت في المنطقة، طالما أنها تقع على الأغيار الذين لا يصطفون إلى جانبها.
فمن ضمن قائمة ضحايا القصاص التي أعلنتها الرياض، تجاهلت طهران 46 اسماً، وانشغلت وحلفاؤها وقادة مليشياتها في المنطقة، من نوري المالكي إلى حسن نصر الله، بترديد اسم واحد فقط؛ نمر باقر النمر، رجل الدين الشيعي الذي اشتهر بمناهضة نظام الحكم السعودي، والذي تقول سيرته الذاتية، في أحد أهم فصولها، إنه غادر بلدته العوامية في محافظة القطيف، منذ مطلع شبابه، ليدرس العلوم الشرعية في حوزة قمّ الإيرانية، وأقام هناك نحو عشر سنوات، ثم رحل عنها ليقيم سنوات أخرى في دمشق، قبل أن يعود إلى بلاده.
لم يكن في وسع الجمهورية الإسلامية، بالطبع، أن تتصرّف على غرار الدول المتحضرة، فتدين أحكام الإعدام، من حيث المبدأ، لأن سجلها الراهن يزخر بمئات القصص المأساوية عن نصب المشانق لعرب الأحواز، في الساحات العامة، تنفيذاً لأحكام قضائية صورية. ولم يكن في وسعها، وهي الدولة الدينية الثانية في العالم، بعد إسرائيل، أن تكتفي بالحداد، وإقامة "اللطميات" حزناً على الشيخ النمر، لأن قيادتها الطامحة إلى توسيع نفوذها الإقليمي ما انفكت تقتفي خُطا الحركة الصهيونية في تحويل الدين، بل المذهب الديني، إلى قومية، تتيح لها التحكم بحشود الشيعة في دول الجوار العربي، لاستخدامهم وقوداً في مشروع الهيمنة الفارسية على أوطانهم، بكل ما يفرضه من حروب أهلية، وسفك دماء.
لذلك، بدا الصراخ المتعالي في إيران مؤشراً فورياً على شدة الوجع الذي أصابها بإعدام ربيب حوزتها الدينية، ثم جاء رجع الصدى ندباً ونواحاً ووعيداً بالانتقام في بعض العراق وبعض لبنان، ليعكس ما كان يُراد للنمر أن يكونه في بعض السعودية، على ضوء خُطَب قديمة له، قيل إنه هدّد فيها بانفصال المنطقة الشرقية عن المملكة، ما لم ينل أبناؤها الشيعة حقوقهم.
ومع تصاعد رد الفعل إلى حد الاعتداء على الهيئات الدبلوماسية السعودية، صار واضحاً أننا أمام جنون قومي فارسي، يلتحف بعباءة الإسلام ويعتمر عمامة الشيعة، فيجرؤ مرشده الأعلى، علي خامنئي، على إطلاق الوعيد بما سماه "الانتقام الإلهي الذي سيطاول الساسة السعوديين لإراقتهم دم شهيد مظلوم من دون وجه حق"، بحسب قوله، ولكأن الله عز وجل يُرضيه، مثلاً، إرسال إيران خبراء وعصابات الموت للمشاركة بقتل مئات ألوف البشر في سورية والعراق، أو لكأن دم نمر النمر أقدس عند خالقه من دماء أطفال مدينة مضايا ونسائها وشيوخها، وقد تدفقت، أخيراً، صور موتهم تحت وطأة جوع مفروض عليهم ببنادق الولي الفقيه، واضطروا بسببه إلى أكل لحم القطط والكلاب، دونما جدوى.
تُرى؛ إذا لم تكن تلك هي الفاشية الدينية، فماذا يمكن أن تكون؟
وضع مقاتلو حزب الله تسعيرة للمبادلة على حواجزهم التي تطبق على مضايا، القرية السورية في القلمون الغربي. مبادلة بندقية مقابل عشرة كيلوغرامات من الطعام، دراجة نارية مقابل 10 كيلو اخرى، سيارة مقابل 15 كليوغرام
للوهلة الاولى يبدو ان العناصر هؤلاء يسعون الى تجريد المنطقة من سلاحها، ولكن في الحقيقة لقد دب الفساد واستحوذت تجارة الحرب على عناصر الحزب، سواء اكانت قيادته تعلم بالامر ام لا، فلا فرق، لقد غرق الحزب في تجارة الدم والموت، واصبح شبيها الى حد بعيد بالنظام السوري وبحزب البعث نفسه.
على ابواب مضايا المحاصرة يتم تسلم السيارات، والدراجات النارية، والبنادق، وكل ما يمكن ان يخطر على بال، مقابل بضعة كيلوغرامات من الطعام. عناصر الحزب تعيد بيع ما تقايضه بالطعام لاي راغب سوري بالشراء، البنادق والدراجات النارية والسيارات، والادوات المنزلية الكهربائية بضائع رائجة في سوريا، واقتناء سيارة لم يعد بحاجة لاوراق رسمية بحال كنت تتمتع بحماية احدى المليشيات في سوريا او كنت على علاقة وطيدة بمخابرات النظام واجهزته العسكرية.
اما اهالي مضايا فقد ذاقوا الامرين من الحصار الذي تجاوزت ايامه المئتين، البلدة كانت تضم 16 الف قاطن، ومع اشتداد المعارك في محيطها وسقوط البلدات في القلمون بيد حزب الله بدأت تستقبل وافدين من القرى المحيطة، حتى باتت تضم اكثر من 40 الفا من السكان.
والان بدأ الموت يحصد الرجال والنساء والاطفال، و”حال الثوار كحال كل الناس” يقول ابو عمر، احد الموجودين في مضايا واللاجئين اليها من قرية اخرى تعرضت للقصف والتهجير منذ اشهر.
لم يعضنا الجوع فقط، لقد انهكنا، واصبح الناس يهيمون في الشواع نهارا، بحجة البحث عن طعام، ثم يعودون الى منازلهم بعد ان يهدهم التعب ليناموا دون التفكير بالجوع او البرد” يقول الشاب الذي يعلم ان مصيره بحال خروجه من البلدة الاعتقال، والتعذيب او التطويع بالقوة في جيش النظام.
منذ بداية الثورة عملت الى جانب الثوار، واستشهد ثلاثة من اخوتي، وثم استشهد والدي، وتركت عائلتي في مكان ما، ولجأت الى مضايا، ودارت بي الايام وها انا محاصر هنا، واعاني الجوع” يقول ابو عمر، “لم يكن الدخول سهلا، الا ان ضابطا في جيش النظام مكنني من الدخول دون التفتيش في اوراقي”.
صباحا يستيقظ ابو عمر، ويتجه الى السوق في القرية، التي اصبحت تضم حوالي اربعين الفا من السوريين اغلبهم من اللاجئين من القرى المحيطة، وشأنه كشأن اغلب المتواجدين في السوق، يسير من هنا الى هناك بحثا عن شيء يمكن شراؤه، وطبعا قلما يجد شيئا في الاسواق، بعض اوراق العريش، او حتى اوراق شجر التوت، تعرض للبيع، ويشتري كل ما يقدر عليه.
في الصباح يتناول اهل مضايا وسكانها بعض البهارات المغلية بالماء”، يقول ابو عمر، “ليس في مضايا كهرباء، ولا وسائل تدفئة، حتى الحطب لم يعد متوفرا، وطبعا لا يوجد وقود او مازوت، الماء متوفر لحسن الحظ، والجميع يطهي البهارات، او اوراق الشجر بالماء”.
يتناول الاطفال الماء المغلي والبهارات كطعام افطار، ومنذ ان بدأت هدنة الزبداني توقف القصف، فراح الاهل يرسلون ابناءهم الى المدارس.
الناس ترسل الاطفال الى المدارس ليس لتحصيل العلم، بل لدفعهم الى الخروج من المنازل، ولتركهم يتعبون قبل العودة الى المنزل والنوم دون السؤال عن طعام او دفء”، ولكن هذا الاسلوب لم يعد ناجحا، فحتى المدارس لا تستقبل الاطفال اكثر من ساعتين يوميا، فلا قدرة لاحد على تحمل اطفال يعانون من الجوع.
في الشوارع تجد كل الناس مثلي، يسيرون باحثين عن رز، او برغل، وطبعا الكل يعلم انه لن يجد شيئا، ولكن نهيم على وجوهنا لننسى جوعنا، ولنتعب حتى نعود ونتمكن من النوم، وهناك دائما من يحاول التوجه الى الحواجز لاستجداء الطعام من جنود النظام او من عناصر حزب الله” يقول ابو عمر.
تتجه امرأة مع طفلها الى احد حواجز النظام المحيطة بالقرية، تستجدي رغيف خبز للطفل، فيجيبها العنصر على الحاجز “لا علاقة لنا، اذهبي الى عناصر حزب الله” وحين تصر على الطلب يصرخ فيها “عودي الى زريبتكم” يصرخ الطفل ما ان يبتعد عن الحاجز، يطلب الطعام من امه، تضيق الام ذرعا به، يعود ليصرخ “انا جائع”، تجيبه “حين نصل الى المنزل تنام”، يصرخ الطفل الجائع “منذ اربعة ايام لم تطعميني، انا جائع ولا اقدر ان انام”.
الغداء في مضايا هو ورق عنب مسلوق بالماء، او ورق شجر التوت مسلوق، وبعد الغداء انتفت عادة شرب الشاي السورية. “كيلوغرام السكر بـ 60 الف ليرة سورية (153 دولار اميركي )، وهو ما لا يتحمله احد تقريبا في مضايا. ومن كان يدخن اوقف عادة التدخين، فقد اصبح سعر علبة الدخان 12 الف ليرة سورية (30 دولار اميركي).
يتعب الناس من السير في الشوارع في القرية، البعض يهيم على وجهه دون وجهة، واخرون يتحركون بحثا عما يقيت اطفالهم، وعندما يشتد اليأس يحاول البعض الخروج تسللا من القرية، فتصطادهم نيران قناصة حزب الله، او ينفجر بهم احد الالغام الستة الاف المحيطة بحقول القرية وتلالها، ويفقد المحظوظين منهم اطرافهم، بينما يقتل الاقل حظا على الفور دون ان يجدوا من يسعفهم.
محاولات الفرار اكثر من ان تعد، احد سكان مضايا يقول ان المحاولات الناجحة نادرة، الالغام تتكفل بقتل من يحاول الخروج، ومن يتجاوز الالغام سيجد قناصة يردونه بطلقة، وكأنهم يتمرنون على صيد الارانب.
وعلى الرغم من ان القرية لا تتعرض للقصف، الا انها تعيش واقعا اسوأ من القصف، البعض في مضايا يناشد ربه بعد الصلاة باسقاط وقف اطلاق النار وخرق الهدنة، “الموت في القصف وتحت البراميل المتفجرة اسهل مما نعيشه” يقول ابو عمر.
وبحال ارادت عائلة مكونة من ستة اشخاص ان تتناول طعامها بشكل طبيعي في مضايا اليوم كما كانت تفعل قبل الحصار المستمر منذ اكثر من 200 يوم، فان كلفة ذلك ستكون حاليا 400 الف ليرة سورية يوميا (1000 دولار اميركي)، وهو ما لا يتوافر لاي عائلة موجودة في المنطقة.
مقاتلو الجيش الحر ايضا يعانون كباقي السكان، بدأت العلاقة بين السكان والمقاتلين بالتراجع، علما ان المقاتل يعيش على البهارات المغلية مع الماء واوراق الشجر، ولكن ثمة ما يدفع السكان الى اعتبار ابنائهم الذين يحملون السلاح، مسؤولين ايضا عما الت اليه الامور.
يطلق ابناء مضايا واللاجئين اليها اسم تجار الدم على بعض من قيادات المجموعات المقاتلة، وبعض المدنيين الذين امتهنوا شراء المواد المهربة، او المبادلة مع عناصر حزب الله بالمال والسلع، هؤلاء التجار هم من يشكلون اليوم الفئة الثرية في القرية، ويعيشون بحماية بعض قادة الجيش الحر، بينما ينظر اليهم السكان بصفتهم مصاصي دماء يتعيشون ويثرون من موت الالاف جوعا تحت حصار خانق.
لم يبق الكثير لتناوله على مائد الطعام في مضايا، منذ ايام قليلة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة قط يذبح، ونسبت الصورة الى سكان من مضايا يعزمون على تناول القط المذبوح.
نحن نتناول لحم الكلاب والقطط” يقول ابو عمر، “صورة القط المذبوح صحيحة، لقد اقمنا وليمة على لحم هذا القط، لم يعد يمكننا توفير اي شيء، لقد توقفت الاعمال منذ اكثر من سبعة اشهر، وما كان متوفرا من اموال يكاد ينفد لدى الجميع، بعض التحويلات تصل عبر تجار الموت، ولكن لا شيء يسد الرمق، واذا توفر المال فلن تجد ما تشتريه به”.
تغيب الفطنة بسبب أو بدونه عن المعارضة السورية بكل أطيافها ، و لا سيما السياسية ، التي تصر على الوقوع في نفس "الجورة" مع ذات الشخص ، و بنفس الاسلوب ، لتقدم خدمات للعدو ، إما عن غباء أو عن خبث القيادة الخفية أم عن خبثهم أنفسهم .
دخول عدد من الجهات في اطار مؤتمر المعارضة الذي عقد في الرياض الشهر الفائت ، وحسابها على المعارضة ، جعل من المعارضة ذاتها ليست بمعارضة ،و أقرب ما تكون للنظام منه للشعب ، وفق المنهجية التي تسير عليه ، ووفق ما هو مرسوم من الدول الفاعلة في الملف السوري .
انسحاب "لؤي حسين" يؤخذ على منحيين ، سلبي أو إيجابي . غبي أم ذكي ، و في كلا الأحوال له فوائد سنأتي على ذكرها مع الشرح لسلبية و ايجابية انسحاب "حسين " من الهيئة العليا للتفاوض التي ستتولى عملية المفاوضات مع النظام تمهيداً لعملية الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن ذي رقم ٢٢٥٤ .
حسين الذي زار الائتلاف بعد هروبه المزعوم ، وسبب بأزمة "العلم" ، ومن ثم أتبعها بتصريحات تشتم الثورة و الثوار ، عاد اليوم ليظهر كمنسحب من محاولة توحيد أطياف المعارضة ، وضمان تمثيل جميع أطياف الشعب السوري بما فيه "العلوي" ، هذه الفئة التي تصر على الانفراد بالطعن و الغدر ، وقام بواجبه اليوم ، ظناً منه أنه يطلق رصاصة القتل على مخرجات الرياض ، كما ظن نظام طائفته أنه ينهي ثورة شعب بالسلاح و استحضار "الأرزال".
ومن الممكن أن يكون لادخال "حسين" في توليفة معارضة الرياض كممثل عن الطائفة ليثبت أكثر فأكثر للعالم ، أن هذه الطائفة لن تصلح لأن تكون شريك في الحكم ، و أحسن حالات التعامل معها هي أن تكون محكومة ، ولاتمنح أي سلطة أو حتى حق تقرير مصير ، و من الايجابيات أيضاً ، أن انسحاب "حسين" قد يكون مرغوب لإنهاء فرصة تطبيق الحل السياسي في سوريا ، و بالتالي مشروعية الحل العسكري ، الذي يبدو أنه بات وشيكاً ، و يحتاج لبعض هزات كانهيار عِقد مجمتموا الرياض ، و فشل جمع النظام مع المعارضة .
معجب "حسين" بالمتلونين أمثال هيثم المناع و صالح مسلم ، ويتفق معه أيضاً حسن عبد العظيم ، الذي من المتوقع أن ينهي تواجده هو الآخر في هيئة المفاوضات ، ليشكل مع المذكورين ، حلف المعارضة المتلونة ، والمالك كما حدد مناع لـ ١٦ ٪ من سوريا .
من جودة القدر هي التصرفات التي تظهر تباعاً ، و بشكل متسارع وقبيل الانطلاق بالمفاوضات الجدية لتكون صك براءة لكل من شارك بمؤتمر الرياض ، والأهم دليل بذل كل الجهود الممكنة و الغير ممكنة لتحقيق حل سلمي حقناً للدماء .
طبول الحرب ترتفع أصواتها ، ويقترب هديرها من كل شيء على الأرض ، وإن كانت معركة غير متكافئة ، ولكنها هي المعركة الأخيرة في حرب الحرية السورية ، بين أشراف سوريا و أشرار العالم أجمع .
جددت محادثات فيينا أواخر العام الماضي روح التفاؤل الدولي حول إمكانية إنهاء النزاع السوري. أما بالنسبة للسوريين فهناك عديد من الأسباب المشروعة للبقاء حذرين؛ وسنبقى كذلك إلى حين معالجة ثلاث قضايا رئيسية. أولاها الحاجة الملحة إلى ضمان حماية المدنيين؛ والثانية مصير بشار الأسد المسؤول عن هذا النزاع الدموي، وعن مقتل أكثر من 300 ألف شخص، والعقبة الأساسية أمام الحل السياسي؛ والثالثة هي مساءلة مرتكبي جرائم الحرب. إن مفتاح الحل السياسي هو الوضوح والالتزام الحقيقي بهذه القضايا الجوهرية. إلا أن هذه القضايا أُغفلت بشكل كبير خلال محادثات فيينا في ظل غياب المشاركة السورية عنها حتى الآن.
بالنسبة للسوريين٬ فإنإنهاء النزاع على الأرض يعني وقف قتل المدنيين، الذين يقضي معظمهم جراء القصف الجوي العشوائي من قبل نظام الأسد، وتشاركه روسيا في ذلك الآن. وقد اتسع نطاق هذه الهجمات وازدادت كثافتها على مدى مسار النزاع. وكانت الغارات الجوية العشوائية من قبل نظام الأسد وروسيا مسؤولة عن ثلثي القتلى المدنيين في سوريا حتى الآن؛ كما أن 95% من ضحايا غارات نظام الأسد وروسيا منذ بدء النزاع في سوريا مدنيون. وبالمجمل، قُتل أكثر من 570 مدنيًا نتيجة الضربات الجوية الروسية في سوريا، غالبيتهم العظمى في مناطق يندر تواجد داعش فيها أو يغيب.
ومن المعيب أن يستمر مجلس الأمن بفشله في مساءلة أحد أعضائه على مقتل العديد من المدنيين السوريين الأبرياء. علاوة على ذلك، لم يتطرق قرار مجلس الأمن 2254 ولا تصريحات فيينا إلى هذا التهديد الرئيسي لحياة المدنيين في سوريا، والذي يستمر بتأجيج أزمة اللاجئين والدفع نحو التطرف.
إن ضمان حماية المدنيين أمر محوري لإنهاء الأزمة. وأي حل سياسي يسمح لطائرات الأسد وبوتين بالاستمرار بقصف المدنيين عشوائيًا لن يثمر. والهجمات الجوية مؤخراً؛ مثل تلك التي استهدفت خلالها القوات الجوية الروسية سوقًا شعبية في إدلب، متسببة بمقتل أكثر من 50 مدنيًا، واستخدام الأسد للبراميل المتفجرة التي تحوي غازات سامة في المعضمية؛ تهدد العملية السياسية وتجعل السلام مستحيلًا.
توجد العديد من الخيارات ذات الموثوقية لحماية المدنيين في سوريا، مثل منطقة خالية من القصف، وهي مطلب أساسي لمجموعة واسعة من السوريين داخل سوريا وخارجها؛ ومع ذلك يستمر تجاهل هذا المطلب خلال المحادثات الديبلوماسية الحالية. إن وقف القصف الجوي العشوائي سينقذ آلاف الأرواح، وسيستأصل الدافع الرئيسي لموجة هجرة السوريين، وسيواجه خطاب التجنيد الذي تستخدمه الجماعات المتطرفة؛ كما سيعزز قابلية المحادثات السياسية للنجاح، موضحًا للأسد وبوتين أن المجتمع الدولي مستعد لاتخاذ إجراءات ملموسة لإنهاء الأزمة.
الواقع بالنسبة لغالبية السوريين أن نظام الأسد، وليس داعش، هو من يرتكب معظم أعمال القتل في سوريا. وتعصب الأسد بوحشية إزاء المطالب المنادية بالحرية والديمقراطية هو ما أفضى إلى إراقة الدماء، وتسبب بالفراغ الذي تستغله داعش الآن.
لن ينتهي التهديد على السوريين وعلى الأمن الدولي طالما بقي الأسد في السلطة. وكذلك لن تكون الخطط لوقف إطلاق النار في أنحاء البلاد قابلة للتطبيق بدون مشاركة مجموعات الثوار السوريين المعتدلين-المجمعين على المطالبة برحيل الأسد.
إن إجماع المجتمع الدولي على الحاجة إلى القضاء على داعش مرحبٌ به من قبل السوريين، أول ضحايا همجية التنظيم الإرهابي، إلا أن داعش لن تُهزم بوجود الأسد، وباستمرار جرائمه من دون مساءلة. إن ضمان المساءلة ضروري لنجاح محادثات السلام، وللوصول إلى سوريا حرة وديمقراطية. ومع ذلك لم تطرح المساءلة عن جرائم الحرب الممنهجة بشكل فعليّ لا في فيينا ولا في نيويورك.
الأدلة على ارتكاب نظام الأسد لجرائم حرب واضحةٌ ودامغةٌ. إذ قامت لجنة التقصي الدولية المستقلة في الأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية، ومجموعات رصد داخل سوريا بتوثيق استخدام الأسلحة الكيماوية، والقصف الجوي العشوائي، والتعذيب الممنهج على نحو واسع.
ويظهر تقرير قيصر، الذي أكّدت عليه هيومان رايتس ووتش مؤخرًا، استخدام نظام الأسد للتعذيب بشكل ممنهج، ويشير بوضوح إلى التسلسل القيادي للجهات المسؤولة عن تعذيب وقتل أكثر من 11 ألف معتقل. لذا ينبغي على عملية فيينا كخطوة أولى نحو مساءلة حقيقية أن تضمن العدالة لكافة السوريين ضحايا هذه الجرائم النكراء، بما في ذلك إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية بالتوازي مع السلطات القضائية المحلية.
لا يمكن الفصل بين المساءلة والجهود الديبلوماسية، إذ أن إشراك مجرمي حرب في أي حكومة انتقالية سيودي فقط إلى تقويض مصداقيتها وتقويض الاحتياجات المشروعة للسوريين.
يمكن الحفاظ على الزخم الديبلوماسي الحالي لحل النزاع في سوريا بمشاركة السوريين أنفسهم فقط؛ وإثر الفشل في إشراكهم في محادثات فيينا كان محتمًا الإخفاق في التوصل إلى توافق حول القضايا الأساسية بالنسبة للسوريين: حماية المدنيين، ومصير الأسد، والمساءلة. وستكون الأشهر المقبلة اختبارًا حاسمًا لعزم المجتمع الدولي في تحقيق حل سياسي في سوريا. لكن الوقت يداهم السوريين؛ وفي حال كانت هنالك تسوية سياسية جادة على طريق الإنجاز، فينبغي على المجتمع الدولي أن ينصت إليهم ويتخذ خطوات عاجلة لضمان حمايتهم.