بعد أن حمل الثوار السلاح ونشأت الكتائب والألوية
بدأت تظهر من الشمال السوري بوادر الفرز إلى (كتائب إسلامية) و (جيش حر) ..
أول ما سمعت المصطلح لم أفهمه كان ذلك أواخر 2012 .. فقد سألني بعض الاخوة من الشمال حين كنت بضيافتهم :
- أنتم في الغوطة "جيش حر" ولا "كتائب إسلامية" ؟
لم أفهم السؤال ، لأستطيع الإجابة .. لم يكن الفرز قد وصل إلى الغوطة .. ولم يكن مرض التصنيف قد أصابنا ..
فلم أملك أن أجيبه إلا بالسؤال :
- الجيش الحر أليس إسلامي ؟؟!
وحين بدأ الخلاف يظهر ويطفو على السطح أكثر وبدأت مفرزاته تصل لوسائل الإعلام، كان من الطبيعي جداً أن ننحاز للكتائب الإسلامية فوراً ..
- فهذه إسلامية المنهج ، إسلامية الشعار ، إسلامية الفكر ..
- لديها شرعيون يوجهونها ..
- لديها محاكم تضبط عملها وممارسات أفرادها وقاداتها ..
- كل خطأ يحصل لابد أنَّ له ملابسات لم تصلنا، أو لعلَّ هنالك مخرج شرعيّ لما تقوم به ..
- الأخطاء التي كانت أخطاء كاملة المواصفات ، كنا نقارنها فوراً بأخطاء الكتائب المستقلة "كتائب الجيش الحر" ونقول أين هذا من ذاك ؟
- أهدافها هي أهداف الأمة كلها ، ليست محصورة في حدود صنعها الغلامان (سايكس وبيكو)..
- ليس لها ارتباطات خارجية مع الأعداء الأمريكان وعملاءهم الكفار المرتدين ..
إلى غير ذلك من التوصيف بعد التصنيف الذي كان نقوم به تجاه كتائب الجيش الحر ..
فكان أن كبّرنا وأظهرنا وفخّمنا من إيجابياتهم، أما سلبياتهم وممارساتهم الخاطئة حيناً نبررها، وحين نكذّبها، وحيناً نتعامى عنها ونخفيها عن عيوننا لنقنع أنفسنا أنها افتراء.
..
ومع تطور الفصل بين الطرفين "كتائب الحرّ المستقلة" والفصائل "الإسلامية المنهجية" بدأت القضايا كلها تطفو على السطح، وبدأ الخطاب الداخلي والخارجي يطفو على السطح أيضاً ..
فلم تعد قضية الازدواجيّة أو التقية تنفع حين يكون للفصيل (خطاب للتصدير وخطاب للاستهلاك الشعبي) ..
فكلا الخطابين لا ينفصلا عن بعضهما طالما أن المصدر واحد، وتتناقلهما الآفاق، فلا يمكن حجب الخطاب -المصدَّر للخارج- عن الكوادر ، ولا يمكن حجب الخطاب الشعبوي عن وسائل الإعلام الأجنبية فضلاً عن العربية ..
وبالمقابل كلّ ما كان يشاع عن فصائل الجيش الحر (الكتائب العلمانية التابعة العميلة) بدأ يطفو على السطح فيظهر على وجهه الحقيقي ، ويتمايز على الأرض الافتراء من التهويل من الحقيقة ..
وتبيّن الفرق بين الكتائب الفاسدة التي هي أشبه بقطّاع طرق ، وبين الكتائب المقاتلة على الأرض لم تتخلَّ عن هدفها ولم تنحاز عنه ، فسقطت شبهة التعميم الذي كانت لغة خطابنا عن جميع كتائب "الجيش الحرّ" ..
ومع وصول الخلافات بين الطرفين ذروتها ، بدأ تحوّل الخلاف إلى اقتتال ..
اقتتال أخذ الذريعة الشرعيّة ، وأخذ ظاهراً سمة قتال المفسدين والفاسدين ، ومحاربة قطّاع الطرق ، بينما كان القتال في حقيقته غير ذلك .. نفوذ ، وسلطة على الأرض ، وتحييد الأطراف الأخرى إلى أن يصل الأمر كمان فعلت داعش في الشمال للسيطرة الكاملة
وإنشاء إمارات مستقلة بحكم ذاتي ذو شكل إسلامي ، يلغي الآخر تماماً ..
ومع صعود المناهج إلى السطح ، تطوّرت الخلافات إلى خلافات بين المناهج نفسها .. مما عزَّز من ظهور مالم يكن يظهر سابقاً .. وزالت الهالة الكبيرة الإسلامية التي كانت تحاط بما يسمى بالكتائب الإسلامية .. وبرزت للسطح أمور أخرى ..
برز للسطح المناهج ، أنها هي الهدف لا الثورة ولا إسقاط النظام ..
برز للسطح الولوغ في الدماء ..
برز للسطح التكفير ..
برز للسطح التنكّر للمحاكم والقضاء ، وأن (حدود الله) هي قضاء الشرعي تبعنا فقط لا غير ..
برز للسطح أن الإسلام ما قاله الشرعيّ ، ليس ما قاله الله ..
برز للسطح الانحراف عن أهداف الثورة ، والتقوقع في أهداف الفصيل والمنهج ..
برز للسطح المعارك لسمعة الفصيل ، وغابت المعارك لإسقاط النظام ..
وبرز للسطح أمراض النظام التي ثار الشعب عليها ، فإذا بها تتجسّد فينا نحن الإسلاميون للأسف ونحن أول من يجب أن نتخلص من هذه الأمراض ..
أما كتائب "الجيش الحرّ" / المستقلة ، التي شيطنّاها ، وحاربناها ، واتهمناها .. فقد تبين لنا أنها :
أقل ورعاً في الدماء ..
تستجيب للشرعي الذي يقول بقول الله ورسوله ، فطرةً واستجابة .. ولو كان من الطرف الآخر ..
لم تحتكر إمارات ومناطق حكم ذاتي لها ..
مازالت بوصلتها واحدة (إسقاط النظام والانتصار على الأسد ومن معه) ..
لا تتنافى خطاباتها وممارساتها الثورية مع المبادئ الشرعية والعقدية ..
أخطاؤها تنبع من كونها (أخطاء) فهي عندما تسرق (تسرق) وعندما تقطع طريق هي (تقطع طريق) وعندما تقمع هي (تقمع) ..
بينما أخطاء الكتائب الإسلامية شابها -للأسف- التقية والتحريف .. فهي عندما تسرق (تأخذ غنيمة) وعندما تقطع طريق فهو (فيء) وعندما تقمع فهمي (تحمي بيضة الإسلام) وعندما تمارس التعذيب والتنكيل والاستبداد فهي تقيم دولة الإسلام ..!
لا أدري هل يعلم الشرعيون والقادة وكوادر الكتائب الإسلامية أن سوريا تتسع للجميع، وأن الشعب السوري ثار على (حكم الحزب الواحد والفرد الواحد واللون الواحد والقرار الواحد) ..
ولئن كان لأسد يمتطي العلمانية حيناً ، والبعث حيناً ، ليثبّت أركان حكمه ، فإنه من الأسوأ أن يمتطي البعض الإسلام والشريعة والنصوص والأحاديث لتبرير سلطته واستبداده ..!
فالكتائب المستقلة تؤمن بوجود الجميع وتدلّ على ذلك ممارساتها ، وهي تشارك الآخرين في المعارك ، والقرارات وغيرها ، تعترف بوجودهم ..
بينما الكتائب الإسلامية تعتبر أن الاخرين جهلة ، من مخلفات نظام الردّة ، حملوا السلاح حميّة لا عقيدة ، و: شتّان بينك يا مجاهد وبين ذلك المسكين ضعيف الإيمان .. فلا تترك له منفذاً ولا رأياً ولا هامشاً ..
وقد رأيتُ كيف تُحرر الكتائب المستقلة المناطق ، ثم تُشجع على إقامة المجالس المحلية المدنيّة لتتفرّغ لقتال النظام ، فيما تصرّ أغلب الكتائب الإسلاميّة عند تحرير أيّ منطقة على رفع علمها ، وتثبيت محاكمها ، وجعل شرعييها القادة الآمرون الناهون في هذه المناطق ..
..
لابد لنا من عودة حقيقية لأهداف الثورة .. التي لم تتعارض يوماً مع الشريعة الإسلامية ..
ولابد من مراجعات لدور الشرعيين الذين يعتبروا جزءاً من مشاكل الثورة الكبيرة التي هي معضلة لا يمكن حلّها دون وقفة جادة ..
فالهدنة حين كانت حراماً وكفراً وردّة ، باتت الفصائل الإسلامية نفسها تقرّ بها وتجد الذرائع الشرعية للقبول بها ..
والمفاوضات حين كان مبدأ (الولاء والبراء) يُخرج من يقوم بها من الملة ويخوّنه ويتهمه، باتت "الفصائل الإسلامية" تتراكض إليه وتأخذ مقعداً متقدماً فيها .. والفتوى موجودة طبعاً ..
فمتى نعيد للثورة حقها ..؟
ونعيد للثوار حقهم ..؟
وندرك أننا لابد أن نرجع للبوصلة الحقيقية للثورة .. وأن نرجع لمبادئ الثورة الأولى ..
فلا بأس كما كان "مشروع أمة" هو المشروع الإسلامي السامي ، لينزل الإسلاميون أنفسهم منه لـ" ميثاق الشرف الثوري" بعد أن أدركوا أن "مشروعهم" كان كبير المقاس عليهم وعلى "أمتهم"..
لا بأس أن نعود لمبادئ الثورة الأولى ، لفكرة الثورة الأولى .. ثورة تتسع للجميع ، ولها هدف واحد لا يحيد بمبادئ بسيطة هي من جوهر الدين بدلاً من اختزالها وحرفها عن بوصلتها ، ووأدها ، بطريقة مشرعنة ..!
تغطي سماء سوريا حالياً سحب الطائرات العسكرية بشتى أنواعها ، ترمي الموت في كل مكان و على أي شيء ، مشفى مدرسة بناء سكني أياً كان بلا حسيب أو رقيب أو مدعي حزن، في حين يكفي تفجيرات قليلة في مدينة ساحلية لأن يستفز العالم لها و يلتئم مجلس الأمن للتنديد فيها .
مجزرة كبيرة في مشفى ادلب الوطني، لم يتم إحصاء نتائجها لكثرة الركام فوق جثامين الشهداء أو من يصارعون بانتظار المنقذ لهم، صلية من الصواريخ تم توجيهها إلى كفريا و الفوعة لم تصب أحد أن خابت كعادتها، و لكن النيران في الداخل تم تفريغها من قبل القيادات العسكرية، و لكن هل فرغت نيران المواطنين، و الأهم من المشاعر هل ستحميهم في المستقبل من غارات مماثلة ..!؟
الحقيقة و بدقة "كفريا و الفوعة" لن تجد مؤيد لها في هذا العالم، فقصفها من عدمه لن يجدي نفعاً، فهم من الشيعة الاثني العشرية، و من النوع العربي الرخيص بالنسبة حتى لراعي هذه الطائفة، وماهم إلا موقد لإشعال نيران الحقد لدى الشيعة الفرس للهبوب باتجاه سوريا تنفيذاً لمخطط فارسي بلبوس شيعي .
ولكن ان كان هناك من رد حقيقي على المجازر المتعاظمة في الشمال السوري عموماً، فلا يوجد أفضل من معركة الساحل، فهي تصيب قلب العدو الروسي الذي جاء ليؤمن سوريا المفيدة، العلوية المطياعة الوديعة الآمنة البعيدة عن الإرهابيين، محاطة بالجحيم و هي في النعيم، و توصيفاً دقيقاً "إسرائيل جديدة"، و أي اقتراب منها يعني أن الحلم بتلك الفائدة قد اهتز و بات مهدد، و سيلجؤون لأي شيء لحمايته و لو دفعهم لإرضاء المهاجمين، وطبعاً شريطة أن يكونوا الآخرين قد قرروا الهجوم الحقيقي، و ليس الاقتصار على بيانات و الاستفادة من تلك الإعلانات مزيداً من حشد الدعم و الامداد، لتنتهي بأسوأ مما بدأت و نخسر مزيداً من المناطق.
لن يكون هناك هدوء و صراخ يعلو أنين أجسادنا التي أرهقها القصف و النيران ، سوى صراخ المتباكين على الوحدة السورية و ضمان بقاء التركيبة على ذاتها، فلا أمل إلا بإقحام أرضهم مع أرضنا التي حرقت، و هنا تتساوى المعادلة العسكرية و يتحقق التوازن على الأرض، و الذي لن يتحقق بإعلان أن هذه المنطقة لي و من بعدي الطوفان.
تبدأ معظم مقالاتنا بـ"ما زال"، الكلمة الأكثر ملائمة للواقع و للفكر الرائج في سوريا، والاستمرارية بالتعنت و التبعية والمناطقية تجعل كلمة "ما زال" هي الكلمة المستأثرة عن غيرها في صدارة المقالات و الأخبار، و حتى الفكر الديني المنتشر بين أفراد المجتمع الذي غفل عن التعبير عن ذاته باستقلال عن الفكر الذي تربى عليه
في نظرة شاملة للوضع الراهن تجد الصورة المختصرة أن الأغلبية لازالوا يرددون كلمات مبعثرة باتت تنزوي بين ركام الحرب بطريقة للأسف أشبه لـ"ببغائية"، فتسمع هنا وهناك عن السلفية و الإخوان و الاعتدال والعلماني، و تجد هذا يستلطف الاخوان المسلمين و ذاك يتقبل النهج المعتدل، والبعض يعتبر ذاك الفصيل أقرب لتنظيم الدولة، و بعضهم الآخر يصنف هذا الفصيل كسلفي، وذاك يحارب العلمانيين، حتى أصبحنا في دوامة "وهمية"، فيما الحقيقة ان أغلبية الشعب السوري مسلم سني يؤدي أركان الاسلام ويؤمن بأركان الإيمان بالفطرة و كعادات مجتمع تربى عليها
وإن فكرت أن تسأل أحد قادة الفصائل التي تزعم أنها أقرب للسلفية، أن يعطيك شرحاً عن الفكر السلفي لتلعثمت كلماته وأخبرك ما يردده مشايخ هذا الفكر في بداية كل حلقة أو كل حديث لصحيفة بأن السلفية هي اتباع السلف الصالح ، وهو في الواقع ما نقوم به نحن كسوريين ليس أكثر، لتكتشف أن كلمة السلفية هي "موضة" العصر و بعبع هذا الزمان لذا فالكثير من الفصائل تقرن تشكيلها به، أما ان سألت مناصراً للإخوان أو عضواً من جماعتهم عن معنى الإخوان يبدأ بالسرد أن حسن البنا هو من اسسها وأنه فكر يسعى للإصلاح الشامل، وأن هذا الحزب أسس كأول فكر سياسي إسلامي، وماذا بعد؟ لن يجيبك لأنه اعتاد على هذا و لا يعلم أصلا إلا ما ضخ في ذهنه خلال فترة انتمائه لهذه الجماعة في بداية كل اجتماع، ما يذكرني بفكر حزب البعث العربي الاشتراكية، فحين كنت تسأل أي سوري ما معنى حزب البعث كان يقول هو وحدة- حرية- اشتراكية، وما هذه الكلمات إلا تلقين ببغائي للشعب كي يعيدها ويكررها حتى أنه حفظها عن ظهر قلب، وإن سألت أحد أعضاء الائتلاف الذين يدعون العلمانية، ما العلمانية فإنه سيبتسم ويقول لك هي الحرية الحقيقة، و فصل مؤسسات الدولة المدنية عن الدين، وإن سألته عن القانون الداخلي لهذه المؤسسات و هيكليتها فإنه سيستأذن منك وينصرف، لأنه لا يملك أدنى معرفة بهذه الامور، فدوره ينتهي عند هذه النقطة، التي تعتبر "برستيج" جماعات الفنادق
هذه الازدواجية التي يعيشها المجتمع، قد أخرت من انتصار الثورة، وجعلتنا نبقى لأتباع بدلاً من أن نتحول الى فكرة مواطنة، وبتنا ننعت الناس باعتقاداتهم السلفية أو الإخوانية او المعتدلة او العلمانية، بالرغم من أن جميعهم تربى على فكر واحد وعادات أقرب لبعضها، وبالرغم من أن صلاة أحد أصدقائي بالجامع في كل وقت أو صيام احد أعضاء الائتلاف أو تربية اللحية لقائد فصيل لا يقدم في حياة السوريين ولا يؤخر، ولا يؤثر في رحيل الأسد
هذه المشكلة التي نعاني منها كسوريون، أننا لم نستطع حتى الآن أن نفصل مشاعرنا ومعتقداتنا الدينية والمجتمعية وحتى العقائدية، عن مصلحة إعمار الوطن، ولم نستطع أن نفكر بالآخر كإنسان له حق وعليه واجبات، وأننا ولدنا جميعاً على الفطرة و أن آل الأسد زرعوا هذه الازدواجية في باطن عقولنا ، وبتنا نحكم على فصيل من منظر قائده الملتحي و على عضو في مؤسسة من كلماته الببغائية التي يقولها بعد أن حفظها كآلة تسجيل ، ولكن للأسف هذا الجهاز لم يخزن إلا جملتين يكررهما أينما ذهب، فيما بقيت أعماق الكلمة و معناها مشفر لأنه إعتاد أن يتلقن ويعيد التسجيل، ومحذر عليه أن يحفظ او يفهم أكثر لأنه سيكون خطراً على المجتمع
بالمناسبة وبعد مرور خمس أعوام و نيف على الثورة، كلنا سلفيين إخوانيين علمانيين معتدلين، بالمختصر نحن سوريون، نريد وطناً حراً، و كرامة و بعضاً من الانسانية، بعيداً عن لصوص الأزمات و متملقي المناصب
رغم كل سوداوية المشهد العام الذي يحيط بسوريا من كافة الجوانب، لايزال المشهد المتعلق بالمعارضة السورية التي نصبت نفسها كممثل عن الشعب السوري بتسلسل مزعج، يؤرق كافة مناحي الثورة و تسبب بإصابتها بعجز و عدم تمكنها من النهوض و مواجهة ما يحاك ضد الشعب، أو على الأقل أن تكون قادرة للدفاع عن نفسها أما انهزامها أمام الرأي العام السوري على الأقل ، و تغييبها التام في السياسة الدولية.
الائتلاف الوطني، في حلته الجديدة، قرر انتهاج أسلوب مقتدر في التعامل مع الاعلام و المفكرين بان يكونوا في صف القضية السورية، و أن يقدموا رؤيتهم للحل و السبل الأفضل التي من الممكن سلوكها بغية تحقيق اختراقات في سلسلة العقد الغير منتهية في الملف السوري، و اعتمدت الخطوة على ورشة عمل جديدة ضمت أهل البيت و بعض الصحفيين و المفكرين الذين لهم باع طويل في السياسة، و لهم دورهم بارز في الصحافة العربية ذات الصبغة العالمية و طبعا غالبيتهم غير سوريين ، و لكن هل هذه خطوة جيدة أم سلبية.
أذكر جيداً الحوارات التي أجرينها كإعلام ثوري مع وفد الهيئة العليا للمفاوضات عبر الدوائر التلفزيونية، ومدى انعكاسها على سوية و أداء الاعلام الثوري المنهك من الإهمال و المصارع للبقاء في ظل الانتقائية و العبث الذي مورس ليكون هذا الجناح الأهم مهمشاً و مشككاً فيه، لكن تلك الفرحة لم تدم، فقمح البيت لا يعجب .
الغريب أن الائتلاف كما اعتاد في عبثيته و تهوره، و حرفياً "مراهقته"، يعمد على اللحاق خلف الأجنبي الذي يعرف و يفهم اللعبة و متقن لآلية أكل الكتف، و لكن هذا الأجنبي هو بعيد كل البعد عن تركيبة الشعب السوري و الأهم كيمياء الوضع الميداني، فتخرج قرارات و تصرفات الائتلاف و كل ما ينبثق عنه عبارة عن تغريد خارج السرب، و يبتعد الائتلاف عن الشعب أكثر فأكثر، و يتحول لغريب معاد له، في حين أن المفروض أن يكون عبارة عن ناطق باسمه و ناقل لألمه.
خمس سنوات من "التخبيص" المتواصل، خمس سنوات من مراهقة مجموعة من الشائبين (عمراً و فكراً)، كافية لأن يتولد لدينا مجموعة متجددة كلياً عن هذا الرعين، و الأهم من هذا مجموعة ولدت من رحم المعاناة، نالت الاعتقال و أخذت نصيبها من القصف و ذاقت طعم التشرد و لفحت وجوهها شمس المخيمات، و أَلِم قلبها لفقد أو لغياب معتقل أو شهيد.
خمس سنوات بغياب أي مشروع على الأرض .. حكومة مؤقتة فاشلة بقوة ، هيئة تنسيق لدعم ضائع و مشاريع هي لأحلام في الهواء، و لم يتمكن حتى من إيجاد فصيل واحد يمثله على الأرض و لو ببضع رجال.
خمس سنوات كافية لأن يترك اللاعبون في السياسة العائدة لشعب قدم الفاتورة الأعظم و لازال يقدم دون كلل أو ملل، خمس سنوات بحاجة لانقلاب كامل و شامل و لا يذر أحد، فالوجوه شاخت و ماتت و تحللت و لازالت تتصدر المشهد، و كأن سوريا عقمت و لم تعد تلد إلا تلك الوجوه ... سوريا و شعبها يستحق الأفضل و الأفضل ليس بينكم ..
تفتح المعركة التي أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية باتجاه الرقة لـ"تحريرها" من داعش، بدعم أمريكي غير مسبوق جوياً و برياً و تسليحياً، و حتى كغطاء دولي و تسامح لامحدود مع كل ما يمكن أن يحدث بعد ذلك من تهجير أو تطهير أو ادخال في خارطة فيدرالية تمهيداً لإتمام عملية الانفصال.
يحار المرء اليوم كيف ينظر إلى هذه المعركة و الجلبة التي تقابلها بشكل مشابه تقريباً في العراق و معركة "الفلوجة"، و إن تغيرت العبارات إلا أن الرايات الصفراء تتشابه بين حشد طائفي و قوات انفصالية، و العدو الشكل واحد، و لكن المتضرر الحقيقي و الفعلي هم المدنيين، و وحرفياً و أكثر دقة "السنّة"، فهم سيخسرون أرضهم و حياتهم و كل ما يمكن أن يجعلهم موجودون على الخارطة الجغرافية أم الديمغرافية في المنطقة.
في الحقيقة التقدم باتجاه الرقة ليس بالأمر الصعب، في واقع الأمر فالتحالف الدولي عندما يضع خطة و يتحضر لتنفيذها فهو ينجح حتماً ، نظراً للإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها و القدرات على التمهيد الجيد لأي قوة تتقدم على الأرض ، لدرجة من الممكن أن يكون التقدم عبارة عن ممارسة لرياضة "المشي" مع بعض الهرولة، مع إمكانية ممارسة هواية التقاط الصور التذكارية التخليدية للحظات لن تنسى.
فالتقدم باتجاه الرقة و بدعم التحالف شيء بات مفروغ منه، و لكن هل لنا أن نسعد بهذا التقدم و نهلل له كونه سيقضي على أهم مراكز من طعن بالثوار و حاربهم أشد حرب ، أم نحزن لأن الاستبداد الذي سيتم بين داعش و قسد ، ما هو إلا استبدال ألوان بذات التصميم و التفاصيل، التي لن يكون معهما أي وجود للسكان الأصليين للمنطقة ، و المكوّن الذي بنى و أسس الحضارة و بنفس الوقت شهد على تدميرها من قبل الجميع.
هناك نوع من اختلاط المشاعر يوغل في الصدور حقد من نوع مغاير لما عرفناه، فمنّا من يقول "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين و أخرجنا من بينهما سالمين"، و هناك من لايهتم فالأمر مرتزقة فيما بينهم و الاثنين إلى زوال، و آخرون قرروا الاصطفاف إلى جانب هذا الطرف أو الآخر بوازع ديني أم قومي، و لكن عندما نتخذ أي موقف هل نكون قد وفقنا و أرحنا ضميرنا ووجدنا السلام الداخلي.
أصدق ما يكن قوله فيما يتعلق بهذا الأمر، أن المسلمون "السنة" يسيرون إلى فنائهم في المنطقة، مرغمين و صاغرين و في الوقت ذاته سعداء أنهم سينتهون من عالم مارس ضدهم كل أشكال الإبادة و التلويث و التشويه، دون أن يرف له جفن ، لذا فقرروا الذهاب إلى الله بأقدامهم علّهم يجدوا بعض العوض.
عبثية الحرب التي طالت الفصائل في الغوطة الشرقية، جعلت من الاقتتال الداخلي ذريعة لكل دول العالم وعلى رأسها روسيا، لجعلها حجة أن نظام الأسد هو النظام الاكثر ملائمة في ظل هذا التفاوت والتداخل والصراع ، كما كانت دليلاً قطعياً للدول التي تحمل مسمى "أصدقاء سوريا" والداعمة لتلك الفصائل، كسبب لتخفض في المستقبل القريب من رصيد الدعم المادي والمعنوي على حد سواء لهذه الفصائل
روسيا التي تعرف من أين تأكل الكتف، تفرض هدنة مدتها 72 ساعة في منطقة الغوطة الشرقية وداريا، لتمنح استراحة محارب لقوات النظام بعد سيطرتهم على القطاع الجنوبي للغوطة الشرقية واستيلائهم على معظم الأراضي الزراعية التي تقوت أهالي الغوطة، وتعتبر ذات اهمية كبيرة لاستثماراتهم الزراعية والحيوانية، والتي وصلت الى 40 الف دونم، كانتاج فلاحي الغوطة فقط، ناهيك عن الأراضي الزراعية المستثمرة من قبل المنظمات الاغاثية في تلك المنطقة
ولابد ان روسيا تنظر الى الأفق البعيد لتمنح فرصة للنظام لتحصين المناطق التي سيطر عليها، من خلال استجلاب المؤازرات، و لا سيما بعد الأنباء التي أكدت سحب النظام لمقاتليه من جبهات درعا وصولاً إلى داريا
من المنطقي في هذه الحالة، وبعد سيطرة النظام على حوالي 10 بلدات من القطاع الجنوبي وتغيير خارطة الطريق في الغوطة بين الثوار والنظام، ألا يرضى الثوار بالهدنة، بل على العكس عليهم أن يتجهوا لفكرة غنهاك قوات النظام في فتح النار عليه من عدة جهات، لسترجاع ما خسروه في أقرب وقت ممكن، لكن للأسف فالحقيقة أن الفصائل تهافتت على الهدنة أكثر من النظام نفسه، بعد أن أنهكها الاقتتال الداخلي، و نظرتها لحاجتها أن تلتزم بهدنة لتعيد ترتيب صفوفها من جديد، ولكن ليس لمقاتلة الأسد هذه المرة، بل لمحاربة بعضها بعضاً
لم يكن اقتتال الفصائل بالسلاح ومقتل أكثر من 700 شخص داخل الغوطة، والذين لا يمكن أن نصفهم ب"الشهداء"، هي الحرب الوحيدة على الثورة في الغوطة الشرقية و زعزعة تراصف الصفوف في الجبهات بين الثوار، بل اندلعت حرب اعلامية شرسة، بين كلا الطرفين المتقاتلين، حتى انك تكاد لا ترى صحفياً في داخل الغوطة لم يتحيز لأحد الطرفين، ما أدى الى توجه مواقع الاعلام الثوري و القنوات الفضائية الى الاتجاه الذي يتجه إليه مراسليه، الأمر الذي يبعد الاعلام حتى عن الحيادية و النظر خارج بوتقة الخلافات
روسيا تمنح للفصائل وقتاً اضافياً للاقتتال فيما بينهم، وبينما هي تبحث عن خطة جديدة للتوسع في الغوطتين، تتجه الفصائل للبحث عن وقت اضافي لوضع المزيد من الحواجز بين بلدات الغوطة ومدنها، ويتجهم شرعييها لإصدار فتاوى بشرعية الاقتتال أكثر لفرض سيطرة كل فصيل على نقاط أكثر، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، والذي قد يعتبره شرعي الفصائل حجة زمنية للدفاع عن النفس و استباحة الاقتتال الداخلي، فقد بات الدين صكاً من صكوك شراء الضمائر في هذه الفترة من الثورة
ربما هذه حقيقة المرة للحرب في سوريا التي لازالت تولد في كل يوم من رحم الطعنات، فالحرب في سوريا أمست أكبر من حاربة ضد نظام الأسد، ويبدو أنها تحولت الى تورط الجميع مع الجميع وضد الجميع في الاقتتال، ولم يعد للمخطئ قدرة ان يتراجع عن تجاوزاته التي تزداد يوماً بعد يوم، و بات الشعب يموت كما تموت البهائم حين ينزل بها وباء، ولم يعد في الامكان احصاء أعداد القتلى، وأصبحت مسميات القبور بالأرقام والتارات لا بالأسماء
إن كنت تزرع بذرة الخيزران، فلن تنمو بعد عام، ولن ترى لها أثرًا بعد عامين أيضًا، بل وستظنها اختفت وذابت تحت الأرض في العام الثالث، حتى تنسى أنك زرعت بذرة الخيزران في العام الرابع، ولكن .. في العام الخامس، تنتفض بذرة الخيزران لتخرج على وجه الأرض وبمقدار 24 سنتيمترًا دفعةً واحدة، ثم تبدأ بالنمو الواثق تحت ضوء الشمس بمقدار متر يوميًا، فتكون بعد هذه السنوات جاهزة لتحدي الجفاف، وللوقوف بوجه أعتى الرياح.
أعتقد أن أول ما يذهب إليه البال في هذه المعلومة هو "حال الثورة السورية"، والتي واجهت عدوان نظام البراميل وتجويعه وحصاره، وواجهت مؤامرة المجتمع الدولي على أهلها، وواجهات احتلال قوات أجنبية لبلادها، وتواجه اقتتال الأخوة وتشتتهم، بعد أربع سنين من انتظار شجرة الخيزران وبعد أربع مواجهات خاضتها وتخوضها الثورة السورية وغيرها كثير من المواجهات الجانبية، نعلم تمامًا كم أصبحت عميقة هذه الثورة فينا، ولكن هل كان الثوار فيها كشجرة الخيزران، يدقون جذورهم ويحفرون الأنفاق مثلها، فإذا اكتمل لديهم الانغراس والثبات، شقّوا الأرض صاعدين بثقة إلى سمائهم وحريتهم.
يقول العرب عن شجر الخيزران "أعواد الرماح"، لأنها رافقتهم في كل حروبهم، وسبقتهم منغرسة في صدر أعدائهم، وكما أن الثورات لا تنتصر بالكلام، ولا الدول تبنيها التصريحات، فإن الأوطان ترتفع بمقدار ما نقدم لها من تضحيات، لا بمقدار ما ننغمس في وحل المفاوضات والخلافات وتغليب المصالح الضيقة على المصلحة العامة، وبمقدار ما ننغرس في باطن الأرض، ثم نخرج بقوة نحو فضاء أحلامنا، لقد فرضنا وجودنا بقوة صدقنا وحبنا، ونحن جاهزون للعطاء والتضحية.
فلنكن رماح الثورة .. وإلا ذرتْنا الرياح
يعتبر المتهم البريء الذي يتم تحويله من معتقلات الأسد في إلى المحاكم الميدانية أو الارهاب أو حتى المحاكم العسكرية في أحسن تقدير محظوظاً، فبعد أن يمر عليه عامين أو أكثر، يقف أمام مصطلح يسمى "قاضي" ليمنحه حكماً بالمؤبد أو بـ ١٠ أعوام، ورغم أن هذا الحكم طامة كبرى في الأحوال العادية وفي دول العالم كافة، إلا أنه قد يكون فرجاً على المعتقلين السوريين الذين سيضمنون على الأقل عيشتهم بعيداً عن شبح الموت من الضرب أو بالربو في الأقبية المتعفنة أو التهاب جرحه و غزو القيح
ما يثير الضحك أو الشفقة هو ما يسميه نظام الأسد بـ"القضاء"، في تعدٍ سافر على هذه الكلمة، ففي "قضاء الأسد" الذي يطلق عليه "محكمة الإرهاب" لا قضاء ولا قانون ، بل هو أقرب إلى لعبة الغميضة، و الحظ ذو الدور الاكبر في هذه المحاكم، أما في المحاكم العسكرية، قد تكون الرشاوي المتفاوتة التي كان يأخذها القضاة قبل الثورة أو في بدايتها باتت مبالغ تافهة مع هيجان الأسعار، الذي لا أدري ان كان من الممكن أن نسميه "دية" لفك أسر المعتقل من سجونهم وأحكامهم التعسفية.
ما يجعل الأمر بالنسبة لي أكثر سوءً او غرابة ومثيراً للسخط، هو اصدار القضاء أحكامهم بالاعدام الميداني بحق أحد المعتقلين، اضافة لغرامة مالية تفوق المليون ليرة سورية غالباً، وحين تسأل المحكوم عن حاله يخبرك انه سيستمتع بحياة أطول طالما أنه قادر على الدفع لموظفي السجن وضباطه، بالمختصر حين "يكشكشهم"
و يلجأ المحكوم بالإعدام للططعن في قرار المحكمة بعد الصدمة المبدئية بالقرار القضائي، الذي لفق له تهم لم يرتكبها أصلاً، خلال30 يوماً، بالترافق مع دفع المبالغ هنا وهناك تأخيراً لوصول الدور لإضبارته، ليعيش بعض الوقت مع وقف تنفيذ الاعدام، أي أنه يعيش بحكم الميت، تنسى الاضبارة في رفوف الطعن أشهر، وهو يعد الدقائق بانتظار المجهول
والسؤال المطروح هل لجأ النظام للأحكام التعسفية التي تضاعفت عشرات المرات، وتلفيق تهم لشخص بريء تصل الى حد الجنايات، لجمع المال من خلال فرض غرامات اخلاء السبيل، أم انه جعلها ذريعة بيد القضاء ليعثوا فساداً ويملأ القضاء حساباتهم بالأموال، تأميناً لضمان صمت القضاء التام عن جرائم النظام السوري الواضحة، وطبعا لن ننسى مفاتيح القضاة المتمثلين بموظفي المحكمة والمحامين أو بشكل أدق سماسرة النظام في المحاكم
اطلاق سراح معتقل او معتقلة مقابل 15 مليون ليرة، كان هراءً قبل الثورة، لكن اليوم مع انهيار الليرة بات هذا المبلغ طبيعي ولا يسد رمق الغرامة، وما هو الا وسيلة لرفع عائدات المحاكم و ميزانية النظام، وذلك برفع رصيد البنك المركزي المنهار اقتصادياً.
قالوا أن من صاغ بيان تبني تنظيم الدولة للتفجيرات التي استهدفت جبلة و طرطوس ، صباح اليوم، أنه كان على عجلة من أمره، و هناك من قال لي أنه عبارة عن شاب حديث العهد في مؤسسة "أعماق"، و همز آخر إلى تفشي الوساطات و المحسوبيات في التنظيم للحد الذي سمح بالمحرر للوصول إلى هذا المنصب الحساس و كتابة بيان كالذي أصدره التنظيم قبل ساعات.
" وكالة أعماق: #عاجل هجمات لمقاتلين من الدولة الإسلامية تضرب تجمعات للعلوية في مدينتي #طرطوس و #جبلة على الساحل السوري"، صياغة محكمة باستخدام لغة أشد توافقاً مع الاعلام العالمي ، و تحسب للوكالة هذه القفزة و الاقتراب من لغة إعلامية رصينة تجعل منها مصدر للخبر و التبني .
بعيداً عن الاستهزاء يسيطر على الذهن فور قراءة بيان تبني تفجيرات جبلة و اللاذقية، أن هناك شيء ما قد حدث في بنية تنظيم الدولة الفكرية و الايدلوجية العامة و الاستراتيجية المركزية العنيدة التي تسير عليها، فتغير المصطلحات بهذا الكم يشي بوجود خط جديد ظهر للعلن، ألا وهو التراجع عن الدولة الإسلامية و العودة إلى المكافحين في سبيل الوصول إليها في مرحلة القادمة.
"العلوية" بلاً عن النصيرية و "الساحل السوري" بدلاً عن ولاية الساحل أو اسم معقل الروافض، هي المصطلحات التي تضرب على الرأس لتفتح الأذهان للتفكير ملياً هل ما يحدث عبارة عن تغيير في استراتيجة التنظيم ، أم كشف حقيقي و فعلي لتماهيه التام مع النظام الذي يصل لحد العمالة و الذراع القذرة التي تعمل على محي التاريخ الاجرامي للنظام.
الشق الأخير من التحليل قد يجد مبرراته القوية، فيومين بعد توّعد المتحدث باسم التنظيم أبي محمد العدناني الذي هدد و أمر بتفجيرات لا تفرق بين مدني و عسكري، و سرعة الماكينة الإعلامية للنظام لرمي التهمة على حركة الأحرار، و استمرارها بهذا النهج رغم تبني التنظيم لها ، تدفع للشكل أن البيان التنظيم الذي صدر عن معرفات رسمية تابعة للتنظيم، مثار شك لحد التأكيد أنه كاشف لخباثة تلعب لوضع الشعب السوري بين مقصلات الموت المتنوع، و المنانع لتوفير أي طريق من طرق الحياة.
توقيت التفجيرات قبل أقل من ٢٤ ساعة من موعد معاودة الطيران الروسي لمواصلة عدوانه على الشعب السوري، و هذه المرة بحجة ضرب رافضي الهدنة و الحل السياسي، يؤكد أنها مدروسة بشكل لا لتنظيم بحجم ما يدعى تنظيم الدولة و لا مخابرات بحجم مخابرات الأسد.
كان جون كيري يقف إلى جانب سيرغي لافروف، وكان واضحًا أن الاجتماع الذي انتهى عصر الثلاثاء في فيينا، لم يحقق أي تفاهم بين واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية، التي يبدو أنها ستدخل مرحلة جحيمية جديدة من القتل والتدمير.
لم تكن الصورة السوداء في حاجة إلى دلائل، وجوه المندوبين الأوروبيين الذين حضروا اجتماع فيينا كانت تفيض بالقنوط، إلى درجة أن وزير الخارجية الألمانية فرانك فالتر شتانماير، لم يلمس أي دليل على أن المباحثات أسفرت عن نتيجة من شأنها أن تعزز وقف إطلاق النار الهش في سوريا وخصوصًا في حلب، ولهذا اكتفى بقول كلمات قليلة لكنها تفيض بالمرارة: «إن النقاشات الدبلوماسية كانت مثيرة للجدل»!
لكنها نقاشات كان يُفترض أن تعالج المشكلات الميدانية الخطيرة التي شهدتها سوريا بعد اتفاق الهدنة في 27 فبراير (شباط) الماضي، التي لم يحترمها النظام وحلفاؤه كما استغلّها الروس لتوفير مظلة جوية قوية دعمت هجومًا كبيرًا ومنسقًا على حلب، شارك فيه الجيش السوري مع إيران العسكرية.
أمام هذا، وفي ظل ما أسفرت عنه هذه «النقاشات الدبلوماسية المثيرة للجدل»، كان من المستغرب فعلاً أن لا يتردد جون كيري في محاولة ترويج الأوهام تكرارًا، إلى درجة أن الدبلوماسيين الواقفين إلى جانبه أصيبوا بالدهشة عندما قال حرفيًا وفي إشارة إلى بشار الأسد: «لقد انتهك القرار الدولي الخاص بسوريا، ولا يمكن له أن يهاجم حلب ويبرم صفقات مع (داعش)، ولدينا خيارات كثيرة للتعامل مع الأسد إذا لم يلتزم الحل السياسي»!
كان هذا الكلام مستغربًا بالنسبة إلى الذين سمعوه، وخصوصًا أن سيرغي لافروف كان قد نجح خلال هذه «المناقشات الدبلوماسية المثيرة للجدل»، في أن يدفع كيري نحو نوع جديد من الرمال المتحركة، وقبل الحديث عن هذه الرمال، من الضروري أن نتذكر أنه قبل ستة أشهر، وتحديدًا في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، أطلق مسار جنيف حول الأزمة السورية على أساس القرار الدولي رقم 2254 الذي نصّ صراحة على ضرورة حصول عملية الانتقال السياسي في سوريا.
ويومها لوّح كيري بأنه إذا لم يتم السير حسب هذا القرار، فإن لدى أميركا «الخطة - ب»، بما يعني أو على الأقل يوحي ضمنًا، بأنها تملك ردًا مناسبًا على عدم التزام النظام السوري وحلفائه القرار الدولي المشار إليه، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم ثبت أنه ليس لدى الإدارة الأميركية لا «خطة ب» ولا أي موقف واضح حيال التفرّد الروسي الإيراني المستفحل في سوريا، فما معنى عودة كيري إلى الحديث عن «الخيارات الكثيرة التي تملكها واشنطن للتعامل مع الأسد، إذا لم يلتزم الحل السياسي»؟!
كان واضحًا تمامًا أمام وزراء الدول الـ17 التي حضرت نقاشات فيينا، أن لافروف يتمادى في اللعب على الوقت الأميركي الضائع، أولاً بسبب سياسة التردد التي اعتمدتها الإدارة الأميركية منذ تراجعها عن تنفيذ تهديدها ردًا على استعمال السلاح الكيميائي في الغوطتين عام 2013، وثانيًا لأن الوضع الراهن يصادف مرحلة السبات الانتخابي في أميركا، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يسجّل كيري على نفسه تراجعًا نافرًا عندما قال بعد الاجتماع وبالحرف: «إن موعد الأول من أغسطس (آب) الذي تم تحديده أساسًا للأطراف المتحاربة في سوريا، والذي يهدف إلى الاتفاق على إطار عمل حول مسألة الانتقال السياسي، هو هدف وليس موعدًا»!
هدف وليس موعدًا؟
إذن هل من الكثير عندما تسارع المعارضة السورية، إلى نعي عملية إيجاد تسوية سلمية للأزمة الدامية التي دمرت سويا، وأودت بأكثر من 300 ألف قتيل، وأغرقت المنطقة وأوروبا بملايين اللاجئين، باعتبار أن الموعد يكون عادة محددًا أما الهدف فليس من المضمون أنه يمكن الوصول إليه، وليس سرًا أن روسيا تحاول إفراغ «جنيف 1» الذي نصّ على قيام هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، واستبدال بها تشكيل حكومة وحدة وطنية تُعطي حقائب هامشية إلى معارضة الداخل، بما يعني بقاء الأسد في السلطة، ودائمًا على قاعدة فلاديمير بوتين أن «كل من يعادي الأسد إرهابي»!
لا بد من أن يكون لافروف قد لاحظ الوجوم على وجوه زملائه الأوروبيين الذين حضروا اجتماع فيينا، وخصوصًا أن التقارير تتحدث عن إحباط واستياء متزايدين في أوساط مجموعة أصدقاء سوريا المكونة من 17 دولة، ولهذا تعمّد التخفيف من دور روسيا في إفشال لقاء فيينا والعملية السلمية عندما قال: «إن موسكو لا تدعم الرئيس بشار الأسد، بل تدعم الجيش السوري في مواجهة (داعش).. نحن لا ندعم الأسد بل ندعم القتال ضد الإرهاب، وعلى الأرض لا نرى أي قوة حقيقية أكثر فعالية من الجيش السوري»، لكن كل هذا الكلام لم ينسِ سامعيه قول بوتين سابقًا، إنه تدخل لأن الجيش السوري كان منهارًا، ولا ينسيهم أيضًا أن القصف الروسي لم يستهدف «داعش» بل المعارضة.
وفي عودة إلى الرمال المتحركة التي دفع لافروف كيري للوقوع فيها، قوله إن على أميركا وأصدقاء المعارضة السورية، العمل جديًا للتنصل من تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» جغرافيًا وآيديولوجيًا، وهو ما دفع أوساط المعارضة إلى الرد بالقول أولاً إن المعارضة هي التي تقاتل «داعش» بينما الأسد يتعاون معه، وثانيًا إذا لم يكن في وسع اجتماع فيينا ضمان وقف النار، مما استدعى إلقاء المساعدات جوًا، كما يقول كيري، فهل من الممكن أن يقتنع الروس بأنه لا علاقة جغرافيًا وآيديولوجيًا بين الفصائل المعارضة و«داعش» و«النصرة»، ثم على من يعتمد الطيران الروسي في قصفه؛ أوليس على إحداثيات النظام الذي يختار مواقع المعارضة؟
لم يفشل لقاء فيينا، الذي فشل عمليًا هو الحل السلمي وسوريا من جحيم إلى جحيم، وكيري من وهم إلى أوهام، ولا معنى قط للحديث عن «خيارات أميركية كثيرة للتعامل مع الأسد إن لم يلتزم الحل السياسي»، فهو لم ولن يلتزم والروس والإيرانيون يمنعونه من أن يلتزم، وها هو السفير الأميركي السابق جيمس جيفري يقول: «في الواقع ليست هناك (خطة ب) لسوريا، والأسوأ أننا نتفرج على الروس والإيرانيين يحققون انتصاراتهم باسم سوريا»! كذلك ها هو الدبلوماسي فيليب غوردن الذي ترك مهامه في البيت الأبيض مستشارًا للشرق الأوسط يقول حرفيًا: «إن مقارباتنا منذ أعوام غير مجدية، ولن تكون مجدية على الأرجح»، وها هو أحد الدبلوماسيين الذين شاركوا في لقاء فيينا يقول لوكالة «رويترز»: «لا يملك الضامنان الروسي والأميركي ما يقنع المعارضة السورية بأن التفاوض يستحق العناء، ومن المحزن أن يحاول كيري إظهار تفاؤل لا يمكن تنفيذه»!
حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري، تفتّق ذهن حزب الله عن فرضيات عجيبة تجعل من إسرائيل المتورط الأول بالجريمة، نذكر الخرائط والفيديوهات التي عرضها نصر الله على الناس، مع أن الحيثيات والوقائع التي عرضت تتناقض ومسببات الأحداث ومساراتها آنذاك.
أراد نصر الله أن يبرئ الحزب والنظام السوري من المسؤولية، وأن يذهب بأذهان الناس بعيداً، محاولاً إنهاء الجدل حول السيارة التي جاءت من الضاحية كما قال آنذاك المحقق الدولي ديتليف ميليس.
لكن حين تعلّق الأمر باغتيال بعض قادته فإنه يبرئ ساحة إسرائيل، في ظهوره الأخير أصرّ نصر الله على كون مصطفى بدر الدين ضحية ما أسماها بـ«الجماعات التكفيرية»، جاعلاً إسرائيل خارج قصة اغتيال بدر الدين، كان الحزب أثناء اغتيال الحريري يسأل مع فلكه الإعلامي ومراوحه الصحافية: «من المستفيد؟» لكنه مع مصطفى بدر الدين سأل السؤال الآخر: «من هو العدو؟!».
بالطبع، ميليشيا حزب الله تقاتل الشعب السوري، والمعارضة المعتدلة، وهي في صراعٍ ضد حقوق الشعب السوري، لكن الغريب أن يبرئ الحزب إسرائيل من حادثة مصطفى بدر الدين، ويصرّ على توريطها باغتيال الحريري، هنا تأتي الفضيحة الكبرى لمنطق الحزب الميلشيوي، كما في قصة «أبو عدس» وسواها من الفبركات الإعلامية العقيمة.
ثم دارت الأيام، وصدر القرار الظني، وعلم الناس أن حزب الله بقادته مع النظام السوري هم المسؤولون عن دماء سالت فقط لاختلافها السياسي معهم، وشاءت الأقدار أن يذوق قادة الحزب من نفس كأس جبران وسمير قصير ورفيق الحريري، فما هو أخطر من إسرائيل الميليشيات التي تبرئها أو تحملها المسؤولية حسب الظروف والمصالح.
«حزب الله»، حزب مقفل، عصيّ على المصارحة والمكاشفة. كل ما يدور فيه وحوله، أسرار مقفلة. ولادته ونشأته وصعوده، فرضت هذا التشكل المعقد. مرحلة المقاومة ضد إسرائيل حتى التحرير، رفدت هذه السرية بألف سبب وسبب لتعميقها. التثقيف السياسي والديني المذهبي، جعل ويجعل من كل عضو و«مجاهد»، «علبة سوداء»، لا يمكن فتحها إلا بتوجيه قيادي. «كلمة السر» في الحزب واحدة لا يقولها إلا السيد حسن نصرالله.
عملية قتل أو اغتيال القيادي مصطفى بدر الدين تؤكد هذه السرية. سيمضي الكثير من الزمن لمعرفة الحقيقة. قبل هذه العملية، اغتيل «القائد« عماد مغنية. اتهام إسرائيل باغتياله رغم عقدة الزمان والمكان، أنهى النقاش حول العملية. في حالة مصطفى بدر الدين يبدو الأمر أكثر تعقيداً وربما أخطر. اتهام «التكفيريين» باغتياله، رفع منسوب الأسئلة حول حقيقة مَن قتله، ومن حرّض وخطّط ونفّذ. من الصعب وضع اجابة أو أكثر حاسمة ترسم الحقيقة، خصوصاً أن سوريا «ملعب مفتوح» لقوى عديدة اقليمية ودولية متحالفة متنافسة، التنافس يولّد أحياناً التصادم. في «الملعب» السوري اليوم، يوجد الأميركيون والروسي والاسرائيلي والايراني والنظام الأسدي ومعارضات سورية وأخرى «تكفيرية».
غموض عملية الاغتيال ومن قام بها، ويوميات الحرب الاستنزافية الطويلة في سوريا، طرحت لأول مرة أسئلة كثيرة في وسط «جمهور» الحزب، حول وقائعها وانعكاساتها وتردداتها القيادية. ليس من السهل في حزب مثل «حزب الله« وآلته العسكرية أن يخسر اثنين من قيادييه العسكريين والأمنيين المؤسسين ولا يتأثر «الحزب» بذلك قيادة وقاعدة. ما أضاف الى الترددات الانعكاسية، ان العملية جاءت في مسار ارتفاع ضحايا الحزب في سوريا، وعدم ظهور أفق للخروج من النفق.
بحسب جميع التقديرات خسر الحزب في سوريا بين 1200 و1500 مقاتل عدا آلاف الجرحى والمعوّقين وعدة أسرى. من البداية عندما لم يكن أحد يقدّر أن الحرب في سوريا ستطول سنوات من الاستنزاف اليومي، قيل إن «الحزب« وجمهوره يستطيعان تحمّل خسارة 1500 مقاتل كحد أقصى، أي أكثر بمئات من الشهداء ضد اسرائيل. الآن وقد وصل الى «الخط الأحمر« هل يستطيع كسره والذهاب بعيداً في «تضحياته»؟ يمكن للحزب أن يبادل «تضحيات» جمهوره بتقديم «سلة« من الأرباح له. ولكن ماذا لو كانت الحرب لن تنتهي في سنوات وخسائرها الى ازدياد والأخطر أن أي حل سياسي لن يكون له مكان إلا بالواسطة أي عبر إيران التي ستكون هي الحاضرة في المفاوضات والتي تبقى مصالحها الوطنية والقومية والسياسية أكثر أهمية من تكبيلها بما يريده أو يفكر به «حزب الله» حتى لو كان «الابن الشرعي الوحيد» للثورة ولها؟
الأخطر بالنسبة للحزب، أن المفاوضات طويلة، والمصالح الايرانية تتقاطع وتتنافر وتتزاحم مع الحليف الروسي. «القيصر» فلاديمير بوتين لا يهمه إلا مصلحة روسيا، وفي النهاية تفاهمه مع الرئيس أوباما أو خليفته هو الأساس والباقي تفاصيل.
هذه الحالة تضع «حزب الله« بين «سندان» ايران و»مطرقة» روسيا، ومن وقت لآخر الحركة الاضافية للرئيس بشار الأسد ونظامه، الذي يئن من «السطوة» الايرانية إن لم يكن مباشرة فمن أركانه وضباطه. (وهذا له حديث آخر).
مهما كابر «حزب الله»، ومهما تكتم وتحفّظ، فإنه «مأزوم». أزمته أنه يريد الخلاص وغير قادر على الإقدام عليه، لأنه يتطلب الانسحاب من سوريا وتغيير «خطابه» اللبناني. مهما كان الحزب قوياً في طهران، لا يمكنه أن يقول «سأنسحب» وسأنفتح على الداخل اللبناني، في مرحلة مفاوضات بالكاد بدأت سراً أو علانية. الانسحاب يساوي الاغتيال، والحزب ملزم بالفتوى الشرعية للمرشد آية الله علي خامنئي ولن يتحلل منها. في قلب هذه الأزمة المتعددة الطبقات، تتصاعد أصوات لصيقة أو من أجواء الحزب وجمهوره تطرح أسئلة كثيرة ومكثفة. تطالب أو تعرض «ضرورة البحث في كيفية الخروج من الأزمات المتزايدة» التي تحيط بالحزب من سوريا الى اليمن مروراً بالعراق، من دون أن يتم تناسي تحوّل التعطيل في لبنان «سباحة في الفراغ»، ثم جاءت القيود المصرفية الأميركية لترفع خطر استمراره في هذه «السباحة».
ما يعمّق النقاش، «أن موقع الحزب ودوره في مواجهة إسرائيل» قد تراجعا مهما تعددت الخُطَب، ولا شك في أن «الغرق في صراعات المنطقة» لا يمكن أن يمر من دون «تداعيات مستقبلية خطيرة». علماً أن هذا الانكفاء أو هذه البرودة في المواجهة، تشرّع الأبواب نحو مواجهات داخلية لم تكن يوماً رابحة لأحد.
إذا كان الانسحاب من الحرب في سوريا في هذه المرحلة مستحيلاً فما العمل؟
يقال ولا شيء يؤكد ذلك سوى التطورات الميدانية، إن الحزب يتجه أو توجه نحو إعادة تموضع قواته في سوريا وعدم تركها منتشرة حيث يجب ولا يجب. لذلك سيتوجه الحزب في حركة لتخفيف خسائره نحو التموضع في المواقع التي تعنيه مباشرة (بمعنى خطابه السياسي والمذهبي) والتي يمكن رفدها بضرورات الحرب ضد «التكفيريين»، أي في حمص وصولاً الى دمشق مروراً بالقصَير، أما الباقي خصوصاً جبهة حلب التي أصبح من الواضح أنها تحولت الى «جبهة حرب دولية صغيرة»، فتُترك للكبار، خصوصاً بعد أن أكدت إيران أنها فتحت الباب نحو «تصعيد التطوع للدفاع عن المقامات».
التسليم بأن الصيف سيكون «بركانياً» قائم. لذلك وسط النار والدماء سيتم تحديد ما إذا كان الحزب قادراً فعلاً على صياغة وتنفيذ سياسة تتناسب مع حجمه وجمهوره. في النهاية ماذا ينفع الحزب إذا ربح معركة في سوريا وخسر شعبه ولبنان؟!