كل يفسر الأمر من زاويته، عندما وعد رئيس الحكومة التركية اللاجئين السوريين بمنحهم جنسية بلاده. خصومه من الأتراك عارضوه، واعتبروها محاولة لتعزيز وضعه في الانتخابات المقبلة بإضافة السوريين للتصويت له، وشنوا حملة واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي ضد «تتريك الأجانب». والبعض من السوريين خائف لأنه اعتبرها إيحاءً من إردوغان بتخليه عن قضيتهم، وأنه ينوي التصالح مع النظام في دمشق. وهناك من اعتبرها مجرد دعاية سياسية أخرى لن يلتزم بتنفيذها.
وقبل أن تبدأ الإجراءات ويحصل أول سوري على الجنسية التركية، من الصعب الحكم عليها، وفي ظل الظروف الحالية فإن الفكرة نفسها، كما تناولتها الصحف التركية، مثيرة جدًا وتستحق النقاش. الذي فهمناه من المعلومات الأولية، أن مشروع الجنسية مقصور فقط على الميسورين ماديا، ويقدر عددهم بنحو ثلاثمائة ألف. وهو عدد يستوجب التشكيك فيه، حيث لا أتصور أن هناك ميسورين سوريين بمثل هذا الرقم، بين المليونين والسبعمائة ألف لاجئ في تركيا أو في عموم سكان سوريا، إلا إذا كان الرقم يشمل عائلاتهم، بما يعني أن المستهدفين بالتجنيس نحو ثلاثين ألف ثري سوري.
والحقيقة إن كانت مشروعا حقيقيا وليست مجرد دعاية، فإنها خطوة ذكية، وعملية، تصب في صالح الاقتصاد التركي، وإن كانت قد تسبب إشكالات سياسية، وخطوة جيدة تخفف الضغط والمعاناة على بعض الفئات من اللاجئين. ولا أتصور أن مثل هذا الرقم يغير في التوازنات الانتخابية التركية، فلن يبلغ مائة ألف «سوري تركي» مؤهل للتصويت، وذلك من دون احتساب صغار السن الذين لا يحق لهم التصويت قانونيا.
أيضًا أستبعد زمنًا أن يفيد إردوغان سياسيا، لأنه لن يتم إنجازه في وقت قريب داخل المؤسسات التركية الرسمية، بسبب الإجراءات البيروقراطية الطويلة. حتى وعد الرئيس إردوغان، الذي قطعه العام الماضي، بمنح اللاجئين السوريين رخصة العمل، لم يحصل من المليوني سوري سوى خمسة آلاف فقط. وبالطبع منح الجنسية أكثر تعقيدًا، وحساسية، وقد تمر سنوات قبل تنفيذه بمثل هذا الرقم الكبير، رغم أن عدد سكان البلاد كبير نسبيا، مقارنة بالثلاثمائة ألف الموعودين من السوريين، ولا يقارن بالمليون مهاجر الذين استقبلتهم ألمانيا، ووعدتهم بمنحهم الإقامة، التي تفضي عادة في الأخير إلى منحهم جنسية البلاد. ولو حقق إردوغان وعده فإنه سيكون عملا مهما، حتى لو انتقده البعض على أنه تمييز ضد الفقراء من اللاجئين أو مشروع لتغيير خارطة الانتخابات المحلية.
فاللاجئون للدول المجاورة مثل القدر، خارج سيطرتها وحساباتها. وهناك حكومات سعت للاستفادة من أزمة اللاجئين والمهاجرين إليها، فاعتبرت اللاجئين مشكلة لا بد من استيعابها، بدلا من حصارهم في المخيمات. والولايات المتحدة من أكثر الدول التي استفادت من المهاجرين، وكانت في بعض الحالات تخفف من قيودها، فتمنح رخص العمل، التي تكسبهم الجنسية الأميركية لاحقا، وذلك لفئات تعتقد أنهم سيفيدون اقتصادها، مثل الهنود الذين فتحت لهم أبواب الهجرة وتكاثر عددهم بشكل كبير منذ التسعينات. اليوم هم فئة مهمة في قطاعات مختلفة، يتميزون بالجد والكد والحرص على التعلم والتفوق المهني كذلك. وسبق لبريطانيا، في العقد الماضي، أن ضغطت على الحكومة العراقية لإعادة لاجئيها إلى بلادهم، إلا أنها طلبت استثناء الأطباء منهم، على اعتبار أن عندها نقص كبير في العاملين في المجال الصحي، وتوجد حاجة كبيرة لمنتسبي هذه المهنة.
محاولة تبني مئات الآلاف من اللاجئين قد يهون، لكنه لن يوقف المأساة المروعة التي يعيشها الشعب السوري، فمهما منح الأتراك والأوروبيون الجنسية والوظائف، فإن رقم اللاجئين أكبر من أن يستوعب عالميًا. نحن أمام بلد نصف شعبه أخرج قسرًا من بيوتهم، يوجد اليوم أكثر من عشرة ملايين ما بين مشرد في داخل سوريا، ولاجئ في الخارج. والسوريون ليسوا مثل الشعب الفلسطيني الذي معاناته أصعب وأعقد، حيث تم تهجيرهم بعد الاستيلاء على بيوتهم وأرضهم، قطعت عروقهم من تراب بلدهم الذي قد لا يعودون إليه. فما يحدث في سوريا نزاع على الحكم، وسينتهي في يوم ما، ومهما كانت نهايته، وبأي كيفية صارت عليها سوريا، سواء بقيت دولة واحدة أو مقسمة، فإن أهلها قادرون على العودة إليها مهما طال الزمن، كما هو حال العراقيين والأفغان والصوماليين واليمنيين وغيرهم من الشعوب التي ابتليت بالفوضى والحروب. سيعود من يعود، ويعيش في الخارج من لا يريد العودة أو لا يستطيع.
لا يزال قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منح لاجئين سوريين الجنسية التركية يثير سجالاً واسعاً بين السوريين والأتراك على السواء. والسجال المحتدم في وسائل الإعلام الافتراضي كما في الإعلام الواقعي مرده خصوصاً إلى التحول المفاجئ في الموقف حيال لاجئين منعوا طوال خمس سنوات من الحصول على صفة لاجئين، ليتحولوا في غضون أيام من ضيوف الى مرشحين محتملين للحصول على الحقوق الكاملة للمواطنة.
وتزيد التكهنات في شأن دوافع أردوغان من سوابق له في التعامل مع ملف اللاحئين وهو كان هدد قبل أِشهر بإغراق أوروبا بهم إذا لم يلبّ الإتحاد الأوروبي شروط أنقرة، وخصوصاً إلغاء تأشيرة الدخول للاتراك. وليس توقيت القرار أكثر وضوحاً في خضم تحولات كبيرة تشهدها الديبلوماسية التركية.
لم يقتنع كثيرون بالدوافع الإنسانية لأردوغان الذي سبق له أن حاول عقد صفقة العمر لتركيا على حساب معاناة النازحين، ووافق مع الأوروبيين على اتفاق لترحيل مهاجرين من أوروبا وصفته منظمات إنسانية بأنه غير إنساني. وفي انتظار استكمال اتفاق إلغاء التأشيرة للأتراك المسافرين ألى أوروبا، يبدو أن أردوغان يخطط لمكاسب داخلية هذه المرة. ففي ما يعكس قطباً مخفية في القرار، أفادت وزارة الداخلية أنها لا تزال تعمل على بلورة تفاصيل منح الجنسية التركية للسوريين المقيمين في تركيا "من ذوي الكفايات"، وانتقاء الذين لم يتورطوا في الإرهاب، بينما نسبت صحيفة "حريت" الى مسؤول تركي رفيع المستوى أن العمل في هذا المجال بدأ قبل أكثر من سنة، وقبل وقت طويل من تصريح أردوغان. وذهب هذا المسؤول إلى القول إن إعلان هذه الخطوة في هذا الوقت هو قرار سياسي.
وردود الفعل الساسية في تركيا تعكس شعوراً مماثلاً حيال القرار، فأحزاب المعارضة رأت أن هذه الخطوة تهدف الى تحقيق ميزة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وشككت في طابعها الانساني. وذهب حزب الشعب الجمهوري إلى حد القول صراحة إن أردوغان ليس مهتماً بمستقبل هؤلاء الناس، وإنما بالمكاسب السياسية التي سيجنيها من تجنيس 300 ألف سوري في الانتخابات العامة المقررة سنة 2019.
ولكن هل حقاً يريد اللاجئون السوريون الجنسية التركية؟
في حالات كثيرة، لا تعد هذه الجنسية مكسباً لهؤلاء، ولا يوفر جواز السفر التركي تسهيلات لحامله. وفي بعض المناطق التركية، يحتمل أن يشكل عبئاً.
كان الأجدر بأردوغان، بدل منح السوريين الجنسية التركية، أن يساعدهم على الحفاظ على سمعة جنسيتهم، وبذل جهود جدية لمنع إرهابيي العالم من التسلل الى سوريا وخطف ثورة أبنائها وتهديد سلام العالم بأسره.
تشكل الأرض السورية اليوم مساحة صراع يتخذ أشكالا وأبعادا مختلفة، بدأ من ثورة على نظام الاستبداد قام بها الشعب السوري، لكنه اتخذ وجوها مختلفة من الصراع الإقليمي والدولي، فرضت إيقاعها بقوة، على جوهر المواجهة المتمثلة بانتفاضة الشعب السوري على نظام بشار الأسد.
نجح نظام الرئيس بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، في فرض معادلة جديدة، اتسمت بفرض أجندة “الحرب على الإرهاب”. وما كان لهذه الأجندة أن تفرض شروطها إقليميا ودوليا إلى حدّ بعيد، لولا أن الولايات المتحدة الأميركية بدت غير مهتمة بانتقال النظام السوري من نظام توليتاري إلى مرحلة جديدة تفتح سوريا على أفق ديمقراطي. كما أن إسرائيل تدرك أن أي تحول في حكم سوريا، من دكتاتورية الأسد إلى أي نظام آخر، لن يـكون مضمونا لجهة التزامه بمقتضيات الهدنة والاستقرار التي كان لنظام الأسد دور مميز في حمايتها على حدود الجولان المحتل مـنذ العام 1974.
ليس هذا جديدا في قراءة الأزمة السورية خلال السنتين الأخيرتين، ولا يمكن تغييبه حين الحديث عن مأساة الثورة السورية التي وقعت ضحية شراسة المعادلات الإقليمية والدولية من جهة، وسطوة الاستبداد الذي يهيمن على أنظمة الحكم في العالم العربي من جهة ثانية.
من هذه الثنائية غرفت الحركات الإرهابية واستفادت، وتستفيد، من نقمة شعوب المنطقة على أنظمتها، ومن عجز هذه الشعوب عن تغييرها.
أما إذا تحققت لهذه المنظمات الإرهابية السيطرة والتحكم وتشكيل كيانات أو دول تحت مسمى “الخلافة”، فالأرجح أن مثل هذه الكيانات لن تكون أفضل حالا من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة التي تحكم معظم العالم العربي والإسلامي.
التدمير الذي يطال سوريا اليوم، أسوة بالعراق واليمن وليبيا، هو تدمير تجاوز الحجر إلى تدمير المجتمعات، فقد بات الحديث عن تقسيم سوريا، على سبيل المثال، مشروعا قابلا للتحقق ليس فقط برغبة الدول المؤثرة، بل حتى المكونات السورية لكثرة ما استنزفها الصراع المذهبي أو الإثني، باتت مستعدة للخوض في غمار تقسيم ما، ترتجي من خلاله استقرارا ولو كان وهميا.
الصراع الإقليمي والدولي الذي تشهده الأرض السورية ليس صراعا على سوريا، ولا على من يكون حاكما لهذا البلد أو لأجزائه. بل أظهرت مجريات الصراع أن الميدان السوري يرسم معادلة إقليمية دولية تتحكم بالمنطقة العربية إلى عقود آتية لا إلى سنوات.
وأبرز ما يمكن ملاحظته في هذا الصراع هو ما سيظهر، بقوة، خلال المرحلة المقبلة عبر الدور الإسرائيلي الذي يفرض نفسه لاعبا أساسيا في المنطقة، ومركز جذب لأطراف الصراع الإقليمي والدولي في سوريا.
لذا ليس عاديا أن تلتفت تركيا مجددا إلى أهمية الدور الإسرائيلي، إذ حين ظنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن من شروط الزعامة في المنطقة العربية والإسلامية الابتعاد عن إسرائيل، اكتشف لاحقا أن هذا الشرط لم يعد أساسيا بل لم يعد له أي تأثير في بناء الزعامة العربية والإسلامية. من هنا أعاد أردوغان المياه إلى مجاريها مع إسرائيل، محاولا استباق ما قطعته قوى الممانعة من خطوات باتجاه إسرائيل.
المنافسة على استرضاء إسرائيل هي ديدن دول المنطقة اليوم، وهي الوسيلة الأفضل للحدّ من الخسائر ولحفظ ما تبقى من موارد وإمكانيات لهذه الدول.
ولم يعد خافيا أن إيران، التي طالما استطاعت أن تستخدم فكرة العداء لإسرائيل، من أجل اختراق الدول العربية، ومحاولاتها الحثيثة لعسكرة المجتمعات على حساب مشروع الدولة، باتت اليوم إزاء حالة العداء التي تواجهها في العالم العربي وفي محيطها الإسلامي، معنية بتثبيت لغة التهدئة مع إسرائيل، بل هي تندفع إلى محاولة إغراء إسرائيل بتأمين المزيد من شروط الاستقرار على حدودها اللبنانية والسورية، في مقابل مثابرة إسرائيل على منع سقوط نظام بشار الأسد.
المعادلة التي اختارتها إيران في المنطقة العربية تفضي، بالمعنى الإستراتيجي، إلى تقاطع موضوعي مع إسرائيل. ذلك أن الصراع الذي اتسم بتعزيز الأيديولوجيا المذهبية، وحماية الأقليات، وتقديم هذه العناوين الفرعية على أولوية بناء الدول وتعزيز الوحدة الوطنية، وحماية ما تبقى من عناوين وحدوية إسلامية، كفيل بأن يجعل إسرائيل طرفا مقررا في معادلة الصراع الإقليمي وفي سوريا تحديدا.
الخطوة الروسية لبناء علاقة تحالفية مع إسرائيل على صعيد المنطقة العربية، والتنسيق مع إسرائيل في سوريا بما يحفظ شروط الأمن الإسرائيلي، هي خير دليل على مدى أهمية الدور الإسرائيلي في صَوْغ المعادلة الإقليمية والسورية.
وقد شكلت روسيا الطرف الضامن لدول الممانعة، وعلى رأسها إيران، في تأمين شروط علاقة مستقرة وهادئة مع إسرائيل. ربما اكتشفت تركيا أن تراجع علاقتها مع إسرائيل هو ما جعلها عرضة للاستهتار الأميركي بمصالحها الإقليمية، وهدفا روسيا سعى الكرملين إلى تطويعه والحدّ من طموحاته.
لذا أعاد رجب طيب أردوغان الحياة إلى العلاقة مع إسرائيل، تلك العلاقة التي كانت شرطا أساسيا لإعادة التوازن لعلاقته مع روسيا.
الباب الإسرائيلي هو الباب الوحيد الذي بات الدخول منه شرطا لحماية نظام مصالح الدول الإقليمية في المنطقة من روسيا إلى إيران وصولا إلى تركيا.
أما نظام المصالح العربي فهو شبه غائب عن المعادلة، بل هو الهدف الذي تتقاطع الدول الإقليمية على إضعافه، تمهيدا لوراثة ما تبقى من نفوذه ودوره.
سوريا ميدان مفتوح على تسجيل الخسائر والأرباح. الجميع يحاربون ويتحاربون، و»المايسترو« باراك اوباما، يدير «اللعب الدموي»، بلا رحمة. الآن والرئيس اوباما قد دخل مرحلة العد التنازلي لمغادرة البيت الأبيض، فانه لم يعد يمكنه اتخاذ قرار يعرقل خليفته سواء كانت هيلاري كلينتون او دونالد ترامب، في قضية مثل سوريا تعني منطقة مثل منطقة الشرق الاوسط التي مهما اهملت فإنها تعود الى الواجهة حتى لو كان الخيار الآخر في منطقة المحيط الهادئ. بدلا من ذلك فان اوباما يتحرك لترك رصيد يمكن للخليفة المنتخب العمل والبناء عليه. ويبدو واضحا ان اوباما اختار «اللاعب» الاول في إدارة اللعب «القيصر» الروسي فلاديمير بوتين، الذي اثبت منذ «ولادته» السياسية انه «يضرب ويسحق» ثم يبني على «الأشلاء» سواء كانت سياسية او حتى بشرية.
أمام هذا الواقع، الآخرون يخسرون خلال «اللعب» حتى انتهاء رسم المسارات وتحديد «المحطة« الاخيرة. من الواضح حتى الان ان «لاعبا» اقليمياً قد خسر كثيراً، وحتى لا يخسر كل شيء انقلب على نفسه حتى تبقى بلاده واقفة على رجليها. الرئيس التركي رجب طيب اردوغان انقلب على «الاردوغانية»
التي أراد ان يكون نتيجتها «السلطان» وان تعود تركيا باسم «العثمانية الجديدة« صانعة للسياسة الإقليمية التي تؤهلها للدخول الى «نادي« القوى الكبرى. لا شك ان اردوغان اثبت بأنه زعيم وطني يضع مصلحة بلاده فوق شخصه.
في قلب التحول «الاردوغاني» الذي يكاد يصل الى درجة «الانقلاب« على ذاته، الأكراد وطموحهم ونشاطهم العسكري والسياسي الذي اصبح في قلب صناعة تاريخ منطقة الشرق الاوسط وجغرافيتها، بعد مئة سنة على تجاهلهم في اتفاقية سايكس - بيكو. ادرك اردوغان ان الغرب وتحديدا واشنطن الذي تحالف ودعم أكراد سوريا لتشكيل» شريط» مستقل او حتى تحت صيغة حكم ذاتي كما في العراق، يمهد لتكرار الصيغة نفسها في تركيا التي لا تتحمل ذلك لانه مثل بتر «قدميها«. لذلك كله تصالح وقدم السلطان تنازلات حقيقية سيكشف الوقت عاجلا مدى حجمها لكل من موسكو وتل ابيب. المهم الآن ملاحقة الخاسرين وتحديد حجم خسائرهم.
المعارضة السورية و»حماس» خاسران كبيران من هذا «الانقلاب«. لا يمكن منطقيا ان تكون سياسة اردوغان في سوريا بعد الاتفاق، كما كانت قبله. التنسيق مع موسكو سيكون في قلبه الموقف التركي في سوريا. الكلام المسرب عن إمكانية قبول تركي ببقاء الاسد لفترة ولو محدودة في إطار الحل السياسي لانه « يشكل ضمانة بعدم قيام دولة كردية في سوريا «مؤشر خطير لانه مفتوح على كل الاحتمالات، خصوصا في ظل المتغيرات التي ستتبلور في العام المقبل. على المعارضة السورية ان تتحرك وتدرس خياراتها بسرعة حتى لا تكون كما يقال «فرق عملة«!.
«حماس» تحركت ويبدو انها اختارت الواقعية السياسية على الايديولوجية. كل شيء يكمن في ما قاله اردوغان لخالد مشعل. «حماس« مضطرة في ظل محاصرتها سياسيا وجغرافيا للعودة الى احضان ايران. «الحرس الثوري« قدم لهذه المصالحة بنفي لتصريح لم يجف حبره بعد قيل فيه «ان حماس تفاوض الصهيونية«. التصريح الجديد الرسمي باسم «الحرس» ان «حماس في الخط الأمامي للمقاومة الفلسطينية ضد الصهيونية«. يقال ان خالد مشعل قد يدفع الثمن، لكن بالنسبة لإيران من الأفضل التعامل مع مسؤول مهزوم على التعامل مع قيادي صاعد.
هنا يبدو وكأن ايران رابحة. في الواقع لن تربح لأن واشنطن وموسكو لا ترغبان ولا تريدان « شركاء لهما«. منسوب القوة المرتفع لدى المرشد آية الله خامنئي يتم العمل لتنفيسه. الأكراد عادوا للنشاط العسكري. الفصائل الثلاثة: الحزب الديموقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي الكردستاني (كوملة) وحزب «الحياة الحرة الكردي« (بجاك)، تتنافس في النشاط. الحركة الكردية الاستقلالية نواتها في «جمهورية مهاباد« التي باعتها موسكو للشاه عام بعد ان حضنتها. طهران وصفت «الانفصاليين« بأنهم اشرار ومعادون للثورة». زيادة في الهموم الايرانية، تبرز الصدامات القديمة والمتجددة في بلوشستان الايرانية والتي تأخذ طابعاً قومياً ومذهبياً في وقت واحد. هذا ما يقلق النظام الايراني، اما مريم رجوي و«مجاهدي خلق»، فان طرحهم البديل له فانه يريحه شعبيا....
في الحالة الايرانية يوجد خاسرون. اي حل سياسي لا يمكن ان يقوم دون تقديم القوى تنازلات مؤلمة. لا يمكن لإيران ان تتحرك بعد انخراطها في سوريا مع روسيا «القيصر» دون الأخذ في الاعتبار ان الاولويات في سوريا قد تغيرت، خصوصا ان التفاهم الاسرائيلي - الروسي يكاد يصبح تحالفا بعد ان طال النفط والغاز. السؤال الكبير ماذا ستكون السياسة الايرانية بعيدا عن الخطابات الشعبوية من فلسطين، خلال السنوات الخمس والعشرين التي حددت للانتصار على اسرائيل؟ وماذا سيفعل «حزب الله« في كل هذه السنوات وهو غير قادر على تحرير القدس ولا المشاركة في صياغة سياسة الغاز والنفط في المنطقة بعد تأكيد الحماية الروسية للغاز بعد شراكتها مع اسرائيل في إنتاجه؟.
لقد امتلك «السلطان» الشجاعة السياسية للانقلاب على نفسه لضمان مصالح بلاده، فهل يملك المرشد مثل هذه الشجاعة ام يتابع سياسته واصراره على ديمومة خطوطه الحمراء فيدفع الثمن من استقرار إيران ومن قوة "حزب الله".
أربع نقاط يمكن التوقف عندها لتفسير الانعطافة المزدوجة للسياسة التركية، نحو تطبيع العلاقة مع إسرائيل وتجاوز ما وضعته من اشتراطات لقاء ذلك، ونحو إصلاح العلاقة مع روسيا والرضوخ لمطلب موسكو بتقديم اعتذار صريح عن إسقاط طائرة السوخوي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم.
أولاً، يأس أنقرة من استنهاض موقف غربي داعم لسياستها في الصراع السوري، حيث استمر رفض الأميركيين والأوروبيين توفير مظلة سياسية وعسكرية لحظر جوي أو لمناطق آمنة، ولم تتراجع ثقتهم بالأكراد السوريين ودعمهم بصفتهم شريكاً رئيساً في مواجهة تنظيم» داعش».
ويصح القول أن الحكومة التركية قد استنفذت كل محاولاتها لإقناع حلفائها بخطر نفوذ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وسيطرته على حدودها الجنوبية، وباتت مستعدة لتقديم تنازلات لروسيا وإسرائيل في رهان على تعاونهما لحماية أمنها القومي وتلافي هذا الخطر، وعبرهما للضغط على واشنطن لتليّن موقفها الداعم بشدة للدور الكردي في الصراع السوري.
ثانياً، الاطمئنان التركي لسقف التدخل الروسي في سورية بعد قرار موسكو وقف عملياتها الحربية وسحب القسم الأكبر من قواتها، وبعد وضوح دور الكرملين في دعم خطة أممية للحل السياسي، والضغط على النظام السوري للموافقة على مفاوضات جنيف وهدنة وقف الأعمال العدائية، زاد الأمر وضوحاً ميل موسكو نحو تثمير نتائج تدخلها العسكري في سورية بفتح الباب لعقد تحالفات جديدة في المنطقة تؤكد دورها كقوة كبرى مؤهلة للمشاركة في معالجة أزمات الشرق الأوسط ومشكلاته.
ثالثاً، يبدو أن أنقرة، وبعد التداعيات السياسية لثورات الربيع العربي، إن لجهة تراجع الاهتمام الشعبي بالقضية الفلسطينية وإن لجهة تنامي التطرف الإسلاموي الجهادي وهزيمة الإسلام السياسي في غير بلد، قد أدركت أن صلاحية الاستثمار في المظالم الفلسطينية واللعب بورقة غزة و «حماس» قد انتهى، وأنه لم يعد ينفعها، لكسب الرأي العام العربي والإسلامي، الظهور بمظهر الدولة التي تتحدى الغطرسة الصهيونية وتتباهى بأنها أوفى نصير للشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني.
رابعاً، ثمة حاجة اقتصادية ضاغطة على الحكومة التركية للانفتاح على روسيا وإسرائيل، تهدف لاستعادة التبادل التجاري الكبير والمميز مع البلدين، وضخ النشاط في قطاع السياحة الذي تحتل إيراداته موقعاً مهماً من الدخل القومي.
لكن ما كان للأسباب السابقة أن تفعل فعلها لدى حكومة أنقرة وتدفعها لتلك الانعطافة السياسية لولا النهج البراغماتي الأصيل لحزب العدالة والتنمية، وتاريخه المفعم بتوظيف مختلف الأوراق والوسائل من أجل الاستمرار في حيازة السلطة واحتكارها، حتى وإن كانت هذه الأوراق والوسائل عارية عن القيم والمبادئ وعن المقاصد الدينية ومتعارضة مع ما يرفعه من أهداف وشعارات، وحتى لو كان ثمنها غض النظر عما يجرى من فتك وتنكيل من جانب السلطات الاستبدادية أو الجماعات الإسلاموية، وطبعاً ليست قليلة المحطات التي عدل فيها حزب العدالة والتنمية سياساته، مبتعداً عن الثوابت التي جاهر بنصرتها، وسالكاً دون خجل أو تردد طريق الأنانية وتغليب المصلحة الخاصة، وما سرع انعطافته اليوم اضطراره لإعادة بناء صلاته الدولية وتحالفاته الإقليمية في ظل انحسار قدرته على التحكم بقواعد اللعب مع تنظيم «داعش»، الذي حين استشعر ببدء تضييق أنقرة على طرق إمداده ونشاطاته، لم يتردد في تنفيذ عمليات إرهابية طاولت غير مدينة تركية، وآخرها تفجيرات مطار أتاتورك التي بدت أشبه بإعلان حرب وقطيعة نهائية بينهما.
فيما مضى، وعلى النقيض من الإجماع الدولي، بدت حكومة العدالة والتنمية كأنها المتفهم الوحيد لصعود تنظيم «داعش» والأقدر على التعاون معه، لم يقف الأمر عند إطلاق سراح ديبلوماسييها بعد احتلاله الموصل، أو استجرار النفط منه والصمت عن جرائمه، بل وصل إلى تسهيل مرور آلاف الجهاديين للالتحاق به عبر حدودها، ثم رفض الانضواء في التحالف الدولي والتهديد بمنع طائراته استخدام قاعدة أنجرليك، لكن السحر انقلب أخيراً على الساحر، وفشل رهان أنقرة على استثمار ما يحدثه تنظيم «داعش» من تغييرات على الأرض لتحسين نفوذها الاقليمي ومحاصرة الحضور العسكري الكردي، لتجد نفسها وجهاً لوجه في حرب ضروس ضد هذا السرطان الإرهابي.
يبدو أن السباق قد انطلق للقضاء على «داعش» كمدخل لحجز موقع في خريطة التوازنات والتسويات القادمة، ويبدو أن هذا التحدي سيكون العامل الأساس في تحديد هوية السياسة التركية الجديدة، فهل تنجح انعطافة حزب العدالة والتنمية في تخفيف أزمته وتمكينه من استعادة هيبته وثقة الآخرين به؟! وهل تمهد لتعديل دوره تجاه أزمات المنطقة والصراع السوري تحديداً، وعلى الأقل، دعم هدنة لوقف إطلاق النار، تأخذ في الاعتبار المصلحة التركية بتحجيم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وتغليب الوزن العربي في قوات سورية الديموقراطية، كما المصلحة الروسية بالفرز الواضح بين فصائل المعارضة المعتدلة والجماعات الجهادية المتطرفة؟!
صحيح أن أحزاب الإسلام السياسي، تحدوها شدة الولاء الأيديولوجي للتجربة التركية وقادتها، لم تتأخر في وضع الأعذار والمبررات لتلك الانعطافة السياسية وتحميل مسؤوليتها لتآمر جهات خارجية أو لتعقيدات الصراعات الدموية في المنطقة، وصحيح أن ثمة نقطة مضيئة لحكومة أنقرة في استيعاب ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أراضيها، وتوفير شروط حياة لائقة لهم مقارنة بالبلدان الأخرى، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الانعطافة بدت عند الغالبية أشبه بالصدمة والانقلاب، ربما لأن إعلانها كان سريعاً ومفاجئاً من دون مؤشرات أو مقدمات، وربما لأنها جاءت على نقيض صارخ مما تجاهر حكومة أنقرة به، أو مما كان ينتظر منها.
أخيراً، وبعيداً عن عبارات التبرير والانزعاج والاستغراب والتخوين، ربما يصح الاستنتاج بأن الخاسر من الانعطافة التركية هو نهج الحروب وتسعير الصراعات وإلغاء الآخر، والرابح تقدم الحقل السياسي وروح المشاركة في معالجة أوضاع مأسوية باتت أحوج ما تكون إلى مثل تلك الانعطافات للتحول عن مستنقع الدماء وجحيم العنف.
يبدو العالم وكأنه سيتعرض من الآن لما يمكن تسميتها "لعنة سورية"، عقابا له على سكوته المشين حيال إبادة شعبها بيد نظامه الذي استعان لتحقيقها بجيوش احتلال روسية وإيرانية وأحط أصناف المرتزقة الذين شاركوه في قتل مواطنين طالبوا بحريتهم. لم يكن هدفهم يوماً الانخراط في صراعاتٍ خارجيةٍ، لكن العالم " المتمدّن" في الغرب و" المتوحش" في الشرق خذلهم، وتفرّج مستمتعاً على أمواتهم بيد نظامهم والقتلة متعدّدي الجنسيات والمذاهب والأعراق والأهداف، ممن فبركت الأسدية بعضهم، وفبرك الخارج بعضهم الآخر، أو تعاون معه على فبركتهم وتزويدهم بالأسلحة الضرورية للقضاء على شعبٍ يعني نجاحه في إسقاط الأسدية انقلاباً تاريخياً سيطاول المنطقة بأسرها. وللأمانة، حقق القتلة مهمتهم باحترافيةٍ، رعتها جهاتٌ خبيرة، يسمونها "العالم المتمدن" و"رعاة حقوق الإنسان" و"حكومات شرعية".
واليوم، وقد قطعت الإبادة شوطاً كبيراً، ووصل الناجون منها إلى أكثر أمكنة العالم بعداً عن وطنهم، صار من المرجح أن تحل "لعنة سورية" به، وتتظاهر، من الآن فصاعداً، في أمواج فوضى عاتية، لن يمر زمن طويل قبل أن تجتاحه بكامله، بعد أن غمرت "الشرعية الدولية"، وقوّضت شرعيتها وزلزلت قدراتها، وأطاحت عديداً من مؤسساتها، وأحدثت صدوعاً خطيرةً في البلدان "المتحضرة" ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وأخلاقية، كشفت بؤس قياداتها وأحزابها، ومهّدت الطريق إلى يمينٍ جديدٍ معادٍ لها، أخذ صعوده العاصف يقوّض أمنها، ويدخل الرعب إلى قلوب مواطنيها، وكذلك الخشية من أن يغدو مصيرهم متصلاً بمصير ملايين السوريين الذين يغرقون في البحر، أو يموتون تحت أنقاض بيوتهم، أو يتبدّدون في انفجارات القنابل والصواريخ، أو يهلكون جوعاً وعطشاً عند حدود الدول، الصديقة والعدوة، أو تحزّ السكاكين أعناقهم ويدمّرهم نفسياً وروحياً، ويفشلون في الحصول على خبرٍ عن أخ أو أبٍ أو زوجٍ أو ابن اختفى منذ سنين، ولم يعد لديهم من أمل غير أن يكون قد فارق الحياة، أو ... أو... أو ... . هل نعجب بعد هذا من امتلاء قلوبٍ سوريةٍ كثيرة بحقدٍ أعمى على عالمٍ سمح بقتلهم عن سابق عمد وتصميم، لم يرف له جفن وهو يتأمل سعيداً القضاء عليهم، فلماذا تأخذهم شفقةٌ به، ولا يتحوّلون إلى "ذئاب منفردة وجماعية" تفتك بما تعيش بين ظهرانيه من أغنام، ولم لا تجرّد حكوماتها من أية قدرةٍ على مواجهتها، ومجتمعاتها من أمنها، وتخوض ضدّهما حرباً، لطالما توهما أنهما في منجاةٍ من ويلاتها، وها هي طلائعها تطيح ثقتهما بنفسيهما، وتدخلهما في ذعر من الآخر الذي يمكن أن يكون حزاماً ناسفاً أو قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت ومكان.
ليس ما ظهر إلى اليوم من "لعنة سورية" سوى بداية، ستمدّها التطورات بمواد متفجرة، ستحولها إلى حال تصعب السيطرة عليها، وحروب ستسعرها عيوب ونواقص ومشكلات نظامٍ دوليٍّ، فيما ملايين السوريين يقتلون ويذبحون كالنعاج، متجاهلا أن انهيار حواضنه القانونية والأخلاقية لن يتوقف عند حدوده، وأنه سيخترق بلدانه ويهشّمها من الداخل. ومن يراقب صعود اليمين الجديد في بلدان أوروبا يدرك أنها صارت هي أيضا في قبضة أخطارٍ تفقد أكثر فأكثر السيطرة عليها.
خال لعالم أن إبادة شعب سورية سيُنجيه من القتل والموت. وها قد بدأ يدفع ثمن تقاعسه عن وقف ما كان في استطاعته وقفه: ذبح شعبها الأعزل، المقتول بيد قتلةٍ وطغاة محليين وإقليميين ودوليين. ومع أنه لا يوجد سوري حر يريد ابتلاء أي فردٍ أو شعبٍ بما ابتلي هو وشعبه به، فإن "لعنة سورية" ستلاحق كل من شارك النظام الأسدي في قتل وتهجير وتشريد وتجويع وتعذيب وإخفاء ملايين عزّلاً صدّقوا ما كان يُقال عن حقهم في الحياة الحرّة، وها هي بقاياهم تهيم على وجوهها في الأرض، حاملة معها إلى من تخلوا عنها "لعنة" أخلاقيةً، لن ينجو منها أحد منهم، وسيدفع ثمنها الأبرياء من مواطنيهم.
ملاحظة: قصدت في مقالتي في "العربي الجديد" (3/7/2016) عن لقالق المعارضة حالاً قائمة، ولم أقصد أي شخصٍ بعينه.
نشر الكاتب السوري، ميشيل كيلو، عدّة مقالات في "العربي الجديد"، تناول فيها الشأن الكردي العام في سورية، لا علاقة لها بأرض الواقع من مجمل القضايا المعقّدة، بأقل تقدير بما يجري في المنطقة من تحولات وانقسامات بين أبناء الوطن الواحد، فقد بات الوطن السوري منقسماً على نفسه قبل المواطن.
أكّدت الكاتبة سميرة المسالمة في مقال لها في "العربي الجديد" (27/ 6/ 2016) على ما طرحه ميشيل كيلو بشأن القضية الكرديّة في سورية، مقارنة بباقي الأقليات السّورية، الآشوريين والتركمان والشركس، وغيرهم من التّجمعات السّوريّة الصّغيرة. وكان أولى على المسالمة البحث عن المكوّن الكردي في المراجع والكتب التاريخية التي دوّن فيها المستشرقون والرحالة ما كتبوه فيها عن المنطقة السورية بشكل عام، والكردية بشكل خاص، ودور الكرد في بناء الدّولة السورية أيام الاحتلال الفرنسي وفي الحقبة العثمانية، بدلاً من الاستعانة بمقالات ميشيل كيلو وتصريحاته، وهو الذي لا يعترف بالوجود الكردي أصلاً، لا في سورية ولا حتّى في المنطقة، وهذا ما يزيد الفجوة بين أبناء الوطن الواحد من تشرذم وتنافر، ويهدّد أمن سورية واستقرارها على المدى المنظور.
ولا بدّ من تصحيح الصّورة النّمطيّة الخاطئة لدى الأغلبية الغالبة من أبناء الوطن السوري الواحد، والتي جاءت نتيجة طبيعية من التراكمات التي كرّستها الحكومات المتعاقبة في سورية، لا سيّما خلال حكم البعث. وإذا كانت نية كيلو والمسالمة صهر القوميّة الكرديّة في بوتقة القوميّة العربيّة فهذا شيء آخر، وإن كان غير ذلك فيجب أن نضع النّقاط على الحروف، ونطرح سؤالين على الكاتبين العزيزين: لماذا لا يتطرقان إلى مسألتي الحزام العربي والإحصاء؟ إنهما جوهرا القضيّة الكرديّة في سورية، أما مسألة الانتماء إلى الأمة الكردية فغير قابلة للنقاش. وبشأن عدم وجود منطقة كرديّة في سورية، فلا نتطرّق، هنا، إلى اتفاقية سايكس بيكو وتقسيم بلاد الكرد بين دول "سورية، العراق، إيران، تركيا"، لكيلا ندخل في مواضيع نحن في غنى عنها، على الأقل في هذه المرحلة. وعلى سبيل المثال، من بين عدة مناطق أثرية في المنطقة الكرديّة قرية شيران الأثرية في مدينة كوباني شمالي البلاد الذي تعمّد النّظام السّوري عدم التّنقيب عن آثارها، خوفاً من إظهار تاريخ المنطقة الكرديّة الّتي يعود تاريخها إلى مئات السّنين، وغيرها من المناطق الأخرى في عامودا وعفرين. وذلك كله للإنكار المطلق لدور الكرد في بناء الدّولة السورية، وتبيض مرحلة النّضال ضدّ الاستعمار، لصالح طوائف ومبادئ سوريالية غامضة.
ومثالاً، لا تُذكر الثّورات التي قام بها الكرد في تاريخ سورية، لا تلميحاً ولا تصريحاً، ومنها انتفاضة بياندور في بلدة تربه سبيه المعرّبة إلى القحطانيّة في شمال شرق البلاد. وانتفاضة عامودا التي تمّ على إثرها قصف المدينة بطيران السّلاح الجّوّي الفرنسي سبّعة أيام. وما حصل في مدينة كوباني (عين العرب) شمال البلاد، حيث أحرق الفرنسيون منازل الأهالي الذين تمردوا ضدهم، كذلك دور الشخصيات الكرديّة المؤثّرة في الحالة السّوريّة، أمثال يوسف العظمة ومحمد علي العابد وابراهيم هنانو وغيرهم كثيرون قدّموا الكثير من أجل بناء الدّولة السّوريّة الحديثة. هنا، كان ردّ المعروف من حكومة البعث لتلك الشخصيات بحق أبناء الجلدة، وعدم قبولهم في إدارة البلاد عسكرياًّ وسياسيّاً، حتى أخذت الأمور أبعاداً أكثر من ذلك بإصدار مراسيم وفرمانات، وحرمانهم من أبسط مقوّمات الحياة اليوميّة، حيث باتت اللّغة الكرديّة محظورةً في الأماكن العامة، وأصبحت لغة منزلية لا أكثر. ومع ذلك حافظ الكرد على لغتهم الأم، وكذلك زجّ شباب الكرد في السّجون سنواتٍ طويلةً، لمجرّد حملهم، في جيوبهم، روزنامة تحمل كتابة باللّغة الكرديّة، وذلك فيما لم يتوقّف الشّباب الكرد عن مزاولة العمل السّياسي المحظور.
أخيراً، لا يمكن "حجب الشّمس بالغربال" كما يفعل كاتبانا، ميشيل كيلو وسميرة المسالمة، في وأد كل ما هو جميل بين المكوّنات السّوريّة، في ظل جغرافيا منهكة بعوامل المدّ والجزر من كل أصقاع العالم، بعد أن أصبح المواطن السّوري حقل تجارب بأحدث الأسلحة الفتّاكة.
من يقرّر الحرب في لبنان؟ إسرائيل؟ أميركا؟ إيران؟ حزب الله؟ داعش؟ بشّار الأسد؟ ليلى عبد اللطيف؟ كلّ الأطراف جاهزة للقتال والقتل والموت. السلاح متوافر وبأسعار تناسب كلّ الموازنات. ولكن، من بيده إطلاق الرصاصة الأولى؟ من بيده قرار الحياة والموت؟ الشاشات الصغيرة تعجّ بالتوقّعات الدموية والسيناريوات المرعبة: حرب إسرائيلية تنتظر لبنان نهاية الصيف، أين منها حرب تموز ٢٠١٦، هدفها القضاء نهائياً على حزب الله، يقول سياسي محلّل. لا بل هي فصل من فصول الحرب الإقليمية الدائرة، يتّخذ من لبنان ساحةً أخيرة قبل إعلان النتائج النهائية، يضيف آخر. إنها حرب إرهابية داعشية تضرب مناطق عدّة، بعدما تغلغلت عناصرها عبر الحدود الشرقية وبساتين الليمون في الشمال، لتنفيذ لائحة أهداف مدنيّة وعسكرية، يقول ثالث. إنها حرب لإسقاط قرار التوطين ميدانياً، بعدما أقرّته المحافل الدولية من دون إذن ولا دستور، يضيف رابع.
ما يخيفني أكثر في الحديث عن الحرب ليس هذه السيناريوات في محاولاتها المستميتة لبثّ الرعب في النفــــوس، بل تلك الجاهزية اللبنانية الأبدية لخوض حرب جديدة. رغبة تجتاح المحاربين القدامى، كما الجيل الجديد من اللبنانيين الذين لم يـتجاوزوا بعد الثلاثين من العمر، والــذين لم يعرفوا شيئاً عن أهوال الحرب اللبـــنانية، ولم يتلمّسوا وجهها الحقـــيقي البشع والمخيف. الحـــرب، لهم، قصص مشوّقة عن بطولات يرويها الوالد والجدّ في جلساتهم الـــتَذكُّرية «مع رشّة بهار وملح» مطيّبة لأخبار الموت المسموم، والهزائم المرّة، والانتصارات المزعومة.
«نحن لها. فلتكن حرباً! خلينا نخلص بقى»، يبادركَ اللبناني بحماسة واضحة. كأن عشرين عاماً من الحرب الأهلية، لم تروِ عطشه إلى الدم، والدمار، والهجرة، والتهجير. عشرون سنة لم «تخلّص» على شيء إلا على حياة أبنائنا ومستقبلهم: من استشهد منهم، ومن فقد رِجلاً أو يداً أو عيناً، ومن تشتّت في جهات الأرض الأربع، وما عاد. فالحرب ليست ناراً وباروداً وشهداء وشوارع مهدّمة، فحسب. إنها أيضاً لعنة للأحياء الناجين يتوارثون دفع ثمنها جيل بعد جيل. لقد توارث اللبنانيون الكآبة والخوف والقلق لأجيال، وما زالوا. وفي دراسة ميدانية قام بها أطباء نفسيون فرنسيون بعد انتهاء الحرب اللبنانية، أن أكثر من نصف اللبنانيين يعانون كآبة مقنّعة متقدّمة، ولا يتلقّون أيّ علاج. كآبة قد تفسّر جموح اللبناني إلى العنف والحرب في محاولة لتعميم الكآبة على القلّة القليلة الصَحيحة المتفائلة حوله.
إلى الحرب، دُر. يُصرّ المحلّلون والمنجّمون. أما الواقع، فيقول إن تحييد لبنان عن نيران سورية حتى الساعة، لم يكن قراراً لبنانياً، ولا نتيجة لحكمة سياسيينا الذين انغمسوا بالحرب السورية حتى الأذنين. بل هو نتيجة تفاهمات دولية أرادت للبنان أن يبقى ملاذاً آمناً للاجئين السوريين الهاربين. فهل تغيّرت هذه المعطيات اليوم؟ وهل نضج مخطّط إعادة تقسيم المنطقة، وإصدار النسخة الجديدة من اتفاقية سايكس- بيكو؟
لا يمكن اعتبار الصراع في سوريا بين طرفي النظام والمعارضة والذي بات يطغى ويهيمن على المشهد المعقد في سوريا والمنطقة، إلا بوصفه من النتائج الوخيمة للسياسات التي انتهجها نظام الأسد الأب (1970-2000) وسعى من خلالها إلى إظهار سوريا وكأنها دولة إقليمية كبرى قادرة على الفعل والتأثير خارج حدودها.
وفي الواقع فإن هذه السياسات كانت ثقيلة على السوريين وحمّلت سوريا أكثر ممّا تحتمل، أي أكثر بكثير من إمكانياتها وقدراتها، لا سيما من خلال محاولات نظام الأسد الأب الدؤوبة الاستحواذ على الورقتين اللبنانية والفلسطينية، وفي ما يتعلق بدوره في تحجيم عراق صدام حسين، وفي ادعاءاته مقاومة إسرائيل، وبانتهاجه سياسات “راديكالية”، ولو شكليا، في العالم العربي.
والمعنى أن ما نشهده من تداخلات خارجية، دولية وإقليمية، في الشأن السوري هو بمثابة نتيجة طبيعية للدور السوري في المرحلة الماضية، إذ أن سياسات الأسد الأب أرهقت سوريا وأدخلتها في خصومات فائضة عنها، ونبّهت إلى مدى تأثيرها في المشرق العربي، وإلى أهمية السيطرة على التطورات فيها، لإضعاف تأثيراتها الخارجية.
على ذلك يبدو طبيعيا أن نشهد تحول سوريا إلى ساحة لصراعات الدول، التي تحاول كل واحدة منها فرض أجندتها الخاصة، وتمرير رؤيتها لمستقبل هذا البلد، لا سيما وأن الصراع الجاري لا يكلف هذه الدول شيئا مباشرا، إذ أنها تخوضه بالوكالة أو بأشكال غير مباشرة.
هذا ما يفسّر تعقيدات خارطة الصراع الجارية، وتعدد أطرافها (وهو ما أوضحناه في مقالة سابقة)، وما يفسر أيضا، أن الحرب الجارية هي بمثابة “حرب الكل ضد الكل”، وهو تعبير للفيلسوف السياسي الإنكليزي توماس هوبز (1588-1679)، والذي تحدث فيه عن المرحلة الوحشية التي تمر بها بعض المجتمعات في مرحلة معيّنة. ولعل هذا أصدق تعبير عما يجري، إذ أن النظام يحارب المعارضة والمعارضة تحاربه، وثمة من جهة تنظيم داعش الذي يحارب النظام والمعارضة وجبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام، ومن جهة ثانية جبهة النصرة التي تحارب النظام وداعش وجيش الإسلام.. إلخ. وعلى الصعيد الدولي ثمة الولايات المتحدة في خصومة مع إيران حول الشأن السوري، وإيران وتركيا في مواجهة بعض هذه الجماعة أو تلك، كما تقف روسيا في مواجهة تركيا، وهذا مع تداخلات متباينة من هذه الدولة العربية أو تلك.
والخلاصة أن سوريا تحولت من لاعب إقليمي إلى ملعب دولي وإقليمي، أي تحولت إلى ساحة لصراعات القوى على تشكيل المشرق العربي، وعلى المكانة التي يمكن أن تحظى بها هذه الدولة أو تلك.
مع ذلك فإن هذه اللوحة المعقدة هي مجرد غطاء لحقيقة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا هما اللاعبان الرئيسيان في هذا الملعب، وأن الأطراف الأخرى، وضمنها تركيا وإيران وقطر وغيرها، لها أدوار محددة ومسيطر عليها، على الأغلب. لكن هذا لا يحجب حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية هي اللاعب الرئيسي، فهي بمثابة موزّع للتناقضات في سوريا (وفي المنطقة والعالم)، وتاليا فهي التي توزّع الغنائم والحصص نظرا إلى كونها الدولة الأقوى والأكثر قدرة وتأثيرا، ليس من واقع قوتها العسكرية فحسب، وإنما من واقع قوتها الناعمة أيضا، أي قوتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ومن الفجوة الكبيرة بينها وبين العالم على هذه الأصعدة كافة.
هذا يعني أن أي حديث عن تنسيق روسي ـ أميركي، في خصوص إدارة الوضع في سوريا، هو مثير للسخرية حقا، لأنه مجرد محاولة للتلاعب والاستخفاف بالعقول، إذ من السذاجة بمكان الاقتناع بأن هناك تنسيقا بين طرفين متكافئين حقا. وفي الحقيقة فإذا كان هناك نوع من التنسيق، فتفسيره على الأرجح، يكمن في أن الولايات المتحدة تريد المزيد من التورط لروسيا فلاديمير بوتين في الصراع السوري لإرهاقه واستنزافه. وهذا يفيد بأن روسيا تتحرك في المربع أو في الهامش الذي تحدده أو ترسمه الولايات المتحدة، لا أكثر، وهو ما يفسر سعي روسيا إلى حل سياسي، كما تفسر ذلك سرعة استجابتها لتطبيع العلاقات مع تركيا، وطلبها المستمر رفع العقـوبات الأميـركية المفروضة عليها، وضمنه رفع الحظر عن استيرادها تكنولوجيات متقدمة. واضح من كل ذلك، أيضا، أن الإدارة الأميركية مازالت غير مصممة أو غير معنية بحسم الصراع الحاصل، مفضلة عليه معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، لا المعارضة تنتصر ولا النظام ينهزم، وهي وصفة لاستمرار الصراع السوري، واستمرار استنزاف الأطراف المتورطة.
أما بالنسبة إلى الحديث عن الحرب على الإرهاب أو على “داعش” و”جبهة النصرة”، فهو مجرد عنوان آخر لاستمرار الصراع، إذ أن الولايات المتحدة ذاتها لم تفعل شيئا قبل ظهور تنظيم داعش وقبل صعود جبهة النصرة، وهي ذاتها تراجعت عن مقولاتها بشأن وجود خطوط حمر، وبشأن أن بشار الأسد فاقد للشرعية وأن عليه أن يرحل، إذ أنها لم تفعل أي شيء حتى لوضع حد للقصف بالبراميل المتفجرة، ناهيك عن أنها أعاقت وجود منطقة حظر جوي في شمال سوريا على الأقل.
تحية ثورة سورية معطر بدماء الشرفاء و عرق المدافعين و دموع الثكالى و الأيتام و المقهورين...
سلام و رحمة على من جمعنا لأجلهم و احتراماً لروحهم شهدائنا و مشاعر دربنا..
لم أرغب بأن أكتب لكم .. و لكن يبدو أن لا محال من ذلك ولا مفر منه .. و الوقت لا يسعني لمزيد من التقديم لذا سأدخل مباشر :
أتراكم يا قادة ثورتنا -ولست أدري إلى أين تقودونها- في طول البلاد وعرضها تظنون أنكم بنوحكم وبكائكم، ثم بتغنيكم بالمدينة المنكوبة التي خذلتموها، ثم بضرب الأمثلة للمجاهدين بصمودها، تلقون المسؤولية عن عواتقكم ثم تكملون بناء ممالككم.
هيهات هيهات، فما انتم إلا جزء من ثورة يتيمة، في عالم لا يعرف إلا منطق القوة، وما قوتكم إلا بامتداد ثورتكم على أرض وطننا، وما بداية انتقاصها إلا بداية نهايتكم، وما ابتلينا بفكرة أغبى من أن كل حركة أو جماعة تظن أن تستطيع إكمال الثورة وحدها.
أتدرون ماهي أكبر مفخرة لداريا، مفخرتها أنها بدأت ثورة وجهاداً لإسقاط النظام، واستمرت ثورة وجهاداً لإسقاط النظام، ولم يخن أحد أمانة الجهاد والثورة ليستغل جهاد هذا النظام في الدعوة لمنهجه أو حزبه أو مذهبه.
ثم مفخرتها الثانية أن مجاهديها لم يقبلوا يوماً أن ينقطعوا عن الثورة الأم ليقبلوا بحلول محلية، رغم كل ما رأوه من قتل وتشريد وقصف وتآمر وشدة وضيق ونقص من السلاح والعدد والعتاد، ما قبلوا إلا إكمال جهادهم لإيلام هذا النظام وإضعافه، على طريق إسقاطه، في الوقت الذي كان كل يدعو لمنهجه ويؤسس لإمارته.
بعملكم و ارتجاليتكم و سوء رؤيتكم، ستكون داريا تجربة مضافة إلى قائمة طويلة من التجارب الجهادية، التي أفشلها قصر نظركم وضيق أفقكم وحظ نفوسكم، لتقرأها الأجيال وترى وتلعن سببها، ثم تخاصمكم عند مالك يوم الدين.
تركزت الأنظار خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية على قناة الجزيرة عموماً و الجزيرة نت على وجه الخصوص، بشأن تعاطيها مع الملف السوري في الآونة الأخيرة، و تحديداً خلال معركة الأمس التي أطلقتها الفصائل في حلب بكامل اشكالها لفك الحصار عن المدينة التي تدخل الحصار لأول مرة منذ انطلاق الثورة السورية.
الانتقاد الذي شهدناها على كافة المستويات الشعبية أو الفصائلية و حتى السياسية و طبعاً الزخم الأكبر كان شعبياً، و وموجة الانتقاد كانت مركزة في الاخبار العاجلة التي تم بثها من معرفات الجزيرة علي مواقع التواصل الاجتماعي ، و تركيزها على جبهة النصرة و تهميش كامل الفصائل التي كانت مشاركة و التي زادت عن تسع فصائل دخلت بثقل كبير ، الأمر الذي رأى فيه المتابعون من كافة المستويات بأنه مؤذ لحد وصل إلى تحميلها استباحة قصف المدنيين على اعتبار أن أي مكان موجودة فيه النصرة هو مسموح الاستهداف بدعم دولي.
ولا يمكن أن الغاء أو تهميش الغضب الموجود في صدور السوريين في كيفية تناول الخبر ، والذي يصب حتماً في مصلحة النظام و يضر بالشعب السوري و ثواره ، و لكن هل كان هذا العمل الذي شهدناه لأول من شبكة الجزيرة هو مقصود أو مدروس و يهدف إلى الحد الذي ذهب إليه البعض بأنه تنفيذ لأجندة تدمير الثورة السورية !؟
واذا ما قررنا الابتعاد قليلاً عن يوم أمس ، ونعود للماضي السحيق أي قبل سنوات ست أو إلى الماضي القريب أي قبل معركة الأمس في الملاح ، هل كانت الجزيرة سند و داعماً للثورة أو مواجهه لها ؟ ، هل كان الملف السوري في أروقة الجزيرة هو ملف اعتيادي أو ثانوي أو كان مركزي و محوري ، و في صلب الاستراتيجية البرامجية أو التغطية الإعلامية ؟
متيقين أن الهجوم سينتقل من الجزيرة ليطال شخصي ، بأني ادافع عن الجزيرة ، و سأجد من يتهمني بالاستفادة و الحصول على المنفعة منها وما إلى ذلك من عبارات التخوين ، و لكن من خلال تجربتي البسيطة مع الجزيرة و ببعض كوادرها المشرفين علي الملف السوري لم ألمس أي تخاذل أو تهاون بالدم السوري ، بل على العكس تماماً كان التركيز و المتابعة من قبلهم للملف السوري بشكل يفوق المنصات السورية ، و طبعاً ليس انتقاصا من الأخيرة و لكن التفوق المالي و المهني جعل من الجزيرة مهما حدث هي منبر مهم من منابر الثورة السورية، و حملت راية الثورة منذ بدايتها و تنقلت بكافة مراحلها و لم تتغير قيد أنملة اتجاه القضية المركزية الأساسية للثورة السورية الأسد و حلفاءه، و لم تحييد عن البوصلة في محاولات صناعة أمواج مغناطيسية كداعش على سبيل المثال.
و لكن مع القاء اللوم على الجزيرة كنت أتمنى أن يكون هناك لوم على أنفسنا لأننا فشلنا رغم كل أنهر الدماء التي تسيل ، لم نستطيع أن نتوحد ضمن منظومة عمل عسكري أو سياسي موحد ، و لاحتى في اطار منظومة إعلامية أو بيان موحد، إذ الجميع يلعب لعبة الظهور و البيانات المنفردة ، ولا أظن أن معركة كمعركة فك الحصار عن حلب تتطلب من أي جهة التنطح و التركيز على التسابق بالتبني و الظهور كأنه المنقذ الفذ .
اليوم الجزيرة هفت و لكن هفوتها لا تعني نسف التاريخ كله و ووضعها في ذات السلة أو المقام مع شبكات عالمية لعبت بدماء السوريين و أثرت في الرأي العام الغربي و الأمريكي، فيكفي أن الجزيرة عبر كافة منصاتها لم تتغير حتى الآن، ولازالت .
في دول العالم التي تحترم شعوبها تكون المقرات الأمنية أبنية لها عناوين محددة وليست سرية، وينحصر عملها في أرشفة وجمع المعلومات الخاصة بأمن تلك الدول، وأحياناً تكون مقراً لإجراء التحقيقات، والاحتجاز المؤقت (غالباً 48 ساعة بالحد الأقصى) دون ان تتحول إلى سجون ومعتقلات، ودون أن يفقد المواطن فيها حق الدفاع عن نفسه، وحفظ كرامته، وإن حدث غير ذلك فإن الاحتجاجات تتصاعد، وتكثر المطالبات لمحاسبة من يرتكب فعلة كهذه، وقد يطاح برؤوس كبيرة عقاباً على هذه الجريمة إن حدثت!.
تخضع هذه المقرات الأمنية -عادة- للقوانين في تلك الدول، مثلها مثل مؤسسات الدولة الأخرى، ومهما كان حجم المشكلة التي تتابعها، فإنه لا يمكن لهذه الأجهزة أن تحيد عما رسمه لها القانون، كما هو الحال في لانغلي واسكوتلانديارد وغيرها من المقرات الأمنية المعروفة في العالم.
الأمر في سوريا "الأسدين..المقبور والمعتوه" مختلف جداً!
المعلن من هذه المقرات هي سجون، وأماكن اعتقال، ومراكز قتل وتعذيب -لم يشهد التاريخ مثيلاً لها- قبل أي شئ آخر، وهي، من جهة أخرى، شاملة لا تقتصر على المعروف منها أو المجهول الذي يتبع لهذه الجهة أو تلك، بل قد تتحول الكنيسة والجامع وغرف المحاكم إلى مقرات أمنية، تستخدمها هذه الأجهزة لإذلال مواطنيها وهدر كرامتهم، مثلما تتحول المدارس ودور السينما، كما حدث حين حولوا سينما العباسية بدمشق إلى معتقل، وعندما تحولت مدرسة فايز منصور إلى معتقل في سبعينات القرن الماضي، والبيوت الأثرية في الشام، ومنها بيت الشيخ الحسيني في الحلبوني، الذي تحول إلى معتقل شهير.
من المعروف أن خطة كارلوس التي وضعها لتنظيم الأجهزة الامنية السورية بتكليف من حافظ الأسد، تتضمن شقين: الأول منهما إنشاء أجهزة أمنية متنوعة الاختصاص (عسكري - جنائي - سياسي - جوي - أمن دولة ... الخ)، تراقب أنفاس الناس وتحركاتهم وعلاقاتهم وحياتهم الاجتماعية، وفي الوقت نفسه -وهذا هو الشق الثاني- تراقب هذه الأجهزة بعضها بعضاً، فالمطلوب من علي دوبا بوصفه رئيس إدارة الأمن العسكري لا يقتصر على مراقبة الحالة الأمنية العامة، بل يتجاوزها إلى معرفة حركات وسكنات زملائه جميل حسن أو علي مملوك أو محمد الخولي، بدوره الخولي يراقب دوبا والبقية، وعلي مملوك يراقبهما مع البقية، وهكذا دواليك مع البقية.. وكلهم في النهاية يرفعون تقاريرهم بالشعب وببعضهم إلى رأس الهرم المقبور ومن بعده نجله المعتوه.
يجدر التنويه هنا بأن مراقبة الفروع لبعضها لا تعني مراقبة أدائها وسلوكها تجاه الشعب، لمعاقبة المسيء، بل إنها مراقبة لمدى ولاء هذه الأجهزة لعائلة الأسد الحاكمة، أما إجرامها تجاه الشعب فلا يرتب عليها أي مسؤولية.
الأمر نفسه ينسحب على المحافظات، إذ تراقب كل جهة أمنية الجهة الأخرى، وكل رئيس فرع يراقب حركة زملائه، ويعمل على معرفة كل ما يفعلونه، سواء في إطار أعمالهم، أو في حياتهم الشخصية، وممارستهم لفنون الفساد، هم وعائلاتهم، بدءاً من تشفيط أبنائهم بسيارات الدولة، وليس انتهاء بـ"سلبطة" زوجاتهم على محلات الذهب، ومحلات اللانجري، لاختيار أفضل أساور الذهب، وأجود أنواع السوتيانات والمكياجات، مروراً بمحلات الأجهزة الكهربائية وغيرها!.
هذا كله من أسباب بقاء كل الخيوط بيد المقبور حافظ الأسد ونجله يتحكمان بها كيفما أرادا!.
كما قلنا.. كل التقارير ترفع للأعلى؛ حيث تؤرشف وفق أحدث أساليب الأرشفة، وتحفظ لساعة الحاجة، وتظهر إن صدف وإن نسي بعضهم نفسه فظن أنه يستطيع العيش وأخذ الإتاوات دون رضا وعلم المقبور ونجله، فتخرج التقارير ويرمى الذي كان قبل دقائق "عتريسا" رمي الفأر الميت في المزبلة. ويحفل تاريخ العصابة الحاكمة بمئات الأمثلة، وكلنا يذكر محمود الزعبي الذي بين ساعة وأختها تحول من رئيس وزراء إلى منتحر بخمس رصاصات، ومثله مصطفى التاجر الذي عفن في السجن بعد أن كان يلعب برقاب الناس، ومن الطرائف التي تروى في هذا الشأن، أنه كان يجري تجهيز وزير السياحة محمد أمين أبو الشامات لاستلام رئاسة الوزراء، وشاء حظه السيئ أنه خلال ممارسته رياضته الصباحية في شاليهات ميرديان اللاذقية، كان رفعت الأسد المغضوب عليه آنذاك، جالساً يشرب قهوته الصباحية أمام الشاليه.. مرّ أبو الشامات من أمامه، فدعاه رفعت لفنجان قهوة، فلبى الدعوة على مضض، لكن قبل إكماله شرب فنجانه وصله أمر إقالته من وزارة السياحة، وأرسلت له أغراضه الشخصية قبل أن يصل العاصمة!.
ولكي لا ينسى هؤلاء"العتارسة الأمنيون" ذيليتهم، وأن العصابة الحاكمة هي من يتحكم بالهواء الذي يتنفسونه، فقد دأب حافظ الأسد على تذكيرهم بحجومهم الصغيرة بين فترة وأخرى، وكل السوريين يعرفون كيف أن حافظ الأسد - سيد الإجرام العالمي - سلخ علي دوبا كفاً أمام الملأ؛ لأنه حاد قيد أنملة عن الخط المرسوم له، رغم كل خدمات الإجرام التي قدمها دوبا لهذه العائلة وإسهاماته الكبرى في إدامة تحكمها في رقاب السوريين ومعاشهم اليومي.
في إطار هذه الهيكلية والتراتبية الأمنية، وكي يبقى الأمر ممسوكاً، كان لا بد من توسيع المقرات والأجهزة الأمنية، وربطها بإحكام، خاصة بعد مجازر حماة في بداية ثمانينات القرن الماضي، والتي راح ضحيتها نحو أربعين ألف مدني بريء، في واحدة من أفظع جرائم القرن الماضي، ذلك أن نظام عائلة الأسد، أيقن بعد المجزرة أنه نظام مكروه، وأن حاضنته لا تتعدى المستفيدين من فتاته، وأن ثمة هوة كبيرة بينه وبين الشعب الذي يحكمه.
مع بداية الثمانينات، ما عادت المقرات والأجهزة الأمنية مقتصرة على المعلن منها، فتحولت الوزرات والمديريات والمؤسسات إلى مقرات أمنية فيها مسؤول أمني يحل ويربط أكثر من الوزير نفسه، أحياناً بمسمى وظيفي كمدير مكتب للوزير، وأحياناً تحت يافطة "المسؤول الأمني" وهذا المنصب قد يتقلده "بوفجي" الوزارة، إن كان قريبا لمدير هذا الفرع الأمني أو ذاك، أو ناشطاً في توريد التقارير، وتكون لهذا "البوفجي الأمني" الكلمة العليا في الوزارة، فيما يكون طموح أكبر وزير الحصول على استدعاء - ليس دعوة - من رئيس فرع أمني لشرب القهوة معه!
الأمر نفسه ينسحب على الإدارات العامة، فالمسؤول الأمني كلمته هي العليا، وهو قادر على التدخل في كل شؤون المؤسسة الإدارية منها وحتى الفنية التي تحتاج إلى خبرة واختصاص، وكم من حملة شهادة ابتدائية تم تسليمهم مهام فنية تحتاج إلى معرفة واختصاص، لمجرد أن المسؤول الأمني راض عنهم، وتمكن من رسم صورة وردية عنهم لدى الأفرع التي يتعامل معها.
المسؤول الأمني صاحب الكلمة الأهم، نراه في القيادة القطرية وفروع الحزب، وفي المنظمات الشعبية، وفي الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وفي مقرات الصحف، وفي مؤسسة الأعلاف، وفي قصور العدل، وفي معمل الشحاطات.. إنه ظاهر بمسدسه المتدلي على جنبه، لكنه مرصود من أمني آخر سري يراقبه ويراقب ضحاياه!
حتى الجوامع والكنائس تحولت إلى بقع أمنية غالبا ما يكون خطباؤها مرتبطين بهذه الأجهزة، تأتيهم الخطب جاهزة، ومطالبون بأن تكون عيونهم 10/10 في مراقبة المصلين وأحاديثهم بعد الصلاة، بل وحتى طول لحاهم!
الأمر نفسه نجده في الجيش، حيث يبرز الدور الكبير للمقر الأمني، الذي يديره ضابط تحت مسمى "ضابط التوجيه المعنوي"، سيارته لا تقل رفاهية عن سيارة قائد القطعة حتى لو كانت رتبته متدنية، وأمره مجاب في كل الشؤون، يخافه قائد الثكنة مثلما يهابه حاجبها، يتدخل في كل شاردة وواردة، إنه عين الأجهزة الأمنية ومراسلها، ترفيعه من رتبة إلى أعلى سلس، وتقريره يحدد ترفيع زملائه من عدمه.
وفي هذا الصدد قد يترقى ضابط الأمن إلى مسؤول أمني إذا كانت خدماته جليلة، وولاؤه كلبياً، كما حدث مع رستم غزالة، الذي كان ضابط أمن كتيبة، ثم ترقى إلى أن وصل لرئاسة الأمن العسكري، لكنه حين "لعب بذيله" قليلاً، قاموا بشقه إلى نصفين، وسجلت الحادثة ضد مجهول.
هذا الكلام ليس نوعاً من التبلي أو الإجحاف بل وصف لواقع، عاشه السوريون عقودا في ظل دولة عصابة لا مؤسسات.. دولة عائلة فاسدة لا دولة قانون!