الغارة الروسية التي ذهب ضحيتها زهران علوش تؤكد السياسة الواضحة لموسكو. تؤكد ما لا يحتاج إلى تأكيد: لا تريد الاستماع إلى الآخرين، أو أخذ مواقفهم بعين الاعتبار. ولا انتظار التفاهم على «لائحة الحركات الإرهابية» التي وضعها الأردن. وكانت أبدت سلفاً اعتراضها على وجود ممثلين لفصائل عسكرية في مؤتمر الرياض للمعارضة. وتجهد لتغيير نتائج المؤتمر بضم معارضين بديلين منهم غابوا عنه قريبين منها ومن النظام. بودها تكريس هؤلاء. وإذا لم تستطع بالديبلوماسية فبالقوة لشطب من لا يروق لها جسدياً. القراءة السياسية للغارة ومؤداها هما الأهم. قائد «جيش الإسلام» كان رقماً صعباً في الميدان العسكري، في دمشق وريفها خصوصاً. لكنه على المستوى الشخصي كان مثار جدل واختلاف. هذا ما حفلت به سابقاً مواقف لقوى معارضة. وجه إليه كثيرون انتقادات، سواء لطريقة إدارته للقتال وتحويل مواطنين دروعاً بشرية. أو لمواقفه من الديموقراطية والتعددية. أو لطريقة إدارته شؤون الناس ومعيشتهم وإغاثتهم في مناطق سيطرة عسكره. واتهموه بالتشدد والتزمت وباعتقال عدد من النشطاء. وقامت في وجهه تظاهرات، على رغم أنه قاتل تنظيم «الدولة الإسلامية». حتى أن بعض أصدقاء المعارضة، محليين وإقليميين، كانوا يشعرون بالحرج حيال «اعتداله». وتردد أن محاولات بذلت ولم تتوقف سعياً إلى إبعاده عن الصورة من أجل الدفع بإشراك ممثلي قواته في «جنيف 3»، بعدما شاركوا في اجتماعات العاصمة السعودية في التاسع والعاشر من الشهر الجاري.
نتيجة الغارة الروسية على اجتماع قادة «جيش الإسلام» ليس هدفها علوش فحسب. هدفها إحراج هذا الجيش وآخرين لإخراجهم. هي تأكيد على أن موسكو مصممة على لائحتها الخاصة بالحركات الإرهابية. ومصممة على تحديد الوفد المفاوض للنظام، وعلى رسم صورة التسوية السياسية في سورية. والمفارقة هنا أن الغارة الروسية استهدفت زهران علوش الذي واجه «داعش» وطردها من غوطة دمشق، فيما قوات النظام تفاوض على تفاهم يسمح لمقاتلي «تنظيم الدولة» الإرهابي بالخروج «آمنين» من جنوب العاصمة إلى الرقة وريف حلب. كما يسمح لآخرين من «جبهة النصرة» بالتجمع في درعا تمهيداً لنقلهم إلى منطقة إدلب! طبعاً لم يكن الأمر يحتاج إلى هذه المفارقة لتكرار ما يقوله الأميركيون والأوروبيون والمعارضة. وهو أن الحملة الروسية لم تستهدف حتى الآن سوى الفصائل المعتدلة. والهدف واضح لا لبس فيه، على رغم الغموض الذي يكتنف بياني فيينا والقرار الأخير لمجلس الأمن الرقم 2254. لا يمكن موسكو الدفع برؤيتها الخاصة للتسوية من دون التمهيد ميدانياً بإزاحة ما تعتقد بأنه سيشكل عراقيل وعقبات أمام هذه التسوية.
ليس غموضاً أن روسيا تدخلت ميدانياً في سورية من أجل حماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بمشاريع الطاقة والغاز، من الخليج أو من شرق المتوسط، والهادفة إلى تقليص اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية. أدركت بعد أربع سنوات من دعمها قوات النظام ومن تدخل إيران مباشرة وبالواسطة، أن لا دمشق ولا طهران أثبتتا القدرة على القيام بهذه المهمة. لذلك جاء اندفاع الرئيس فلاديمير بوتين ليأخذ الأمر بقواته الخاصة. ولم يعد غامضاً أنه يسعى إلى بقاء النظام بصرف النظر عمن يتولى السلطة. ويدفع بآلته العسكرية غير مبال بالتداعيات. لا مساومات. القوة وحدها تفتح الطرق العصية على الديبلوماسية لفرض التسوية التي يرسمها. والواقع أن القرار الدولي الأخير 2254 تبنى مقررات لقاء «فيينا 2» الذي طوى صفحة بيان «جنيف الأول». و»التنسيق» القائم بين موسكو وواشنطن يكاد يطوي مقررات المعارضة في الرياض ويتجاهل التوافق على «لائحة القوى الأرهابية» التي يتولى الأردن إعدادها بالتنسيق مع جميع المعنيين بالأزمة السورية.
في ضوء هذه الاستراتيجية الروسية لا يبدو أن لقاءات «جنيف 3» ستفضي إلى انفراجات. يكفي النظر إلى مواقف الأطراف الذين يشكلون «الهيئة العليا للمفاوضات» قبل النظر إلى اعتراضات من اعترضوا على غيابهم أو تغييبهم، خصوصاً «مجلس سورية الديموقراطية» الذي يضم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وقوى أخرى أشورية وسريانية وتيار «قمح» لهيثم مناع. هناك أكثر من ثلاث وجهات نظر في «الهيئة» يعبر عنها كل من «الائتلاف الوطني»، و»هيئة التنسيق» و»تيار بناء الدولة»، والفصائل المقاتلة وضمنها «أحرار الشام»، و»جيش الإسلام» الذي لن ينتهي ويزول بمقتل قائده. ويمكن قراءة غياب المشتركات بين هذه القوى من مواقفها حيال المسيرة السياسية التي أقرها لقاءا فيينا والقرار الدولي، وما قبل ذلك وبعده. ولن تكون موسكو بعيدة عن تعميق الخلافات من أجل تعزيز خيارها العسكري، والدفع بالمعارضة السياسية والعسكرية التي يمكن احتواؤها من أجل إعادة تشكيل النظام الذي يعد بقاؤه مبرراً لاستمرار الوجود الروسي.
اللامبالاة التي ينهجها الرئيس بوتين حيال القوى الأخرى المعنية بالأزمة السورية لن تمر بسهولة. المعركة المفتوحة التي يخوضها ضد تركيا لن تريحه في سورية. صحيح أن مشروعها لإقامة منطقة آمنة شمال حلب وإدلب انتهت بإقامة منطقة عازلة جنوب تركيا باتت تحت مرمى صورايخ «اس 400» الروسية! وصحيح أن هروب الرئيس رجب طيب أردوغان نحو العراق أثار عاصفة في وجهه. لكن الصحيح أيضاً أن سعي الرئيس الروسي إلى عزل أنقرة يعزز موقع غريمتها طهران. بالطبع هو يراعي الوجود الإيراني في بلاد الشام لأنه لم يستطع حتى الآن إعادة بناء قوة حقيقية ضاربة من الجيش النظامي يمكن أن تحل محل المليشيات الوافدة من خارج الحدود. هذه المراعاة لدواع استراتيجية معروفة لا تثير الرئيس التركي وحده. بل تثير قلق قوى عربية وقفت إلى جانب المعارضة السورية وسكتت على التدخل الروسي لاعتقادها بأنه خير أو أقل ضرراً من التغلغل الإيراني. لكن مواصلة موسكو ضرب «الجيش الحر» والفصائل التي ارتضت الحل السياسي تبدو إصراراً على بعث أزمات مع هذه القوى. وتعزز نظرة كثيرين إلى أن روسيا باتت في مواجهة مفتوحة مع الإسلام السني في المنطقة، في وقت لا شيء يضمن أن التسوية يمكن أن تفرض على السوريين من خارج بعد كل هذه التضحيات. حتى سيد الكرملين نفسه يعرف أن لا جدوى من دعم النظام.
ولا يكفي هنا أن يعتمد الرئيس بوتين على «لامبالاة» مماثلة يعتمدها نظيره الأميركي باراك أوباما حيال أزمة سورية. الأخير يعتمد سياسة واضحة حيال التدخل العسكري الخارجي. خبر أكلافه الباهظة التي ترتبت على الحروب الاستباقية. وأعلن أكثر من مرة أن لا قدرة لبلاده على التدخل وممارسة القوة في كل أزمة إقليمية هنا أو هناك. لذلك لا يضيره أن ينوب عنه سيد الكرملين في دور «الشرطي الدولي». لأنه يعرف كما يعرف نظيره قدرة روسيا على التحمل اقتصادياً، مهما حاولت التقليل من حجم تكاليف تدخلها العسكري في بلاد الشام. لقد دفع بوتين ولا يزال يدفع غالياً ثمن عناده في أوكرانيا. كانت العقوبات رداً على تجاهله مواقف أميركا وأوروبا. وضمه شبه جزيرة القرم وتحريكه مناطق الشرق الأوكراني لم يعيداه ولن يعيداه إلى قلب كييف. وستظل هذه بقربها من الغرب تشكل تحدياً لاستراتيجيته واستنزافاً لمقدراته. ولن تكون حاله أفضل في سورية. فلا شيء يضير واشنطن وهي ترى إليه يُستنزف في رمال المنطقة، ويتحول خصماً لدوداً للعالم العربي والإسلامي. ومثلها شركاؤها الأوروبيون الذين بدلوا ويبدلون من مواقفهم على وقع موجات المهاجرين وإرهاب «داعش» المتنقل خارج «دولة الخلافة».
أن يرسم الرئيس بوتين صورة التسوية في سورية ويفرضها بقوة طائراته وصواريخه ليس خياراً مضمون النتائج. لن يطول انتظار اللاعبين الآخرين وصبرهم. مستقبل بلاد الشام جزء لا يتجزأ من مستقبل الإقليم برمته. بل هي قلب الإقليم. وليس بمقدور موسكو أن تحدد صورة المنطقة وبناء نظامها وحدها وعلى هوى مصالحها فقط. لن يدعها السوريون قبل الآخرين، من أميركا إلى أوروبا ودول إقليمية وعربية لا تزال تنتظر لعل وعسى. قد لا يمر وقت طويل حتى ينهار مشروع بوتين للتسوية، كما تنهار طموحاته في آسيا الوسطى أمام زحف الصين. سيدرك عندها أن تركيا والفصائل الإسلامية، من «جيش الإسلام» إلى «أحرار الشام» وغيرهما، ليست المشكلة الوحيدة في وجهه. كفُّ يدِ تركيا عن سورية لن يغيبها قوةً راجحة في الإقليم. وقتل زهران علوش لا يقضي على الفصائل الإسلامية. المواجهة مفتوحة على امتداد المنطقة، والميدان الشامي يختصرها كلها ، فهل تصمد موسكو؟ أو بالأحرى هل تصمد سورية ويبقى منها شيء للصراع عليه؟
يرجّح أن ترتبط مستجدات الشأن السوري مع حلول سنة جديدة، بما قد ينجلي عن تنفيذ خطة الطريق التي تضمّنها قرار مجلس الأمن 2254، وما يترتب على ذلك من إعادة بناء المواقف والاصطفافات، ومن تطورات ميدانية لن تخلو من بعض الغرائب والمفاجآت، ومن عمليات كرّ وفرّ لضبط دوامة الصراع الدموي المتفاقم.
ويرجح أيضاً، أن يشهد مسار التنفيذ مناورات وارتدادات، ومحاولات متنوعة لتمييعه وإعاقته، بخاصة أن غالبية أطراف الصراع الداخلية تزدري السياسة وترفض ضمناً قرار مجلس الأمن، وتالياً تقديم تنازلات تفتح الباب أمام حلول سلمية، وهي بلا شك ستتوسّل، لتحقيق مآربها، دعم حلفاء يناصرون موقفها. والأهم ما يتضمّنه القرار من غموض ونقائص وثغرات، مثل غياب آليات ناجعة لوقف العنف والتزام نتائج المحطات التفاوضية، ثم تباين المواقف من ماهية الجماعات الإرهابية ومن تركيبة الحكم الانتقالي العتيد!.
لكن المتوقع أن تصطدم مناورات القوى المحلية بإرادة أممية، تبدو حازمة هذه المرة، لإخماد بؤرة التوتر السورية، تحدوها تفاهمات جدية وتوافقات في المصالح والمخاوف لدى أهم الأطراف الدولية والإقليمية.
ودليل الإرادة الحازمة هو الطريقة التي عالجت بها هذه الأطراف خلافاتها وتبايناتها حول الحل السياسي، فاستبعدت مشاركة ممثلين من السلطة والمعارضة، وأظهرت سرعة في تقديم تنازلات متبادلة للتوصل إلى إجماع أممي توّج بخطة أولية لوقف العنف، وجدول زمني للسير في العملية السياسية. أما جدية التوافقات، فلا تستند فقط إلى تبلور مصالح اتحدت لمواجهة قوى التطرف الجهادي، وفي مقدّمها تنظيم «داعش»، الذي بات يرغد ويزبد ويهدد بشن عمليات إرهابية في أهم العواصم الغربية، وإنما أيضاً إلى ضرورة الحؤول دون تحوّل سورية إلى دولة فاشلة خشية انفلات الصراع وتمدّده إلى بلدان الجوار وزعزعة استقرار المنطقة، ثم إلى حاجة مستجدة تتنامى لدى بلدان الغرب لوقف تدفّق اللاجئين الهاربين من آتون العنف إليها وما يشكلونه من ضغط سياسي واقتصادي.
وبعبارة أخرى، ما دام ثمة اعتقاد بأن قرار مجلس الأمن حول الشأن السوري وُضع كي يأخذ طريقه إلى التنفيذ ولن يهمل كاتفاق جنيف، فليس مستبعداً أن يلجأ صانعوه إلى عقد اجتماعات ملحقة واتخاذ قرارات جديدة لتدقيق الإجراءات وتحديد المسؤوليات ومحاصرة المارقين، وربما يصلون إلى البحث عن وسائط ناجعة لتنفيذ خطتهم، كوضع الحالة السورية تحت البند السابع، أو تشكيل قوات عربية ودولية للفصل بين المتحاربين ومراقبة تنفيذ الخطوات المطلوبة.
ومن جهة أخرى، تستقبل البلاد عاماً جديداً والتدهور يتسارع في الملف الإنساني، إن لجهة أعداد الضحايا وحجم الدمار، وإن لجهة الغموض المؤلم في مصير المعتقلين والمفقودين، وإن لجهة تردّي أحوال المهجرين، مرة بسبب تراجع المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة، ويعتصرك الألم حين تراقب كيف يُترك اللاجئون في المخيمات شبه عراة أمام جنون الطبيعة وغدرها، وكيف يكابدون شروط حياة تشتد قسوتها مع تراجع فرص حصولهم على المواد الغذائية والرعاية الصحية، ومرة ثانية، بسبب نفور الشعوب الغربية منهم نتيجة الانعكاسات السلبية التي خلّفتها الأعمال الإرهابية الأخيرة، هذا ناهيكم عن الأوضاع المأسوية لمن لا يزالون تحت حصار شديد منذ سنوات، أو للنازحين الهاربين من آتون العنف إلى مناطق آمنة في ظل ضيق الفرص وبحثهم المضني عن مأوى ولقمة عيش لسد أبسط مستلزماتهم الحياتية. وينسحب الأمر على غالبية السوريين الذين باتوا يعانون الأمرّين، في ظل التدهور المريع للوضع الاقتصادي والارتفاع المخيف في أسعار السلع الأساسية والغذائية نتيجة تعطّل غالبية المشاريع الإنتاجية وتدهور القدرة الشرائية.
ولا حاجة الى كبير عناء كي تلمس ازدياد أعداد البشر غير القادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم المعيشية، ربطاً بتردي شروط حياتهم الصحية والتعليمية والخدمية، ناهيكم عما يخلفه انتشار مراكز قوى وجماعات مسلّحة غير منضبطة باتت تتحكّم بالأرض وتمارس بقوة السلاح ما يحلو لها من خطف وابتزاز ونهب، من دون أن تخشى أية مساءلة أو عقاب!.
والحال هذه، إذ تزداد المحنة السورية على مشارف السنة الجديدة عمقاً وشمولاً وتطاول الجميع بلا استثناء، فإن وضوح الرغبة لدى غالبية الناس في الخلاص من هذا الوجع والخراب ورفضهم استمرار العنف وأي دافع يسوغ هذا الاستهتار المخزي بأرواحهم ومستقبل وطنهم، وكذلك الانكفاء الموضوعي للعنفوان الإيراني ورغبته التوسعية بعد النتائج التي حصدها في المشرق العربي واليمن، وتقدّم إرادة أممية تشهر مطلب الحفاظ على وحدة البلاد ومؤسسات الدولة وحقوق الإنسان، وتسعى الى وقف العنف المفرط وردع صوره المتطرفة والثأرية، نقف عند أهم الأسباب التي تشجّع على التمسك بوقف العنف كعتبة إقلاع لمعالجة الصراع السوري سياسياً، ومن دونها لا يمكن البناء على احتمال انحسار بعده الطائفي والمذهبي وتراجع الشروخ والتنابذ بين مكوناته، وتالياً للاشتغال على وحدة الذات المجتمعية ودورها في عملية التغيير السياسي الديموقراطي.
فهل ينجح إجماع القوى الأممية في محاصرة أطراف الصراع والضغط عليهم لوقف العنف وضمان نجاح المرحلة الانتقالية؟! أم لا يزال الوقت مبكراً كي يقتنع أصحاب منطق القوة والغلبة بأن الإصرار على تغليب المصالح الأنانية والضيقة، يعني استمرار الدوران في حلقة مفرغة من دون اكتراث بمعاناة البشر وما يكابدونه؟!.
«إننا محكومون بالأمل»، عبارة يتبادلها البعض وهم يستقبلون عاماً جديداً ربما لأنهم يعتقدون أن ما حلّ بهم يكفي، وأن ثمة فرصة لأن يكون الزمن المقبل مخاض خلاص من عبثية الصراع الدامي واستهتاره بأرواحهم وحقوقهم، وتالياً لتأكيد ضرورة دعم القرار السياسي الأممي كخيار متاح لوقف الاقتتال والعنف، وتقدير دوره المفتاحي في البدء بتجاوز ما صارت إليه أحوالهم، عساه يخفف من وطأة المخاض ويعجل وصول الناس إلى حقوقهم وما يتطلعون إليه!.
للكيماوي عند نظام الأسد مواسمه التي تزامنت، هذه المرة، مع مناسبات الأعياد الدينية للسوريين، من مسلمين ومسيحيين.. وعلى الرغم من هزالة ما أُنتج في مؤتمر الرياض من قرارات ليس لها شكل عَمَلي، وغير ملزمة لكل الأطراف، فإن البيان النهائي للمؤتمر احتوى، ولو شكلياً، على بندٍ تتكرر فيه دعوة ملحة لوقف كامل لإطلاق النار، وفق قرار يشمل جميع أراضي الجمهورية العربية السورية.
في دمشق، كان بشار الأسد يعد خطة مضادة، فظهر مع زوجته في توقيت المؤتمر على التلفزيون، وهو في إحدى الكنائس، مقتحماً تدريبات العزف المعتادة، ليقول للناس أنا هنا وأنتم هناك، تلا ذلك مجزرة جديدة في دوما، راح ضحيتها عشرات. واعتماداً على ردود الفعل المنعدمة التي قدمها العالم على المجزرة، أكمل نظام الأسد خطته، وأرسل رسالة أكثر فاعلية أفرج فيها عن جرعةٍ جديدة من سلاحه الكيماوي ليقتل بها سكان مناطق في ريف دمشق.
الموت هو واحد، وعدد الضحايا من السوريين مستمر بلا توقف، إلا أن الرسالة التي أرسلها النظام بإعادة استخدام السلاح الكيماوي تُعَدُّ مؤشراً خطيراً على العملية السياسية، وفيها تحدّ واضح للسوريين والعالم، خصوصاً إذا نَشطنا ذواكرنا لنستحضر عبارات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الواهية، وخطوطه الحمراء، وصفقة تسليم الكيماوي التي أجراها الأسد مع الأميركان برعاية روسية.
شَحَذَتْ صورُ السوريين المختنقين بالكيماوي، وحتى المقتولين تحت أنقاض منازلهم، هممَ معارضي الحل السياسي، لإشغال صفحات الميديا الاجتماعية، بما يدعم قرارهم رفض كل ما يمكن أن يأتي من هذا "العالم المتآمر"، من دون أن يُطلعنا أحدهم على سبيل آخر للحل.. وخرج عن مؤيدي النظام، ومَنْ في حكمهم، نفيٌ شكلي لاستخدام الكيماوي، مهمته ملء هواء الفضائيات بتصريحات لها صفة أخلاقية تُدخل المتابعين في شد وجذب غير منتهٍ، تعزّزه هزالةُ قرارات المؤتمر الأخير التي لم تستطع إدخال بعثات محايدة لتقصي الحقائق على الأرض.
يتسق ما يجري في الميدان مع تصريحات أفراد النظام السوري التي أدلى بإحداها وليد المعلم أمام وزير الخارجية الصيني، فمعلم النظام ما زال يتكلم عن حكومة وحدة وطنية، وليس عن هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة، كما نص مؤتمر الرياض ومن قبله فيينا وجنيف. ويتحدث الوزير عن وفود معارضة ربما يقبلون بها، وبالتالي، ربما يرفضون الحوار معها، قبل البدء بعملية الانتقال السياسي، بالطبع من دون أن ينسى العزف على سمفونية الإرهاب الذي يجب على الجميع محاربته، والذي يَعتبر المعلم نظامه سيكون شريكاً في تحديد كتائبه وأفراده.
في موسكو، ينفش بوتين ريشَهُ بعد زيارة وزير خارجية أكبر دولة له، ويُسهب في الكلام عن القانون الدولي والعقل السليم الذي يجب أن تدار الأمور به، ويتحدث عن اتصالات بين روسيا وكتائب معارضة على الأرض لا تثق بالتعاون مع النظام؛ لكن هدفها محاربة داعش. يسفّه بوتين الاتهامات التي تطاول روسيا عن رغبتها في إقامة قاعدة دائمة في المتوسط، ويستعرض مقدراته الصاروخية التي تلغي أهمية تلك القاعدة، ويغمز إلى أن معارضين سوريين تعهدوا له "بأخذ مصالح روسيا بعين الاعتبار"، لكن الأمر لا يعنيه، ومن ثم يعود مجدداً ليزاود على السوريين والعالم، ويتناسى ضحايا الهجمات الروسية، أخيراً، في إعزاز وريف دمشق، ويقول إن الحلول ووقف العمليات الحربية واختيار قيادات لسورية قرارات سورية بامتياز، والبت فيها يخص الشعب السوري وحده!
يصر بوتين على الأهمية المطلقة للدور السوري في الحل، مع علمه وعلم المجتمع الدولي بكامله أن السوريين لم يستطيعوا، على الرغم من كل المحاولات؛ الجادة منها والمزيفة، تحقيقَ حد أدنى من شروط الحياة لمن هم في داخل البلد، للوصول إلى وقف لإطلاق النار، أو للحد من هدم البيوت والبنايات فوق رؤوس ساكنيها، أو حتى إسعاد قلب الأمهات والآباء بالإفراج عن أبنائهم المعتقلين أو المخطوفين منذ سنين، بينما طائرات أكبر دول العالم تسبح في سمائهم.
ولد نظام "البعث" من انقلاب عسكري مناقض لإرادة الأغلبية الساحقة من السوريين، ولم ينجح في فرض وجوده والاستمرار، إلا بعد أن قبل أن يكون سلطة احتلال، وتحول بالفعل إلى سلطة احتلال. وكان عرّاب هذا التحول هو حافظ الأسد الذي تسلم قيادة النظام المضطرب منذ انقلابه على رفاقه في أواخر 1970. وكأي سلطة احتلال، ما كان في وسع الأسد أن يحتفظ بسلطته في مواجهة شعب رافض لها إلا بالنجاح في كسب تأييد الدول الكبرى الإقليمية والعالمية وبدعمها. وكانت سياسته ومصدر إعجاب الدول التي دعمته به الطريقة التي أدار بها مصالح الدول الأجنبية المتناقضة في سورية، وفن تزوير الإرادة الشعبية الذي أتقنه من خلال مطابقة سياسة وكيل أعمال القوى الأجنبية على الأرض السورية مع الأهداف والشعارات النبيلة التي كانت تحرّك السوريين والشعوب العربية، وفي مقدمها مقاومة التوسع الإسرائيلي ومبادئ السيادة والاستقلال التي كرّست نصف قرن من الكفاح الدامي ضد الاحتلالات الأجنبية.
بعكس ما يردده باحثون كثيرون اليوم، كان حافظ الأسد أول من انحاز بسورية من منطقة النفوذ السوفييتي الروسي نحو النفوذ الغربي. وفي إطار الانحياز نحو الغرب، طور سياسة العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها، وفي إطاره أيضاً خطط للتدخل السوري في لبنان عام 1975، والذي كان ضد إرادة الحكومة السوفييتية. وفيه أيضاً دخل في المفاوضات السورية الإسرائيلية حول الجولان، وعمل على تطوير سياسة التقرب من دول الخليج، والمملكة السعودية بشكل خاص، وشارك، على هذا الأساس، في التحالف ضد نظام صدام حسين، ثم في الحرب التي قادتها إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب) ضده.
لكن حافظ الأسد الذي قرر التوجه في اتجاه الغرب لم يذهب بذلك كما فعل السادات من قبل إلى حد قطع جميع علاقات التعاون مع السوفييت، ثم مع الروس الذين ورثوهم. ولذلك، بدت حركته وكأنها محاولة لإعادة التوازن لعلاقات سورية الدولية أكثر منها تغييرا للولاء. وهذا ما فعله أيضا في علاقاته مع الدول الإقليمية الرئيسية، فوقوفه إلى جانب المملكة العربية السعودية والخليج لم يجعله يخفف من قوة علاقاته مع إيران، حتى قبل التقاطع الكبير في المصالح منذ سقوط النظام البعثي العراقي.
هكذا، لم يغير التوجه السياسي الغربي للنظام، على الصعيد الدولي، من اعتماد الأسد الرئيسي في قطاع الأمن والجيش، وعلى جميع المستويات، على الاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوفييتي. وهذا ما حفظ للروس موقعاً استراتيجياً ثابتاً في البحر المتوسط والشرق الأوسط، لا يقتصر فقط على قاعدة طرطوس الرمزية. وفي المقابل، عزّز النظام تعاونه السياسي والدبلوماسي مع واشنطن وبروكسيل، في إطار البحث عن تسوية سياسية مع إسرائيل، واستعادة الأراضي السورية المحتلة في الجولان. ومنذ أواخر التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، توثق التعاون بين أجهزة الاستخبارات السورية والأميركية والأوروبية عموماً إلى درجةٍ صار النظام السوري يفتخر، هو نفسه، بأنه المسؤول عن إنقاذ أرواح أميركيين وأوربيين عديدين من عمليات الإرهاب. ولعبت أجهزة المخابرات السورية دوراً كبيراً في تعقب التنظيمات المتطرفة واختراقها، وتنفيذ المهام القذرة لحساب واشنطن على الأرض السورية، منذ بداية القرن. وتحول هذا التعاون الأمني إلى أهم تجارة مشتركة بين البلدين.
وعلى المستوى الإقليمي، طوّر النظام علاقات قوية مع طهران، من خلال انفتاح واسع النطاق على المستويات، السياسي والدبلوماسي والمذهبي، والذي تحول بعد أزمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري إلى حلف استراتيجي، وتعاون متعدد الأشكال، أعطى لطهران الانطباع بأن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وبالنسبة لبعض قادتها من ترابها الوطني. وفي المقابل، نجح الأسد في استرضاء تركيا، أولاً، بالتوقيع على اتفاقية أضنة (أكتوبر/تشرين أول 1998) التي أنهت عقوداً طويلة من دعم النظام السوري حزب عبدالله أوجلان، العمال الكردستاني، ثم أكثر من ذلك، بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة عام 2004. وقد أنتج هذا التعاون الأمني، ثم الاقتصادي، عرساً حقيقياً في العلاقات السورية التركية، استمر إلى أشهر طويلة بعد اندلاع الثورة السورية. وقد فتحت سورية أمام تركيا، بهذه الاتفاقية، أبواب المشرق العربي على مصراعيه، وقدمت لها خياراً شرق أوسطي، رديفاً للخيار الأوروبي المعلق. وفي المقابل، حصلت إسرائيل على كل ما تتمناه من حكومة الأسد، وهو الحدود الآمنة التي كانت تحلم بها، حتى من دون اتفاقية سلام، والتي سمحت لها بالضم العملي للجولان، كما استكملت بها الحدود الآمنة التي حصلت عليها في الجبهة الجنوبية المصرية، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ومكّنتها من عزل الحركة الوطنية الفلسطينية وتحييدها، وإنهاء حلم الدولة الفلسطينية. وكان النظام قد شنّ حرباً شعواء ضد هذه الحركة أيضاً، وعمل على تقسيمها منذ نشوئها في السبعينيات، وخاض ضد قواتها حرباً دموية في شمال الأردن (سبتمبر/ أيلول 1970)، ثم في لبنان (أكتوبر/ تشرين أول 1983)، ولم يتردد من قبل في طرد رئيسها ياسر عرفات من دمشق (يونيو/ حزيران 1983)، ما لم يكن يستطيع أن يفعله أي نظام عربي.
أما من جهة الدول الخليجية، فقد كان من السهل تحييدها، منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة، بالتحالف الضمني، ثم العلني معها، ضد نظام صدام حسين، ونزوعه القوي إلى الهيمنة الإقليمية، أو من خلال ابتزازها بحمايتها من الإرهاب في مقابل ما قدمته من مساعدات ومعونات مالية.
هكذا ضمن الأسد أن تجد جميع القوى الإقليمية مصلحة لها في الإبقاء على نظامٍ يتعاون معها، ويؤمن مصالحها الرئيسية، حسب الأجندة الخاصة بكل منها. وكان ثمن ذلك تحييد الشعب السوري وعزله، وشل إرادته، وحرمانه من أي أملٍ، بدعم أو تضامن أو تعاطف خارجي، عربي أو دولي، وتحويل سورية، بالفعل، إلى ملكية خاصة، بقبول دولي، ومزرعة عبودية، تأتمر بأمر رجل واحد وتخضع لإرادته، ولا تعبد سواه. وبمباركة الدول وإجماعها، سجّل حافظ الأسد الدولة "الجمهورية" والشعب قبل أن يموت باسم ابنه بشار، ولم يصدر عن أي طرف، لا داخلي ولا خارجي، تعليق أو استغراب أو ملاحظة واحدة.
الوصاية الروسية المفروضة
حتى ربيع العام 2011، واندلاع الثورة الشعبية، عاش النظام السوري، وضمن مصالحه واستقراره، والقوة التي مكّنته من احتواء المشكلات الكبرى الداخلية التي كان يعاني منها، وهي ليست فقط سياسية، على هذا التوزيع الدقيق والمركب للمصالح الذي ضمن به ولاء الدول الإقليمية وغير الإقليمية، حتى عندما كان يدخل في نزاعاتٍ مع بعضها، بسبب ميل هذا الطرف، أو ذاك، إلى المبالغة في توسيع نفوذه على حساب الأطراف الأخرى، وبالتالي، تهديد التوازن الدقيق القائم. فبمقدار ما نجح الأسد في إيجاد توزيع للمصالح الوطنية على الدول الأجنبية، وضمن تأييدها، تحول هو نفسه، أعني نظامه وسلطته، إلى مركز توازن إقليمي، أو أحد أركان هذا التوازن الرئيسية. وأصبحت سورية، خلال سنوات طويلة، حقل استثمار مشترك للدول الإقليمية الرئيسية، وفرصة لتأمين التعاون في ما بينها، وتحييد نزاعاتها أو تناقضاتها المتعددة. وكانت، للسبب نفسه، منطقة فك اشتباك بين الأطراف، وتجنيبها الصدام في ما بينها، بمقدار ما حيّدت سياسة التوازنات هذه الموقع الاستراتيجي الاستثنائي الذي تمثله سورية، وأبعدته عن النزاعات الدولية والإقليمية. وبمقدار ما أمن هذا التوزيع استقرار النظام، جعل من بقائه واستمراره ضماناً للاستقرار والسلام الإقليمي والدولي، ولو كان ذلك على حساب تجريد بعض الشعوب من حقوقها، وفي مقدمها الشعب السوري.
وهذه هي روح السياسة التي طبقها، أيضاً، في الداخل بتحييده السلطة عن أي نزاع، وإطلاقه رهانات ثانوية بديلة، يتنازع من حولها الأفراد والجماعات، اقتصادية، حيد من خلالها رجال الأعمال، ورمزية مرتبطة بالصراع على مناصب الدولة الإدارية ووظائفها، بعد أن حولها أيضاً إلى مناصب إدارية تنفيذية، مفرغة من محتواها السياسي، بما في ذلك منصب رئاسة الوزارة، أو التنافس على اقتناء المنتجات الكمالية ونصف الكمالية، من خلال احتكار إنتاجها أو استيرادها وتوزيعها، من الشقة إلى السيارة خصوصاً إلى علبة المحارم الورقية.
انهارت سياسة الأسد القائمة على الحفاظ على التوازنات، وبالتالي، اللعب على التناقضات وإدارتها، بعد موت مصممها، لسببين رئيسيين متلازمين ومتفاعلين. الأول، كسر الشعب قانون العزل والخنوع، تحت تأثير ثورات الربيع العربية ودخوله القوي إلى حلبة الصراع السياسي. والثاني كسر طهران قانون الموازنة الدقيقة بين المصالح الإقليمية والدولية، وسعبها إلى الهيمنة الإقليمية بعد انهيار الدولة العراقية. وفي السياق، سوف تندلع الحرب أيضا، بتطابق إرادتين: إرادة النخبة الحاكمة وتصميمها على استخدام السلاح للدفاع عن احتكارها السلطة، وتدمير النخب الجديدة المطالبة بالمشاركة فيها، وإرادة طهران في الانفراد بموقع سورية الاستراتيجي، وتحويلها إلى مقاطعة إيرانية، وتهديد مصالح جميع الشركاء الإقليميين الآخرين، وطردهم منها.
هكذا حصل الربط بين الحرب الداخلية التي شنها الأسد على شعبه، لإعادة إدخاله في قفص القنانة والعبودية الذي أراد الخروج منه، بمطالبته بالمشاركة السياسية، والحرب الإقليمية التي توقد فيها طهران، من أجل بسط سيطرتها وقيادتها على المنطقة، وفرض أجندتها القومية عليها، وتحويلها إلى قاعدة لانطلاقها نحو آفاق السياسة الدولية. وهكذا صار قتل الشعب السوري وتدمير وطنه تفصيلاً صغيراً وتضحية بسيطة في سبيل تكوين قوة إسلامية كبرى، مرهوبة الجانب، بحجم الهند والصين وروسيا وأميركا، تقودها طهران الإسلامية، ويلتف حولها أكثر من مليار ونصف مسلم.
ويكمن هذا الربط في أساس الكارثة الإنسانية والحضارية التي عرفتها سورية والمنطقة، منذ سنوات خمس. فبقدر ما قطع الطريق على أي انتصار للشعب السوري، ومنع من البحث عن تسوية، عزز إرادة القتال عند الجميع وعمّق الشرخ بين النظام والشعب، وحوّل الحرب من نزاع سياسي إلى حرب وجود، يلعب فيها كل طرف مصيره. وفي موازاة ذلك، فاقم الانخراط الإيراني الواسع في الحرب على الشعب السوري من مخاوف باقي دول المنطقة، ووضعها على شفا حرب نفوذ إقليمية، وأغلق أمامها طريق الحوار، وأدخل المنطقة في طريق مسدود، وفي حرب تدمير ذاتي ومتبادل، لا نهاية ولا أفق لها.
كما وجدت جميع القوى الإقليمية والدولية مصلحتها في تحييد الشعب السوري من قبل، لم يجد أي منها مصلحة كبرى في دعم الثورة السورية. فباستثناء ما يتعلق بإسرائيل وأمنها، لم يبد الغرب اهتماماً كبيراً بالحرب الدموية. وكان من مصلحة تل أبيب أن يدمر عالم الإسلام والمسلمين نفسه بنفسه، كما دمر عالم العرب نفسه بنفسه، منذ بداية الاستقلال في الصراع على موقع القيادة القومية، بين "البعث" والناصرية، وأن تفرغ الحرب إيران والعالم العربي من قوتهما مجتمعين.
ولم تكن روسيا أيضاً معنية بوضع حد لهذه المحرقة الإنسانية والحضارية التي قرّرت استخدامها ورقة للضغط على الغرب، وفرض إرادتها عليه في المحافل الدولية، وإذلاله انتقاماً لما تعرّضت له روسيا ما بعد السوفييتية من تهميش وإقصاء وإذلال.
وقد ساهمت موسكو، بقطعها الطريق في مجلس الأمن على أي تدخل إنساني لحماية المدنيين في سورية، في ظهور "داعش" ونموها، ودفع ملايين اللاجئين الهاربين من القصف بالبراميل المتفجرة في اتجاه الدول الاوروبية. وكانت تنتظر أن يتوسل الغرب مساعدتها، لوقف تدهور الوضع في سورية والمشرق. وهذا ما حصل بالضبط، بعد أربعة أعوام. وتشعر الحكومة الروسية، الآن، بأنها سيد اللعبة في سورية والمشرق، وهي التي تستطيع أن تفرض شروطها من أجل التوصل إلى تسوية تخدم مصالحها القومية، ليس في سورية فحسب، وإنما قبل ذلك في أوروبا نفسها. وهي تنتظر عروض الغربيين حول أوكرانيا، ومصير العقوبات المفروضة عليها، قبل أن تشرع بالضغط على الأسد، من أجل تقديم التنازلات التي لا حل سياسياً من دونها.
تريد موسكو، حسب مخططها المطروح الآن، أن تنهي الحرب، وتحقق الأمن والسلام في المنطقة، بتوطيد السيطرة العسكرية على سورية، وتوزيع الحصص على الدول المتنازعة عليها، حسب رؤيتها وتحالفاتها الدولية، في مقابل تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المسرح وعلى حسابه. وهذا هو ما فعله الأسد الأب من قبل. لكن الفرق، مع ذلك، كبير بين سورية الأسد الأب، وسورية الأسد الإبن. فقد انكسر قفص العبودية إلى غير رجعة، ولن يمكن إعادة السوريين إلى أي بيت طاعة، حتى لو استخدم بوتين كل السلاح الروسي.
لن يحل السلام في سورية، ولن يمكن تحقيق أي تسوية بين القوى المتنازعة على تقاسم المصالح والنفوذ فيها إلا بأمرين: إعلان وصاية دولية قانونية تتصرّف بدل الدولة السورية وباسمها، وتمنع القوى المتنازعة من تقاسم سورية، حسب مصالحها والاستمرار في تفجيرها بالحروب المتقاطعة، أو قيام نظام سياسي قوي، يعزّز استقلال القرار الوطني السوري، ويضمن المصالح والحقوق المشروعة لجميع الدول المعنية، في الوقت نفسه. ولن يكون بالإمكان بعد الآن قيام نظام سياسي قوي وسلطة موحدة وسيدة في سورية، من دون كسر منطق إقصاء الشعب وإبعاده عن السياسة وتهميشه وتحييده. فالبديل الوحيد عن نظام الاستبداد والتمييز الطائفي والإقصاء الذي عرفته سورية في العقود السابقة للثورة، وعن الوصاية الدولية، هو نظام سياسي سوري بقاعدة شعبية عريضة، نظام الشعب الحر، المستعد للموت في سبيل وطنه، والمتمسك باستقلاله وسيادته، والقادر على إخضاع المصالح الإقليمية جميعاً إلى مصالح سورية العليا في الوحدة والاستقلال والأمن والتنمية الإنسانية.
يحتاج هذا إلى الاعتراف بحقوق الشعب السوري، والعمل معه، لتحقيق تطلعاته المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة، وتطمينه على مصيره قبل أي شيء آخر. أما مراهنة روسيا على مضاعفة العنف، من أجل كسر إرادة السوريين، وفرض الوصاية الروسية عليهم، وإقامة نظام عميل مع الأسد أو بدونه، تابع لها، ويخدم مصالحها، كما هو واضح من سياستها حتى الآن، فلن تقود، حتى لو جاءت بدعم ضمني من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إلا إلى مزيد من إشعال النار وامتداد دائرة الحرائق، وتمديد أمد الحرب. فهي لا تعني شيئاً آخر سوى تحول روسيا إلى قوة احتلال، تصادر حق السوريين في تقرير مصيرهم، وتقضي على أملهم في تحقيق تطلعاتهم نحو الكرامة والحرية، وتضاعف من مشاعر العداء والحقد والانتقام تجاه كل من تدّعي روسيا العمل على حمايتهم وتأمينهم.
فسّر الكثيرون خروج دفعة من أبطال الزبداني الجرحى ، لتلقي العلاج ، على أنها هزيمة لهم ، رأوا في ذلك انهيارا لأسطورة الزبداني التي استمرت لسنوات تعادل تقريباً سني الثورة ، لكنهم نسوا أن خروجهم كان لدواع في غاية الأهمية ، وأن إمكانية عودتهم تعادل آلاف المرات إمكانية عودة من خرج من الفوعة و كفريا .
مناقشة من يحاول كسر بطولة أساطير الزبداني ، تبدو شيئا غير وارد ، لعدة أسباب أولها و أهمها ، أن مجرد ذكر اسم الزبداني سيحيج كل من هاجمها من نظم و مليشيات إلى تذكر آلاف صرخات الألم التي سببها ثلة من المقاتلين محصورين داخل رقعة جغرافية لا تتجاوز بضع كيلو مترات ، اجتمع شياطين الدنيا عليها ، دون أن يتمكنوا من إنهائها ، فجنحوا للسلم ، و رضوا بالمفاوضات ، و اليوم فتحوا الطريق لهم للخروج بغية تلقي العلاج ، وقلبهم ترتعد من العودة التي يمكن أن تكون في أي وقت ، لأن الخارجين هم أصحاب الأرض ، و المتواجدين في محيطها هم غزاة ، و لم يبق غازٍ في أرض .
الزبداني التي واجهت في ثلاثة سنوات حصار متواصلاً و قصفاً مستمراً و محاولات متوالية بشكل لايمكن للإحصاء أن يسجله ، و تحملت في خمس شهور خمسة آلاف برميل متفجر و مئات آلاف القذائف و آلاف الغارات ، و لجحافل مشتركة من خيرة القوات المعادية من نظام الأسد و حزب الله و إيران و المليشيات الأخرى ، واستدعت صواريخ إيرانية خاصة أحضرت لكسرها ، و كل هذا حدث في رقعة جغرافية لا تتجاوز ٥ كم متر مربع ، و رغم كل هذا ، كان على المهاجمين ، مهمة متواصلة تتمثل ، بسحب الجثث و إرسالها إلى قراها لتدفن فيها و يدفن معها القهر الذي ولدته الزبداني في قلب كل معتدي.
و لن ننسى زيارة أهالي قتلى حزب الله الى الزبداني ليروا ماهذه الأرض التي ابتلعت أبناءهم ، و كيف خسر فيها الحزب أكثر مماخسره في حروبه.
الأبطال الذين خرجوا اليوم ، في قلوبهم غصة ، و في قلوبنا غصة ، و لكن هناك فرحة بأنهم سيلقوا بعض الرعاية ، أو يجدوا من يهتم بهم ، وسط عالم "عاهر" يعجز عن إدخال قطنة لمسح جرح و يستطيع أن يهجر المئات بلمح البصر .
نعم الزبداني انتصرت و أبطالها خرجوا مرفوعي الرأس ، و لهم العز والفخر و لجميع من خذلهم الذل و المهانة ، وكما قال أحدهم عند متابعة خروجهم و خروج بعض أهالي كفريا و الفوعة العزاء الوحيد أن الأبطال سيعودون للزبداني ، و لكن الذين خرجوا في الفوعة لن يعودوا مهما حدث.
في المؤتمر الصحافي “العملاق” الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا، ولعدة ساعات، بدا سيّد الكرملين مرتاحا واثقا مزهوا بما حقّقه لحكمه ونظامه وبلده منذ تدخله العسكري في الميدان السوري.
لم تكن هذا الإطلالة مع الصحافة إلا شكلا من أشكال الاحتفال بانتصارات تحققت وإنجازات سجّلت، ما يدعوه للتباهي بمهارته في التعاطي مع التحديات الدولية، وترويضها وجرّها نحو ملعبه، على ما كشفته وقائع سوريا حاليا، وتلك في جورجيا وأوكرنيا قبل ذلك.
وفي ما أفصحت عنه تصريحات الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني مؤخرا ما يعبّر عن أزمة نظام تشهدها إيران، يعكس الجدل الداخلي، في أروقة القرار وأصحابه، تحريا لوظيفة البلد وموقعه منذ “تدجينه” في ثنايا سطور الاتفاق النووي، ونقاشا لتكتيكات الحكم ومعسكراته في التدخلات الإقليمية من اليمن وانتهاء بلبنان مرورا بالعراق وسوريا.
وما إثارة رفسنجاني لموضوع انتخاب مرشد جديد للثورة الإسلامية، على الرغم من وجود المرشد الحالي، إلا مباشرة لجدل قديم-جديد حول لزومية وشرعية ووظيفة وشخص الوليّ الفقيه في إيران.
تبدو المناورة الروسية في سوريا منتجا يُقبل عليه، بما يشبه الإجماع، الكثير من الزبائن. يقوم المجتمع الدولي، بشكل حاسم واضح، رغم بعض التصريحات الغربية المملّة، برعاية الجهد العسكري الروسي ومحضه بما يحتاج من مستلزمات دبلوماسية رديفه. يذهب مجلس الأمن لتسليح المسعى الروسي بترسانة قانونية داعمة (القرار 2254)، في ما يظهر أنه تواطؤ دولي كامل يتبنّى الخيار الروسي بصفته مُعبّرا عن عزم جماعي للدول الكبرى، وليس متمردا عليه كما قد يحلو للتحليلات التبسيطية أن تتبرع به.
بالمقابل تبدو إيران مستبعدة عن خريطة الطريق في سوريا، ليس فقط من خلال عدم إشراكها في ما يُعدّ ويحُضّر (السعودية توضّب وفد المعارضة والأردن يتفحّص لائحة الفصائل الإرهابية)، بل من اعتبار نفوذها جزءا من حصة النظام (وليس النظام جزءا من النفوذ الإيراني) يجري التعامل معه وفق ما سينتهي إليه مصير النظام نفسه.
وتبدو إيران، سواء في الأنباء المتناقلة التي تتحدثُ عن انسحاب كثيف لتواجدها العسكري (المسمّى في طهران مستشارين)، أو في التصريحات الإيرانية المتفرقة المتناغمة متعددة المستويات المنتقدة لموسكو، أنها لا تنظر بعين الرضا للدور الروسي في سوريا.
تحظى روسيا في سوريا بما لم تحظ به دولة عظمى قبل ذلك في العقود الأخيرة. اعتمدت الولايات المتحدة في حربها في يوغسلافيا ضد نظام ميلوسفيتش، أو في العراق لتحرير الكويت، ثم للإطاحة بنظام صدام حسين لاحقا، أو في أفغانستان للانقضاض على تنظيم القاعدة ونظام طالبان، على حلفائها الغربيين الأطلسيين، ولم تستجد دعما شرقيا، صينيا روسيا، ولم تكترث لاحتمالاته.
بالمقابل، تتمتع روسيا في سعيها السوري، ليس فقط بتواطؤ ضمني غربي، بل بانضمام الجهد العسكري الغربي (لا سيما الأميركي البريطاني الفرنسي) لذلك الروسي وفق هدف ضرب تنظيم داعش، في سوريا بعد العراق، وبتسخير كافة الدول لجهدها السياسي الدبلوماسي ليتماشى مع خريطة الطريق الروسية لتوفير حلّ جديّ، ربما لأول مرة، لإقفال الملف السوري.
رسم المشهد الدولي ملامح تهميش، أو محاصرة، للدور الإيراني في المنطقة. يعرض المشهد اليمني، رغم صعوبة مخارجه، انهيار الخيارات الإيرانية في السيطرة على اليمن كما جاهر بالإعلان واحد من أصواتها (حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد)، وبالتالي فقدت طهران طموح إطلالها على باب المندب.
وتمثّل العودة العسكرية الأميركية للعراق مسّا مباشرا بما كاد يعتبر نفوذا ناجزا لإيران على مجمل العراق (راقب الإشراف الأميركي وليس الإيراني على معركة الرمادي)، يأتي ذلك ليضاف إلى تراجع للوزن الإيراني في البلد، ليس فقط لدى المكونين السنّي والكردي، بل داخل المكوّن الشيعي نفسه، الذي بدا حراك الشارع فيه، كما مزاج نخبه، ممتعضا من سياسات طهران متحرّيا سبلا جديدة للتحلل من سطوتها.
يبدو التراجع الإيراني أكثر وضوحا في الميدان السوري. لاحظَ المراقبون بتعجب الإعلان عن سقوط عدد كبير من القتلى الإيرانيين، بينهم ضباط كبار، منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا.
لم تذهب التأويلات إلى حدّ الربط الخبيث ما بين الدخول الروسي وتلك الخسائر، رغم أن المخيلات قد لا تستبعد هذا الربط (مراقبون يعتبرون مقتل سمير القنطار هي رسالة جديدة لطهران من قبل إسرائيل وروسيا مجتمعتين).
لاحظ المراقبون أيضا عمل الروس على حلّ الميليشيات السورية الرديفة للنظام والتي كان يشرف عليها ضباط إيرانيون، كما لاحظوا أن نظام دمشق، الذي لطالما كان يرسل وزراءه إلى طهران، غداة أيّ تواصل بين دمشق وموسكو، لم يعد يفعل ذلك، بما يعكس قناعة لدى حكام العاصمة السورية، أن أمر النظام ومصيره، بات بالكامل في يد روسيا، ولم تعد تنفع معها “استشارة” طهران، على ما درج قبل ذلك.
وحين نفت موسكو مؤخرا ما روّجته طهران عن زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني للعاصمة الروسية، كانت بذلك تبعث برسالة لإيران، بسحب أيّ شراكة، ولو إعلامية، في الشأن السوري.
لا يمكن فهم ما سبق على أنه تصادم وقطيعة بين روسيا وإيران، فكلا البلدين يحتاجان لبعضهما البعض في ورشة توطيد نفوذيهما في ساحات وملفات عديدة.
بيد أنه بات واضحا أن القوى الإيرانية وتلك التابعة لإيران في الساحة السورية باتت جزءا من الجهد الروسي ويخضع وجودها من عدمه لخطط موسكو وحدها، ولا عجب إذا ما طُلب من القوات الإيرانية (التي بدأت أصلا انسحابها) ومن قوات حزب الله وبقية الجماعات الشيعية الآتية من الخارج، الانسحاب نهائيا من الميدان السوري إذا ما تطلبت الخطط الروسية ذلك.
تتعامل موسكو مع الأمر ببرودة وحصافة وهدوء، فيما لا تخفي طهران غيظها، سواء فيما أفرجت عنه تصريحات رئيس الحرس الثوري الإيراني الميجر جنرال محمد علي جعفري، أو تلك التي سمحت بها على قناة العالم الإيرانية، حين أتاحت لأحد ضيوف القناة المعروف بدفاعه عن الخيارات الإيرانية، بتوجيه انتقادات لاذعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا وتشكيكه في صحة استهدافه لداعش والإرهاب وإثارته لذلك التواطؤ الروسي مع إسرائيل في تغطية عمليات ضربها لمواقع “المقاومة الإسلامية” (بما في ذلك اغتيال سمير القنطار وقيادات من حزب الله في جرمانا في سوريا الأسبوع الماضي) تحت نظر المنظومة الصاروخية الروسية الشهيرة أس 400.
باستطاعة فلاديمير بوتين، وبمناسبة الحدث السوري، أن يشعر براحة في الإطلالة من الكرملين موجها رسائل للروس تدغدغ داخلهم عصبية عظمة وفخر تذكّرهم بالمجد السليب سواء ذلك أيام القياصرة أو أيام الاتحاد السوفييتي.
بالمقابل، وبمناسبة الحدث السوري، يطل هاشمي رفسنجاني لينعى، من حيث يدري أو لا يدري، عهدا وسلوكا وفلسفة حكم، بما يفتح إيران على احتمالات مختلفة تماما عن تلك الانتصارية، التي بشرت بها أصوات طهران عقب التوقيع على الاتفاق النووي الشهير.
في توقيت متزامن خرج علينا «خليفة داعش» أبو بكر البغدادي بتسجيل صوتي يحاول به شحذ همم «رعاياه» في دولة الرقة والموصل، ويتوعد الجميع، ويتوجع من الخسائر بوصفها «محنة» من الله، وخرج علينا زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني حسن نصر الله بكلمات شبيهة، في نسخة إيرانية.
«بغدادي داعش» و«نصر الله إيران»، يتشابهان كثيرًا في السلوكيات والتكتيكات والتوقيتات، حتى في لون السواد الذي يفضلانه على العباءات والعمائم، بوصفهما من الدوحة العلوية، وهذه ميزة لـ«أمير المؤمنين»، في حال «خليفة داعش»، أو ممثله في حالة حسن نصر الله.
خسرت «داعش»، مؤخرًا، كثيرًا، بسبب تتابع القصف عليها، من كل حدب وصوب، والأهم بسبب حرمانها من شريان البترول المسروق من العراق وسوريا. وخسر نصر الله وحاضنته إيران الكثير في سوريا، من ضباط الحرس الثوري الإيراني، وهم الأهم، ومن نخبة قوات حزب الله، وأخيرًا، خسرا الورقة «الدرزية» الخادمة لصورة الحزب الإيراني، وهو سمير القنطار، بعد قتله في غارة، يقال إنها روسية، في الأرض السورية.
لا تنتهي أوجه التشابه عند هذا الحد، بل يتشاطر خليفة «داعش»، مع ممثل خامنئي «ولي أمر المسلمين» حسن نصر الله، البغض الصافي النقي الدائم للسعودية، فهي في نظر حسن نصر الله «جوهر الشر» في المنطقة، وهي كذلك في نظر خليفة «داعش» إبراهيم عواد، أو أبو بكر البغدادي، لذلك خصص جانبًا من خطبته الصوتية الأخيرة للهجوم على السعودية، بسبب قيادتها للتحالف الإسلامي العسكري الأمني الفكري ضد الإرهاب، وفي مقدمه «داعش»، لا «داعش» وحدها، فحزب الله، وكل عصابات إيران، مشمولة بهذا.
البغدادي قال عن التحالف الإسلامي العسكري ضد الإرهاب إنه تحالف صليبي كافر، وحرض أتباعه على القيام بعمليات داعشية في الأراضي السعودية، وكذلك يفعل حزب الله عبر تدريب عناصر سعودية وبحرينية ويمنية في معسكراته الإرهابية في البقاع والجنوب وشقق الضاحية وحارة حريك.
أخيرًا، يتشابه معمما «داعش» وحزب الله في «تمثيلية» الهجوم اللفظي على إسرائيل، فقد توعد نصر الله في خطابه الأخير، بسبب مقتل عميله سمير القنطار، إسرائيل بالويل والثبور، ولكن في الوقت الذي يختاره الحزب الأصفر، وهكذا قال البغدادي في خطبته الأخيرة، بأن على الجميع أن ينتظر بشائر «الجهاد الداعشي» ضد إسرائيل، مطمئنا الجميع بأن «الخليفة» لم ينس فلسطين «الحبيبة». وربما قام بعملية استعراضية لهذا الغرض.
عقل المتاجرة بالدين، واستخدام الميليشيا الكافرة بالدولة، لا يختلف، إلا بتفاصيل صغيرة، مثل أن يدعي هذا التسنن، وذاك التشيع.
في اليوم التالي للتصريح الفظ لوزير الخارجية الروسي، وهو جالس إلى جانب وزير الخارجية القطري يعلن فشل لقائهما حول تصنيف الجماعات الإرهابية من التنظيمات السورية المعارضة، قتلت طائرات حربية، يعتقد أنها روسية، زعيم جماعة «جيش الإسلام»، في الغوطة الشرقية بدمشق.
وسواء أكانت الهجمة مرسومة من قبل موسكو لفرض مطالبها بالقوة، بعد فشل الاجتماع، أم لا، فإن الحادثة قُرئت في هذا الإطار. روسيا تريد أن تكون من يقرر مسار الحرب والمفاوضات في سوريا. وقد أبدى الروس عزمهم على فرض رأيهم بالمفاوضات واستعراض العضلات، بمضايقتهم تركيا وتخفيض نفوذها في سوريا والعراق، وكذلك الضغط على دول الخليج، وتحدوا الأميركيين الذين تراجعوا سريعًا وقبلوا بالتنسيق تحاشيًا للتصعيد.
وقد يكسب الروس الجولة الحالية، بفرض المشروع الروسي الإيراني باستمرار بشار الأسد رئيسًا، وقبلها فرض تصنيفهم للتنظيمات الإرهابية التي ستحرم من مفاوضات فيينا، وفرض من يسمونها بالمعارضة المعتدلة، وهي واجهات لنظام الأسد ومقربة من إيران، وكذلك فرض صيغة الحل السياسي المقبول. موسكو تريد أن تكون صاحبة القرار في شأن النزاع السوري، فهل ستقدر على تحقيق ذلك؟
إذا كانت مستعدة لدفع أثمان كبيرة والاستمرار في هذه المغامرة، ربما تستطيع أن تكون المرجعية لمستقبل الحكم في دمشق، ولحين. تريد أن تفعل ما فعلت الولايات المتحدة في العراق، فهي صنعت وفرضت مشروعًا سياسيًا، ومع أنه يقوم على حكم ضعيف، لا يزال موجودًا على الأرض. الروس لسبب غير مفهوم لنا، إلا في إطار صراع تنازع النفوذ مع الغرب، يستثمرون كثيرًا في مشروع الحكم في سوريا، وتعميق التحالف مع إيران.
وغير مفهوم كذلك، استهدافهم جماعة «جيش الإسلام»، خاصة أنها ليست مرعبة مثل «داعش» الإرهابية، ولا تمثل نفوذًا سياسيًا كبيرًا مثل تنظيم «الجيش الحر الوطني» المعتدل. وقد جعل الروس منها قضية، بقتل قائدها زهران علوش، ذات أصداء سياسية واسعة.
«جيش الإسلام»، كجماعة، عرفت فقط قبل عامين، واشتهرت بجرأتها على إعلانها محاربة «داعش» أيضًا، ونجحت في الاستيلاء على مناطق تسيطر عليها في محيط العاصمة دمشق. بل، وقبل عامين، كانت تتلقى تأييدًا من القوى الغربية ودعمًا خليجيًا، قطريًا على وجه الخصوص.
هذه الجماعة نجحت في بناء قوة، تقول إنها نحو 15 ألف مقاتل، أكثر انضباطًا. أما إخفاقاتها فهي أنها استمرت كتنظيم يقوم على مفهوم ديني، في وقت معظم القوى الإقليمية والدولية المؤيدة للمعارضة السورية تفضل دعم القوى المعارضة الوطنية، على اعتبار أن سوريا بلد مختلط الأعراق والأديان، ومن دون تأييد دولي قد لا يكون لها مستقبل في الحل السياسي.
طبعًا، هناك من يريد دعم الجماعات الإسلامية المسلحة، على اعتبارها تستنهض العداء لنظام الأسد الذي هو الآخر طائفي علوي. وترى أنه في سياق الصراع الطائفي مع إيران، وهيمنة القوى الدينية الشيعية على الحكم في العراق، واستمرار هيمنة حزب الله الشيعي في لبنان، فإن وجود جماعة، بل جماعات، سنية مسلحة ضرورة مرحلية. عيوب هذا المفهوم، أنه يمنح إيران ما تريده؛ تمزيق خريطة المشرق العربي طائفيًا، ونقل الأزمة إلى منطقة الخليج، وفي نفس الوقت لن يحقق لسوريا الحكم السياسي المستقر.
دفع المنطقة نحو المزيد من الاضطراب، من سوريا شمالاً وحتى اليمن جنوبًا، لعقد زمني آخر، سيخدم سياسة إيران القديمة والمستمرة بتصدير الأزمة للجوار. فهل تعتقد روسيا أنها ستربح من التحالف مع إيران، في مثل إصرارها على تثبيت حكم الأسد المتهاوي، أو أي بديل موالٍ لطهران؟ لا أدري كيف سيربحون من وراء معاداة معظم الدول العربية وشعوبها!
تقليديًا، الروس ليسوا أعداء لدول المنطقة، لكن كما نرى من تورطهم في سوريا، أصبحوا هدفًا للغضب العربي على المستويين الرسمي والشعبي.
يعتبر 2015 عام التغيرات السياسية والعسكرية الكبيرة في سورية منذ اندلاع الثورة، قبيل خمس سنوات. بدأ بحراك سياسي واسع، عبّر عن نفسه أولاً في روسيا التي استضافت منتديين لمعارضين سوريين وآخرين حاولوا التستر بعباءة المعارضة، ثم عبر عن نفسه ثانياً في القاهرة التي استضافت اجتماعين للمعارضة، نجمت عن الثاني خريطة طريق للحل السياسي. وفي زحمة المؤتمرات السياسية، كان الميدان السوري يشهد تغيرات مهمة لصالح المعارضة المسلحة التي ظلت عاماً ونصف العام تتعرض لخسائر كبيرة، بدأت هذه التغيرات مع تشكيل "جيش الفتح" الذي استطاع في مدة سريعة السيطرة على محافظة إدلب، ولتخرج نهائيا من قبضة النظام. وسمح هذا المتغير الاستراتيجي لجيش الفتح، وقوى أخرى، من الامتداد في محيط المحافظة، فكان ريف اللاذقية الشمالي وريف حلب الجنوبي وريف حماة الشمالي عنوان المعارك بين الطرفين.
وفي جنوب سورية، فتحت المعارضة معركة الجبهة الجنوبية، وعلى الرغم من فشل هذه المعركة، إلا أن المعارضة استطاعت السيطرة على مواقع مهمة في درعا والقنيطرة (مدينة بصرى، معبر النصيب، اللواء 52، مطار الثعلة العسكري قبل الانسحاب منه). وقد ترافقت هذه التطورات مع تمدد لتنظيم الدولة الإسلامية في محيط تدمر وريف حمص الجنوبي ـ الشرقي (القريتين) ولاحقاً في مهين، ثم في ريف حلب الشمالي والشرقي، ثم الحسكة والقامشلي.
أحدثت هذه التغيرات ارتباكاً في النظام، وإن حافظ على تماسك خطابه السياسي، وظهر الارتباك مع النقص الحاد في صفوف المجندين، ومع ازدياد قوة ما يسمى "قوات الدفاع الوطني" التي تحولت إلى مليشيا، تأخذ مرتباتها وأوامرها من طهران. كما أدت هذه التغيرات إلى ازدياد الهيمنة الإيرانية، وبلغ الأمر أن أطلقت إيران، في أغسطس/آب الماضي، مبادرة من أربع نقاط من دون الرجوع إلى دمشق، في رسالة واضحة لكل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، مفادها بأن طهران صاحبة الكلمة العليا في سورية.
عادت الجهود السياسية للتحرك بعد سكون مؤقت، وأعلن المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا في منتصف سبتمبر/أيلول خطته للحل السياسي التي تزامنت مع تفاهمات روسية ـ أميركية للتحرك في سورية.
وفي زحمة هذه الجهود، كانت سورية في نهاية شهر سبتمبر/أيلول على موعد مع حدث كبير، روسيا تتدخل عسكريا لدعم النظام تحت عنوان محاربة "داعش"، وما هي إلا أيام حتى أطلق النظام في 7 أكتوبر/تشرين أول معركته العسكرية الكبرى في الشمال الغربي لسورية، مستغلا الغطاء الجوي الروسي.
"سيكون مؤتمر جنيف المقرر عقده نهاية يناير/كانون ثاني المقبل بين النظام والمعارضة برعاية الأمم المتحدة مفصلاً تاريخياً"
وفي حين كانت الضربات الروسية توجَّه لفصائل المعارضة المدعومة من الرياض والدوحة وأنقرة، كانت الولايات المتحدة تعيد ترتيب خططها العسكرية بعيد انهيار برنامج التدريب العسكري برعاية البنتاغون، وجاء تشكيل "قوات سورية الديمقراطية" في 12 أكتوبر/تشرين أول، ثم "جيش سورية الجديد" في العاشر من نوفمبر/تشرين ثاني، انعكاساً للمخطط الأميركي الهادف إلى محاربة تنظيم الدولة فقط، وترك الفرقاء الإقليميين والدوليين يتقاتلون في سورية.
انقسم الصراع إلى جبهتين: الأولى في ريف حماة الشمالي وريف اللاذقية الشمالي وريف حلب الجنوبي بين النظام وإيران وروسيا ضد فصائل المعارضة المسلحة، والثانية في الحسكة والرقة وريفي حلب الشمالي والشرقي بين الأكراد وقوى عربية والنظام أحياناً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي بدأ يشهد أول مرة انكسارات عسكرية واضحة.
ومع شدة المعارك، اشتدت الجهود السياسية في اجتماعين لمجموعة العمل الدولية في فيينا، أثمرا عن تفاهمات سياسية وعسكرية، ترجمت لاحقا في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي وضع آلية للحل السياسي في سورية هي الأولى من نوعها، وكلفت الأردن بوضع قائمة بالمنظمات التي يجب إدراجها في قائمة المنظمات الإرهابية، فيما كلفت السعودية بإعداد وفد المعارضة، وعقد لأجل ذلك مؤتمر الرياض الذي حدد السقف السياسي للمعارضة المدعومة من المثلث الإقليمي.
وعلى الرغم من أن القرار الدولي أجّل مسألة مصير الأسد إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، وما يعنيه ذلك من بقاء بنية النظام قائمة، إلا أن القرار حدد سقفاً زمنياً لهذه المرحلة، وأقر بعض مطالب العواصم الإقليمية الفاعلة في سورية (الرياض، الدوحة، أنقرة)، كالصلة الوثيقة بين وقف إطلاق النار وانطلاق عملية سياسية موازية أولاً، والمعلوم أن النظام ظل على مدار السنوات السابقة يطالب بأولوية محاربة الإرهاب، قبل الشروع في المسار السياسي، وشكل المرحلة الانتقالية ثانياً، حيث نصّ القرار على إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة، تخوّل سلطات تنفيذية كاملة، بناء على بيان جنيف والقرار الدولي 2018.
ينتهي 2015 بتحولات كثيرة وكبيرة في سورية، على أمل أن يكون عام 2016 ثمرة هذه المتغيرات، وسيكون مؤتمر جنيف المقرر عقده نهاية يناير/كانون ثاني المقبل بين النظام والمعارضة برعاية الأمم المتحدة مفصلاً تاريخياً، فإما أن يدفع الجهود السياسية إلى الأمام، أو أن يدفع الجهود العسكرية إلى الأمام.
أنا واثق أنك ستحتاج لمراجعة الكثير من الاوراق حتى تعرفني , و حتى عندما تعرفني ستقول ما علاقتك بي حتى ترثيني .
لكن يا ناجي الجرف ليس زيد أو عبيد من فقدك , و انما هناك وطن باكلمه قد فقدك .
ناجي الذي رأى في "حنطة" البذرة لسوريا المستقبل , و جمعت المئات من الناشطيين حديثي العهد و حتى القدماء دربتهم على أسلوب التوثيق و العمل و الاعلام , ليكونوا بذارة صحفيي المستقبل ، لقبوك بالخال لكي لا تشتم , فشتمتك ستلحق بالأم ، و الأم في عرف السوريين قمة العرض.
أيامك الأخيرة التي كانت ملى بالحزن على ما نفقده من سوريون بشكل عام ، و من أبنائك الذين خرجتهم على وجه الخصوص .
و كنت تقول أنني لم أعد أحتمل و "لم يبقى من الحيل ما يكفي" , هددوك قبل شهر بالقتل و استقبلتها كعادتك بوجهك البشوش ، و لكن ضغط من يعشقوك و تعشقهم قررت الانتقال الى فرنسا في رحلة علاجية لصدرك المتعب ، و بعد العلاج تدرس امكانية البقاء ام العودة .
مجلس الأمن شارك بقتلك عندما جعلك قراره الأخير , أن تكون لابنتيك و لاولاد أخوك وحدهم بعد أن كنت لكل السوريين.
داعش التي حملت السيف في مواجهتها و أنتجت فلما متكاملا من الالف الى الياء "داعش في حلب" , أخذ صدا اعلامياً كبيرا و أوجع المستهدف , الذي لا يفقه النقد و لا يحتمل الاعتراض ، فالسكين والدم هما الحوار , قتلت اليوم و قتل معك جزء من سوريا.
عذراً ناجي لن تعرفني لكني اعرفك كما يعرفك السوريين
عندما سلم النظام السوري عام 2013 سلاحه الكيماوي الاستراتيجي كان ذلك نتيجة اتفاق روسي أميركي، ولو بإصرار من الجانب الأميركي. القرار الثنائي كان الأساس. اليوم جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي رسم خارطة طريق لحل الأزمة السورية. الخارطة قد تتغير والطريق سيكون بالتأكيد طويلاً وشاقاً وسيسقط عليه ضحايا كثر وتسيل دماء غزيرة. هذا ما تعلمناه من الحروب المشابهة ومن لعبة الأمم، ولم ننس بعد الدرس اللبناني، ونريد دائماً التعلم منه. ومن يتعلم يستطع قراءة الحدث وتحليله وتقدير نتائجه، وقراءة خلفية القرارات المحيطة به.
القرار الدولي الأخير جاء أيضاً نتيجة اتفاق روسي أميركي، بعد التدخل الروسي في سوريا، والفشل الأميركي، وفي مرحلة التشنج في العلاقات الروسية الأميركية، لم يخرج الطرفان عن سكة مسار اتفقا عليه في ما يخص سوريا. وللأسف، ولأن كثيرين لا يريدون التعلم فقد صدموا بالقرار، وسوف تتجاوزهم الأحداث وتجرفهم اللعبة، وتتجاوزهم الاتفاقات حول مصائر دولهم المختلفة، لأنهم لا يريدون الوقوف عند الحقائق ويذهبون دائماً مع التحليل بالتمني وهو أخطر أنواع التحليل. أقول ذلك لأُذكّر بأن ما جرى بين الروس والأميركيين ليس مفاجئاً. فهو يأتي في إطار الالتزام الثنائي على قاعدة أن تقول واشنطن: «بدء العملية السياسية ليس مشروطاً بتنحيّ الأسد»، وتؤكد موسكو: «وانتهاء العملية السياسية ليس مربوطاً ببقاء الأسد»! أي أنه عندما يتفق الطرفان يكون الحل ويخرج الأسد. ونشير هنا إلى أن بعض المسؤولين الروس قالوا في الأيام الأخيرة: «نحن نرتاح للتعاطي مع الوزير كيري أكثر من غيره من المسؤولين الأميركيين. صحيح الرئيس يقرر. وهناك مؤسسات، لكن الرجل كان من الأساس مؤمناً بضرورة التعاون معنا، وكان تفسيره لمؤتمر جنيف ومقرراته مخالفاً لما أعلنته هيلاري كلينتون وأراده غيرها من المسؤولين الأميركيين. المؤتمر لم يتحدث عن خروج الأسد. المرحلة الانتقالية لم تتحدث عن ذلك. وها نحن قد اتفقنا على الأمر بعد مؤتمري فيينا 1 وفيينا 2. وذهبنا إلى مجلس الأمن وأصدرنا قراراً»!
وفي الواقع، لم يعد أمر بقاء الأسد اليوم مسألة استراتيجية تتجاوز المعنويات المؤقتة. في المرحلة السابقة كان الجنرالات الإيرانيون يديرون اللعبة في سوريا ويمسكون بالقرار. حلّ محلهم اليوم الجنرالات الروس! وهم أقدر وقوتهم أكبر وأظهروا فعاليتها وهم في مجلس الأمن وليس إيران. رغم أن كل ما فعلوه لم يؤثر فعلياً في ضرب «داعش» وغيره من المنظمات التي يعتبرونها إرهابية. لأن هدفهم من الأساس يتجاوز سوريا التي استخدموها ساحة. إنهم يتطلعون إلى الداخل الروسي، إلى الحدود الروسية، إلى أمن روسيا ومصالحها الاستراتيجية، وإلى أوكرانيا وجورجيا وبولونيا وأفغانستان والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي التي تتواجد فيها قوى يعتبرونها متطرفة أو إرهابية.. وبالتالي فالتدخل في سوريا بوابة للتعاون مع أميركا على هذا الأساس، إضافة إلى مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة في مجالات كثيرة.
اليوم ستكون مرحلة، ومحاولة تشكيل حكومة خلال 6 أشهر لإدارة مرحلة انتقالية. ثم خلال 18 شهراً إجراء انتخابات نيابية ورئاسية وتحقيق الإصلاحات الدستورية! خلال هذه الفترة سيبقى الأسد. وطبعاً سيكون وقف لإطلاق النار لا يشمل المنظمات الإرهابية. يعني وعلى طريقة الحرب اللبنانية التي أشرنا إليها أكثر من مرة: سنكون أمام هدنات موضعية هنا وهناك. تشكيل حكومات، حوار لإصلاحات، وربما انتخابات نيابية، علماً بأن موعدها هو مايو المقبل، لكن خارطة الطريق الحالية ستؤجلها. وبين الهدنات جولات من العنف ستبقى مستمرة تحت عناوين مختلفة، ولعبة الأمم ستبقى مستمرة. الدمار والخراب سيتواصلان ليعمّا مناطق سورية كثيرة. ولن تبدأ عودة النازحين واللاجئين قريباً. وفي انتظار خطوات أكبر وأشمل بين روسيا وأميركا، وموافقة أو إرضاء القوى المعنية بالصراع في دول الجوار، والتي لم تتفق بعد على أمور أساسية: من هي قوى المعارضة المعتدلة ومن هم الإرهابيون؟
في هذا الوقت يظهر جلياً أن ما قامت به إسرائيل حين نفذت عملية اغتيال سمير القنطار مؤخراً، هو تجسيد للعبة الكبرى. بين روسيا وإسرائيل اتفاق، ما يهمكم لا نتدخل فيه، لا نتعرض له، لكم حرية الحركة لتحقيقه، ونحن أيضاً. لذلك تستطيع إسرائيل أن تفعل ما تشاء رغم وجود أساطيل روسيا وقواعدها ومنصات صواريخها وكل قدراتها التقنية لقتل من تشاء وضرب ما تشاء، وما تراه يشكل خطراً عليها. وكذلك تفعل روسيا وأميركا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول.. ويدفع الشعب السوري ثمن «لعبة الأمم» على أرضه.
لم يأت أوان الحل بعد. إسرائيل تعلم ذلك وتريد تحقيق المزيد من الأرباح!
عندما يقول جون كيري ان القرار رقم ٢٢٥٤ الذي أقرّ بالإجماع في مجلس الأمن، يمثل صيغة صّممت لوقف الحرب الأهلية في سوريا، فإنه يبدو كمن يَحفر او بالأحرى يعمّق الحفرة تحت إقدام الروس الذين يراهنون على شخص في مقابل شعب كامل تقريباً، وواضح ان هذا القرار لن يوقف الحرب في سوريا بل سيدفع بها الى مزيد من التأجيج والمآسي!
بعد ايام تنتهي مهلة الأشهر الأربعة التي حددها فلاديمير بوتين لإنتهاء عملية تدخله العسكري في سوريا لدعم بشار الأسد، صحيح انه عاد وربط هذه المهلة بمسار العمليات على الأرض، لكن الأصح انه أعترف قبل عشرة ايام بأن حسابات الحرب من الفضاء قصفاً وغارات وبراميل متفجرة، هي غير حسابات القتال على الأرض، ولهذا ليس واضحاً بالفعل كيف سيتمكن من ترجمة الإستدارة الكاملة التي نجح في إحداثها، عندما وضع نظام الأسد في موقع المرجعية الصالحة لمحاربة "داعش" والإرهابيين، ودعا الى ضمّ المعارضة التي دَمرها النظام أساساً للقتال الى جانبه!
يصبح الأمر اكثر إثارة عندما نكتشف ان القرار الذي أُعطي صفة لا يستحقها، اذ سّمي خريطة طريق لحل الأزمة السورية، يمكن ان يغلق الباب نهائياً امام التسوية السلمية في سوريا من خلال أمرين على الأقل:
اولاً إبقاء عقدة الأسد سواء في الحرب لجهة تأهيله والدعوة للانضمام اليه ضد الإرهابيين، أم في السلم لجهة الالتباس العميق في محتوى الحملة التي تتحدث عن المرحلة الإنتقالية، إذ ليس واضحاً ما اذا كانت مهمته الرئاسية تنتهي مع تشكيل الحكومة الإنتقالية بعد أربعة أو ستة أشهر، أو انها يمكن ان تبقى الى ما بعد المرحلة الانتقالية التي يفترض ان تنتهي بعد ١٨ شهراً!
على ان ما يثير اليأس لدى المعارضة ويجعلها أكثر اصراراً وإقتناعاً بجدوى البقاء في المتاريس لمحاربة النظام و"داعش" على ما يجري منذ فترة طويلة، هو ذلك التفسير الإستغبائي الذي نجح سيرغي لافروف في تمريره، أي معنى كلمة "المرحلة الإنتقالية" لكأن المطلوب في النهاية هو الإنتقال من تحت دلف النظام الى تحت مزاريبه التي تقطر براميل متفجرة تدمّر ما تبقى من البيوت على رؤوس السوريين!
أحد قادة المعارضة السورية لم يتردد في وصف قرار مجلس الأمن بأنه مسخرة المساخر، ليس لأنه جمع كل التناقضات في صيغة واهمة فحسب، بل لأنه يطلق أيدي الروس وحلفائهم الإيرانيين في سوريا، بما يمثّل وصفة ممتازة لمزيد من القتال والمآسي، ويكفي في هذا السياق ان نتذكر الأعوام الخمسة الماضية وما آلت اليه لكي ندرك تماماً، ان الشعب السوري الذي طالما رفعت روسيا شعاراته ليس أكثر من بقية ذخيرة تُحرق للحفاظ على النظام.