غالباً ما يعتبر الممسكون بالسلطة أنهم باتوا أهمّ من السلطة نفسها ومن النظام السياسي، ويربطون مصير البلاد والعباد بمصيرهم الشخصي ويخوضون الحروب تحت شعار "أنا أو لا أحد"، وعندما تهتز عروشهم يصير السائد "عليَّ وعلى أعدائي". هكذا فعل كل الرؤساء العرب الذين سقطوا بعدما أسقطوا دولهم وداسوا شعوبهم. واليوم تتكرّر المأساة في سوريا مع الرئيس بشار الأسد الذي يرفض التنحي، وعوض ان يطلب من أي دولة حليفة لنظامه ضمان أمنه وعائلته، ويحزم حقائبه مفسحاً في المجال لتسوية بين موالين لنظامه ومعارضين له تنحو بالبلاد الى الديموقراطية وضمان التعدد والتنوع السياسي والحزبي والإتني والمذهبي والطائفي، تراه يتمسك بالسلطة التي يحميها بأطنان من البراميل المتفجرة تقضي على كل أنواع الحياة.
لعلّ الاسد بات يدرك أن عودته الى حكم البلاد كما كان في السابق، قرابة 40 سنة توزعها مع والده حافظ الأسد، باتت حلماً مستحيلاً، وهو لن يورث ابنه حافظ أكثر من تاريخ دموي يمنعه من مواجهة أي مواطن سوري شريف، لأن التاريخ الذي سيحمله من دون ذنب ملطخ بدماء الأبرياء، وآهات الموجوعين، ودموع الثكالى والأرامل، وصراخ الأيتام. لكنه كغيره من الحكام يرفض التنازل، فيهدر أنهاراً من دماء مواطنيه الذين عاشوا وأسلافهم نحو نصف قرن من غير ان يجرؤ أحدهم على التعبير ورفض الظلم والأحادية. ولم يقتصر ظلم نظام الاسد على سوريا، بل تعدّاه الى لبنان، وكلنا نعرف لبنانيين خطفوا وعذبوا وقتلوا فقط لأنهم رفضوا الاحتلال والوصاية.
أمام القرار الذي أقرّته الأمم المتحدة الجمعة، والذي يدعو الى وقف النار وبدء مفاوضات سلام ابتداء من مطلع كانون الثاني المقبل، عقبات كثيرة تحول دون تنفيذه لعل أبرزها مصير الأسد الذي لا يزال موضع خلاف بين الأفرقاء الدوليين. ففيما يعتبر وزير الخارجية الاميركي جون كيري ان الأسد فقد صدقيته والقدرة اللازمتين لتوحيد بلده، ويؤيّده وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس مطالباً بضمانات لرحيل الأسد بموجب الخطة، تبرز مواقف مقابلة روسية وإيرانية تتمسك به تحت شعار أن القرار يعود الى السوريين أنفسهم، كأن الدولتين احترمتا ارادة السوريين عندما قررتا التدخل مباشرة في الحرب السورية ودعم الاسد في مواجهة مواطنيه.
واذا كانت المواقف منه استمرت على ما هي في انتظار تسوية تقاسم مصالح مكتملة بين الدول المعنية، فكيف سينطلق قطار الحل مطلع السنة الجديدة؟ لعلّ مصير الاسد يكون سبباً لإحباط الحل أو تأخيره، على الأقل، وسيبقى مصير السوريين معلّقاً بين مطرقة النظام الارهابي وسندان إرهاب "داعش" وأخواته.
يقول أحد التحليلات التي تناولت الفاشيّة الأوروبيّة إنّ المبالغة في رسم الهويّة الجامعة، المسمّاة أمّةً أو قوميّةً أو دولةً، مقصود بها إنشاء لحمة تجمع بين مَن لا لحمة تجمعهم. هكذا يلتقي حول تلك الهويّة أفراد وجماعات تناقضت مصالحهم وتضاربت، بحيث ينتظم ربّ العمل وعامله، والإقطاعيّ وفلاّحه، في سلك حزبيّ وقوميّ واحد، وفي منظومة أفكار ورموز مشتركة.
بشّار الأسد، الذي لم يستوقف القرارَ الأخير لمجلس الأمن، يمثّل نموذجاً آخر في الجمع بين من لا يجمعهم جامع. لكنّ النموذج البشّاري لا يقوم على المبالغة، بل يقوم، بالعكس، على التخفيف والمناقصة.
فبشّار سمسار وليس إيديولوجيّاً. وهو ساعٍ لأن يروّج سلعة يصعب ترويجها بكلام انتقائيّ من صنف رديء، وليس صاحب أسطورة ينوي فرضها بتماسك مزعوم. بيد أنّه إذ يبتذل المعاني، يكشف الكذب الرخيص الذي انتهت إليه الجماعات المتناقضة المؤيّدة له، تجاوباً منها مع واحد من وجوهه الكثيرة وبعمى كامل عن سائر الوجوه.
فهو عدوّ إسرائيل الذي يدير لها الخدّ الأيسر كلّما ضربته على خدّه الأيمن. وهو وريث تركة العروبة والقوميّة العربيّة البعثيّتين، إلاّ أنّ المقرّبين منه يطلقون تعبير «أعاريب» المهين على ملايين العرب. وهو سليل اشتراكيّة أبيه، لكنّه أيضاً ليبراليّ، بل نيو ليبراليّ، يوصف بأنّه يعرف كيف يخاطب الغرب ويستميله. وهو عروبيّ، على شيء من القوميّة السوريّة، يساريّ، كما يوحي يساريّون، ويمينيّ، كما يوحي يمينيّون. وطبعاً، هو علمانيّ وحامٍ للأقلّيّات، بالتحالف مع قوّات دينيّة وطائفيّة تبدأ بإيران ولا تنتهي بشلل لبنانيّة وعراقيّة وأفغانيّة وباكستانيّة.
ومن جيريمي كوربن البريطانيّ إلى مارين لوبن الفرنسيّة، ومن دونالد ترامب الأميركيّ إلى فلاديمير جيرينوفسكي الروسيّ، ثمّة شيء مشترك يجمع المذكورين ببشّار ابن أبيه. وقد جاءته الهديّة السماويّة، التي هي «داعش»، لتزيد عدد الذين يتفهّمونه ويتقاطعون معه في العالم، بعدما مارسوا تحفّظاً متناقصاً على استبداده.
فـ «داعش» جعل اليمين المحترم أضعف حجّة من اليمين غير المحترم، فإذا أكّد الأوّل قيماً «تفصلنا» عن الأسد، نجح الثاني نجاحاً أكبر في التوكيد على قيم «تجمعنا» بالأسد. وقبل «داعش» وبعده، جرت منافسات مشابهة بين اليسار المحترم واليسار غير المحترم فكسبها الثاني من دون عناء كبير.
لكنّ هذا كلّه في كفّة والعلاقة المثلثّة بروسيا وإسرائيل وإيران في كفّة. فبشّار حليف روسيّا الوطيد والتي تحت مظلّتها وشبكتها الصاروخيّة قُتل سمير القنطار، المقاتل في صفوف «حزب الله». والأخيرون إنّما يقاتلون في سوريّة كرمى لبشّار وإيران بعدما قاتلوا الإسرائيليّين كرمى لإيران.
فكأنّ مقتل القنطار، وقد استكمل الروس بناء ما لم يكن مبنيّاً إبّان مقتل عماد مغنيّة، تنبيه إلى أنّ الجمع بين كلّ هؤلاء الحلفاء قد لا يكون جمعاً، وأنّه قد ينشىء من التضارب أكثر ممّا ينشىء من التحالف.
والجمع بين مشروعين كلٌّ منهما ذو نازع إمبراطوريّ، يستعصي على قادة كبار وتاريخيّين. فكيف على بشّار الأسد؟
أمّا سمير القنطار فثمن صغير من الأثمان التي يرتّبها الجمع بين ما لا يجتمع، بقوّة الخفّة وباقتصار القتل وحده على المنهجيّة والتماسك.
لا شك في أهمية ما توصلت اليه الدولتان الكُبريان في اتفاقهما، أخيراً، حول الحل السياسي في سورية. هذه أول مرة تتفق فيها الدولتان على آليات الحل وتحقيبه، انطلاقا من وثيقة جنيف 1 مرجعية ملزمة، واستناداً إلى تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية التي يبدأ الحل بها. صحيح أنه سبق للدولتين أن أقرّتا شيئاً مشابهاً، هو وثيقة جنيف 1، إلا أن خلافاتهما حول قضايا غير سورية أساساً حالت دون تطبيقه في جنيف 2. أما اليوم ، فإن فرص الحل السوري تتعاظم، لأن واشنطن وموسكو في طريقهما إلى تسوية ما وقف من تناقضات وخلافات بينهما، ومنع اتفاقهما على الحل قرابة ثلاثة أعوام. بكلام آخر: ليس نص القرار الحالي هو الجديد، فهو موجود، بهذه الطريقة أو تلك، منذ يونيو/ حزيران من عام 2012. الجديد هو بيئته الدولية، أي تفاهم الروس والأميركيين على حل في سورية وأوكرانيا، يسوّي المشكلتين بالتقابل، فيوافق الأميركيون على ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، في حال وافق سكانها على الضم، في استفتاءٍ تشرف عليه الأمم المتحدة وقبلته أوكرانيا، وتتخلى روسيا، في الوقت نفسه، عن تعطيل الحل في سورية، وتوافق على مرجعية جنيف 1 وآليات تطبيقه، وخصوصاً منها تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، ووحدة سورية دولةً ومجتمعاً، ونظامها البديل: التعددي والمدني والبرلماني، وكبح خطر الإرهاب عليها في الحقبة المقبلة.
السؤال الآن: هل سيطبق الاتفاق الجديد؟ إذا نجح التفاهم على أوكرانيا، وتم رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والدولية عن روسيا، فإن ذلك سيؤسس أرضية مشتركة توافقية وشرعية، لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 ، تقبل تشكيل "الهيئة الحاكمة الانتقالية" كاملة الصلاحيات، التي ستتولى وظائف الأسد. وإذا كانت هناك خلافات وصفها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بالحادة حول مصيره، فلأن روسيا تريد استخدامه ورقة ضغط في المسألة الأوكرانية، وأداة لـ "فركشة" الحل، في حال أخلّت أميركا بالتزاماتها الأوكرانية، وتعنتت في قضايا أخرى عالقة، تتعلق بالتفاهم على مكانة موسكو ودورها في عالمٍ يشهد تحولاتٍ كبرى، تنقل مركز ثقل مصالحه من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، قد تدفع روسيا إلى خارج دائرة التأثير والفعل في حاضر العلاقات الدولية ومستقبلها، وهي التي تمارس، منذ بعض الوقت، سياسات قوة غير مقبولة في مسائل إقليمية، تنتمي إلى دائرتها الجغرافية والسياسية المباشرة، في حين تمثل سورية، بالمقارنة معها، جزءاً من دائرة خارجية، دولية الطابع، تمسك بها وتستخدمها، للوصول إلى مواقع سبق أن كان للاتحاد السوفييتي مكانة خاصة فيها، وخصوصاً في الشرق العربي والأوسط، حيث لها اليوم قواعد عسكرية وعلاقات أمنية خاصة، وتحاول لعب دور قيادي في الحرب ضد الإرهاب، بالتوازي مع واشنطن اليوم، وبالتعاون معها غداً، في حال تم التفاهم على المشكلات القائمة بين الجانبين، وبالتبعية على حل سياسي للمعضلة السورية.
هناك فارق بين "جنيف" وقرار مجلس الأمن الحالي، هو التالي: بينما جعل جنيف البديل الديمقراطي مآلاً حتمياً لعمل الهيئة الحاكمة الانتقالية، وألزم الطرف الآخر المشارك في تكوينها بهذا الخيار، فرض القرار الحالي إصلاحاً دستورياً تعقبه انتخابات، يرجح أن تكون تنافسية بين شريكي الهيئة، إن فاز الطرف الحكومي فيها، قام نظام تعددي/ انتخابي ولا طائفي، لكن ديمقراطيته ستكون محدودة أو مقيدة، بل إنه قد لا يكون ديمقراطياً بالمرة.
باختصار: هذا اتفاق أولي ثان، أنتجته تفاهمات الدولتين الكبريين حول مشكلات عالقة بينهما، لا علاقة لسورية بها، يترك للسوريين مشكلاتٍ سيكون من الصعب عليهم حلها بمفردهم، تتصل بتطبيق مبدأ التراضي الذي لعب دوراً مهماً في تعطيل جنيف 1 وإفشال جنيف 2، وبالتالي، بفرص قيام "الهيئة الحاكمة الانتقالية" التي يتعارض وجودها ودورها مع وجود الأسد ودوره، وهو صديق موسكو الذي تعلن تمسكها به. هناك أيضاً مشكلات لم يتم التطرق إليها في القرار، أهمها الوجود الحربي الروسي في سورية، وتحديد هوية التنظيمات الإرهابية، وما إذا كان سيتم وفق معايير تأخذ بالاعتبار مصالح الشعب السوري ومطالبه.
إنها خطوة أولى على قدر كبير من الأهمية، تفتح أبواباً للحل، من غير الجائز أن يسمح العالم لأية جهة بإغلاقها.
عندما سمع الحكم عليه في محكمةٍ إسرائيلية بالسجن 542 سنة وستة أشهر، في العام 1980، سأل سمير القنطار القاضي الذي نطق بالحكم عن سبب الشهور الستة، في سخريةٍ ظاهرةٍ، زاد عليها قوله إن إسرائيل لن تدوم خمسمائة عام. تُستدعى إلى البال تلك الواقعة مع تواتر تفاصيل مقتل هذا المناضل اللبناني السابق في غارة إسرائيلية عدوانية على بنايةٍ في ريف دمشق، الليلة قبل الماضية، كان يرابط فيها، فيما يتولى مسؤوليات عسكرية ميدانية منذ شهور في حرب النظام السوري المعلومة ضد الشعب والثورة. وتستنفر الجريمة الإسرائيلية سؤالاً عن السبب الذي يدفع القنطار (مواليد 1962)، إلى أن يصير واحداً من شبيحة بشار الأسد، وينقطع إلى القتال ضد أشواق السوريين بالتخلّص من نظام الاستبداد والقتل، بعد أن كان من أيقونات الحالمين العرب بالتحرّر، في سنوات احتجازه أسيراً في سجون العدو الصهيوني، والتي طالت 29 عاماً، وانتهت بعد عملية تبادل بين حزب الله وإسرائيل، مشهورة التفاصيل في 2008. وفي البال أنه قال، مرّة، إنه، كمواطن عربي، قضيته المركزية فلسطين، وجد من واجبه أن يقوم بالعملية الفدائية التي قادها في إبريل/ نيسان 1979، في نهاريا، وقتل فيها أفراد أسرة إسرائيلية.
أما وأن خِسّة العصابة الحاكمة في تل أبيب مؤكّدة، حين تُقدِم على قتل أسير محرّر، في عدوان صاروخي، مطمئنٍ إلى وداعة مضادات الدفاع الجوية السورية والروسية، فليس هذا الأمر الذي يستحق إنفاق الوقت في التملّي فيه، بل هي قصة سمير القنطار نفسه التي اكتملت في هذا العدوان الذي أكمل رواية القنطار عن نفسه في كتابه "قصتي" (تحرير حسان الزين، دار الساقي، بيروت، 2011)، والذي تتعرّف، في صفحاته التي تزيد عن الخمسمائة، على شخص هذا الفدائي، فيغشاك إعجاب مستحقٌ بجسارته، وتُصادف في الكتاب تأملات ذهنية وفكرية ومرويات شائقة، وإن كنت تتمنى أن تطالع فيه عن أحلام سمير القنطار وهواجسه ومخاوفه وأشواقه ومتاعبه، إبّان كان يغالب ظلمة السجون والزنازين والعسف، وهو الذي توعّده مناحيم بيغن بأن يذوق عذاباً مميتاً لا يعرفه الشيطان، بعد أسره عقب العملية الفدائية التي لم يكن القنطار يكترث باتهامه أنه قتل طفلةً فيها، ففي عُرفه "لا مدنيين في إسرائيل"، على ما قال في واحدةٍ من مقابلاتٍ تلفزيونية، أُجريت معه بعد الإفراج عنه، وأفرط فيها بالحديث عن أولوية الأولويات، أي مقاومة إسرائيل التي أَنذرها بالرجوع إليها، وظل ينعتها دولة "هشة وضعيفة".
لم يكن مطلوباً من سمير القنطار أن يعود إلى فلسطين مقاوماً وفدائياً، وإنما أن لا يبتذل حاله إلى حدٍ مؤسف، عندما استنزف رصيده وصورته، في انحيازه السافر إلى استهداف السوريين وثورتهم في بلدهم. وكان في وسعه أن يغلّب الحكمة، ويُؤثر دور الناصح للنظام الذي يواليه، ويظنه ممانعاً عن حق، فيعمل على كف أذى هذا النظام ضد الشعب المستضعف، بالصواريخ والبراميل المتفجرة وغاز السارين، ما تسبب بتدمير سورية وتقوية شياطين الإرهاب وخفافيشه. ومن المخزي أن لا يكون في وسع النظام المذكور أن يحمي بلده من الاستباحة التي تستسهلها إسرائيل أنّى شاءت، إنْ إرادت قتل عماد مغنية أو ضرب منشأة في دير الزور، أو تحليق طيرانها فوق قصر الأسد، أمثلة لا غير. يتسلّح هذا النظام الذي والاه سمير القنطار بصواريخ روسية متطورة، ويجيز للمقاتلات الروسية أن تقتل مئات السوريين كما تشاء في الأرياف والمدن والبلدات، ثم يعجز عن حماية أتباعه من طراز سمير القنطار الذي توهّم أنه يدافع عن سورية، عندما يشارك في جرائم استهداف من يتوقون من ناسها إلى الخلاص من نظامٍ لا شطط في نعته بأنه نظام احتلال حاكمٍ بقوة القهر، وأضعف من ذبابة أمام إهاناته الإسرائيلية المعتادة. لم يكن القنطار يُكابر عندما انخرط في جرائم النظام المهان فقط، وإنما كان ينتحر، ويذبح نفسه بنفسه، وإنْ قضى في انتقامٍ إسرائيلي رخيص.. ومدان طبعاً.
تتكثف حاليا الاتصالات بين الدول المعنية في الشأن السوري لتأسيس أول و أهم بند ، في قرار مجلس الأمن الذي اتخذ الجمعة ، و الذي على ضوئه تم تحديد خارطة طريق الحل في سوريا ، وفق رؤية دولية موحدة ، مقلمة الأظفار بعد وضعها تحت البند السادس من ميثاق المجلس.
و من بين البنود الرئيسية ، و ذات الشكل الأساسي ، هي تحديد الجهات أو الجماعات أو الفصائل التي لن تكون معنية بطريق الحل الموضوع ، و ستكون خارج مراحل وقف اطلاق النار ، وطبعاً بعيدة عن الدخول في الحكم و تولي أي دور في سوريا المستقبل ، اذ ستكون هدفاً مشروعاً للجميع حتى إنهائها.
و لم يكون هناك أي شك بأن تكون القاعدة الممثلة بـ"جبهة النصرة" في قائمة ما اصطلح عليه "المجموعات الارهابية " ، إلى جانب "داعش" ، وكذلك من اتخذ منهجاً واضحاً و صريحاً اتجاه الوجه المستقبلي لشكل الدولة في سوريا ، و الفيصل هل هي دولة مدنية أم خلافة أو امارة.
لكن الخلاف لم ينبع حول هذه الفصائل ، في شأن الطرف المواجه لبشار الاسد و نظامه ، إنما تعلق ببعض الفصائل الأخرى كحركة أحرار الشام و بعض من ينتمي لذات التيار الاسلامي "المعتدل" نسبياً ، ولازالت المناقشات تدور حولها.
و النقطة الأساسية في هذه القائمة ، و التي تعتبر النقطة الأكثر خلافاً ، وهي وضع المليشيات المساندة للأسد ( العراقية و الأفغانية و الباكستانية ..)و بالتأكيد اللبنانية كحزب الله و حركة أمل و حزب البعث اللبناني ، و الحرس الثوري الإيراني و .... و..... .
فهذه الأسماء عليها محصنة بـ" فيتو" قوي و حاسم ، بعدم وضعها على تلك القائمة ، وهذا ما ظهر جلياً بعد تقديم القائمة المبدئية من الأردن (المسؤولة عن التنسيق بين الدول بشأن القائمة) ، فالاعتراض الايراني كان حاداً و حتى اللبناني ، الذي رأى أن وضع الثلاثي اللبناني (الحزب – أمل – البعث) فيه نوع من الاهانة للبنان ، كون الثلاثة المذكورين ، هم من صلب الدولة و الحكومة اللبنانية ، فكيف يكونوا ارهابيين ، وحاكمين بلد مجاور !؟
الاستعراض الهادئ لتسلسل الأمور ، يدفع لطرح آلاف الأسئلة ، أبرزها : إذا لم يصنف حزب الله و الحرس الثوري و باقي المليشيات التي يصل عددها لقرابة الـ ٥٠ ، كإرهابيين ، و لم يعدوا على رأس القائمة المطلوب اعدادها و مواجهة المذكورين فيها ، فهل ستكون هناك رد فعل طبيعي من بقية الفصائل التي نجت من القائمة و تتقبلهم كشركاء في مواجهة ، من كانوا بالأمس "أخوة السلاح" !!؟
أمر استبعاد المليشيات الشيعية وارد و بقوة ، لا بل قد يكون قد تم بشكل نهائي بعد سحب المسودة الأولية من التداول ، لتغييرها بما يسعد و يريح داعمي الأسد ، فهذه الخطوة وحدها ستكون كافية لنسف وجود أي تطبيق لقرارات مجلس الأمن بما فيها الأخير .
وهذا سيكون له رد فعل سبق و أن تحدث عنه العقلاء من المعارضة السورية ، و الذين آثروا المشاركة في مؤتمر "الرياض" ، كسد الذرائع ، فاليوم المخالفين على الأرض قد يكونوا قلة ، و لكن ما إن صدر الإلغاء الفعلي لوجود المليشيات الشيعية بشكل كامل أو حتى بشكل جزئي ، فإن أقلية المعارضين ، ستتحول إلى أكثرية ساحقة ، و يتحول الجميع إلى "عتاة" الإرهابيين (بنظر العالم الخارجي طبعاً) ، الذين لن ينفع معهم كل أساليب الوأد ، ومن جديد أكرر "داعش ستكون ماضٍ جميل أمام القادم".
دعونا نسلم جدلاً بأن من حق الإسلاميين تشكيل تنظيمات سياسية وحتى عسكرية للدفاع عن أنفسهم واستراتيجياتهم ومشاريعهم. لا شك أن لديهم الكثير من المبررات، وعلى رأسها أن الإسلام دين ودنيا، ومن حقهم أن يأخذوا فرصتهم في حكم المجتمعات العربية والإسلامية كما فعلت بقية الأحزاب والتيارات على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، ولنترك الحكم الأخير لصناديق الاقتراع وأصوات الشعوب. وقد نجد كثيرين ممن يدعون إلى إعادة الخلافة الإسلامية كما يفعل تنظيم الدولة الإسلامية. لكن هناك فرقا كبيرا بين التمنيات والرغبات وبين الواقع والمعطيات.
وعندما نجد من يدعون إلى إقامة أنظمة إسلامية على شكل خلاقة أو غيرها بشكل عبثي في عالم لا يمكن أن يقبل بمثل تلك الأنظمة مهما كان الثمن، فمن حقنا عندئذ أن نعتبرهم، إذا أحسنا الظن بهم، كمن يحارب طواحين الهواء، وإذا أسأنا الظن بهم، فمن حقنا أن نعتبرهم أدوات غير مباشرة لتكريس الاستبداد وإعاقة قيام دولة الديمقراطية والمواطنة التي بات ينتهجها أكثر من مئة وعشرين دولة في العالم من أصل مئة وثلاث وتسعين دولة.
لا شك أن الحالمين بدولة الخلافة أو بأنظمة إسلامية صرفة سيقولون لك لو أقنعتهم بأن العالم لن يسمح بمثل تلك الأنظمة، إن الدنيا تؤخذ غلاباً، وإن كل الأنظمة عبر التاريخ قامت أصلاً بالقوة وأحياناً عن طريق الإبادة والعنف الوحشي، كما فعلت أمريكا عندما قضت على الهنود الحمر، وأقامت دولتها على أنقاضهم وجماجمهم. وبالتالي من حق تنظيم الدولة الإسلامية وأمثاله أن يفعل ما يشاء لبناء دولته المنشودة، حسب منطقه. لكن لو اتفق البعض مع هذا المنطق، هل يمكن فعلاً أن تكون مثل تلك الجماعات الإسلامية بديلاً حقيقاً للأنظمة التي ثارت عليها الشعوب في إطار «الربيع العربي»؟
نعم ولا. (نعم) وظيفية إذا كان سادة العالم والمتحكمون بجغرافياته السياسية يريدون فعلاً نشوء مثل تلك الكيانات لأغراض تقسيمية ودينية ومذهبية وطائفية تخدم مشاريعهم الاستراتيجية، كما يتوقع البعض في سوريا والعراق.
و(لا) إذا كانت القوى الكبرى تمانع في نشوء مثل تلك الكيانات الإسلامية باعتبارها نقيضاً لحركة التطور السياسي والاقتصادي والثقافي العولمي العالمي. حتى الآن لا يبدو أن المتحكمين بالعالم يباركون الحركات التي تريد ان تبني أنظمة إسلامية كتنظيم الدولة وغيره. ولسنا بحاجة للكثير من الجهد كي نرى أن العالم يتكاتف شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لتقليم أظافر تلك الجماعات. فقد شكلت أمريكا حلفاً من عشرات الدول لمحاربة تنظيم الدولة، وكذلك فعلت روسيا التي جاءت بأحدث اسلحتها إلى سوريا لمواجهة الجماعات الإسلامية بكل أنواعها، ناهيك عن أن العرب والمسلمين أنفسهم راحوا يشكلون التحالفات لمحاربة «الإرهاب» المتمثل بتنظيم الدولة وأمثاله. وآخر تلك التحالفات «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» الذي أعلنت عنه المملكة العربية السعودية قبل أيام قليلة.
وعندما نرى الموقف الدولي المتأهب لمواجهة تلك الجماعات بكل أنواع الأسلحة السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، لا بد أن نسأل على ضوء ذلك: هل تريد الجماعات الجهادية كتنظيم الدولة وغيره فعلاً إقامة نظام الخلافة المنشودة (الممنوعة أصلاً)، أم إنها بعنادها العبثي أصبحت، بطريقة غير مباشرة، تلعب دور الفزاعة لصالح الطواغيت الساقطين والمتساقطين ولصالح القوى التي تريد لشعوب المنطقة أن تبقى تحت نعال الطغيان من أجل إعادة الشعوب إلى زريبة الطاعة، على اعتبار أن الديكتاتوريات العسكرية والأمنية أفضل من تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة بالنسبة للشعوب وللعالم الخارجي على حد سواء؟ أليس من حق البعض في هذه الحالة أن يتهم تلك الجماعات بأنها أفضل داعم للنظام السوري وأمثاله الحاكمين في أكثر من بلد عربي، لأنها تقدم بديلاً لا يقبله العالم الحديث، ولا تقبله الشعوب الثائرة؟
أليس من حق الشعوب التي ثارت ضد الطغيان في سوريا ومصر وتونس وليبيا واليمن وغيره أن تسأل أصلاً: هل ثرنا لاستبدال طاغية عسكري علماني بطاغية ديني يريد ان يعود بنا إلى غياهب الماضي السحيق بينما العالم يتقدم على كل الأصعدة بسرعة رهيبة؟ أليس من حقها أن تقول إننا لم نثر كي نستبدل الفالج بالسرطان، أو العكس؟
عندما يكون البديل للأنظمة الساقطة والمتساقطة على شكل تنظيم الدولة وأمثاله، فهذا يعني بالضرورة أن تلك التنظيمات تساعد بطريقة غير مباشرة الأنظمة الاستبدادية المتساقطة، لا بل ربما تدفع بعض الشعوب التائقة إلى الحرية والديمقراطية ودولة الحداثة إلى العودة لأحضان الطواغيت الذين ثارت عليهم، أو تتمسك بهم، لأن البديل القادم «داعشي».
وهنا من حق الجميع أن يضعوا ألف إشارة استفهام على ظهور تنظيم الدولة وأمثاله واستفحاله وانتشاره في هذا الوقت بالذات. لاحظوا أن التنظيمات الجهادية لم تقدم بديلاً ديمقراطياً مدنياً حداثياً للشعوب، بل تطرح نموذجاً من غياهب الماضي الذي لم يعد صالحاً لعالم اليوم بأي حال من الأحوال لا سياسياً ولا تكنولوجياً ولا إعلامياً ولا ثقافياً، وكأنها تقول للشعوب: ابقي على قرودك حتى لا يأتيك الأقرد منها.
لا شك في أن هناك التقاء بين موقفي روسيا والولايات المتحدة بشأن الأزمة السورية، هو الذي سمح بالتصويت بالإجماع على القرار 2254.
فالدولتان اللتان ظلت مواقفهما متباعدة من هذه الأزمة، خصوصاً بالنسبة إلى المسؤولية عن تنامي التنظيمات الإرهابية وعن استمرار الحرب، بالإضافة إلى الخلاف على مستقبل بشار الأسد، تريدان الإيحاء الآن وكأنهما تقودان السفينة إلى ما يفترض أنه حل سياسي للحرب التي يقترب عمرها من خمس سنوات.
ما سمح بذلك هو تراجع في مكان ما من قبل إحدى الدولتين أو كليهما. والأرجح أن الطرف الأميركي هو الذي قدّم التنازلات الأكبر، مقارنة بالتسهيل الروسي. ويمكن تحديد أبرز نقطتين للتنازل من جانب الأميركيين بـ: أولاً مستقبل بشار، الذي تم تجنب الإشارة إليه عمداً في القرار الدولي الأخير، وثانياً وضع محاربة الإرهاب كأولوية بالنسبة إلى الدول الكبرى.
في هاتين النقطتين نجح النظام السوري وأنصاره في تسويق الخطة التي وضعوها منذ تعثرت قدرتهم على إسكات المعارضة بقوة الصواريخ والبراميل المتفجرة. تقوم هذه الخطة على دعوة العالم إلى الوقوف مع النظام في حربه المزعومة على الإرهاب، مع تجهيل الفاعل الذي سهّل وسمح منذ البداية بنمو هذا الوحش لتوظيفه في ما بعد، ثم دعوة العالم إلى دعم الشعار الذي رفعه بشار الأسد وأيده فيه الروس والإيرانيون، وهو أن تقرير مصير الرئيس السوري يجب أن يكون حقاً حصرياً للسوريين. هذا الشعار «الديموقراطي» من حيث الشكل، يُغفل الطريقة التي جاء بها بشار أصلاً إلى الحكم، كما يتجاوز العوامل التي سمحت له بالاستمرار منذ اندلعت الانتفاضة الشعبية ضده في ربيع عام 2011.
لم تتم هذه التنازلات لمصلحة النظام السوري بمحض الصدفة. فمنذ فرض الأميركيون مشاركة إيران في البحث عن حل، ودعوها إلى محادثات فيينا، كان واضحاً أن ميزان القوى يتبدل. وهو لم يتبدل أصلاً نتيجة ذلك فقط. بل حصل هذا التبدل منذ اختار باراك أوباما الوقوف مكتوف اليدين أمام مجازر النظام وجرائمه، في الوقت الذي كان أنصار النظام، الإقليميون والدوليون، يدعمونه بكل وسائل الحرب التي سهلت له الإمعان في ارتكاب المجازر.
بعد كل ذلك لم يكن مستغرباً أن يكون تقييم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقرار الدولي الأخير تقييماً إيجابياً على طريقة: لقد انتصرنا. لافروف اعتبر القرار رداً على محاولات فرض حل خارجي على السوريين، بما في ذلك ما يتعلق برئيسهم. كما أنه فرض محاربة الإرهاب كأولوية في خطة عمل الأسرة الدولية.
في ضوء كل ذلك، يصبح السؤال مبرراً عن فرص نجاح القرار الدولي الأخير في الوصول إلى حل في سورية، بعيداً من التفاؤل الذي يحاول واضعو القرار أن يبشروا به.
أولى علامات الاستفهام: ممن ستتشكل الحكومة الانتقالية وكيف ستكون حكومة «شاملة وذات صدقية» طالما أن مصير الأسد ودوره في هذه المرحلة لم يحسم؟ فالطرف المؤيد للنظام يرى أن هذا الدور يتقرر في الانتخابات الموعودة (بعد 18 شهراً)، فيما يرى الفريق الآخر أن كلمة «انتقالية» تعني بحد ذاتها انتقالاً من مرحلة إلى أخرى، فضلاً عن أن المنسق العام لهيئة التفاوض رياض حجاب، ورئيس «الائتلاف» خالد خوجة، إضافة إلى معارضين آخرين، أكدوا على ضرورة أن لا يكون للأسد أي دور، منذ بدء المرحلة الانتقالية.
أما علامة الاستفهام الثانية فتتعلق بتحول النظام السوري من خصم كان المجتمع الدولي يدعو إلى استبداله، إلى «شريك» في الحرب على الإرهاب. أليس هذا ما يمكن فهمه من أحد بنود القرار، الذي يستثني من وقف إطلاق النار الأعمال الهجومية ضد التنظيمات الإرهابية، ومن بينها «داعش» و «جبهة النصرة»؟ ألا يعني هذا أن قوات النظام وحلفائه، من دول وميليشيات، التي تزعم خوض الحرب في سورية لمحاربة الإرهاب، ستصبح عملياً معفاة من الالتزام بوقف النار، الذي لن ينطبق في هذه الحال سوى على فصائل المعارضة؟
فخاخ كثيرة في نص القرار الدولي بشأن سورية يمكن تلخيصها بما قاله لي بالأمس أحد قادة المعارضة الذي شارك في مؤتمر الرياض الأخير عن هذا القرار: إنه مشروع سياسي للحل لكنه جامع كل التناقضات، وسوف يطلق يد روسيا وإيران للإمعان أكثر في قتل السوريين.
نشأت سورية بحدودها الحالية وفقاً لاتفاق سري بين بريطانيا وفرنسا اسمه سايكس بيكو. كان ذلك في عام 1916. يوم الجمعة الماضي، أي أواخر الشهر الأخير من هذا العام 2015، يرسم قرار دولي من مجلس الأمن ما يفترض به أن يكون مستقبلاً جديداً لسورية يخرجها من مأساة حرب أهلية مدمرة أطلق عنانها النظام السوري، وليس أي طرف آخر، قبل قرابة خمس سنوات. ما بين التاريخين (1916-2015) مسافة من الزمن تصل إلى 99 سنة. وإذا عرفنا أن مفاوضات سايكس بيكو تمت في عام 1915، يمكن القول إن ما بين النشأة الأولى لسورية وقرار مجلس الأمن الأخير عن مستقبلها هو قرن كامل من الزمن. من هذه الزاوية، وقبل تبين دلالة هذا المسار التاريخي، يطرح السؤال البديهي نفسه: هل يمكن أن يؤدي قرار مجلس الأمن هذا إلى إنهاء الحرب الأهلية في سورية، ودخولها مرحلة انتقالية حقيقية تنتهي بإعادة بناء الدولة فيها على أسس علمانية وديموقراطية تجعل منها دولة تتسع للجميع وتكفل حقوقهم وأمنهم والمساواة في ما بينهم كمواطنين؟
هناك حقيقة لا يمكن تفاديها، وهي أن قرار مجلس الأمن هو نوع من الحل الوسط بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، وليس بين السوريين أنفسهم. المعارضة والنظام، يجدان نفسيهما مجبرين على التعايش مع هذا القرار، وليس القبول به نهائياً. في حقيقته القرار تفاهم بين دولة عظمى، هي الولايات المتحدة، لا تريد الانخراط سياسياً وليس عسكرياً في الأزمة السورية، ودولة عظمى أخرى وإن كانت أقل درجة هي روسيا، انخرطت عسكرياً وسياسياً في هذه الأزمة، وأصبحت تمسك بملفها أكثر من غيرها. انطلاقاً من ذلك، فإن إمكان تنفيذ القرار ونجاحه في إخراج سورية من مأزقها يعتمد قبل أي شيء آخر على ما تنوي روسيا أن تفعله لتحقيق هذا الهدف. هل ستلتزم هي نفسها أولاً كطرف في الحرب الآن بوقف إطلاق النار؟ وهل ستتوقف تبعاً لذلك عن استهدافها المدنيين والمعارضين للأسد من غير تنظيم الدولة (داعش)؟ ثم هل موسكو على استعداد أن تفرض على حليفها الأسد التزام وقف إطلاق النار أيضاً، خصوصاً التوقف عن استخدام البراميل المتفجرة؟ وهل تملك إقناع إيران بالتخلي عن الأسد باعتباره الحليف الذي لا ترى بديلاً له في سورية؟ من دون الإجابة في شكل واضح على هذه الأسئلة لا يمثل القرار الأخير لمجلس الأمن أكثر من أنه ورقة أخرى تضاف الى ملف الأزمة السورية.
من الواضح أن روسيا نجحت في ترك مستقبل الرئيس السوري في القرار غامضاً لا يلزم أحداً بشيء. لكنها الطرف الأقوى الآن في الساحة السورية. هي تردد دائماً بأن مستقبل الأسد يعود للسوريين أنفسهم. وهذا من حيث المبدأ صحيح تماماً. لكن عملياً، وفي إطار الصراع الدائر واللعبة السياسية المنبثقة عنه، هو شيء آخر أبعد ما يكون عن الصحة والمنطق. تعرف موسكو أن الرئيس السوري ونظامه الدموي هو في حقيقة الأمر من قرر مصير الشعب السوري، وليس العكس. وهذا واضح مما انتهى إليه حال هذا الشعب المغلوب على أمره. وإذا كانت روسيا صادقة في ما تردده عن هذه المسألة، فإن هذا يلزمها أخلاقياً وسياسياً بتصحيح هذه المعادلة عن انحرافها، بحيث يصبح الشعب هو حقاً من يقرر مصير الرئيس وليس العكس. لكن تدخلها العسكري وإعلانها الالتزام بترجيح كفة الأسد ونظامه في الصراع يشير إلى أنها تريد توظيف القرار الدولي كغطاء لفرض المعادلة القديمة بالقوة ورعب التهديد بها، ومن ثم تكريسها كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن. تخلي الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه أوروبا عن الشعب السوري، وإطلاق يد روسيا وإيران والنظام في الصراع، إضافة إلى الانقسام العربي الحاد حول الموضوع السوري، يقول للسوريين شيئاً واحداً: إنكم لوحدكم أمام ثلاثي النظام بتاريخه الدموي، وموسكو بحملة «السوخوي» التي أطلقتها، وطهران بميليشياتها وجنرالاتها. ماذا يمكن أن يكون موقف السوري العادي في هذه الحال، وبعد كل الدمار والقتل والتهجير الذي تعرض له؟ وإذا كانت روسيا تناور، كما يبدو، بشعار أن «الشعب يقرر مصير الأسد»، فهل ستقبل المعارضة السياسية والعسكرية بوقف لإطلاق النار، والبدء بالتفاوض قبل معرفة المصير النهائي للرئيس الأسد؟ هذا أمر مشكوك فيه تماماً. الثقة مفقودة تماماً في الرئيس السوري، والروس لم يقدموا شيئاً يشجع على الثقة بما يرمون إليه حيال هذه المسألة. تبقى مسألة أخطر وأهم من ذلك، وهي استحالة قبول السوريين أن يكون بشار الأسد جزءاً من مستقبلهم بمسؤوليته عن الدماء والدمار التي تسبب فيها قبل أي أحد غيره. كيف سيتعامل الروس مع هذه الحقيقة؟
لم يقدم القرار الدولي للشعب السوري أي شيء ملموس. أعطى لإدارة أوباما ورقة توت دولية تغطي بها تخبطها وافتقادها لسياسة خارجية متماسكة. وأعطى لموسكو نوعاً من الغطاء الدولي لمهمتها الغامضة في سورية. ما عدا ذلك لا يتضمن القرار أكثر من أمانٍ لا أحد يعرف كيف، ولا أين يمكن صرفها. بعبارة أخرى، ضاعف القرار الدولي الأخير من عتمة المستقبل السوري. وهذا يعيدنا إلى دلالة المسافة الزمنية بين كيف ومتى نشأت سورية من ناحية، وبين ما انتهت إليه على طاولة مجلس الأمن الجمعة الماضي من ناحية أخرى. فبعد مرور 100 عام من عمر دولتهم يجد السوريون أنفسهم مرغمين بالدم، والقتل، والتهجير، والتعذيب، والتدمير، والغرق في أعالي البحار، ولا مبالاة الدول الكبرى، على البدء من الصفر لإعادة تأسيس واستئناف نشأة هذه الدولة. لكنه صفر غامض، وإعادة تأسيس هي أقرب الى الأمنية منها لعملية سياسية ملزمة. والمؤلم أن هؤلاء السوريين يجدون أنفسهم مرة أخرى يفعلون ذلك تحت إشراف دولي. كأنهم لم يبلغوا الرشد. ذهبت سنوات التحرر الوطني، وما كان يعرف بالنضال ضد الاستعمار والتدخلات الأجنبية، والصراع العربي - الإسرائيلي هباءً تذروه رياح الزمن. نشأت إسرائيل بعد نشأة سورية بـ42 سنة. وهنا تتبدى مأساة الزمن، ومأساة النضال في التجربة السورية. أمامك ما انتهت إليه الشام في حدودها الحالية، وما انتهت إليه إسرائيل. باتت الأخيرة طرفاً، وإن غير مباشر، في الصراع على سورية بعد أن كانت الأخيرة تطمح للتوازن الاستراتيجي معها.
تبعاً لذلك، أصبحت سورية وبحكم ديناميكية الصراع بمعادلته الجديدة، تحت الاحتلال الإيراني، والاحتلال الروسي. وهذا وفقاً لقاموس حزب البعث وخطابه السياسي وليس أي خطاب آخر. باتت أرضها مسرحاً لكل الميليشيات، وسماؤها مسرحاً لكل سلاح طيران يريد أن يحارب «داعش». وفي هذه الغابة من الميليشيات والمقاتلين والطائرات من كل حدب وصوب، صار لزاماً على سلاح الجو الروسي أن ينسق من قاعدته في اللاذقية تحديداً مع سلاح الجو الإسرائيلي بمعرفة وموافقة الرئيس السوري. أي أن إسرائيل، التي يقال أن الأسد كان (في يومٍ ما) يقود المقاومة ضدها، تساهم مع الروس والإيرانيين في حمايته، وحماية نظامه من السقوط.
الأنكى من كل ذلك، أن حكم حزب البعث العربي الاشتراكي لسورية يقتطع قرابة نصف تاريخ الـ100 سنة الماضية، من حيث أنه بدأ في 1968. من هذه 45 سنة رزحت سورية خلالها تحت حكم حافظ الأسد (30 سنة)، ثم ابنه بشار الأسد (15 سنة). ما يعني أن مأساة سورية بدأت في أصلها من داخلها، ثم تفاقمت مع حكم البعث، وتحديداً حكم آل الأسد. ومع ذلك تصر موسكو على أن الشعب السوري هو من يجب أن يقرر مصير الرئيس. اللافت أن هذا الرئيس قال لصحيفة الـ «وول ستريت جورنال» الأميركية بتاريخ 31 كانون الثاني (يناير) 2011، أي قبل قرابة الشهرين من الثورة السورية، ما نصه حرفياً «إذا لم ترَ الحاجة إلى الإصلاح قبل ما حدث في مصر وتونس، فإن الوقت يصبح متأخراً لأي إصلاح». ولأنه هو من قال ذلك، وهو محق فيه تماماً، فإن سورية لم تعد حقاً في حاجة للإصلاح، ولا في حاجة إليه هو تحديداً بعدما فشل في شكل دموي أخرق في استيعاب الثورة. سورية لن تعود كما كانت، بما في ذلك الأسد وزمنه.
لعل تسمية التحالف العسكري الإسلامي، المعلن أخيراً، "العربي الإسلامي" هو الأقرب إلى واقع الحال، كون قرابة نصف عدد الدول الأعضاء في التحالف من الدول العربية، ومسرح العمليات المزمعة على أراضٍ عربية. هو تحالف ضد الإرهاب أيضاً، ويضم دولاً عديدة منضوية في التحالف الدولي الذي يقوم بعمليات جوية ضد داعش في سورية والعراق. والفرق الرئيسي بين التحالفين أن التحالف الجديد يتجه نحو المشاركة في عمليات برية ضد مراكز تهديد إرهابي، وليس الاقتصار على عمليات جوية.
كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد صرح، في مناسبات عدة، منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن هناك مشاورات جارية لتشكيل قوة عسكرية عربية برية لمحاربة داعش، بعدما ثبت أن العمليات الجوية غير كافية للقضاء على التنظيم، أو منع تمدده. ولهذا رحبت واشنطن بالإعلان الثلاثاء 15 ديسمبر عن التحالف الجديد الذي يتخذ من الرياض مقراً له، ولعبت السعودية دوراً بارزاً في تشكيله، وهو المفتوحة فرصة الانضمام إليه أمام دول إسلامية أخرى. وقد أوضح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أن التحالف سوف يتعاون مع دول أخرى غير إسلامية، ففي مكافحة الإرهاب مصلحة للجميع.
التحالف الجديد بمثابة استكمال لمهمة التحالف الدولي (الجوي)، مع توسيع نطاق العمليات وإدامتها. وهو كذلك تجديد وتوسيع للتحالف الذي يخوض الحرب في اليمن ضد الانقلابيين. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لدى تدخله العسكري في سورية، قد صرح مراراً إنه يسعى إلى بناء تحالف واسع ضد الإرهاب، وقد ضم تحالفه إيران وروسيا والعراق والنظام في دمشق، وبتنسيق جزئي مع الأردن يتعلق بالحدود مع سورية، واتخذ من بغداد مركزاً له. لم يقيّض لهذا التحالف أن يتسع، لأن الأداء الروسي في سورية جعل التصدي للجيش الحر والمعارضة المعتدلة واستهداف المدنيين في طليعة مهمات المقاتلات الروسية. ولم تلبث موسكو أن انصرفت عن مسعاها هذا، إذ انغمست في حرب أعصاب واستعراض قوة مع تركيا، فيما يتفرّغ وزير خارجيتها، سيرغي لافروف لمحاولة انتزاع تنازلات، المرة تلو المرة، من نظيره، جون كيري، ومن المبعوث الأممي دي ميستورا، بخصوص مستقبل سورية، وبغرض تصنيف كل من يعارض نظام الكيماوي والبراميل المتفجرة إرهابياً.
وبما أن الوضع في سورية هو الأشد تعقيداً والأكثر توتراً، من الملاحظ في هذا البلد أن سماءه مفتوحة للمقاتلات الروسية (فيما ينهمك التحالف الدولي بقصف داعش)، أما على الأرض، فإن
"موجة الربيع العربي قد حفرت تحت السطح، وأشاعت ثقافة الإصغاء لتطلعات الشعوب، تفادياً لخطر الإرهاب والاختراق الخارجي"
المليشيات الأفغانية واللبنانية والإيرانية والعراقية والباكستانية تشكل جيوشاً لمحاربة فصائل الجيش الحر، والتنكيل بالبيئات السنّية، كلما تسنى لها ذلك، الأمر الذي أفرز جموداً في الوضع العسكري مع تحسن طفيف لمصلحة النظام، وقد انعكس ذلك جموداً سياسياً، على الرغم من أن أجندة اجتماع فيينا ركّزت على حل متتابع الخطوات، يبدأ مع مطلع يناير/كانون الثاني 2016 بمفاوضات بين النظام والمعارضة. اللافت أن مسؤولين روسا تحادثوا مع نظرائهم الإيرانيين، بعد اجتماعات فيينا، وصرّحوا، بصورة متناغمة، أنهم يرفضون "فرض حلول خارجية على سورية"! وبعد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية الذي حقق قدراً من النجاح، كان يُفترض أن الجمود السياسي تم كسره. لكن، لا شيء من ذلك قد حدث. وكأن اجتماعات فيينا بمشاركة عشرات الدول لم تتفق على شيء سوى على تدخل عسكري روسي مباشر(!).
يملأ التحالف الجديد المعلن عنه في الرياض الفراغ بالفعل، فراغ غياب المنعة الذاتية القومية، فراغ غياب قوات برية عربية وإسلامية تحمي المدنيين السوريين والليبيين والعراقيين. جاء التدخل الروسي ليضاعف محنة المدنيين، وليوقع مزيداً من الضحايا، ويتسبب بموجات لجوء جديدة، ويفترض أن يملأ التحالف فراغ انكفاء أميركا من المنطقة، مكتفية بتحالفها مع إسرائيل وغير مبالية بالتمدد الإيراني.
وعلى الرغم من الصفة العسكرية الصريحة التي يحملها هذا التحالف، فإن المغزى السياسي لقيامه لا يقل أهمية، وهو التقاء أكثر من ثلاثين دولة إسلامية لمهمة التصدي للإرهاب، ابتداء من داعش وليس توقفاً عندها أو اقتصارا عليها. وباستثناء الجزائر وسلطنة عمان والعراق، فقد جمع التحالف غالبية الدول العربية الرئيسية، بما فيها اليمن وليبيا مثلاً، على الرغم من الأوضاع غير المستتبة فيهما. (أما لبنان الذي أعلن رئيس حكومته، تمام سلام، انضمام بلاده إلى التحالف، فإن وزير الخارجية باسيل جبران تحدث عن عدم علم وزارته بهذا الانضمام، وكأن مسألة الاشتراك في تحالف إقليمي واسع شأن دبلوماسي خالص يتعلق بوزارات الخارجية!). وقد نجحت الرياض في جمع المروحة الأوسع من الدول العربية، وبما وضع جامعاً مشتركاً بين دول متباعدة سياسياً.
لم تتضح بعد آليات عمل التحالف. لكن، تبيّن أن الإعلان عنه جاء حصيلة لقاءات واسعة ومشاورات مكثفة، شارك فيها رؤساء أركان وأجهزة أمنية معنية في الرياض، طوال الأشهر الماضية، وهذا هو التطور الثاني الذي يصدر عن الرياض هذا العام، بعد اندلاع حرب عاصفة الحزم، أواخر مارس/آذار الماضي، وينطوي هذا التطور على قيمة استراتيجية كبيرة، مفادها بأن العرب هم من سيملأون أي فراغ، وهم من سيتصدون لمختلف منظمات الإرهاب، وفي مقدمتها داعش، وأنه لن ينشأ فراغ سياسي وعسكري في منطقتنا بعد اليوم، ولن يتم انتظار قوى غربية لتصحيح المعادلات، ولا قبول وجود أية قوة إقليمية أو أجنبية في ديار العرب.
إلى سنوات قليلة خلت سبقت موجة الربيع العربي، كانت الأنظار تتطلع إلى حراك سياسي يكسر الجمود هنا وهناك. قبل انتهاء هذا العام 2015، نشهد حراكاً عسكرياً ذاتياً على المستوى العربي من أجل مكافحة الإرهاب، ووقف الاختراق الخارجي. مع ملاحظة أخيرة تتعلق بعودة الجيوش للعب دورها في الإطار نفسه، بعد أن شاعت خلال عقد على الأقل نظرية مزاحمة الجيوش الخاصة (المليشيات والجماعات المسلحة) للجيوش النظامية. والهدف هو نفسه، مكافحة الإرهاب، حماية المدنيين، والتصدي للاختراق الخارجي. وهذا يدل على أن العالم العربي في سبيله إلى التغيير، إن لم يكن قد بدأ يتغيّر، ولعلها موجة الربيع العربي قد حفرت تحت السطح، وأشاعت ثقافة الإصغاء لتطلعات الشعوب، تفادياً لخطر الإرهاب والاختراق الخارجي.
أتحفنا وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في حواره مع مجلة نيويوركر بمعلومات أو مواقف ربما تصرح بها الولايات المتحدة للمرة الأولى. منذ البداية، كنا ندرك أن الموقف الأميركي مما هو قائم في سورية غير واضح، وأن الإدارة الأميركية تتروى في اتخاذ موقف، تجنباً لتكرار سياسات سابقة، وتحديداً ما قامت به إدارة جورج بوش في العراق، وهو ما صرح به كيري بشكل مباشر في التقرير المطول، والذي يظهر ما يخفيه الأميركيون تجاه الوضع السوري.
الإدارة الأميركية، وبحسب قراءة ما بين سطور حوارات كيري، لا تزال متمسكة ببقاء نظام بشار الأسد، على عكس التصريحات العلنية التي يخرج بها المسؤولون الأميركيون، تحديداً في الفترة الحالية، والكلام عن الفترة الانتقالية، والجدال حول دور الأسد فيها. كيري لم يقل ذلك في كلامه بشكل صريح، لكن، من الواضح أن هذا ما يسرّه الأميركيون، ولا يعلنونه بشكل مباشر، حرصاً على مواقف الحلفاء، وتحديداً الدول الخليجية. لا تزال الإدارة الأميركية غير واثقة بأي خيار بديل، قد يكون مطروحاً ليتولى إدارة سورية بعد رحيل النظام. لذا، هي تشير، بوضوح، إلى أن الغاية هي الإبقاء على النظام، وربما تغيير رأسه.
لكن، حتى هذا الرأس، لا ترى واشنطن من هو مؤهل لتولي المهمة في الوقت الحالي، بل أنكى من ذلك، يؤشر ما جادت به قريحة كيري في التقرير إلى تلميعٍ ما لبشار الأسد شخصياً، بداية من الحديث عن "أخطائه"، مروراً بحرصه على "العلمانية"، وصولاً إلى دور المحيطين به في التأثير على قراراته.
فرئيس الدبلوماسية الأميركية، والتي من المفترض أنها تدين، منذ البداية، الجرائم التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه، لم ير في هذه الجرائم إلا "أخطاء" بشار الأسد إلى القيام بها من دون أن يرغب في ذلك. هذا ما أشار إليه كيري بوضوح في مقابلاته، فالمسؤولون المباشرون عن هذه الأفعال، بحسب الوزير الأميركي، هما والدة الرئيس السوري، أنيسة، وشقيقه، ماهر الأسد، في إطار مخاوفهما على مكاسب الطائفة العلوية، على حسب ما جاء في "نيويوركر".
ويعيد كيري، بأطروحته هذه، الديباجة التي راجت في الأيام الأولى للثورة السورية، وتحدثت عن رغبة الرئيس السوري في القيام بإصلاحات في نظامه، غير أن أطرافاً أخرى في "مجلس العائلة" منعته. وهي مزاعم ثبت كذبها من كلام الأسد نفسه، ومن كثير من المسؤولين والشخصيات الذين التقوه، أو هم على دراية بخفايا ما يدور في أروقة النظام، والذين أشاروا إلى أن الأسد مدرك، منذ البداية، للأفعال التي يقوم بها، والتي تندرج في إطار جرائم الإبادة الجماعية، غير أن كيري لم ير فيها إلا "أخطاء".
أيضاً كيري، وفي إطار ما يروج النظام لنفسه، عمد إلى إمرار الحديث الذي دار بينه وبين الأسد حول "انتشار الحجاب والتطرف"، ورواية كيف أن والدة الأسد لم تعد تستطيع الخروج خشية هؤلاء المتطرفين، وهي رواية مضحكة جداً لمن يعرف حياة "العائلة المالكة" في سورية، إذ تصوّر والدة بشار الأسد وزوجة حافظ الأسد وكأنها مواطنة عادية، تخرج للتسوق وشراء الخضار على سبيل المثال. لكن، بغض النظر عن هذه المفارقة الكوميدية، مرّر كيري المعلومة عن رغبة الأسد في الإبقاء على النظام العلماني في بلاده. توقيت إمرار هذه الرسالة في ظل المخاوف من الأسلمة المنتشرة عالمياً.
لم يكتف الوزير الأميركي بهذا القدر من "التنويه" بالأسد، بل أضاف إليه معطى ثالثاً، تمثّل في استعداد الرئيس السوري للتوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل، وهو كان سيقوم بذلك في عام 2010، غير أن تعنت بنيامين نتنياهو حال دون ذلك.
معلومات وتصريحات بمجملها لا تصب إلا في خانة تلميع صورة الأسد غربياً، والتي يبدو أنها مهمة أخذ كيري على عاتقه القيام بها.
يُعقد اليوم في نيويورك، الاجتماع الثالث للمجموعة الدولية الإقليمية حول سوريا. وكان عقده مهدداً قبل زيارة وزير الخارجي الأميركي جون كيري لروسيا الثلاثاء الماضي، نظراً إلى مطالب موسكو ومواقفها، إلا أن زيارة كيري أفضت إلى قبولها باستمرار عقده في موعده، لكن لا تزال هناك نقاط تباين بين واشنطن وموسكو حول الحل، وفي مقدّمها مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد.
ومصير الأسد سيُناقش، وسط استمرار للخلافات في وجهات النظر حول ذلك، الغرب يريد التوصل الى تفاهم حول موعد مغادرة الأسد الحكم في المرحلة الانتقالية، وما إذا كان في منتصف هذه المرحلة أو في نهايتها، او حتى في بدايتها. إنما روسيا وإيران تقولان إن على الشعب السوري ان يقرر مصيره. وتكشف مصادر ديبلوماسية، أن روسيا وإيران لن تتخليا عن هذا الموقف، لأن في ذلك تخلياً عن ورقة تفاوضية تمكنهما من تحقيق مزيد من المطالب والمصالح، وهي ورقة أساسية بالنسبة اليهما. إذ إنه في حال وافقتا على رحيله بهذه البساطة، فلن يعود هناك من فريقين دوليين متناقضين حول أهداف معينة. وبالتالي، إصرارهما على بقاء الأسد طبيعي من باب التمسّك بتلك الورقة لتحقيق شروط أفضل في أية عملية سياسية.
كل ذلك يعني أن اقتراب رحيل الاسد غير مضمون على الرغم من صدور خارطة طريق الحل السياسي في اجتماع فيينا الثاني للمجموعة الدولية الاقليمية. مصير الأسد لا يزال غير واضح، وهو ما على الدول توضيحه والتفاهم حوله لمنع تفسيرات متعددة كما حصل مع «وثيقة جنيف». وايران وروسيا لم تعلنا مرة واحدة ان الاسد سيغادر السلطة. كما لم يحصل في فيينا اتفاق على انتهاء حكمه وتوقيت ذلك. ولم يلحظ بيان فيينا شيئاً عن الأسد، وقد رفضت روسيا وإيران كل إشارة إليه في مشروع البيان الذي خلا من اسمه فعلاً.
وفضلاً عن ذلك، سيبحث الاجتماع وضع آلية محددة لوقف إطلاق النار في سوريا. إذ إن بيان فيينا نص على وقف النار ابتداء من كانون الثاني المقبل وبدء محادثات سلام بين النظام والمعارضة.
روسيا لم تكن متحمسة لاجتماع نيويورك، الامر الذي حدا بوزير الخارجية الاميركي لزيارتها تلافياً لتعطيل الاجتماع، الذي يناقش الخطوات التفصيلية لبيان فيينا. ولان المواضيع بالغة الدقة وكانت تحتاج الى لقاء كيري مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت المؤشرات تقول إن اجتماع نيويورك سيتأجل. الاميركيون يتهمون الروس بأنهم يعرقلون لكي يكسبوا دوراً أكبر. موسكو كانت ترفض مكان الاجتماع، لأن الولايات المتحدة برأيها، على أراضيها تكون ماسكة اوراق اللعبة كلها وادارتها، لذلك فضّلت ان يكون الاجتماع في اوروبا، وهذا ما كانت تفضله إيران أيضاً. أي في أمكنة محايدة في أوروبا، لا تعطي لأي فريق سلطة على الفريق الآخر. ولهذا السبب لم يقع الاختيار على باريس او لندن او موسكو. وهناك خلافات بين الدول على الادوار التي يفترض أن تتمتع بها كل دولة خلال الاجتماعات.
موسكو تجاوزت مواقفها السابقة حول جهود توحيد المعارضة السورية حيث كانت قد اعتبرت ان من بين الفصائل إرهابيين. روسيا تطالب، لا بل تلح، على تصنيف الجهات الارهابية، وكلف الاردن بالقيام بهذه المهمة عبر إعداد لائحة بالمنظمات الارهابية، لكن مصادر ديبلوماسية استبعدت ان تضم اللائحة اطرافاً جديدة غير «داعش» و»جبهة النصرة». هناك 2000 مجموعة تقاتل في سوريا. لكنّ هناك فارقاً بين المجموعات، فمنها تضم 100 مقاتل ومنها ما يصل عدد أفرادها الى 6000. المجموعات الكبيرة معروفة وسيكون لها دورها في العملية السياسية، وفي انتظار نتائج الدور الأردني والاجتماعات على مستوى الأمنيين، فإن الكل متفق على أن «داعش» و»النصرة» هما الإرهابيتان وهذا موقف مجلس الأمن منهما، ولن يتم الاتفاق على اي منظمة إرهابية جديدة.
الغرب يشكّك دائماً بنيات الروس ويعتبر أنهم لا يضربون «داعش» بل المعارضة المعتدلة. كما أن الغرب يطالب بحل متوازن يؤدي الى رحيل الاسد. أي أنه يجب أن لا يكون للأسد دور في مستقبل سوريا، والغرب يشكك بصدقية الدور الروسي حول الحل.
بالنسبة الى تشكيك الغرب بأن روسيا تضرب المعارضة المعتدلة اكثر مما تضرب «داعش»، تقول المصادر، إنه منذ 30 أيلول الماضي حتى اليوم ضربت روسيا 80 في المئة من أهدافها، المعارضة المعتدلة، و20 في المئة «داعش». في المقابل، يهم الروس صدور لائحة بالمنظمات الارهابية، لا سيما الجماعات التركمانية المسلحة التي يجب إدراجها على تلك اللائحة. والسبب ان روسيا حمّلت مسؤولية إسقاط طائرة «السوخوي» الروسية الى التركمان. ويأتي هذا الموقف من باب الضغط على تركيا، لتصعيد الأمور رداً على إسقاطها.
لو جمعنا التصريحات والمواقف والبيانات الصادرة عن كل من البيت الأبيض والكرملين والقادة العسكريين في التحالفين الروسي والأميركي، المتعلق بآلاف الطلعات الجوية والضربات التي وجّهت إلى «داعش» وعدد المواقع التي دمّرت، وصهاريج النفط والآبار التي استهدفت، والمناطق التي تحرّرت، لكان من المفترض أن يكون هذا التنظيم قد انتهى أو على وشك الانتهاء. أما الواقع فيشير إلى أنه لا يزال يسيطر على مواقع كثيرة، ويكسب أموالاً وفيرة، وهذا أيضاً موجود في بيانات أخرى صادرة عن الجهات ذاتها، وتتحدث عن واردات التنظيم وقدراته المالية، ويتقدم في مناطق جديدة في ساحات القتال. فضلاً عن تمدده في اليمن وليبيا ووصوله إلى عواصم دول كبيرة، ونجاحه في اختراق ساحات ومجتمعات باتت تعيش قلقاً من تواجده. إذاً، أين هو نجاح التحالفين وغيرهما من القوى التي تقول إنها تقاتل «داعش»؟ نحن أمام استباحة كاملة لأراض ومجتمعات ودول تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ولكل دولة «إرهابها» المنطلق من تعريفها للإرهاب وحساباتها الخاصة ومصالحها.
في سوريا، جاء التدخل الروسي تحت عنوان ضرب «داعش»، وكل الفصائل المعارضة انطلاقاً من التأكيد الرسمي الروسي أن كل المعارضات متشابهة، كما أعلن أكثر من مرة.
واللافت في هذا المجال التخبّط الذي ميّز المواقف الروسية الأخيرة. فالمعروف أن المسؤولين الروس قالوا في بداية تدخلهم إنه ليس ثمة شيء اسمه معارضة معتدلة، وأنه ليس ثمة شيء اسمه «الجيش الحر»، ثم أعلن عن زيارة عدد قادة هذا الجيش إلى موسكو، ثم قال الرئيس بوتين نفسه أمام كبار قادة جيشه في بداية هذا الشهر إن «بلاده تدعم فصائل من الجيش الحر»!
غريب، أين وجدوا هذا الجيش؟ كيف ولد؟ متى اكتشفوه؟ لماذا اعترفوا به؟
رئيس أركان الجيش الروسي «فاليري غيراسيموف»، أكد الموقف الذي أعلنه بوتين. لكن «ديمتري بيسكوف» الناطق باسم بوتين، قال بعد ساعات على كلام رئيسه إن روسيا تدعم الجيش النظامي وليس «الجيش الحر»! ناطق باسم الرئيس يناقض كلام الرئيس! خرج بعض المسؤولين الروس ليفسّر الموقف بأنه «تكتيك» «وتنسيق سري»، وسياسة لتضييع كل الآخرين! في النهاية إذا كان الأمر صحيحاً فهذا انقلاب على المواقف الأولى التي أطلقتها موسكو وكانت مخالفة للواقع. يعني «الجيش الحر» كان موجوداً ولا يزال موجوداً، فلماذا غيرت موسكو مواقفها؟ وإذا كان الأمر غير صحيح، فهذا يعني أن بوتين يطلق مواقف غير صحيحة، لا تندرج في خانة المناورات في مرحلة يتم فيها الحديث عن تشكيل وفود المعارضة والنظام إلى التفاوض و«الجيش الحر»، هو ركيزة أساسية في هذه العملية، وبالتالي لا يستطيع بوتين أو غيره إنكار هذا الأمر!
الأمر ذاته وقعت فيه الإدارة الأميركية في مرحلة سابقة وتحدثنا عنه في حينه، حيث كانت الإدارة تعتبر أنه ليس ثمة معارضة معتدلة، بل ستسعى إلى خلقها وذهبت في هذا الاتجاه من خلال برنامج التدريب الخاص الذي انتهى بأربعة أو خمسة عسكريين فقط! ووصفوا العملية بالفضيحة، هم أنفسهم قالوا ذلك في محيط أوباما!
عندما تدخلت موسكو عسكرياً في سوريا خرج الأميركيون إلى العلن ليقولوا إنهم يزوّدون المعارضة المعتدلة بالسلاح، ثم طوروا الموقف ليتحدثوا عن قوات كردية - عربية لمواجهة «داعش»!
في السياسة، ما جرى في الأيام الأخيرة من تحولات في المواقف الفرنسية والبريطانية لناحية المشاركة في ضرب «داعش» والتراجع عن شرط إزاحة الأسد الآن، وكذلك في موقف المعارضة التي اجتمعت غالبية فصائلها في الرياض، ثمة موافقة مبدئية على مفاوضات تنطلق بوجود الأسد. ويبقى الخلاف على انتهائها. هل يبقى الأسد فيها ولو لفترة ما أم لا؟ في هذا الوقت ستكون عمليات عسكرية - مشتركة أو غير مشتركة - ضد «داعش»، يعني سيستمر النظام مدعوماً من موسكو وإيران والميليشيات التابعة لها في مواجهة «داعش». وستعمل فصائل المعارضة الأخرى أو معظمها على الأقل مدعومة من أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية وتركيا وغيرها من الدول في المواجهة ذاتها وفي ذلك ترجمة لرغبة أميركية سابقة!
في هذا الوقت يجري العمل لإغلاق الحدود التركية - السورية، مع الاحتفاظ بالإدارة الذاتية للأكراد في مناطق معينة. والبحث في ضمانات لحماية التركمان في مناطق أخرى، وبالتالي الموازنة بين مصالح الدول المختلفة إضافة إلى إعادة برمجة العمل على الساحة العراقية لسحب القوات التركية من الموصل، مع دور أساسي في ذلك لإقليم كردستان العراقي، والسعي إلى تفاهم مع الأميركيين لتحرير المدن الأساسية من «داعش» بعد تحرير «سنجار» من قبل الأكراد وإقامة إدارتهم الذاتية فيها حتى الآن!
في المقلب الآخر هدنة في اليمن، وموافقة أميركية بل دعم أميركي لـ«الحوثيين» بالذهاب إلى التفاوض في سويسرا دون إعلان موافقتهم مسبقاً على قرار مجلس الأمن! وفي هذا الموقف مسايرة كبيرة لإيران. كثيرون نسوا وهم يتحدثون عن حلول أو هدنات هنا أو هناك من لبنان إلى اليمن وسوريا، أن ثمة اتفاقاً وقع بين إيران وأميركا. والأسابيع المقبلة حاسمة في بدايات تطبيقه لناحية رفع العقوبات والدخول في امتحان النوايا والأفعال بعدها لاستثماره. مع الانتباه الدائم إلى تطور العلاقات الإيرانية- الروسية. على ضوء ذلك يمكن التطلع إلى إمكانية حدوث اختراقات آخذين بعين الاعتبار مجدداً أن مصالح روسيا لا تقف عند حدود سوريا. في الأساس تبدأ من أوكرانيا لتمر إلى حدود روسيا أما سوريا فكانت ساحة لتعزيز الدور الروسي! وقد أعلن الوزير «كيري» أنه سيتابع مع زميله «لافروف» وبتفويض من أوباما وبوتين العمل لإيجاد الحلول في سوريا وأوكرانيا. فهل ثمة أوضح من ذلك؟
حذار من الاستعجال، والغرق في تحليل التمنيات، فنحن لا نزال في البدايات.