يريد النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون وميليشياتهم تحقيق نصر عسكري كاسح وسريع قبل متابعة الجولة القادمة من المفاوضات كي يجعل المعارضة في موقف ضعيف تضطر فيه إلى قبول الفتات الذي يعرضه النظام وهو مجرد مشاركة شكلية في حكومة جديدة يشرك فيها بعض من يختارهم من المعارضة التي صنعها تعمية على المعارضة الوطنية، ويكسب من خلالها استعادة سيطرته على سوريا ليبدأ مرحلة جديدة هي الانتقام من الشعب الذي ثار عليه ويكفي أن يتركه لعقود طويلة قادمة نازحاً ومشرداً وملاحقاً، وتبقى مدنه وقراه مهدمة لسنين في مناطق سوريا غير المفيدة، وستكون سوريا المفيدة إذا حدث ذلك محمية إيرانية روسية لأن توقف إيران وروسيا عن دعم النظام ولو يوماً واحداً سيجعله في مهب رياح التغيير التي ستبقى هائجة مهما طال الأمد.
وكل المراقبين يعلمون أن الأسد لا يريد حلاً سياسياً، وهو من أوقف توجه كثير من أنصاره عن المسير نحو حل سياسي بدأت ملامحه في مؤتمر صحارى الذي ترأسه نائب الرئيس يومذاك.
ولم يكن مفاجئاً لأحد أن يقوم النظام بتصعيد هجماته على حلب وسواها من المناطق المنكوبة قبل كل جولة من المفاوضات، وكنا في المعارضة قد قررنا التأجيل في الجولة الثالثة (على رغم كون المفاوضات لم تبدأ بشكل عملي بعد)، فالجولة الأولى رفض النظام فيها مبدأ التفاوض أصلاً وصعد هجومه على حلب، وفي الثانية تحولت المفاوضات إلى أسئلة مدرسية يوجهها «ديمستورا» بعيداً عن السؤال الرئيس (مصير الأسد)، وفي الثالثة رأينا أن المفاوضات أصبحت كما وصفها المبعوث الدولي (حفلة فلكلورية) ولم ينجز النظام شيئاً مما يلزمه به القرار الدولي 2254 ولاسيما ما يتعلق بالموضوعات الإنسانية التي حدد القرار كونها فوق التفاوض مثل إدخال المساعدات إلى المناطق المحتاجة وفك الحصار والتوقف عن قصف المدنيين، كما أنه أمعن في خرق الهدنة التي فرضتها روسيا والولايات المتحدة، وسرعان ما اخترقها النظام وروسيا معاً، بذريعة أنهما يحاربان الإرهاب، مع أن الضحايا جميعاً كانوا من المدنيين أطفالاً ونساء وشيوخاً. وربما كان قصف المشافي مؤخراً وما أحدث من ضجيج عالمي هو الذي اضطر روسيا إلى استعادة هدنة تعد بالساعات وقد تم اختراقها أيضاً. ثم إلى إصدار بيان ضعيف شاركتها فيه الولايات المتحدة قبل مؤتمر باريس، وفيه وعد بأن ترجو روسيا النظام أن يخفف من عدد طلعاته الجوية وأن يقلل من عدد القتلى المدنيين، ولم يحدد البيان العدد الذي تسمح فيه روسيا والولايات المتحدة للنظام بالقتل اليومي.
وما يتردد اليوم عن حشود للنظام وللجيوش الإيرانية والروسية والشيعية المتجهة إلى حلب وإلى الغوطة وإلى درعا يجعل مفاوضات جنيف مؤجلة من قبل النظام إلى ما بعد الانتصار كي تأتي المعارضة مهزومة مسحوقة، ولن تكون هزيمتها (لا سمح الله) انهياراً لثورة الشعب السوري وحكماً عليه بالرضوخ الأبدي، وإنما ستكون انهياراً للأمة العربية كلها بما فيها الدول المؤيدة للنظام حيث ستجد إيران فرصة واسعة لمزيد من التوغل في العمق العربي كله، كما فعلت في لبنان والعراق وكما تفعل اليوم في سوريا، مما يعيد إلى الأذهان المرحلة الصفوية في التاريخ الإسلامي.
ولم تنفع مع إيران كل النداءات العربية العقلانية التي دعتها إلى حسن الجوار، وإلى التعاون والتفاعل الإسلامي أو الإنساني، ولا الدعوات الحكيمة إلى التحكيم (كما في موضوع الجزر الإماراتية) ولم يتوقف طموحها في التسلط على الدول العربية وبخاصة في اليمن والخليج العربي، وقد بدا للسوريين أن ما تفعله إيران هو جردة حساب تاريخية تستعيد الماضي البعيد من ذي قار إلى حرب العراق الأخيرة.
ربما تنتظر قيادات المعارضة اليوم ما سينجم عن لقاء فينا القادم في17 مايو، وهي لم تجد في لقاء باريس الأسبوع الماضي ما يدفع إلى التفاؤل، لكننا نشعر أن الرغبة الروسية في إقصاء أصدقاء سوريا وبخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي كله عن الملف السوري ومباركة الولايات المتحدة لهذا التفرد الروسي سيهدد الحضور الأوروبي الدولي لاحقاً، وهذا ما لا يغيب عن الذهن الأوروبي، ونرجو أن يستعيد أصدقاء سوريا الأوربيون حضورهم في مؤتمر فيينا القادم، وهم الذين استضافوا مئات الآلاف من السوريين المهاجرين، وكان موقفهم الإنساني حضارياً وأخلاقياً.
تضيق المساحة الجغرافية وتزداد ضراوة المعارك فيها وسط انقطاع بالأمل فيما يتعلق بوجود أي حل إلا العسكري، فيما سيكون السياسي
مجرد عن مرحلة تطرح في زيل القائمة.
حلب تحولت وباتت في صلب العديد من المخططات سواء فيما يتعلق بالهلال الشيعي الذي عاد للظهور مجددا أو في الأطماع المتزايدة من قبل الفصائل الكردية الانفصالية أم بأحلام داعش التمددية.
فاليوم فصائل حلب أمام خيار واحد لا ثاني له إما التوحد أو النهاية والرضوخ لأحد المشاريع الثلاث أنفة الذكر.
وتتجه الفصائل العسكرية في حلب اليوم بمجملها وعديدها المتنوع نحو التوحد في جسم لا زالت ملامحه طور الرسم، والاسم المبدئي هو (الجبهة الشمالية) التي سيذوب ضمنها الجميع تحت قيادة موحدة منسقة قارئة للخطط الثلاث، ولديها الرؤية للتعامل مع تلك الخطط باستخدام كافة الأسلحة المتوفرة لدى الفصائل تحت إدارة وقيادة واحدة.
الجبهة الشمالية لن تكون كتجربة سابقة شهدتها حلب، وإنما ستكون تجربة من نوع محدث يغلب عليها طابع (وحدة المصير)، ووفق مصادر خاصة فإن أبرز الفصائل التي ستنضم (الجبهة الشمالية) هي الجبهة الشامية، جيش المجاهدين، وفرق الجيش الحر الشمالية و13 و16 بقية الفصائل الأخرى.
وشيء بالشيء يذكر ان مسودة الاتفاق النهائي قد بوشر بها ووصلت لمراحل متقدمة جداً وبوادرها ستظهر للنور خلال فترة بسيطة لا تتجاوز الشهر فالخطط الموضوعة ضد حلب تطبخ على نار قوية وبحاجة لتحركات مصيرية وقرارات على مستوى عالي من المسؤولية.
هذا شق بسيط من كم من المعلومات سنحاول إيصالها تباعاً في الأيام القادمة.
قد يكون الربط ، بين دخول المساعدات إلى داريا و سقوط الأسد ، غير منطقي للوهلة الأولى، لكن هو واقعي و حقيقي، و الصفقة لو تمت بالأمس لبات الأسد في مرمى الانهيار و السقوط، لانتهاء كل الحجج و الذرائع و تحولها إلى اضحوكة تعلو وجوه العالم أجمع، عندما يسمع بأن القصف هو ضد "الارهابين" و أن الحرب هي ضد "الارهابين" و أن "الإرهاب" في كل مكان، و أن مناطق الأسد وحدها من تحوي السوريين.
بالأمس كان الحماس الأممي و المنظمات الانسانية عالياً لدرجة يصعب استيعابه من قبل أشخاص أمثالنا، فالإنجاز كبير بالنسبة لهم، ووصولهم إلى حصون تلك المدينة التي قيل أنها اسطورة يستحيل الدخول عليها و الخروج حياً، كما يحدث و جرت العادة بالنسبة لقوات الأسد و كل القوات التي أتت نجدة له ، يعتبر انجار لا يفوّت و لو دخلوا ببعض الأدوية و القرطاسية.
و لم يكن يفصل الإنجاز المرتقب عن تحوله إلى شيء ملموس إلا بضع أمتار، ولكن هذه الأمتار تعني بشكل قاطع أن الأسد اذا ما سمح بها، فإنه سيسمح بالتخلي عن سلطته و نفي سلسلة الكذب اللامتناهي، ففي داريا لا يوجد جبهة نصرة ، و في داريا لا يوجد مقاتلين فحسب ، و داريا ليست بلدة فارغة، ففي داريا نساء و أطفال ، وفي داريا أناس لازالوا يعيشون و يواجهون الموت، و المساعدات التي كان من المفروض دخولها هي لأؤلائك، ومجرد الدخول يعني أن هناك حياة و هناك من من الممكن أن يصدر بيان ادانة أو شجب في أحسن الأحوال اذا ما تمت ابادتهم.
لعل الأمم المتحدة و المنظمات المساعدة لها تعجلت في استعراض النصر الوهمي، و أتبعته بتعجل آخر عندما قالت أن الهدف القادم "دوما" و "حرستا"، أي محيط دمشق ليس عبارة مسلحين فحسب كما يصور و يسوق النظام و حلفاءه، و إنما هناك مدنيين بحاجة لمساعدات واجبة.
قد يقلل البعض من أهمية هكذا أمور على اعتبار أن المجتمع الدولي (دول – منظمات) شريكة للأسد في جرائمه ، و هي بالفعل كذلك، لكن هذه التصرفات تجعل من أمر إخفاء جزء من قباحة الأسد ليس باليسير أو الممكن، وبالتالي سيكون سلاحاً جيداً بيد هيئة المفاوضات التي تنتظر يوم ١٧ الشهر الحالي لتتابع قرار مجموعة دعم سوريا، من خلال اجتماع فيينا في نسخته الثانية.
لا يرهق الروح و يضني الجسد شيء كدموع امرأة تحمل طفلتها تبكي، جوعاً على أرض عُرفت بأنها بستان لدمشق و ما حولها، على أرض قدمت مئات الشهداء، على أرض ظلت شكوت لم تلن أن تنكسر أمام أعتى القوى و الأسلحة، واليوم تواجه الموت جوعاً مع تشارك العالم أجمع وعلى رأسه الأمم المتحدة.
من الممكن أن تعيد مشهد المرأة الباكية بعد التأكد أن قافلة المساعدات التي ستدخل "داريا" الصامدة، لن تتضمن أي أغذية، و إنما بعض الأدوية و اللقاحات، مترافقة مع جلبة كبيرة بأن الأمم المتحدة و شركاء دولين تمكنوا في النهاية في كسر الطوق الناري و المميت حول المدينة المضروب منذ ٢٠١٢.
كم هي قاتلة دموعها، و هي تحمل طفلتها الجائعة، و صوتها الذي يزلزل النفوس، وتتساءل كيف سنشرب الدواء على معدة "فارغة"، لحظات يغيب صوتها، خلف سنوات الألم و الهرب من الموت و القذائف و الأهم البراميل التي اشتهرت بها هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة، حتى سميت بمدينة "البراميل".
امرأة تقتل أصحاب القلوب الحقيقة المنتمين لصنف "البشر"، و لكن لا مكان لدموعها أمام الجزارين الحقيقين و المستترين بلباس البشرية أو مدعي الانسانية، الذين باتوا شريك فغلي و حقيقي، للقاتل و السفاح و المحاصر و الممارس للإبادة تحت نظر العالم أجمع، و اليوم بمشاركة فعلية.
داريا اليوم تواجه حقد العالم عليها، لكل بقعة جغرافية ترفض الاستبداد، وقررت العصيان على كل الظلمة، وواجهت كل الجيوش و كل القوات وبقيت صامدة، و لكن سنوات الموت و الحصار أرهقت الأجساد و الأرواح، و أوهنت المعنويات، و رغم ذلك يقوا صامدين، و لكن الطعنة الجديدة ألمتهم.
لا يمكن أن تطّوع اللغة لتنقل المشهد من داريا التي تبكيني اليوم حزناً، بعد أن أبكتنا فرحاً، و رفعت رؤوسنا عالياً و هي تضرب الأمثلة في البطولة و الرجولة و الثبات و الوحدة، ولازالت و ستبقى كذلك
فوجئ الصحافيون الغربيون في موسكو الأسبوع الماضي بدعوة عاجلة من وزارة الخارجية للاستعداد للتوجه الى سوريا. هدف الرحلة ظلّ سراً، ولم يتبلغ الصحافيون أي تفاصيل باستثناء أن ثمة لباساً "رسمياً" للزيارة، هو سترة واقية من الرصاص، كما حُذر الصحافيون الأميركيون تحديداً من أنهم إذا جاءت كتاباتهم سلبية "تكون رحلتهم الأولى والأخيرة".
منذ انطلاقتها، شهدت المغامرة الروسية في سوريا كثيراً من الحيل والعروض، بدءاً من شعارها المعلن محاربة الإرهاب، وصولاً الى اعلان انجاز المهمة. إلا أن دعوة الصحافيين للاستماع الى أوركسترا مسرح ماريينسكي تؤدي مقطوعات لباخ وبروكوفييف في مسرح أثري بتدمر حرر للتو من براثن "داعش"، تشكل ولا شك إحدى أكثر الالاعيب الروسية غرابة.
بدأت رحلة كسب العقول والقلوب والآذان أيضاً، استناداً الى مراسل صحيفة "النيويورك تايمس"، من اللاذقية حيث حطت الطائرة التي نقلت نحو مئة صحافي أجنبي من موسكو. هناك، رفع الستار عن فصل جديد من المسرحية الروسية استمر 56 ساعة، بما فيها أكثر من 12 ساعة مسافة الطريق ذهاباً وإياباً من اللاذقية الى تدمر.
لا أحد يشكك في أهمية الموسيقى الكلاسيكية في الثقافة الروسية، الا أن العملية اللوجيستية والأمنية الضخمة التي تطلبها نقل هذا العدد من الصحافيين من اللاذقية الى وسط سوريا الذي كان حتى وقت قريب منطقة حرب، أظهر تجربة متطورة في البروباغندا التي تخلط الإرث الثقافي الغني لموسكو بطموحاتها العسكرية غير المحدودة. وتطلب نقل الصحافيين خمسة باصات كبيرة واكبتها ثمانية آليات مدرعة مجهزة برشاشات آلية وآليتان قتاليتان مع مرافقة دائمة من طائرتي هليكوبتر هجوميتين طوال الرحلة. وعلى الطريق، مر الصحافيون بقواعد عدة تضم طائرات هليكوبتر روسية قرب حمص وتدمر وغيرهما. الا أن أكثر ما فأجأهم، كما قال مراسل شبكة "سي أن أن" الاميركية للتلفزيون، هو رؤية هذا العدد من الجنود الروس في مواقع عدة من سوريا. ولفت الصحافيين الموقع الجديد الذي بناه الجيش قرب تدمر الأثرية. ومع أن الموقع نظرياً هو قاعدة للفريق الذي أزال آلاف الالغام من تدمر وضواحيها في الاسابيع الاخيرة، لاحظ الصحافيون أن العتاد المنتشر فيها يتجاوز كاسحات الالغام الى عشرات الاليات القتالية وناقلات الجند المدرعة، وصولاً الى نظام للدفاع الجوي من طراز "بانتسير- س 1" القادر على إطلاق صواريخ وقذائف على طائرات.
اختلفت مشاهدات الصحافيين عن الرحلة السورية. فثمة من ركز على محاولات الروس إظهار دورهم في "مصالحات" يديرونها في سوريا، وإن يكن البعض لم يفهم من كان أطراف تلك المصالحات. ولفت آخرون إلى الأسلحة الروسية المتطورة . لكن الخلاصة التي أجمعوا عليها هي أن التعزيزات الروسية في سوريا أكبر بكثير مما يعتقد، وأن لا شيء في القواعد الروسية يوحي بأن بوتين ينوي ترك البلاد في أي وقت قريب.
بعد أكثر من خمسة أعوام على بدايات هبوب عواصف ما يسمى «الربيع العربي»، الذي مرَّ على بعض الدول العربية مرور الكرام و«بردًا وسلامًا»، والذي استوطن بزمهريره ورياحه الهوجاء المدمرة دولاً عربية أخرى، بتنا نسمع من بعض الذين طفح كيلهم، والذين من الممكن اعتبارهم من المؤلفة قلوبهم، اتهامات مجحفة وقاسية لهذا «الربيع» واعتباره كارثة حلت بالأمة العربية لمصلحة «العدو الصهيوني» و«الإمبريالية العالمية»، والبعض من هؤلاء يقول: وأيضًا لمصلحة إيران الشعوبية والفارسية!
والسؤال الذي يجب طرحه في البدايات قبل الاستطراد في مواصلة الحديث عن هذه المسألة هو: لماذا يا ترى مرّ هذا الربيع العربي على بعض الدول العربية بسرعة «وسلاسة» ومن دون كوارث اجتماعية ووطنية، في حين أنه «استوطن» دولاً عربية أخرى وأحل فيها الخراب والدمار وحول تعارضاتها وتناقضاتها من ثانوية إلى رئيسية وإلى حروب طاحنة كانت حصيلتها حتى الآن ملايين المهجرين واللاجئين، وأيضًا ملايين الجرحى والمشردين ومئات الألوف من القتلى الذين مزقت أجسادهم قذائف المدافع والصواريخ والطائرات والذين ابتلعتهم بحور الظلمات؟
لقد ضرب هذا «الربيع العربي» الأردن كما ضرب دولاً عربية أخرى، لكنه مر على هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، مرور الكرام وبردًا وسلامًا، مع أن بعض الذين تفرحهم مصائب أشقائهم قد سارعوا إلى محاولات صب الزيت على النار ودفعوا جماعة الإخوان المسلمين دفعًا لتحويل تظاهرات ومسيرات المطالب السلمية إلى مواجهات ساخنة وإلى عنف أهوج وإلى صدامات مسلحة.
لقد تركت الدولة الأردنية للأردنيين حرية التعبير عما يريدونه بالتظاهرات والوسائل السلمية وبالبيانات شديدة اللهجة في كثير من الأحيان، لكنها كانت حازمة وحاسمة في عدم استخدام القوة ضد هؤلاء، وكانت النتيجة أنْ مرَّ هذا الربيع العربي بسلام، وأنْ تعززت الوحدة الوطنية وتعزز التلاحم الاجتماعي وتحقق مزيد من الإصلاحات، وترسخت التجربة الديمقراطية التي جاءت في عام 1989 استئنافًا لتجربة عام 1956، التي أدت إلى توقفها لأكثر من ثلاثين عامًا نزعة الانقلابات العسكرية، التي كانت انعكاسًا لما جرى في مصر عام 1952 ولسلسلة الانقلابات العسكرية السورية، التي كانت بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949.
ولهذا ولأن صاحب القرار قد تصرف بحكمة وبسعة أفق، ولأنه تَرَك للشعب الأردني أن يعبر عن نفسه بكل الوسائل السلمية، وحيث لم تسقط ولا قطرة دم واحدة ولم تتوقف المسيرة الديمقراطية ولا للحظة واحدة أيضًا، فإن الأردن، المحاصر بالنيران وبالأزمات وبالقتل والاقتتال من الشمال والشرق ومن الغرب كذلك، بقي ينعم بهذا الاستقرار وبقي ينشغل بقوانين الانتخابات وبـ«اللامركزية» وبتطوير وسائل الإعلام وتعزيز المسيرة الحزبية، وفوق هذا كله مواصلة لعب هذا الدور الفعال، الذي لا يزال يلعبه في حل كثير من المشكلات والإشكالات الإقليمية والدولية.
ثم وإن ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن ربيع الشقيقة العزيزة مصر كان هو أيضًا رقيقًا و«حنونًا»، قياسًا ومقارنة بما يجري في سوريا وفي ليبيا، وهذا يجب قوله بصراحة وبشجاعة، فإن الفضل بالنسبة لعملية التحول السلمي هذه التي تمت في أرض الكنانة يعود أولاً للشعب المصري وللقوات المسلحة المصرية.. وأيضًا للرئيس حسني مبارك الذي اختار التنحي في اللحظة الحاسمة، والذي لم يفعل ما فعله القذافي وما فعله علي عبد الله صالح وما فعله «ديكتاتور» سوريا بشار الأسد، الذي استكمل مسيرة والده في ارتكاب المذابح الجماعية وفي تدمير المدن السورية على رؤوس أهلها، وكانت النتيجة هو كل هذه الويلات التي تجري في هذه الدولة العربية الطليعية.
إن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، بل تكمن في الأنظمة الاستبدادية التي استقبلته بالعنف والقتل وبمزيد من اضطهاد شعوبها، فصاحب «الجماهيرية» الكريهة والرديئة لم يكتف بأكثر من أربعين عامًا من حكم فردي استبدادي وبدائي، ذاق خلاله الشعب الليبي الأمرين، ونهبت ثرواته وجرى تبديدها على المشاريع الفاشلة وعلى الإرهابيين والمرتزقة والتجارب الوحدوية المضحكة، فبادر إلى مواجهة ربيع الليبيين الذي كان من الممكن أن يكون سلسًا ورقيقًا وهادئًا بتلك الطلّة المرعبة من شرفة وكره في المنطقة المحرمة وبالطائرات والحديد والنار وبزمر القتل من المرتزقة والمجرمين، فكان لا بد مما لا بد منه بد، وكانت النتيجة أن أصبحت أبواب ليبيا مشرعة أمام «داعش» وأمام تدخلات الدول، التي سعت ولا تزال تسعى للتدخل في الشؤون الداخلية الليبية وفي شؤون سوريا، وأيضًا في شؤون اليمن.
إن هذا بالنسبة لليبيا التي أُخرجت من جلدها خلال أكثر من أربعين عامًا من حكم فردي أهوج ومتخلف، أما بالنسبة لسوريا التي عرفت أول التجارب الحزبية والديمقراطية والبرلمانية في الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، فإنها ابتليت بأول انقلاب عسكري في عام 1949، ذلك الانقلاب الذي قطع الطريق على أول عملية سياسية كان على رأسها شكري القوتلي وحزب الشعب والحزب الوطني.. وبمشاركة لاحقة من حزب البعث، والذي تلاه نحو عشرين انقلابًا عسكريًا، بعضها معلن وبعضها غير معلن انتهت بانقلاب حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، وحيث تحول النظام بعده إلى نظام عائلي - طائفي، وليس لنظام الطائفة العلوية ولا حكمها الذي كان دور الطوائف الأخرى فيه، حتى الطائفة السنية، التي تصل نسبتها إلى ما يقدر بنحو سبعين في المائة من مجموع عدد سكان «القطر العربي السوري»، مجرد وضعية «ديكورية» ظاهرها غير باطنها ومراكز القوى فيها غير تلك الرموز التي كانت ولا تزال تظهر في المؤتمرات وفي المناسبات وعلى شاشات الفضائيات المحلية وغير المحلية.
وهكذا وعندما انطلقت شرارة «الربيع العربي» من درعا في مارس (آذار) 2011، فإن سوريا كانت مثخنة بالجراح وكانت متورمة بالأحقاد والقهر، وكانت قد تعرضت لحملات «تطهيرية» ومذابح إبادة جماعية كثيرة، أبشعها مذبحة حماة الشهيرة في عام 1982، ولعل ما زاد الأمور سوءًا وتوترًا، هو أن الرد على تظاهرة الأطفال في هذه المدينة السورية الجنوبية كان بالقمع والتبشيع و«فرمْ» الأصابع، وأن الرد على التظاهرات السلمية اللاحقة كان بالرصاص وبقذائف المدفعية وبغارات القوات الخاصة، وهذا كله قد أدى إلى أن يصبح ربيع هذا البلد العظيم هو هذا الربيع العاصف والدموي والمدمر، ولهذا فإن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، وإنما في هؤلاء الذين كانوا بدأوا حكمهم بانقلاب عسكري على رفاقهم، والذين أرسوا دعائم هذا الحكم الاستبدادي بالمذابح والاضطهاد، وبالاستحواذ على المواقع الرئيسية في الدولة السورية التي حولوها إلى دولة بوليسية ودولة سجون ومعتقلات ومذابح جماعية.
ليل الخميس - الجمعة (5 - 6 أيار - مايو) قصف طيران النظام السوري مخيم «غطاء الرحمة» للنازحين في بلدة الكمونة بريف إدلب. كان هؤلاء هربوا من جحيم حلب إلى ما ظنّوه ملاذاً آمناً أو شبه آمن. قتل وأصيب أكثر من مئة منهم في جريمة حرب موصوفة، بعد ساعات على جلسةٍ لمجلس الأمن دان فيها معظم الأعضاء الهجمات الوحشية للنظام على حلب واعتبرتها الأمم المتحدة جريمة حرب نظراً إلى تدمير منهجي للمستشفيات والبنية التحتية للمدينة. لكن روسيا منعت مجلس الأمن من إصدار بيان، مجرّد بيان تنديد، لئلا يشكّل ورقة أولى في ملف جرائم نظام بشار الأسد لمحاسبته بموجب القانون الدولي. وتأسيساً على هذه «الحصانة» التي توفّرها روسيا أغار طيران الأسد على مخيّم النازحين. هذه المرّة طلب بان كي مون بوضوح أن يتخذ مجلس الأمن إجراءات لإحالة ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ما لبثت موسكو ودمشق أن لجأتا إلى التضليل لتمييع المسؤولية عن هذا القصف الإجرامي، بل اتهمتا «جبهة النصرة» بقتل نازحين في مخيم يقع في نطاق سيطرتها. شاركت واشنطن أيضاً في التضليل والتمييع، فكل ما استطاع ناطق الخارجية قوله أن «لا شيء يبرر الهجمات على المدنيين». هذا الموقف الأميركي المبالِغ في الخجل يريد مشاركة الأسد والروس في تعمية ما حصل فعلاً، لأن تأكيد مسؤولية الأسد يتطلّب من الأميركيين أن يحدّدوا الخطوة التالية وما إذا كانوا مستعدّين لخوض حملة تتبنّى طلب عقوبات دولية تتضمّن إحالة الأسد إلى المحكمة الجنائية. لكن هُزال الإرادة لدى أميركا - أوباما يجعلها تفضّل التهرّب من الحقيقة لتغطية العجز عن مواجهتها.
ما الذي يترتّب على انعدام المسؤولية روسياً وأميركياً؟ الجواب المفزع والمؤرق هو: تشريع الإبادة... ولا مبالغة في ذلك، فالإبادة كلمةً وتعريفاً ومنطقاً واقتناعاً تتكرّر حالياً على ألسنة جميع الذين يُنطقهم نظام الأسد بأفكاره، من «المفتي» إيّاه إلى الذين تختارهم الأجهزة «ضيوفاً» للفضائيات. ومع احتدام الصراع والبحث المحموم عن نهايةٍ لأزمةٍ زادت تعقيداتها داخلياً وخارجياً، بات النظام يعتبر أن لديه الحلّ الذي يؤيده حليفاه الإيراني والروسي، وهو الإبادة التي اعتمدها على نحو متقطّع منذ 2011 مقدّماً نماذج مكرّرة من مجزرة حماة (1982) التي سبق للولايات المتحدة أن تغاضت عنها. قد يشكّل نموذجاً لعقلية الإبادة هذه ولتسويغها في الأذهان ذلك الاستعراض المشين الذي قدمه أكراد عفرين لجثث من قتلوهم، في واحدة من الوقائع الأكثر بشاعة في هذه الحرب، لكنها مرّت من دون التوقف عندها كما لو أن التظاهر بالجثث صار أمراً عادياً. بل إن تلك العقلية الإبادية استكملت غزوها عقول الأفراد كما يظهر في الـ «سيلفي» المقزّز الذي التقطته تلك الصحافية على خلفية من الدماء.
في عام 1994، أبادت مجموعات من غالبية الهوتو في رواندا، وفي ما يقرب مئة يوم، نحو ثمانمئة ألف من أقلية التوتسي، واستهلك «المجتمع الدولي» شهوراً عدة طويلة قبل أن يحدّد ردّه وينشئ محكمة خاصة لمعاقبة الجناة الذين تمتعوا بتواطؤ من السلطة القائمة آنذاك. صارت تلك الجرائم «عقدة ذنب» كبرى لمعظم قادة تلك الحقبة وديبلوماسييها في أفريقيا وخارجها، وإلى وقت قريب كانت تعتبر خاتمة مذابح القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين أودتا بحوالى سبعين مليون شخص، إضافة إلى ملايين أخرى من الضحايا في حروب إقليمية ونزاعات أهلية. وقد عُزي الفشل في وقف الجريمة الرواندية إلى أسباب عدة، منها القصور في إدراك حقائقها وشحّ المعلومات الموثّقة عن وقائعها والتأخّر في تقدير حجمها وهولها، خصوصاً إلى ضعف الإرادة الدولية ودوافعها للتحرك. بالتزامن مع الحدث الرواندي كانت تدور حرب إبادة في الشيشان، لكن الولايات المتحدة قدّمت مصالحها على فضح الجريمة الروسية، وفضّلت التضحية بذلك البلد وببضعة بلدان أخرى بعده، كما تفعل الآن في سورية، بهدف إشباع مطامع روسيا ولن تفلح.
بالنسبة إلى سورية، حيث تدور المذبحة بما يشبه بثّاً مباشراً على مدى خمسة أعوام وشهرين، يمكن الحديث فقط عن إرادة دولية معدومة قلبت معاييرها ومفاهيمها بل هيّأت نفسها للتكيّف مع نهج الإبادة البطيئة والتهيّؤ لقبوله. لا أحد يستطيع التحجّج بأنه لم يعرف ما حصل ويحصل في سورية، وما جرى فعلاً كان طمس عشرات التقارير وتجاهل المعلومات والتوقف عن عدّ الضحايا للاكتفاء بربع مليونٍ كحصيلة «مقبولة». لكن دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (أسكوا) مع جامعة سانت أندروز البريطانية كانت صادمة منذ سطورها الأولى: إذ قدّرت أن 2,3 مليون سوري قتلوا أو جُرحوا في الحرب، وأن 12 مليوناً تعرّضوا للتهجير، فيما فقد البلد نحو 260 بليون دولار من ناتجه المحلي، ليصبح 83,4 في المئة من الشعب تحت خط الفقر. وفي نهاية 2015 كان هناك 13,5 مليون شخص (بينهم ستة ملايين طفل) في حاجة إلى مساعدة إنسانية، وبينهم أكثر من أربعة ملايين يعيشون في دمشق وريفها ومحافظة حلب، وهذه هي المناطق التي يتطلع النظام إلى الإجهاز عليها لتحقيق ما سمّاه الأسد «النصر النهائي» في برقية شكر وجّهها إلى فلاديمير بوتين.
جميع داعمي الأسد ونظامه، العلنيون منهم وغير العلنيين، خصوصاً روسيا وإيران والولايات المتحدة، كانوا شركاءه في كل ما ارتكب من مجازر وسيبقون وراءه في اعتزامه الإقدام على الإبادة كـ «حل نهائي»، وفقاً للمصطلح النازي، ويريدون له «النصر النهائي» هذا. فهو لم يلمس في أي لحظة أن الدولتين الكبريين مختلفتان فعلاً في شأن بقائه، ذاك أن أميركا غير الراغبة في التدخل عارضت علناً تسليح المعارضة بما يمكّنها من الدفاع عن مواقعها، وأميركا هذه تغاضت عن التدخل الإيراني حين كان يقتصر على «خبراء» وميليشيات ولا تزال تتغاضى عنه بعدما أصبحت طهران تعلن رسمياً إرسال قوات خاصة وضباطاً وجنوداً إلى سورية (قتل منهم أخيراً أكثر من ثلاثين شخصاً). أما روسيا فلم تخذل الأسد في أي مرحلة وعندما دهمه خطر حقيقي صار تدخلها مباشراً وباتت تضع هيبتها على محك إنقاذه وفرض الحل السياسي الذي يناسبه. وفوق ذلك أخضعت تفاهماتها السرّية مع أميركا لمصلحته.
ما انكشف في حلب ثم في قصف مخيم الكمونة ليس فقط نهج الإبادة، ولا صعوبة التوصل إلى هدنة شاملة فحسب، بل سقط مسلسل التضليل الأميركي - الروسي لتغطية خدعة «حل سياسي» يرمي أساساً إلى إعادة إخضاع الشعب السوري لمجرم الحرب وزمرته من القتلة. ولعل هذا الاقتراب من منطق الإبادة هذا هو ما دفع الفرنسيين والبريطانيين والألمان إلى قرع ناقوس الخطر، كما سبق أن فعل العرب والأتراك. فهم يساندون التحرك الأميركي ويتفهّمون الكثير من جوانبه رغم غموضها والتباسها، إلا أنهم يرفضون انجرار الأميركيين وراء النهج الروسي - الإيراني ووقوعهم في تبرير جرائم نظام الأسد والسكوت عنها. ويرى الأوروبيون أن ثمة فارقاً شاسعاً بين استخدام التفاهم الأميركي - الروسي لحضّ الأسد والمعارضة معاً على «حل سياسي» يتطلّب التزامات وتنازلات، وبين تسخير ذلك «التفاهم» في إرضاء الإيرانيين وحفز الأسد على الاستشراس في الحسم العسكري وتحصينه من أي مساءلة ومحاسبة. والأهم أن الأوروبيين الذين أرادوا تخفيف موجات اللاجئين فسايروا حلّاً سياسياً، ولو مجحفاً للمعارضة، اكتشفوا أن الأميركيين والروس بالغوا في الكذب بالنسبة إلى «صمود الهدنة» أو إلى صلاحية العملية السياسية المقترحة، وبالتالي فإن مشكلة اللاجئين مرشحة للضغط مجدداً على أوروبا. والحاصل الآن أن صعوبة إقامة هدنة وضمان احترامها من النظام والإيرانيين باتت بصعوبة إعادة المعارضة إلى مفاوضات جنيف، لأن اللعبة انكشفت تماماً فحتى التسوية المجحفة لا يريدها النظام، لذا فهو يتعمّد ضرب الهدنة لضرب المفاوضات. هذا ما دفع الأوروبيين إلى المطالبة بـ «مبادرة جديدة» لأن الصيغة التي انبثقت من لقاءات فيينا، ثم أصبحت القرار 2254 استطاع الروس والأسد والإيرانيون إفسادها وحتى إسقاطها.
ستنجح روسيا في الضغط على النظام السوري، وبدلاً من إلقائه مئة من البراميل المتفجّرة فوق رؤوس المدنيين في حلب وريفها، سيكتفي بخمسين أو ستين... ولكن لفترة هدنة فحسب، لا تتجاوز بضعة أيام. يدرك النظام أن كل ما يقال عن ضغوط أميركية على موسكو لكي تلجم اندفاعه إلى التصعيد، هو مجرد ثرثرة، وأن إيران لن تتركه مجرد ورقة في يد الروس، إذ تتوعّد بالثأر لـ «كارثة» قتل «مستشارين» من جيشها في سورية. فمزيد من التورُّط الإيراني في الحرب القذرة وفي إدارتها، يهيئ طهران لطلب الثمن، حين يحل وقت اقتسام مغانم الصفقة.
لا شيء يوحي بأن النظام السوري قلِق من النيات الإيرانية، بل هو مطمئن إلى تقاطع مصالح موسكو وطهران في تمديد الحرب، و «ذبح» الفصائل المقاتلة المعارضة، فيما الغيبوبة الأميركية ستطول إلى ما بعد دخول خليفة باراك أوباما البيت الأبيض.
يدخل تنظيم «القاعدة» فجأة على الخط، لينافس «غلاة الخوارج» في «داعش»، والرابح لا بد أن يكون النظام هذه المرة أيضاً، والمتضرر الأول هو الشعب السوري المنكوب الذي يقتله النظام والروس والإيرانيون و «داعش» و «القاعدة»، لمحاربة «الإرهاب»!
في ريف اللاذقية، يدعونا القيصر فلاديمير بوتين إلى الاحتفال معه بذكرى الانتصار على النازية، في قاعدة «حميميم»، كأن أراضي سورية باتت إقليماً روسياً، مثلما تعتبر طهران أنها تدفع ثمناً باهظاً لعدم التفريط بـ «محافظة إيرانية».
ما علينا سوى أن نصدّق بوتين ونصفّق له حين يذكّرنا بأن الحضارة البشرية تواجه «الوحشية والعنف»، لكأنّ ما يفعله حليفه النظام في دمشق لا يتعدى رشق مواطنيه بالورود، على إيقاع سمفونيات الكرملين. أما وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يبدو لاهثاً، يحصي الأيام ليسلّم ملفات جريمة التواطؤ الكبرى إلى مَن يخلفه في الإدارة الجديدة، فلعله يُدرك أن لا أغبياء في العالم يثقون بحسن نية واشنطن، وتألُّمها لضحايا المجازر في سورية... أو قلقها على مصير ملايين، معلّق بين القنابل والجوع.
لا حاجة مجدداً لتعداد أدلة على كارثة الإفلاس الأخلاقي- الإنساني في إدارة السياسة الدولية. وإذ يبرع القيصر في الدعوة إلى «منظومة أمن عصرية» لمواجهة أخطار «أولها الإرهاب»، يضلّل العالم عمداً في تجاهل المآسي والكوارث التي نجمت عن دعم المحور الروسي- الإيراني الاستبداد في سورية.
أما البحث في منظومة الأمن «العصرية»، فلا بد أن يعيد إلى الذاكرة تباهي بوتين باختبار جيشه «البطل» أسلحة حديثة، مستخدمة دماء السوريين حقل رماية... وتباهي الصناعات العسكرية الروسية بجني أرباح وفيرة في المنطقة العربية، من خلال صفقات السلاح. تلك المنظومة العصرية، توسّع المصالح، والمقابر.
موسكو وواشنطن شريكتان في التضليل، وحين تتوعّد إيران بأنها و «روسيا وسورية وحزب الله» لن تترك ما حصل في حلب (قتل «مستشارين» إيرانيين وأسر آخرين) بلا حساب، أيُّ قيمة تبقى لأي هدنة؟ وحين تلتزم الولايات المتحدة «زيادة الدعم لحلفائها الإقليميين» لمساعدتهم في منع «تدفُّق المقاتلين والأسلحة أو الدعم المالي للمنظمات الإرهابية، عبر حدودهم»، ألا تكون تركيا تحت مزيد من الضغوط الأميركية، خصوصاً رضوخ واشنطن لذرائع موسكو؟
التسوية بعيدة حتماً، فلا القيصر يكشف أهداف سياسته أو استراتيجيته- إن كانت هناك استراتيجية- ولا البطة الكسيحة في واشنطن ستبادر قبل نهاية السنة إلى التكفير عن نهج «دع العرب يقلعون أشواكهم بأيديهم»، وهو برنامج خديعة حتماً.
وأما انتظار «المعجزة» بعد الانتخابات الأميركية فهو ذروة العبث والوهم، إن فازت هيلاري كلينتون يرجّح تمديد فصول المذابح، وإن انتصر دونالد ترامب، تقدّمت احتمالات نقل السياسة الأميركية من مرحلة انعدام الوزن الى حقبة جنون تغذيه أحقاد البليونير على المسلمين.
جميعهم «مشبوهون» بالإرهاب، لا يخفي ترامب طموحه إلى نفخ العضلات الأميركية مجدداً. وفي الحالين تضيع حقائق الاستبداد والعدالة، وتنتصر الغرائز في بحور الدماء.
270 ألف قتيل في سورية، في مرحلة التفاهمات الأميركية- الروسية. بين اندفاعة القيصر وجنون العظمة لدى البليونير، أي نهاية لنفق الظلام؟
ضمن عملية هدرجة الأفكار في الوقت بدل الضائع للحرب الدائرة في سوريا، وفي اطار البنود المشتتة من القرار 2254 القائم على تشكيل هيئة حكم انتقالي بين النظام والمعارضة، ومع الاستعداد لرسم دستور جديد، تضيع وجهة المعارضة التي تتخبط بين أمل بأن يتحول سراب الحل لحقيقة، هذا الانتظار لم يكن الأول و لن يكون الأخير، ليتمخض عنه دس قوة أحد الدول التي تدعي الصداقة لسوريا أن تمد يد العون "المتأرجح"
تصريحات وزير الخارجية السعودي "عادل الجبير"، عن ربط ارسال قوات بلاده البرية لمحاربة تنظيم الدولة أو بمعنى أدق "الإرهاب"، بإرسال أمريكا لقواتها، هي دليل على ممارسة فعل المماطلة ، و تمرير الحرب الى مابعد عام 2016 ، و منح النظام فرصة ليدمر ما تبقى من سوريا بحجة محاربة الارهاب
يكاد لا يخلو تصريح من كلمة محاربة "الإرهابيين"، التهمة التي لازمت الثورة السورية، وفشل "جنيف3" أكبر دليل على أن الحل السياسي ليس الحل المرتقب، و تسليم سوريا للشعب الذي ثار لن يكون إلا بعد زرع كافة أنواع التطرف في العالم تحت سمائها، و بإحتضان دولي يداعب الوقت لا أكثر، حينها سيكون إجراء انتخابات نزيهة وسط التطرف أمر محال، وسنعود لسيناريو العراق و أفغانستان، فلا بد في وقت عربدة التطرف أن يشترك المجتمع الدولي في اختيار نظام مناسب ورئيس مخضرم على أيدي إحدى الدول الاوروبية
الأسد و حلفاؤه الإيرانيون و الروس ليسوا بسذج، فقد احتضنوا كافة أنواع المرتزقة من أفغان و باكستانيين و عراقيين و حتى لبنانيين الى جانب المرتزقة الروس، ليشكلوا حلفاً متيناً ضد من قد يشكل عليهم خطراً انقلابياً ذات يوم، وفي حال صنف أولئك المرتزقة بالإرهابيين ستتنصل ايران منهم باعتبار أنهم "متطوعين" لاقيمة لهم، و تستتبع الخطة خلق إسمٍ لزج، قادر على التوسع الجغرافي بسرعة ويحمل الوقت نفسه فكرة الصاق "الإرهاب" بـ "السنة"، فوجدت "داعش" أولا و "النصرة" ثانيا و هناك بحسب المجتمع الدولي أسماء ثالثة و رابعة مصنفة كإرهابية من الطائفة السنية، فنصف الفصائل المعتدلة من الممكن تحميلها اسم طاعون "الارهاب"
الجبير، في تصريحه الأخير، بدا أكثر تخبطاً و أشارة بوضوح إلى وجود ضبابية أمام المخطط المعاكس، و الضبابية امتدت للوقت اللازم لتحقيق الهدف، ووعد بأن الحل سيكون دون الأسد خلال مدة تتراوح بين 3 أشهر و 3 سنوات، جاعلاً كلماته مطاطية كي يوصل للمعارضة فكرة أن الحل السياسي "محال"، و ليس بيدهم خيار إلا الامداد بأسلحة "أشد فتكاً"، علها تمنحهم الوقت ريثما يتم اعتماد خطة واضحة وسط الضباب العام الذي يحيط بالدول التي تسمى أصدقاء الشعب السوري
وسط ضبابية الحل السياسي، سيكون الوقت متاحاً للاقتتالات الداخلية الطاحنة، وتصفية قيادات و انقلابات بين الفصائل المعتدلة نفسها، وبعدها سيتم اختيار الفصيل و الرئيس الأنسب للجميع إلا السوريون أنفسهم، لكن طبعاً دون الأسد، فبعد التصفيات لم يعد هناك حاجة للأسد بالتأكيد
مشهدان؛ واحد سياسي وآخر أمني عسكري، طَبَعا المشهد السوري – اللبناني نهاية الأسبوع الماضي. الأول زيارة مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي أكبر ولايتي، إلى بيروت ودمشق، والثاني عملية أمنية عسكرية تلت المجازر التي ارتكبت في حلب عبر الهبّة التي قامت بها قوى المعارضة في ريف حلب الجنوبي وأدت إلى سقوط نحو مئة بين قتيل وجريح وأسير للنظام السوري وحلفائه في بلدة خان طومان، بينهم 13 إيرانيا من الحرس الثوري رتبات وعناصر.
في إطلالته من بيروت قال مستشار السيد علي خامنئي، علي أكبر ولايتي، إنّ “إيران وسوريا ستحميان محور المقاومة ومركزها الأساسي في جنوب لبنان”. مستشار زعيم محور الممانعة والمقاومة ربما لم يزل معتقدا أنّ الجمهور الذي يستمع إليه لا يزال مقتنعا بأن السياسة الإيرانية منهمكة بكيفية تحرير فلسطين، بينما يشاهد هؤلاء كيف يجاهد الحرس الثوري والميليشيات الشيعية التابعة له من أجل تخليص سوريا، ولا سيما مدينة حلب، من “الإرهابيين”.
المهم في زيارة ولايتي إلى بيروت ودمشق ولقائه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والرئيس بشار الأسد، أنها تأتي في سياق تأكيد إيران التزامها دعم حزب الله، لا سيما في ظل العقوبات المالية التي طالته ولا تزال، خاصة من قبل وزارة الخزانة الأميركية، في موازاة استمرار الانفتاح بين الإدارة الأميركية والحكومة الإيرانية. كما أنها الزيارة الأولى لمسؤول إيراني بعد الانتكاسة العسكرية لحزب الله في تلة العيس جنوب حلب في شهر أبريل الماضي، وسط تساؤلات متنامية في بيئة حزب الله وشكوك حول الموقف الروسي في الميدان، وتساءل عن طبيعة العلاقة والتحالف بين إيران وروسيا في الشأن السوري.
مما لا شك فيه أن أفق الأزمة المفتوح في سوريا يلقي بثقله على حزب الله، الذي شكلت السنوات الخمس الماضية من تدخله في القتال السوري مجالا لاستنزاف من دون مؤشرات على وقفه، وبسبب الخسائر التي طالت نسبة عالية من كوادره ومقاتليه، وتراجع قدراته القتالية مع توسع جغرافيا القتال، اضطرت القيادة الإيرانية إلى الزجّ بمقاتلين إيرانيين في الجبهات السورية، وعـززت من حضـور لواء الفاطميين المكون من اللاجئين الأفغان، في محاولة لسدّ الثغرات التي بات حزب الله عاجزا عن ملئها.
وحين كان ولايتي يجدد دعم الأسد في دمشق ويؤكد على وقوف إيران إلى جانبه، بعد إشارة وزير الخارجية الروسي إلى أن روسيا ليست أولويتها بشار الأسد، شهد ريف حلب الجنوبي انتكاسة جديدة للنظام السوري وحلفائه، حيث سقط نحو مئة عنصر بين قتلى وجرحى وأسرى من قوات النظام، وقتل 13 عنصرا وأصيب العشرات من القوات الإيرانية والميليشيات. الانتكاسة الجديدة والمفاجئة على جبهة جنوب حلب نفسها كانت نتيجة الهجوم المفاجئ لقوات الفتح وسيطرتها على البلدة الإستراتيجية خان طومان وعدد من القرى المحيطة بها حسب مصادر سورية.
وكانت تقارير قد تحدثت عن وصول قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني على رأس وحدة خاصة من الحرس الثوري الإيراني من أجل نجدة جبهة ريف حلب الجنوبي شمال سوريا، وذلك بعد سلسلة من الانتكاسات العسكرية والهزائم التي تعرّضت لها قواته التي تقود العمليات العسكرية في هذه الجبهة، إلى جانب مقاتلين من حزب الله وميليشيات عراقية وأفغانية مدعومة من جيش النظام.
وكانت تقارير سابقة قد تحدّثت عن وصول قاسم سليماني إلى سوريا في الأسبوع الأول من شهر أبريل الماضي بعد الانتكاسة الأولى لقواته في ريف حلب الجنوبي، إثر سيطرة جبهة النصرة وحلفائها على تلة العيس والقرى المجاورة لها وسقوط حوالي 50 قتيلا من عناصر الحرس وحزب الله والميليشيات العراقية، وقد نعى حزب الله 10 من مقاتليه حينها، كما نعى الحرس الثوري عددا من ضباطه ومستشاريه، وكان لافتا بعد ذلك فشل الهجوم المعاكس في استعادة التلة المذكورة ومحيطها على الرغم من تدخل الطيران الحربي بشكل مكثف.
يذكر أن قوات “جيش الفتح” تضم جبهة النصرة وأحرار الشام وفصائل إسلامية أخرى، وفصائل من الجيش الحر، وقد تمكنت هذه الفصائل المقاتلة من السيطرة على عدة مواقع بينها بلدة خان طومان، وقرية الخالدية، وحرش خان طومان، وتلة المقلع وتلة الزيتون ونفق خان طومان، ومعمل البرغل وتلة الدبابات.
كما أكدت المصادر أن عناصر جيش الفتح وفصائل الجيش الحر استخدموا نفس الأسلوب الذي استخدموه في اقتحام بلدة العيس الشهر الماضي حيث قاموا بتصوير العمليات من خلال طائرات استطلاع ساعدت القادة على إدارة المعارك من خلال رصد سير العمليات.
هذه المرة يضاف إلى معاني زيارة ولايتي وإطلالة سليماني تفاقم الأزمة في العراق بما هي أزمة المعادلة السياسية التي رعتها القيادة الإيرانية، إذ لا أحد يستطيع القول إنّ مكونات السلطة في العراق ليست من أصدقاء إيران وحلفائها، بل ليس ثمّة وزير في الحكومـة العراقية معاد لإيران. لذا فالأزمة العراقية اليوم تعكس فشل الإدارة الإيرانية لهذا البلد، الذي أتيح لإيران أن تقدم فيه نموذجًا لما تبشر به من ممانعة. لكنها قدمت أسوأ دولة فاشلة في المنطقة. وثبت أن أكثر المفسدين في السلطة العراقية هم أكثرهم تبعية والتزامًا بتوجيهاتها في الساحة العراقية، لا بل إنّ القدرة على الإفساد والفساد تحتاج من مرتكبهما في بلاد الرافدين أن يكون من موالي النفوذ الإيراني والمؤتمرين به. لذا كانت الأصوات التي ارتفعت عاليًا في المنطقة الخضراء من قبـل الجموع العراقيـة “إيران برا برا..” شعار كشف، إلى حدّ بعيد، دور إيران في حماية منظومة الفساد داخـل الدولة العراقية.
إيران تحاول أن تطمئن حزب الله بأنها لن تتخلى عنه رغم الحوار مع واشنطن، وتحاول أن تطمئن حلفاءها في لبنان وسوريا بأن العراق لم يزل في يد أمينة، وهي تعمل على استعادة بعض ما خسرته من التدخل الروسي في سوريا، وتحاول أن تعوّض الخيبات في العراق وفي اليمن، باندفاعة عسكرية في حلب، شكّلت معركة حلب عنوانها.
هكذا تحاول إيران من خلال دعم الخيار العسكري “طرد الإرهابيين والتكفيريين قريبًا من حلب”، بحسب قول ولايتي. وربما هذا ما جعل الأسد يبلغ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنّه لن يقبل إلاّ بالانتصار الكامل. لكن الرسائل المقابلة في ريف حلب الجنوبي كان لها معنى آخر مفاده أن القيادة الإيرانية والرئيس الأسد يحتاجان إلى أكثر من تعاون روسي لمنع الهزيمة عن جنودهما ومواقعهما في المعادلة السورية التي لم ترتسم بعد.
عندما تتبنى دولة كبرى أساليب أقل ما يقال فيها إنها «صغيرة» أو «مرتبكة»، كما هي حال روسيا في الحرب السورية الآن، تكون إما في منتهى الثقة بالنفس لشعورها بأنها صاحبة الكلمة الأقوى، أو أنها في غاية الارتباك لإدراكها أن ما تفعله، مع حليفها نظام بشار الأسد، لن يؤدي عملياً إلى ما تصبو إليه. ويبدو أن الأمرين ينطبقان على حال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في معركة حلب المستمرة منذ أكثر من أسبوعين.
فليس سراً أن هذه المعركة، التي بدأت فوراً بعد تعليق وفد المعارضة مشاركته في مفاوضات جنيف، استهدفت الضغط على الوفد لتغيير موقفه الرافض لبقاء الأسد في المرحلة الانتقالية التي يتم البحث بها حاليا، وبالتالي إنقاذ النظام من مصيره المحتوم. ولذلك تحديداً، بادر بوتين إلى اعتماد «صغائره» هذه في تبرير الحرب على حلب أولاً، ثم الكذب بشأنها وبشأن الهدنة التي سميت «نظام تهدئة»، مرة بعدم شمولها المدينة، وأخرى بأن التهدئة تقتصر على اللاذقية والغوطة الشرقية، وثالثة بأن القصف يستهدف «داعش» و «جبهة النصرة» من دون غيرهما... إلى حد أن وزير خارجيته سيرغي لافروف اتخذ عدداً من المواقف التي يناقض واحدها الآخر، بل وحتى يكذبه علناً وبكل وضوح كما يأتي:
> قبل بدء المعركة في 19 تموز (يوليو)، صرح لافروف بأن انسحاب الوفد من «جنيف 3» يؤكد أنه لا يمثل المعارضة في سورية من جهة، وأنه من جهة أخرى لن يؤثر على المؤتمر الذي سيستأنف في موعد (حدده من تلقاء نفسه) هو يوم 10 أيار (مايو)، وأنه سيعقد بمن حضر لأن وفد المعارضة، كما قال، «يريد نسف التسوية السياسية في سورية».
> بعد ارتكاب النظام مجزرة تلو أخرى (نحو 250 قتيلا خلال 4 أيام)، سارع لافروف إلى ادعاء أن المعارضة، وليس النظام، هي من نفذ هذه المجازر. ثم أنه، إثر اتصال أجراه معه الوزير الأميركي جون كيري، أدلى بتصريح قال فيه إن «التهدئة» تشمل اللاذقية والغوطة الشرقية وليس حلب أو حتى ريفها. وبعد ذلك بساعات، أعلن أنه لا ضمانات بوقف النار لا في هاتين المنطقتين ولا في حلب.
> بعد اتصال آخر مع كيري، قال إن هناك أملاً بوقف القتال خلال ساعات. لكنه، إثر زيارة قام بها المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا إلى موسكو، تحدث عن هدنة لـ24 ساعة في كل من اللاذقية والغوطة... من دون أن يذكر حتى كلمة حلب؟!.
لم يكن خافياً على أحد، خصوصاً على كيري ودي ميستورا، أن «صغائر» لافروف تريد إعطاء الأسد، ومعه ميليشيات إيران و «حزب الله»، وقتاً كافياً لحسم معركة حلب، لكن الأيام مرت (أسبوعان كاملان) من دون التمكن من إنجاز الهدف. على العكس، قامت الدنيا ولم تقعد على موسكو بالذات، لأنها لم تمارس ضغطاً على الأسد طالبها به العالم (مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) لوقف مجازره في حلب.
وهكذا، صدر من موسكو يوم 3 أيار موقفان كشفا طبيعة «الارتباك» الروسي (الكذب العلني) من ناحية، وزادا من ارتباك المجتمع الدولي إزاء حقيقة موقفها من ناحية ثانية. أولهما، كان تصريحاً من لافروف قال فيه إن الأسد ليس حليفاً لروسيا، إلا أنها تقاتل معه ضد الارهاب في سورية. أما الثاني، فكان الإعلان عن سحب 30 مقاتلة روسية من قاعدة حميميم، بالطريقة ذاتها (فجأة ومن دون سابق إنذار) التي أعلنت فيها موسكو قبل شهور عن سحب «الجزء الأكبر» من قواتها وطائراتها الحربية في سورية.
والأدعى للتساؤل في هذا السياق، أن الإعلان بعد ذلك عن اتفاق أميركي/ روسي على هدنة لـ48 ساعة في حلب، تبعه تصريح من الأسد قال فيه إنه أبلغ بوتين في اتصال بينهما أن معركة حلب لن تتوقف «قبل سحق قوى المعارضة فيها».
والسؤال هو: هل يعيد التاريخ نفسه، أي سحب القوات الروسية في 15 آذار (مارس) الماضي تحضيرا لمحادثات «جنيف 3» بمشاركة الأسد، وسحب المقاتلات الآن ضغطاً عليه للعودة إليها، أم أن المسألة روسية أولاً وأخيراً، وتتعلق بارتباك قيادتها بين «الحليف الذي لم يعد حليفاً»، لكنها تقف إلى جانبه، كما قال لافروف، وبين شريكها الآخر في تسوية الحرب السورية (الولايات المتحدة)، بعد أن أعطاها كل ما تريده وتحتاج إليه لإنجاز هذه التسوية؟.
بل أكثر: هل كانت روسيا، التي قال رئيسها في وقت سابق إنه ترك في سورية قوات تكفي لحماية النظام ومقاتلة الارهاب، تتوقع أن تتمكن قوات الأسد وميلشيات إيران و «حزب الله» من حسم المعركة في حلب... وخاب ظنها؟، أم أن ما في ذهن موسكو يختلف جذرياً عما في خطة الأسد وحليفه الأول في طهران... لذلك كان هذا «الارتباك» الروسي في الفترة الأخيرة؟.
الواقع أن من شأن الدول الكبرى أن تكون لها سياسات كبرى، بما فيها الأساليب والأدوات المستخدمة فيها. وقد تقع دول كبرى في ارتباك، لكنها غالباً ما تعترف بالخطأ وحتى تملك شجاعة التراجع عنه، كما حدث مع بريطانيا وألمانيا اللتين استقبلتا، في عز معركة حلب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب، ومع فرنسا التي دعت إلى عقد اجتماعين في باريس، أحدهما مع السعودية والإمارات وتركيا وقطر ووفد المعارضة السورية، والثاني مع مجموعة ما يسمى «دول أصدقاء الشعب السوري».
فهذه الدول الثلاث، وهي دول كبرى، فعلت ذلك ليس فقط تنديداً بمجازر الأسد في حلب، إنما أيضا وفي شكل خاص رفضاً لموقفي روسيا والولايات المتحدة اللذين يصح القول إنهما كانتا معا، وعلى رغم تهديدات كيري للأسد (إذا لم تلتزم، ستكون هناك تداعيات) «مرتبكين» قولاً وفعلاً منها.
من الممكن أن تتخيل أن يتضمن معرض الكتاب صوراً لكتّاب و شعراء و بعض من المناظر الطبيعية، المشجعة للانفتاح العقلي و الروحي، وطبعاً هذا في البلدان ذات صفات طبيعية، و لكن ليس في ايران حتماً، التي حولت احدى قاعات معرض طهران للكتاب إلى "استوديو" لالتقاط صور تذكارية على ركام سوريا و مدنها و قراها، في مسعى لنشر ثقافة التدمير و ترسيخها بين شعوب المنطقة، تحقيقاً لخرافاتهم و طموحاتهم التوسعية و الانتقامية من آلاف السنين.
عشرات الصور نشرتها الوكالة الرسمية الايرانية، لإيرانيين وهم يركبون دراجة نارية عسكرية، و يتخذون وضعيات مختلفة، مع لباس عسكري، وعلى محياهم ابتسامات و لمعة النصر في عيونهم، و لكن أين و على ماذا، هذا ما توضحه الخلفية التي هي عبارة عن صورة من الدمار الهائل الذي حل في سوريا نتيجة آلة القتل المستمر منذ خمس سنوات، بفضل الدعم الايراني الكامل و المتواصل و المتصاعد.
ليس من السهل تفكيك التصرفات التي قام بها أؤلائك الايرانيون، أو تحليل شعورهم العارم بالسعادة، و كذلك مدى خبث القائمين على هذا العمل في زرع تسهيل واباحة قتل أكثر من ٤٠٠ ألف سوري و تشريد ١٢ مليوناً، و تدمير ٧٠٪ من هذا البلد، و انهاء الاقتصاد، تفكيك المجتمع، و ايقاد نار حرب لن تنطفئ قبل أن تأكل الملايين من البشر، وحتى عندما تنتهي من هذه الملايين، لن تهدأ و ستتجدد كل ما أتت الفرصة، لكن هذا جزء من كم هائل من التصرفات التي تعمد ايران على اتخاذها بغية زيادة التجييش الطائفي، وتحويل سوريا إلى كربلاء جديدة، تدعو لـ"حسين" جديد يدافع عن آل بيت روسول الله.
عشرات الصور التي تم تداولها ( أرفقها مع هذا المقال)، تظهر نساء و رجال و فتيان و أطفال، و هم يمارسون متعة الانتصار على خلفية تحمل أحد الشوارع المدمرة جراء القصف و المعارك التي تخوضها و تدعهما ايران في سوريا، ضمن جناح اطلق عليه "المدافعون عن الحرم" لإضفاء الهيبة و الأهمية و سلخ أي صفة إجرامية.
نظام الملالي يبحث من خلال هذا التصرف و عشرات الاجراءات الأخرى، عن إعادة اشعال نار الفتنة، و تصعيدها للحد الذي يعيد لعمائمها سيطرتهم المطلقة، و نفوذهم اللامحدود، الذي خبى مع انتهاء الثأر من "البعث العراقي"، وباتت الحاجة لخلق "بعث" جديد، يجعل من خامنئي "خميني" جديد، يدخل تاريخ "المخلدين"، ويحي مبدأ تمثيل "الألوهية" على الأرض، باعتباره سفير "امام الزمان" المهدي المنتظر، وفق المبدئ الأساس و المطلق الذي يقوم عليه المذهب الشيعي الاثني عشري، الذي تم اختلاقه و تعزيزه و ترسيخ مبادئه من قبل "الفرس" الباحثين عن خلق الفوارق مع العرب، لتنفيذ الانتقام من العرب، لثأر يعود لبداية الإسلام الذي حطم عروش" كسرى"، ووعد نبيه الأكرم "صل الله عليه و سلم" بأن (لا كسرى بعد كسرى).
شبّه الايرانيون القتلة في سوريا بأنهم يمثلون الحسين في دفاعهم عن أهل البيت الرسول، و لكن هذه الكلمة "الرسول" تم نسخها، انتقاماً من (لا كسرى بعد كسرى)، و تم وضع مصطلح آل الله، لإلغاء كل من هدد أو توعد بزوال الفرس و عدم عودتهم، حتى لوكان رسول من الله، ينقل ما أوحى إليه، لتظهر الحقيقة الكاملة بأن الصراع ليس صراع طائفي داخل دين واحد، و إنما صراع على مستوى حضارات بأسرها.