تشهد العلاقات بين روسيا وتركيا توتراً، عقب إسقاط الأخيرة طائرةً حربيةً روسية، قالت إنها اخترقت مجالها الجوي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، واعتبر الحادث الأخطر بين روسيا وتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، ولم يحدث أن أسقط عضو في الحلف طائرةً روسية منذ الحرب الباردة، وسارعت روسيا إلى فرض عقوباتٍ اقتصادية ضد تركيا، ونفت اختراق طائراتها أجواءها. وبينما اتفق مراقبون على أن هذا التطور سينعكس على التوازنات الإقليمية، إلا أن الاختلاف كان على ردة فعل روسيا، إذ ذهب بعضهم إلى أنه سيكون رداً عسكريا قد يجرّ المنطقة إلى حرب. وفي هذا، أجابني سيرغي غلازييف، مستشار الرئيس الروسي، أن العقوبات الاقتصادية تبقى أفضل من العمل العسكري، وأوصلت موسكو بذلك رسالةً إلى القيادة التركية أن ما قامت به يعتبر تهديداً للأمن القومي الروسي، ويرى المستشار أن هذا الرد لم يعادل ما قامت به تركيا، إلا أنه أفضل من الصراع السياسي العسكري، لأنه يُبقي هذا الصراع في إطار المجال الاقتصادي.
يُعقّد هذا كله المشهد السوري، المعقد أساساً، ويجعل الحديث عن حلٍّ سلمي محتمل، أمراً مستبعدًا، على الأقل في المستقبل المنظور. وكما كان متوقعاً، لجأت روسيا إلى دعم حزب صالح مسلم، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف "إرهابيا" في تركيا وحلفائها في حلف الناتو، لإضعاف الدور التركي في سورية، ولإثارة الاضطرابات داخل تركيا، نوعاً من الانتقام.
وقال غلازييف، في حديثي معه، إنه لا بد من إيجاد توافقٍ، ومن الضروري إعادة الثقة ببعضنا، فحادث الطائرة أدى إلى انهيارها بين موسكو وأنقرة، وعقّد كثيراً في إيجاد استراتيجية مشتركة ضرورية لتسوية الأزمة في سورية.
صحيح أن الأمور تأزمت بين البلدين، وتبادلا الاتهامات، وكان هناك خطابٌ إعلاميٌّ انفعاليٌّ روسي، حتى أن الرئيس فلاديمير بوتين وصف ما جرى بأنه طعنة في الظهر. لكن، يبدو أن السياسة ستتفوق في النهاية، ولن تتطور الأمور أكثر، ولا سيما بعد رسالة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى بوتين، وتبعها اتصال بوتين هاتفياً بأردوغان، وبات جلوس الطرفين وحل الأزمة بالطرق الدبلوماسية مسألة وقت.
والواضح أن هدف روسيا كان تطويق تركيا، في البحرين الأسود والمتوسط، إلا أنها لم تنو الحرب، على الرغم من حدّة التصريحات الصادرة بين الطرفين، والتي عكست توتراً شديدًا، لا سيما مع مطالبة الرئيس الروسي مواطنيه بعدم التوجه إلى تركيا.
إلا أنه لم يلح في الأفق، إلى الآن، أن أزمة مقاطعةٍ اقتصاديةٍ بين تركيا وروسيا قد حدثت، إذ إن غالبية المشاريع التي أرسيت، أخيراً، بين البلدين ذات طابع استراتيجي، وأيّ ضرر سيكون ذا حدّين، بسبب ازدياد العلاقات الاقتصادية بين موسكو وأنقرة، كما أن روسيا تؤمّن 60% من الغاز الطبيعي الذي تستهلكه من تركيا. ولفترة طويلة، ارتكزت صناعة الغاز الطبيعي في روسيا على أوروبا، سوق تصديرها الرئيسية. ولكن، في الآونة الأخيرة، يبدو تحول اهتمامها إلى تركيا التي تحرص على ترسيخ مكانتها بوابةً لأسواق الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وتماشياً مع هذا، ناقشت حكومتها بالفعل مقترحاتٍ لبناء خطوط أنابيب لنقل الغاز من أذربيجان وتركمانستان والعراق وإيران إلى أوروبا عبر أراضيها، وهي الآن أقرب من أي وقت لتحقيق هذا الهدف، نظراً لانهيار العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا، وقرار روسيا إلغاء مشروع "ساوث ستريم" لصالح وصلةٍ جديدةٍ عبر البحر الأسود إلى تركيا.
وتبقى الاشارة إلى أن ما جرى من استفزازاتٍ جوية قد يكون وراءه تنافس وصراع بين الجنرالات الروس ونظرائهم الأتراك، كما يحدث في معظم الأزمات والمناطق التي تكون حولها نزاعات عسكرية، ولا صلة للقيادة السياسية في البلدين بما حدث. ولا يخفى أنه، بسبب براغماتية الزعيمين (أردوغان – بوتين)، نحّى كل منهما خلافاتهما الكبيرة حول سورية وأوكرانيا وأرمينيا وقبرص جانباً، وسعيا إلى، ونجحا في، إيجاد وسائل لتعميق التعاون بين بلديهما. ولا يمكن تجاهل أوجه شبه كثيرة بينهما، وهما الشخصيتان المثيرتان للجدل في أحيان كثيرة، وهما يحكمان دولتين قويتين على الحدود الشرقية لأوروبا، مطلتين على منطقتي البحر الأسود والشرق الأوسط، ويتفقان في عدة قضايا مشتركة، لكنهما يتصادمان، أحياناً، في بعض الأهداف والقضايا السياسية، وكلاهما يناهز الستين، وكلاهما في السلطة منذ زمن طويل، بوتين منذ العام 1999، وأردوغان منذ 2002، كما يتمتع الرجلان بنفوذ واسع في بلديهما، وقد أعاد بوتين إلى روسيا هيبتها على الساحة الدولية، بعدما فقدتها بانهيار الاتحاد السوفييتي، وجعل أردوغان اقتصاد تركيا السادس أوروبياً، والسادس عشر على مستوى العالم لجهة الازدهار والتأثير.
ولا يكاد يمر أسبوع حتى ينتقد الرجلان أميركا وأوروبا، لكن العلاقة لم تسُؤْ بينهما وبين الغرب على الدوام، ولم تصل إلى حد القطيعة. ويحتفظ الاثنان بقاعدة شعبية كبيرة في الداخل، على الرغم من الاتهامات التي توجه إليهما بالتسلط.
وميراث البلدين التاريخي غني بالألقاب التي يحلو لمؤيدي الرجلين ومعارضيهما إطلاقها، أردوغان "السلطان"، وبوتين "القيصر"، وكلاهما لا يتردّد في فهم الجغرافيا السياسية، فبوتين يدرك أن أي زعيم روسي يجب أن يوفر مناطق عازلة لروسيا في أوروبا الشرقية والقوقاز، وأردوغان يدرك أن تركيا يجب أن تصبح قوةً مهمةً في الشرق الأوسط، من أجل كسب النفوذ في أوروبا. ويحظى بوتين بنظام رئاسي روسي قوي ومستمر، أما أردوغان فيطمح إلى تحويل النظام في بلاده إلى رئاسي، فتركيا تتمتع بتاريخٍ لأحزاب متعدّدة مقارنة بروسيا، والمجتمع المدني في تركيا أقوى منه في روسيا، ويمكن إضافة أن انخفاض أسعار النفط الحالي يُضعف بوتين، ويريح أردوغان.
وأي اتفاق بين أردوغان وبوتين سيكون له انعكاس على سورية التي تنظر إليها روسيا على أنها آخر معاقلها في الشرق الأوسط، وقاعدتها في المياه الدافئة، بينما هي أكثر من مجرد وسادةٍ أمنية لخاصرة تركيا الجنوبية.
بعد أن كانت مجرد تسريبات صحفية و غير واقعية، بات الاتفاق الأمريكي – الروسي بشأن سوريا واضحاً تماماً، و يبدو أنه قد تم ارساءه باتفاق الرئيسين باراك أوباما و فلاديمير بوتين، و الذي تم وفق منهج التنازلات المتقاربة بغية تحصيل أكبر قدر من المصالح، بعد اليقين أن لا منتصر وحيد في الحرب السورية.
ويقوم الاتفاق الأمريكي- الروسي ، الذي أرساه اتصال بوتين – أوباما اليوم، على فصل بين الفصائل السورية المعتدلة و التي تحظى بقبول دولي عن كل الفصائل التي تم إدراجها على قائمة الإرهاب الدولية و على رأسهم جبهة النصرة، و من ثم يبدأ التعاون الأمريكي – الروسي عسكرياً و بشكل فعلي بمواجهة الخارجين عن الاتفاق في إطار عام تحت بند "مكافحة الإرهاب".
هذا الخرق الروسي كان بحاجة إلى تضحية من الأخير إرضاء لأمريكا وحلفائها، و المتمثل بالقيام بعملية انتقال سياسي في سوريا تضمن تحقيق الشروط الدنيا التي تطلبها تلك الدول، و أولى الثمار بدأت اليوم بإعادة الحديث عن مجلس عسكري أعلى مشترك بين من يحظى بالرضا من قبل عموم الأطراف الدولية بين قيادات النظام و الثوار.
هذا الاتفاق وجد تفسيره الواقعي من خلال الحديث الهاتفي الذي جرى اليوم بين بوتين و أوباما، حيث حث الأول (بوتين) على ضرورة الإسراع في فصل الفصائل "المعتدلة" عن جبهة النصرة، و البدء بالتنفيذ مباشرة لارضاخ جميع الثوار للدخول في النسق الذي تم رسمه.
وسبق لروسيا أن أرسلت رسائل تطمين لأمريكا و حلفائها بأنها قادرة على إجبار الأسد و إيران أيضاً على تنفيذ الاتفاق، و ذلك من خلال التغييب الواضح للطيران الروسي عن أجواء معارك الساحل التي تحول فيها الأسد و ميلشياته إلى مجرد "عدائين" في الانسحابات، و تساقطت النقاط بشكل مريب، وسط دهشة موالي الأسد، و يبدو أنها كانت بوادر نتائج زيارة وزيرة الدفاع الروسي و إحضاره للأسد إلى القاعدة الروسية و تبليغه الرسالة شفهياً التي بُدأ بتنفيذها خلال معارك ريف حلب الجنوبي التي كانت بدورها رسالة للإيرانيين و ميليشياتها أنه لا مكان أو انتصار لأحد دونهما و بالتالي على الجميع الانصياع و تنفيذ ما يملى عليهم.
اليوم كان بوتين أكثر ود وقابل مقترح أوباما حول هذه الخطة برحابة صدر، رغبة منه فيما يبدو لإنهاء الحرب في سوريا ،قبيل نهاية ولاية أوباما ، وقبل أن يدخل البيت الأبيض رئيسا جديدا قد يملك شيء من الكرامة وباحثا عن أمريكا الشرطي الأوحد في العالم غير الراغب بمشارك له في هذه المهمة.
و يبقى أوباما أمام معارضة شديدة داخل فريقه سواء أكان العسكري المتمثل بوزير الدفاع آشتون كارتر أو السياسي عبر وزير خارجية جون كيري ، فالأخيرين عبرا عن خشيتهما من مثل هكذا الاتفاق و لاسيما مع شخصية كـ"بوتين" فكارتر يخشى من تسليم الاحداثيات المتعلقة بفصائل الثوار التي تحظى بقبول دولي خشية من قصفها من قبل روسيا إذ لا يمكن الوثوق بدولة يقودها متهور و يتخذ القرارات بشكل ارتجالي ولا قيمة للاتفاقات لديه، في حين كيري أبدى حذره من ذلك و لكن لازال يفضل أن يسير خلف أوباما باحثاً عن نتيجة تخلده بعد إنهاء المعضلة الأكبر منذ قرون .
.
علينا، نحن الصحفيين السوريين، أن نلتزم الصمت للأشهر الستة المقبلة على الأقل، فنحن اعتدنا أن نملأ الصحافة العربية بهمومنا وآلامنا، وننقل تفاصيل طاحونة الموت الدائرة في بلادنا، ونعلق على الأحداث السياسية، والنوافذ الضيقة التي تنفتح لتخلق الأمل بإمكانية الوصول إلى حلٍّ سياسي، وغالباً ما نلتقط جملةً وردت على لسان مسؤول أميركي، أو روسي، أو تصريحٍ يتبعه نشاط للمبعوث الدولي، أو لقاء جانبي أو عارض بين مسؤول إيراني ومسؤول تركي يحضران معاً اجتماعاً إقليمياً أو دولياً ما، ونبني على هذ الالتقاط توقعاتٍ وتحليلاتٍ، ونجدّد آمالاً غير موجودة، ونتمسّك بإشارةٍ ما وردت هنا وهناك.
في الأيام الأخيرة، هبط منسوب الاهتمام بسورية وبحربها الطاحنة، ولم يعد أحدٌ يلتقي بأحد لاستئناف مفاوضات الحل السياسي، ولم يعد يطلق التصريحات لضرورة الوصول إلى هذا الحل، لم يعد أحد يناكف أحداً، ولا أحد يوافق أحداً، فهل توقف الموت؟ بالتأكيد لا، وهل توقفت الطائرات عن إلقاء براميلها، والمدافع عن إطلاق قذائفها؟ بالتأكيد لا، فما الذي جرى؟ ولماذا هذا التلاشي في صورة سورية لدى العالم، خصوصاً لدى وسائل الإعلام؟
لا تفسير لذلك سوى انشغال أميركا بنفسها وبانتخاباتها المقبلة، وبالتالي، توقف وتيرة اللقاءات الدولية أو تراجعها، ونقص الاهتمام بالمبادرات والأفكار السياسية الجديدة، فحين تأخذ أميركا إجازة، يتراخى كل من تبقى في المشهد السياسي العالمي، فهي تشبه مديراً لمصنع هو العالم، وحين يغيب المدير في إجازته السنوية، يتراخى جميع الموظفين، أو يعملون بالحد الأدنى، وبأقل قدرٍ من الوقت، يغيب بعضهم، وتتوقف عجلة الإنتاج في المصنع، ربما يبقى أحد الموظفين، بكامل جاهزيته ونشاطه، ليستغل غياب المدير، لينفذ أمراً يخطط له منذ العام الماضي. وقد يكون هذا الأمر تخريب موجودات الشركة، أو اختلاس بعض منها، أو سرقة وثائق منها لابتزازها فيما بعد.
هذا ما يحصل في سورية اليوم، وربما سيستمر لأشهر مقبلة، بالمدير الأميركي لديه ما يشغله، ولن يصيبنا منه إلا ما يخدم انتخاباته، بغض النظر عن أي اعتباراتٍ تخصّنا، وسيستغل الموظف الفاسد الذي يمثله هنا النظام السوري وحلفاؤه هذه الفترة، ويفعلوا ما كانوا يتردّدون في فعله، ولنا أن نتخيّل أن الفترة المقبلة ستشهد جولةً من الممنوعات، لأنهم يعتقدون أنها ستمر من دون عقاب، ولن ينتبه إليها أحد، وسيتوقف العالم عن إطلاق المبادرات، وتسخين المشهد السياسي، وسنتوقف نحن عن إيجاد الموضوعات التي تستحق أن نكتب عنها، أو نعلق عليها مصيبين أو مخطئين، وربما علينا أن ندخل في الصمت الانتخابي.
هي مفارقةٌ بلا شك، أن تدخل مأساة إنسانية كبرى، كالحرب السورية، في الصمت الانتخابي الأميركي. ولكن المفارقة الأكبر أن فترة الصخب التي سبقت هذا الصمت لم يكن فيها سوى الضجيج، والكثير الكثير من الجعجعة من دون أي طحين، فلا جولة مفاوضات نجحت، ولا لقاءات الدول استطاعت أن تضع حداً لموت الملايين من السوريين وتهجيرهم، ولا قرارات مجلس الأمن وجدت من ينفذها، والجرائم التي تحصل منذ خمس سنوات تستمر من دون أن تكترث لشيء، ويضاف إليها مجرمون جدد في كل مرة، وبدلاً من موت السوريين على يد النظام، صار الموت على يدي النظام و"داعش"، وعلى أيدي التنظيمات المرتبطة بالقاعدة، وعلى أيدي الميليشيات العراقية والإيرانية واللبنانية والافغانية، وفوق ذلك كله، بقصف الطائرات الروسية والأميركية على السواء.
ربما علينا أن نلجأ في الأيام المقبلة إلى الكتابة عن موضوعاتٍ أخرى، ونؤجل الحديث عن سورية، وتتبع مأساة شعبها، إلى ما بعد استلام الرئيس الأميركي الجديد (أو الرئيسة) لمهامه، ثم انتهاء فترة انشغاله بترتيب بيته الداخلي، لعله، بعد ذلك، يبدي اهتماماً ما، فينتقل هذا الاهتمام إلى المنظمة الدولية والدول الأخرى، فنجد نافذةً جديدةً للأمل نبشر بها، أو نحبط المستبشرين بها، وريثما يحين ذلك، لا حل أمامنا سوى أن نستحضر التاريخ، ونكتب عنه ونحلله، ونأخذ منه الدروس.
والتاريخ الذي أقصده ليس تاريخ الدولة الأموية، ولا حروب المماليك، ولا وقائع الحرب العالمية الأولى، بل التاريخ القريب، والقريب جداً، فخلال السنوات الخمس الماضية قدم لنا كل يوم من الأحداث والمواقف والحكايات ما يكفينا عقوداً، وزودنا السوريون بدمائهم وأرواحهم بذخيرةٍ لا تنضب من الحكايات والمشاعر والأفكار، فلتنشغل أميركا بنفسها ما شاءت.
بات في حكم المسلّم به أن روسيا تمتلك في شكل كامل مفاتيح الأحجية السورية برمتها بأبعادها العسكرية والديبلوماسية. فلا حراك عسكرياً للنظام وحلفائه من دون ضوء أخضر يتّسق مع رؤى القيادة في حميميم، ولا مقاربة سياسية تفاوضية تمرّ دون رضى موسكو. وإذا ما قيّض لمن لم يفهم هذه القاعدة أن يتمرد على تلك المسلّمة فإن خسائره سترتفع، كما حال «حزب الله» في ريف حلب الجنوبي، وجنرالاته سيسقطون، كما حال ضباط إيران في خان طومان.
لا يأتي هذا الاحتكار الروسي للملف السوري من جبروت كاسح لموسكو، بل من إجماع دولي، ويبدو إقليمياً أيضاً، لإيكال أمر سورية لإدارة الكرملين بزعامة فلاديمير بوتين. تأخرت هذه «الوكالة»، لكن واشنطن التي جرّبت الأداء الروسي خلال سنوات الأزمة السورية أقرت لموسكو بمواهب تؤهّلها للقيام بالمهمة وحتى إشعار آخر.
مارس الروس لعبة كرّ وفرّ مع الأميركيين أمام شواطئ سورية منذ اندلاع أزمتها عام 2011. كانت السفن الروسية تقوم بزيارات روتينية، أو استعراضية، لقاعدتها البحرية في طرطوس. وفي كل مرة كانت تطلّ سفن الأسطول الأميركي في المنطقة، كان الروس يسحبون سفنهم ويوجّهونها نحو مقاصد أخرى. وحين اتُّهم النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد الغوطة (شرق دمشق) في صيف 2013، اعتبرت إدارة أوباما أن خطّ الرئيس الأحمر قد اخترق، فحرّكت قطعها البحرية باتجاه الساحل السوري متوعّدة بالعقاب.
لم تصل سفن واشنطن ولم ينفَّذ تهديد أوباما. قامت موسكو باستدعاء وزير خارجية دمشق وليد المعلم لإبلاغه بـ «الغضب» الأميركي، وعملت على ترتيب بروتوكول يسلّم بموجبه النظام السوري ترسانته الكيماوية كاملة، وهذا ما حصل. تولّت موسكو برشاقة مذهلة العمل لمصلحة الإدارة الأميركية لتخليص إسرائيل (والسوريين بالمحصلة) من هاجس أمني يؤرقها. ولئن اقتصرت مصالح واشنطن في سورية على مسألة الأمن الإسرائيلي فقط، فإن روسيا التي أدركت مفاتيح الأمر، عجلت في تطوير علاقاتها مع إسرائيل، لدرجة أن الرئيس بوتين انتزع من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عدم ممانعته التدخل الروسي العسكري في سورية، طالما أن موسكو تلبي شروط تل أبيب الأمنية، بما في ذلك منح إسرائيل ضرب ما تراه خطراً على أمنها في سورية، وربما بتنسيق ورعاية روسيين.
جهد العالم بأسره لتوفير الظروف الضرورية لروسيا من أجل حسن سير «الوكالة» الممنوحة لموسكو. لم تكن الدول الإقليمية بعيدة عن ذلك، قامت السعودية بإعداد الوفد المعارض إلى جنيف، فيما تولى الأردن توفير لائحة بالمجموعات الإرهابية الواجب اعتمادها (والتي لم ترق للروس). وحدها تركيا التي أسقطت مقاتلة روسية في الخريف الماضي كانت تعبّر عن تململ من تلك «الوكالة» وتعتبرها تستهدف نفوذها ومصالحها.
لم يكن بالإمكان تخيّل أن تمرر روسيا مقاربتها السورية من دون مشاركة تركيا والدول المعنية الأخرى. أدركت موسكو منذ تدخلها العسكري (أيلول- سبتمبر 2015) أن قوة نيرانها لن تنجح في فرض رؤاها في سورية، وأن صمود المعارضة، على رغم كثافة التدخل العسكري لدولة يفترض أنها عظمى بالمعنى العسكري، لا يعود فقط إلى كفاءة المقاتلين، بل إلى استثمار إقليمي مضاد لن يسمح بسقوط سورية داخل المآلات التي يمكن أن يرسمها خطّ التحالف مع دمشق وطهران وتوابعها.
في المقابل، فهمت تركيا، أو أُفهمت، بأن أحلامها السورية بددها المزاج الدولي الإقليمي المعاند، وأن الـ «صفر مشاكل» التي أرادها أحمد داود أوغلو كلمة السرّ لرخاء بلاده ونجاح حزب العدالة والتنمية، تحوّلت كابوساً بسبب المسألة السورية وتورط أنقرة في مستنقعاتها. فهمت تركيا أيضاً جدّية «الوكالة» الممنوحة لروسيا، وصعوبة أن تعدّل إدارة أوباما، وربما إدارة من سيخلفه، موقف واشنطن من المسألة السورية.
في المواقف المعلنة، صار بالإمكان استنتاج رفض السعودية المطلق لإيرانية النظام السوري وقبولها أي تسوية تسحب أي نظام سوري بديل من تحت وصاية طهران. وصار بالإمكان استنتاج رفض تركيا المطلق لقيام كيان كردي شمال سورية يكون امتداداً لطموحات أكراد تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني. ووفق هاجسَي الدولتين، قد يجوز الاعتقاد أن بيد روسيا توفير ما يرضي أنقرة كما الرياض المتقاربتي الرؤى في شأن الحلّ السوري.
اجتمع وزراء دفاع روسيا وإيران في طهران في 9 حزيران (يونيو) الماضي. لم يرشح عن الاجتماع شيء يذكر، لكن بشار الأسد الذي استبق الاجتماع بالتصريح بأن حلب ستكون «مقبرة أردوغان»، أوحى بأن المجتمعين اتخذوا قراراً في هذا الشأن. على أن الهزائم التي مني بها النظام وارتفاع عدد قتلى «حزب الله» في الريف الجنوبي بعد أسبوع على اجتماع طهران، تكشف المزاج الروسي الحقيقي، وربما توحي أيضاً بمستوى التنسيق الذي كان جارياً مع تركيا قبل أسابيع من إعلان التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، ذلك أنه لا يمكن تخيّل اندفاع حشود المعارضة بتسليح عالي النوعية داخل ما هو مفترض أنه جزء من مجال تركيا الاستراتيجي، دون ضوء أخضر إقليمي دولي، لا يبدو أن موسكو التي أبقت طائراتها في مهاجعها، كانت بعيدة عنه.
يوحي امتناع سلاح الجوّ الروسي عن تغطية الحراك العسكري لإيران وميليشياتها، بأن موسكو لن توفّر غطاء جوياً لأجندات لا تتوافق مع شروط «الوكالة». يوحي اللقاء المثير للجدل الذي جمع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مع بشار الأسد بأن روسيا تودّ التأكيد أن قاعدة حميميم -التي يبدو أنها استضافت لقاء الرجلين- هي مركز القرار العسكري في سورية، وليس اجتماع وزراء الدفاع الشهير في طهران، كما تبعث رسالة إلى من يهمه الأمر في واشنطن حول التزامها التام بقواعد «الوكالة» وأصولها.
في مشاهد العلاقة المتقدمة بين روسيا وإسرائيل، مروراً بتلك التي بين تركيا وإسرائيل، انتهاء بفصل التطبيع المتسارع الوتيرة بين تركيا وروسيا، يكتمل عقد الوكالة الممنوحة لموسكو في سورية، على ما سيتداعى حتماً على تطوّر الأزمة السورية لإنتاج تحوّلات دراماتيكية مقبلة في الخرائط العسكرية كما في ضجيج أروقة في جنيف.
في خطابه الأخير الذي ألقاه يوم القدس لم يتطرق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى مسألتين، كان الكثير ينتظر بشوق لمعرفة موقفه من إهداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدبابة الإسرائيلية التي غنمها الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية واللبنانية في لبنان عام 1982، لا سيما وأن السيد نصرالله يقدم نفسه كحريص على مجابهة كل ما يمسّ بفكرة المقاومة لإسرائيل، وبالتالي ترقب الكثيرون أن يكون له موقف من هذه الإهانة التي وجهها الرئيس الروسي إلى المقاومة ضد إسرائيل، وإلى حلف الممانعة الذي فعل ما فعل خلال السنوات الخمس الماضية في سوريا من أجل مجابهة المشروع الأميركي والصهيوني. لم يقل حسن نصرالله شيئا في هذه القضية ولم يذكرها بتاتا، ربما نسي أو لا يزال يدقق في أبعاد الخطوة الروسية.
إن فرضية النسيان والتدقيق لدى السيد نصرالله، يدحضها الاستعداد الروسي- الإسرائيلي للقيام بمناورات جوية على امتداد شاطئ البحر الأبيض المتوسط هذا الصيف، وهذا ما لـم يشر إليه السيد نصرالله ولم يجد نفسه معنيا بأن يقول شيئا وهو الذي لا يزال يعتبر معركته في حلب، وفي مختلف المناطق السورية، فتحا للطريق نحو القدس، وهو نفسه لم يعلق على فعلة الروس إذ يقاتل وإياهم ما سماهم أدوات المشروع الصهيوني من تكفيريين ومسلحين، هم بالضرورة حلفاء موضوعيون للمشروع الصهيوني، كما كان يقول دائما إلى أن قالها أخيرا؛ إنهم أخطر من المشروع الإسرائيلي.
لم يُستفز السيد نصرالله من خطوات فلاديمير بوتين الإسرائيلية، ولا من مسار التنسيق بين موسكو وتل أبيب على الإدارة العسكرية والسياسية للأزمة السورية، ففي كلمته المتلفزة يوم القدس كان نصرالله يجدد الاتهام للأنظمة العربية التي نعرف، ويعرف، أنها قصرت في شأن القضية الفلسطينية وفي تحرير القدس، وهذا ديدن خطاب الممانعين وعلى رأسهم نصرالله منذ عقود.
الأنظمة العربية مفروغ من أمرها، لكن السؤال يوجه إلى إيران وامتدادها حزب الله، ماذا فعلتم للقدس التي خضتم حروبا في كل الدول العربية من أجلها؟
الإجابة البليغة من قيادة الحرس الثوري جاءت قبل أيام، ومفادها أنه “خلال 25 عاما ستزول إسرائيل من الوجود”، وهو تطوّر جديد وأكثر موضوعية مما كان يكرره نصرالله عن أن الكيان الإسرائيلي هو “أوهن من بيت العنكبوت”، بحيث كان يمكن أن يقضي نصرالله عليها في وقت لا يتجاوز مدة القضاء على بيت العنكبوت، ليبقى السؤال لماذا يغرق حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية في حرب استنزاف في سوريا، ولا تبذل هذه الطاقات البشرية والمادية على إنهاء من هي أوهن من بيت العنكبوت، أي إسرائيل؟
السيد نصرالله لم يعد مضطرا حتى في يوم القدس إلى أن يبحث في طرق الوصول إليها، ولا في الإجابة على سؤال كيف سيقاتل إسرائيل، كما لم يعد معنيا بمخاطبة جمهور عربي أو إسلامي لم يعد يستسيغ خطاباته منذ أن تورط في قتال الثورة السورية، هو اليوم يتحدث، بشكل صريح وواضح، بأن العدو الأخطر بالنسبة لإيران هي السعودية وليست إسرائيل ولا الشيطان الأكبر أميركا. وزعيم حزب الله على هذا المنوال بات في سلم أولويات خطابه هو قتال “الإرهاب التكفيري”، والتصويب على المدرسة الوهابية، وهو في ذلك يبدو وفيا للانخراط في معركة ذات طابع سياسي تشكل المذهبية ذخيرتها.
الاستقرار والهدوء على طول الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان، ومع الجولان المحتـل في سـوريا، وقد زاد من هذا الاستقرار إضافـة الضمانة الروسية لإسرائيل على هذا الصعيد، فمنذ تدخل روسيا العسكري في السنة الماضية، بدا أن موضوع الحدود الجنوبية السورية أكثر استقرارا، بـل لقـد تمّت الإطاحة بمجموعة من الأسماء العسكرية في حزب الله التي كانت لها شبهة في قتال إسرائيل أو معاداتها من خلال سوريا، ليس مصطفى بدرالدين أو سمير القنطار إلا من أمثلة عديدة.
يدرك نصرالله أن اللعب هذه المرة سيكون مكشوفا، سيصمت عن كل التنسيق الروسي- الإسرائيلي، ليس كرما لحماية بشار الأسد فحسب، بل تفاديا لأن يقاتل على جبهتين؛ واحدة مع السوريين في سوريا وأخرى مع إسرائيل، وبالتالي فإن أقل المكاسب التي ستنالها إسرائيل هو السكوت عن احتلال الجولان، قوى الممانعة هي أول من سيوفر شرط حماية احتلال الجولان، ما دامت إسرائيل تحمي نظام الأسد ولو على حدود “سوريا المفيدة”.
اكتشفت، روسيا، أخيرا أنها هي التي تستطيع أن تقدم لإسرائيل الأمن والضمانات لأنها -أي روسيا- هي من يستطيع أن يلجم قوى الممانعة في الساحة السورية على تنوعها، بسبب أن روسيا هي من منع انهيار النظام السوري وحلفائه بعدما كان على حافة الانهيار، إذ شكل الغطاء الروسي الجوي عنصرا حاسما في إعادة التوازن للنظام السوري ولحزب الله.
وعلى الرغم من الضمانات الروسية لإسرائيل تجاه أي خطر على أمن إسرائيل من سوريا، فـإن إسرائيل لا تزال تتصرف على الأراضي السورية بمهاجمة كل ما تعتبـره مهـددا لأمنها، وفي هذا السياق قامت طائراتها الحربية بتوجيه ضربات عسكرية لقوافل سلاح كانت تتجه نحو الحدود اللبنانية. ودائما يتـمّ ذلك من دون أي ردّ فعـل من قبـل حزب الله الـذي يرجح أنه الجهة التي تحاول نقل السلاح إلى لبنان.
حسن نصرالله انتقل من التفنن في خطاب التهديد والوعيد لإسرائيل، إلى فنّ جديد اسمه العزف على أوتار الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن، فن التقسيم باسم الوحدة، وفن إدامة الاستبداد باسم القضية الفلسطينية، وفن تأبيد الاحتلال باسم مقارعة الفرق الدينية والمذهبية.
الحرب مع إسرائيل انتهت والسلام الإسرائيلي لا يتم إلا عبر مدخل الممانعة، وروسيا هي أفضل من يحسن القيام بهذه المهمة، أفضل من الإدارة الأميركية ومن الاتحاد الأوروبي. وستكون هي أكثر كرما من واشنطن بالتأكيد وإن غد الممانعة لناظره قريب.
يتصدر السوريون 65 مليون نازح في العالم من جنسيات مُختلفة، يليهم الباكستانيون ثم الصوماليون. وحسب إحصائية أسعد شعوب العالم وأكثرها تعاسة وحزناً، فإن الشعب السوري يحتل الأولوية أيضاً في الحالين. وهذه الأزمة السورية دخلت عامها السادس، وليس هناك أي أفق لحل سياسي، وما يجري على الأرض ينافس ما تعرضه أفلام الرعب. الذل هو عنوان حياة الإنسان السوري، فهو ذليلٌ في المعاناة من الانقطاع الكبير للكهرباء، وفي انهيار الليرة السورية والغلاء الفاحش للبضائع إضافة إلى فسادها. وهو أيضاً ذليل في الفساد المتشرش في سورية منذ أكثر من خمسة عقود.
الأهم من ذلك كله تحطم الأمل في نفوس السوريين، فلو تابعنا أي حديثٍ بين أصدقاء في سورية، لوجدناه تقليب مواجع مروّعة، وذكر حوادث عجيبة وظالمة. وقد هجّ رجل في الخامسة والأربعين من حلب المحترقة إلى اللاذقية، ليفتح دكاناً يُصلح فيها السجاد العتيق (مهنته) ويعمل معه أولاده، ولم يعرف سبب استدعائه للتحقيق واعتقاله، فلا أحد يعلم شيئاً في سورية، وقصد أهلُه محام متخصص ونصاب في التقصي عن المعتقلين، وأخبرهم أنه يستطيع إطلاق سراحه بعد خمسة أيام، إذا دفعوا ثلاثة ملايين ليرة سورية. باع أهله أثاث المنزل وسيارتهم العتيقة وأمنوا المبلغ للمحامي، وفعلاً تم إطلاق سراح الرجل، لكنه فوجئ بعد أيام بعناصر من الشرطة، تداهمه في دكانه، وتسحبه لخدمة الجيش كاحتياط (!)، فصرخ بهم يطالبهم بأن يقدروا عمره، لكنهم أبلغوه بأن ينفذ الأوامر.
تنويعات القهر السوري لا تُحصى، ويمكن أن تؤلف فيها موسوعات. ومن وقائع مريعة، أن ناشطاً في "فيسبوك" تم اعتقاله وخرج جثة من المعتقل، فوضع صديق له طبيب صوره على صفحته في "فيسبوك"، فتم أيضاً اعتقاله ثلاثة أشهر مع التعذيب. هل هذا ما كنا نتأمله بعد ست سنوات من الثورة السورية؟ هل هذه الإصلاحات الموعودة؟ أما عن الرشاوي على الحدود السورية اللبنانية فبالملايين، وكل الحواجز المتكاثرة كلها تطلب الرشوة من السائقين حقاً لها. وقد سرقت لجان لها تسميات عديدة المنازل في كسب وصلنفة وقرى ومدن أخرى، ما يوحي بأن سارقها حاميها. لكن، من جهةٍ أخرى، وربما الأشد ألماً، تجد أن هذه الظروف البالغة الوحشية واللاإنسانية أعطبت عقول ناسٍ كثيرين، فزادتهم تشنجاً وتطرفاً. والظلم هو السبب الرئيسي للجهل والتطرف.
قصد صديق في حماه تاجراً يفهم بأجهزة البيانو، وطلب إليه إصلاح قطعة معطوبة انتزعها من البيانو، رفض التاجر بحجة أن الموسيقى حرام (!). منذ متى كنا نجد نماذج من التخلف والتعصب الأعمى كهذه في سورية؟ تتحمل فضائيات تلفزيونية بعض المسؤولية، إذ تقدّم برامج دينية تشتمل على أسئلة مخجلة في تخلفها وسطحيتها. هل يُعقل أن تسأل مشاهدة شيخاً يحق له الإفتاء: ما هو رأي الدين الإسلامي بنزع أشعار جسم المرأة بالشفرة؟ ثم الشيخ الفاضل بجواب أخجل من كتابته.
أليس علينا أن نعيد تعريف الحياة في سورية؟ هل هي مجرد تراكم أيام؟ هل هي تراكم قهر وذل وفقر وفساد وضلال العقل في أفكار سطحية تافهة، تهبط بالإنسان إلى مرتبه الحيوان؟ ولماذا تبث فضائيات عديدة برامج كهذه، أليس لإغراق المشاهد في السطحية والتفاهة والضلال، كي لا ينتبه ويعي المشكلة الحقيقية، وهي الظلم والاستبداد. يحق لسورية التي تحتل المرتبة الأولى في العالم في النزوح، وفي التعاسة بين الشعوب، لها أن تنتفض، وتصرخ: كفى كفى كفى إمعاناً في إذلال هذا الشعب، كفى معاملته بقسوة لا حدود لها ولا قاع.
كل من تلتقيهم من السوريين تعيسون ومُروعون من هول هذه الحياة التي لا تشبه الحياة في شيء. أما آن للضمير العالمي أن ينتفض حقاً؟ أما آن للمعارضة السورية المشرذمة المرتبطة، والتي تضم فصائل متطرفة، أن تكون معارضة يهمها حقاً الشعب السوري، فتكف عن سفك الدماء؟ أما آن للنظام أيضاً أن يجد طريقة من أجل شعبه، لكي يتحاور مع المعارضة؟ هل الأزمة السورية مُستعصية الحل إلى هذه الدرجة، أم أن إرادة الدول كلها أن تغرق سورية بدماء أبنائها، وأن يغرق قسم كبير من شعبها في ضلال الجهل والتفاهة؟ ربما العالم كله متآمر على سورية كي يعطيها وسام الأولوية في النزوح، وفي أن يكون شعبها الأتعس في العالم.
لفظ فلاديمير بوتين حكمه على «داعش»: حسم مصيره في سوريا ميدانياً. حيثيات الحكم الضمنية وفيرة:
كَبُر «داعش» وتجبّر وأصبحت له ذراع طويلة تطاول كبرى العواصم والمرافق في شتى أنحاء العالم.
لديه أسلحة نوعية متطورة وفتّاكة: كيميائية وصاروخية ومضادة للطائرات.
له شركاء دوليون وإقليميون أقوياء وأثرياء يزودونه المال والسلاح والدعم السياسي.
استمرارُ «داعش» في اعتماد نهج «إدارة التوحش» من خلال عمليات عنف أعمى بالغة الهَتك والفتك والتدمير يؤدي إلى تعاظم مردود عملية اجتذاب وتجنيد وتدريب وزجّ آلاف الفتيان الانتحاريين المغسولي الأدمغة في عمليات إرهابية مدوّية ومدمّرة في شتى أصقاع الدنيا.
استوقفت بوتين، بلا شك، واقعة أخيرة لافتة: ثلاثة من «أبطال» عملية مطار أتاتورك الرهيبة في اسطنبول جاءوا من قلب روسيا ومن حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى: القوقاز وأوزبكستان وقرغيزيستان. كم سيكون مخيفاً ومؤذياً لو نجح الداعشيون في اجتذاب المزيد من هؤلاء والزجّ بهم في عمليات مروّعة في قلب موسكو وبطرسبرج؟ ثم، ليس سراً أن التعاون قائم ومتفاقم بين «داعش» والولايات المتحدة وتركيا. هؤلاء باتوا شركاء في توليف وتنفيذ مخططات وعمليات في عمق سوريا والعراق. ألم تتحول الحدود التركية – السورية على مدى نحو 900 كيلومتر مدخلاً لإمرار الرجال والسلاح والعتاد لتنظيمات شتى تقاتل جيشيّ سوريا والعراق؟
موسكو نددت مراراً بهذا الخلل المتمادي. شعرت بأن الغاية من ورائه ليس استنزاف جيشيّ سوريا والعراق فحسب، بل استنزافها هي تحديداً، بعدما أصبحت شريكة دمشق في مقاتلة «داعش» و»النصرة». في هذا السياق، حاولت أنقرة تشديد الاستنزاف لحمل موسكو على التراجع عن العقوبات التي فرضتها عليها عقب إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا في خريف العام الماضي. موسكو لم تتراجع عن تدابيرها العقابية، فكان لا بد لأنقرة من أن تتراجع عن تواطئها مع «داعش» لاسترضاء موسكو بغية رفع العقوبات. «داعش» أحسّ بالخطر، أمر مجموعاته الانتحارية بتنفيذ عمليات إرهابية على حدود تركيا مع سوريا وفي قلب أنقرة وبعدها في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول. كل ذلك من أجل تخويفها وردعها عن الاسترسال في سياسة استرضاء روسيا لترفع عنها العقوبات. أردوغان حزم أمره أخيراً، قدّم اعتذاره علناً لبوتين عن إسقاط الطائرة الحربية. ووعد سراً بتنازلات أخرى وازنة ليس أقلها إغلاق حدود بلاده مع سوريا، فلا تبقى ممراً آمناً للرجال والسلاح والعتاد المرسل إلى تنظيمات الإرهاب. لو لم يحصل بوتين على تعهدٍ من أردوغان بهذا المستوى الرفيع والوازن لما وافق على رفع العقوبات، السياحية منها خاصة، عن جارته المتضررة .
وقْفُ تدفق الرجال والسلاح عبر الحدود التركية الى سوريا (والعراق) عدّل ميزان القوى لمصلحة دمشق وحلفائها، فأصبح في وسع بوتين أن يعلن، بثقة وارتياح، عزمه على حسم مصير «داعش» في سوريا.
ما مفاعيل هذا الموقف الروسي الصارم وتداعياته؟
سيَحدثُ انخراطٌ روسي متزايد في معمعة الحرب في سوريا وعليها، سياسياً وعسكرياً، وتعاونٌ أوسع على هذين الصعيدين مع سائر أطراف محور المقاومة. بوادرُ التعاون لم تتأخر في الظهور. فقد أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ان طهران وموسكو ودمشق اتفقت على تشكيل مجموعة خاصة بمراقبة الاوضاع في سوريا، أوضح أن قرار إنشاء المجموعة الثلاثية جرى اتخاذه خلال محادثاته الأخيرة في موسكو مع أمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي بارتروشيف، وأن مهمتها مناقشة المسائل السياسية وقضايا الأمن في سوريا من مسافة قريبة.
واشنطن أحسّت بدورها بأن موسكو عازمة على انتهاج سياسة اكثر حزماً في سوريا ضد تنظيمات الإرهاب، بما فيها تنظيمات المعارضة السورية «المعتدلة» المتعاونة مع جبهة «النصرة»، لذا بادرت ادارة أوباما، حسب صحيفة «واشنطن بوست»، إلى اقتراح إنشاء «شركة عسكرية جديدة في سوريا» على موسكو. مضمون الاقتراح يتمثل في وعد من واشنطن بتوحيد الجهود مع القوات الجوية والفضائية الروسية لتبادل المعطيات عن الأهداف وتنسيق حملة موسعة لقصف جبهة «النصرة» المصنفة إرهابية في مقابل أن تضغط موسكو على حكومة الرئيس بشار الأسد لوقف قصف مجموعات معينة من المعارضة السورية المسلحة لا تعتبرها الولايات المتحدة ارهابية.
موسكو لن ترفض، مبدئياً ، هذا الاقتراح، لكنها ستشترط بالتأكيد خروج تنظيمات المعارضة السورية «المعتدلة» من مناطق سيطرة «النصرة» لتأمن عدم قصفها. سبق لموسكو أن طالبت واشنطن بتنفيذ هذا الإجراء لضمان ترسيخ الهدنة المعلنة في شمال سوريا. واشنطن لم تنجح في تنفيذ هذا الشرط، ولعلها لم توافق عليه اصلاً، ذلك أن سياسة إدارة أوباما كانت دائماً الحدّ من نشاط التنظيمات الإرهابية شرط عدم استفادة حكومة الاسد من إضعافها.
واشنطن اليوم ربما أصبحت اكثر استعداداً لتنفيذ الشرط الروسي، فقد اخفقت في مساعيها الرامية لبناء وتسليح تنظيمات فاعلة للمعارضة السورية «المعتدلة «، ذلك ان السلاح المرسل اليها كثيراً ما كان يقع في ايدي «داعش» و»النصرة»، وأن ما يتبقى منه في يديها لا يكفي او لا تُحسن استعماله فتكون النتيجة كارثية على الطرفين الامريكي والسوري «المعتدل»، أليست هذه الأمثولة المستخلصة من الهجمة الفاشلة قبل ايام على مطار البوكمال؟ ثم هناك اشكالية اخرى بالغة التعقيد، فقد تبيّن ان السبب الرئيس، وليس الوحيد، لوقوف ادارة اوباما موقفاً معادياً لحكومة الاسد هو رغبتها في تعويض اسرائيل خسائرها جرّاء اتفاقها النووي مع ايران ومخاطره على أمنها القومي. التعويض يكون في محاولة إضعاف حلفاء ايران، سوريا وحزب الله اللبناني، بطريق إدامة الحرب في بلاد الشام لاستنزاف مكوّناتها الوطنية والاقتصادية والعسكرية وصولاً إلى تقسيمها، إذا أمكن. إدارة أوباما لاحظت، على ما يبدو، صعوبة الاستمرار في مجاراة إسرائيل في مخططها الانف الذكر، لذلك تراها تعتمد مقاربة جديدة قوامها تعويض خسائر الكيان الصهيوني جراء الاتفاق النووي بمضاعفة تسليحه بأسلحة متطورة من جهة وبزيادة المساعدات المالية السنوية التي تغدقها عليه من جهة اخرى. في سياق هذه المقاربة ، جرى تظهير اقتراح «الشركة العسكرية الجديدة» بين امريكا وروسيا، فهل يتشارك القطبان الدوليان لحسم مصير «داعش» في سوريا؟
اقتنع الرئيس رجب طيب أردوغان متأخراً بوجوب نهج سياسة براغماتية جديدة. وطي صفحة الأحلام الامبراطورية. أدرك أن ثمة ديناميات طارئة في الإقليم تحتم انعطافة جذرية في العلاقات الخارجية. ووجوب فك العزلة المضروبة على تركيا، بعد توتر علاقاتها مع قوى كثيرة. مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وروسيا وإيران وعدد من الدول العربية على رأسها مصر والعراق. وتأتي هذه الانعطافة في وقت تحتاج كل هذه القوى إلى إعادة تموضع لا مفر منها في منطقة تعصف بها الاضطرابات وتهدد السلم والاستقرار الدوليين. فالولايات المتحدة تتراجع عن الشرق الأوسط بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران. وتقيم في محطة انتظار الإدارة الجديدة. والاتحاد الأوروبي يتخبط في أزمات متصاعدة، من أزمة اللاجئين إلى خروج بريطانيا وما يرتبه من تبعات على وحدة القارة، إلى التحديات التي يمثلها صعود روسيا وعودتها لاعباً دولياً لا قدرة ولا رغبة في مواجهته غربياً بغير العقوبات. وتقاربها مع إسرائيل، وتقدمها في سورية وإطلاق يدها في هذا البلد. وانشغال الدول العربية بنفسها وبحروبها، من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة وشرق المتوسط. وتنامي الدور الكردي في الحرب على الإرهاب في كل من العراق وسورية. ولجوء واشنطن وموسكو إلى دعم الميليشيات الكردية في هذين البلدين بلا اكتراث لمخاوف أنقرة وهواجسها بعد تجدد حربها مع حزب العمال الكردستاني. إلى كل هذه المتغيرات يكيل العالم اتهامات لتركيا بأنها تمد في عمر الإرهابيين. ويحملها المسؤولية عن تسهيل عبورهم إلى بلاد الشام وبلاد الرافدين مما أربك ديبلوماسيتها وشوه صورتها في الداخل والخارج. كما أن هجوم الإيرانيين والروس والكرد في شمال سورية بحجة محاربة التنظيمات الجهادية والتكفيرية يستهدف معظم أطياف المعارضة المعتدلة وغيرها، وبينها تلك التي رعتها وترعاها حكومة «حزب العدالة والتنمية» بالدعم السياسي والعسكري. أي أن القضاء على هذه الفصائل، بعد تشتيت قوى «الإئتلاف الوطني» بين الرياض والقاهرة وعمان وأبو ظبي وحتى موسكو وعواصم غربية، يحرم أنقرة من أداة نفوذ رئيسية في أي تسوية سياسية. وتغييب كلمتها ومصالحها عند رسم مستقبل جارتها الجنوبية المعنية بمصيرها أكثر من أي لاعب آخر في هذه الأزمة.
توكأ الرئيس أردوغان على القفزة الاقتصادية التي حققتها سياسته. ثم على خطاب شعبوي في الداخل وفي الشارع العربي، إثر الهجوم الإسرائيلي على السفينة «مرمرة». وبعدها على تقديم حزبه نموذجاً لحركة التغيير التي وعد بها «الربيع العربي» وتصدرتها قوى الإسلام السياسي. وهذا ما أتاح له تحويل «حزب العدالة والتنمية» طوال 14 عاماً في السلطة رافعة شخصية. فنجح في إطاحة معظم زملائه المؤسسين الطامحين. ومعهم كثير من الخصوم السياسيين. وأطاح بطريقه كثيراً من الحريات. وقبض على القضاء. وأعاد الجيش إلى ثكنه. تحول حاكماً وحيداً من دون أن ينتظر تعديل الدستور الذي ينوط بالحكومة معظم الصلاحيات التنفيذية. وجنح بالبلاد نحو محافظة متشددة بعيداً عن العلمانية، الهوية الأساس لتركيا منذ قيام الجمهورية. لذلك لم يكن مستغرباً أن يقدم نفسه راعياً لقوى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط كله. وهو الأسلوب نفسه الذي لجأ إليه نظيره الروسي فلاديمير بوتين باعتماده العربة الدينية إحدى المنصات لاستنهاض الروح القومية وإستعادة الدور الذي كان لموسكو أيام القيصرية ثم أيام الكتلة الشرقية، وكذلك لإطاحة خصومه والحؤول دون قيام أي معارضة فاعلة ليبرالية أو غير ليبرالية. وكلا الرجلين يسعى إلى حكم الحزب الواحد. من هنا ربما على أوروبا أن تعيد إطلاق المحادثات من أجل عضوية تركيا في الاتحاد لأن ذلك سيخلق حواراً واسعاً وحملة قاسية تضيء على ما يتعرض له القضاء والحريات وحقوق الإنسان في عهد أردوغان.
لكن الرئيس التركي اكتشف أن انشغاله بالساحة الداخلية صرفه عن إعادة حساباته بعد التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة وأطاحت نظرية «تصفير المشاكل» في العلاقات الخارجية، وبدأت تهز دعائم الاقتصاد والتجارة. اكتشف أن بلاده باتت شبه معزولة مع التمدد الإيراني في عدد من الدول العربية، والتدخل الروسي في سورية وانكفاء الأميركي الحليف الاستراتيجي عن الإقليم وإبرام الاتفاق النووي مع إيران وفتح خطوط التواصل بين واشنطن وطهران. شعر بتراجع موقع تركيا في الاستراتيجية الأميركية، بعدما كان هذا الموقع تراجع أصلاً مع سقوط حلف وارسو. فكان لا بد من مراجعة السياسة الخارجية جذرياً. كان يتوقع عندما أسقط الطائرة الروسية أن يهب حلفاؤه في الأطلسي، وعلى رأسهم أميركا، للدفاع عنه في وجه غطرسة الرئيس فلاديمير بوتين وإطلاق يده في بلاد الشام. لكن شيئاً من هذا لم يحصل. كان إسقاط الطائرة مؤلماً للرئيس الروسي لكن ذلك لم يؤد إلى رسم حدود لتدخله في سورية، بقدر ما انتهى إلى تقليص الدور التركي وتحجيمه. فقد عاندت واشنطن ورفضت مطالبة أنقرة بإقامة مناطق آمنة، وبتوجيه ضربات إلى نظام الرئيس بشار الأسد تمهيداً لإسقاطه. فكان لا بد من الاستدارة وتلبية شروط الكرملين لإعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين الجارين. فالرئيس التركي يدرك هول خسارة سورية التي تشكل لبلاده فضاء حيوياً وباباً إلى كل المنطقة. فهي كانت في أدبيات الامبراطورية «درة التاج العثماني»، تماماً مثلما تشكل أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا آخر دفاعاتها في وجه الغرب و»الناتو».
الانعطافة التركية لم تكن مفاجئة. الدينامية التي خلفها تدخل روسيا العسكري في سورية وانخراط إيران عسكرياً في الدفاع عن النظام، دفعت أنقرة إلى إعادة ترتيب علاقاتها. ولم تجد مفراً من إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع الرياض. ووفر له غياب الملك عبد الله بن عبد العزيز فرصة لملاقاة خليفته الباحث أيضاً عن حلفاء في الإقليم وخارجه لتعويض الانسحاب الأميركي من المنطقة، ولتعزيز الحلف المناوىء لطهران. وكانت العلاقات بين تركيا والمملكة سادها فتور وتوتر بعدما ساندت السعودية التغيير الذي حصل في القاهرة وأطاح نظام «الأخوان». وهو ما دفع بالرئيس أردوغان إلى شن حملة على الدور الخليجي في دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي. ومعروف أن للبلدين علاقات واسعة مع العشائر السنية، ويؤديان دوراً في دعم أهل السنة لمواجهة «داعش» وتمدد إيران في العراق وسورية. وكان تالياً لا بد من إعادة الحرارة إلى العلاقات مع روسيا. فالمصالحة معها تعيد انعاش التبادل التجاري الواسع بين البلدين. كما تعيد الاعتبار إلى سياسة أنقرة لتحويل البلاد ممراً أساسياً للغاز والنفط من آسيا (إيران) وروسيا نحو أوروبا، مما يعطيها ثقلاً سياسياً. وقال الرئيس التركي من سنوات إن بلاده تعتمد على ما تستورده من إيران وروسيا وسيكون «من المستحيل وقف هذه الواردات من أي من هاتين الدولتين». وتعين المصالحة البلدين معاً على التفاهم لتلمس تسوية سياسية في سورية حيث لا ترغب موسكو في حرب مديدة تغرقها في مستنقع لا طاقة لها على تحمله. من هنا جاء التنسيق بينها وبين إسرائيل والذي يعزز حضورها وإمساكها بالورقة الشامية للحفاظ على النظام ومصالحها. فضلاً عما يمكن أن يقدمه اللوبي الإسرائيلي من دعم للكرملين في الأوساط الأميركية والأوروبية. وهو ما شجع ايضاً الرئيس التركي على استعجال إحياء العلاقات مع تل أبيب. وتحد المصالحة من حدة التنافس بين البلدين في آسيا الوسطى والبلقان.
ان تمتين التفاهم بين إسرائيل وروسيا يخدم مصالحهما وسياستيهما في منطقة مضطربة. مثلما تخدم المصالحة بين تركيا والدولة العبرية مصالح الدولتين وتعزز حضورهما في الإقليم والمنتديات الدولية. فكلتاهما تدرك حجم هذه المصالح التي لا يمكن المجازفة بإضاعتها. يمكن أنقرة أن تعتمد على حضور الدولة العبرية وثقلها في الإقليم لمواجهة خصومها فيه. وكان الجيش التركي تاريخياً يعتمد على ما تنتجه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتحديث آلته العسكرية. كما أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يمكن أن يقدم خدمات جلى إلى تركيا. مثلما تحتاج إسرائيل إلى علاقة تصالحية مع بلد إسلامي كبير لضمان أمنها القومي واستقرار هذا الأمن. فالمعروف أنها اعتمدت لتعزيزه،على معاهدة السلام مع مصر وعلى علاقاتها مع تركيا. وهذا ما شكل ويشكل لها وزناً إضافياً في ميزان القوى العسكري في الشرق الأوسط. وهي حريصة على عودة الدفء إلى علاقاتها مع أنقرة التي باتت لها كلمة مسموعة مع حركة «حماس». فضلاً عن حاجتها إليها لتسويق غازها وإيصاله إلى اوروبا بعد الاتفاق على تقاسم هذه الثروة في المتوسط.
لا شك في أن دخول تركيا صلب التفاهم الإسرائيلي - الروسي سيمنحها مجالاً أوسع للتحرك. ويعيد إليها تدريجاً دوراً فقدته. مثلما قد يعدل في موازين القوى المتصارعة في الشرق الأوسط. إن السياسة البراغماتية التي تستعيدها أنقرة تعيد إليها عافيتها الاقتصادية التي تشكل عنصراً فاعلاً في توكيد نفوذها في المنطقة. وتعزز الجبهة الداخلية لحزبها الحاكم. وتستطيع عندها أن تقدم نفسها قوة وشريكاً لا يستغنى عنه في رسم النظام الإقليمي الجديد. مثلما يمكنها تقديم نفسها حامية لأهل السنة بمواجهة إيران وتمددها. وإقامة توازن في علاقاتها مع هذه الأضداد. فحتى الجمهورية الإسلامية في عهد الرئيس حسن روحاني تعتمد سياسة براغماتية لتعزيز اقتصادها وانفتاحها على العالم. فهي سكتت وتسكت على التنسيق القائم بين تل أبيب وموسكو في الساحة السورية. لن يتغير الكثير بين ليلة وضحاها نتيجة هاتين المصالحتين. لكن الانعطافة التركية كانت ضرورية في منطقة تتغير وتتبدل على وقع صراعات دولية وحروب أهلية طاحنة.
باتت المسألة السورية في مواجهة تطورين كبيرين، سيكون لتداعيات كل منهما شأن كبير، إن على مآلات الوضع السوري والثورة السورية، أو على مكانة الفاعلين الدوليين والإقليميين، في إطار الصراع على سوريا.
التطور الأول، ويتمثل بهذا التمايز، الذي بات علنيا وواضحا، في مواقف كل من روسيا وإيران بخصوص ما يجري في سوريا، وفي الموقف من نظام الرئيس بشار الأسد، ومن مسألة الهدن، والعملية التفاوضية؛ ففيما تبدو إيران مصرة على استمرار الأسد في السلطة إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، باعتباره الضامن الوحيد لاستمرار نفوذها، ليس في سوريا فحسب وإنما في العراق وإيران أيضا، ثمة تسريبات جديدة تفيد بأن روسيا ليست متمسكة للنهاية بالرئيس، وأنها تفعل ذلك الآن فقط لمصلحة بقاء الدولة السورية، وتلافيا لانهيارها. ومعلوم أن روسيا تعوّل في دورها على العملية التفاوضية، في حين أن إيران تعول فقط على مشاركة ميليشياتها في الصراع إلى جانب النظام، ما يعني أنه بات ثمة فارق جوهري في مضمون مواقف هذين الطرفين؛ الروسي والإيراني، كما في اصطفافهما على الأرض، وفي هدف كل منهما لأغراض التدخل العسكري.
وقد شهدنا في الآونة الأخيرة مجموعة من الإشارات الروسية التي تفيد بالتوضيح للعالم، وضمنه للإيرانيين، بأن سوريا هذه ورقة في يد روسيا، لا في يد إيران، وأن هذه أصغر من أن تنافس روسيا في سوريا. ولعل هذا ما بدا واضحا من “فيلم حميميم”، في القاعدة البحرية الروسية على الساحل السوري، الذي ظهر فيه الرئيس الأسد وكأنه في حالة استدعاء إلى قاعدة روسية في سوريا لمقابلة وزير دفاع بلد آخر. هذا أيضا ما يمكن استنتاجه من رفع الغطاء الجوي الروسي عن الميليشيات التي تشتغل كأذرع لإيران في سوريا مثل حزب الله في مناطق حلب، وفي نفي السفير الروسي للكلام الذي صدر عن زعيم هذا الحزب حسن نصرالله بخصوص أن ثمة معركة مصيرية آتية في حلب.
التطور الثاني الذي يمكن ملاحظته أيضا، وستكون له تبعاته في المشهد السوري، يتمثل في إعادة التموضع التركي المفاجئ؛ إن لجهة عودة العلاقات الطبيعية بين تركيا وروسيا، أو لجهة تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية، وذلك بغض النظر عن العوامل الذاتية أو الموضوعية، التي ضغطت من أجل ذلك، وأفضت إلى هذا التحول الدراماتيكي في السياسة التركية.
في هذا التطور تحاول تركيا الخروج من الضائقة التي باتت تجد نفسها فيها بسبب انعكاسات الصراع السوري عليها، وتحوله إلى عامل لزعزعة الاستقرار فيها، إن كان من مدخل العمليات الإرهابية التي نشطت في الفترة الماضية، أو من مدخل إشعال فتيل الصراع مع الأكراد، إما في داخل تركيا ذاتها، وإما في سوريا، بحكم تصدر قوات حماية قوات الشعب (الكردية) لقوات سوريا الديمقراطية، والتي بات لها دور فاعل على الأرض في إطار الجهد العسكري ضد داعش.
هكذا يقف السوريون اليوم لمراقبة تداعيات هذين التطورين المهمين، على مجريات الصراع في سوريا وعليها، بحيث يمكن القول معهما إن سوريا ستشهد، على الأرجح، معادلات سياسية جديدة، قد تمهد لتسويات قريبة تخفّف من حدة الصراع السوري، وصولا إلى إيجاد مخارج أو توافقات مناسبة، تمهد لتحقيق النقلة السياسية اللازمة لاستعادة الاستقرار في هذا البلد.
ومعنى ذلك أن هذا الاصطفاف الجديد في علاقات القوى المتصارعة على سوريا، سيعني إضعاف دور إيران، وتاليا إضعاف أهم قوة ساندت نظام الأسد، وأسهمت في وصول الأوضاع في سوريا، وفي المشرق العربي عموما، إلى ما وصلت إليه، من حال التصدع الدولي والمجتمعي. ومن شأن هذا الاستبعاد ربما أنه يوحد الجهود في اتجاه إخراج كل الميليشيات العسكرية من البلد، ووضع حدّ للصراع المسلح، أو التخفيف منه، بانتظار أن تفرض التسوية السياسية ذاتها.
يخطئ الانسان أحياناً ، و يصب خطئه في قالبه "الشخصي" ، وضمن محدودية الآثار على الجمع المحيط به، و لكن عندما تضع نفسك في مقام عالي و تنصب شخصك أو مجموعة على أنك حامي الحمى ذو مهمة دينية عالية، فالخطأ هنا أكبر و أشد إيلاماً سواء لمسؤولياتك التي قررت حملها أو للهدف الذي ارتضيت حمايته و الوصول إليه، دون أن يكون هناك ورقة تكليف رسمية أو شعبية ذات إرادة حرة.
تقع جبهة النصرة في كل مرة في مطب من مطبات العمل المدني و التداخل في شوائك الحياة العسكرية، وقلب المعادلة في الآرض بسيف القوة ، ويبدو أن هناك من يدأب على زرع الرفض الشعبي لها مستقبلاً، و إن كان هناك قبول حالي فهو وقتي تبعاً لمعطيات الظرف ، المتمثل بحجم الألم المتولد عن النظام و حلفائه، ففي الأرض مدنيون لا يملكون ميزة أو رفاهية إختيار السلاح المدافع عنهم، و مع غياب الخطر على الروح فإن الآية ستتغير بشكل كبير، بخلاف كل ما يخطط أو يُعمل عليه، و لا يوجد استبداد يستطيع السيطرة على الأرض بالسيف و النار ، فدوامهما مستحيل.
فبعد التجارب الـ١٣ للفصائل التي تم انهائها من قبل جبهة النصرة و ارتفاع العدد إلى ١٤ بعد انضمام جيش التحرير إلى القائمة، يبدو أن خط التمدد من قبل النصرة هو قطار سيمر على الفصائل، سواء التي تعتبر جزء خفي من النصرة أو بعيد كل البعد عنها، و الغريب هو الاستهتار النابع عن خوف أو أنانية من قبل الموضوعين على القائمة، اتجاه ما تقوم به النصرة اتجاه فصائل الجيش الحر.
الصامتين على تصرفات النصرة يمثلون قطيع من الغنم يقفون أمام جزار يتلاعب بهم، بانتظار لحظة مواتية لإنهائهم، هذه اللحظة التي تأتي بعد كل انتصار أو بطولة للنصرة لتفرّغ الساحة من فصيل من أبناء الشعب، لا هدف له بأن يتحول الشعب المكلوم لمحارب عن مجتمع بأكمله، لم يتحرك ساكناً أمام أنهر دمائه التي مُلئة الأرض.
قد ينتفض كثر ضد ما نقول أو نتحدث عنه، و لكن يبقى تبيان الواقع أفضل من الصمت بحجة الخوف من ردة الفعل التي قد تودي بحياتك أو حياة من هم على قرب منك، فالقضية ليست قضية فلان من الناس مع مجموعة من الأشخاص ، لكنها هي قضية سوريا المستقبل ، الذي يتحدد الآن من خلال الخيارات التي تضيق على الأرض بعد الابتلاعات المتتالية و غير مضبوطة.
لا يمكن انكار دور النصرة الحالي في احداث الرد الجزئي على كم الاعتداءات اللامتناهي من أعداءه، و لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن ننسب هذا الفضل في مجمله لفصيل بعينه، فهو ضمن عمل جماعي يلعب كل جزء منه دور بارزاً و مهماً في أي نتيجة إيجابية، من حلب للساحل و عودة إلى بداية الرد في وادي الضيف وصولاً إلى تحرير ادلب.
التفرد و انكار الجميع قد تكون حالة تمنح النصرة حالياً ميزة للتفوق على الأرض، و لكن ليست ذات استمرارية فحكم الشعب لا يكون بالإلغاء و الانهاء لكل مخالف، و إنما باستيعابه و الذوبان فيه و قبوله كما هو .
و آلاف الأسئلة تضرب في الرأس بحثاً عن مبرر يمكن أن يستخدم لتخفيف الحنق ضد تصرفات "النصرة"، و أبرزها ماذا لو النصرة حلت المشاكل مع حزم و الفرقة ١٣ و جيش التحرير من خلال لجنة حل مقبولة من الجميع، و ماذا لو لم تعتبر كل أخطاء النصرة من اعتقالات و كم الأفواه تحت بند "الأخطاء الفردية" المعفو عنها، ويبقى السؤال الأهم كيف نواجه "بغي" جبهة النصرة !؟
بعد فسحة من الأمل، تراجع فيها منطق العنف والحرب وتقدمت لغة التفاوض السياسي، عاد المشهد السوري إلى سابق عهده مثقلاً بالفتك والدمار، وعاد السلاح ليكون صاحب الكلمة الفصل، منعشاً الأوهام بجدوى الخيار العسكري ومستهتراً بالنتائج المأسوية التي يخلفها على حياة البشر وأمنهم وشروط عيشهم وعلى وحدة الوطن والدولة والنسيج الاجتماعي، وما يزيد الطين بلة، أن كل طرف يحمل الآخر مسؤولية هذا الخيار، إما كرد على انسحاب المعارضة من اجتماعات جنيف ولإجبارها على العودة الى طاولة المفاوضات، وإما لإضعاف نظام يرفض المعالجة السياسية ولإجباره أيضاً على قبول خطة الطريق الأممية والمرحلة الانتقالية العتيدة.
وبينما لا تزال جماعات المعارضة المسلحة منشغلة بترميم قواها وتحصين مواقعها بعد الضربات الجوية الروسية، فإن النتائج التي حققتها هذه الأخيرة مكنت النظام وحلفاءه من التقاط زمام المبادرة والبدء بمرحلة من التصعيد العسكري مستندين إلى ثلاث نقاط داعمة.
أولاً، استثمار الانفلات الناجم عن انهيار هدنة وقف العنف والأعمال العدائية لاستعادة السيطرة على بعض المواقع المفصلية ومحاصرة المعارضة المسلحة في مناطق محدودة ومعزولة، ربطاً بالتركيز على استعادة مدينتي حلب والرقة والتعويل على ذلك في قلب التوازنات القائمة ووضع الصراع السوري في مسار جديد يمكن النظام وحلفاءه من رفع سقف الاشتراطات وفرض إملاءاتهم.
ثانياً، تمرير التصعيد العسكري بالتناغم والتزامن، مرة، مع استعار معارك التحالف الدولي وقوات سورية الديموقراطية ضد تنظيم داعش ونجاح الأولى في التقدم والسيطرة على عدد من القرى والبلدات وآخرها مدينة منبج، ومرة ثانية مع الهجوم الواسع الذي تقوده قوات التحالف ذاتها مع الجيش العراقي للسيطرة على مدينة الفلوجة والاستعداد لاجتياح مدينة الموصل، وما يعطي هذا التناغم قيمة مضافة، انكشاف حالة من توزيع المهمات بين واشنطن وموسكو في إدارة الضربات الجوية للنيل من الجماعات الجهادية على أنواعها.
ثالثاً، الإفادة من تشتت المعارضة السياسية ومن الصراعات التنافسية الدموية التي تتواتر بين أهم جماعاتها المسلحة في غير منطقة من سورية، ربطاً باستمرار إحجام الأطراف الخارجية عن تزويدها بسلاح نوعي، هذا إن بقي خبر حصول جبهة النصرة على مضادات للطيران في إطار التخمينات!
لكن أن تكون الظروف مواتية لتحقيق بعض التقدم العسكري شيء، وأن يسمح تباين المصالح الدولية والإقليمية بتغيير التوازنات القائمة شيء آخر! والقصد أن الأفق سيبقى مغلقاً أمام أي تصعيد عسكري، وأن ثمة خصوصية لمعركتي حلب والرقة، ترتبط بصراع محموم على النفوذ المشرقي، يرجح أن تلعب أطرافه المتضررة دوراً كبيراً في إجهاض أية نتائج عسكرية حاسمة، حتى لو أدى الأمر إلى رفع منسوب الصراع ميدانياً وربما إعلان حرب مفتوحة! فليس من منطق ومصلحة يدفعان القوى الدولية والإقليمية المناهضة للنظام وحلفائه، كي تغض الطرف عما يجري وتقف على الحياد، وهي المدركة الأهمية الإستراتيجية لمدينتي حلب والرقة، إن في تمكين أعدائها وإن في إضعاف تأثيرها بالمستقبل السوري وبصراع الهيمنة على المنطقة.
ربما لا تسمح الموازين الداخلية والخيارات الدولية والإقليمية في اللحظة الراهنة بفرض حل سياسي عادل يحقق طموح الشعب السوري، وربما لا تسمح ببعث مسار التفاوض السياسي ومنحه ما يتطلبه من الجدية والزخم، لكن هذه الموازين نفسها لن تسمح أيضاً لأحد الطرفين، بتحقيق الغلبة والانتصار خاصة في مدينة مثل حلب، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى تحذيرات الوزير كيري بأن صبر واشنطن بدأ بالنفاد، وتالياً إلى مسارعة موسكو تجميد القصف والأعمال القتالية وإعلان هدنة قصيرة في المدينة من طرف واحد.
يصعب على المرء فهم الطريقة التي تنظر فيها أطراف الصراع إلى ما يجري، وكيف تخلص إلى تغليب الخيار الحربي على كل شيء، وتعجب بعد أعوام عديدة من تجريب مختلف أصناف الأسلحة وأكثرها فتكاً ومن استجرار كل أشكال التدخل الخارجي وما تحمله من مصالح وأهداف خاصة، تعجب من استمرار الأوهام بإمكانية الحسم ونجاعة منطق كسر العظم، وتالياً من نكران حقيقة مرة تقول بلا جدوى هذا الخيار، وأنه يسير بالبلاد، في ضوء التشابكات الدولية والإقليمية العنيدة والمعقدة للوحة الصراع السوري، نحو الأسوأ سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، ونحو المزيد من الضحايا والخراب والمشردين واستنزاف ما تبقى من قوة المجتمع وثرواته.
فإلى متى يبقى الشعب السوري أسير الخيار الحربي في رهان السلطة أو المعارضة على الانتصار؟ أوليس أمراً مؤسفاً ومقلقاً في آن، الوقوف أمام قادة للمعارضة لا ينفكون عن تكرار أوهامهم عن حسم عسكري سريع في حال مدوا بأسلحة نوعية أو تم تحييد الطيران، وأمام نظام لم تفارقه الأوهام ذاتها، واعتاد مع كل محطة يحقق فيها الخيار العسكري بعض التقدم، أن ينعش هذه الأوهام ويكرر لازمته، بأن الأزمة توشك على الانتهاء وبأن ما تواجهه البلاد سيغدو في وقت قريب من الماضي؟!
لن تعود سورية إلى ما كانت عليه قبل آذار (مارس) 2011... هي عبارة يتداولها الكثيرون كحقيقة لا تقبل التأويل. ولكن بين تشاؤم العقل وتفاؤل القلب، ثمة بارقة أمل، تتعدى الرهان على محصلة صفرية للصراع تكره أطرافه الداخلية على التنازل والانصياع للحلول السياسية، أو على تقدم توافق وإرادة أمميين يضعان حداً لما يجري، إلى الرهان على خصوصية الشعب السوري وعلى شدة ما يعانيه في لعب دور فاعل يحاصر منطق العنف والغلبة والإكراه، يحدوه رهان على جدوى المثابرة في نشر ثقافة تنبذ التمييز والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء، وترفض أي خطاب إيديولوجي مسطح يحتقر السياسة وحقوق الإنسان ويستسهل قتل البشر وسفك الدماء لأغراض سياسية أو دينية، ثقافة لا يمكن من دونها أن يكون السوريون أوفياء للتضحيات العظيمة التي بذلت ولشعارات الحرية والعدل والكرامة.
قد يمكنك تفسير سبب عنصرية الشعب اللبناني (أو الشعوب اللبنانية؟) تجاه العمال الأجانب الآتين من سريلانكا أو الهند أو بنغلادش، من دون أن تبرر هذا الحال طبعاً، كما هو شأن تفسيرك عنصريتهم تجاه الأفارقة، وحتى تجاه العربي الخليجي أو المصري أو المغربي. ولكن، كيف نفسر العنصرية اللبنانية ضد السوري والفلسطيني؟ على ماذا تستند، أو من أين تنبع؟ على ماذا تستند لترى نفسك مختلفاً عمّن تشترك معه في اللغة، لا بل اللهجة أحياناً، والتاريخ والجغرافيا والثقافة والعرق والنسب... والتخلُّف عن ركب الحضارة؟ نزوح مليون ونصف مليون إنسان إلى بلد صغير، متعثر أصلا، سيفاقم مشكلاته ويعرّضه للأزمات والمخاطر. ولكن، هذه مسؤولية الدولة، ومن واجباتها ومهماتها إيجاد الحلول والتسويات مع الخارج، عبر المؤسسات والقوانين الدولية، ومع الداخل عبر مؤسسات المجتمع المدني، لتنظيم ما يمكن تنظيمه وتحسين ما يمكن تحسينه. وبعدها، لا بأس بالاتكال على أصحاب الهمم من المواطنين للمساهمة بما أمكن. أمّا المواطن الغاضب والقلق على الأمن والمستقبل، وإذا ما شعر أن ضرر النزوح أقوى من قدرته على الاحتمال، فما عليه سوى الضغط على أصحاب الشأن لتخفيف الضائقة؛ وليس التنكيل بالنازح المغلوب على أمره، والذي يحلم، أصلاً، بالخروج من لبنان على أقرب قارب، يصارع أمواج الموت الأبيض المتوسط.
ثم، أليس اللبناني شريكاً لشقيقه السوري في هذا البؤس المزمن والمستشري؟ كم من العائلات والأفراد اللبنانيين سعوا، ويسعون، إلى سلوك الدرب نفسه، درب الموت الشمالي المفضي إلى الوهم الأوروبي؟ أو، كم لبنانيا زوَّر أوراقه الرسمية، وادعى أنه سوري، ليحصل على حق اللجوء في ألمانيا أو سويسرا أو إيطاليا؟ وكم لبنانيا نجح بالادِّعاء، لأنه يتكلم اللهجة السورية نفسها، ويحمل السحنة نفسها، ويتكبل بالأنواع نفسها من اليأس والإحباط، ومن العقد التي راكمها في نفسه شبيحة الأنظمة والمليشيات وحماة الطوائف.
من الطبيعي أن يتخفّى بين النازحين السوريين شذاذ ومجرمون وإرهابيون ومعتوهون. ولكن، من قال إن نسبة هؤلاء أعلى من نسبة نظرائهم في منازل اللبنانيين؟ لنعد إلى أرشيف التفجيرات والعمليات الإرهابية، ونرى كيف أن الأسماء السورية كانت أقلية، مقارنة باللبنانيين، خصوصاً إذا ما فصلنا الذين خرجوا من بين النازحين عن الذين جاؤوا مجهزين من خلف الحدود. ثم، خارج هذه المعادلة، وفي كل الأحوال، يبقى الأمن مسؤولية الأجهزة الأمنية، حصراً، ولا يجوز أن تحمّل المسؤولية للنازح المغلوب على أمره، ولا لزوجته التي، غالباً، ما تكون مشغولة بأطفالها، فمعظم اللاجئين السوريين هربوا من الأرياف، وهؤلاء أطفالهم كثيرون، على غير أفراد الطبقة الميسورة التي انخرطت في النسيج المدني اللبناني، ولا تطاولها التصرفات العنصرية، لأنها، أصلاً، غير محسوبة على النازحين.
بشأن سوق العمل، ومعزوفة مزاحمة اللبناني و"خطف اللقمة من فمه"، توضح الأرقام أن معظم اليد العاملة السورية، الموجودة حالياً، كان موجوداً في العقود الأربع الماضية. مع فارق أنها، أيام وصاية النظام السوري على لبنان، كانت تحظى باحترامٍ وتقديرٍ أكبر؛ وكانت مرتباتها ومداخيلها أعلى. ومن دون قيود من الأمن العام ووزارتي العمل والشؤون الاجتماعية. ولم تكن قد اختُرِعت بعد شخصية "الكفيل" الذي يشارك، في أحيان كثيرة، العامل المياوم عرقه، ويتحكّم به بعنصرية مقرفة! والأهم أنه، في ما مضى، كان السوري يرسل مدخوله الى عائلته في سورية، أما الآن فهو يصرفه في لبنان. أي أنه يشارك، إيجابياً، في الدورة الاقتصادية التي تحسنت، بشكل ملحوظ، بعد دخول مليون ونصف مستهلك إلى السوق اللبناني.
النزوح السوري مشكلة، لكن النازح هو الأكثر معاناةً، هو الضحية وليس المجرم. هو النتيجة وليس السبب. فيا أيها اللبناني الغاضب؛ وجِّه غضبك باتجاه مسببي المشكلة أو، على الأقل، باتجاه من يستطيعون شيئاً لحلها، فالنازح لا حول ولا قوة، وإذا كنت ترى وضعك أفضل، فساعده بالضغط على أصحاب القرار لحل مشكلته، أو اتكل على الله... واصمت. فقد تصحو في صبحٍ قريب، وترى نفسك تشاركه النزوح داخل لبنان أو خارجه. لا فرق. وستكون في انتظارك جحافل من عنصريين سيشعرون بالتفوق عليك، لمجرد أن ظروفاً قاهرة أخرجتك من بيتك.