بعد أن عاشوا فترة طويلة في نشوة الثورة والانتصار على خوفهم، وفي الأمل المنعش بالتحرّر والانعتاق من أسر نظمٍ وحشيةٍ لا تعرف معنى الإنسانية، يعيش السوريون اليوم، على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، حالةً من الإحباط الجامع الذي يولّده الشعور المتنامي بانعدام آفاق الخلاص، وخطر ضياع الأهداف والرهانات التي ضحّوا من أجلها، وتزايد المخاطر التي تهدّد وطنهم، والمخططات التي تتحدث عن تقسيمه، وعمليات النهش المستمرّة من هؤلاء وأولئك في جسده المريض.
وينعكس هذا الإحباط على موقفهم من الدول الصديقة والحليفة التي تتعرّض، أكثر فأكثر، للانتقاد والتشكيك بما قدّمته، أو يمكن أن تقدّمه. لكنه يتجلى أيضاً في التهجم المتزايد على المعارضة، بمختلف تياراتها، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نفي للذات، وتشكيكٍ متزايدٍ بهويتهم، وفي ما إذا كانوا بالفعل شعباً واحداً أو موحداً، ومجتمعاً منسجماً قادراً على العمل المشترك، وبناء الدولة، والنهوض من جديد من الكارثة التي أصابت البلاد والعباد.
وأول من يحاول استغلال مناخ الإحباط هذا، ويسعى إلى الاستفادة منه، القوى الدولية التي تحاول أن تقنع السوريين، اليوم، أنه فات الوقت، لكي يتمكنوا من إعادة توحيد أنفسهم كشعب، وأن يستعيدوا ملكة العيش المشترك، وأنه لم يعد أمامهم من سبيلٍ للوصول إلى الحد الأدنى من السلام والأمن سوى التسليم للدول الأجنبية بتقرير مصيرهم، حتى صار من الطبيعي والعادي والمسلم به تداول وثائق وخرائط ومسوّدات دساتير، عم انتشارها في وسائط التواصل الاجتماعية، صادرة عن بعض الأوساط الدبلوماسية، أو عن جمعيات ومؤسسات بحثية، لم يكن لها في الأصل أي علاقة بالبحث بشأن سورية، وربما لا يعرف معظم باحثيها، قبل ثورة مارس/ آذار 2011، موقع هذا البلد على الخريطة.
يكاد هذا الشعور يطمس، للأسف، الإنجاز الأول والأروع لهذه الحقبة، وأعني ما سطره السوريون من ملاحم، وما أظهروه من بسالةٍ وصمودٍ أسطوريين، في قتالهم من أجل حريتهم وكرامتهم، وما كبّدوه من هزائم متواصلة لأربعة جيوش نظامية: جيش النظام الانكشاري، ومرتزقة حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وجيش الخلافة الداعشية المزعومة، بالإضافة إلى المليشيات الطائفية الدولية المستشرسة، والمدفوعة بغلٍّ مذهبي دموي لا يرتوي، من دون أن ننسى الدعم اللوجستي والعملياتي المباشر والقوي من سلاح الجو الروسي، فلا يعادل غدر الأسد بشعبه وخيانته التزاماته بوصفه رئيساً للجمهورية، وإصراره على حرق البلاد تمسكاً بالسلطة، سوى إيمان الشعب السوري بحقه في الكرامة والحرية، وإصراره على الاستمرار في القتال حتى النهاية. وربما لن يحتفظ التاريخ من هذه الحقبة بصورةٍ أخرى غير إرادة الحرية التي ألهبت حماس السوريين، وحولت نضالهم إلى أسطورةٍ ومثالٍ أعلى لكفاح الشعوب من أجل سيادتها واستقلالها وتقرير مصيرها بيدها.
هذا بالضبط ما تهدف إلى تغييبه الحملة الدعائية والنفسية المنظمة التي يشارك فيها، منذ أكثر من خمس سنوات، النظام وجميع الدول والتيارات المناهضة لولادة سورية حرّة جديدة، تعكس حرية السوريين وسيادتهم على أرضهم، فهي تستغل التطورات، وتزيد من حجم التعقيدات التي أنتجها تدخل القوى المتعددة، للحيلولة دون انتصار ثورة الشعب، من أجل تيئيس السوريين من مستقبلهم ومصيرهم، وتحويل كارثة الحرب العدوانية التي شنتها الطغمة الحاكمة عليهم إلى مناسبةٍ للقضاء على الدولة السورية، ومن خلالها على استقرار المنطقة المشرقية بأكملها.
ولا شك أيضاً في أن المعادلة الدولية التي فرضت على الثورة، والقائمة على منع الحسم العسكري، وتجاهل شروط الحل السياسي من جهة، وما رافق هذه المراوحة في المكان من قتلٍ وتشريدٍ ودمارٍ من جهة ثانية، تضغط بقوة على الرأي العام السوري، على مختلف اتجاهاته، وتفقده أكثر فأكثر الأمل بإمكانية الخلاص القريب، وتدفع قطاعاتٍ متزايدةً من مؤيدي الثورة، للتشكيك بسلامة قرارهم في الخروج على النظام، على الرغم من جوره وخيانته مصالح شعبه. وما يزيد من هذه الضغوط انزياح مركز القرار بشكل مضطرد من يد السوريين إلى الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، حتى ساد شعور عميق، اليوم، بأن السوريين لا يملكون أدنى تأثيرٍ على مصيرهم، وليس لهم سوى الاستسلام لقرار الدول الأجنبية المنقسمة هي نفسها في دعم هذه الفريق أو ذاك. وهذا ما يفسّر تزايد تداول الخرائط والبيانات والتصريحات المتعلقة بتقسيم سورية والمنطقة، أو إعادة تشكيل دولها وكياناتها، وربما هويتها أيضاً حتى عند السوريين.
أخطر ما يعيشه السوريون اليوم هو فقدان الثقة بأنفسهم، والاستسلام لفكرة عجزهم عن التوصل إلى حلول لمشكلاتهم بإرادتهم، والتسليم للدول الأجنبية، العربية وغير العربية، بالقرار، وإيجاد حل للقضية، مع الأمل بأن لا يخذل حلفاؤهم ثقتهم، وأن يبقوا عند حسن ظنهم بهم. وهذا ما يؤكده، للأسف، ويبرهن عليه كل يوم سلوك كثير من فصائل المعارضة وشخصياتها التي تتسوّل الدعوات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وتربط أي قرارٍ يُفرض عليها اتخاذه بقرار الدول الصديقة ورأيها، ولا تفكر في طرح أي خطةٍ أو استراتيجيةٍ مستقلة للنقاش، وللإمساك بقضيتها، وتنتظر دائماً ما تقرّره هذه الدول بمصيرها ومستقبلها.
لن تحل الدول الأجنبية المسألة السورية، حتى لو كانت قوى كبرى، بل إنها هي التي عقدتها وقطعت عليها طريق الحل، وإذا حلّتها، فلن يكون ذلك لصالح سورية والسوريين، مهما كانوا وإلى أي فريقٍ انتموا، وإنما لحسابها، ومن أجل تقاسم المصالح فيها، حتى لو اضطر الأمر إلى تقسيمها جغرافياً وسياسياً. وهذا ما يحصل الآن في تعزيز الاعتقاد عند السوريين بأنهم ذئابُ بعضهم لبعض، وعشائر وقبائل وطوائف متناحرة لا تستطيع التفاهم، ولا شيء يجمع بينها، لا قومية ولا عقيدة ولا دين. وفي هذه الحالة، لن يكون الحل إلا عن طريق تفتيت الخريطة السورية وتقسيمها، ولن يعني أبداً إنهاء الحرب والنزاع، وإنما إيجاد أسبابٍ إضافيةٍ لاستمرارهما، ولو أن رهاناتهما وأشكالهما سوف تختلف، على حسب طبيعة القوى المتلاعبة والمتنازعة على اقتسام السوريين، ورسمها أو تقديرها لمصالحها في هذه المنطقة، أو الكيان، أو ذاك.
لن يكون هناك أملٌ في التوصل إلى حلٍّ للقضية السورية، أي إلى صيغةٍ للحل، تحقق مصالح السوريين جميعاً، وتضمن السلام والأمن والعدالة في بلادهم، وتسمح باستعادة الدولة والسيادة والوحدة السورية، إلا باستعادة السوريين ثقتهم بقدراتهم، وعودتهم إلى تحمل مسؤولياتهم، والمراهنة على حسّهم الوطني والإنساني وإرادتهم الحرة، ورفضهم أي قرارٍ يُفرض عليهم، مهما كان نوعه ومن أي طرفٍ جاء. وهذا يعني ضرورة الكفّ عن انتظار الحل من الخارج، والتسليم للدول بحقها فيه، أو العمل في إطار استراتيجياتها المتعدّدة والمتباينة أيضاً.
ولن يستطيع السوريون استرجاع قرارهم وحقهم في تقرير مصيرهم، ما لم ينزعوا روح الاحتلال النفسي والانقسام والتبعية التي فرضتها عليهم القوى الغاشمة، عقوداً طويلة، بل قروناً، وعزّزتها سياسات الدول المتنازعة على السيطرة، وضراوة الصراع الذي يدور حول بلادهم ووطنهم بين الدول الإقليمية والخارجية.
وهذا يستدعي يقظة ضمير سياسي وإنساني عند السوريين جميعاً، والالتفاف حول قيادةٍ وطنيةٍ تقف موقف الاستقلال والندية مع القوى الخارجية المعنية، والتي أظهرت الأحداث فشل سياساتها القائمة على تحييد الشعب السوري، والانفراد بحل القضية على حسابه. وهذا هو جوهر برنامج الكرامة والحرية الذي نزل الشعب السوري بالملايين إلى الشوارع السورية لتطبيقه، وهتف له تحت البراميل المتفجرة والجوع والحصار، وبذل أبناؤه من أجله دماءً زكية، لا تزال تجري كالأنهار في طول البلاد وعرضها.
هي وثيقة أميركية، لكنها ليست رسمية، وقد صدر جزؤها الأول في سبتمبر/ أيلول من عام 2015، والثاني في منتصف العام الحالي عن "وقفية راند"، المقربة جدا من أوساط الخارجية الأميركية، والتي جعلت لوثيقتها عنواناً مثيراً هو "خطة سلام من أجل سورية". ومع أنها صدرت قبل أشهر قليلة، فقد تم تحديثها قبل أسابيع قليلة، في إشارة إلى اهتمام واضعيها بما ترتّب على ما اقترحوه من نتائج بعد سبتمبر. ويقترح نواب وزير الخارجية الثلاثة السابقون، الذين كتبوا الخطة:
أولاً، التخلي التام عن "جنيف" ووثيقته التي أقرها الخمسة الكبار، وعن قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخصوصاً منها القرار 2118 الذي يرسم آلية تنفيذ ما اتفق الخمسة الكبار عليه في جنيف، بمن في ذلك أميركا، الدولة التي ينتسب إليها كتّاب الخطة، فلا هيئة حاكمة انتقالية، ولا تراض بين الطرفين، ولا انتقال ديمقراطي.
ثانياً، الانطلاق من أولوية مطلقة، هي ضرورة وقف أعمال العنف عبر هدنةٍ تتوافق عليها روسيا وأميركا، وتلتزم بها أطراف الصراع، على أن يجري تحويلها إلى وقف إطلاق نار دائم، يتيح أجواء مناسبة لبدء البحث عن حلول.
ثالثاً، المحافظة على ما هو قائم ميدانياً من أوضاع بين الأطراف المتقاتلة، وتشمل منطقة النظام الأسدي، بين دمشق والساحل، مروراً بحمص ومناطق من حماة، وهي ستبقى في يده، وسيديرها تحت قيادة بشار الاسد، على أن ترابط فيها قوات روسية. والمنطقة التي سيطرت عليها قوات "البايادا" الكردية في الشمال والشمال الشرقي من سورية، والتي سترابط فيها قوات أميركية. ومنطقة سيطرة المعارضة في الشمال والجنوب، حيث سترابط في أولاهما قوات تركية، وفي ثانيتهما أردنية. أما المنطقة الخاضعة لـ"داعش" فستوضع تحت إشراف دولي، بعد طردها منها، وستبقى خاضعةً للإشراف الدولي، إلى أن يتقرّر مصيرها النهائي في التسوية النهائية.
الرابعة، انتشار قوات دولية في مناطق مختلفة من سورية، لكي تشرف على وقف القتال، وإيصال الإغاثة إلى السوريين، ريثما تتفق أميركا وروسيا على الحل النهائي الذي تقول الخطة، بكل وضوح، إنه لن يستعيد دولة سورية المركزية، وسيفرض أشكالاً جديدة من الحكم والإدارة في المناطق الثلاث، على أن تكون مداولات الأطراف السورية بشأنها هي المفاوضات الجديدة التي ستقرّر مصيرها، وبالتالي، شكل الدولة السورية المقبلة، وعلاقات أطرافها وصلات مكونات المجتمع السوري ببعضها، وهل ستكون فيدرالية، أم إدارة ذاتية موسعة، أم لا مركزية سياسية ... إلخ.
لا تسمّي "الخطة" فترة زمنية لتطبيق ما تقترحه، بل تترك الأمر القائم الحالي، الذي تكرّسه باعتباره أساس أي حل، وتبقيه مفتوحاً على مدى زمني غير محدد، وتشحنه باحتمالاتٍ تقسيميةٍ، تناقض جذرياً ما قبلته واشنطن وموسكو في وثيقة جنيف ومقدمة القرار 2254 الذي صدر قبل أشهر، وحمل تعهداً صريحاً منهما بضمان وحدة الدولة والشعب في سورية.
ليس هذا كل ما يثير القلق في الخطة، المقلقة جداً، ما يثير القلق والغضب حقاً يرد في فقرة تؤكد أن "الخطة" لم تجر أية تعديلات ذات أهمية أو شأن على الثوابت التي اعتمدها البيت الأبيض سياسة حيال الحدث السوري منذ عام 2011، وتمسّكت بها طوال السنوات الخمس الماضية. هذا الاعتراف المذهل ينقل الخطة من حيز السيناريوهات التي ترسمها مراكز الأبحاث والدبلوماسية لمواجهة احتمالات تطور أو حدثٍ ما، ويجعل منها كشفا لـ"ثوابت"، عمرها نيف وخمسة أعوام، كانت جوهر سياسة واشنطن تجاه ثورة سورية التي أطلق الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في حينه عشرات التصريحات المؤيدة لها، لكنه أقرَّ، أخيراً، في أحاديث متعدّدة، مع صحافي اسمه غولدبرغ، أصدرها تحت عنوان "عقيدة أوباما"، بأنها لم تكن مهمة إطلاقاً بالنسبة له، ولم تحتل أية أولوية في سياساته. تقول الخطة إنها التزمت بهذه الثوابت في ما اقترحته، وإنها تقوم على مواقف واشنطن الحقيقية، عديمة الاكتراث بحق الشعب السوري في الحياة والحرية، وبمجازر النظام. لذلك، قامت على مساراتٍ متكاملةٍ، مهد لها تأجيج الصراع والصمت على عنف النظام وإيهام السوريين بقرب اتخاذ موقفٍ أميركي حاسم من بشار الأسد، بينما شجعوا على تصعيد الصراع، ليستخدموه في تصفية حسابات إقليمية ودولية، تمت بدماء جميع السوريين، من كان منهم مع النظام أو ضده، ولإيصالهم، في النهاية، إلى ما تفصح "الخطة" عنه: حل يضع مناطق النظام و"البايادا" والمعارضة تحت احتلال دول وجيوش أجنبية وإشراف دولي، ويترك مصير نصف مساحتها الذي تحتله "داعش" اليوم معلقاً، محولاً وطننا السوري الذي نعرفه، ونريد تجديده بالديمقراطية والنهج المدني/ السلمي، إلى وطن افتراضي، يرهن مصيره بصراعات الأميركيين والروس وتفاهماتهما، وبإرادة الأميركيين بالأحرى الذين لعبوا دوراً خطيراً في تحويل ثورةٍ طالبت بالحرية إلى ساحة صراعٍ متشعب ومفتوح، أمسكوا بها بكل قوة، كي يروّضوا من خلالها إيران وروسيا، كما تقر الخطة، وهي تذكر الفوائد التي يعود حلهم بها على واشنطن.
هذه "الخطة" التي تقول، في جزئها الثاني، إن الهدنة التي تم الاتفاق عليها، وطبقت بهذا القدر أو ذاك من النجاح، كانت الخطوة الأولى على طريق تطبيق ما اقترحته في جزئها الأول. لذلك، يجب أن تكون موضوع دراسة وتأمل عميقين، ما دام تطبيق بقية بنودها يعني نهاية وطننا، وفشلنا في نيل حريتنا، والقضاء على ثورتنا، وبقاء ملايين السوريات والسوريين مشرّدين في المنافي والمغتربات، وفوز الأسد بالمساحة الأكبر من سورية، وبساحلها الذي ستمكّنه سيطرته عليه من خنق بقية مناطقها، وإركاع سكانها بالتجويع والحصار، ويعني أن هيئات المعارضة وتنظيماتها أضاعت تماما الطريق التي يمكن أن تمكّنها من بلوغ أهداف الشعب والثورة، وأنها تتابع وهماً لم يعد له أي مرتكز أو مكان في الواقع الدولي والوطني، يسمونه "الحل السياسي وفق وثيقة جنيف والقرارات الدولية". ويعني، أخيراً، أن "صديقنا الأميركي المخلص" نجح في الضحك علينا وخداعنا، طوال السنوات الخمس الماضية التي كنا في أثنائها في غفلةٍ أوقعتنا في حال من الغباء وسوء التقدير والفهم، ساقتنا إلى هاويةٍ تقدم لنا الخطة بعض تفاصيلها، لن نخرج منها بما ننتهجه اليوم من سياسات، ونقيمه من علاقات، ستأخذنا إلى ما بعد سورية، وليس إلى ما بعد النظام.
ماذا علينا أن نفعل لمواجهة ما يدبّر لنا منذ سنوات على يد دولةٍ اعتقد معظمنا، معظم الوقت، أنها صديقة لنا، لن تسمح بهزيمة ثورتنا المطالبة بالحرية؟. علينا الإجابة على هذا السؤال في أقرب الآجال، كي لا نخون شعبنا وأنفسنا.
أتوقع أن يكون إحياء مسيرة الحل السياسي أهم ما سيشغل المعنيين بها بعد عطلة العيد، فقد مرت فترة طويلة دخلت فيها المفاوضات في سبات، وبدا أن الهوة واسعة بين فريقي التفاوض (النظام وهيئة التفاوض العليا المنبثقة عن مؤتمر الرياض). فالنظام يرفض الحل السياسي شكلاً وموضوعاً، وقد جدد رفضه لتشكيل هيئة حكم انتقالي في خطاب بشار الأخير أمام مجلس الشعب، وهو يفتح المجال فقط لحكومة ائتلافية، ربما تضم بعض المعارضين الذين يختارهم وعلى الغالب سيختار أقربهم إليه، متجاهلاً كل ما حدث في سوريا، ومعتقداً أن القضية الوحيدة التي يواجهها هي الإرهاب وحده، وأما أسباب الانتفاضة السورية والحل الأمني الذي اختاره لمواجهة الشعب وقتل مليون مواطن واعتقال مئات الآلاف الذين مات كثير منهم تحت التعذيب في المعتقلات، وتهجير ملايين السوريين، وهدم منازلهم، وتدمير العديد من المحافظات السورية، فضلاً عن المجازر التي ارتكبها، فهي في نظره أمور ثانوية يمكن حلها بتوزير بعض المعارضين الذين هم موالون له في الحقيقة، ولكنه ألبسهم لبوس المعارضة كي يقدم منصات جديدة للسيد «ديمستورا» الذي لا يخفى عليه أن الهدف من وفرة المنصات هو خلط الأوراق وتمييع الحل السياسي، وهو الذي قال لأعضاء هيئة التفاوض في لقائه الأول بهم في الرياض (أنتم الوفد الوحيد الذي يمثل المعارضة، وهذا هو امتيازكم)، لكن روسيا سرعان ما صنعت معارضة دخلت ساحة المفاوضات لتؤيد النظام باسم المعارضة أيضاً، وهي ما تزال تعطل القرار الدولي، والمعارضة الوطنية تتمسك ببيان جنيف وبالقرارات الدولية التي تكررت ومنها القرار 2118/2013 والقرار 2254/2015 الذي حدد فترة ستة أشهر للوصول إلى حل، وقد بدا مؤسفاً أن يخفق مجلس الأمن في تنفيذ قراراته، وأن تكون روسيا التي أسهمت في القرار معطلة لتنفيذه.
ولقد كان مفجعاً أن يتم تجاهل مقترح الهيئة العليا للتفاوض حول هدنة في شهر رمضان وفي أيام العيد، فقد تصاعدت الهجمات على المدنيين، وبخاصة في محافظتي إدلب وحلب، وقضى مئات المواطنين تحت الأنقاض إثر القصف الذي استخدمت فيه روسيا قنابل عنقودية وفراغية وفوسفورية فضلاً عن عودة النظام إلى استخدام البراميل المتفجرة، وخلال الفترة الأخيرة تعطل إدخال المساعدات للمناطق المحاصرة، وتم التزييف حتى على الأمم المتحدة، وظهرت فضائح مخجلة، بل إن بعض قوافل المساعدات وصلت فارغة.
وما تزال بنود مرحلة ما قبل التفاوض التي حددها القرار الأممي في البعد الإنساني معطلة، فلم يطلق سراح المعتقلين ولم يفك الحصار، بل زاد عدد المناطق المحاصرة، كما أن النظام وروسيا وإيران وحزب الله تجاهلوا اتفاقية الهدنة الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة، واستخدموا ذريعة مكافحة الإرهاب لتبرير قصفهم اليومي على المدنيين.
ولكون المنطقة تمر الآن بتحولات جديدة في خارطة العلاقات السياسية، ولاسيما بعد أن أعلنت تركيا عن مراجعة لسياساتها الخارجية وبخاصة مع روسيا وإسرائيل وربما مع مصر قريباً، فإن المشهد السياسي قد يشهد نوعاً من الحيوية إذا تمكنت تركيا من تخفيض حدة التوتر في المنطقة عامة، وإذا تمكنت من ترويض الجموح الروسي الذي وصل إلى طريق مسدود، وقد آن أن تدرك روسيا أن مغامرتها ضد الشعب السوري لن تحقق سوى مزيد من الجرائم ضد الإنسانية، وأن القضاء على الإرهاب، يبدأ بإنهاء مسبباته، فمن أطلق الحل العسكري فتح الساحة لكل من بيده سلاح، وجعل الدم وحده المباح، ولا حل لمشكلة الإرهاب إلا بتمكين السوريين من الاستقرار عبر حكم عادل يحافظ على بقايا الدولة السورية وعلى وحدة الوطن والشعب، ويحفظ للمواطنين حريتهم وكرامتهم، ويحقق العدالة الانتقالية، عندها سيتكاتف السوريون جميعاً لمقاومة الإرهاب، وهم يدركون أنه مصنوع للتعمية على قضيتهم.
غير معروف٬ حتى الآن ما هو الصحيح وما هي الحقيقة٬ فالروس يؤكدون أنهم تلقوا عرًضا أميركًيا٬ من الرئيس باراك أوباما نفسه٬ للتنسيق المشترك بين البلدين٬ روسيا والولايات المتحدة في سوريا٬ وخصوًصا في مجال مواجهة التنظيمات الإرهابية٬» داعش» و«النصرة» على وجه التحديد٬ والأميركيون بادروا إلى النفي وبصورة معلنة ورسمية٬ وكل هذا مع أَّن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أجرى فعلاً اتصالاً هاتفًيا مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري لا يمكن إلا أن يكون قد تناول هذه المسألة آنفة الذكر٬ التي يبدو أنها باتت مطروحة بالفعل٬ ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أَّن الثقة بين واشنطن وموسكو ليست غير متوفرة وفقط٬ وإنما معدومة وبصورة نهائية!!
والمثير للتساؤل بالفعل هو أَّن هذا التطور٬ الذي لا يزال غير مؤكد والذي من الممكن أن يكون مجرد مناورة روسية٬ بهدف مزيد من ابتزاز هذه الإدارة الأميركية التي دخلت مرحلة عِّد أيامها الأخيرة٬ قد جاء في ذروة الخطوة التصالحية الـ«دراماتيكية» التي أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أولاً تجاه إسرائيل ثم تجاه روسيا٬ حيث كانت العلاقات بين موسكو وأنقرة قد وصلت٬ كرِّد فعل على إسقاط طائرة الـ«سوخوي» الروسية في تلك الحادثة المعروفة٬ إلى حدود المواجهة العسكرية الشاملة٬ وهذا يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات يسعى للاستفراد بسوريا٬ باستدراج الأميركيين إلى اتفاق شكلي يكرس الوضعية التي بقيت قائمة بالنسبة للأزمة السورية خلال الثلاثة أعوام الأخيرة٬ والتي هي في حقيقة الأمر لا تزال قائمة حتى الآن٬ وقد تستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
إنه لا يمكن الوثوق لا بهذا الرئيس الروسي ولا بوزير خارجيته فالتجارب٬ تجارب الثلاثة أعوام الماضية٬ أثبتت أنه بينما أَّن قدمي فلاديمير بوتين في هذا العصر وفي هذه المرحلة٬ فإن رأسه لا يزال هناك في مرحلة صراع المعسكرات٬ بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية (الشيوعية) من جهة٬ والولايات المتحدة والمنظومة الرأسمالية من جهة أخرى٬ وهذا بالطبع ينطبق على سيرغي لافروف الذي بقي يحاول «تقليد» وزير خارجية المرحلة السوفياتية السابقة أندريه غروميكو٬ ولكن دون إحراز أي نجاح يذكر٬ وذلك لافتقاده إلى هيبة واتزان و«كاريزما» ذلك الرجل التاريخي الذي كان أحد رموز مرحلة تاريخية تختلف كثيًرا وفي كل شيء٬ عن هذه المرحلة التي هناك حيرة مربكة لدى كبار المؤرخين بالنسبة لتحديد مكانها في المسيرة الكونية التاريخية.
وهنا فإن ما يعزز وجهة نظر الذين لا يثقون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذين يعتبرونه مناوًرا غير بارع في بعض الأحيان٬ أَّن روسيا التي التقطت مبادرة رجب طيب إردوغان بفرح غامر لم تبادر إلى أي تغييٍر إيجابي٬ وإن على نطاق محدود وضيق٬ فعملياتها العسكرية٬ بدل تخفيفها ازدادت عنًفا وشمولاً٬ وانفتاحها على تركيا لا يزال يراوح مكانه٬ إذ إن كل شيء لا يزال على ما هو عليه٬ وإن حزب العمال الكردستاني التركي الـ«K.K.P «الذي استخدمه الروس كأحد أسلحتهم الفعالة ضد أنقرة لم يطرأ عليه أي جديد٬ وهو لا يزال مستمًرا بعملياته «الإرهابية» بالوتيرة السابقة نفسها وأكثر.
وهكذا فإنه لم يبدر عن الروس ما يدُّل على أنهم جادون فعلاً في التفاهم مع الأميركيين ومع غيرهم٬ لوضع نهاية مقنعة للأزمة السورية٬ وذلك مع أن المفترض أن يبادر بوتين من قبيل إبداء ولو قليل من حسن النيات إلى التحقيق من هجمات سلاح الجو الروسي على المدن والقرى السورية وعلى مواقع المعارضة «المعتدلة».. إَّن هذا لم يحصل إطلاًقا والواضح أنه قد لا يحصل أبًدا٬ والسبب هو أن الرئيس الروسي متمسٌّك بإصراره على بقاء بشار الأسد قبل المرحلة الانتقالية وخلالها وبعدها٬ وإَّن أقصى ما يطرحه هو تشكيل «حكومة وحدة وطنية»!! يشارك فيها «المعارضون» مجرد «ديكور» لا يقدم ولا يؤخر٬ وليس له أي دور فعلي لا في حاضر سوريا ولا في مستقبلها.
وهنا أيًضا.. فإَّن ما يزيد الأمور ضبابية وارتباًكا هو أن الروس لم يطرحوا أي جديد يمكن البناء عليه والاعتداد به بالنسبة للأزمة السورية٬ وأن التقاطهم المبادرة الأميركية آنفة الذكر٬ التي نفتها واشنطن رسمًيا٬ قد يكون مجرد مناورة كمناورات الرئيس فلاديمير بوتين الكثيرة السابقة٬ وهذا يعني أنه قد لا يكون هناك أي جديد يمكن الاطمئنان إليه بالنسبة للأزمة السورية المستفحلة٬ وهكذا وبالتالي فإنه لا يزال من المبكر جًدا الحديث عن حٍّل معقول لهذه الأزمة٬ التي باتت هناك قناعة في العالم بأسره بأن موسكو هي التي أوصلتها إلى هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها.
إن المفترض أن جزًءا من المصالحة التركية الروسية قد أُعطي للأزمة السورية وحلها وعلى أساس القرارات الدولية واتفاق (جنيف1(٬ ويقيًنا أنه إْن بقي الروس يعملون في سوريا ما عملوه منذ بدايات غزوهم العسكري وحتى الآن٬ فإن تركيا بدورها ستدفع الثمن غالًيا وخصوًصا إْن واصل حزب العمال الكردستاني التركي الـ«k.p.p «عملياته العسكرية التي كان استأنفها بعد تردي العلاقات الروسية التركية٬ وحقيقة أنها ستكون بمثابة مصيبة كبرى إن ثبت أن الرئيس بوتين قد قبل بالمصالحة مع رجب طيب إردوغان كمناورة من مناوراته الكثيرة المعروفة. لقد أعلن الروس أنهم مع أي حٍّل للأزمة السورية يضمن لهم أولاً الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية في سوريا٬ وثانًيا أن يكون اختيار البديل لبشار الأسد بموافقتهم وموافقة كل الأطراف المعنية. وحقيقة أن حتى الأطراف الأكثر تشدًدا٬ إن بالنسبة للمعارضة السورية وإن بالنسبة للدول العربية المعنية وأيًضا إْن بالنسبة للولايات المتحدة والغرب كله٬ لا تنكر هذه المصالح الحيوية الروسية المشار إليها٬ وأيًضا لا تعارض التفاهم بشأنها وبشأن الحفاظ عليها٬ فهي مصالح قديمة تعود لما بعد انقلاب حسني الزعيم في عام ٬1949 وهي بقيت يتم التعامل معها كحقيقة من حقائق علاقات دمشق الخارجية٬ وذلك رغم تقلبات الأوضاع في نحو نصف قرن وأكثر.
وبالطبع فإن الروس الذين يتابعون وجهات نظر المعارضة السورية وحلفائها وداعميها يعرفون أَّن هؤلاء جميًعا لا يمكن أن يتصوروا مستقبلاً لسوريا مطمئنة ومستقرة دون الحفاظ على المصالح الحيوية الروسية هذه٬ وبالصورة التي من المفترض أن يتم الاتفاق عليها لاحًقا٬ ودون مشاركة كل المكونات الدينية والمذهبية والقومية٬ وأيًضا الاجتماعية في مستقبل هذا البلد الذي هو لكل أهله ومن بينهم الطائفة العلوية الكريمة٬ التي ربما لا يعرف كثيرون أن غالبية رموزها وأبنائها ضد هذا النظام منذ عام 1970 وحتى الآن٬ وذلك لأنهم كانوا وما زالوا الأكثر تضرًرا من هذا النظام العائلي٬ الذي أساء إلى هذه الطائفة بمقدار إساءته إلى الشعب السوري كله.. وهكذا وفي النهاية فإنه لا بد من القول إن هذا الموقف الروسي آنف الذكر سيتأثر حتًما بتطورات الأحداث التي استجدت في إيران في الأيام الأخيرة٬ وخصوًصا في «أصفهان» وأيًضا في منطقة «مهاباد» التي شهدت في عام 1948 قيام أول دولة كردية في التاريخ.
لن يُعرف مدى التغيير في السياسات التركية في المدى القريب، وإنْ كان ما ظهر منه أخيراً يشير الى انعطاف كبير، بعضٌ منه يُفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة وأمن وتجارة، وبعضٌ آخر بضرورات الحفاظ على تركيا في المعادلة الاقليمية. ومع افتراض أن أنقرة كانت مبدئية مئة في المئة في مقاربتها لقضية الشعب السوري، وفي مطالبتها برفع الحصار عن غزة، وفي سعيها الى إيجاد توازن داخلي عراقي يخفف من وطأة الهيمنة الإيرانية الفاقعة، إلا أن طبيعة الاستقطابات الدولية في المنطقة لم تسعف تركيا كما لم تسعف العرب من قبلها. أكثر من أي قوة إقليمية أخرى وجدت تركيا نفسها محكومة بشروط لا تبدو إسرائيل أو إيران مكبّلة بها، ربما بسبب إرث تركي تاريخي انطبع بالسلبية وتبِعه قرنٌ من الانكفاء عن الشرق العربي، أو لأن ازدواجية تركيا بعلمانيتها وإسلاميتها أربكت عودتها الى ذلك الشرق بعدما كانت إسرائيل وأميركا أمعنتا في إحباطه، فيما قطعت إيران شوطاً في نخره بسوسة «تصدير الثورة» وعسكرة الشحن المذهبي.
المؤكّد أن المسألة السورية هي التي ستحدّد ملامح الوجه الآخر للسياسات التركية الجديدة. فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران مع إقرار الدولتين باستمرار خلافهما على سورية، ومع التلميح الى احتمال حصول خطوة باتجاه إصلاح العلاقة مع مصر، لم يبقَ أمام أنقـــرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بدمشـــق. قد تبدو هذه المبادرة صعبة لكنها لن تكون مستحيلة، إذا أمكن تركيا أن ترى الـــمصلحة وتلمسها. كانت آفاق التبادل مع روسيا رحبة وواعدة ولا تـــزال، ومجالات التعاون مع إسرائيل كبيرة ومتنوعة ولا تــزال، كذلك مع إيران، وكانت بلغت مستوى متقدّماً جداً خلال سنوات العسل مع النظام السوري... لذلك لم يكن عسيراً على رجب طيب اردوغان أن يفرمل اندفاعاته السلطانية ليعكف على ترميم الصورة واستعادة المشهد السابق رغم كل المتغيّرات العميقة التي استجدّت عليه.
لم يتوقّع أحد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزّة من أجل التطبيع مع تركيا. فحتى العرب لم يطلبوا رفع هذا الحصار مقابل التطبيع بل وضعوه في اطار تسويةٍ شاملة لا أحد يدري إذا كانت ستتم يوماً. ولو أُخذ في الاعتبار أن المصالح الرئيسية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثّر بتداعيات حادث سفينة «مافي مرمرة»، بل إن جانبها التجاري شهد نمواً، فإن الحلول الوسط كانت متوافرة في انتظار الظرف السياسي الملائم. راح هذا الظرف يتبلور بعد أسابيع قليلة من تفجّر العداء الروسي لتركيا والعقوبات التجارية والسياحية التي فرضتها موسكو غداة إسقاط الـ «سوخوي 24»، فأعادت أنقرة تنشيط القناتين الإيرانية والإسرائيلية، الأولى لتجديد الفصل بين التعاون التجاري والخلافات السياسية وخصوصاً لحاجتها الى ضمان استمرار التزوّد بالطاقة بعد خسارة المصدر الروسي، والثانية لحل الخلاف القائم في شأن غزة لكن أيضاً للمساهمة في استثمارات الغاز الإسرائيلي.
استشعرت إيران كما إسرائيل أن اردوغان بات مستعدّاً للنزول عن الشجرة، لكن طهران لم تشأ أن تساعده بل كانت مرتاحة الى أن المسار الذي اتخذته روسيا من شأنه أن يضعف تركيا ويشطبها من المعادلة الإقليمية، أما بنيامين نتانياهو فوجد الوقت مناسباً لانتزاع تسوية لمصلحته لكنه لعب ورقة المصالحة مع اردوغان على الطاولة الروسية واستطاع من جهة إقناع فلاديمير بوتين باجتذاب تركيا الى دور مختلف في المسألة السورية، ومن جهة اخرى إقناع اردوغان بالتنازل لروسيا كي يحافظ على دور تركي موازٍ للدور الإيراني في سورية. قبل أكثر من شهرين بدأت مصادر تركيا وإسرائيل تؤكد توصّلهما الى اتفاق، وتردّد مراراً أن توقيعه وشيك، ثم تبيّن أن اعتراض موسكو هو ما أخّره، خصوصاً أنها وإسرائيل كانتا في صدد تطوير تنسيقهما العسكري في شأن سورية.
كان الإعلان في يوم واحد عن ذلك الاتفاق، وعن رسالة اردوغان الاعتذارية الى بوتين، رسالة بالغة الدلالة الى واشنطن، تحديداً الى باراك اوباما. فالأخير كان أنجز خطوة أولى عندما أقنع نتانياهو (أواخر آذار- مارس 2013) بمهاتفة اردوغان لإحاطته بـ «أسف - اعتذار» إسرائيل وإبداء الاستعداد لحل الخلاف. لكن اوباما الذي بدأ هذه المبادرة بـ «دوافع استراتيجية» اميركية لم يستطع إكمالها لانتفاء أي استراتيجية لديه، فتولّى بوتين إنجازها للدوافع نفسها، لكن لمصلحة استراتيجية روسية. صحيح أنه يمكن المجادلة بأن مجمل ما حصل لا يخرج عملياً عن إطار المعادلة الإقليمية التي تريد اميركا هندستها قبيل «مغادرتها» المنطقة. غير أن طريقة بوتين في ممارسته «القيادة» لا تنفكّ تكشف تراجع نفوذ اميركا وتقضم من «هيبتها».
لا شك في أن الخذلان الاميركي هو ما دفع تركيا باتجاه محور روسيا - إسرائيل. كانت أنقرة نسّقت مع واشنطن مقاربتها للأزمة السورية وقطيعتها مع نظام بشار الأسد، ومثلها فعلت الدول العربية الداعمة للمعارضة، وطوال الأعوام الخمسة تعرّف العرب والأتراك الى سياسة اميركية بوجوه متعددة وخطاب تضليلي منعدم الرؤية ودعم كاذب لقضية الشعب السوري. وفي أزمتها مع روسيا لمست تركيا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي غير معنيين بدعمها، وهو الموقف نفسه الذي أدركته السعودية ودول خليجية أخرى عندما بلورت مع تركيا صيغة مبادرة للمشاركة في محاربة الإرهاب، اذ فضّلت واشنطن التعاون مع ميليشيا كردية ومجموعات مسلحة متفرقة رغم علمها بأنها تثير مخاوف تركية بعبثها بالورقة الكردية وبأنها تطلق رسائل خاطئة في ما يتعلّق بالحرب على تنظيم «داعش».
اتسم اللقاء الأول، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، باستعداد للتعاون في سورية، وبأنهما لا يختلفان حول تعريف الإرهاب. كيف ذلك وموسكو انفتحت على الأكراد وتنسّق معهم، فيما تسمّي أنقرة الإرهاب «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) أولاً، ثم فرعه السوري «بي يي دي» (حزب الاتحاد الديموقراطي) ثم «داعش». فالأخير لا يهدد الكيان التركي ومصيره الى الزوال مهما طالت الحرب عليه، أما الخطر الكردي فيمثّل الخطر كل الخطر لتركيا، وبات مقلقاً لطهران مع بروز بنيته العسكرية في المناطق الكردية وذهاب إيران في مواجهاتها مع «البيشمركة» المحلية الى حدّ قصف مناطق حدودية في كردستان العراق. أقلّ ما يمكن أن يهدّئ هواجس أنقرة أن تحصل على «ضمانات» روسية لمنع أكراد سورية من إقامة اقليمهم الخاص، وهو ما لم تتمكّن من انتزاعه من اميركا رغم عراقة العلاقة وعمقها بينهما. قد يستجيب الروس، صدقاً أو كذباً، لكنهم سيطلبون ثمناً لذلك.
فجأة، وبلا مقدّمات، أعلنت إيران بلسان المرشد أنها رفضت عروضاً اميركية للتنسيق في شأن سورية، وكانت طهران طمحت دائماً الى تنسيق كهذا لكن بشروطٍ ليس أولها وأهمّها بقاء الأسد في الحكم كما قد يتبادر الى الأذهان، بل ضمان استمرار وجودها المباشر (وعبر «حزب الله» وسائر الميليشيات) لحماية ما تدّعيه من «مصالح». لذلك تفضّل طهران مع موسكو وإنْ كانت تفرض عليها تعايشاً مزعجاً مع الوجود الروسي في سورية. في المقابل، يحاول اردوغان وأركان حكومته فتح تطبيع العلاقة مع روسيا على أفق «حل» للأزمة السورية. ولأن الخيارات التركية محدودة، بسبب الممنوعات الاميركية والروسية، وحتى الإسرائيلية والإيرانية، التي اختبرتها تباعاً، فإن أنقرة قد تكتفي بأي ضمان لكبح الاندفاعات الكردية كي تقول وداعاً لسياسة ظلّ «رحيل الأسد» و «إزالة نظامه» عنوانها المعلن والمبطن. أما العنوان الجديد - «الواقعية» - فباتت تحدّده المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه في انتظار ايجاد بديل منه. لكن التبشير بـ «الحل» مرفقاً باستعداد غير واقعي وغير عملي لتوطين اللاجئين السوريين وتجنيسهم، فيعني أن هذا الحل لا يزال بعيداً.
كثيراً ما لعبت ايران الدور الأبرز في اثارة القلائل في المناطق العربية، من خلال اختلاق الحروب و زرع الميلشيات و دعم الأنظمة الاستبدادية و التحالف مع كافة شياطين الأرض، بغية تدمير الدول العربية، التي لا تربطها معهم إلا حالة تعرف بـ"انتقام حضاري" تم اسباغها السبغة دينية حتى تلقى التبجيل و الحقد اللازمين لضمان الاستمرار بها حتى الرمق الأخير.
و لكن في الوقت ذاته لم نشهد من أي دولة عربية استغلالها لتركيبة ايران التي تهددها بالانهيار و التفتت في صورة تشكل انتقاماً حقيقاً من دولة لم ترع أي شيء إيجابي في المنطقة بل كانت اللاعب الأبرز و الأقذر في خلق بؤر و منظمات إرهابية، ترسل الموت لكل المنطقة باستثنائها.
اليوم ايران تقف على شفا انفجارات قد تكون دفينة من ناحية الظهور الإعلامي، و لكنه فعلية و واقعية ، و تشبه سيلان الحمم الصادر من عدة براكين ،التي تأتي بطيئة بعض الشيء لكنها حارقة و مدمرة.
و لعل أبرز البراكين يأتي البركان "الكردي" الذي عاد للثوران من جديد مع تحسن أوضاع نظرائهم "الأكراد" في العراق الذي باتوا اقليماً مستقلاً شبيه بدولة متكاملة، فيما يقف الأكراد السوريين على أعتاب فيدرالية ، صحيح أنها من النوع الغريب و الغير متوازن أو ضامن الاستمرار، ويشعر ( الأكراد الايرانيون) بنوع من الحسرة فقد كانوا سباقين لنظرائهم و كانوا أول من أعلن دولتهم في "مهباد" عام ١٩٤٦ التي لقيت دعماً روسياً مؤقتاً استمر لقرابة العام إلا شهر ، لتنهار الدولة الكردية الأولى و يعدم رئيسها القاضي محمد، و اليوم النشاط الكردي تصاعد ووصل لحد الاشتباك من جديد بعد سنوات من الهدوء سبقتها قرابة ربع قرن من الحروب في الجبال الفاصلة بين ايران و العراق، انتهت حينها بنصر إيراني وأدت خلاله الحلم الكردي بالعودة للظهور مجدداً.
التقارير و التصريحات و القصف الذي بدأته ايران في الأسابيع القليلة الماضية، ينذر بأن الامور التي تجري على تلك الساحة غاية في الخطورة ، ووصلت حد لا مكان لاثنين، فإما نظام الملالي ينتصر و يواصل خنق كافة المكونات ، إما ينجح الاكراد في تكرار التجربة الأصل، حيث يقال أنها المنطقة التي ينتمي إليها أكراد المنطقة و شردوا منها بفعل الشاه و من ثم نظام الملالي.
أما البركان الثاني الذي لا يقل أهمية عن ذلك "الكردي"، فهم العرب الأحوازيون الذين لازالوا يدينون لعروبتهم و اسلامهم السني في غالبيتهم، و يعانون من الاضطهاد ما يفوق الشرح أو الوصف، و ظهور نضالهم المسلح للسطح منذ فترة عبرة جيش العدل، يدل على أنهم قرروا المواجهة .
بالإضافة إلى ذلك كله ، يوجد داخل المجتمع الفارسي الايراني وحتى الشيعي حالة من التملل و إضافة لظهور أجيال حالية ، والتي تشكل نسبة عالية من الشعب الايراني تعتبر أجيال ما بعد الثورة ، فهي لم تعاصر الشاه لتبغضه ، و لم ترى من الملالي إلا القمع و الاستبداد، و هي قنبلة بدأت بالظهور وتهديد أمن و سيطرة ، و ما حدث في أصفهان قبل أيام و خروجهم في مظاهرة رفضاً للتدخل الايراني في سوريا، ليس حالة عابرة ، إذ حالة التفلت الخلقي و عدم الانضباط داخل شوارع ايران التي غاب عنها اللباس المحافظ و بات نادراً بعد تأثر الجيل الجديد بالثقافات الغربية التي كشفت زيف الأحاديث التي يخوض بها المراجع الشيعية الهادفة لإخضاع العقول لمندوب "الله " على الأرض.
ففي ظل هكذا ظروف يقف العرب اكثر المتضررين من النشاط الايراني المؤذي و المضر و الذي وصل في سوريا و العراق إلى حد الإبادة و الاحتلال، يقف العرب متفرجين و مكتفين بتصريحات لا تغن و لا تسمن من جوع، رغم يقينهم التام أن ايران لن تهدأ أو تكف عن أفعالها الإرهابية ، مالم تنشغل بمشاكلها الداخلية.
و يبقى السؤال يبقى العرب متفرجين ، منتظرين هلاكهم !؟
اكثر من عشرة ملايين يناضلون من اجل حكم ذاتي كردي منذ عقود طويلة
وكانت لهم دولتهم جمهورية مهاباد الديموقراطية عام 1946 وكانت مدعومة سوفياتيا وتم افشالها بعد 11 شهراً واعدام القاضي محمد.
الان
نشاط مسلح كردي يتصاعد وصل حد الاشتباك و القصف العابر للعراق
حركة تحرير الاحواز العربية التي خرج منها جيش العدل و حركة التحرير الوطني الاحوازي
والمظاهرات التي
تململ داخل الطائفة و مظاهرات اصفهان في يوم القدس ضد تورط الملالي في سوريا
الذين يتحدثون عن قرب هزيمة "داعش" عليهم أن يعيدوا حساباتهم لأن التنظيم الإرهابي كثّف في الأسابيع الأخيرة من عملياته الإنتحارية العابرة للحدود، في سياق تصاعدي يمكن إعتباره حرباً خارجية تضرب بطريقة متتابعة في أكثر من جبهة وبلد، لهذا يمكن القول ان "داعش" بدأ حربه العالمية.
من منطقة الرقبان على الحدود الأردنية الى بلدة القاع اللبنانية، الى مطار أتاتورك في اسطنبول، الى دكا في بنغلادش، الى منطقة الكرادة في العراق، ثم الى القطيف حيث نجا مسجد شيعي من كارثة، فجدة حيث نجت القنصلية الأميركية، فالمدينة المنورة التي نجت ايضاً من مذبحة بربرية لو تمكن الإنتحاريون من الوصول الى حشود المصلين في هذه الأيام المباركة عشية عيد الفطر.
في القاع كان التتابع في الإنتحاريين وفي السعودية كان في العمليات، وكما تمكنت القاع من إحباط الدواعش تمكن رجال الأمن في السعودية من إحباط خطط الإنتحاريين، لكن هذا لا يحجب مدى إرتفاع نسبة الخطر والإجرام التي وصلت اليها عمليات "داعش"، الذي يبدو أنه قادر على الضرب في عشرات الدول من الولايات المتحدة الى بنغلادش مروراً بالدول الأوروبية وصولاً الى دول المنطقة، وهو ما يطرح السؤال هل إقتربت نهاية "داعش"؟
السؤآل الأهم : ماذ سيفعل اولئك الذين إستولدوا "داعش"، من مذهبية المالكي في الأنبار قبل إنسحاب الأميركيين وبعده، الى كيميائيات الأسد في الغوطتين، وماذا سيفعل الذين رعوا "داعش" وحضنوه ودربوا رجاله وسلّحوهم ثم هرّبوهم الى سوريا والعراق عبر حسابات السلطنة الأردوغانية؟
وماذا أيضاً سيفعل الذين تفرجوا طويلاً على الوحش ينمو ويكبر، سواء عبر الإستمتاع الأوبامي بفخار إسلامي يكسّر بعضه بعضاً بين سنة وشيعة، وسواء عبر الإصرار البوتيني على حماية النظام السوري والبطش بالمعارضة، بما سيعطي الداعشية مسوّغات سياسية تساعد شركة أردوغان للسفريات الإسلامية على إستقدام المزيد من الإنتحاريين، لتسرّ واشنطن وموسكو وتل ابيب وقد تحولت سوريا مصيدة دولية للإرهابيين؟
لم يكن أحد يتصوّر ان "داعش" سينصب المصائد الدموية من أورلاندو الى دكا ومن سرت الى تونس مروراً بباريس وبروكسيل وصولاً الى ذقن اردوغان، الذي يتحدث الآن عن التعاون مع روسيا لمحاربة "داعش" بعدما تحدث سابقاً عن تعاون مع أميركا للغرض عينه!
ولم يكن أحد يظن ان إنشاء تحالف دولي من ٦٤ دولة بقيادة أميركا سيكون ضحكاً على الذقون، بدليل ان "داعش" الذي زعموا أنهم يشنّون عليه حرباً دولية، هو الذي يشن عليهم هذه الحرب الإرهابية الدولية، التي طالما إستهدفت السعودية وقد سبق لها ان إنتصرت فيها، والتي تستهدف روح الإسلام عبر الجريمة المدوية حتى في المدينة المنورة... لهذا يبقى السؤال: من ينتصر العالم أم أبو بكر البغدادي؟
أدّت الأزمة السورية بتداعياتها ونكبة عددٍ من المخيمات الفلسطينية، وخاصة مخيم اليرموك، إلى خروج أعداٍ كبيرة من فلسطيني سورية من هذا البلد باتجاه هجرات جديدة عبر قوارب الموت، حيث يُشير مختلف المعطيات الموثقة، أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين المُسجلين في سجلات وكالة «أونروا» وصلت إلى نحو 560 ألف فلسطيني مع بداية العام 2016. لكن أعداداً لا بأس بها منهم باتت خارج البلد عبر عمليات النزوح والهجرة. ووصلت أعداد من خرجوا من سورية حتى أوائل شهر حزيران (يونيو) الماضي إلى نحو 235 ألف لاجئ فلسطيني يتوقع أن تتزايد أعدادهم مع المراحل التالية من لمِّ الشمل إلى البلاد التي وصلوها. وتقدر أعدادهم التفصيلية كما يلي وفق مكان الهجرة: الأردن نحو 15500 لاجئ فلسطيني سوري. لبنان نحو 42.500، مصر نحو 6 آلاف، تركيا نحو 8 آلاف، قطاع غزة نحو ألف لاجئ فلسطيني سوري، ونحو 120 ألفاً وصلوا إلى أوروبا، وتحديداً ألمانيا والسويد وهولندا والنمسا والدانمرك، إضافة إلى دول أخرى مثل بلغاريا ورومانيا وهنغاريا وروسيا. وبضعة آلاف وصلوا إلى ماليزيا واستراليا ونيوزلندا وكندا والولايات المتحدة والبرازيل.
الطامة الكبرى في أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية أنهم أصبحوا عملياً بلا مرجعية ملموسة، أو تراجعت أدوار المرجعية المُمثلة لهم في أحسن الأحوال، وتخلت مُعظم الفصائل والقوى الفلسطينية عن معظم مسؤولياتها المطلوبة تجاه اللاجئين الفلسطينيين في سورية، الذين يعيشون الآن أوضاعاً صعبة نتيجة الانعكاسات العامة للأزمة الطاحنة في سورية عليهم وعلى أحوالهم من جوانبها كافة.
لماذا وصلت الأمور إلى هذه الحال، وهل من الإنصاف أن تُهمَلَ أوضاع فلسطينيي سورية بهذا الشكل من قبل القوى والفصائل والجهات الرسمية الفلسطينية، وهم الذين كانوا على الدوام الخزان البشري الذي لا ينضب الذي زود تلك الفصائل والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية بآلاف المُنتسبين والأعضاء الذين سقطوا في ساحات العمل الوطني الفلسطيني؟
في حقيقة الأمر، وحتى لا نُتّهَم من بعض المُتسرعين بالبعد عن الموضوعية، وجلد الذات، أو التجني أو التحامل على مجموع القوى والفصائل الفلسطينية العاملة في الساحة السورية، فإننا نبدأ بالقول إن الحديث عن غياب دور القوى والفصائل والمنظمة، لا يعني البتة المساس بمنظمة التحرير الفلسطينية ومكانتها، ولا يعني شطب أو إنكار دورها الوطني والتاريخي، ولا يعني إجمال جميع فصائلها ووضعها في بوتقة واحدة من حيث الدور والمسؤولية، فهي منّا ونحن منها، والحديث عنها يأتي من موقع الحرص على دورها المنشود والمطلوب من الشارع الفلسطيني في سورية الذي بات يَصرخ كل يوم مُتسائلاً عن دور المنظمة وتلك القوى في هذه الفترة بالذات حيث يعيش فلسطينيو سورية لحظات حاسمة من تاريخ وجودهم الموقت فوق الأرض السورية، فيما القلق يساور كل فرد منهم، بعدما باتت الحالة الضبابية تُسيطر على أوضاعهم بشكلٍ عام، وهي تحمل مُؤشراتٍ مُخيفة على مستقبلهم في ظل تفاعلات الأزمة الداخلية السورية وتشظيها، ودخول مختلف الأطراف الإقليمية والدولية على خطوطها ومساراتها، وبأجندات مختلفة.
موطن الخلل في أوضاع الفلسطينيين في سورية أن مجموع القوى الفلسطينية العاملة في الوسط الفلسطيني في سورية (مُخيمات وتجمعات) وعددها خمسة عشر فصيلاً، لم تستطع حتى اللحظة توفير غطاء ومرجعية وطنية لعموم الفلسطينيين في سورية، لأسباب تتعلق بالخلافات والتباينات في صفوفها، وقصور رؤية بعضٍ منها لمسار الأحداث العاصفة التي ضَرَبَت وما زالت تَضرِبُ بمفاعيلها الحالة العربية من أقضاها إلى أقصاها.
وفي هذا السياق، فإن الموقف المسؤول من عدد كبير من الكوادر الفلسطينية السابقة في صفوف العمل الوطني الفلسطيني في سورية، ركز على ضرورة وضع كل الخلافات والتباينات والثأرات والأحقاد التاريخية والضغائن وتصفية الحسابات والعصبيات التنظيمية والتحريض والمواقف المسبقة بين مختلف القوى جانباً، من خلال الارتقاء والسمو بالوعي الوطني العام وإعمال العقل وصولاً إلى التوافق على عنوان واحد يتمثل في ضرورة العمل من أجل حماية وتوفير شبكة جيدة من الأمان لفلسطيني سورية، تَضمَن سلامتهم بالحدود المُمكنة، وتَضمَن توفير وزيادة منسوب الدعم المناسب والمُمكن للمحتاجين منهم وهم يصارعون مشقة العيش وشظفه بعد أن تعطلت سُبل العمل بأرباب أُسَر آلاف العائلات نتيجة الوضع القائم في البلاد.
ومن المفارقات الملحوظة أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة (أونروا) تفوّقت على دور القوى الفلسطينية من خلال برامج العمل التي بادرت إليها في الوسط الفلسطيني في سورية، وقد زار المفوض العام للوكالة (بيير كريهنبول) ممثلاً الأمين العام للأمم المتحدة أطراف مخيم اليرموك أوائل شهر أيار (مايو) الماضي لتفقد أوضاع الناس، وزار أيضاً بعض منشآت عمل الوكالة، وقام بجولة في عددٍ من مدارسها، كما تفقد بعض مراكز الإيواء الموقت للفلسطينيين الذين تركوا منازلهم بحثا عن الأمان.
لن يُعرف مدى التغيير في السياسات التركية في المدى القريب، وإنْ كان ما ظهر منه أخيراً يشير الى انعطاف كبير، بعضٌ منه يُفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة وأمن وتجارة، وبعضٌ آخر بضرورات الحفاظ على تركيا في المعادلة الاقليمية. ومع افتراض أن أنقرة كانت مبدئية مئة في المئة في مقاربتها لقضية الشعب السوري، وفي مطالبتها برفع الحصار عن غزة، وفي سعيها الى إيجاد توازن داخلي عراقي يخفف من وطأة الهيمنة الإيرانية الفاقعة، إلا أن طبيعة الاستقطابات الدولية في المنطقة لم تسعف تركيا كما لم تسعف العرب من قبلها. أكثر من أي قوة إقليمية أخرى وجدت تركيا نفسها محكومة بشروط لا تبدو إسرائيل أو إيران مكبّلة بها، ربما بسبب إرث تركي تاريخي انطبع بالسلبية وتبِعه قرنٌ من الانكفاء عن الشرق العربي، أو لأن ازدواجية تركيا بعلمانيتها وإسلاميتها أربكت عودتها الى ذلك الشرق بعدما كانت إسرائيل وأميركا أمعنتا في إحباطه، فيما قطعت إيران شوطاً في نخره بسوسة «تصدير الثورة» وعسكرة الشحن المذهبي.
المؤكّد أن المسألة السورية هي التي ستحدّد ملامح الوجه الآخر للسياسات التركية الجديدة. فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران مع إقرار الدولتين باستمرار خلافهما على سورية، ومع التلميح الى احتمال حصول خطوة باتجاه إصلاح العلاقة مع مصر، لم يبقَ أمام أنقـــرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بدمشـــق. قد تبدو هذه المبادرة صعبة لكنها لن تكون مستحيلة، إذا أمكن تركيا أن ترى الـــمصلحة وتلمسها. كانت آفاق التبادل مع روسيا رحبة وواعدة ولا تـــزال، ومجالات التعاون مع إسرائيل كبيرة ومتنوعة ولا تــزال، كذلك مع إيران، وكانت بلغت مستوى متقدّماً جداً خلال سنوات العسل مع النظام السوري... لذلك لم يكن عسيراً على رجب طيب اردوغان أن يفرمل اندفاعاته السلطانية ليعكف على ترميم الصورة واستعادة المشهد السابق رغم كل المتغيّرات العميقة التي استجدّت عليه.
لم يتوقّع أحد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزّة من أجل التطبيع مع تركيا. فحتى العرب لم يطلبوا رفع هذا الحصار مقابل التطبيع بل وضعوه في اطار تسويةٍ شاملة لا أحد يدري إذا كانت ستتم يوماً. ولو أُخذ في الاعتبار أن المصالح الرئيسية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثّر بتداعيات حادث سفينة «مافي مرمرة»، بل إن جانبها التجاري شهد نمواً، فإن الحلول الوسط كانت متوافرة في انتظار الظرف السياسي الملائم. راح هذا الظرف يتبلور بعد أسابيع قليلة من تفجّر العداء الروسي لتركيا والعقوبات التجارية والسياحية التي فرضتها موسكو غداة إسقاط الـ «سوخوي 24»، فأعادت أنقرة تنشيط القناتين الإيرانية والإسرائيلية، الأولى لتجديد الفصل بين التعاون التجاري والخلافات السياسية وخصوصاً لحاجتها الى ضمان استمرار التزوّد بالطاقة بعد خسارة المصدر الروسي، والثانية لحل الخلاف القائم في شأن غزة لكن أيضاً للمساهمة في استثمارات الغاز الإسرائيلي.
استشعرت إيران كما إسرائيل أن اردوغان بات مستعدّاً للنزول عن الشجرة، لكن طهران لم تشأ أن تساعده بل كانت مرتاحة الى أن المسار الذي اتخذته روسيا من شأنه أن يضعف تركيا ويشطبها من المعادلة الإقليمية، أما بنيامين نتانياهو فوجد الوقت مناسباً لانتزاع تسوية لمصلحته لكنه لعب ورقة المصالحة مع اردوغان على الطاولة الروسية واستطاع من جهة إقناع فلاديمير بوتين باجتذاب تركيا الى دور مختلف في المسألة السورية، ومن جهة اخرى إقناع اردوغان بالتنازل لروسيا كي يحافظ على دور تركي موازٍ للدور الإيراني في سورية. قبل أكثر من شهرين بدأت مصادر تركيا وإسرائيل تؤكد توصّلهما الى اتفاق، وتردّد مراراً أن توقيعه وشيك، ثم تبيّن أن اعتراض موسكو هو ما أخّره، خصوصاً أنها وإسرائيل كانتا في صدد تطوير تنسيقهما العسكري في شأن سورية.
كان الإعلان في يوم واحد عن ذلك الاتفاق، وعن رسالة اردوغان الاعتذارية الى بوتين، رسالة بالغة الدلالة الى واشنطن، تحديداً الى باراك اوباما. فالأخير كان أنجز خطوة أولى عندما أقنع نتانياهو (أواخر آذار- مارس 2013) بمهاتفة اردوغان لإحاطته بـ «أسف - اعتذار» إسرائيل وإبداء الاستعداد لحل الخلاف. لكن اوباما الذي بدأ هذه المبادرة بـ «دوافع استراتيجية» اميركية لم يستطع إكمالها لانتفاء أي استراتيجية لديه، فتولّى بوتين إنجازها للدوافع نفسها، لكن لمصلحة استراتيجية روسية. صحيح أنه يمكن المجادلة بأن مجمل ما حصل لا يخرج عملياً عن إطار المعادلة الإقليمية التي تريد اميركا هندستها قبيل «مغادرتها» المنطقة. غير أن طريقة بوتين في ممارسته «القيادة» لا تنفكّ تكشف تراجع نفوذ اميركا وتقضم من «هيبتها».
لا شك في أن الخذلان الاميركي هو ما دفع تركيا باتجاه محور روسيا - إسرائيل. كانت أنقرة نسّقت مع واشنطن مقاربتها للأزمة السورية وقطيعتها مع نظام بشار الأسد، ومثلها فعلت الدول العربية الداعمة للمعارضة، وطوال الأعوام الخمسة تعرّف العرب والأتراك الى سياسة اميركية بوجوه متعددة وخطاب تضليلي منعدم الرؤية ودعم كاذب لقضية الشعب السوري. وفي أزمتها مع روسيا لمست تركيا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي غير معنيين بدعمها، وهو الموقف نفسه الذي أدركته السعودية ودول خليجية أخرى عندما بلورت مع تركيا صيغة مبادرة للمشاركة في محاربة الإرهاب، اذ فضّلت واشنطن التعاون مع ميليشيا كردية ومجموعات مسلحة متفرقة رغم علمها بأنها تثير مخاوف تركية بعبثها بالورقة الكردية وبأنها تطلق رسائل خاطئة في ما يتعلّق بالحرب على تنظيم «داعش».
اتسم اللقاء الأول، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، باستعداد للتعاون في سورية، وبأنهما لا يختلفان حول تعريف الإرهاب. كيف ذلك وموسكو انفتحت على الأكراد وتنسّق معهم، فيما تسمّي أنقرة الإرهاب «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) أولاً، ثم فرعه السوري «بي يي دي» (حزب الاتحاد الديموقراطي) ثم «داعش». فالأخير لا يهدد الكيان التركي ومصيره الى الزوال مهما طالت الحرب عليه، أما الخطر الكردي فيمثّل الخطر كل الخطر لتركيا، وبات مقلقاً لطهران مع بروز بنيته العسكرية في المناطق الكردية وذهاب إيران في مواجهاتها مع «البيشمركة» المحلية الى حدّ قصف مناطق حدودية في كردستان العراق. أقلّ ما يمكن أن يهدّئ هواجس أنقرة أن تحصل على «ضمانات» روسية لمنع أكراد سورية من إقامة اقليمهم الخاص، وهو ما لم تتمكّن من انتزاعه من اميركا رغم عراقة العلاقة وعمقها بينهما. قد يستجيب الروس، صدقاً أو كذباً، لكنهم سيطلبون ثمناً لذلك.
فجأة، وبلا مقدّمات، أعلنت إيران بلسان المرشد أنها رفضت عروضاً اميركية للتنسيق في شأن سورية، وكانت طهران طمحت دائماً الى تنسيق كهذا لكن بشروطٍ ليس أولها وأهمّها بقاء الأسد في الحكم كما قد يتبادر الى الأذهان، بل ضمان استمرار وجودها المباشر (وعبر «حزب الله» وسائر الميليشيات) لحماية ما تدّعيه من «مصالح». لذلك تفضّل طهران مع موسكو وإنْ كانت تفرض عليها تعايشاً مزعجاً مع الوجود الروسي في سورية. في المقابل، يحاول اردوغان وأركان حكومته فتح تطبيع العلاقة مع روسيا على أفق «حل» للأزمة السورية. ولأن الخيارات التركية محدودة، بسبب الممنوعات الاميركية والروسية، وحتى الإسرائيلية والإيرانية، التي اختبرتها تباعاً، فإن أنقرة قد تكتفي بأي ضمان لكبح الاندفاعات الكردية كي تقول وداعاً لسياسة ظلّ «رحيل الأسد» و «إزالة نظامه» عنوانها المعلن والمبطن. أما العنوان الجديد - «الواقعية» - فباتت تحدّده المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه في انتظار ايجاد بديل منه. لكن التبشير بـ «الحل» مرفقاً باستعداد غير واقعي وغير عملي لتوطين اللاجئين السوريين وتجنيسهم، فيعني أن هذا الحل لا يزال بعيداً.
لم تكن التوبة الأردوغانية المضاعفة التي بدأت بتهنئة الرئيس التركي نظيره الروسي فلاديمير بوتين بعيد روسيا الوطني، وتبعتها بعد يومين رسالة اعتذار (متأخرة في توقيتها) عن إسقاط الدفاع الجوي التركي طائرة سوخوي روسية في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت كانت في مهمة استطلاعية على الحدود السورية الشمالية، ضرباً من معجزة أو من تداعيات الحرب السورية التي تدور برحاها الثقيل فوق دول المنطقة من دون استثناء. فالتوبة التي سبقت الآنفة الذكر جاءت على شكل لقاء وفد ديبلومسي تركي عالي المستوى مع نظير اسرائيلي له في العاصمة الإيطالية، بحضور عرّاب المصالحة بين اسطنبول وتل أبيب السيد جون كيري وزير الخارجية الأميركية، وتلتها عملية تطبيع بين البلدين، سريعة ومشروطة. وبالطبع ابتلعت أنقرة، وعلى مضض شديد، الشرط الإسرائيلي لإتمام عودة العلاقات بضرورة أن تتنازل أنقرة عن طلبها فك الحصار عن غزة.
مما لا ريب فيه أن الرئيس التركي أردوغان طرح على نفسه ودائرته المقرّبة العديد من الأسئلة قبل الدخول في متلازمة تلك التوبات، وقد تكون تلك الأسئلة ما فتح ثغرات للأكسجين في مضائق السياسة الخارجية التركية، والتي ستؤدي إلى تحولات كبرى في مسارها الإقليمي ما بعد حرب الجميع على الأرض السورية. ومما لا ريب فيه أيضاً أن التوتر الروسي التركي من أهم الملفات المعقّدة التي وجدت جواباً اسعافياً ضمن مروحة تلك الأسئلة الصعبة التي آن لحكومة أنقرة مواجهتها.
فأردوغان أصبح يدرك تماماً مدى التأثير الروسي في تصديع علاقات بلاده بالعراق وإيران فيما تحتاج إلى مسكنات لآلام الرأس التي يسببها حزب الاتحاد الديموقراطي على الحدود مع سورية، وكذلك حزب العمال الكردستاني متجاوزاً أزمات الحدود إلى توتير الداخل التركي. أما عن اليد الروسية الطولى في سورية فحدّث ولا حرج عن النرفزة التركية من السيطرة الجوية الروسية على حدودها الطويلة مع سورية والذي اقتضى انكماشاً في الإمداد اللوجستي في المناطق الحدودية، ناهيك عن توقف النشاط الجوي التركي غرب نهر الفرات في شكل شبه كامل.
ومن نافلة القول إن أردوغان غسل يديه من التجاوب الأوروبي مع نهجه في ما يتعلق باللاجئين السوريين، وكذا من تفهّم الولايات المتحدة لأم المشكلات بالنسبة إلى واشنطن، والمتعلقة بإرادة أنقرة ضبط الحدود ومنع تسلل المقاتلين الأجانب عبر أراضيها، وفي الاتجاهين. وجاء التسليح الأميركي والتغطية الجوية والدعم الاستشاري لقوات سورية الديموقراطية مباشرة من وزارة الدفاع الأميركية، وهي القوات التي 80 في المئة منها كرد ونسبة ضئيلة جداً من المكونين العربي والتركماني، ناهيك عن الإنجازات التي حققتها تلك القوات. وجاء الدعم الأميركي غير المسبوق لفصيل من فصائل المعارضة السورية ليعطي إشارة إنذار واضحة وقوية لحكومة أنقرة.
انتاب أردوغان إحساس عميق بأنه على طريقه لأن يدفع أثمان الاحتكاك الروسي الأميركي غير المعلن في سورية فاختار أرخص الأثمان وهو تقديم الاعتذار لموسكو وفك طوق الحصار السياسي والديبلوماسي والاقتصادي الروسي على بلاده بانتظار أن يتضح الموقف الأميركي مع انتخاب رئيس أو رئيسة جديدة للولايات المتحدة تخلف باراك أوباما. وكانت وكالة أنباء «الأناضول» التركية شبه الرسمية قد نقلت عن لسان أردوغان قبيل أيام من تطبيع العلاقات الروسية التركية قوله: «هناك مشروع خطير يُنفّذ جنوب بلادنا، ومع الأسف تقف وراء تنفيذه أطراف تظهر أنها صديقة لنا».
في ضوء هذه الانعطافة التركية الكبرى باتجاه الجار الروسي، وفي أجواء التنحّي الأميركي عن مواقع شغلتها الولايات المتحدة لعقود، يقفز رأس النظام السوري على شاشة تلفزيون اس بي اس الأسترالي ليقول: «ليست لدينا مشكلة مع الولايات المتحدة، إنها ليست عدوتنا ولا تحتل أرضنا، لدينا خلافات معها»، ويتابع: «لكن في أوقات مختلفة وخلال أحداث وظروف مختلفة تعاونّا مع الولايات المتحدة». فهل وقعت تركيا فعلاً في فخ توافق روسي أميركي مضمر على مخارج الأزمة السورية كما تراها الدولتان العظميان بعيداً من مصالح الشعب السوري المنتفض عن بكرة أبيه، أو عن رؤية الدول الإقليمية التي دعمت الشعب السوري ومعارضته بسبل مختلفة ووفق الزاوية التي ارتأت بها تقديم الدعم إنسانياً كان أو حربياً أو سياسياً؟ وهل موازاةً مع التهدئة المفتعلة لجبهات حلب، والقابلة للانفجار في أية لحظة، تُنفّذ خطة أميركية متقنة وخبيثة، برضا روسي، تهدف إلى ترك الوضع معلقاً في تلك المدينة المنحنية على جرحها العظيم، وذلك لتهيئة الأرضية اللازمة كما يراها الرئيسان بوتين وأوباما للمحادثات المقبلة في جنيف، والتي اعتمد موعد الإعلان عنها، كما صرّح المبعوث الدولي ديمستورا، «على الاتفاق الجديد بين روسيا والولايات المتحدة في شأن تفاصيل الحوار في جنيف»، مبدياً أسفه «لعدم سير اتفاق وقف الأعمال العدائية كما يجب في حلب وإدلب».
في فوضى هذا التلاطم السياسي والإعلامي، وسرعة تبادل الطرابيش وأحياناً الأقنعة بل المسدسات بين اللاعبين الكبار، تسري إشاعات عن وساطة جزائرية رفيعة المستوى لكسر الجليد بين أنقرة ودمشق! وبانتظار تأكيد أو نفي هذه الإشاعات يقف السوريُّ مشدوهاً، حافي القدمين وحاسر الرأس، يترقّب بحسرةٍ ما فات وبتوجّسٍ ما سيأتي من ضربات قدر يقرع الباب.
أقلب تصريحات أمريكا و فرنسا و أمر على رسالة ستيفان دي مستورا، مع التعريج على الاستهزاء الروسي بالجميع، لأصل إلى كم الجثامين المضرجة بالدماء و العيون الملآى بالألم و الرعب و الخوف ، لأتساءل أي حال وصلنا إليه ، و أي عالم "قذر" اجتمع على الشعب السوري و قرر إنهاءه بدون أي يرمش له جفن..
أتلقف أخبار الجبهات و لاسيما حلب ، لأرى حجم القهر الذي يملئ حروف الناشطين ، مدى الحنق الذي يسيطر على أصواتهم و هم يشرحون الحال و ما يتعرض له الثوار في مواجهة العالم بأجمعه ، داخل رقعة جغرافية لا تتجاوز بضع الكيلومترات تحوي من الجحيم و الحقد ما يكفي لتدمير نصف الكرة الأرضية ، ورغم ذلك لازال هناك من يقاوم ، و يدافع بجسد مرهق و بسلاح مهترئ.
قد يكون ما يحدث هو موجبات الاتفاق الأمريكي – الروسي الذي يتطلب رعبوناً يتمثل بإدخال حلب داخل دائرة الحصار و تحويلها لجزيرة تضربها كل الأمواج لتنهي ثورتها ، و تكون بداية للانطلاق بالتنفيذ الفعلي لمخطط قذر يضمن حقوق الجميع باستثناء السوريين.
أمريكا تركب موجة "القلق" و تعيد رسائلها "الخبيثة" لروسيا للمطالبة بالضغط على الأسد لوقف الحملة ، في حين أن من يجوب الأجواء هو الطيران الروسي ، وطبعاً غير مرئي و غير معروف فهو في خانة المجهول ، في حين أن أي كلام أو حديث عن داعش يكون بحكم القضية المقضية كخبر اليوم حول عمليات بيع السبايا عبر "الواتس آب" فهو من اليقين ما يكفي لإلغاء كل شيء يحدث في سوريا.
ودعت اليوم حلب ثلة كبيرة من ثوارها على أعتاب المجد ، غير ملامين أو متهمين بأي شيء ، فيكفي أنهم كانوا قادرين على مواجهة أكبر قوى العالم و المنطقة وحيدين ، في حين يقبع العرب في هذا الوقت للتجهيز لحرب الإرهاب المطلوب كداعش و أخوتها، فهم من الخطورة بمكان يلغي كل إرهاب العالم، متناسين أن داعش مهما عتت لن يكون لديها من الجيوش ما ترعب ، و لكن قرروا الاستكانة بانتظار مد يقترب من أعناقهم ليلقيهم في درك قد تكون جهنم رحيمة أكثر منه .
حلب اليوم تذبح ببرودة مع قهقهات "قذرة" من الجميع ابتداء بالقريبين و مدعي الصداقة قبل الأعداء الظاهرين، و لكن لحلب العزاء بوجود أبطالها ، الذين حتماً لن يتراجعوا و إن وهنوا مؤقتاً، و لكن لكل من تخاذل لن يكون هناك له عودة ، فهذه ليست بكبوة و إنما "موتة" حقيقية و إن بقي نفس شكلي يصعد تارة و يضل طريقه في الهبوط.
قفز إلى المخيلة مشهد مستقبلي على شاكلة أفلام "الخيال الجامح"، الرئيس الأمريكي باراك أوباما و هو واقف أمام الكونغرس ليقول "أنا أسف و اعتذر كثيراً من السوريين لأنني لم أنتزع الأسد "، بعد أن توصل تحقيق ضخم أن استمرا الأسد في الحكم طوال هذه المدة و بعد كل تلك المجازر تسبب بانفجار العالم وانتشار الموت فيه و بأعنف الأشكال.
مشهد قد يكون غير واقعي و هزلي، و لكنه من الممكن أن يحدث ، و حتى حدوثه لن يفيد و لن يدمل الجرح و لن يوقف آثاره الكارثية على العالم ، كما هو الحاصل الآن نتيجة حرب العراق في عام ٢٠٠٣.
اليوم وقف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مطأطئ الرأس أمام شعبه ، باحثاً عن تبرير لحربه على العراق و تدميرها و تسليمها على طبق ذهبي لشرذمة من عبيد السياسة التابعين عقائديا و تفكيراً و منهجياً لإيران و منها انطلق إلى العالم الموجة التي لم يعرف لها حل حتى الآن "داعش"، و اكتفى بالقول "المعلومات الاستخبارية كانت خاطئة، أعبر عن الأسى والأسف والاعتذار أكبر مما تتخيلون"، الخيال في قدر الاعتذار يبدو طويلاً مع ملايين القتلى و الجرحى و المشردين، الأهم غياب الوطن "أرض – شعب – سلطة" ، و تحوله لساحة رحبة للعبث بحياة الناس و المشاركة في أذية الجميع، عبر أفواج الميلشيات الطائفية التي تهدد المنطقة بقنبلة تفوق تلك الذرية.
اليوم المشهد العراقي يتكرر في سوريا و بآلية أعنف و أشد وطأة، و ينذر بمستقبل من السوداوية ما يجعل السيناريو العراقي عبارة عن راية ناصعة من البياض ، ويقف خليفة " بلير"، ديفيد كاميرون موقف المتفرج أو لاعب الخفة لإخفائه عن شعبه ، و لكن هذا الاخفاء لن يكون له من الدوام الكثير فستظهر النتائج سريعاً عندما تنفجر القنبلة العنقودية في سوريا لتطال كل من تخاذل عن انهاء العقدة السورية أو تباطئ بها.
و بلير شريك الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ، و غداً ( أي بعد سنوات قد تكون في عام ٢٠٢٥) ، سيكون باراك أوباما في نفس موقف بلير، و قد نسمع منه كلمة اعتذارية عن يوم ٣١-٨-٢٠١٣ الذي قرر فيه التراجع عن ضرب الأسد بعد تجاوزه الخط الأحمر واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد الشعب السوري، و قد يجد أوباما مبرراً أنه لو أسقط الأسد في ذلك الزمان لتكرر سيناريو العراق مستشهداً بالتقرير البريطاني اليوم.
و لكن أغلب الظن أن المشهد العراقي هو نسخة مصغرة جداً عن نتائج استمرار الأسد في الحكم و القتل ، وما تحمله سوريا في جعبتها من مفاجأت سواء على صعيد تنامي العدائية ليس ضد الغرب فحسب بل ضد العالم بأسره، و ستجد هذه العدائية من الرواد الكثير ، فالمكلوم و المقهور و الأهم المحارب بـ"تطرف قذر" تقوده ايران، لم يجد من يساعده أو يخفف عنه فحسب بل وقف العالم مسانداً للقتلة، هذه الظروف ستولد أجيالاً من المعبأين و المجهزين للانفجار بوجه الجميع أينما حلوا و كيفما ارتحلوا.