على الضد تماما مما أعلنه السفير الإيراني في دولة الكويت علي رضا عنايتي عن حيادية النظام الإيراني في النزاع السوري! وأن إيران ليست معنية بمصير رئيس النظام السوري بشار الأسد، فإن المستشار السياسي للولي الإيراني الفقيه للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي الذي يحمل اليوم مسؤولية ملفات العراق وسوريا واليمن وحتى البحرين ضمن محموعة ومنظومة جهاز الأمن القومي الإيراني له موقف آخر ومختلف وصريح وحقيقي ولا يختفي وراء التقية أوخلف العبارات الديبلوماسية المطاطة يقول علنا وبملء الفم وعلى رؤوس الأشهاد: “أن مصير رئيس النظام السوري هو خط إيراني أحمر“! وبالتالي فإن المعركة القائمة في الشام هي معركة تقرير المصير للنظام الإيراني ذاته! وهي حرب تعتبرها إيران حربها الخاصة التي تعتمد على نتائجها جهود 36 عاما من الاستثمار السياسي والعقائدي في الساحة السورية!
النظام الإيراني وفقا لرؤية ولايتي التي هي رؤية الولي الفقيه لا يمكن أن يقف على الحياد في ملف يصيب في مقتل العصب الرئيسي للنظام! فنظام الملالي لايمكن له أن يقف متفرجا على تهاوي نظام حليف تشارك معه في إدارة أزماته، وحيث وقف النظام “البعثي ” السوري موقفا مساندا للنظام الإيراني إبان مرحلة الحرب الشرسة مع العراق الذي كان يحكمه هوالآخر نظام “بعثي” ولكن من الضفة الأخرى للبعث، والنظام الإيراني استطاع تحويل أرض الشام قلعة نفوذ ومركزا استثماريا واستخباريا وقاعدة من قواعد التعبئة والحشد الطائفي الإيراني في الشرق القديم، وسقوطه يعني تلاشي النفوذ الإيراني في المنطقة واضمحلاله بالكامل وقطع الارتباط المباشر مع المجاميع العميلة والعاملة في خدمة النظام الإيراني التي ستنتهي بالكامل مع نهاية نظام دمشق، فـ”حزب الله” اللبناني سيضمحل بالكامل وتنتهي سطوته على الشعب اللبناني ويعود مجرد حزب طائفي معزول يجتر ذكريات الأيام الخوالي.
كما أن الاستراتيجية الأمنية للنظام الإيراني تعتمد على كون إدارة معارك الدفاع عن النظام لا تكون في العمق الإيراني بل في العمق العربي من خلال الخطوط الدفاعية الحصينة في بغداد ودمشق، وخروج دمشق من سطوة النظام سيتبعه بالتأكيد خروج بغداد التي تعيش اليوم إرهاصات لمتغيرات مستقبلية كبرى ستطيح بالنفوذ الإيراني وتعجل بانحسار التيارات الطائفية الإرهابية، وكل شيء بصراحة معتمد ومتوقف على نتائج الحرب السورية والتي ستكون نتائج إقليمية حاسمة ستبدل كل الموازين والمعادلات.
إذن فإن طبيب الأطفال الذي تحول لدبلوماسي ثم ستراتيجي أمني علي أكبر ولايتي يحمل سيف المواجهة المباشرة ضد شعوب المنطقة، ويرسم الخطوط والحدود ويضع إطار السيناريوهات! وهو دور لن يستمر طويلا بكل تأكيد فحجم الهزائم المريرة للنظام الإيراني وادواته في المنطقة ستجعله يتجرع كؤوس السم الزعاف من جديد! ولا زلت أتذكر تلك السحنة الذليلة لولايتي في اجتماعات جنيف مع الوفد العراقي الذي كان برئاسة وزير الخارجية العراقي السابق والراحل طارق عزيز بعد نهاية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1988 وكيف اضطر نظام الملالي للتخلي العلني والذليل عن شرط (إقامة جمهورية معممة في العراق كشرط لإنهاء الحرب)! ثم حصل ماحصل بعدها من تطور ملحوظ في العلاقات بين المتخاصمين وما توج من علاقات اقتصادية قوية بين أبناء المسؤولين في النظامين، حتى كشرت إيران عن أنيابها بعد الغزو الأميركي للعراق لتعيد للواجهة استثماراتها القديمة من العملاء العراقيين العاملين لخدمة مشروعها الإرهابي الانقلابي وهم الجماعات الطائفية الفاشلة المريضة التي تحكم العراق اليوم!
وليس ثمة شك أن ولايتي حين أكد على كون نظام بشار خط أحمر فهو يعني ما يعنيه وقد أكد على ذلك الموقف من خلال الزج بالجيش الإيراني إضافة لفرق الحرس الثوري وللعصابات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية في المعارك الدائرة تحديدا في حلب وريفها الجنوبي وحيث خسر التحالف الإيراني خسائر بشرية رهيبة في معارك خان طومان! وهزيمة الحلف الإيراني في الشام مسألة وقت فقط، ولولا التدخل الروسي الواسع النطاق وبقوة نارية رهيبة لدولة عظمى لانهار النظام السوري بالكامل ولتشتت قوات المساعدة الإيرانية ولانتهى النفوذ والتمدد الإيراني في الشرق.
لذلك فالمعركة الإيرانية في الشام والتي حدد خطوطها العامة وأبعادها الستراتيجية المستشار ولايتي هي فعلا “معركة المصير الواحد “!.. ولكن الذي تناساه ولايتي ومن هم خلفه أن انتصار الثورة السورية هو أمر محسوم وأن هزيمتهم المدوية ستتوج المتغير الاستراتيجي الكبير القادم في الشرق، وستجعل هزيمة نظام الملالي فضيحة بجلاجل وأجراس مدوية… إسع سعيك وكد كيدك ياولايتي فإنك وجندك بإذن الله مهزومون ومدحورون لا محالة.
أُتخمت مسيرة نصف قرن من معاناة الشعب السوري وافتقاره إلى أدنى حقوق الإنسان وحشره في قوقعة تضعه أمام خيارات محدودة فإما أن يتعاون مع عصابة الإجرام أو ينزوي – قمعا وتنكيلا ونهباً – وقام الأسد ببناء نظامه على كذبة تحولت إلى خديعة كبرى بدليل أنها لاقت ومازالت تلقى مؤيدين محليا وإقليميا وعالميا بغض النظر عن المصالح المتبادلة، ومن المؤكد بأن مفاعيل الزمن الطويل وتراكماته قد ساهمت في تكريس هذه الخديعة التي تضرجت بالدماء وتكللت بالدموع.
لاشك بأن هذه الفترة قد طالت، ولكن اندلاع الثورة السورية، وما يجري اليوم بين هذا النظام المجرم وحلفائه سواء في الداخل أو الخارج، وإن بدا أن ظاهره الوفاق والتحالف إلا أن الحقيقة تعكس أن باطنه الشقاق وأن كل واحد من الحلفاء المزعومين يعمل على ابتزاز صاحبه وما يدل على ذلك تلك المشكلات العميقة والمتجذرة التي تطفو على السطح بين الآونة والأخرى ، وسيل السلوكيات و التصريحات الإعلامية التي من تظهر من رموز لهذا الحليف أو ذاك .
في الداخل السوري عمل نظام الأسد على ربط مصير الطائفة العلوية ربطا وجوديا به، وظهر انعدام الأمن الطائفي كسمة غالبة على السياسة السورية في أعقاب كارثة حماة. وكان هذا دعماً سياسياً هاماً لسلالة الأسد لأنها استطاعت أن تحافظ على العصبية العلوية، واستثمر في سبيل ذلك ما حدث، وعمل على تجييشهم أيما تجييش، كما عمل على تخويف الأقليات من حكم الأكثرية وهو ما استثمره أفضل استثمار خلال الثورة، وهو قبل ذلك عمل جاهدا للحد من الشعور بانعدام الأمن الطائفي ، فمثلاً في حزيران 2007 حُكم على سبعة طلاب بالسجن لإجراء حوارات على الإنترنت حول الإصلاح السياسي. وقد كشف تصريح من قبل ضابط الاعتقال يُوضح فيه أن “هؤلاء الشباب هم أكثر خطورة من تنظيم القاعدة، لأنهم يأتون من جميع الطوائف.” وحقيقة أن اثنين من الطلاب تلقوا حكماً لمدة سبعة سنين وآخرون خمسة سنين فقط، وأن من عوقب بشكل أكبر هم من العلويين، في رسالة من النظام لأبناء طائفته أما ان تكون وقودا في سبيلي أو التنكيل والاعتقال، واليوم تدفع الطائفة العلوية أغلى ما تملك من استقرار وأمان ومساهمة في بناء الوطن في الغد القريب بحكم تحالفها مع النظام القاتل، ولنا في الحاضنة الشعبية الموالية للنظام في مدينة حمص التي تعتبر إحدى الخزانات البشرية لميليشيات الدفاع الوطني والشبيحة خير مثال على ذلك ، فالأحياء الموالية للنظام تعرضت للتفجيرات وأعمال العنف مالم تتعرض غيرها من الأحياء الموالية في باقي المحافظات، وهنا يطرح الأسئلة التالية نفسها: من الذي فجر ؟ وما الدافع إلى التفجيرات؟ ألم تُسور الأحياء الموالية والقرى بالحواجز ووحدات الحماية واللجان الأمنية ؟ وغيرها الكثير من الأسئلة عن التفجيرات التي لن يكون آخرها التفجيرين المزدوجين اللذين هزا مدينة المخرم الفوقاني الموالية صباح الخامس من نيسان من العام الجاري.
إن التحليل المنطقي والواقعي لمثل هذه التفجيرات وبعيداً عن ذكر التكتلات الموجودة على الأرض السورية التي عمل نظام الأسد على استحضارها من أجل الدفاع عنه وبقاء اغتصابه للسلطة في سورية يؤكد أمرين لا ثالث لهما، أما الأول: فهو انحلال عرى الترابط و التواثق بينه وبين مواليه من أبناء البلد وتذمرهم منه ومن الآليات التي اتبعها في مواجهة الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح ، وأن النظام ما أن يشعر بأن حدة هذا التذمر قد ارتفع في مكان ما من المناطق الموالية له حتى يلجأ إلى التفجيرات لتخويفهم من الإرهاب، وهو نفس الأمر الذي باتت تلجأ إليه تلك الميليشيات الطائفية الدخيلة إذا ما إعترض سكان تلك المناطق وتذمروا من تصرفات عناصرها وما تقوم به من اعتداءات على الأموال والأعراض . أما الثاني: عدم الثقة المتبادلة بين النظام والميليشيات الطائفية الدخيلة ، وعدم اكتراث الأخيرة بجيش النظام ووحداته المرافقة لهم في تحركاتهم، وذلك بسبب دفع القادة من جيش النظام أن تكون عناصر تلك الميليشيات في المقدمة على الجبهات، وهو الأمر الذي اعترضت عليه تلك الميليشيات وقادتها أكثر من مرة ليتضح مؤخرا ما وراء ذلك ، وهو رغبة تلك الميليشيات بالسيطرة على الأرض والإمساك بها وحرمان قوات الأسد من ذلك، الأمر الذي أربك حسابات نظام الأسد ومخططاته وخاصة في حمص حيث يتواجد الثقل العسكري الأكبر لحزب الله والميليشيات الشيعية ، والتي تقوم علانية برفع راياتها على المواقع التي تسيطر عليها وتنكيس علم النظام ، هذا الأمر فسره قادة ومقاتلون في الجيش السوري الحر وكتائب الثوار أن نظام الأسد يسعى جاهدا لإبرام المصالحات مع المناطق الثائرة والمحررة ، بدلا من التفكير بإعادة السيطرة عليها بمساندة تلك الميليشيات الساعية إلى احتلال الأرض وتذويب وحدات جيش النظام.
تحمل القوى العابثة باستهزاء بدم الشعب السوري، ثأراً دفيناً في التاريخ، عجزوا عن تحقيقه في أي رقعة من هذا العالم، وجاءوا باحثين عنه بين ركام منازلنا و أشلاء أطفالنا و نسائنا و رجالاتنا، علهم يطفؤون تلك النيران التي مضى عليها قروناً، أو يعيدون تشكيل حقد جديد يعيش لقرون أخرى يضمنون خلالها تواجد هياكلهم العظمية التي أكل الزمان عليها و شرب.
اليوم يستذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نصر بلاده على النازية و يستحضرها و يسقطها مباشرة على ما يحدث في سوريا، و اعتبارها أنها جزء لا يجزأ من تلك الحرب، التي باتت أطرافها من الصداقة و المصالح ما يمنع عودة الثأر أو مواصلة التغني بالنصر، و بات لزاماً اللجوء إلى شيء آخر يتم الاستناد عليه للإبقاء على وهم "الشيوعية" قاهرة "النازية".
فبعد عشرات السنين تتشابه المشاهد بين جوزيف ستالين هو يعاقر الخمر في اللحظات الأخيرة من انهيار امبراطورته تحت ضربات الجيش الألماني، و بين روسيا التي تقف على حافة الانهيار من سلسلة الأزمات الاقتصادية تحت مطرقة العقوبات و الفساد المستشري، فأعادت "ستالينغراد" الصحو للعجوز المنهك ستالين، و بوتين اليوم يبحث عن تلك المدينة في ركام "حلب" علّه يكرر الأسطورة مرة أخرى و يستعيد مجدٍ اندثر بغير رجعة، لدولة بُنيت على تشتيت الشعوب و تغيير السكان فيما كان يعرف بـ"الاتحاد السوفيتي".
في المقابل يبحث الايرانيون، عن إعادة اشعال نار الفتنة، و تصعيدها للحد الذي يعيد لعمائمها سيطرتهم المطلقة، و نفوذهم اللامحدود، الذي خبى مع انتهاء الثأر من "البعث العراقي"، وباتت الحاجة لخلق "بعث" جديد، يجعل من خامنئي "خميني" جديد، يدخل تاريخ "المخلدين"، ويحي مبدأ تمثيل "الألوهية" على الأرض، باعتباره سفير "امام الزمان" المهدي المنتظر، وفق المبدئ الأساس و المطلق الذي يقوم عليه المذهب الشيعي الاثني عشري، الذي تم اختلاقه و تعزيزه و ترسيخ مبادئه من قبل "الفرس" الباحثين عن خلق الفوارق مع العرب، انتقاماً للفرس من العرب، الذي بدأ مع الإسلام الذي حطم عروش" كسرى"، ووعد نبيه الأكرم "صل الله عليه و سلم" بأن (لا كسرى بعد كسرى).
بوتين وجه التحية للأولائك الذين قاتلو النازيين، و بنفس الوقت لهؤلاء الذين يقاتلون "الإرهاب"، و بين أؤلائك و هؤلاء وجد الشبه في تخليص العالم من "الشرور"، في حين شبّه الايرانيون القتلة في سوريا بأنهم يمثلون الحسين في دفاعهم عن أهل البيت الرسول، و لكن هذه الكلمة "الرسول" تم نسخها، انتقاماً من (لا كسرى بعد كسرى)، و تم وضع مصطلح آل الله، لإلغاء كل من هدد أو توعد بزوال الفرس و عدم عودتهم، حتى لوكان رسول من الله، ينقل ما أوحى إليه، لتظهر الحقيقة الكاملة بأن الصراع ليس صراع طائفي داخل دين واحد، و إنما صراع على مستوى حضارات بأسرها.
فبين قتال اليزيدين و النازيين وقعت سوريا، فالجميع ينبش في تاريخ الدم لاستحضاره بصورة اقسى و أعنف، لصنع تاريخ جديد و منطلق جديد للتأريخ، فما قبل سوريا ليس كما بعدها، و ما سيبنى بعدها سيكون ثابتاً لسنين و قرون قد لا تكفي الحياة الدنيوية لتغييره، فلا بد من انتظار "نفخة الصور" لإنهائه.
منذ تحول الثورة السورية إلى أزمة مسلحة، بفعل آلة القتل الأسدية، وتدخل إيران و«حزب الله»، وبعد ذلك التدخل الروسي، وكله لمحاولة إنقاذ نظام بشار الأسد، فإن المعادلة بالأزمة السورية لا تقوم على حقن الدماء، ولا التوصل لحلول سياسية، وإنما هي لعبة الوقت.
الأسد يعوّل على الوقت، ومثله الإدارة الأميركية، وكذلك الإيرانيون، والروس. الأسد يعوّل على الوقت لقتل كل محاولة دبلوماسية تفاوضية، أملاً بالنجاة من كل محادثات بوأدها، ومن ثم محاولة تحقيق نجاح على الأرض، ودائمًا يفشل. بالنسبة للإيرانيين، وميليشياتهم الإرهابية من «حزب الله» وغيره، كانوا، ولا يزالون، يعوّلون على عامل الوقت وذلك من أجل محاولة صمود نظام الأسد، وضمان عدم سقوطه، وكذلك إنجاز الاتفاق النووي مع أميركا، والمجتمع الدولي، ومن أجل تعزيز حظوظ إيران بالحصول على أفضل اتفاق ممكن في سوريا، وذلك كجني أرباح للاتفاق النووي الدولي.
بالنسبة للروس هم يعوّلون على عامل الوقت أيضًا، لكنهم لا يريدون المماطلة أكثر لأن ذلك مكلف اقتصاديا وعسكريًا، وسياسيا، والأهم داخليًا بروسيا، ويعوّل الروس على إنجاز اتفاق قبل رحيل أوباما، حيث يقتنع الروس، وهم محقون، بأن أي رئيس أميركي قادم لن يقدم لهم تنازلات كما يفعل أوباما الآن، ولن يكون، أي الرئيس الأميركي القادم، بضعف أوباما، فإما المتهور دونالد ترامب، وبالتالي صعب توقع ما يمكن أن يفعله تجاه سوريا، أو هيلاري كلينتون ولديها مواقف مسبقة، ومتشددة، تجاه الأزمة السورية، ولذا فإن الروس يعوّلون على اتفاق ينجز في عهد أوباما نظرًا لقناعتهم بأنه سيمنحهم الكثير، وهذا ما يتأمله الإيرانيون أيضًا.
أما الإدارة الأميركية، وتحديدًا أوباما، فقد كان واضحًا منذ فترة طويلة أنه يريد أن تكون سوريا مشكلة من يأتي بعده، حيث لا يريد فعل شيء بسوريا، وكل ما فعله شكلي، ومحاولة منه للنأي بالنفس عن الأزمة السورية أكثر من المساعدة في حلها، ورغم كل التهديد الأمني الذي تشكله الأزمة للمنطقة، والمجتمع الدولي، من «داعش» وخلافه، فأوباما آثر الابتعاد عن الأزمة السورية لكي لا تعطل اتفاقه النووي مع إيران، وكذلك بسبب سلبيته في تقدير حجم عواقب ما يحدث بسوريا على المنطقة والمجتمع الدولي. ولذلك يلحظ أن إدارة أوباما تتحدث عن روسيا، وتعوّل عليها، أكثر من حديث الأسد عن روسيا، أو حديث إيران عن الدور الروسي، الذي ربما يقلق طهران أكثر من كونه يريحها.
ولذا، ورغم كل الجرائم غير المسبوقة في حلب من قبل آلة القتل الأسدية، ورغم إعلان إيران بالأمس عن مقتل 13 مستشارًا عسكريًا لها هناك، نجد أن إدارة أوباما لا تكترث بأزمة حلب الإنسانية، ولا تداعياتها الأمنية والسياسية على سوريا والمنطقة، وبدلاً من التحرك، واستخدام أدوات مؤثرة فإن إدارة أوباما تلجأ للرئيس الروسي مما يقول لنا إن كل شيء الآن بات معلقًا بلعبة الوقت، وحتى معرفة الرئيس الأميركي القادم، ولحظة دخوله البيت الأبيض.
قبل عامين خرجت محافظة حمص التي تعتبر عاصمة الثورة السورية من معادلة الثورة وباتت تحت سيطرة النظام بشكل شبه كامل، إثر اتفاق هدنة اضطرت فصائل الثوار على توقيعه إنقاذا لما تبقى من مدنيين عالقين في المدينة التي تحولت إلى أثر بعد عين بعد أشهر من القصف الذي تعرضت له الأحياء التي شهدت أولى مظاهرات الثورة، من قبل قوات النظام والميليشيات الطائفية الموالية لها، وانسحبت فصائل الثوار إلى ريف حمص الشمالي، فيما تمت محاصرة المدنيين في حي الوعر، وما زالوا محاصرين هناك.
قبل ذلك استطاع تنظيم داعش، بتسهيلات كبيرة من قبل الحكومة العراقية الموالية لإيران، التسلل إلى المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية وأصبحت محافظتا دير الزور والرقة خاضعتين كليا لسيطرة التنظيم، الذي تمكن من إنهاء الثورة وإلغاء وجودها بعد أن شن حروبا ومعارك متواصلة ضد كتائب الجيش الحر التي كانت قد تمكنت من طرد قوات النظام وأقامت مجالس محلية لتسيير شؤون الناس. وفيما خرجت محافظة الرقة كليا من المشهد وأصبحت عاصمة تنظيم داعش في فرعه السوري، فإن محافظة دير الزور تم تقاسمها بين قوات النظام وتنظيم داعش، ولم تشهد خلال عامين تقريبا أي اشتباكات تذكر بين الجانبين، بل إن الوثائق التي انتشرت على نطاق واسع مؤخرا تؤكد أن التنظيم والنظام تجمعهما صلات تجارية وتبادل مصالح. ومثلما خرجت حمص من معادلة الثورة فقد أخرجت الرقة ودير الزور، وباتتا على حافة كوارث متلاحقة ليس أقلها الجوع والأمراض اللذان ينتشران بين أهلها المحاصرين، أو من تبقى من أهلها بين فكي الكماشة الداعشية الأسدية.
نتيجة لموجة العنف التي تعرضت لها شهدت المحافظات الثلاث حركة تهجير كبيرة، حتى أفرغت تقريبا من ساكنيها، ومن بقي هو بمثابة الأسير الذي لا يستطيع الحركة أو التنقل، فما بالك بإظهار معارضته للنظام أو للتنظيم أو تأييده للثورة.
ضمن هذا السياق لا يمكن فصل ما يجري منذ أيام في حلب، وحرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات النظام بالتعاون مع الحليف الروسي ضد عاصمة الاقتصاد السوري، عن مخطط تجفيف منابع الثورة، وإفراغ سوريا المتمردة من ساكنيها تمهيدا لإنشاء الدويلة العلوية التي تحدث عنها في فبراير الماضي وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، وقال إن روسيا تساعد الأسد على إقامتها، كما لا يمكن فصل مقترح الهدنة الذي روجت موسكو له عن فكرة إنهاء مظاهر المعارضة لنظام الأسد من المدينة، وقد تهدف إلى إخراجها هي الأخرى من الثورة، دون أن يمانع النظام وروسيا من ورائه أن يبقى تنظيم داعش مسيطرا على بعض المناطق، لأن الحالة في ضوء وجود داعش تفضي بالضرورة إلى اقتتال يستنزف القوى ويحول قوات النظام من خصم إلى متفرج كما هو حاصل حاليا في درعا جنوباً.
لا يمكن أن نغفل التواطؤ الأميركي الواضح في كل ما يجري، فقد ماطلت واشنطن في الرد على مشروع كانت قد تقدمت به المملكة العربية السعودية يقترح إرسال قوات برية لمقاتلة داعش داخل سوريا، بل سارعت إلى التوصل إلى اتفاق هدنة شكلية مع موسكو وقامتا بفرضه على فصائل الثوار الذين أعلنوا التزامهم بالهدنة، فيما استمر الطيران الروسي وطيران النظام في حصد أرواح المدنيين تحت ذريعة محاربة الإرهاب
لا يمكن القول إن النظام نجح في إنهاء الثورة أو في القضاء عليها، لكنه استطاع كسب بعض الوقت لتدمير ما يمكن تدميره، وتحقيق حلم الدويلة، واستطرادا مساعدة إيران على التوغل في العمق السوري.
ماذا لو انقلبت الأفرع الأمنية على الأسد ؟
ماذا لو شارك رئيس فرع المخابرات الجوية "جميل حسن" في محاصرة القصر الجمهوري , بعد ان كشف أن الأسد يتحضر للهروب و تركهم في ساحة الحرب ؟
ماذا لو بثت قناة النظام مباشرة صور لوزير الدفاع التابع للنظام "جاسم الفريج" و هو يردد البيان رقم "١" ؟
هذا السيناريو الذي يرغب به المجتمع الدولي ليكون مخرجاً للقضية في سوريا , مستغلين الوقت الضائع الناتج عن مهدئات الحل السياسي , في ظن منهم أنهم يحافظون عن ما يسمى بـ مؤسسات الدولة و الدستور
في زمن الأسد و أبيه كنا نبحث دوماً عن دستور مطبق , و لم يكن هناك ما يعرف "قانونياً" بالدستور أصلا , فقد كان مجرد حبر على ورق يدعم وجود العائلة الأسدية في الحكم , و يصهر الأجهزة الامنية تحت جناح "القائد" , و يعمل على تقويض الاعمال القانونية للسلطات القضائية و الشرعية , و اخضاع كل مؤسسات الدولة لإرادة حكم الأسد.
الفكرة التي يطرحها مجلس الأمن دوماً , و تخوف الدول الصديقة للثورة السورية و الدول الكبرى من انهيار مؤسسات الدولة أمر في غاية السذاجة , فعن أي مؤسسات التي يخافون عليها , و أي قانون يخشون من انهياره ,هل قانون الطوارئ الذي علق الحياة الدستورية في سوريا طوال فترة حكم الاسد الأب و الابن , و الذي سيطر على سن القوانين و على تعيين كافة المسؤولين في كافة المؤسسات القضائية و التشريعية و التنفيذية و الخدمية تحت بند عريض يدعى "قانون الطوارئ", هل هذا ما يخشون من انهياره، أم يرون في اخضاع كافة المواطنين لإرادة أجهزة الأمن و المخابرات التي ماهي الا ميليشيات و مافيات تصب في ارادة القصر الجمهوري، مؤسسات و هيئات لابد من حمايتها من الإزالة.
ماذا لو انقلبت مؤسسات الأمن أو الجيش على الأسد , هل يعتقد مجلس الأمن أن هذا يؤدي إلى انهيار كافة التبعيات المطلقة لهذه الاجهزة!؟
رحيل الأسد و انحلال مؤسساته الامنية قبل العسكرية هو الحل الأمثل الذي سيرمي الى انهيار سلطة الحكم الذي كان شبه امبراطورية , و نهاية الدستور الملفق و المستباح من قبل الأسد , انه الحل لبداية خلق دستور جديد تنفصل فيه الأجهزة الامنية عن الحاكم , لتحاسبه على كل تجاوز , انه صناعة دستور يكون فيه للعسكر دور في حماية سيادة الدولة لا سيادة الحاكم
النظام السوري خلال مفاوضات جنيف اقنع المبعوث الأممي الى سوريا "استافان دي ميستورا" و مجلس الامن بخطورة انهيار مؤسسات الدولة , فعلا إنه لأمر يثير الذعر فمؤسسات النظام العسكرية الهشة و الأمنية التبعية ستنهار , وبالتالي سيفتح المجال أمام كل مؤسسة لتطبق قوانين الادارة المترتبة عليها بمعزل عن تسلط و فساد و استبداد أجهزة الأمن و المخابرات ومافيات النظام و حاشيته, و سينتهي زمن تقويض عمل هذه المؤسسات , و لن يعود هناك سلطة للأسد الحاكم على حصار المدنيين الذين حاصرهم عبر اجهزته التي أقنع المجتمع الدولي بخطورة انهيارها , و التي أفرغت في الحقيقة من مضمونها القانوني و التشريعي و المهني , هذا ان لم نقل أنها كانت ذريعة لارتكاب أبشع أنواع جرائم حرب
الأسد بالنسبة للدول الغربية و مجلس الامن بمؤسساته الفاسدة المخابراتية و العسكرية ما هو الا "أداة" لوقف امتداد الإرهاب (وفق منظورهم) في المنطقة أولاً، و من ثم وصوله الى الغرب ثانياً, فوهب المجتمع الدولي سوريا للأسد , ليرسل ذاك المجتمع كافة الارهابيين الذين يؤرقون أمنه اليها وسط ضياع البوصلة في أرجاء سوريا و على قول المثل "الفايت فايت و الطالع طالع" .
الأسد يلعب دور حافر قبور "الإرهابيين" في العالم وسط سوريا كما أقنع المجتمع الدولي , و الضريبة دم ابناء سوريا طبعاً , و ما وجوده بالنسبة للعالم اجمع الا لدرء خطر امتداد تنظيم الدولة و تنظيم القاعدة الى ما وراء الحدود السورية التي اتخذوا في شرقها قاعدة لهم اليوم.
لذا دعونا نغمض اعيننا ونكتفي بمجرد الحلم بنهاية بشار الأسد و أجهزته المتعفنة , بعيداً عن وهم يدعى "الحل السياسي" , فالمجتمع الغربي يجيد لعب دوره في المسرحيات التراجيدية من خلال ابداء اصراره على الحل السياسي بينما هو مصر على وجود الأسد لسحق الإرهاب، و يشهر سيف خطر رحيل الأسد و انهيار مؤسساته الامنية و العسكرية خوفاً من انهيار سوريا على حد زعمهم , و ما الحل السياسي الا جرعة مهدئة للمواطن السوري , فالنغمض أعيننا ونحلم اذن
تصاعدت حدة الاشتباكات في الأيام الأخيرة في سورية على أكثر من جهة وبخاصة حلب، تحت عنوان «الهدنة الإنسانية» التي لا تحترم من الفرقاء المقاتلين. فما هي أسباب وأبعاد هذا التصعيد وأين هي الحرب السورية مع بداية عامها السادس وهل من متغيرات جذرية؟
وإضافة إلى ذلك ما معنى أن يقول وزير الخارجية الأميركية جون كيري «إن الوضع في سورية أصبح خارج السيطرة»؟
وللتعليق على كلام كيري نسأل: هل كان الوضع سابقاً تحت السيطرة حتى يخرج الآن عنها؟
المواقف الأميركية باتت تشكل استخفافاً بعقول الناس المتابعين للشأن السوري. فالسيد كيري يكتفي بإطلاق «الكلام الكبير» في شكل تصريحات لا تجد لها الصدى المطلوب، وبخاصة عندما يصعّد ضد «الشريك الروسي» في البحث عن السلام السوري، ليتضح أن كيري يكتفي بالكلام ولا أفعال، وأن القيصر الروسي فلاديمير بوتين ماض في اتخاذ كل المواقف التي تتلاءم مع مصالح روسيا.
على صعيد الموقف العام:
دخل الرئيس أوباما مرحلة الوداع التدريجي لمغادرة البيت الأبيض، وضمن تصوره يعمل بمعزل عن الضغوط السياسية طوال فترة حكمة.
كانت فترة الولايتين مدعاة للكثير من النقاش حول الآمال التي علقت على دخول أول رئيس غير أبيض إلى البيت الأبيض. عندما منح جائزة «نوبل للسلام» وكان لا يزال حديث العهد في الرئاسة، قوبل الاختيار بالعديد من الانتقادات إذ جرت العادة أن تمنح الجائزة تقديراً لإنجازات سلمية تحققت، وهو لم يحقق شيئاً بعد، فيما كان الجواب على المنتقدين أن هذا التقدير المعنوي الكبير ربما حصل عليه المكرم كتشجيع على تحفيز الرجل للقيام بمبادرات تنشر ثقافة السلام في المناطق المضطربة وما أكثرها ومن منطلق أهمية الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة الأميركية في شتى أصقاع الأرض.
لكن لأسباب متعددة لا مجال هنا لتعدادها، لم ينجح أوباما في تحقيق الأمنيات الملقاه على عاتقه سواء في المناطق المشتعلة في الشرق الأوسط، وفي الفشل الذريع في مواجهة الإرهاب، ناهيك عن الفشل الذريع في تحقيق أي تقدم على صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والعربي - الإسرائيلي، وأخيراً وليس آخراً الغرق في المستنقع السوري، وهنا كثير من الكلام يجب أن يقال.
وفي ما يعمل أوباما على إعداد حقائبه استعداداً لمغادرة البيت الأبيض، ارتفعت بعض الأصوات التي تطالب بـ «تجريد» ـه من «نوبل للسلام»، احتجاجاً على المواقف التي اتخذها أو لم يتخذها، ولدى الدخول في تفاصيل تعقيدات الأوضاع الشائكة في سورية، ميدانياً أو في المحادثات التي تشهدها مدينة جنيف من حين إلى آخر، فإن وفد النظام برئاسة السفير بشار الجعفري يتحدث بلغة فيما وفد سائر المعارضات يتحدث بلغات أخرى مختلفة، وعندما يطرح الحديث عن مصير الرئيس بشار الأسد تأتي المواقف متباعدة جداً. فالمعارضات لا تريد أن ترى أي دور له فيما وفد النظام يؤكد أن من يقرر مصير الأسد هو الشعب السوري!
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني عودة الحل إلى الإطار السوري السوري، وأن مصير الأسد لا يتقرر في محادثات جنيف. ويسعى الوسيط الأممي ستيفان دي ميستورا بكل ما أوتي من «قوة إقناع» لإبقاء المحادثات مستمرة، كي يبقى بالتالي دوره مستمراً. وفي الزيارة الأخيرة لموسكو سمع الوسيط ما يريد أن يسمعه من وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي يرفض رفضاً قاطعاً الانتقال للحديث عن «النقلة السياسية للوضع في سورية»، وهذا يفترض تشكيل فريق عمل سياسي من مختلف الأطراف ليتولى المرحلة الانتقالية.
ويؤكد مصدر قريب من الوفد الروسي المتابع لمفاوضات السلام أن كل المحادثات التي جرت وتجري لن تصل إلى «نهاية سعيدة»، لأن أطراف النزاع غير متوافقة على نقاط محددة للحل.
ويعتقد «المصدر الروسي» بأن المفاوضات لن تنجح سياسياً، وأن العمليات العسكرية ستستمر لتدمير ما تبقى من معالم سورية لا تزال قائمة في مدينة حلب، أو في غيرها من المدن. وفي الحديث عن حلب تعرضت أقدم مدن العالم للعديد من أعمال القصف، وكل فريق يتهم الآخر بالقصف العنيف وبخاصة «مستشفى السلام» الذي تعرض لإصابات مباشرة قضت على ضحايا كانوا يتلقون العلاج.
وميدانياً كُشف عن المعلومات التالية لواقع الأمور في مختلف المحافظات والمرافق السورية. واستناداً إلى خرائط محدودة فمحافظة إدلب في أقصى شمال غربي سورية هي المحافظة الوحيدة الخارجة بالكامل عن سيطرة النظام وسيطرة «داعش» والمليشيات الكردية. وفي المقابل فمدينة طرطوس هي المحافظة الوحيدة التي تسيطر عليها قوات النظام والحلفاء من الجنود الروس بالكامل. ونشرت معلومات توضح بالنسب المئوية مدى سيطرة قوى النظام والقوى الأخرى عليها واستناداً إلى هذه الخرائط هناك المعلومات التالية:
تتركز مناطق نفوذ النظام في طرطوس (مئة في المئة) ومدينة اللاذقية (95 في المئة) والسويداء (93 في المئة) وفي محافظة دمشق (89 في المئة) ومحطة ريف دمشق (74 في المئة) ثم حماه (52 في المئة)، وينحسر نفوذ النظام في درعا (30 في المئة) وحمص (25 في المئة) والقنيطرة (19 في المئة) وحلب (12 في المئة) والرقة (2 في المئة).
واستناداً إلى الخرائط فإن «داعش» يتركز وجوده في محافظة دير الزور حيث يسيطر على 89 في المئة بينما يتقاسم مع المليشيات الكردية محافظة الرقة (75 في المئة) كما يسيطر في محافظة حلب على 49 في المئة، ثم يتراجع نفوذه في محافظات حماه (33 في المئة) وريف دمشق (21 في المئة) والحسكة (13 في المئة) السويداء ( 5 في المئة) ودرعا (5 في المئة) وصولاً الى مدينة دمشق (1 في المئة) والقنيطرة (1 في المئة) ليختفي حضور «داعش» في محافظات طرطوس واللاذقية وإدلب.
وتتابع الخرائط: فصائل «الجيش الحر» (ومعها «جبهة النصرة») يتركز وجودها في محافظة إدلب، ثم في محافظات القنيطرة (79 في المئة) ودرعا (64 في المئة) ليختفي حضورها في محافظات طرطوس والرقة والحسكة ودير الزور.
وإذا ما سلمنا بجدية النسب المئوية المرافقة للخرائط فهي لا ترجح وجود «داعش» والقوى الأخرى المعارضة في مواقع محدودة، بل هي منتشرة في شتى أرجاء المحافظات السورية.
على أن القراءه الروسية لتطورات الأحداث، كما شرح أحد الخبراء المواكبين لمحادثات - جنيف، فكالتالي: كل ما يجري حالياً هو لإكمال عملية التفاوض الشكلية التي لا يعلق عليها الروس أهمية. فموسكو لا تؤيد تقرير مصير الأسد في مفاوضات - جنيف، ويردد أحد الخبراء ما يقول وزير الخارجية سيرغي لافروف: هذه المسألة يقررها السوريون أنفسهم في انتخابات عامة.
وهذا يعني بوجه الإجمال عودة أو إعادة الموضوع إلى سياقة السوري - السوري والتفاوض في ما بين الأطراف المتنازعة. على أن ما تستشعره موسكو من دون أن تعبر عنه صراحة، أن تنظيم «مرحلة الانتقال السياسي» لن يكون بهذه السهولة وأن الوفود في جنيف ستفشل في التوصل إلى حل نهائي.
وعليه تخلص مجموعة خبراء متابعين إلى أن الكلام عن «تقسيمات سورية معينة» ليست بعيدة من منطق الأمور، وربما يحتاج الوضع إلى المزيد من التدهور ليتأكد لمختلف الأطراف أن إعادة تجميع الخريطة السورية في جغرافية واحدة ستكون من المستحيل! الأمر الذي يطرح موضوع... التقسيم في شكل تلقائي.
وبعد...
أولاً: إن التصعيد الكبير والخطير الذي شهدته مجموعة جبهات في طول الخارطة السورية وعرضها، أعطى الانطباع وكأن المواجهات الميدانية واللوجستية لم تعد تقتصر على عمليات الكر والفر، بل إن المعارك الأخيرة وبخاصة في حلب وريفها مؤشر إلى التركيز على «حسم عسكري ما».
ثانياً: يتزامن هذا التصعيد مع الموقف الأخير للأسد، في معرض رسالته إلى بوتين، والذي تضمن الإصرار على متابعة المواجهات العسكرية «حتى النصر الأخير». وهذه التهديدات لا تطلق جزافاً، وهي تعطي موسكو الحجة للظهور بمظهر «الضاغط» عليه للأخذ ببعض الاعتبار إجواء الهدنة والغايات الإنسانية!
ثالثاً: إن سورية اليوم مع توزع انتشار المقاتلين من كل حدب وصوب فيها وعبر صيغة «كونية»، هي ولا شك مقسمة... ولا يغير الكثير من هذا الموقف التقسيمي أي كلام عن عدم وجود مخطط للتقسيم، فمثل هذا لا يصدر بقرار بل هو أمر واقع يتكرّس في ضوء عمليات الفرز السكاني المذهبي والطائفي والعرقي المنتشر. ولذا لا يجدي نفعاً ترداد الكلام وفي شكل ببغائي حول رفض تقسيم سورية، لأنه لا يعني فعلا عدم وقوعه.
رابعاً: من مفارقات الحرب السورية ملاحظة الرابط الوثيق بين عمليات التدمير الممنهج وحالة التنافس الحادة القائمة حالياً حول إعادة بناء سورية - بعد إنهاء الحرب، والتي قدّر بعض الخبراء تكاليفها بأنها تتخطى مبلغ الثلاثمئة بليون دولار أميركي في المراحل الأولى لإعادة البناء.
خامساً: إن ارتدادات الزلزال السوري لا تزال تشكل الخطر الكبير، ليس في أرض المعارك بل في دول الجوار للحرب المستعرة وفي طليعتها لبنان، التي تتأثر نتيجة تواصل التصعيد العسكري في سورية.
وقى الله لبنان من الداعشيين والنصراويين ومن لفّ لفّهم، وفي المناسبة لا يمكن لبنان أن يبقى معتصماً بـ «النأي بالذات» لدرء الأخطار المستعرة من حوله.
بين «ذكاء» القيصر المعاصر فلاديمير بوتين وتخبّط المغادر باراك أوباما إلى درجة الغباء تحت شعار «التذاكي»، يتوقف مصير المنطقة على صعيد التلاعب والتحكّم بقدر شعوبها في المستقبل.
إن الأجواء البركانية السائدة تمثل أخطاراً بالغة الجدية، منها ما في الحسبان ومنها ما ليس في الحسبان.
وفي الكلام الأخير، تعبير جديد دخل على مفردات التداول في المنطقة وهو «الإيرانوفوبيا» بقلم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي.
يُعتبَر فيلم «من أجل إنقاذ الجندي رايان» من أهم الإنجازات الفنية التي قدمها المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ. وفي مشهد من الفيلم، تركز الكاميرا على عائلة اكتشفها الجنود الأميركيون، وهي عالقة داخل شقة دُمِّرَت كل جدرانها الخارجية. وحيال هذا المأزق الخطر، اضطرَّ الأب لأن يرمي ابنته من علو شاهق على أمل بأن تتلقفها أيدي الجنود الممدودة بغرض الإسعاف والإنقاذ.
هذا المشهد الدرامي الذي اختاره المخرج سبيلبرغ للتدليل على قسوة الحرب ووحشيتها، ظهر في أحداث حلب كصورة فريدة نشرتها الصحف على صدر صفحاتها. ولقد تكرر هذا المشهد المؤثر عقب الغارات الجوية المكثفة التي شنتها طائرات النظام السوري ضد مناطق المعارضة حيث يقيم نحو مئتي ألف مواطن.
وكان من المنطقي أن يُتَّهَم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باتخاذ قرار التصعيد رداً على موقف المعارضة في محادثات جنيف. مثلما كان من الطبيعي أيضاً، أن يبادر الرئيس بشار الأسد الى الاستجابة لقرار يبقيه في الحكم بعد حرب أهلية دخلت عامها السادس وقُتِلَ فيها أكثر من 270 ألف نسمة.
لهذا السبب أحرِقَ العلم الروسي في عواصم عربية عدة، وأطلق المتظاهرون في إسطنبول هتافات مناهضة لروسيا وإيران والولايات المتحدة.
وعلى رغم تظاهر النظام السوري بالموافقة على وقف إطلاق النار، فإن تعطيل الخدمات المدنية في حلب يعطي الانطباع بأن الأسد يستهدف تهريب كل المواطنين الموجودين في الأحياء النائية. كل هذا بهدف السيطرة الكاملة على مواقع الثوار. لأنه في حال تحقيق السيطرة العسكرية على شمال حلب، فإن تجمعات الطائفة العلوية حول اللاذقية وطرطوس تصبح في مأمن، من جهتي الشمال والغرب.
وعلى رغم التعقيدات السياسية التي اكتشفها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، فهو يحرص على ضرورة تطبيق وقف إطلاق النار الذي وُقِّعَ في نهاية شباط (فبراير) الماضي. لذلك ناشد الرئيس بوتين بأن يمارس ضغوطه على الرئيس السوري، لاقتناعه بأن مفتاح الأزمة موجود في جيب الرئيس الروسي.
وفي هذا السياق، يتساءل المبعوث الدولي عن المكاسب التي يجنيها بوتين من وراء محاصرة حلب، وإخضاع المعارضة لشروطه.
الجنرال سيرغي كورالينكو، المسؤول عن المركز الروسي لمراقبة وقف إطلاق النار، يدّعي أن نظام التهدئة في اللاذقية وحول دمشق مطبَّق الى أبعد الحدود. في حين يتعرض هذا النظام للخلل بسبب تفكك صفوف المعارضة، وإصرار ممثليها على إنهاء سيطرة الأسد قبل تشكيل حكومة موقتة. ومثل هذا الشرط يخدم روسيا وإيران، اللتين تستفيدان من المماطلة لاستئناف القتال، وإنما على نار هادئة.
الثابت من مراجعة بيانات التطمين التي حصل عليها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أن توقعات بوتين لم تكن صحيحة. والسبب أنه أراد ممارسة ضغوط عسكرية على القوى المعارضة في سورية لا تقل عن الضغوط التي مارستها موسكو على معارضي الشيشان. وبما أنه نجح مع الرئيس بوريس يلتسن، في تطويع غروزني، وتثبيت حكومة تابعة لمشيئة روسيا، فقد تصور أنه بمقدوره تطويع التنظيمات الجهادية في سورية، بالطريقة ذاتها.
وقد استخدم بوتين، من أجل تحقيق هذا الهدف، أسلوب العنف الذي استخدمه هنري كيسنجر في فيتنام وكمبوديا عندما كان مساعدوه يتفاوضون على مشاريع السلام. وهذا ما فعله بوتين الذي شدَّد الحصار على حلب، وسمح لطيران النظام السوري بالتعاون مع طيرانه، بقصف المستشفيات والمنشآت الصحية، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة إلى الاحتجاج والاستنكار.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في كانون الأول (ديسمبر) 1991، طالبت الشيشان وتتارستان بالاستقلال داخل روسيا الاتحادية. واعتُبِرَت تلك الخطوة بمثابة حرب مفتوحة قادها الرئيس بوريس يلتسن سنة 1993، أي حينما أعلنت الشيشان الاستقلال الكامل عن موسكو في إطار جمهورية الشيشان.
وعقب نزاع عنيف سقط خلاله مئات القتلى من الفريقين، قررت موسكو تجاهل الرأي العام والمنظمات الإنسانية، مستخدمة المدفعية الثقيلة والدبابات والصواريخ والطائرات والأسلحة المحرَّمة كالقنابل الحارقة والأسلحة الكيماوية. واستمرت المعارك سنة كاملة ركزت فيها موسكو اهتمامها على اقتحام غروزني بعد محاصرتها. وجاء في الوصف الذي أطلقته الأمم المتحدة عليها، بأنها المدينة الأكثر دماراً على وجه الأرض، إذ بلغت نسبة الخراب 95 في المئة، تماماً كالخراب الذي أحدثته قنبلة هيروشيما.
ويُستدَل من الغارات الأخيرة أن بوتين يطمح إلى نقل هذا النموذج من غروزني إلى حلب، على أمل بأن تستسلم القوى المعارضة من دون قيد أو شرط.
ولكن المقارنة في هذا المجال ليست صحيحة، لأن الدول الكبرى تخلت عن دعم الشيشان في كفاحها الطويل، الأمر الذي ساعد موسكو على إخضاعها بعد تدميرها بواسطة البراميل المتفجرة التي ابتكرها الجيش الروسي خصيصاً لحرب الاستنزاف. وقد تلقى الجيش السوري النظامي كميات كبيرة منها قام باستخدامها في حماه وحمص وحلب. وسجلت الصحف حصيلة القتلى في الشيشان، بأكثر من ثلاثمئة ألف مواطن، ما يشكل حوالى ربع السكان.
الأمم المتحدة لا ترى في الحرب الأهلية السورية قضية معزولة كالشيشان. وإنما هي قضية متعددة الأبعاد تخص تركيا وإيران والسعودية وقطر والولايات المتحدة. كما تخص لبنان (مليون ونصف المليون لاجىء سوري) وتركيا (2.7 مليون لاجىء سوري) والأردن (مليون ومئتا ألف لاجىء سوري) وألمانيا (أكثر من مليون لاجىء سوري).
يوم الأربعاء الماضي عقد مجلس الجامعة العربية جلسة طارئة لبحث الأوضاع المتدهورة في مدينة حلب، إثر الغارات الجوية التي شنها النظام. وطالب الأمين العام نبيل العربي بضرورة تثبيت الهدنة، ووقف الأعمال العدائية، وإتاحة الفرصة لوصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصَرة.
ويرى المراقبون أن ازدياد عمليات القصف الجوي كان بسبب فشل الجولة الثالثة من محادثات جنيف، وإهمال الدعم السياسي الذي تطالب به المعارضة. وربما توقع وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أن تنجح الغارات المتواصلة في إنهاك المقاومة المحلية قبل الاتفاق على توسيع الهدنة لتشمل مدينة حلب وريفها.
ومع أن موسكو وعدت المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بالضغط على بشار الأسد كي يوقف الغارات الجوية، إلا أن هذا الوعد لم يتحقق بسبب اقتناع بوتين بأن النظام يحارب الإرهابيين ويدافع عن الشرعية. وهو يلتقي في هذا التصور مع المرشد الإيراني علي خامنئي الذي أعلن عن استمرار تأييد نظام الأسد، وتعزيز موقف «حزب الله» بحيث يبقى القوة الفاعلة في لبنان.
وبعد انكفاء الرئيس الأميركي باراك أوباما عن ساحة التدخل في الشرق الأوسط، تحوّل وزير الخارجية جون كيري إلى دمية استعراضية غير مؤثرة. لذلك قوبلت دعوته بضرورة تنحّي بشار الأسد عن منصب الرئاسة بكثير من الإهمال والاستخفاف. خصوصاً أن قيادات المعارضة السورية غير مطمئنة إلى دعم واشنطن التي حصرت اهتمامها بمحاربة «داعش» وليس بمحاربة الأسد.
والثابت أن سورية ليست وحدها الجبهة الوحيدة في المنطقة التي تعرقل تدخل الولايات المتحدة. فالأزمة الخطيرة في بغداد تنبىء عن تعزيز الخلاف بين حيدر العبادي وسلفه في رئاسة الوزارة نوري المالكي. خصوصاً بعدما تحدّاهما أنصار مقتدى الصدر داخل المنطقة الخضراء، الأمر الذي شجع إيران على التدخل خوفاً من استغلال العناصر السنيّة لمصلحة «داعش». لذلك قام أمين عام مجلس الأمن الإيراني علي شمخاني باستدعاء مقتدى الصدر إلى طهران، وتأنيبه على التظاهرات التي أضعفت نفوذ النظام الذي تحميه طهران.
يقول المراسلون الأجانب في ريف حلب إن الهدنة المتوخاة يمكن أن تعزل «داعش» وتبعده عن ساحة القتال. ولكنها في الوقت ذاته تمنع روسيا من تحقيق نصر كامل يمهِّد طريق الوحدة الوطنية أمام بشار الأسد. ومثل هذا الإخفاق يمكن أن يفتح صندوق «باندورا» أمام الدول المعنية بمستقبل سورية ومصير النظام. ويرجَّح أن يصر الأسد على الاحتفاظ بدمشق. ويترتب على احتفاظه بالعاصمة نقل عدد كبير من السنّة إلى تركيا. ومعنى هذا أن سورية لن تعود إلى حدود ما قبل الحرب في دولة موحدة. ولمّح الوزير جون كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ إلى أن التقسيم قد يكون ضمن الخطة (ب) في حال أخفقت المفاوضات السياسية وأجهضت عمليات وقف إطلاق النار في كل المحافظات. وهذا ما دعا موسكو إلى اعتماد الحل الفيديرالي. وهو حلٌ ناقص يترتب عليه المزيد من عمليات النزوح الداخلي وفق التوزيع المذهبي.
ويتوقع المراقبون حصول التقسيم إذا كانت سورية ستبدل طبيعة نظامها. وهذا ما حصل بعد الحرب بين الكوريتَيْن، الشمالية والجنوبية. كما حدث بين الهند وباكستان، بعدما أدى التقسيم إلى قطيعة سكانية ضخمة وعداوة عميقة بين الشعبين. وبسبب وجود قائد فذ في فيتنام (1954) مثل الجنرال «جياب» فقد عمل على إعادة توحيد شطري البلاد. بعكس قبرص التي تفصل قوات الأمم المتحدة بين شطريها اليوناني والتركي. كذلك أدى تقسيم البوسنة في اتفاق «دايتون» إلى إنهاء حرب عنيفة بين الصرب الأرثوذكس والبوسنيين المسلمين والكروات الكاثوليك.
ولكن رعاية هذه التقسيمات تمت تحت مظلة الاتحاد الأوروبي الذي قوَّض مكانة السيادة الوطنية. بينما الوضع في سورية يفتقر إلى هذه المظلة، لأن روسيا وحدها غير مهيأة للعب هذا الدور، ولو كان ذلك بالتعاون مع الأمم المتحدة أو الجامعة العربية.
الوزير لافروف يبرّر لرئيسه فكرة التدخل في سورية لإنقاذ حليف قديم في مواجهة قوى المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي. واقتضت هذه الخطوة العسكرية منع التدخل الغربي من إنشاء مناطق حظر جوي أو ملاذات إنسانية آمنة. وكان من الطبيعي أن يؤدي تدخل روسيا إلى رجحان كفة الأسد في جزء كبير من غرب سورية. مثلما أدى الى إضعاف قوى المعارضة المعتدلة وتخفيف أثرها العسكري.
حقيقة الأمر أن بوتين استطاع أن ينهي عزلته الديبلوماسية الناجمة عن أزمة أوكرانيا. كما ملأ في الوقت ذاته الفراغ السياسي التي تركه أوباما في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الشهر الماضي، اشترت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كنائس عدة في لبنان بغرض ترميمها وإعادة استخدامها. ومثل هذا المؤشر البارز يؤكد عودة النفوذ الروسي الذي أهمله الحزب الشيوعي مدة سبعين سنة تقريباً.
أصبحت حلب مفترق طريق لمستقبل سورية. باتت المعركة على حلب مصيرية لطرفي الحكم والمعارضة ورئيسة في اعتبارات اللاعبين الإقليميين والدوليين، العسكرية منها والجغرافية - السياسية، بغض النظر عما إذا اتفقت الدول الفاعلة، بالذات روسيا والولايات المتحدة، على هدنة أو وقف النار الآن، فإن محور روسيا - ايران - دمشق - «حزب الله» عازم على حسم المعركة عسكرياً لمصلحته عاجلاً أم آجلاً، لأنه يريد إملاء ما يريده على المعارضة السورية بعد دفعها إلى الاستسلام عبر بوابة حلب. قد تبدي موسكو مرونةً هنا وهناك حرصاً على الإمساك بخيوط اللعبة مع إدارة باراك أوباما، وذلك إما للحصول على مزيد من التنازلات الاستراتيجية مقابل «اللاإحراج» لواشنطن في سورية، أو لإخماد أي اندفاع أميركي - تركي - خليجي باتجاه زخم جدي في تسليح نوعي للمعارضة السورية المعتدلة. حذاقة موسكو الممزوجة بالحنكة الإيرانية تضع في الحسابات كيفية ونوعية وتوقيت تفكيك المعارضة السورية بتفاهم مع إدارة أوباما ووزير خارجيتها جون كيري الذي بات أداة رئيسة لموقع إبرة بوصلة التفاهمات حول سورية وما يتعداها. وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي بات محرّكاً للبوصلة وإبرتها يسعى اليوم إلى فرض الأمر الواقع على أكثر من محطة في المأساة السورية، بدءاً بشروط إدراج حلب في جغرافية رقعة الهدنة والتهدئة، وصولاً إلى نوعية «الانتقالية» في الحكم في سورية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُلهي نفسه بالجبهات الاستراتيجية وترابطها بتوقيتات ذات معنى ومغزى، وعينه دائماً ثابتة على الولايات المتحدة حيث «اللاخصم» باراك أوباما سيُستبدل قريباً إما بـ «اللاصديق» هيلاري كلينتون من الحزب الديموقراطي أو بالجمهوري «اللاخصم اللاصديق» دونالد ترامب الذي يعي بوتين أن غزله معه موقتٌ. وفي أثناء التموضع الدولي والإقليمي، ليس مصادفة ربما تزامن التصعيد والمواجهة في حلب مع انحسار التقدم في المفاوضات اليمنية الجارية في الكويت بين الحكومة والحوثيين ومع اندلاع الفوضى المرعبة في العراق التي استدعت من واشنطن تجديد دعمها لرئيس الحكومة حيدر العبادي.
ثورة أنصار مقتدى الصدر في العراق ما لبثت أن انضوت تحت لواء زيارته إيران ورافقها غسل الأيادي من شعارات «مندسّين» هتفوا ضد الراعي النافذ «إيران برّا برّا»، قبل أن يقتحموا المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان لربما برسالة «أين أنا؟». أدى ذلك إلى اندفاع واشنطن لتأكيد دعمها لحيدر العبادي بتزامن مع إنذار طهران ألا يجرؤنّ أحدٌ على المس بالصيغة التي ارتأتها للحكم في بغداد، لا سيما أنها منشغلة برسم صيغة حكم تريدها وتصرّ عليها في دمشق. هاتان العاصمتان أساسيتان في الطموحات الإقليمية لطهران. وواشنطن لا تعارض تلك الطموحات، ذلك أنها فعلياً توافق السياسة الإيرانية في العراق، ولا تعارضها في سورية عملياً عبر سكوتها الرهيب مثلاً على إعلان طهران أن لواء من الجيش الإيراني يقاتل لمصلحة النظام في سورية وصمتها المرعب على صناعة الميليشيات التي يديرها قاسم سليماني المدرج على قائمة العقوبات الأميركية.
في العراق، وعلى صعيد ردود الفعل على ثورة الصدر، تبدو الدول الخليجية في توافق مع ردود الفعل الأميركية دعماً للعبادي في وجه الفوضى واقتحام البرلمان.
الأمر مختلف تماماً في سورية حيث إن إيران على ثقة تامة بأنها منتصرة ليس فقط عبر معركة حلب، وإنما في كامل المعركة على سورية بشراكة واضحة مع روسيا وضمنية مع الولايات المتحدة. فواشنطن وضعت الحرب على «داعش» عنواناً لها هناك، وسارت في الخطى التي رسمها المحور الموالي للنظام في دمشق باختزاله المسألة السورية في حرب على الإرهاب.
الآن، أمام الدول الخليجية أن تتخذ القرار الحاسم في المعركة الحاسمة على حلب. بعضهم يعتقد أنه فات أوان تأهيل المعارضة السورية المعتدلة عسكرياً، بما يمكّنها من قلب الموازين ميدانياً. وآخرون يصرّون على أن تسليح هذه المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات السورية - وليس الطائرات الروسية التي تحلق على ارتفاعات لا تطاولها هذه الصواريخ - سيؤدي إلى تعديل ضروري للمعادلة العسكرية الميدانية وسيمنع المحور الموالي لبشار الأسد من تحقيق الإنجازات التي يرمي إليها.
أصحاب هذا الرأي ينادون بعدم انتظار المباركة أو الفيتو الأميركيين ويشيرون إلى صواريخ صينية مكدّسة في المستودعات جاهزة للتصدير رهن القرار السياسي. يقولون أن أي تلكؤ سيؤدي إلى هلاك المعارضة السورية كلياً، عسكرياً ومعنوياً وسياسياً، بعد سقوط حلب في أيادي النظام. يقولون أن خسارة المعارضة في حلب ستؤدي إلى خسارة في اليمن. من يقولون ذلك خليجيون، يعتبرون سورية الفيصل في مستقبل العلاقات مع إيران.
آخرون في منطقة الخليج يراهنون على إيقاف واشنطن مسيرة موسكو وطهران إلى سورية عبر حلب. يعتقدون بأن واشنطن جاهزة لتسليح المعارضة السورية المعتدلة فور وضوح السياسة الروسية العازمة في الصميم على عدم السماح بأن يخسر النظام في دمشق امتلاك آخر المدن الكبرى، ففي حلب يبدأ الانهزام التام للمعارضة الذي يليه الاستسلام. ويرون أن واشنطن لن تسمح بذلك، أقلّه لأنها لا تريد أن تفقد السيطرة أو السلطة على القرارات الخليجية أو التركية التي ستؤثر جذرياً في العلاقة الأميركية - الروسية.
روسيا تقول للولايات المتحدة أنها لا تعتبر بشار الأسد حليفها، وإنما تدعمه لمحاربة الإرهاب وهي تراهن على تلك الأولوية لدى إدارة أوباما، فيما تلمّح إلى أن العلاقة بين موسكو ودمشق اليوم ليست تحالفية كتلك التي بين واشنطن وأنقرة. والقصد من ذلك هو الإيحاء بأن موسكو تفهم مقاييس نفوذها ونفوذ واشنطن مع كل من دمشق وأنقرة، ومقاييس الالتزامات مع الحكم في البلدين. إنها تحاول أن تطمئن إلى أن تصعيدها مع تركيا له حدود يمكن الولايات المتحدة أن تضبطها بحكم علاقة التحالف معها في حلف شمال الأطلسي. فموسكو تحاول أن تصعّد ضمن ضوابط عدم التورط المباشر مع تركيا، تجنّباً لأزمة مع حلف شمال الأطلسي. وهي تطالب واشنطن بأن تسيطر على حليفها في أنقرة، مقابل ممارستها نفوذها مع «اللاحليف» لها في دمشق. أن تطالب بإغلاق الحدود التركية - السورية في إطار التفاهم على التهدئة في حلب، فإن ذلك منطقي من وجهة النظر الروسية.
المطلب الآخر لروسيا هو الفصل بين المعارضة التي تصف نفسها بأنها معتدلة على نسق «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» وبين «جبهة النصرة» التي صنّفها قرار مجلس الأمن بأنها «إرهابية». سيرغي لافروف طالب بانسحاب القوات «التي تصف نفسها بأنها معتدلة» من مناطق «جبهة النصرة» وإعلان «انفصال تام عن الإرهاب»، ودعا إلى إغلاق الحدود التركية - السورية التي اعتبرها أهم قنوات دعم الإرهابيين. بذلك الطرح، كان لافروف يدعو واشنطن إلى أمرين: أولاً، حسم المعركة من حلب «ضد الإرهاب» بما ينطوي على انتحار شق المعارضة المعتدلة التي لن تتمكن بعد معركة حلب من خوض أي معركة عسكرية. وثانياً، كان لافروف يدعو كيري إلى إضعاف المعارضة العسكرية المعتدلة لدرجة إخضاع العناصر العسكرية فيها للالتحاق بالجيش السوري، ليس على أساس مطالبها، وإنما على أسس اضطرارها. تلك هي عملية التوازن في الجيش التي تريدها موسكو تحت عنوان أولوية مؤسسات النظام.
فموسكو ليست في وارد الكشف عن تفاصيل التزاماتها مع بشار الأسد أو عن مشاريعها لإحياء النظام السوري بتعديلات لا تشمل بقاء الأسد. إنها تترك ذلك للتخمينات. الواضح من مواقفها أنها دفنت مبادئ إعلان جنيف القائم على إنشاء هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. بات ذلك خبر كان في استراتيجيتها السورية. والأرجح أن الأمم المتحدة لن تخوض تلك المعركة ضد موسكو، طالما أن واشنطن غير جاهزة لها، بل غير راغبة فيها.
واشنطن أوباما لن تتورط في سورية بغض النظر عن تهديد وإنذار وتوعد كيري بخطة «باء»، فتلك الخطة ستبقى في الأدراج طالما الثنائي لافروف - كيري يتفاهم. وسيتفاهم. لربما يُؤجل الحسم في معركة حلب إلى حين احتواء الغضب من استهداف المستشفيات، ومما تخلّفه يوميات سورية من لاجئين يطرقون الأبواب الأوروبية. ولربما وصل موسكو كلامٌ من الدول الأوروبية بأن تصعيدها مع تركيا لا يناسب تلك الدول التي تتلقى اللاجئين إليها. ولربما تكون هناك تهدئة في ضوء الوصاية الأميركية - الروسية العسكرية للتفاهمات حول سورية وفي ضوء ضم حلب إلى فكرة التهدئة.
لكن هذه قرارات حرب وقرارات حسم مؤجلة وليست قاطعة. فحلب مفترق طريق مستقبل سورية. والطريق إلى المفترق مُشبع بالمآسي وبالدماء ولفترة غير قصيرة.
لنفترض جدلاً أن الذين أرادوا أن يعكسوا حركة الدومينو، ويقلبوا الثورات في الاتجاه المعاكس، كما توعد بشار الأسد في بداية الثورة، لنفترض أنهم نجحوا في إفشال الثورات وتحويلها وبالاً على الشعوب. لكن هل هؤلاء المتآمرون من الطواغيت والانقلابيين والعرب والغرب والدول الإقليمية: هل هم في وضع أفضل الآن بعد نجاحهم المزعوم في إحباط الثورات؟ بالطبع لا. إنهم في وضع أسوأ بكثير. ومن كان يعتقد أن العملية بسيطة وسهلة، وأن الشعوب ستعود إلى زريبة الطاعة كان مخطئاً من رأسه حتى أخمص قدميه. ومن كان يعتقد أنه يستطيع إعادة تأهيل الشعوب بالعصا الأمنية نسي شيئاً مهماً جداً، وهو أن الذي يريد أن يزرب الحيوانات في الحظيرة لا بد أن يكون قادراً على توفير العلف والعليق لها على أقل تقدير. وإلا فإن حتى الكلاب الجائعة يمكن أن تأكل أصحابها. ليس صحيحاً أن تجويع الكلاب يمكن أن يحميك من شرها. لا أبداً، فالمثل يمكن أن يكون معكوساً. بدل أن تقول: «جوّع كلبك يتبعك»، يمكن أن تقول أيضاً:» جوّع كلبك يأكلك».
لا يكفي أبداً أن تكون قادراً على استخدام العصا الأمنية والعسكرية في وجه الشعوب. هل لديك ما يُسكت جوع الشعوب؟ صحيح أنك تستطيع ترويض الوحوش بقطعة لحم. لكن هل لديك لحم؟ هل تستطيع أن تؤمن أبسط متطلبات الناس كي تجعلهم ينسون الثورات، ويطالبون بالاستقرار والسلام والانصياع للقيادة «الحكيمة»؟ بإمكانكم أن تعيدوا الشعوب إلى بيت الطاعة لفترة، لكنها ستطالب بقوتها لاحقاً، وستعود وتنفجر في وجوهكم ثانية، ليس فقط من أجل لقمة عيشها، بل أيضاً لأننا نعيش في زمن التواصل الاجتماعي الذي لم تعد تقبل فيه الشعوب فقط بالعلف، بل رأت كيف تعيش الشعوب الأخرى، ولا شك أنها ستطالب أيضاً بحريتها وإنسانيتها التي صادرتموها منذ عقود.
يا أصحاب الثورات المضادة: لن تفلحوا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لا في مصر ولا في تونس ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا في سوريا. الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة ستحرق الأخضر واليابس مهما توحش كلاب الأمن والجيوش اللاوطنية ضد شعوبها. ومن يراهن على الوصفة الجزائرية التي يقترحها الرئيس الجزائري الخارج من القبر بكفالة لسوريا وغيرها، فهو واهم. فالمشلول لا يمكن أن يساعد المنكوب.
تستطيع روسيا أن تحمي النظام السوري من المعارضة لفترة عسكرياً. لكنها لا تستطيع أن تحميه من الشعب فيما بعد، لأن هناك استحقاقات كثيرة لا يستطيع النظام الوفاء بها. وروسيا تعلم جيداً أن كل اسلحة الاتحاد السوفييتي لم تستطع حماية البلاد عندما جاع الشعب وانتفض. بعبارة أخرى القوة لا تحقق الاستقرار لا في روسيا ولا في سوريا. وحتى المساعدات الخارجية لا يمكن أن تحمي مصر أو غيرها. هل نجحت مليارات المساعدات أن تحمي مصر؟ أم إن الأوضاع في البلاد تغلي من جديد لأنه لم يتغير شيء على الأرض، لا بل زادت الأوضاع الحقوقية والاقتصادية سوءاً. وحتى تونس التي اجتازت الثورة بأقل الخسائر أصبحت على كف عفريت بسبب الثورة المضادة.
أيها الطواغيت العرب يا من تحاولون إعادة الشعوب إلى تحت نعالكم الأمنية والعسكرية: حتى أسيادكم وحماتكم في الغرب باتوا يخشون من تبعات الثورات العربية وحركاتكم الانقلابية على أحلام الشعوب. هل سمعتم ما قاله وزير الخارجية البريطاني الأسبق وليام هيغ قبل أيام فقط؟ لقد قال حرفياً إن الفوضى والاضطرابات الرهيبة في الشرق الأوسط مازالت في بدايتها، وهي مرشحة لمزيد من التدهور. لماذا؟ لأن كل الظروف التي أدت إلى الثورات مازالت موجودة. ويذكر الوزير في مقال له نشرته صحيفة «التليغراف» البريطانية، تحت عنوان «لا نستطيع تجاهل الفوضى بالشرق الأوسط»، أن عدة عوامل ستؤجج الفوضى مثل تزايد الكراهية الدينية والانهيار الاقتصادي وزيادة نسبة الشباب وصغار السن في هذه المجتمعات، علاوة على ضعف الحكومات وفسادها. ورأى هيغ أنه إذا أضفنا إلى ذلك عدم الاستقرار الموجود في أغلب بلدان القارة الإفريقية، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى زيادة موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. بعبارة أخرى، حتى الغرب بدأ يحصد ثمرة سياساته الكارثية ودعمه للديكتاتوريات في العالم الثالث. إنه مرعوب الآن من موجات الهجرة الرهيبة التي ترهب أوروبا. هل تعلمون أيضاً أن أزمة اللاجئين على وشك أن تفكك الاتحاد الأوروبي والقضاء على اتفاقية شينيغن؟
أما العرب الذين تآمروا على الثورات فمخطئون إذا اعتقدوا أنهم نجحوا في تخريبها. ها هم الآن يحصدون نتيجة تآمرهم ضد الشعوب في مصر واليمن وسوريا وليبيا والعراق. إن إحباط ثورات الشعوب الأخرى لا يمكن أن يحميكم من شعوبكم. لن يبق أحد بمنأى عن تداعيات الثورات العربية في البلدان الأخرى. ها أنتم أيها العرب الآخرون تتورطون في صراعات البلدان التي ثارت شئتم أم أبيتم. ها أنتم تستنزفون خزائنكم في شراء السلاح لحماية أنفسكم من تبعات التطورات في المحيط العربي. ومن كان بيته من زجاج فلا يرمي بيوت الآخرين بالحجارة. كان من الأفضل لكم أن تقفوا مع أحلام الشعوب الأخرى، بدل الخوف من ثوراتها. إذا كان جارك بخير فأنت بخير. والمثل الشعبي يقول: إذا حلق جارك بل ذقنك.
" ما عاد بدنا حل يا كل السجن يطلع يا مستحيل ..." قد تظن للوهلة الأولى أن لديهم سلاح ودبابات وقوات مساندة و خط امداد مفتوح ولامحدود، بينما الواقع هم عبارة عن معتقلين لا يملكون من الحول و القوة إلا ايمان عميق بأنهم أصحاب حق، و قادرين على مواجهة كل شيء ممكن أن يتخيله عقل، بأجساد عارية و مرهقة من الاعتقال و السجن، و بأرواح منهكة من انتظار الموت البطيء أو الإعدام الميداني أو النسيان في الزنازين.
في اضراب سجن حماه الحالي، تظهر روح الثورة بأجلى صورها و أكثرها وضوحاً، و تعيدنا إلى النشأة الأولى عندما خرجنا عراة الصدور أمام الرصاص والنار، محاطين بالمعتقلات و السجون، وشبح الموت جاثم على كل ذرة هواء أو تراب تلاصق أجسادنا، و رغم ذلك أصرينا و تابعنا و واصلنا.
و يتابع المعتقلين ارسال رسائلهم، و يمدوننا بمزيد من الإصرار لمتابعة المشوار، و فك القيود عن معاصمهم، و خذلانهم اليوم هو خذلان أخير للثورة السورية الطاهرة الأبية، التي عانت و تعاني و ستعاني من الخذلان و النكران و التهميش، و الأهم التلوين بأشنع الأقذار بغية نفيها و مقاتلتها علناً، بعد أن أضناهم القتال الخفي، الذي باء بالفشل طوال السنوات الماضية.
عشرات الصور و التسجيلات و الرسائل الصوتية و المكتوبة التي وجدت طريقاً لها للوصول إلى من هم بالخارج، تستنجد بالجميع علها تجد صوت، لحنجرتهم المجروحة و المخنوقة من شدة الظلم و الظلام الذي عاشوه، دون أن يجدو من يدافع عنهم أو يتمكن من تخفيف سياط واحد من الآلاف التي تنهال عليهم.
بضع رشقات من الصواريخ على خزانات النظام البشرية، كانت كافية اليوم لإيقاف الحملة التي بدأت مساء وانتهت بإصابات وحالات اختناق، لكنها لن تكون الأخير، وفق ما ينقله لنا المعتقلين.
الانتظار و التكلم عن تحرك دولي أو انساني من أي أحد، هو مخاطرة كبيرة، و عبث إضافي بأرواح من هم لو كانوا بالخارج لفدوا السوريين بأرواحهم، فالنار بالنار، و الموت بالموت.
و لعل استخدام مشايخ السلطان كوسيط في هكذا مفاوضات، هو دليل على وجود خطة قذرة يراد تنفيذها، و لذا جاء رد المعتقلين، الذين صعدوا من مطالبهم المحقة، ووصلوا إلى حقهم الكامل بالخروج الجماعي للجميع دون استثناء لأحد، أو يبقون جميعاً يواجهون الموت بلا أي درع أو حماية، و هو درس إضافي يمنحنا إياه المعتقلون في الايثار و التوحد و العمل كيد واحدة، فيما عجزنا و نحن نجلس على وثير الفراش الاتفاق على نسق واحد في المساندة الإعلامية.
للمرة الأولى يتحدث مسؤول من كردستان العراق عما كان قاله العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل أكثر من عشرة أعوام، وهو أن إيران تسعى لإقامة قوس أو هلال عنوانه شيعي وحقيقته فارسية، يبدأ طرفه الأول باليمن وينتهي طرفه الثاني بالجنوب اللبناني، مرورًا بدول الخليج العربي والعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان. وحقيقة أنه لولا «عاصفة الحزم» التي اتخذ قرارها الشجاع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتم إنجاز الجزء الأكبر من هذا الهلال الذي هدفه استعادة ما يعتبره هذا النظام الإيراني: «أمجاد فارس القديمة»، والذي لا علاقة له بتاتًا لا بالتشيع ولا بالطائفة الشيعية الكريمة، خاصة أتباعها من العرب الذين يعودون بأصولهم إلى أبطال ذي قار والقادسية.
اعتبر هذا المسؤول (العسكري) من قوات «البيشمركة» الكردية أن زج إيران بوحدات عسكرية نظامية، إلى جانب فيلق القدس وحراس الثورة والحشد الشعبي الذي يقوده هادي العامري، وبعض التنظيمات المذهبية الأخرى التي من بينها ما يسمى: «عصائب الحق»، في معركة طوز خورماتو هدفه أن تكون القفزة الأخرى في اتجاه إقليم كردستان - العراق لاستكمال هذا الهلال العسكري – الديموغرافي الذي استكمل الإيرانيون بعض أجزائه الرئيسية والأساسية بإحراز كل هذا التمدد الاحتلالي في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان أيضًا، من خلال حزب الله الذي كان زعيمه حسن نصر الله قد أعلن بأنه «يفتخر» بأنه جندي في فيلق الولي الفقيه.
وهنا، فربما أن كثيرين لا يعرفون أن بدايات محاولات إيران إنشاء ممر عسكري «كاريدور» عبر إقليم كردستان – العراق يربط بينها وبين سوريا يعود لنحو منتصف تسعينات القرن الماضي، عندما رتب جلال الطالباني هجوما على مدينة أربيل مع الإيرانيين، شاركت فيه قطاعات عسكرية إيرانية «مُجوْقلة» تقدر بفرقة كاملة، لانتزاعها من قوات «البيشمركة» التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة مسعود البارزاني، نجل القائد التاريخي الملا مصطفى البارزاني، وزير دفاع أول دولة كردية، التي هي دولة «مهاباد» التي كانت نهايتها عاجلة، بعدما أطبقت عليها أضلاع المؤامرة الدولية في تلك الفترة المبكرة.
وكانت قوات مسعود البارزاني قد استعادت هذه المدينة (أربيل)، في بدايات تسعينات القرن الماضي، وبادرت إلى الربط بينها وبين مدينتي دهوك وزاخو على الحدود العراقية – التركية، وبعمق مُعتبر في اتجاه الشمال يصل إلى منطقة بارزان، ويلامس جبال قنديل الشهيرة، مع امتداد نحو الحدود الإيرانية يصل إلى حاج عمران التي كانت تشكل أحد مراكز الملا مصطفى البارزاني العسكرية الاستراتيجية، وهذا عنى بالنسبة للإيرانيين استحالة إنشاء الممر الأرضي الذي كانوا يسعون إليه منذ بدايات انتصارات الثورة الإيرانية في عام 1979، الذي يربط بين إيران وبين سوريا عسكريًا واقتصاديًا، والمعروف أن «القطر العربي السوري» كان قد انحاز إلى الدولة الخمينية، إلى جانب جماهيرية القذافي خلال حرب الثمانية أعوام العراقية - الإيرانية.
المهم أن مسعود البارزاني كان على رأس بعض وحداته العسكرية في منطقة جبل «حسن بيك» للانطلاق في اتجاه منطقة حرير على الطريق بين داهوك وأربيل، عندما تمكنت القوات الإيرانية الغازية من اقتحام هذه المدينة التاريخية والسيطرة عليها، ليس بتواطؤ من جلال الطالباني الذي كان يسيطر على مدينة السليمانية وفقط، بل ومشاركة عسكرية (وإنْ محدودة جدًا منه)، مما أكد أن الخطوة الثانية للإيرانيين ستكون الوصول إلى الحدود العراقية - السورية بالقرب من: «معبر إبراهيم»، وتحقيق الربط الأرضي بين إيران وسوريا.. هذا الهدف الذي لا يزال منشودًا حتى الآن، والذي يبدو أن طهران غدت تسعى لتحقيقه عبر منطقة طوز خورماتو في اتجاه شمال الموصل وصولاً إلى الأراضي السورية.
لقد كان مسعود البارزاني في تلك اللحظة التاريخية يواجه خيارات صعبة بالفعل، فأوضاعه العسكرية في كردستان العراق، التي كان قد عاد إليها توًّا ومعه مئات الألوف من أبناء شعبه الذين كانوا غادروا وطنهم بعد محرقة «حلبجة» الشهيرة وقبل ذلك، لم تكن قد استقرت بعد... وهكذا فقد كان عليه أمام كل هذه التحديات والتطورات الخطيرة إما أن يتراجع ويعود إلى خيار المنافي أو يستعين بصدام حسين وعلى أساس أن هذا هو «العدو» الذي ليس من صداقته بد وإن مؤقتًا فكان لا بدَّ مما لا بُدَّ منه بُدّ.
وهنا فإن الأمانة تقتضي الكشف عن حقيقة لا بد من الكشف عنها بعد كل هذه السنوات الطويلة وهي أن البارزاني قد أخذ بمشورة أهم قادة المعارضة السورية في ذلك الحين الذي كان معه في الميدان في تلك الظروف الخطيرة والصعبة، فتم إجراء اتصال هاتفي بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، لطلب المساعدة العسكرية من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لدحر الغزو العسكري الإيراني الذي كان هدفه، بعد احتلال أربيل، الوصول إلى الحدود السورية – العراقية وربط إيران برًا بسوريا وتحقيق ما كان هدفًا استراتيجيًا للإيرانيين منذ انتصار الثورة الخمينية... وحقيقة أن ما طلبه الزعيم الكردي قد تحقق على الفور وإن دحر القوات الإيرانية الغازية قد تم خلال ساعات قليلة وحيث عادت قطاعات الجيش العراقي إلى مواقعها السابقة تحاشيًا لأي ردات فعل إقليمية ودولية.
إن هذا هو ما حصل في أغسطس (آب) عام 1996، لكن الإيرانيين ظلوا يحاولون ويضغطون ويسعون لإنشاء ممرهم البري الآنف الذكر لكن مسعود البارزاني بقي يصر على رفض هذا الطلب التعجيزي أولاً لأن تحقيقه سيشكل انتهاكًا للسيادة الوطنية الكردية وثانيًا لأنه سيؤدي إلى إشكالات أمنية كثيرة وبخاصة مع تركيا وبعض الدول العربية التي لن تقبل بأن تحقق إيران كل هذا التمدد العسكري في هذه المنطقة التي ازداد استهداف طهران لها بعد انتصار الثورة الخمينية.
وهكذا فإن السؤال في النهاية هو: لماذا يا ترى تحاول إيران مد «كاريدورها» الأرضي هذا من طوز خورماتو في اتجاه سوريا مع أنها غدت تحتل العراق كله احتلالاً كاملاً باستثناء إقليم كردستان؟ والجواب هو: إنها لا يمكن أن تطمئن إلى المناطق التي أكثرية سكانها من العرب السنة، ولذلك فإنها قد لجأت إلى كل هذا التحشيد العسكري والمذهبي في هذه المنطقة العراقية الآنفة الذكر لتحقيق «كاريدورها» الأرضي هذا، وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذا الأمر أن جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد، كان قد شكل في سبعينات القرن الماضي ما سمي: «جمعية الرضا» بطلب من وكيل الإمام الخميني السابق في دمشق محمد حسن أختري لتحويل سكان الحدود السورية – العراقية السنة إلى المذهب العلوي الذي بات يرتبط طائفيًا بـ«قم» الإيرانية!!