الرقص فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي 'رئيس القوة العظمى' باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.
منذ خمس سنوات، كانت الشرارة عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه مشعلا ثورات الربيع العربي، وإذا كان البعض في تونس يسخر الآن من “ثورة الياسمين” ويصفها بثورة “عربات بيع الخضار” مستندا إلى الصعوبات الحالية وصعود الإرهاب، فإن ذلك لا ينفي أن تونس تعتبر أفضل نموذج في مسار التحولات العربية.
وهناك نغمة نشاز مشابهة نسمعها عند أوساط سورية موالية أو انتهازية أو يائسة أو خائفة من الأعظم، تعتبر أن الخطأ – الخطيئة كان في الانتفاضة من أجل الحرية، وكأنه كان الأجدر الاستماع لتحذير النظام منذ الأيام الأولى للاحتجاح: “يبقى الأسد أو نحرق البلد” وهذا يترادف مع “الأسد للأبد”.
ومما لا شك فيه أن “المؤامرة الكونية” التي تكلم عنها الرئيس السوري بشار الأسد كانت موجهة، في الحقيقة، ضد طموحات الشعب السوري وسوريا كدولة وكيان وموقع، إذ أن النظام تقاطع مع قوى داخلية (متشددة أو جرى توريطها في العسكرة)، ومع غالبية “محفل الأمم” في تدمير البلاد وبنيتها التحتية ومؤسساتها وجيشها وقتل شعبها وتدبير أكبر تغريبة مؤسسة لتغيير سكاني منهجي. بالطبع كل ذلك “الرقص” فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي “رب بيت العالم” أو “رئيس القوة العظمى” باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، والمتغاضي عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.
والآن وعلى ضوء اجتماع نيويورك (18 ديسمبر) المتمم لمسار فيينا الذي ينصُّ على مهلة زمنية من ثمانية عشر شهرا قبل الانتخابات الرئاسية السورية القادمة (لاحظوا عمق الحرص على الديمقراطية وعلى حق تقرير المصير عند جوقة “العهر الدولي”)، وعلى ضوء إصرار المحور الروسي – الإيراني يمكننا القول وفق حساب بسيط إن باراك أوباما سيغادر البيت الأبيض آخر 2016 عند انتهاء ولايته، بينما سيبقى بشار الأسد في “قصر المهاجرين” وربما سيروي لأبنائه وأحفاده أن باراك أوباما الذي اعتبر أيامه معدودة في أغسطس 2011، رحل قبله، وأنه انتصر باسم “الممانعة” على قوى “الامبريالية العالمية”.
في هذا الزمن المتغير والمباغت منذ نهايات 2010، ربما تحصل مفاجآت تطيح بهذا السيناريو، وغالبا ما كان التاريخ نتاج ما هو غير منتظر.
بيْدَ أن صعوبة الإحاطة بتقلبات اللعبة الكبرى الجديدة في القرن الحادي والعشرين (بين آخر التطورات ارتسام تقارب إسرائيلي – تركي في محاكاة أو تنافس مع التنسيق الروسي – الإسرائيلي) وكذلك بديناميكيات التغيير والتحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العالم العربي المعاصر، وتفاقم الوضع في سوريا والعراق إلى ليبيا مرورا باليمن، دفع بالكثيرين إلى استنتاج طي صفحة “الربيع العربي” مع استمرار تحطيم الدول المركزية، والتفتت والاهتراء نظرا لمخاطر امتداد النزاع السني ـ الشيعي وآثاره السلبية على وحدة المجتمعات، ولصعود الإرهاب وتحول تنظيم “داعش” إلى تهديد عالمي لا سابق له حسب وصف أحد قرارات مجلس الأمن الدولي.
كل ذلك يتقاطع مع الذين يتكلمون عن “الشتاء الإسلاموي” في توصيف للحراك المنطلق من محافظة سيدي بوزيد التونسية في إنكار لكل إيجابيات التحولات الحاصلة، إلا أن المقاربة الواقعية تدفعنا إلى التذكير بتعبير “ربيع الشعوب” الذي جرى إطلاقه على الثورات الأوروبية في 1848، وهذا الربيع لم تكن نتائجه آنية وتلقائية، بل سرعان ما انتكس في 1849. وهذا لم يُغيّبْ إنجازات هذه الثورات التي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي. صحيح أنها كانت معركة خاسرة في البداية إلا أنها لم تكن نهاية الحرب والكلمة الفصل، وهذا الدرس المستخلص من تجارب أخرى يعد رسالة واضحة بأن التغيير قادم ولو بعد حين، مهما طال الزمن.
بعد التدخل الروسي وإقرار خريطة طريق للعملية السياسية في مسار فيينا، ومؤتمر الرياض للمعارضة السورية والتوافق الأميركي – الروسي على الخطوط الكبرى، ينتظر بعد اجتماع نيويورك للمتابعة صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يعطي إشارة الانطلاق لبدء تنفيذ خارطة الطريق العتيدة. وفي ما يتعدى أسلوب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يبدو وكأنه يسلم بدور عراب المسار لنظيره سيرجي لافروف، كان فلاديمير بوتين واضحا في مؤتمره الصحفي السنوي يوم الخميس 17 ديسمبر حينما طلب من الجميع قبول تنازلات من أجل الحل السياسي، والأرجح أن هذا الكلام موجه للنظام في سوريا ولإيران. وهنا يكمن الرهان الأميركي والأوروبي على الدور الروسي على المدى القصير في عدم إفشال المسار لأنه يضمن عدم غرق موسكو في المستنقع السوري، وعلى المدى المتوسط في التخلص من رأس النظام كي يتم الإبقاء على الجسم.
حاولت واشنطن في اجتماع أصدقاء الشعب السوري في باريس أوائل هذا الأسبوع، اقتراح تعديل في تركيبة الوفد السوري المعارض في المفاوضات وبعض فقرات البيان الختامي لمؤتمر الرياض (لجهة إيجاد تعبير خلاق أو مطاطي حول رحيل بشار الأسد) لكنها لم تفلح، لكن هذا لا يعني أن الرياض وأنقرة والدوحة، كما باريس ولندن، لن تدفع لبدء التفاوض في يناير أو فبراير القادم لوضع النظام وحلفائه على محك الاختبار.
إنها الخطوة الأولى على درب شائك، خاصة أن الشعب السوري الذي يتعرض للأهوال يحتاج، فعلا، إلى هدنة إنسانية وفرصة لالتقاط الأنفاس، لكن الطامة الكبرى في سوريا تكمن في اختصار الدولة والنظام بشخص الرئيس، وعدم بقاء الجيش كمؤسسة وطنية حامية للدولة والمجتمع. بيد أن تبلور إرادة دولية حيال ما يسمى “أولوية الحرب على الإرهاب”، والخوف من غول التطرف يمكن أن ينتج تسوية ولو عرجاء يتطلب استكمالها تغييرا في التوازنات والمقاربة، وهذا غير ممكن نظريا قبل نهاية عهد الإدارة الأميركية الحالية.
والأدهى من كل ذلك، وعلى المدى الطويل، وجوب التنبه إلى الطابع النادر للنزاع السوري، إذ أنه أول صراع دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، وربما لا بد من الرهان على معاهدة وستفاليا جديدة (أو اتفاق يالطا جديد) في نطاق الشرق الأوسط الواسع ما بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والقوى الإقليمية البارزة، لمنع تحول سوريا وجوارها إلى نقطة ارتكاز لنزاعات طويلة مهددة للمنطقة والعالم.
يتحاشى الكتّاب وأصحاب الرأي تحليل الأحداث على أساس طائفي، لتخلّفه وعدم قدرته على إبراز المكون الحداثي في ثقاقتهم، ولأنه ينطوي على إشكالية منهجية تؤثر في نتائج التحليل، لارتكازه على التعميم، واعتباره الجماعات مغلقة على قيم وثقافة ورؤى سياسية واحدة. وبين قناعة ذاتية وإشكالية منهجية، يجري إلغاء معطيات وحقائق كثيرة، وإخراجها عنوةً من الحقل التحليلي، لتنتج تحليلاً مشوهاً، يزيد من تشويه الخريطة المعرفية للحدث.
لكن الوقائع تفرض، أحياناً، استخدام أدوات هذا المنهج، لعدم وجود إمكانية لمقاربتها بغيرها، فإذا كان الواقع طائفياً بوسائله ونتائجه، يصبح من التضليل مقاربته بطرق مختلفة، وكثيراً ما يقع اللوم على التفسير الطائفي للأحداث، بذريعة أنه يتسبب في الانقسام، ويتم التغافل عن السلوك الطائفي الذي يصنع هذه الأحداث، وكأن الاستمرار في التعمية عنها هو السبيل للقضاء عليها.
غالباً ما يجري، في سورية، الالتفاف على هذا الواقع وتجميله، بالقول إنّ الإشكالية تتمثّل بوجود نظام استبدادي لا يفرّق بين طرف وآخر، فهناك حلفاء سنة مع النظام، وحتى بين قوّاته، وبالتالي، لا تستهدف منظومته الحربية وأجهزته الأمنية الناس بصفتهم المذهبية، بقدر ما تستهدف المعارضين، بدليل أن ثمة معتقلين من كل أطياف المجتمع السوري. ولكن، نتيجة ثورة رفعت شعار المواطنة والحرية، جرى تدمير نسيج المكون السنّي بغالبيته، وجرى تصميم استراتيجيات المواجهة لهذه الثورة من أجل تحقيق هذا الغرض. ولفهم ذلك بشكل أعمق، يمكن التدقيق بمخرجات هذه الإستراتيجية التي تمظهرت، غالباً، بالحصار والتفريغ السكاني والمجازر الجماعية والاعتقال العشوائي والإخفاء القسري والاغتصاب والقصف العشوائي بالبراميل وقذائف المدفعية، حتى أبناء الأقليات الذين تم اعتقالهم، من نشطاء ومثقفين وسياسيين، كانت التّهم الموجّهة لهم: التعاون مع الإرهابيين "السنّة"، أو تقديم خدمات لوجستية لهم، أو إغاثتهم، أو تقوية موقفهم السياسي.
وقد ساعد وجود العراق وإيران في إيجاد عمق إستراتيجي لإنجاح هذه الإستراتيجية، بمدّها بكل مستلزماتها من أدواتٍ ماديةٍ وكوادر لإنجاز هذه المهمة، فإيران دخلت الحرب على أساس طائفي بحت، وكذلك حكومات العراق، في عهدي نوري المالكي وحيدر العبادي، فضلاً عن حزب الله، وبالتالي، اندمجوا ضمن أهداف ومكونات الإستراتيجية الطائفية التي تقوم على إلغاء الطرف الطائفي الآخر، واحتلال الحيز الجغرافي الذي يملكه، وإضعاف مكونه الديمغرافي إلى أبعد حد.
واتبع نظام الأسد، وحليفته إيران، استراتيجية متدحرجة، تقوم على إيجاد وقائع يومية جديدة
"بعد أقل من عقد، نكون أمام خريطة ديمغرافية مختلفة، يصبح معها الوجود السني نادراً"
سيئة، تصعّب استمرار سنّة سورية وتحطّم قوتهم، وتقوم على احتمال أنه، حتى في حال فرض هدنة، أو حتى جرى إخضاع الثورة في سورية، يجب أن تشكّل أيضاً دينامية لاقتلاع السنة وإضعافهم، المهم في الخطة أن تستمر عمليات الاقتلاع والإبادة، وطالما بقي الأسد يسطو على الشرعية ويمتلك الدولة، فإن هذه الأليات التشغيلية تستمر بعملها.
واستتباعاً، تجري الحرب، اليوم، بضراوة على التجمعات المحلية للسنة التي تشكّل كثافة كبيرة، حمص وأرياف دمشق وأرياف حلب، كما جرى وضع جنوب سورية تحت إشراف روسيا وإسرائيل ومراقبتهما لمرحلة مقبلة. أيضا الحرب تقوم على تنظيف مربعات وتوسيع المربع الذي تحت السيطرة، وإخراج السنة منه على أساس الاستمرار في عملية استكمال توسيع المربع إلى المرحلة التي يصار فيها إخراج السنة نهائيا من سورية.
وقد شكل دخول روسيا عاملاً مساعداً على إنجاز هذه الإستراتيجية، حيث تنفذها بحرفية كاملة بإصرارها على تحطيم بنية مرتكزات السنّة في سورية، وتجريدهم من كل عوامل القوة، وقد أضاف بوتين إلى هذه الإستراتيجية إغلاق كل منافذ الحياة على مناطق الشمال والجنوب، وفتح إمكانية لإسرائيل للقيام بجزء من عملية التطهير والإفراغ. وتستثمر روسيا وحلفاؤها مناخ الحرب على الإرهاب، لإدماج مشروعها في إطاره، وفي ظل الصمت العالمي، كما تستثمر حالة اللبس بين الحرب على التطرف وحق السوريين في الحياة والاستقرار.
نتيجة ذلك كله، أصبحت المجتمعات السنية ضعيفة ومنهكة، وهي تقف على بوابات الاقتلاع، وتساعد على إتمام هذه المهمة التحضيرات اللوجستية التي يتم تجهيزها، حيث تؤسس إيران لبنية عسكرية مذهبية، قوامها مئات آلاف المقاتلين العراقيين والأفغان والإيرانيين، كما تضاعف روسيا من أصولها العسكرية بدرجة ملحوظة في سورية، ما يعني أننا، وبعد أقل من عقد، نكون أمام خريطة ديمغرافية مختلفة، يصبح معها الوجود السني نادراً.
عملياً، وبعد تهجير أكثر من خمسة ملايين، وقتل وإخفاء واعتقال حوالي مليونين، ومحاصرة مثلهم، وارتهان عدة ملايين بين حواجز النظام، وهروب جيل الشباب، فإننا أمام دينامية اقتلاع خطيرة، ستقذف كل يوم آلافاً من سنة سورية الذين باتوا أقلية، وليس أقلية مستقرّة، بل مجموعات متناثرة في مواجهة العاصفة، ومسموح استخدام كل آليات التدمير والاقتلاع بحقهم. ويتوجب، تالياً، على المجتمع الدولي المهتم بالأقليات الاهتمام بهذه الأقلية، ورفع درجة الإنذار لحمايتها من بطش مجموعة من الدول.
ساعة ونصف هو الوقت الاجمالي الذي احتاجه دول العالم ، وكذلك مجلس الأمن ، لتخرج متفقة على ذات المبادئ التي تم اقرارها في مؤتمرات سابقة (جنيف بشقيه- وفيينا) .
نفس الكلمات تكررت ، وقف لإطلاق النار ، فك الحصار ، حماية المدنيين ، حكومة انتقالية ، انتخابات و اشراف اممي و دولي ، محاربة الإرهاب ، و ما إلى ذلك ، دون الإقتراب إلى لب المشكلة و أساسها ألا وهو "بشار الأسد" ، الذي يبدو أنه سيبقى لمدة لا تقل عن عام و نيف ، مع إمكانية التمديد له لسبع سنوات أو استبداله بشبيه يحافظ على ذات النظام ، لنكون أمام سوريا ذاتها التي ألفنها منذ ١٩٧٠ .
الإرهاب و تعريفه الفضاض يجعل كل من يعترض تحت هذه القائمة ، و كل من يقف بوجه أي حرف مما تم الاتفاق عليه ، عبارة عن متمرد في أحسن الأحوال .
القضية المركزية التي تم تأجيلها لـ ١٨ شهراً ، ماهي إلا قنبلة ليست مؤقتة ، وإنما مصنع قنابل سيضع كل ما تم في مهب الإنفجار ، و الأمور باتجاه التفلت الغير محدود العواقب ، زمانياً ومكانياً.
سلّم من توجه إلى الرياض ساسة أم عسكر ، أن الثورة خرجت و تطورت للوصول إلى هدف ثابت لم يتغير ، وهو انهاء الأسد ، العودة بسوريا إلى مدنيتها ، و حسم الشأن العسكري إلى غير رجعة ، من خلال التفاوض و رحيل المشكلة الرئيسية "الأسد" ، لكن بعد ترك الباب موارباً أمام إدخال و إخراج الموجودون ، تبعاً لأهواء هذا الطرف أو ذاك ، سيجعل من هذا الباب هو الصاعق الذي سيحول سوريا إلى قنبلة ستتناثر شظياها بكل صوب .
الحقيقة المنطوق الفضفاض ، لقرار مجلس الأمن ، و غياب أي اشارة من قريب أو بعيد عن بشار الأسد و أركان نظامه و مليشياته ، يجعل من القرار عبارة عن اجتماع لمّ الوزراء ، و تبادلوا أطراف حديث نسائي صباحي ، و كل منهم عاد إلى بلاده ، ليكرر إحدى الاسطوانتين "على الأسد الرحيل " أو "الشعب يقرر رحيل الإسد" .
و بالعودة إلى الداخل السوري و الذي يعتبر هو الأصدق و الأكثر تأثراً ، فإن المنعكسات لمنطوق القرار الدولي ، ستكون في غاية التعقيد ، وتهدد اللحمة و الإلفة التي فرضها و أسس لها وحدة العدو "الأسد" ، ومع هذا القرار ستشق الصفوف في الداخل إلى عشرات الصفوف و التكتلات ، لتكون سوريا ساحة صراع من نوع جديد يتمثل بجملة " الجميع يحارب الجميع لأجل البقاء".
من الممكن استباق هذا الإرتداد من خلال مقترح الأخذ بفكرة جيش الفتح و التوسع بها بحيث يكون هناك حكومة سياسية إلى جانب العسكرية ، هو الحل الذي طرأ على من هم في الداخل ، على مبدأ "العزل عن الخارج" ، متابعة الطريق في معركة غير معروفة الأعداء أو الجهات و الجبهات التي تفتح .
القرار اللغز سيزيد من حجم المتاهة الموجودة و الفارضة لنفسها ، فالجميع يريد الاحتفاظ بالكرة ، و كل طرف يرى المرمى في مكان ، مختلف عن الآخر ، لتبقى الكرات في الملعب ، تنتشر "جهات الاستهداف" بكل مكان ، بحثاً عن الهدف الذي يحسب لهذا على ذاك ، و بنفس الوقت ضد الجميع ، و الجميع هنا هم الشعب ...
هل بدأت روسيا وإيران عملية منهجية لإسقاط مسار فيينا لإنهاء الأزمة في سورية، بعدما أحبطتا مسار جنيف قبله؟ المؤكّد أن لديهما أسباباً، خصوصاً روسيا التي تعتبر أن الأطراف الأخرى الجالسة إلى الطاولة لم تغيّر موقفها من نظام بشار الأسد، أي أنها لم تفهم بعد مغزى التدخل الروسي أو لا تريد الاعتراف بالتغيير الذي طرأ على موازين القوى داخلياً لمصلحة النظام. أما إيران فكانت ولا تزال رافضة صيغة جنيف لـ «حكم انتقالي»، والفارق بينها وبين روسيا أن الأخيرة تقبل تكتيكياً البحث في «الانتقال» كطريقة جدلية لتسويق مفهومها لـ «بقاء الأسد».
منذ عشية مؤتمر الرياض للمعارضة، بدأت موسكو تطلق إشارات اعتراضية متتالية تلقتها واشنطن بالإعلان فجأة عن زيارة جون كيري روسيا. كانت بداية الاعتراضات على نقل لقاء «مجموعة فيينا» إلى نيويورك، وتواصلت باستعجال الحصول على قائمة «التنظيمات الإرهابية» التي كلّف الأردن بإعدادها، ثم برفض الصفة التمثيلية للمعارضين المدعوين إلى الرياض، وكان آخرها تساؤل سيرغي لافروف لماذا ترفض واشنطن إشراك «نظام الأسد» في الحرب على «داعش»... كل ذلك يشي بأحد أمرين: إمّا أن الروس يرون أن الخطوات التمهيدية لتطبيق «خريطة فيينا» لا تسير على النحو الذي يناسبهم، وإما أنهم يريدون مساومة الأميركيين على شروط جديدة لاستمرارهم في تبنّي هذه «الخريطة». وقد مهّدوا للمساومة أولاً بالتصعيد المفتعل للتوتر مع تركيا، ثم بتكثيف القصف على مناطق المعارضة، وكذلك بغضّ النظر عن العمليات الوحشية التي يقدم عليها النظام في منطقة الغوطة.
غضبت موسكو وطهران لأن مؤتمر الرياض استبعد «المعارضين» المزيفين الموالين لهما أو للنظام. لذلك، أجمعت الأطراف المتضررة من المؤتمر على ذريعة واحدة لتبرير غياب عملائها، وهي أن المؤتمرين، أو بعضاً منهم، «إرهابيون». فالخارجية الروسية قالت أن قسماً «كبيراً» من المعارضين السوريين قاطعوا «لأنهم رفضوا الجلوس إلى الطاولة نفسها مع متطرفين وإرهابيين». أما نائب وزير الخارجية الإيراني فقال أن «مجموعات إرهابية على صلة بداعش تشارك في هذا الاجتماع». وبالطبع، قال الأسد أنه يرفض التفاوض مع «جماعات إرهابية» إلا بعد «تغيير منهجها والتخلي عن سلاحها». وإذ قدّمت تصريحات «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، مساندة للنظام والإيرانيين، بتهجّمه على ممثلي الفصائل المقاتلة الذين قال أنهم لا يستطيعون تنفيذ ما يلتزمونه، فإن هذه المساندة ملتبسة لأنها تبعد شبهة الإرهاب عن تلك الفصائل.
ولكي تكتمل الصورة فإن رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي صالح مسلم، وهو أحد المستبعدين، اختار اللغة نفسها لتوكيد المحور الذي ينتمي إليه ولم يوفّر أي سبب يدعو إلى تخطئة استبعاده، إذ قال أن «الهدف الأساسي للمؤتمر كان إضفاء شرعية على منظمات وفصائل مشتقّة من تنظيم القاعدة». واعتبر أن كيانات أخرى عربية وكردية وتركمانية «معروفة بمعارضتها للنظام» استُبعدت عمداً لأنها لا تدعم مواقف الأطراف الخارجية ولا تلبي أجنداتها، وكان الأجدى أن يذهب بالصراحة إلى أقصاها للقول أن حزبه وتلك «الكيانات» غُيّبت لأنها تدعم أجندة إيران، وبما أن إيران تدعم النظام وتعتبره «خطاً أحمر» (وفقاً لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد)، فهذا يعني أن تلك «الكيانات» ملتزمة هذا «الخط»، ولو دُعيت إلى الرياض لوجب فتح المؤتمر لعدد لا يُحصى من «المعارضين»، ولما أمكن التوافق على شيء.
ولأن مؤتمر الرياض كان لحظة حاسمة لدسّ مَن صنّعتهم استخبارات روسيا وإيران ونظام الأسد في «خريطة الحل السياسي»، ولا وجود لهم على الأرض، فإن غيابهم شكّل خسارة لمن استثمروا فيهم منذ زمن. وللتخفيف من الخسارة جرى ترتيب ذلك «المؤتمر» في المالكية، إحدى مناطق سيطرة قوات حزب «الاتحاد» الكردي، وكان بين أولوياته مناقشة «مسألة الفيديرالية الديموقراطية»... هذا يدفع بالخيارات إلى ما هو أبعد من «خريطة فيينا»، بل يرمي إلى توجيه «الحل السياسي» نحو هدف كان لا يزال محور تفكير النظام وإيران، فالفيديرالية هو الاسم الآخر للتجزئة والتفتيت واالتقسيم. وجاءت روسيا الآن لدعم هذا التوجّه، بدليل خدماتها الجويّة لعمليات «التطهير العرقي» الذي تنفّذها قوات النظام ضد التركمان بعد التطهير المذهبي للسنّة، مواكبة للتطهير العرقي الذي أقدم عليه حزب «الاتحاد» للعرب في محيط تل أبيض ويواصله حالياً بتهجير التركمان. وليس مصادفةً أن يتزامن ذلك مع استكمال إفراغ حمص من سكانها السنّة. وكلّها عمليات لا بد من التذكير بأنها تكرّر السيناريوات الإسرائيلية لاقتلاع السكان الفلسطينيين. وهكذا، فإن «مؤتمر المالكية» لم يكن للردّ على مؤتمر الرياض فحسب، بل خصوصاً لخدمة أغراض التحالف الأسدي – الإيراني بالردّ على أولى الثوابت التي أجمعت عليها المعارضة في الرياض، وهي «الوحدة أرضاً وشعباً».
واقع الأمر أن روسيا وإيران لا تكتفيان بأن تتمثّلا بوفد النظام في أي مفاوضات مزمعة، بل تتضامنان مع هذا النظام في السعي إلى الاستحواذ على حصة مهمة في وفد المعارضة، وطالما أنهما لم تحصلا عليها، فقد وجهتا سهام النقد إلى مؤتمر الرياض بأنه استضاف «إرهابيين». وتلك ذريعة دعائية أصبحت مستهلكة، لا يدحضها سوى أن «إرهاب نظام الأسد» فاقع البروز في بديهيات صورته وتكوينه وممارساته، ولم يضف إليه تحالفه مع روسيا وإيران سوى «شرعنة» هذا الإرهاب، وهما المشهورتان بترهيب معارضيهما، أما ما نقص من تلك «الشرعية» فاستكمله النظام من وحشية «داعش»، حتى أصبح قادراً على تخيير المجتمع الدولي بين إرهاب «دولة الأسد» وإرهاب «دولة البغدادي». والأكيد أن روسيا وإيران والنظام يريدون مفاوضات بين وفدين متطابقين، ففي أي عقل يمكن أن يستقيم ذلك؟ فقط في العقل الذي سبق للإسرائيليين أن عبروا عنه بسعيهم إلى فرض تسوية على الفلسطينيين تقوم على «موازين القوى العسكرية»، والروس والإيرانيون يتمثّلون بهذا النهج المستمدّ من كل ما يعنيه الاحتلال من استبداد وعدوانية. فكما أن الإسرائيليين يتوقعون من المفاوض الفلسطيني الرضوخ لإملاءاتهم، كذلك يريد الروس والإيرانيون من المعارض المفاوض أن يبارك بقاء النظام ويكتفي بما يعرضه عليه.
لذلك، يوافق سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ظاهرياً على بيانات فيينا التي تقول أن مرجعية الحل السياسي هي بيان «جنيف - 1»، أما خارج الاجتماعات فيتمسّك الروسي بـ «حكومة وحدة وطنية» نافياً أي صفة «انتقالية» للحل المنشود وللمفاوضات بمجملها، بل شاطباً البند الأول من «جنيف - 1» وهو إقامة «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويفسّر الأسد والإيرانيون الكلام الروسي بأنه يعني استمرار النظام مع حكومة مطعّمة بمعارضين حدّدوا أعدادهم وأسماءهم وحقائبهم مسبقاً. وإذا لم ينجح هذا الخيار، وهو لن يمرّ بأي حال، فإنهم يعتبرون أن الحسم العسكري عاد متاحاً بوجود الحليف الروسي الذي لا تبدي الولايات المتحدة أي إرادة أو رغبة في مواجهته.
بالطبع، هناك أسباب كثيرة للاعتقاد بأن أميركا غير مستعدة لدعم من يرغب من حلفائها الإقليميين في خوض مواجهة طويلة الأمد مع الروس، لأنها غير موافقة عموماً على النتيجة المحتملة لصراع كهذا، وكانت غير مقتنعة بدور عسكري للمعارضة وازدادت اقتناعاً بعد التدخّل الروسي. فأقصى ما تتمناه هو إقناع روسيا بأن تكون لديها استجابة واقعية لمتطلبات حل سياسي «معقول ومتوازن» يمكن الضغط على المعارضة وداعميها لقبوله. لكن، كلما اقتربت واشنطن من لحظة مفصلية في الشأن السوري، متوقّعة أن تلاقيها موسكو في منتصف الطريق، رفعت الأخيرة ورقة أوكرانيا والعقوبات، أي «اعطوا هنا لتأخذوا هناك». ولأنها ترفض أن «تعطي» في أوكرانيا، فإنها لن «تأخذ» في سورية. لذا، بدت مشوّشة ومرتبكة، إذ لم يفصل سوى ساعات بين بيان للخارجية الأميركية يرحّب بنتائج مؤتمر الرياض، وبين إعلان جون كيري أن لديه «مشكلتين» في تلك النتائج. فهل كان يتصوّر مثلاً أن تقرّر المعارضة الموافقة على حل سياسي «بوجود الأسد وزمرته»، أم كان يتوقّع التزاماً أقل بـ «حكم انتقالي» (بيان جنيف - 1) وقبولاً أكثر بـ «حكومة وحدة وطنية» (بيان فيينا). لو كان هذا هو المطلوب لما أمكن أصلاً عقد مؤتمر الرياض.
يشكل توحيد موقف المعارضة السورية وإعلان إنشاء الهيئة العليا للتفاوض في مؤتمر المعارضة السورية في الرياض، 8-9 ديسمبر/ كانون أول الجاري، خطوة كبيرة على طريق الدخول في مفاوضات محتملة مع ما تبقى من النظام، بمقدار ما تنزع ذريعة أساسية من الذرائع التي كان يستخدمها حلفاء الأسد في طهران وموسكو، من أجل تبرير رفضهم أي حل سياسي. لكنها حتى لو تم "إصلاحها" بإضافة بعض الشخصيات "المعتدلة جداً"، حتى لا نقول المعادية للثورة أصلاً، كما تريد موسكو، فلن يتغير الوضع كثيراً ولن تكون، لا هي ولا النظام، طرفاً مهماً في الحل. بل على الأغلب، كما أظهرت التطورات الأخيرة، ألا تكون هناك مفاوضات حقيقية أبداً، أو ألا يكون دور مائدة المفاوضات التي سيجتمع من حولها السوريون، إلا ذريعة لتمرير التسوية الدولية التي تطبخها الولايات المتحدة بهدوء، والتي تهدف إلى طي صفحة "الأزمة" السورية، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة الرد على المخاوف والتطلعات الخليجية، والسعودية منها بشكل خاص، في ما يتعلق بمصير سورية ومصير المنطقة ككل، وبالجوهر بدور إيران الإقليمي.
بين المكابرة الكلامية والتسليم بالأمر الواقع
وعلى الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة. الهم الرئيسي لواشنطن، ومن ورائها أكثر فأكثر العواصم الغربية، أن تطمئن الرياض على موقعها في سورية، من أجل أن تلعب الدور الإيجابي الذي ينتظره منها الجميع، وروسيا أيضا. وتعتقد واشنطن عن حق أنها، بغياب أي إرادة في الانخراط من باراك أوباما، أن روسيا مفتاح الحل. وتشعر موسكو، منذ بادرت إلى التدخل العسكري المباشر، وركبت مخاطره، بأنها مكلفة من المجتمع الدولي بأكمله بهذه المهمة، أعني الخلاص من "الأزمة السورية"، وطي ملفها بأي ثمن، لقطع طريق التوسع غير المسيطر عليه للإرهاب العالمي، كما تشعر بأنها الوحيدة القادرة على تنفيذها بكل ما تتضمنه من أعمال قذرة، تستدعي القضاء على مزيد من المدنيين السوريين، في سياق كسر القوة الضاربة للجيش الحر، وإجباره على الاستسلام، وإجبار السوريين جميعاً، من وراء ذلك، على القبول المؤقت بحكم الأسد، والتخلي عن حلم الانتقال السياسي وتغيير النظام، وكذلك بما يقتضيه تنفيذها، أيضاً، من أعمال "إيجابية" تنطوي، بشكل رئيسي، على إقناع الرياض وطهران بتخفيض سقف مطالبهما للتوصل إلى تسوية توقف القتال في سورية، وتعيد توحيد الدول الإقليمية، تحت قيادة روسيا، حول مهمة الحرب المقدسة ضد الإرهاب واستئصال داعش والمنظمات الجهادية السنية، ما سيشكل برهاناً ناصعاً على عودة موسكو المدوية إلى ساحة السياسة الدولية.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة ليست بعيدة عن المصادقة على هذا التكليف، ولا تجد فيه ما يناقض رسالتها، بعد أن عجزت عن القيام بأي دور لحفظ حياة المدنيين، ووقف القصف بالبراميل المتفجرة، ووضع حد لحصار التجويع والموت البطيء الذي يعاني منه ملايين السوريين. ولا يقوم ممثلها، ستيفان دي ميستورا، بشيء آخر سوى انتظار نتائج الخطة الروسية لتمهيد الأرض ليبدأ عمله، تحت شعار بدء مفاوضات سورية سورية، تستكمل التسوية الإيرانية الخليجية، وتكون ملحقاً مرتبطاً بها. وفي هذه الحالة، لن يحتاج المبعوث الدولي إلى عبقرية كبيرة، حتى يستطيع أن يكيف مطالب المعارضة السورية، بعد أن جرّد لحمها عن عظمها، مع مطالب التسوية الإقليمية، وأن يقنع السوريين بأن الحصول على عظمة مبلولة بمرق السلام والديمقراطية الانتخابية، وبوعود إعادة الإعمار أفضل من البقاء في العراء، تحت نيران القنابل الحارقة والصورايخ الباليستية والمجنحة، القادمة من البر والبحر والجو. باختصار، ما سيقال للسوريين إن من الأفضل لكم أن تحافظوا على حياة ما تبقى من أبنائكم، بدل دغدغة أحلام الحرية والتعلق بأوهام الثورة وقيم الكرامة والسيادة المستحيلة. ولن يكون صعباً إقناع من اختير من بين السوريين ليمثل المعارضة بأن حظ السوريين عاثر، لأن ثورتهم جاءت في سياقات إقليمية ودولية صعبة، وإن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
ولا يتناقض السعي الأميركي الروسي إلى ترتيب تسوية إقليمية على حساب الشعب السوري،
"على الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية بشأن سورية أية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة"
بمساعدة أشقاء وحلفاء وأصدقاء، مع البيان الذي وقعت عليه أقلام المعارضة السورية في الرياض، والذي يتمسك بموقف المعارضة المعروف من دون تغيير، سواء في التأكيد على مرجعية جنيف1 أو في التمسك بمرحلة انتقالية، تقود إلى تغيير نظام الحكم الديكتاتوري بنظام حكم ديمقراطي جديد. بل هو جزء من عملية التصفية نفسها، والتعبير الفاقع عنها. وينطبق الأمر نفسه على خطاب "عنترة" الأسد، وإصراره التاريخي على رفض الاعتراف بالثورة وبالمعارضة، أو التفاوض معها على أي شيء، قبل أن تلقي السلاح، وأن يقدم لها بعد استسلامها أكثر من موقع أجير صغير ينضم إلى حكومة وحدة وطنية، يقودها بنفسه، كما قادها في كل وقت، حسب إرادته ومزاجه، لكن، هذه المرة، تحت رعاية روسيا العظمى. فمراعاة الطرفان في خطابيهما أمر ضروري لحفظ ماء وجهيهما وتشجيعهما على الانخراط من جهة، ولرعاية أوهام القوة والسيادة والانتصار التي يحتاجان إليها كي يتمكنا من إقناع قاعدتيهما بالسير وراء الخطة شبه السرية المطروحة.
عندما تصبح موسكو الخصم والحكم
لكن، لا بيانات المعارضة الاستعراضية، ولا خطابات الأسد وأحاديثه العنترية هي التي ستحكم مسار التسويات، وتقرر مصير السوريين، وتوزيع الحصص والمنافع ومناطق النفوذ على هؤلاء وأولئك. ليس ذلك كله سوى الغلالة المطلوبة للتغطية على المداولات الدولية المعقدة والمكثفة التي تدور في الأقنية السرية، والتي آخر من يعلم بها هم السوريون على مختلف أطيافهم ومواقعهم وانتماءاتهم، فالمفاوضات المزمع إطلاقها ليست، بالأساس، سورية سورية، لكنها مفاوضات دولية لفك الاشتباك بين الدول الإقليمية المتورطة في الحرب السورية وتوحيدها ضد الإرهاب، ولا تعني السوريين إلا بمقدار ما يتوجب عليهم تنفيذ مخرجاتها، من خلال حكومة وحدة وطنية والانخراط جميعا، موالين ومعارضين، معها في الحرب المقدسة، متناسين مشكلاتهم "الصغيرة".
في هذا السياق، لا تصبح القضية السورية عادلة أو غير عادلة تستحق الاهتمام بها ومواجهتها كمشكلة أساسية، حتى من منظور حرب أهليةٍ، لا من كونها صراعاً شرعياً لشعبٍ ضد طاغية، وإنما تتحول إلى عقبةٍ، ينبغي التخلص منها للتفرغ لقضية أكبر تمس مصير الإنسانية، ولا يتوقف أذاها على السوريين وحدهم. فعلى السوريين أن ينسوا، اليوم، نزاعاتهم، ويرتقوا إلى مستوى المشاركة في الحرب الدولية على الإرهاب، ويتجاوزوا نزاعهم مع طاغيتهم، هذا واجبهم، وما ينتظره العالم منهم، ولا يهم على أي قاعدة وبأي ثمن.
هذه هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لتغييب المسألة السورية، مسألة الثورة ضد الديكتاتورية الدموية، وراء مسألة داعش والحرب ضد الإرهاب. وهو ثمرة الاستراتيجية الطويلة المدى التي طبقها حلفاء الأسد، منذ البداية، بإطلاق سراح معتقلي القاعدة في السجون السورية والعراقية، وفتح مخازن أسلحة جيوشهم لهم، وكذلك بالنفخ في نار حربٍ طائفيةٍ موازيةٍ للحرب السياسية، من خلال زج المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية في المعركة، وإغراق سورية بالدم وجرائم الإبادة الجماعية هنا وهناك. وهي الاستراتيجية التي أتقنها الأسد، ومارسها مع حلفائه، من خلال اختراق التنظيمات المتطرفة أو تكوينها، على مدى عقود، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين.
وبصرف النظر عن المظاهر المخادعة، تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة،
"تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة، على تغييب القضية السورية، واعتبار مواجهة الإرهاب القضية المركزية اليوم في سورية والعراق والعالم أجمع"
على تغييب القضية السورية، واعتبار مواجهة الإرهاب القضية المركزية اليوم في سورية والعراق والعالم أجمع، وأن المطلوب لوقف انتشار الهمجية هو جمع الأطراف الإقليمية والدولية في تحالف واحد. وفي السياق نفسه، جمع قوى المعارضة إلى جانب النظام، من أجل استئصال داعش وأخواتها. ولا مانع، في البداية للوصول إلى هذا الهدف، من استخدام مزيد من الهمجية والقتل، لإقناع قوى المعارضة المسلحة بتغيير منحى القتال وهدفه. وهذا ما يعكسه، بشكل فاضح، الصمت الدولي عن العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الروسية الجوية، بالتنسيق مع طهران والأسد، والتي تستهدف، بشكل رئيسي، قوات المعارضة، وتتسبب بمجازر ودمار لا مثيل لهما في المدن والأحياء المستهدفة.
بالتأكيد، لا يعني رسو المناقصة في التخلص من القضية السورية على موسكو أن مواقف جميع الأطراف متطابقة، أو أن هناك تفاهماً مسبقاً حول نتائج التسوية المطلوبة، السورية أو الإقليمية. كما لا يعني تسليم الولايات المتحدة لروسيا بقيادة عملية التسوية تطابق مواقفهما، أو الاتفاق المسبق على كل ما يحصل. هناك تعاون وتنسيق، لكن لكل طرف مصالحه، وعليه أن يتحمل مسؤولياته. وربما ستكون واشنطن سعيدةً، إذا غرقت موسكو في المستنقع السوري، أيضاً، وفشلت في الوصول إلى أهدافها. لذلك، لا يعني التنازل لها عن قيادة العملية أنه لم تعد هناك خلافات، أو أن التسوية السورية، وأهم منها التسوية الإقليمية، أصبحت جاهزة.
إلقاء واشنطن والغرب المسؤولية على روسيا يهدف إلى الهرب من المسؤولية بأرخص الأثمان. وهذا أخطر ما في الأمر. فهذا ما يجعل روسيا تعتقد أنها وحدها تستطيع أن تقرر صيغة التسوية المطلوبة ومضمونها. وهذا ما تحاول أن تفعله، بسعيها إلى إخراج الأطراف التي تتعارض مع رؤيتها وتهميشها، وفي طليعتها تركيا، كما يظهر ذلك تفاقم التوتر بين أنقرة وموسكو، وكذلك قوات المعارضة التي ترفض القبول بتوجهاتها ورؤيتها للحل. والنتيجة أن معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها، وإعادة تعريف مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، على حساب جميع الأطراف الأخرى. وهذا ما يجعل من دور روسيا إشكالياً، ويهدد التسوية نفسها، السورية والإقليمية، ويظهر أنها ليست جاهزة بعد، بعكس ما يتراءى لأطراف إقليمية ودولية وسورية عديدة، تعتقد أنها في طريقها إلى الخروج من الأزمة واحتواء مخاطر استمرارها.
تغييب القضية السورية لن يسهل الحل
ليس لدى موسكو أي مشكلة مع الغرب في تطبيق رؤيتها والدفاع عن مصالحها، فمن جهةٍ لم يعد للغربيين في سورية عموماً مصالح حيوية يدافعون عنها. ومن جهة ثانية، لم يعد الاستثمار العسكري والسياسي يقدم فيها أي عائد مغرٍ، مع تعاظم الرهانات الموضوعة عليها والاستثمارات الكبرى من القوى الإقليمية المتنازعة. ولولا ضغط مسألة الإرهاب الدولي، وتفاقم أزمة اللاجئين، لما استمرت القوى الغربية توليها أي اهتمام، ولتركتها بؤرة للحرب والنزاع والفوضى، كما هو الحال في مناطق كثيرة في العالم.
وبالمثل ليس لموسكو مشكلة مع إسرائيل، فمشروع التسوية الذي تقترحه، والذي يعني جوهرياً
"معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها"
تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المعادلة، لصالح الحفاظ على النظام المفصول عن شعبه، هو تماماً ما تريده إسرائيل، ويتطابق مع خططها في الحفاظ على غلالة نظامٍ، لم يعد سوى ظل نفسه، تستطيع في ظله استكمال عملها في إفراغ سورية من قوتها السياسية والعسكرية، والاقتصادية، وتدمير أسلحتها الاستراتيجية، وتقويض آمال إعادة بنائها دولة وطنية، وبالتالي، ضمان سيطرتها على الوضع والتحكم به، والتكريس النهائي لضم أراضي الجولان المحتلة.
لكن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بالسوريين وبالدول الإقليمية، فعلى روسيا لكي تنجح في فرض تسوية دائمة تكرس نفوذها، وتحفظ لها حصة الأسد في توزيع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية في سورية، أن تقنع الشعب السوري بأن القبول بعودة الديكتاتورية الدموية لآل الأسد والحفاظ على أجهزتها القمعية المتوحشة، مصلحة قومية سورية ينبغي التمسك بها. وهذا لن يحصل من دون الاستمرار في الحرب، لكسر إرادته، ولتحييد مقاتليه وإرهابهم.
وعليها ثانياً أن تجد جائزة ترضية تليق بمقام طهران و"بابها العالي" التي وضعت كل ثقلها في الحرب منذ خمس سنوات، والتي تعتقد على الرغم من أنها لا تشترك بأي حدود أو قربى ثقافية مع دمشق، أن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وأن السيطرة عليها مصلحة قومية إيرانية، ولن تقبل تقاسم السيطرة والنفوذ فيها مع أي أطراف إقليمية منافسة لها، بعد أن رفضت ذلك مع الشعب السوري نفسه.
وعلى موسكو، ثالثاً، أن تقنع تركيا التي تربطها بسورية حدود مشتركة تتجاوز 900 كلم، والتي تحملت العبء الأكبر من المحنة الإنسانية للحرب، مع وجود أكثر من مليوني لاجئ ومقيم سوري فيها، أن تنسى علاقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والتجارية الطويلة مع دمشق، وتغض النظر عن مخاطر تمدد داعش والتنظيمات الإرهابية على حدودها، وعن المخاوف التي تتسبب فيها إعادة إحياء المشكلة الكردية القومية، وتقبل بأن تسحب أنقرة يدها من المسألة، وربما أن تقر بخطئها وتعترف بمسؤوليتها عن تغذية الإرهاب في سورية والمنطقة، وتعتذر عنها.
وعليها رابعاً أن تضمن لدول الخليج التي تشكل سورية امتداداً جغرافياً لها، وتجمعها معها وشائج القومية والثقافة والدين، وتمثل من دون نقاش خط الدفاع الأول عنها، في مواجهة إرادة التوسع والهيمنة الإيرانية على المنطقة، أن أمنها القومي لا يستدعي رحيل الأسد الذي تحول إلى بيدق في يد طهران، وإنما في تعزيز سلطته وإعادة تأهيله.
ما من شك في أن مكانة الدول ومواقعها التي تطورت بالتدريج، وتكرست، على مدى عقود سابقة، على الساحة الإقليمية، قد تغيرت بعد سنوات الحرب الطويلة، وظهرت خريطة جديدة لتوزيع المصالح ومناطق النفوذ، وبرزت مصالح استراتيجية واقتصادية، لم تكن واضحة أو مهمة من قبل، وانهارت أحلام دول، وولدت مطامع دول جديدة. ومن هذه المصالح ما يرتبط، اليوم، بالصراع على السيطرة على سوق الغاز الذي تتنازع فيه، وعليه، روسيا وإيران ودول الخليج، والذي تشكل السيطرة على حقوله الكبيرة المكتشفة في الساحل السوري، بالإضافة إلى دور الجغرافية السورية طريقاً للعبور نحو أوروبا، مصدر نزاعات جديدة، تنطوي بالنسبة لبعضهم على رهانات استراتيجية كبرى. وكما لم يعد من الممكن العودة بالمنطقة إلى التوازنات السابقة على الحرب التي ضمنت بقاء نظام الأسد والتوافق عليه. لم يعد من السهولة تحويل هذا النظام نفسه إلى مرتكز لإعادة بناء توازنات جديدة، ولم يعد نظام الأسد نفسه قادراً على البقاء بنفسه حتى يضمن بقاء مثل هذه التوازنات الإقليمية. الاحتفاظ بالأسد، بعكس ما يعتقد الروس، بدل أن يساعد على الحل، يعني، بحد ذاته وفي جوهره، الرفض القاطع للتسوية، وفرض الأمر الواقع، أي ببساطة الاستمرار في الحرب.
وكما كان إسقاط النظام الديكتاتوري الهدف الذي وحّد من حوله الشعب السوري، يشكل التمسك ببقائه، والإلحاح عليه الدافع الأكبر لتقسيمهم. وكما كان إنهاء النظام ورمزه المشخص جوهر ثورتهم، لاستعادة كرامتهم وسيادتهم كشعب، سيكون تثبيته والتمسك برمزه الأسد تعبيراً عن الاستمرار في إنكار ثورتهم وتضحياتهم الهائلة، وتجريدهم من حقوقهم، وفي مقدمها حقهم الأسمى في تقرير مصيره.
تقاتل جميع الأطراف على الأرض السورية، من أجل زيادة مكاسبها وتعظيم نفوذها، أما السوريون فيقاتلون دفاعاً عن وجودهم وكرامتهم وحقوقهم، أي عن إنسانيتهم. وإذا استمر الروس، ومن يساندهم في إصرارهم، على إخراج الشعب السوري من المعادلة، وترتيب تسوية إقليمية على حسابه، سواء جاء ذلك بذريعة ضعف معارضته أو انقسامه وتنوعه الديني والإثني الواهية، فلن تكون النتيجة تسوية توقف الحرب، وإنما أفغانستان جديدة، على امتداد المشرق بأكمله، أكثر مأساوية في نتائجها وعواقبها المحلية والعالمية، من كل ما عرفته المنطقة في كل تاريخها.
مع الاتّهام التركي روسيا مؤخّراً بممارستها التطهير العرقي ضدّ الأقليّة التركمانيّة في سورية، يكون أحد فصول الصراع العثماني الروسي التاريخي قد عاد للحياة مجدداً ليستكمل التغييرات الكبيرة التي كان أحدثها في تركيبة السّكان أواسط القرن لتاسع عشر، امتداداً من القوقاز إلى المشرق. فالعنف الذي مارسه الروس ضدّ مسلمي القوقاز والبلقان في إطار صراعهم مع العثمانيين كان المحرّك الأبرز لتلك التغييرات، الأمر الذي أنتج عدداً من موجات الهجرة التي وصلت تأثيراتها إلى المشرق حيث تتواجد اليوم جاليات من الألبان والشركس والشيشان وغيرهم.
ويمكن القول إنّ الميل إلى التلاعب المباشر بالتركيبات السكانية سواء كان تطهيراً عرقياً أم تهجيراً قسرياً، أصبح ركيزة من ركائز السياسة الروسية إذ حافظت على وجودها وانتقلت ممارستها من العهد القيصري إلى السوفياتي عبر ستالين، وها هو بوتين اليوم يعيد الاعتبار لها مُجدداً.
في المقابل كان لتركيا نموذجها في التدخّل بالتركيبات السكّانية واستثمار العامل الديموغرافي، إلا أنّه لم يكن ذا طابع عُنفي في بدايته، ذاك أنّه اقتصر على فكرة تمكين الديموغرافيا العثمانية خارج حدود السلطنة ومحاولة إدماجها في ديموغرافيا إسلاميّة أوسع. وهذا ما ظهر بوضوح خلال العهد الحميدي كردّ على صعود الهويّات الصغرى في عموم السلطنة، وخصوصاً في أقاليمها المسيحيّة التي كان للروس الدور الأكبر فيها عبر تقوية ثنائية الانتماء السلافي - الأرثوذكسي، ليأتي بعدها انفراط السلطنة وزوال الرابطة العثمانية التي صعدت مكانها القومية التركية التي نتجت منها المجازر ضدّ الأرمن.
وتساهم تعقيدات القضيّة السورية اليوم في تسليط الضوء على ذاك التاريخ وتعيد الاعتبار لتلك الهويّات والانتماءات التي تمّ التلاعب بها أو قمعها، لتكون بذلك جزءاً من جبل الثلج المخفي من الصراع في سورية وعليها. ولئن كانت تركيا تحاول اليوم اللّعب بالورقة الديموغرافية في سورية، سواءً عبر سياستها تجاه اللاجئين السوريين وما يُشاع عن تجنيس بعضهم، أو عبر الأقليّة التركمانية، فإنّها لا تبدو في موقع القادر على منافسة الروس. فهُم أقدر اليوم على الكسب من اللّعب بالورقة الديموغرافيّة وما يتعلّق بها من انتماءات، بسبب قوّة كنيستهم وارتباطها بقوّة الانتماء القوميّ السلافي، إضافة إلى موقع روسيا الحالي كقوّة عُظمى. وهذا كلّه ممّا يصبّ في مصلحة لاعب آخر بورقة الديموغرافيا السورية المتمثّل بالإيرانيين.
لكنّ استعادة التاريخ بظروف اليوم لا يمكن لها أن تكرّر نتائجه السابقة ذاتها، فلا احتلال روسيا وإيران سورية، ولا امتلاك تركيا أوراق الماضي، يمكن أن يضمنا استقرار أي تغيير في تركيبة المشرق. وهذا ما لا يبدو أنّ أصحاب الأحلام الامبراطوريّة يدركونه بعد.
شكلت السنوات الخمس التي مرت على إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على البطالة وهدر الكرامة اللتين كان يعاني منهما، مثله مثل أعداد لا حصر لها من الشباب العرب، مسافةً زمنية مقبولة لتقييم الأحداث الجسام التي أعقبت حادث بلدة سيدي بوزيد وأفضت إلى زلزلة العالم العربي.
مكابر من لا يرى النهايات المريرة لثورات عربية جرفتنا الحماسة لها منذ أيامها الأولى وعلقنا عليها آمالا عريضة. لقد كانت نشوة لحظات ما بعد سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وخروج ملايين السوريين لإعلان الثورة السلمية على نظام البعث الأسدي، معيقة للقدرة على التبصر في حجم المشكلات التي تخلّفها الأنظمة الساقطة وتلك الآيلة إلى السقوط.
بل كانت الفرحة برؤية الشعوب العربية تكسر، في ميادين القاهرة وبنغازي وتونس وصنعاء، «الاستثناءَ» الذي صُنفت على أساسه كنابذة للحكم الديموقراطي وللتعددية السياسية، تَحُول عمليا دون رؤية الآليات التي حملت هذه الأنظمة إلى السلطة في المقام الأول وفرضتها على أعناقنا طوال هذه الأعوام. سخرنا يومها من إفلاس مقولات التوريث وانعدام البديل و «القائد الضرورة»، ومن الاستخدام الغبي للقضية الفلسطينية في تبرير إمساك حكام فاسدين ومفسدين بالسلطة. ولم نتنبه إلى عمق التصدعات التي تغطيها هذه الأنظمة وحدة الصراعات التي تكبحها حيناً وتستفيد من تفاقمها في حين آخر.
فنظام مثل النظام السوري، بمرحلتي الأب والابن، كان راكم على امتداد خمسة عقود، خبرة هائلة في إدارة الصراعات داخل المجتمع السوري وتصريفها لمصلحته. لم يكن يتورع عن لبس أي رداء أيديولوجي أو سياسي، من الاشتراكية إلى القومية العربية والإسلام والنيوليبرالية، ما دام يخدم مشروعه الوحيد: الحفاظ على السلطة بأي ثمن.
إلغاء الداخل وافتعال الاضطرابات في الخارج القريب الضعيف والمفكك، والخضوع أمام الخارج البعيد القوي الأميركي والروسي سواء بسواء، كانت الوصفة التي اتبعها حافظ الأسد وأورثها إلى ابنه بشار. لكن عند اندلاع الثورة في سورية، بدا أن العنصر الملغى من المعادلة المذكورة يختزن من العنف والقهر ما يكفي للإطاحة ليس فقط بنظام الأسد، بل بكل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة وكل مقومات الهيمنة السابقة.
كان انفجار الاحتقان كافياً لإلغاء «الدولة» في سورية إلى أجل غير معلوم. حصل أمر مشابه في ليبيا واليمن. أما في مصر وتونس، فكان من الأسهل العودة الى المسارات المألوفة بدلاً من المغامرة بنظامين يعودان بالفائدة على شرائح حسنة التنظيم ومتغلغلة في «مؤسسات القوة» والبيروقراطية النافذة.
هل يعني ذلك صحة مقولة «الاستثناء العربي» وأن من الأفضل بعد هذه الجولة الجهنمية التي نشرت الدمار من عدن إلى مصراتة ومن الموصل إلى سرت، العودة إلى الطريقة المريحة في الحكم بتسليم القياد إلى مجموعة عسكرية أو مخابراتية تتولى تقسيم الأرزاق على العباد وسياستهم وفق الهوية والعصبية والانتماء الجهوي والقبلي؟
يطرح السؤال أعلاه الذي يتكرر في البرامج التلفزيونية والمقالات الصحافية، من يعتبرون أنفسهم «حكماء» في مقابل «المغامرين» الخائبين والمهزومين. بيد أن هذه «الحكمة» تنطوي على عداء صريح ليس لحق الشعوب العربية في مستقبل أفضل وأكثر عدلاً وكرامة وإنسانية فحسب، بل لمجرد فكرة استحالة البقاء على هامش التاريخ والاكتفاء بتصدير ظواهر مرضية إلى العالم (مع التشديد على دور العالم في زرع بعض بذورها هنا)، على غرار «داعش» و «القاعدة» وما يعادلهما ظلامة وعدمية.
مرة جديدة يبدو جون كيري كأنه يعمل على تدوير الزوايا الحادة أمام سيرغي لافروف حيال الأزمة السورية، ولكن ليس من الواضح ماذا يمكنه ان يقدّم له غداً حول الاعتراضات، التي اعلنت عنها موسكو بعد اجتماع المعارضة السورية في الرياض، والتي شكلت وفدها الذي سيفاوض النظام وحددت المبادىء التي تشترطها كأساس للحل.
فور انتهاء مؤتمر المعارضة في الرياض و اصدار بيانها الذي دعا الى رحيل بشار الأسد ورموز حكمه مع انطلاق المرحلة ال انتقالية التي اشار اليها مؤتمر "فيينا - ٢"، أعلن النظام رفضه الخوض في أي مفاوضات مع الوفد الذي تم تشكيله معتبراً انه "يتكوّن من مجموعات ارهابية ولن يكون في ال امكان التفاوض مع المعارضة قبل ان تتخلى عن سلاحها".
بدورها سارعت موسكو الى أصدار بيان التوائي أعرب عن تقديره للجهود السعودية التي بُذلت لجمع صفوف المعارضة، لكنه اعتبر ان ال اجتماع لا يمثّل كل أطياف المعارضة "لأن قسماً من المعارضين رفض الجلوس الى طاولة واحدة مع المتطرفين وال ارهابيين" في اجتماع الرياض، والمقصود هنا "جيش الاسلام" و"أحرار الشام" وهو ما يمثّل تبنياً لموقف النظام الذي يريد نسف نتائج اجتماع المعارضة!
قمة المساخر تتجلى عندما نعلم، اولاً ان مؤتمراً ثانياً قيل انه للمعارضة عقد في منطقة الجزيرة داخل سوريا بعنوان "مجلس سوريا الديموقراطية" لقطع الطريق على مؤتمر الرياض، وثانياً ان وفد "معارضة الداخل" الذي شارك في مؤتمر السعودية قصد السفير السوفياتي في الرياض أوليغ اوزيروف وناشده تدخل موسكو لدى النظام السوري ليضمن سلامة عودة أعضائه الى دمشق بعد توقيعهم البيان الختامي للمؤتمر، بما يعني ان النظام وموسكو يصران على انه لا وجود لأي معارضة لا تهتف "الأسد رئيسنا الى الابد"!
إذاً لماذا يواصل لافروف ذرّ الرماد في العيون و اشاعة الأكاذيب عبر الحديث عن حل سياسي، ومع من يتم هذا الحل عندما لا يكون هناك محل للمعارضة، واذا كان الموقف الروسي يراوح عند التمسك ببقاء الأسد في السلطة على قاعدة المزاعم التي تقول " ان الشعب السوري هو الذي يقرر مصير الأسد" بينما نصف هذا الشعب في اللجوء والمقابر، فماذا عن الموقف الأميركي الذي يثير ال استغراب؟
لقد سارع كيري الى القول ان هناك نقطتين في حاجة الى المعالجة في بيان المعارضة في الرياض، و اتصل لهذا الغرض بعادل الجبير، ومن الواضح ان هاتين النقطتين تتصلان ب اعتراضات دمشق وموسكو، اولاً على مشاركة المعارضة المسلحة في اجتماع الرياض، وثانياً على تحديد موعد خروج الأسد مع بداية المرحلة ال انتقالية، التي تريد موسكو ان تبقيها ملتبسة لفرض بقائه... والمضحك المبكي ان يتحول كيري معاوناً أميناً للافروف!
سبحان الله لم نكن نعلم أننا الشمس التي تنير الكواكب ..
ولم نكن نعلم أننا نعمة من السماء تهطل بالمطر والغيث على الناس .. فيخرجون (يشكرون ربهم على المطر-على نعمة اللاجئين) ..
لم نكن نعلم أننا النعمة والبركة ..
لم نكن نعلم أننا البشر والحبور ..
وأننا السعادة والسرور ..
فهنا يخرج الآلاف في مظاهرات لاستقبالنا ..
وهناك معارك سياسية شرسة تقام باسمنا ..
وهنالك دول تعادي بعضها لأجلنا ..
وآخرون يصلون لذروة الطرب لرؤية أول لاجئ تطأ قدمه أرض بلاده فينظمون سيمفونية عذبة يهتفون فيها:
- طلع البدر علينا ، من ثنيات كندا .....!!!!
لا أدري بالضبط من هو مخرج هذا المشهد الشاعري ؟
ومن هم أبطال هذه الحلقة من مسلسل طويل بحبكة في قمة التعقيد :
هل هم اللاجئون الذين تكرموا على هذه الدول فذهبوا إليها ، وبذلوا لأجلها الأموال والأولاد ..؟
أم أولئك المستقبلون الذين هبوا فرادى وجماعات يستقبلون اللاجئين على أنهم شعب الله المختار يستحق أن نناضل لأجله ونقاتل لنحظى به في بلادنا ...؟
..
أية إنسانية رحيمة تمتلكها تلك الدول
وإية مشاعر مرهفة حساسة تتمتع بها هذه الشعوب
وأية أخلاق رفيعة تتحلى بها تلك الأمم .. التي تطرب لرؤية لاجيء .. وتسكر بدم أهله ..!!
..
نكذب على أنفسنا إن صدقنا أن هذه الشعوب تملك الانسانية بأبهى صورها ، وتتمسك بها بكل مبادئها ..
فلو كان الأمر إنسانياً بحتاً لأوقفوا قتل البشر ..
لو كان هنالك إنسانية حقة لاتجهت لوقف القتل بدل البحث عن حل ..
ولو كانت هنالك إنسانية حقة لرحموا المحاصرين ، لا اللاجئين ..
ولو كانت هنالك إنسانية حقة لنظروا بشفقة لمن يموت ، وليس لمن نجا من الموت ..
ولو كانت هنالك إنسانية حقة لما جعلوا من هؤلاء المهجرين سلعة تباع وتشترى في سوق السياسة ..
ولو كانت هنالك إنسانية حقة لرأيناهم يرسلون إنسانيتهم إلى الغوطة ، إلى حمص ، إلى حوران والرقة وحلب ..
ولو كان هنالك إنسانية حقة لرأينا حلولهم في بلادنا ، لا أسلحتهم تمطرنا ..
ولو كان هنالك إنسانية حقة لرأينا الغضب لأجل من مات وليس لأجل من عاش ..!!
فاللاجئون ليسوا بأفضل من المحاصرين ..
وأطفال القوارب ليسوا أغلى من أطفال مدارس الغوطة ..
والذين نفذ بجلده ليس أغلى ممن فقد كل أهله ...!
ماذا يفرق المجتمع الدولي عن الأسد في إجرامه :
فالأسد يقتل المدنيين ويدمر البلد ويشرد الناس .. بدعوى أنه يحارب المندسين ...
والمجتمع الدولي يقتل المدنيين ويقصف المدن ويدمر البيوت ، بدعوى أنه يحارب الإرهاب ..!؟
..
إن هؤلاء الذين يقتلوننا في الرقة والغوطة وادلب بطائراتهم، هم والذين يهتفون طلع البدر علينا يعزفون على وتر واحد .. ويعملون يداً بيد في منظومة واحدة .. ليس هنالك فرق ، سوى أن هذا يضع القناع الأبيض وذلك يضع القناع الأسود ..
وإن دولهم لا تعمل فقط في صالح مصلحتها ، بل هي شريكة في الجريمة بشكل مباشر لا شك لوا ريب فيه ..
لا أدري ماذا تمتلك روسيا زيادة على أمريكا وألمانيا وكندا وفرنسا وبريطانيا والسويد ؟
فأولئك عاجزون عن فعل شيء ، اللهم إلا حل مؤقت فقط لمن هاجر ووصل أراضيهم
بينما الأولى استطاعات أن تأخذ قرارها ومسيرها وتنزل بعددها وعتادها على الارض لتحسم المسألة لصالحها ..
كم هم مجرمون أولئك الشاعريين الذين لا يملكون إلا "طلع البدر علينا" ، وكم هم سذج الذين يصدقونهم ...!
يظل السؤال المطروح دائما وأبدا هو السؤال نفسه وذلك منذ ما يزيد على أربع سنوات ونصف سنة عندما اندلعت الثورة السورية. هذا السؤال هو الآتي: هل يمكن للنظام الانتصار على الشعب السوري؟ لا يزال الجواب هو نفسه وذلك منذ أربع سنوات ونصف سنة. انتهى النظام السوري الذي أقامه حافظ الأسد.. ولكن هل انتهت سوريا التي عرفناها أيضا؟
انتصر الشعب السوري على النظام، ولكن هل يستطيع إبقاء سوريا موحّدة. هذا هو التحدي الأوّل الذي يواجه المعارضة.
يوفّر المؤتمر الذي عقدته المعارضة السورية في الرياض بريق أمل بإمكان إيجاد جبهة سياسية وعسكرية موحّدة توفّر بديلا من النظام. هذا النظام الذي لم يعد يجد جنودا يدافعون عنه، على الرغم من كلّ الدعم الذي يتلقاه من إيران، ومن روسيا التي تحوّلت طرفا مباشرا في الحرب التي تستهدف الشعب السوري بكلّ فئاته.
من بين أهمّ التطورات التي شهدتها أخيرا المناطق السورية، التي لا تزال خاضعة للنظام، الاستماتة من أجل إلحاق شبّان بالخدمة العسكرية. في كلّ شارع وحيّ في دمشق وغير دمشق حواجز طيّارة تعتقل الشبان الذين هم في عمر الخدمة العسكرية وتجبرهم على الالتحاق بالجبهة حيث ينتظرهم الموت، وذلك بعد تدريب على استخدام السلاح لا يتجاوز الأسبوع أو الأسبوعين. هناك محاولة لاسترضاء الروس يقوم بها النظام الذي كشفت الغارات الروسية مقدار عجزه.
لدى النظام حاجة ماسة إلى ما لا يقلّ عن ثمانين ألف جندي من أجل القول للروس إنّ في الإمكان الاستفادة من القصف الذين يمارسونه من الجو والبرّ وحتّى البحر. اكتشف فلاديمير بوتين بعد تدخله المباشر في سوريا أن لا وجود لجيش فعّال لدى النظام. لم يستطع جيش النظام التقدّم في المناطق التي تعرّضت للقصف وإيجاد مواقع له فيها. ذهبت الجهود الروسية هباء، إذ عاد الثوّار إلى المناطق التي تعرّضت للقصف. أكثر من ذلك، استطاعوا تحقيق تقدّم على جبهات عدّة.
وسط هذه التطورات التي تشهدها الأرض السورية، جاء مؤتمر المعارضة في الرياض. قبل كلّ شيء، لا بدّ من شكر المملكة العربية السعودية على الجهود التي بذلتها من أجل توحيد المعارضة. وحدة المعارضة تبعث على التفاؤل وإن بحذر، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار حال التشرذم التي تعاني منها من جهة، والعلاقة العميقة القائمة بين النظام و”داعش” من جهة أخرى. تتجاوز هذه العلاقة النظام السوري، لتمتد إلى إيران المستفيد الأوّل من “داعش” وممارساته، خصوصا في العراق.
اعتمد التدخل العسكري الروسي في سوريا على كلام فارغ من نوع أن الهدف إنقاذ مؤسسات الدولة السورية، علما أنّه لم يكن هناك في يوم من الأيّام مؤسسات لدولة سورية حيث لا فصل بين السلطات ولا حقوق للمواطن، بل أجهزة أمنية ولا شيء غير ذلك. ما تسعى موسكو إلى إنقاذه هو بقايا هذه الأجهزة الأمنية وبعض القيادات العسكرية من الضبّاط العلويين الذين تخرّجوا من الأكاديميات العسكرية السوفياتية، ثم الروسية.
حسنا فعلت المعارضة في مؤتمر الرياض عندما حدّدت أهدافها المتمثلة برحيل بشّار الأسد مع بدء المرحلة الانتقالية، واتفقت على وفد موحّد للتفاوض، ووضعت خارطة طريق لسوريا المستقبل كدولة مدنية وتعدّدية ولا مركزية.
كانت المعارضة في منتهى الواقعية، ذلك أنّ البيان الختامي لمؤتمر الرياض، وهو الأوّل الذي يجمع مكوّنات سياسية وعسكرية قارب عددها المئة، تضمّن رؤية سياسية شاملة جمعت بين المعارضة المدعومة من الغرب والمعارضة المقبولة من النظام والفصائل المسلّحة “المعتدلة” التي تقاتل على الأرض.
أكّد هذه الواقعية ما ورد حرفيا في البيان الختامي عن “أنّ المجتمعين على استعداد للدخول في مفاوضات مع ممثلي النظام وذلك استنادا إلى بيان جنيف 1 الصادر في الثلاثين من حزيران ـ يونيو 2012 والقرارات الدولية ذات العلاقة، وذلك خلال فترة زمنية يُتّفق في شأنها مع الأمم المتحدة”.
ما ذكره البيان يوفّر مخرجا للجميع، ولكن هل من يريد البحث عن مخرج، خصوصا في ظلّ وجود إدارة أميركية ترفض أن تكون لها استراتيجية شرق أوسطية أو حتّى سوريا؟
هل يعتقد النظام السوري أنّ عليه الرحيل اليوم، قبل غد، لأنّ عدم رحيله هو الطريق الأقصر لتدمير ما بقي من سوريا؟
هل يقتنع الروسي نهائيا بأن لا وجود لنظام يمكن الدفاع عنه وترميمه، اللهمّ إلّا إذا كان لدى موسكو طموح يتجاوز منع تصدير الغاز الخليجي إلى أوروبا عبر الساحل السوري؟
هل تقتنع إيران أن مشروعها الهادف إلى إقامة دويلة سورية ذات طابع علوي مرتبطة بدويلة “حزب الله” في لبنان حلم غير قابل للتحقيق؟
هذا الحلم الإيراني غير قابل للتحقيق لسبب في غاية البساطة يعود إلى أن العلوي السوري ليس شيعيا، وهو يفضّل أن يكون في حماية الروسي على الدخول في حلف مع الإيراني والسقوط تحت وصايته.
البيان الختامي لمؤتمر الرياض، تضمن رؤية سياسية شاملة جمعت بين المعارضة المدعومة من الغرب والمعارضة المقبولة من النظام والفصائل المسلحة المعتدلة التي تقاتل على الأرض
يمكن أن تكون إيران استوعبت هذه المعادلة أخيرا، وربّما لا تزال تظنّ أنّ سيطرتها على قسم من سوريا مرتبط بممرّ إلى البقاع اللبناني، حيث “حزب الله”، لا يزال مشروعا قابلا للتحقيق.
في ظلّ هذه المعطيات، يمكن فهم حجم التحديات التي تواجه المعارضة السورية. يضاف إلى ذلك الاهتمام التركي الذي يراوح بين حماية التركمان وضمّ حلب وجوارها نهائيا، والتخلّص من بشّار الأسد الذي لم يجلب لبلده ولجيرانه سوى المتاعب ولم يصدّر سوى الإرهاب والإرهابيين وكلّ ما له علاقة بالتطرّف. يكفي للتأكّد من ذلك ممارسته اللبنانية التي شملت تفجيرات واغتيالات، ورهان على قدرة “حزب الله” على تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية.
في كلّ الأحوال، هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المعارضة السورية بكلّ فئاتها.
هناك مسؤولية الارتفاع إلى مستوى طموحات الشعب السوري أوّلا. وهناك مسؤولية التعاطي مع التعقيدات الإقليمية والدولية، خصوصا مع روسيا التي يتبيّن كلّ يوم أنّها لا تعرف الكثير عن الشرق الأوسط ولا عن سوريا نفسها، ومع إيران التي لا يهمّها سوى ترسيخ الشرخ المذهبي في المنطقة، كون إثارة الغرائز المذهبية السلاح الأساسي الذي يستند إليه مشروعها التوسّعي.. ومع تركيا التي لديها أجندة خاصة بها تقوم، أوّل ما تقوم، على الرهان على عامل الوقت. الوقت كفيل بتفتيت سوريا، وتركيا جاهزة لضمّ قسم من هذا الفتات، الذي لن يعود فتاتا، إليها.
سيعتمد الكثير على بقاء المعارضة السورية موحّدة بعد مؤتمر الرياض. كان هذا المؤتمر علامة فارقة سوريا، خصوصا أنّ في الإمكان البناء على ما خرج به من قرارات واضحة. المهمّ عامل الاستمرارية. هل لدى المعارضة استمرارية في موازاة تلك التي يتمتّع بها الشعب السوري الصامد في وجه كلّ أنواع الظلم منذ سبعة وخمسين شهرا.
بدت إسرائيل منحازةً، وبوضوح، لروسيا ضد تركيا في قضية إسقاط طائرة السوخوي على الحدود التركية السورية، ولم يقتصر الأمر على الإعلام، المتجنّد كالعادة، المتشفّي والسعيد بورطة أردوغان مع فلاديمير بوتين، حسب التعبيرات الدارجة، وإنما تعدّاه إلى التصريحات الرسمية المتعاطفة مع موسكو، والكاشفة، في السياق، عن طبيعة التفاهمات الروسية الإسرائيلية، وحتى عن التحالفات الجديدة في المنطقة التي تحاول إسرائيل، كعادتها، وبانتهازية فائقة، تحقيق أكبر فائدة ممكنة منها.
لم يبدأ التصعيد الإسرائيلي ضد تركيا في الحقيقة مع قصة إسقاط طائرة السوخوي، وإنما انطلق، قبل ذلك، مع تفجيرات باريس، الشهر الماضي التي أقحمت تل أبيب نفسها فيها لنفاق أوروبا، ووضع نفسها في صلب المعركة العالمية ضد الإرهاب، بما في ذلك المقاومة الفلسطينية طبعاً. وقد فضح التصعيد ضد تركيا عزوف إسرائيل عن محاولة التقارب والصلح مع تركيا الجديدة التي تضع القضية الفلسطينية مكوّناً أساسياً من مكونات العلاقة بين الجانبين. إضافة طبعاً إلى قناعة تل أبيب بأن في وسعها الاستفادة من التدخّل، أو الاحتلال الروسي لسورية، من أجل تحقيق مصالحها مجاناً، ومن دون الاضطرار لدفع أي ثمن أو أثمان استراتيجية لتركيا، لا سورياً ولا فلسطينياً.
تبدى هذا المنحى، أي التصعيد ضد تركيا، والإيحاء بالتوقف عن السعي إلى تطبيع العلاقة معها، والاعتماد، في المقابل، على الحلف الجديد مع موسكو، تبدى بشكل واضح، بل فظّ أكثر، مع قصة إسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية على الحدود التركية مع سورية. فقد بدت معظم التعليقات الإسرائيلية شبيهة بإعلام الحشد الشعبي الإقليمي معادية ومتشفية بتركيا، التي ورّطت نفسها في صراع مع الدبّ الروسي، حسب اللغة المستخدمة التي وصلت إلى حد المراهنة على بوتين، لكي ينتقم من أردوغان، ويحقق ما عجزت عنه إسرائيل تجاه الزعيم التركي الذي يشيطنه الإعلام الإسرائيلي، كما بعض التصريحات الإسرائيلية الرسمية، ويصوّره خصماً عنيداً للدولة العبرية، ليس سياسياً، وإنما فكرياً أيضاً.
في مقابل هذا الانتقاد لأردوغان، كالت الصحافة الإسرائيلية المديح لبوتين، وقد اقتبست عن رئيس الموساد السابق، أفارايم هليفي، وصفه الرئيس الروسي بضابط المخابرات الممتاز والمحارب العنيد ضد الإرهاب (يقصدون الإسلامي طبعاً)، مع الانتباه إلى الإعجاب الكبير الذي يكنه كل من أفيغدور ليبرمان وإيهود باراك للزعيم الروسي الذي وصل إلى حد اعتباره القدوة والأمثولة في محاربة الإرهاب، وملاحقة الإرهابين حتى المرحاض، كما يحلو لباراك القول ناقلاً عن بوتين، ومتغزّلاً به.
رسمياً؛ وإضافة إلى التصريح المتبجح والمنافق لأحد قادة سلاح الطيران، والذي قال فيه إن إسرائيل ما كانت أبداً لتسقط طائرة روسية، حتى لو اخترقت أجواءها، وهو ما حصل بالفعل، على أي حال كان، لافتاً كلام المسؤول السياسي الأمني لوزارة الدفاع، الجنرال عاموس جلعاد (منصب لا مثيل له في العالم) الذي قال، في المركز الثقافي في بئر السبع، إن الطائرات الروسية تستخدم الأجواء الإسرائيلية في عملياتها ضمن تفاهمٍ، يسمح أيضاً لإسرائيل باستخدام الأجواء السورية، للقيام بعملياتها ضد حزب الله.
اكتملت الصورة مع تصريح، وبالأحرى تصريحين لوزير الدفاع موشيه يعلون، قال، في أولهما، إن طائرات روسية اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي، حيث تم التعاطي مع الأمر بمرونة وأريحية. وفي ثانيهما، وهو الأهم، كما نقلت الإذاعة الإسرائيلية في 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال يعلون إن نشر صواريخ إس 400 لن ينال من حرية حركة الحركة للطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية، ضمن تفاهم سياسي أمني، تم التوصل إليه بين الجانبين.
ترسم التصريحات السابقة، في الحقيقة، صورة المشهد أو التفاهم الإسرائيلي الروسي، وتفسر لماذا ابتعدت وتبتعد تل أبيب عن أنقرة، بينما اقتربت وتقترب من موسكو.
لا تضع روسيا، وعلى عكس تركيا، القضية الفلسطينية عاملاً من عوامل العلاقة بين الجانبين، وفي حرب غزة الصيف قبل الماضي، مثلاً، بدت اللهجة الروسية الرسمية متفهمة لما تقوم به إسرائيل في دفاعها عن نفسها في مواجهة الإرهاب. وضمنياً، سعت موسكو إلى القول إن ما تمارسه في أوكرانيا يتساوق مع ما تمارسه تل أبيب في غزة.
"تل أبيب لا تمانع ببقاء نظام الأسد، طالما أن هذا يتماشى مع مصالحها، أو يحققها، بعكس تركيا التي ترى أن مصالحها في سورية موحدة ديمقراطية، ونافذة لها للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي"
هذا طبعاً بعكس الموقف التركي الرسمي، وحتى الشارع التركي الذي يعتبر أن الشعب الفلسطيني هو الأحب إليه. وهذا أحد القواسم المشتركة الرئيسية، ربما بين تركيا الجديدة وتركيا القديمة، علماً أن الأخيرة صوّتت ضد قرار تقسيم فلسطين في 1947، وخفضت مستوى العلاقة مع إسرائيل مرتين على خلفية القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، كما أن الطفرة في العلاقات بين الجانبين في التسعينيات كانت نتاجاً مباشراً لاتفاق أوسلو الذي أوحى، أو أعطى، الانطباع، خصوصاً بعد قيام السلطة، أن عربة الحل باتت على السكة، وأن العداء انتهى، أو في طريقه إلى الانتهاء بين العرب وإسرائيل.
أما تجاه الملف السوري، فقد بدا التناغم الإسرائيلي مع الموقف التركي القائل بضرورة إسقاط نظام بشار الأسد، مؤقتا وتكتيكيا وانتهازيا، علماً أن تل أبيب لا تمانع ببقاء نظام الأسد، طالما أن هذا يتماشى مع مصالحها، أو يحققها، بعكس تركيا التي ترى أن مصالحها في سورية موحدة ديمقراطية، ونافذة لها للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي لا يمكن أن تتحقق سياسياً وأخلاقياً، طالما بقي الأسد في السلطة.
كان التفاهم الإسرائيلي مع روسيا، إذن، أسهل وبدون ثمن أو أثمان جدية، وإذا ما أرادت روسيا الاحتفاظ بنظام الأسد حامياً لمصالحها في سورية المدمرة والمقسمة، فلا بأس إسرائيلياً في ذلك، طالما أنه لا ينال أو يؤثر سلباً على المصالح الإسرائيلية، والخطوط الحمر الرئيسية التي وضعتها تل أبيب. وتتضمن هذه الخطوط الحمر عدم القيام بعمليات ضد إسرائيل، أو فتح جبهة جديدة ضدها، انطلاقاً من هضبة الجولان، وعدم نقل أي أسلحة نوعية أو كاسرة للتوازن، إلى حزب الله، مع حق إسرائيل بالقيام بما تراه مناسباً للدفاع عن تلك الخطوط الحمر ومصالحها بشكل عام.
تفهمت موسكو الموقف الإسرائيلي، ووافقت، كما قال جلعاد ويعلون علناً، على الحفاظ على المصالح الإسرائيلية في سورية، بما في ذلك حركة الطائرات في الأجواء، وتنفيذ غارات ضد أهداف تابعة لحزب الله وحتى للنظام نفسه، خصوصاً مع التماهي الكبير بين الجانبين في السنوات الأخيرة.
بدت المفارقة، أو السوريالية ربما، في دخول تل أبيب الفظ والمباشر على معادلة أن السماء لروسيا والأرض لإيران والميليشيات الأفغانية العراقية واللبنانية التابعة لها، وبموافقة روسية طبعاً، بحيث باتت المعادلة المحدثة أن السماء لروسيا وإسرائيل والأرض لإيران وحلفائها، مع أحقية تل أبيب في ضرب هؤلاء متى رأت ذلك متناسباً مع مصالحها وخطوطها الحمر.
للمفارقة، أيضاً، سعت تل أبيب، وبشكل غير مباشر، إلى الاستفادة من المعادلة المماثلة في العراق، حيث السماء للأميركيين والأرض للإيرانيين والمليشيات التابعة لها، كما قال علناً أيضاً الجنرال قاسم سليماني، وحصلت تل أبيب على ثمن، بل وأثمان لتلك المعادلة، ليس فقط عبر المضي في تدمير العراق، وإعادته سنوات وعقوداً إلى الوراء، وإنما عبر سلة عسكرية وأمنية واقتصادية تعويضية كبرى، بحجة أن تلك المعادلة كانت أحد البنود الضمنية أو غير العلنية للتفاهم النووي الأميركي الإيراني.
سعت إسرائيل إلى الاستفادة من الانكفاء الأميركي عن المنطقة الذي تم أساساً بالتفاهم مع الحشد الشعبي الإقليمي، أو حلف الأقليات المذهبي الذي تقوده طهران، بينما تسعى، الآن، جاهدة إلى الاستفادة من الاحتلال الروسي الفظ لسورية، بالتفاهم مع حلف الأقليات نفسه، علماً أن تل أبيب مولعة تاريخياً بالتحالف مع الأقليات، سواء كان ذلك مع سعد حداد وجيش لبنان الجنوبي في لبنان، أو مع الملا البرزاني والأكراد في العراق، وحتى مع قبائل الدينكا في جنوب السودان، وهذا سبب إضافي، ربما لابتعادها المضطرد عن أنقرة التي تتموضع شيئاً فشيئاً في قلب الأكثرية الإسلامية الممتدة من ماليزيا حتى طنجة.
بعد ثلاثة أيام من البحث والمشاورات في الرياض، اتفقت المعارضة السورية على رفض أي دور للأسد في "مستقبل" سورية، وهو الموقف الثابت لها منذ بداية الثورة، غير أن الصياغة الجديدة التي تبنتها المعارضة تشبه كثيراً تلك التي اختارتها الدول الغربية قبل أشهر، عند الحديث عن بقاء بشار الأسد أو رحيله، فقد تبدل فيها الإطار الزمني لرحيل الأسد من "فوراً"، أو "قبل أي حوار"، إلى "المستقبل". وهذه من تجليات التغير "الإجباري" الذي بدأ يظهر على مواقف المعارضة السورية، أخيراً. أخذاً في الاعتبار أنه تغير لم يرتبط بمؤتمر الرياض زمنياً أو موضوعياً، وإنما هو صدى تحولين مهمين استجدا على معطيات الأزمة، أولهما التدخل الروسي العسكري المباشر الذي غيّر موازين القوى على الأرض، ومن شأنه أيضاً تغيير مفاعيل الأزمة سياسياً، ومن ثم مبادئ التسوية وملامحها. ثانيهما ليس تغير، وإنما انكشاف الموقف الغربي. الذي لم يتحرك، يوماً، بشكل عملي لإزاحة الأسد، أو حتى التضييق عليه، ولو بحصار بحري، أو حظر جوي، لحرمانه من واردات السلاح الذي يضرب به السوريين المدنيين.
على هذه الخلفية المزدوجة، وبفضل عامل آخر مسكوت عنه، شهد لقاءا فيينا 1 و 2 إقراراً إقليمياً ودولياً ببقاء الأسد إلى أجل غير معلوم. ومن ثم فإن جديد المعارضة بشأن مصيره هو تراجع عن الموقف الأصلي، وليس تأكيداً له. وبالتالي، التفاوض الذي يفترض أن يتم في يناير/كانون ثاني المقبل بين فصائل المعارضة و"ممثلين" عن النظام هو، في جوهره، بل وفي شكله، حوار مع النظام. أما بقية ما تضمنته اجتماعات الرياض من نتائج، فهي لا تغير كثيراً من محصلة جانب المعارضة في معادلة الأزمة وموازين أطرافها، فربما كانت "الهيئة العليا للتفاوض" أكثر شمولية في تمثيلها فصائل معارضة من الائتلاف، الذي كان هو أيضاً أوسع نطاقاً من المجلس الوطني السوري، لكنها تظل غير ممثلة لكل فصائل المعارضة، فضلاً عن تحديد دورها في إدارة العملية التفاوضية. والجديد السلبي، هنا، أن اتساع نطاق التمثيل والعضوية، قابله اختزال الدور والصلاحيات، ما يعني انتهاء فكرة تمثيل المعارضة للشعب السوري، أو تجميدها، إلى أجل غير مسمى. وبدلاً من أن يحل "الائتلاف الوطني السوري" معضلة دمج الفصائل السياسية الأخرى معه، ويسعى إلى التنسيق مع الفصائل المسلحة، وتوحيدها، لتصبح ذراعاً عسكرياً له، إذا بصيرورة العلاقة بين أطياف المعارضة ككل تختلف وتؤول إلى فصل السياسي عن العسكري، بشكل عام، والتنكر لبعض الفصائل المسلحة، تجنباً لشبهة "الإرهاب" الفزاعة التي تتذرّع بها موسكو لانتقاء المعارضة التي يُسمح لها بمحاورة النظام. ولم تألُ الفصائل المشاركة في مؤتمر الرياض جهداً في إبراز مساوئها، بالاختلاف حول الأسماء المختارة، سواء في وفد التفاوض (15 عضواً) أو في الهيئة العليا (32 عضواً). وعلى الرغم من تجاوز الخلافات في النهاية، والتوافق على الأسماء المختارة، إلا أن ما جرى يؤكد استمرار منطق المصالح الضيقة، وبقاء العقليات نفسها التي أضاعت فرصاً كثيرة على الثورة السورية، من دون تغيير. هذا هو المسكوت عنه، إنه انقسام المعارضة السورية المستمر منذ خمس سنوات، من دون تقدير لتضحيات ملايين السوريين، ذلك الانقسام الذي أفضى، في النهاية، إلى التعويل على حل سياسي، لن يخرج عن بضعة حقائب وزارية وانتخابات في ما تبقى من مناطق لم تدمر. تلك المعارضة متعددة المشارب والولاءات والأجندات، المنقسمة في داخلها، والمختلفة دائماً على المقاعد والأسماء، لم تنجح لا في إقناع العالم بإسقاط بشار ولا في التوحد أمامه. حريّ بها السقوط، ولينتظر الشعب السوري معارضة جديدة، جديرة به وبتضحياته.