حينما طُرحت المبادرة العربية الخاصة بنقل السلطة في سورية مطلع 2012، لم تكن التنظيمات الإرهابية ظهرت فعلياً بعد، حيث لم يتعدّ عمر الجيش الحر، الجهة الوحيدة المسلحة، بضعة شهور. آنذاك، بلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين نحو ربع قاطني مخيم الزعتري حالياً. وقتها، ثارت ثائرة غالبية أطراف المعارضة والمنصات الداعمة للحراك في الداخل، معتبرةً تلك المبادرة استسلامية كونها توفر مخرجاً آمناً لرأس النظام ورموزه. واليوم، يُطل أصحاب عقلية «كل شيء أو لا شيء» أولئك من وراء قرابة 12 مليون لاجئ ونازح، معظمهم سنّة، ووسط غبار المعارك التي تخاض في سورية على طريقة «الكرة الشاملة»، بينما تترسخ أكثر فأكثر حقيقة «فلسطنة» القضية السورية.
تبين جلياً بعد كل تلك الأحداث، أن الخاسر الأكبر مما جرى ويجري هو ما يمكن تسميته «المجتمع السني» في سورية، الذي يراد له أن يتفكك ويتحول إلى تجمعات متفرقة في الداخل ومتوطنة في الخارج.
وإن كانت عمليات التطهير والتهجير الممنهج ومسح قرىً وأحياء من الوجود وحرق سجلات النفوس والعقارات، تكتيكات معروفة لمثل هذه النوايا، فإن كل ذلك حدث ضمن استراتيجية حرب طويلة الأمد، أراد النظام أن يشارك فيها الخارج، لا يظهر أن معسكر المعارضة تحضّر لها.
ومن هنا، يمكن فهم لماذا كافح الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق مع الأردن لتبسيط قواعد المنشأ أمام الصادرات الأردنية مقابل أن يكون ما لا يقل عن 15 في المئة من إجمالي القوى العاملة في المصانع الراغبة في التصدير من السوريين، وما الذي يرام من التعهدات بتشغيل نحو 200 ألف لاجئ هناك على مدى ثلاثة أعوام (لاحظوا المدة) نظير مساعدات إلى المملكة. ومن هنا أيضاً، يكون تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الصادر قبل شهور، والذي تحدث عن ضرورة «إدماج» اللاجئين السوريين في لبنان، أكثر من بوحٍ غير مقصود لمكنونات صدور أولي الأمر.
وتروّج أطراف في المعارضة السورية، «تشتغل» عند الأتراك، منذ عام ونصف العام لخيار التوطين، تارةً ببحثه في دراسات مكثفة خلصت عمداً إلى أن السوريين في تركيا لا ينوون العودة إلى بلادهم حتى لو استقرت الأمور، وتارةً أخرى بطرحه للنقاش الإعلامي على رغم أنه لم يكن متداولاً.
وعليه، لم يكن مستغرباً أن يصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيراً، بنيته منح حقوق المواطنة إلى النخبة السورية، وهو الذي عمل على التخلّص من غير المرغوب فيهم بشحنهم إلى أوروبا، بمساعدة مستترة من «سوريي اسطنبول». الأوروبيون بدورهم لم يألوا جهداً لسن قوانين تغري حتى من كان يملك عملاً داخل سورية أو في دول الجوار على بيع ممتلكاته وركوب البحر على أمل تخليص أولاده الذين سينشأون هناك من «وصمة» الجنسية السورية إلى الأبد.
أما لماذا كل ما سبق، فلأن اللاعبين الدوليين والإقليميين ونظام دمشق يريدون إعادة رسم سورية من الداخل مستغلين ما بدأ في 2011 وما تلاه. ولأن الهندسة السكانية فيها لا تصح إلا بإعادة دمغرفة المجتمع السنّي، فإن العناد الطفولي للكثيرين من منظّري الثورة المصرّين حتى اللحظة على إكمال الطريق بالكيفية نقسها كأن الزمن لم يتحرك، فضلاً عن الارتزاق الفجائعي للكثير من الحركات السياسية والفصائل العسكرية المعارضة، هي بالتحديد ما يفرك النظام ومريدو ذلك المشروع الكبير أيديهم له. فما فشل فيه الأسد وأحجم عنه أيام «السلم» لانتفاء الذرائع، استثمره زمن «الحرب» أيما استثمار. فاستخدم تمدد الجهاديين لشرعنة سياسة الإفراغ، في حين توهمت المعارضة ومن معها أن غض النظر عنهم كفيل بجلب التدخل الغربي مخافة استلامهم السلطة. ويكفي، على سبيل المثل، أن مشروع «حلم حمص» الذي أُطلق رسمياً في 2010 قبل أن يتوارى اضطرارياً، حققه الأسد بربع المدة (5 أعوام بدلاً من 20) بفضل دم المعارضة المسلحة الحامي التي أصرت على قتاله حتى آخر مدني حمصي.
لقد أضحت الطبقة المتوسطة السنيّة في سورية (وليس برجوازيي المدن فقط) بقايا وفتات. وبات ممثلوها إما نازحين في مناطق لا تشكل كتلة بشرية متوحدة كبيرة متصلة بمثيلتها، ومن دون وظيفة مرموقة وتعليم، وهما مدماك تلك الطبقة على مدى عقود طويلة، أو لاجئين فقدوا أمل العودة معتاشين على المعونات بعدما كانوا عماد الكفاءات الأكاديمية والاقتصادية. هؤلاء شكلوا على الدوام العمود الفقري لسورية السياسة والاقتصاد والفكر التي عرفناها وقرأنا عنها. وبالتالي، فإن غيابهم يعني أن علينا توقع سورية جديدة من دونهم، اللهم إلا إذا بقي للمنطق مكان ونظر المكابرون إلى الصورة الكبيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والكف عن عبثية خيار شمشون لأن المعبد هنا سيهدم فوق رؤوسهم فحسب.
لم ينتهج النظام السوري فقط طريق القوة المتوحّشة وغير المسبوقة في محاولاته تقويض ثورة السوريين، فهو انتهج معها أيضاً استراتيجيات عدة، بالتعاون مع حليفتيه روسيا وإيران (والميلشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية المرتبطة بها).
بداية اشتغل النظام على ضرب مصداقية الثورة بادعاء أنها مؤامرة تقف وراءها جماعات إرهابية، تتحرّك وفقاً لنوازع طائفية ودينية، مدعومة من الخارج، محاولاً في ذلك التقليل من شرعيتها الوطنية والسياسية، متجاهلاً حق السوريين بالانتقال إلى دولة ديموقراطية، ودولة مواطنين أحرار، وفقاً لشعارها الأول: «الشعب السوري واحد». واضح أن النظام استغل غياب مركز قيادي للثورة، واضطراب خطاباتها، وهذا بديهي، إلا أن اللافت أن بعض مكونات المعارضة، لا سيما العسكرية، لم تدرك مغزى هذه الاستراتيجية، بل إنها خدمت النظام، وأسهمت في ترويج روايته، بذهابها نحو الخطاب الديني على حساب الخطاب الوطني، وبانجرارها نحو العصبية الطائفية، ما أضعف صدقية هذه الثورة إزاء شعبها، وإزاء العالم. هذا أولاً.
ثانياً: سهّل النظام عملية قيام جماعات «إسلامية» عسكرية معارضة، من دون أن يعني ذلك أنه أنشأها، وضمن ذلك سهّل صعود «داعش» من العراق إلى سورية، بالتواطؤ مع العراق وإيران. وقد شهدنا أن هذا التنظيم لم يستهدف قوات النظام بربع ما استهدف به «الجيش الحر»، وأنه قضم من الأراضي التي سيطر عليها هذا الأخير، من الرقة ودير الزور إلى إدلب وحلب. كما شهدنا أن هذا التنظيم يتحرك بأمان، وفي مواكب سيارة، بين مناطق شاسعة ومكشوفة بين باديتي الشام والعراق، من دون أن يطلق عليها برميل أو رصاصة، لا من قبل النظام ولا من قبل ميليشيات إيران، ولا من روسيا، التي استهدفت الجماعات المسلحة الأخرى، هذا من دون أن نسأل عن كيفية حصول هذا التنظيم على ترسانة أسلحة توازي تسلح عدة فرق من الجيش، وعلى أموال طائلة، لدى استيلائه على الموصل بسلاسة ملحوظة (في صيف 2014). القصد هنا أن «داعش» كان ضرورة للنظام لتقويض ثورة السوريين، ونزع شرعيتها، وتشويه مقاصدها، وخلخلة إيمان شعبها بها، بالنظر إلى الممارسات الوحشية الغريبة التي انتهجها التنظيم في المناطق التي سيطر عليها، ما أسهم بترويج محاولات النظام وصم الثورة بالإرهاب.
ثالثاً: فتح النظام البلد على مصراعيه أمام التدخل العسكري الإيراني، ثم الروسي، واستطاع الاستفادة إلى أقصى حدّ من الدعم اللامحدود الذي قدّم له، في حين أن ما سمي «أصدقاء سورية»، والذي يضم الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وبعض الدول العربية، لم يستطع أن يقدم مضاداً واحداً للطائرات، ولا فرض حظر جوي أو منطقة آمنة، ولا وقف القصف بالبراميل المتفجرة، ولا رفع الحصار عن أي منطقة في سورية، بل لم يستطع حتى منع تهجير النظام لأهل أي منطقة (مثلما حصل في داريا مؤخراً)، أو تقديم الغذاء للمحاصرين، وهكذا ترك السوريين مكشوفين، كأنهم مجرد حقل رماية، على امتداد السنوات الخمس الماضية.
رابعاً: منذ البداية انتهج النظام على الصعيد العسكري استراتيجية التخفّف من المناطق الكثيفة السكان والمعزولة، والقليلة الأهمية من وجهة نظره في الصراع الدائر. هكذا حاول النظام عبر ذلك تقليل جهده العسكري في تلك الأماكن مقابل حشده للدفاع عن وجوده في أماكن أخرى، وهذا يشمل خط المدن الرئيسية في الوسط من الشمال إلى الجنوب، أي مدن درعا ودمشق وحمص وحماة وحلب. لكن ذلك لم يكن يعني الانسحاب من باقي المدن، وإنما محاصرتها، وجعلها بمثابة حقل رماية لطائراته ومدفعيته، الأمر الذي يرفع كلفة الخروج عن طاعة النظام، بالقتل الجماعي وبتدمير العمران، وبالحصار والتجويع، ما يحول الثورة إلى كارثة إنسانية، لم يكن بالإمكان تصورها، أو تصور احتمال العالم لها. المشكلة هنا أن المعارضة، وبخاصة العسكرية، لم تدرك معنى «انسحابات» النظام، وكانت تعدها إنجازات لها من دون أن تنتبه إلى أن ذلك خفّف عن النظام عبء نشر قواته في الأحياء الشعبية التي تعتبر معادية له، وأن هذه الحواضن تحولت إلى مناطق محاصرة، وإلى عبء على الثورة، بعد أن كادت تفرغ من قاطنيها. هكذا بات الوضع بمثابة كارثة إنسانية، كما تمخض عن كارثة سياسية بالنظر إلى الإخفاق الكبير في طريقة إدارة الجماعات العسكرية للمناطق التي اعتبرت «محررة»، ناهيك عن التقاتل في ما بينها، وعن الفجوة بينها وبين المعارضة السياسية.
خامساً: استطاع النظام عبر استراتيجياته المذكورة حرمان الثورة من طابعها الشعبي بتعمّده تكبيد «البيئات الحاضنة» الأثمان الباهظة بالقصف العشوائي والقتل الجماعي والتدمير الشامل، وبسياسة الاعتقال والحصار والتجويع، وقد نجم عن هذه السياسات تحويل الثورة إلى مجرد صراعات عسكرية، بين منطقة وأخرى، أو مع هذه الجماعة أو تلك. المهم أن المظاهر الشعبية للثورة اختفت وحلت محلها مظاهر السوريين العابرين للحدود والبحار، وأضحت الثورة بمثابة كارثة على السوريين، والدول المجاورة، كما على الدول الأوروبية، وفي ذلك نجح النظام في محاولاته حرف الصراع من كونه صراعاً سياسياً إلى كونه قضية إنسانية، لا سيما مع ملايين المشردين اللاجئين في دول العالم، ومع كل التداعيات السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية الناجمة عن الصراع، هذا إضافة إلى محاولة وصمه بالإرهاب.
سادساً: تلاعب النظام بالمكونات السورية، كما تلاعب بالوتر الديني، وضمن ذلك تأتي محاولته كسب الكرد إلى صفّه في الصراع الدائر على سورية، من خلال التسهيل على «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الكردي) الهيمنة على المناطق ذات الكثافة الكردية، على الحدود مع تركيا، ومن خلال سكوته عن تشكيله الإدارات الذاتية في هذه المناطق. وقد نجح النظام من خلال ذلك في تحقيق هدفين، أولهما، تحييد القوة الرئيسية لأكراد سورية وتجنّب الصراع معهم. وثانياً، إثارة الشكوك بين المجتمع الكردي، أو بين جمهور الـ «ب ي د» (PYD) والمعارضة السورية وجمهورها. المشكلة هنا أن هذا الحزب اشتغل بأجندة هي أقرب إلى أجندة «حزب العمال الكردي» (التركي)، وأنه قرأ الصراع الدولي والإقليمي على سورية بطريقة ساذجة ورغبوية ومتسرّعة وخاطئة، ظنّاً منه أن الظروف مهيأة لتحقيق حلمه القومي، أو أقله حلمه بالحكم الذاتي مرحلياً، وباعتباره الدول كأنها بمثابة جمعيات خيرية، أو كأنها تشتغل وفقاً للمبادئ وليس وفقاً للمصالح واستراتيجيات القوة والمكانة، ما أدى به إلى الاشتغال كأداة عند هذه الدولة أو تلك، دافعاً الثمن، من دون تحقيق أي من أحلامه، على ما ظهر مؤخراً. في المقابل فإن حال المعارضة، السياسية أو العسكرية، لم يكن أحسن حالاً، فهي لم تبذل الجهود اللازمة للتوضيح للكرد بأن قضيتهم عادلة ومشروعة، مثلاً، وأن الظروف الراهنة تقتضي الانخراط في عملية التغيير السياسي من أجل بناء دولة مواطنين أحرار ومتساوين في سورية ديموقراطية يتم فيها تداول السلطة، مع حق الكرد كشعب في التعبير عن ذاتهم القومية، فقد كان في ذلك فائدة للطرفين، ولحاجتهما لتنمية الثقة المتبادلة وبناء إجماعات مشتركة لسورية الجديدة، بدلاً من ترك النظام يتفرج على التصارع الكردي ـ العربي ويستثمر فيه.
سابعاً: أيضاً، ومنذ بداية الثورة لم يبخل النظام ببث الإشارات التي تفيد بأنه حافظ أمين للأمن الإقليمي، ولا سيما أمن إسرائيل، وهذا ما يتم التصريح به فوق الطاولة أو من تحت الطاولة بطريقة مباشرة أو مبطنة، من قبل مسؤولين سوريين، في كل المحافل الدولية والإقليمية، ويتم التدليل على ذلك بالمخاطر التي جرتها الثورة السورية على المنطقة. على أية حال فإن الاستنكاف الأميركي عن لعب أي دور فاعل في كبح النظام في سورية لا يمكن تفسيره برغبة أميركية في التخفّف من عبء المنطقة فقط، إذ أن ذلك لا بد أنه نتاج ضغط من إسرائيل، وكتعبير عن رضاها عما يحصل، إن تحت يافطة: العرب يقتلون بعضهم، أو من وجهة نظر أن خراب المشرق العربي، لا سيما في العراق وسورية هو أكبر ضمان لأمنها لعقود.
هذه هي أهم الاستراتيجيات التي انتهجها النظام لتقويض ثورة السوريين، من مختلف النواحي، والسؤال الآن: ماذا فعلت المعارضة إذاً لتفويت هذه الاستراتيجيات أو لمواجهتها أو لتدارك مخاطرها؟ والأهم من ذلك هل أدركت المعارضة حقاً هذه الاستراتيجيات واستنتجت العبر المناسبة منها؟ أم أنها استمرت على طريقها غير مبالية، مسهلة للنظام استراتيجياته؟ أطرح هذه الأسئلة فقط لأن مقالتي السابقة حول «الأسئلة التي لا تناقشها المعارضة» («الحياة»، 2/8) لاقت ردوداً تفيد بأن المعارضة سألت، وبأنني أجحف في حقها أو انتقص منها. والحال فإذا كانت تمت مناقشة تلك الأسئلة فأين هي الأجوبة عنها؟ ثم إذا كانت ثمة أجوبة مناسبة فأين انعكاسها على الأرض، في الخطابات وفي البنى وفي العلاقات وفي أشكال العمل؟ ثم لماذا وضع المعارضة على هذا النحو؟ أو لماذا وصلنا إلى هنا إذن؟
مما لاشك فيه أن التغيرات التي طرأت على الساحة العسكرية في الشمال السوري أبرزها فك الارتباط لجبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وفتح صفحة جديدة تتطلع للتوحد والاندماج بين الفصائل، قد لاقت ترحيب كبير في الأوساط الشعبية والعسكرية على مستوى الفصائل، والتي يتطلع الجميع لبدء صفحة جديدة في الشمال السوري تطوى فيها جميع الخلافات والإشكالات التي حصلت طوال السنين الماضية، وتبدأ مرحلة تندمج فيها القوى العسكرية في كيان واحد لضمان استمرار الساحة، والتصدي لكل محاولات قوات الأسد وحلفائه لتطويق المنطقة والسيطرة عليها.
ومع بدء الإعلانات المتتالية عن اقتراب ظهور كيان جديد موحد يجمع العديد من الفصائل أبرزها جبهة فتح الشام، بدأت الصيحات في الداخل السوري تتعالي مطالبة باتخاذ خطوات تمهيدية لهذه العملية التوحدية، تقتضي إصلاح الأخطاء السابقة وعدم تكرارها، وذلك يتطلب أولاً كبادرة لحسن النية تجاه الشعب والثورة، أن تبيض السجون من الشباب الثائر المعتقل بتهم الانتماء لفصائل فسدت بعض قادتهم، فحولتهم لسجناء في ظلمات الأقبية التابعة للفصائل العسكرية في الساحة.
"تبييض السجون" لا يعني إطلاق سراح المجرمين والقتلة وكل من ارتكب الجرائم بحق الثورة، بل تبيضها يتم بإطلاق سراح المئات من المعتقلين ممن لا ذنب لهم إلا أنهم تبعوا لفصيل فسدت بعض قياداتهم، فعم العقاب على الجميع، وملئت السجون بالشباب الثائر، بعد أن جردوا من سلاحهم وأفرغت الساحة من كل من ينتسب لهذه الفصائل، أيضاَ أفرغت الساحة من عشرات العناصر والقادة والناشطين الشرفاء، ممن لوحقوا بذات التهم دون الرجوع لتاريخهم الثوري وعملهم في خدمة الثورة، فأخذو بأخطاء البعض ممن كانوا بينهم في فصيل واحد.
وهذه الدعوة لا تشمل جبهة فتح الشام فقط بل تطال جميع الفصائل الثورية في الساحة الشامية لتبييض سجونها من أبناء هذا الشعب، وإدخال البسمة والفرحة للمئات من العائلات ممن لا تعرف ما هو مصير ابنائها في سجون الفصائل، والتي كانت تخاف عليهم من اعتقالات الأفرع الأمنية للنظام، ليكون اعتقالهم على يد رفقاء السلاح والخندق، إما لتصفية حسابات شخصية أو بتهم متعددة.
وللمتابع لتطورات الأحداث في الساحة يعي جيداً كيف سعت بعض الدول الغربية لتفريغ الشمال السوري من الشباب وذلك من خلال فتح أبواب الهجرة باتجاه الدول الاوربية، أضف على ذلك التغيرات العسكرية في الشمال والاعتقالات التي طالت المئات من القادة والشباب الثائر وزجت بهم في السجون، إضافة لهجرة المئات خوفاً من الاعتقال، بل وتورطهم في كيانات جديدة بدعم وأوامر غربية جعلتهم لقمة سائغة لها، تديرهم وتحركهم كيفما تريد، بينما ينعم المفسدين في فنادق الدول المجاورة، وقد أفلتوا من الحساب والعقاب، بل منهم من غادر باتجاه تركيا تحت مرآى ومسمع قادة الفصائل ذاتها وربما بمساعدتهم، ليحاسب الصغير ويترك الكبير حراً طليقاً.
والساحة اليوم تتطلب تكاتف الجميع ووقوفهم في صف واحد ضد كل القوى الاستعمارية التي تحاول تطويق المنطقة والسيطرة عليها، بدعم وتحت غطاء دولي من كل دول العالم التي تآمرت على قضية الشعب السوري، فلتكن مبادرتنا اليوم ودعوتنا لتبييض السجون هي بادرة أولى لحسن النية والبدء بمرحلة التكاتف والتلاحم وكسب جميع الطاقات والشباب في السجون وأيضاَ من أجبروا على الخروج من مناطقهم لدول الجوال خوفاً من الاعتقال، فلتعد الطاقات لمواقعها وخنادقها، وتكن تحت الصرح الموحد الذي سيشكل عما قريب.
هل يعيد التاريخ نفسه؟ كلا. فلا شيء يتكرَّر، بالتمام والكمال، عندما يتعلق الأمر بما هو تاريخي (سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي)، برغم قول ماركس إنَّ التاريخ يعيد نفسه، مرةً كمأساة وثانيةً كمهزلة (أو ملهاة). ولكن ماركس كان يتحدَّث عن السلالة البونابرتية في فرنسا، وليس عن أمكنةٍ وأحداثٍ تاريخيةٍ يغلب عليها، للوهلة الأولى، التكرار. مع ذلك، هناك ما يني يحدث لأمكنةٍ معينةٍ بحيث يصحُّ القول، بسبب تواتر حدوثها، إنَّ التاريخ يكرّر نفسه. فكَّرت بهذا الأمر، وأنا أقرأ لائحة مختصرة بتواريخ مدينة داريا السورية المنكوبة. بدا لي فعلاً أنَّ هذه المدينة التي أرتنا تلفزات العالم خرائبها وهياكل عمائرها الفارغة من أيّ حضور إنساني طالعة من تحت عصف نووي. لا يمكن إلا للتدمير المنهجي أن يوصل إلى ما صارته داريا. لا حرب عصابات، لا مدافع ودبابات يمكن أن تمسح أحياءً برمتها، حسب ما رأينا على التلفزات التي اقتربت كاميراتها من الخراب. فقط الطيران والقصف الجوي والبراميل التي لا تستهدف موقعاً بعينه، بل مساحة، يمكنها أن تُحدث هذا التدمير الذي يخجل منه العدو قبل الصديق، فكيف بابن البلاد نفسها.
محزنةٌ داريا. مبكية. لكن لا حزن على سيماء العالم، ولا دموع في مآقيه. لا شيء. كأنَّ هذا التدمير، بعد التجويع والتركيع، هو ما يجب أن يحدث. كأن ذلك من طبائع الأمور في هذه المنطقة من العالم. فلا دهشة ولا استغراب، ناهيك عن استنكار. ثم إنَّ "الزايد أخو الناقص"، كما يقول مثلنا الشعبي. بل الزائد يبكم ويشلُّ.
ترافق الخروج من داريا مع زلزال ضرب بلدةً إيطالية. إنها كارثة بالنسبة للإيطاليين، والأوروبيين عموماً، الذين لم تعرف أجيالهم الحالية ويلات الحروب. فهناك مئاتٌ قتلوا وجرحوا، وعشرات آلاف يقيمون في أمكنة إيواء مؤقت. هذه مأساة ارتكبتها الطبيعة، ولا يد لبشرٍ فيها. مثلها مثل الأعاصير والطوفانات. الطبيعة لا تفكُّر ولا تتقصَّد السوء، أما الإنسان فيفعل، حتى مع أقرب الناس إليه، فما إن تشيطن شخصاً، طائفةً، شريحةً من الناس، حتى يسهل استهدافها، بل يصبح استهدافها واجباً وطنياً وقومياً مرةً، ودينياً مرةً أخرى. كيف يتحول القتل من جريمةٍ إلى واجب؟ كيف يتم تجريد الإنسان من كل أهليةٍ وحقٍّ بالحياة؟ هذا ما تغطيه الدعاوى والأيديولوجيات، المدنية والدينية على السواء. فـ "الخائن"، في نظر القومي العقائدي، مثل "الكافر" في نظر المتشدِّد الديني. لا فرق. لأن الموت هو العقاب في الحالتين. هذا ما حصل لداريا، وغيرها من المدن والبلدات السورية، فقد حوَّلتها الدعاوى الفاشية من أمكنةٍ "سليمة"، معافاة، إلى أمكنةٍ "موبوءة". ألم يتحدّث "الدكتور" عن الفيروسات التي تغزو الجسد، وكيف يتم التخلص منها. فقط الأمكنة الموبوءة يمكن أن "تُعالج" على هذا النحو الفظيع.
لا أريد أن أخفّف على المجرم الراهن جريمته في داريا. فينبغي أن تُضاف إلى لائحة جرائمة التي لا يعادلها أيّ عقاب. فأيّ عقابٍ على جرائم مثل هذا النوع رمزي جداً. ولكن، عدّدوا معي بعض ما عرفته داريا في تاريخها الدهري من أحداث، تشي بالتكرار:
تأثرت داريا بمعظم الأحداث التي شهدها العصران، الأموي والعباسي، وما جرى خلالهما من أحداث سياسيةٍ وعسكرية. كانت تقطن داريا قبائل يمانية وأخرى قيسية. وتعرّضت للحرق نتيجة تلك المنازعات عام 26هـ وكذلك عام67 هـ في عهد هارون الرشيد، حيث ثارت الفتن، مجدّداً، بين القيسية واليمانية، أو ما تعرف بفتنة أبي الهيذام، فحرقت ونهبت. وفي عام 233هـ، تأثرت داريا بالزلازل. ومرَّت عليها المنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة، ولم تنج من الغزو الصليبي، والتتار الذين عاثوا فيها فساداً وتدميراً. وقبل التدمير الأسدي، شهدت، في أثناء الاحتلال الفرنسي، "معركة داريا الكبرى"، فصبَّ عليها المحتل جام غضبه.
وفي فتنة أبي الهيذام، أيام الرشيد، بين القيسية واليمانية، قال الشاعر قيس الهلالي يصف الدمار الذي حلَّ بها:
كأنَّا يوم داريا أسود/ تدافع عن مساكنها أسودا. تركنا أهل داريا رميماً/ حطاماً في منازلهم همودا. قتلنا فيهم حتى رثينا/ لهم ورأيت جمعهم شريدا.
هكذا نرى لبشار الأسد أسلافاً (أسوداً!!) في "فتننا" التي لم تخمد نارها حتى اليوم، لأننا، على الرغم من وجودنا في القرن الحادي والعشرين، لم نخرج من كتاب "الملل والنحل".
ما برح الساسة الغربيون ينعتون الثورة السورية بالأزمة، أو الحرب الأهلية، أو الحرب في سورية، وهي نعوت تطلق بغرض التهرّب من المواجهة الأخلاقية والقانونية للتوصيف الدقيق لما يجري في سورية، وهو ثورة شعبية طالبت بالحرية والتحرّر من نظام الإبادة الذي تجاوز الدكتاتورية بكثير.
ولم تكن صور المخرَجين من أرضهم وديارهم من داريا، بإشرافٍ دولي، ومن قبله أهالي مضايا والزبداني، إلا أبشع صور التطهير في العصر الحديث، بعد أن طبق أنصار بشار الأسد شعارهم "الأسد أو نحرق البلد"، وقذفوا، بصواريخهم وقنابل الطيران والمدفعية والبراميل المتفجرة، في شبه مسلسل يومي، لتكون حلقته الجديدة، اخيراً، نقل من تبقى من الأحياء والثوار خارج سكناهم ومناطقهم، فإذا لم يكن هذا تطهيراً، فما التطهير إذن؟
درج مصطلح التطهير العرقي في تقرير للأمم المتحدة، تناول الأزمة اليوغسلافية عام 1992، وتم تحديد ثلاثة عناصر لضبط المفهوم: الهوية الإثنية للمجموعة المستهدفة، والترحيل القسري، وضم الأراضي التاريخية للمجموعة المُرحّلة. وقد تم ضبط التعريف ليكون التطهير العرقي هو إيجاد حيز جغرافي متجانس عرقياً، بإخلائه من مجموعة عرقية معينة، باستخدام السلاح، أو التخويف، أو الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الهوية الثقافية واللغوية، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود.
ويلاحظ، بهذا التعريف، أن هذا الشرط قد حضر ليس مع قيام الثورة السورية فحسب، بل يمتد إلى أحداث حماة عام 1982 وانتفاضة الكرد 2004 في الجزيرة السورية، إلا أن الأمر مع أحداث الثورة السورية لا يخلو من أي لبسٍ، يبرّر التوصيفات الغربية لما يجري في سورية، من استباحة الأغلبية السنية، وتهجيرها بقوة السلاح والطائرات والبراميل المتفجرة، وقصف المساكن، وجعل المدن خاليةً من أهاليها، أقول لا يبرر نعتها ما يجري بكلمة: قد ترتقي إلى جريمة حرب، فهذه (قد) الاحتمالية التي يستعملها الساسة الغربيون تجعل الأسد وحلفاءه في حلٍّ من استباحة البقية الباقية من المدن السورية.
تهجير قرى ريف اللاذقية في جبلي الكرد والتركمان، وهدم منازلهم وحرقها، بعد التمهيد المدفعي والصاروخي، وصولا إلى ريف إدلب، وقبلها حمص، حيث نزحت الغالبية السنية من المدينة، وبقي جزء منها في حي صغير، واستهدف مسجدها التاريخي، وتم تهجير أهالي القصير. ومع ما يحدث اليوم من انزياح كتل بشرية من أمكنتها التاريخية، هو أبشع أشكال (وصور) التطهير والإبادة الجماعية في القرن الواحد والعشرين.
التطهير العرقي والديني الذي يمارسه النظام السوري، وحلفاؤه، بطريقةٍ خفيةٍ وذكيةٍ، لا تثير مجلس الأمن الدولي، ما يجعلنا نجزم بانهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، وتهاوي شعارات حقوق الإنسان، ما يعني مستقبلاً أكثر دمويةً، مليئا بالثارات والانتقامات، في غياب المجتمع الدولي الذي تحول إلى مراقبٍ للصراعات، ومدير لها، بدل أن يلجم المجرمين الدوليين عن جرائمهم بحق شعوبهم.
أحداث الثورة السورية المتعاقبة، وما يجري من إخضاع وطن كامل لأكثر من محتل أجنبي، واعتقال عشرات الآلاف، ومقتل مئات الآلاف، وتهجير ملايين وترحيلهم وتطهيرهم، يضع هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن التابع لها، أمام اختبارٍ عسير، قد تتهاوى معه آخر إبداعات العقل السياسي في العصر الحديث، باعتبار أن المقصد الرئيسي من المؤسستين قام، بالأساس، على إنهاء الحروب والصراعات، وتحقيق العدالة الدولية ونشر السلام.
ما كان أحد يتوقع صمود أهالي داريا، أو من تبقى منهم (حوالي خمسة أو ستة آلاف من أصل ربع مليون)، كل هذه المدة، أي طوال أربعة أعوام بأيامها ولياليها، في مواجهة ظروف قاسية وصعبة، وتحت طائلة القصف بالطائرات والمدفعية، مع إخضاعهم للحصار المشدد، إذ أن هذه المدينة الصغيرة التي تقع في الجنوب الغربي من دمشق، والقريبة إلى أهم المعاقل العسكرية للنظام (مطار المزة العسكري)، بقيت صامدة وصابرة وشامخة، رغم عزلتها وقلة إمكانياتها، أكثر مما هو منتظر منها.
لا تتوقّف أسطورة داريا على ما حقّقته في صمودها العسكري غير المسبوق، فحسب، وتسجيلها أروع صور الصمود والتضحيـة والتحـدي، رغـم البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات، ورغم سلاح التجويع، إذ أنها فوق ذلك كانت المدينة التي تفرّدت، تقريباً، بميزات كثيرة، ما جعل كثيرين يعرّفونها باعتبارها درّة الثورة السورية، والمثال الذي كان ينبغي أن يحتذى به، وهي تستحق ذلك عن جدارة.
ما ينبغي معرفته أن داريا هي من أولى المدن التي خرجت المظاهرات فيها، منذ بداية الثورة السورية (مارس 2011)، وأنها تمسّكت بالفعاليات السلمية إلى أقصى حد، وبمعاملاتها مع جنود النظام باعتبارهم إخوة في الوطن، بتقديم المياه والورود لهم، وقدم الشهيد غياث مطر ثمن ذلك من حياته، علما أن هذه المدينة لم تذهب نحو خيار الدفاع العسكري إلا بعد ارتكاب النظام مذبحة كبيرة فيها ذهب ضحيتها المئات (في العام 2012). أيضا، ومنذ البداية، تمسك ثوار داريا بخطاب الثورة وبمقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية وإنهاء الاستبداد، العلماني والديني، وقد ترجمت ذلك برفضها دخول “جبهة النصرة” وأخواتها، و“الغرباء”، وتجار السلاح والأدعياء إليها. وإضافة إلى كل ما تقدم فقد قدمت داريا نموذجاً في الإدارة الذاتية بانتخاب هيئة محلية، تخضع كل ما يجري لقراراتها، سواء على الصعيد المدني أو العسكري، وهذا ما ميّزها عن المناطق الأخرى التي أخفقت في إيجاد بدائل مناسبة للسلطة.
لعل هذا كله يفسّر إصرار النظام وحلفائه، طوال الفترة الماضية، على قتل داريا، فهو في الحقيقة أراد قتل روح الحرية والكرامة والصمود التي تبثّها هذه المدينة في سوريا كلها، وتالياً قتل الأسطورة التي تسطّرها، وقتل نموذجها النبيل الذي يدحض كل ادعاءاته، وذلك بانتهاجه سياسة التدمير الممنهج ضدها، لإبادتها بشراً وحجراً، بل وإزالة معالمها نهائيا.
كما يفسر ذلك أن التسوية التي تم عقدها لم تقتصر على انسحاب المقاتلين (حوالي 700 مقاتل)، فقط، منها، إذ أنها شملت خروج، والأصح إخراج، كل من تبقى فيها من مدنيين، أي أننا إزاء عملية تهجير (ترانسفير) إجباري، يتم تحت علم الأمم المتحدة، بحيث أن هذا يصبّ في إطار عملية التغيير الديمغرافي التي جرت في حمص وتجري في دمشق (بعد ما حصل ذلك في الزبداني ومخيـم اليرمـوك والتقدم والتضامن والحجـر الأسود والقصير ويبـرود)، لتحصيل ما يسمى بـ“سوريا المفيدة”.
في هذا الإطار لن ننسى، بالطبع، أن داريا قتلت أيضا عندما اهتم البعض من الأمراء العسكريين في المعارضة باستعراضات الألوية والكتائب واستغلال اسم الله لحرف الثورة عن مطلب الحرية والديمقراطية، والاشتغال بإزاحة النشطاء السلميين مثل؛ رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حماد ووائل حمادي (المختطفين في الغوطة الشرقية)، ناهيك عن انسحاب هذه الفصائل العسكرية المعارضة من القصير والنبك والضمير (حوالي دمشق)، وعدم القيام بأي عمل لنجدة مخيم اليرموك أو الزبداني، أي أن ما حصل في داريا كان تحصيل حاصل لكل ذلك.
من جانب آخر، ربما من المفيـد ملاحظة أن ما جرى في داريا يأتي في إطار التموضع الجديد للقـوى الدوليـة والإقليميـة المتصـارعة على سوريا، في ضوء التفاهم الأميركي – الروسي، وبالتزامن مع تحجيم الدور الإيراني، والدخول التـركي على الشمال السوري، من بوابة جرابلس، وفق تفاهمات تركية ـ أميركية ـ روسية.
والفكرة هنا أن النظام بعد خسارته في الشمال السوري، إثر التطورات الحاصلة بنتيجة الدخول التـركي على الخـط، وانحسار الدور الإيراني، يحاول إحراز مكاسب بديلة في دمشق وما حولها لتعزيز وضعه، ووضع حليفه الإيراني، والمعنى من ذلك أن ما جرى في داريا ربما يكون بمثابة بداية للهجوم على معاقل المعارضة في محيط العاصمة، ولا أحد يعرف مدى استعداد المعارضة العسكرية لمواجهة مثل هذا التطور، وهي التي تركت داريا أمام مصيرها دون أن تفعل شيئاً.
داريا هي قصة للبطولة والمأساة، وهي تختصر حكاية السوريين، والمدن السورية، التي تم تدميرها بالبراميل المتفجرة، والتي تمت استباحتها من قبل الطيران الروسي والميليشيات المذهبية الموالية لإيران، والتي يراد تغيير خريطتها الديمغرافية. وبحسب تعبير لمراسل “فرانس برس”، سجل هذه اللحظة، ثمة “قهر كبير بين السكان…ذهبت الأمهات بالأمس إلى المقابر لوداع الشهداء، إنهن يبكين على داريا أكثر مما بكين حين سقط الشهداء”، لذلك فإن هذه القصة لم تنته بعد. داريا في القلب.
ثلاث سمات أبرزتها السنوات الأخيرة للنظام الأسدي:
فهو نظام صارت علاقته مع الحرب الأهلية كعلاقة السمكة بالماء، ليس بمستطاعه أن يعيش ليوم واحد من دون حرب. ليس بمستطاعه أن يتحمّل يوم هدنة واحداً بعد خروج الأنسجة الأهلية السورية عليه، وبعد كل ما ارتكبه ضدها، وبعد تضخم هويته الفئوية أو نفورها أكثر من أي وقت، وبشكل متصاعد الدموية. التوازن الكارثي بين قوى ومسارات الاطاحة به، التي لم تتمكن بعد من انجاز ذلك، وبين عدم تمكنه بأي شكل كان من «الحسم» أو «الإخماد» يحكم عليه بهذه الوضعية الاحترابية المحكومة بمزدوجة تدمير المجتمع وإنهاكه التصاعدي كنظام، وهو إنهاك يعود فيقلل منه التدخل الاجنبي لصالحه، من دون ان يكون بمقدور اي تدخل ان ينتشله من مأزقه، مأزق أنه لم يعد بإمكانه أن يتحمّل يوم هدنة جدياً واحداً.
وهو من الناحية الثانية، نظام نجح في توظيف ما يمتلكه: الرابطة الفئوية لضباطه الأساسيين، سلاح المدفعية، طائرات البراميل. ونجح في توظيف ما لا يمتلكه أخصامه، بفعل جنوحهم الى الحرب في المدن، بدلاً من محاصرتها وقطع مواصلات النظام وإرهاقه بالمسؤولية التمويلية وبالاستنزاف اليومي مع الأهالي، فكانت النتيجة نظاماً لم تبقَ منه تقريباً إلا «مواصلاته»، أي خطوط إمداده، ويعتمد تهجير الأهالي. لكن بقاءه هو قبل كل شيء نتيجة لتقاطع، بالصدفة، روسي ـ أميركي.
الروس يريدون إطالة عمره لأقصى مدى ممكن، دون اي وهم بأنه سيقف على قدميه، وهم يثمنون ورقته، فطالما يجري عزلهم دولياً، وخصوصاً بعد أزمة القرم، فهم بحاجة الى بقائه كعنصر يكبح خيار «عزل» روسيا غربياً. أما الأميركيون، الذين حلوا الجيش في العراق، وكادوا يتعاطفون مع انشقاق الجيشين السوري بين «نظامي» و»حر» فانهم عادوا لفكرة ان حل الجيش النظامي كان خطأ في العراق، وبالتالي ينبغي عدم حله في سوريا، مع ان صدام حسين قادم من الجناح المدني للبعث، بخلاف حافظ الاسد القادم من البعث العسكري، والجيش النظامي العراقي حافظ نسبياً على نظاميته وانضباطيته، وظل متميزاً عن الحرس الجمهوري الحزبي - الصدامي، في حين انه لم تنوجد مؤسسة عسكرية نافر اطلاق صفة المؤسسة عليها، كـ»الجيش العربي السوري» الذي من الصعب اعتباره جيشاً نظامياً، لا سيما على صعيد العصبية المهيمنة داخله، وهشاشة التمييز بين «العسكري» و»المخابراتي». مع هذا ساد في ادارة باراك اوباما اعتقاد بأنه ينبغي الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، أي الجيش، جيش القصف الكيماوي للغوطة، والتهجير الطائفي لأهالي داريا والكثير من المدن والقرى قبلها، والعمالة للحرس الثوري الايراني. حل الجيش العراقي كان كارثة تسببت بها اميركا في العراق، و»الاتعاظ» من هذه الكارثة لدى ادارة اوباما، سوّغ لكارثة اخرى.
السمة الثالثة أنّه نظام استفاد من مناخات «مكافحة الارهاب» في العالم، وحاول حشر نسخته «الكيماوية البرميلية» من مكافحة السوريين بحجة الارهاب. لكنه في الوقت نفسه نظام يحكم على العالم بأن يظل غير قادر على التقدم جذرياً في ملفات معالجة الارهاب، طالما انه مستمر بالوجود كنظام. طالما بقي بشار الاسد في دمشق، لن يكون هناك اي خارطة طريق جدية وتراكمية لضرب الارهاب.
مؤلم مشهد أهالي داريا يخلون بلدتهم للمحتلين والمرتزقة. بقدر ما هو مؤلم فهو يلخّص كل هذه السمات. نظام طالما استمر بأي شكل كان فلا معالجة ناجعة للارهاب. نظام يستفيد من دعم روسيا له لتحصيل مكاسب من اميركا، ومن تسويغ اميركي لبقائه، بحجة الاستفادة من «دروس العراق». نظام يمكنه انه ان يبقى لفترة، لكنه غير قادر على الحسم العميق في اي في فترة.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي اعتاد الشعراء بشكل خاص على استخدام مفردات القطار وصفيره ومحطات الانتظار كرموز دالة على الرحيل عن أرض الوطن إلى بلاد المنافي والغربة والشتات والضياع.
هذه الرموز الشعرية ذكرتني اليوم بأهل داريا أو ما بقي منهم في داريا. إنهم الآن يتوقفون على رصيف المحطات بانتظار قدوم القطارات التي تنشط الأمم المتحدة لإحضارها من أجل تفريغ داريا من أهاليها، فهذه " الأمم " لم تكن في يوم من الأيام وسيطاً نزيهاً بين الجلاد والضحية، بل كانت عميلاً، هدفه المساهمة والمساعدة في عملية التطهير وتغيير البنية السكانية في سورية.
ها هي القطارات قد جاءت، فإلى أين ستذهب بكم أيها الأحبة.!؟. هل إلى صمود جديد، أم إلى غربة قاتلة، أم إلى شتات بعده شتات.!؟.
قيل عن داريا إنها أيقونة الثورة، وعنوان الصمود، والروح الصابرة، والطفلة التي أهملها أهلها، والمدينة التي أدار الجميع ظهورهم لها، وتركوها بين أنياب الوحوش الكاسرة.
ماذا يمكن أن يقال عن فصائل المقاتلين في الغوطة الشرقية، من جيش الإسلام إلى فيلق الرحمن إلى جيش الفسطاط.!؟. ولماذا لم ينجدوا داريا منذ سنوات عدة.!؟.
الجواب واضح: إنهم مشغولون بقتال بعضهم بعضاً، وكل واحد منهم يشتغل على صناعة إمارة جديدة يكون أساسَها طغيانٌ جديد ينافس طغيان الأسد، بل ويتفوّق عليه، وفي النتيجة ستكون نهايتهم كنهاية داريا.
وماذا يمكن أن يقال عن الجبهة الجنوبية.!؟. لماذا لم تتحرك وتنقذ داريا.!؟.
الجواب أيضاً واضح وصريح: إنهم لا يخرجون عن طوع غرفة الموك، وغرفة الموك لا تريد لداريا أن تبقى صامدة، بل تريد أن تنهار وتعود إلى حضن الوطن.!!.
ولكن مهلاً.. هناك من يقول إن الجبهة الجنوبية تحركت لنصرة أهل داريا بعد أن غادروا مدينتهم، في طريقهم إلى الشمال، وهذا التحرك ذكره صديقي أبو معن في منشور كتبه على صفحته، وأنا هنا أثبت بعض ما جاء في المنشور المؤلم الساخر. يقول أبو معن: ما جرى لداريا ذكرني ببيت عتابا كنت أسمعه وأنا طفل
صديقي الما ينفعني وانا حي
شلي فيه عـنـد ردّات التـراب
ويتابع أبو معن: عادة عندنا نحن العربان نطلق كام رصاصة عند الفرح وأيضا نطلقها عند الموت. اليوم، الجبهة الجنوبية أطلقت كام فشكة من أجل وفاة داريا، فهل هو زعل على داريا أم فرح لوفاتها.!؟. ".
إنها حقاً سخرية مؤلمة وجارحة، وصرخة حادة في وجوه أولئك المتخاذلين، ممن يُطلق عليهم جيوش الغوطة الشرقية أو فصائل الموك.
داريا.. لقد فتحتِ في قلبي جرحاً هو في الأصل لا يزال مفتوحاً منذ عام 2013، فأختك الأولى سارت على طريق السقوط في 4 حزيران من ذلك العام 2013.
وأختك يا داريا هي مدينتي القصير، فهل تذكرين مدينة القصير يا داريا.!؟.
لو أردنا أن نضع نقطة واحدة على حرف واحد من كلمة واحدة مما جرى لكما، لقلت إن قواسم مشتركة تتلاقى بينكما، كما تتلاقى الأوردة الدموية في البدن، فكلاكما وقف شوكة في حلق سلطة الأسد، واستعصت عدة سنوات على طموحات مناصريه من إيران إلى حزب الله.
وكلاكما كنتما مستهدفتين وجودياً ومذهبياً.. نعم وجودياً ومذهبياً، فحزب الله كان يضع عينه على القصير، لتكون له القاعدة المتقدمة والممر الدموي، بحيث يرسل قتلَتَه من لبنان، فيمرون عبرها إلى حمص وحلب، وحتى دمشق دفاعاً عن السيدة زينب.!!!. ثم يعود الكثيرون منهم قتلى وجرحى ومتمارضين، فيعبرون أرض القصير باتجاه لبنان. ألم أقل لكم كانت القصير ولا تزال هي الممر الدموي لهم وعليهم.!!.
أما أنت يا داريا، فكنت أيضاً مستهدفة وجودياً ومذهبياً، مثلما هو حي الوعر مرشح للاستهداف، فإيران وضعت عينها الصفوية على المواقع الأكثر أهمية في الوطن السوري لتغيير بنيته السكانية، وكانت داريا على رأس هذه المواقع. ألم يسوّقوا أن فيها مقام السيدة سكينة بنت الحسين.!؟، وأن دريد بن رفت الأسد قرر بعد تحرير المقام أن يتوجه إلى هناك ليصلي قربه ركتين تقرباً لله تعالى.!!؟.
لهذه الأسباب وغيرها استهدفوا القصير وداريا بدمار ما بعده دمار، حتى أن ما سقط عليهما من قذائف متنوعة من العيار الثقيل يعادل أكثر من قنبلة نووية، فقبل سقوط القصير بعدة أيام قدرتُ ما سقط عليها في يوم واحد فقط بأكثر من عشرين الف قذيفة، ففي كل ثانية، وليس في كل دقيقة، كانت تسقط قذيفتان أو ثلاث، ومنها الصواريخ العابرة للمحافظات، وظلت الحال هكذا طوال الليل والنهار.. وهكذا فعلوا بأختها داريا أيضاً.
إلا أن كلتا المدينتين عانت من إهمال الأقربين والأبعدين على حدّ سواء، مع فارق بسيط، فالقصير رفدها في الوقت الضائع بعض المقاتلين من حلب ودير الزور، وعلى رأسهم عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد يرحمه الله، والعقيد عبد الجبار العكيدي، غفر الله له على ما فعل، حين وقف إلى جانب ميليشيا صالح مسلم في معركة عين العرب، وهي ميليشيا عرقية تسعى لإقامة كيان كردي انفصالي في الشمال السوري.
والخلاصة أن القصير وداريا صمدتا وصبرتا وضحتا، وإن كانت نسبة الصمود والصبر في داريا أكبر مما كانت في القصير، والسبب يعود إلى أن ثوار داريا كانوا تحت قيادة واحدة، بينما كان ثوار القصير تحت عدة قيادات متفرقة متنافرة، وهذه حقيقة لا يجب نكرانها.
ثم جاء ما ليس منه مفر، إما الانسحاب أو الإبادة التامة، وهما أمران أحلاهما مرّ.
نظرت القصير إلى الكيفية التي تتناسب مع واقعها الميداني، فاختارت عدم التفاوض إلا على خروج الأطفال والنساء، أما الرجال والثوار والجرحى فاختاروا المرور من بين براثن الموت سيراً على الأقدام في أرض شديدة الوعورة لمسافة عشرين أو ثلاثين كيلو متراً، ووابل الرصاص والقذائف تلاحق الجميع، حتى استشهد العشرات، بل المئات منا، ونحن نمر من مكان أسميناه " فتحة الموت " واقع بين حاجزين عسكريين، وكنت أنا الكبير في السن واحداً من العابرين، وقد كتبت سيرة ما جرى من أهوال في كتاب أسميته " ملحمة الموت والحياة ".
أما داريا فقد اختارت الكيفية التي فُرضت عليها، فبعد أن صمدت لعدة سنوات ذلك الصمود الأسطوري، وبعد أن بلغت القلوب الحناجر، ونضبت الآمال، وانغلقت الدائرة، ولم يعد هناك من مسلك للخروج، لجأ ثوار داريا وما تبقّى من أهلها إلى التفاوض مع أشرس عدو في التاريخ، وهو تفاوض يضع داريا في موقع الندّيّة وليس في موقع الاستسلام.
ويكفي أن نقول إن داريا تقع جغرافياً في حلق سلطة الأسد، ومع ذلك فمن تبقى من اهلها، ومن بينهم نحو ألف أو لنقل ألفا مقاتل ديراني صمدوا عدة سنوات أمام ما يسمى الجيش السوري من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وعدة ألوية عسكرية أخرى وآلاف الشبيحة، إضافة إلى ميليشيات الحرس الإيراني ومعها ميليشيا حزب الله، ثم من بعد ذلك الطيران الروسي ومستشاريه العسكريين. إنه فعلاً صمود أسطوري، فهنيئاً لك على صمودك يا داريا.
........................................
وأخيراً يا داريا، أتذكر أبو راتب، وأنا في وهدة المأساة. هل تعرفين أبو راتب يا داريا.!؟. هو من أهاليك، إنسان شعبي، بسيط، طيب، يلبس الزي التقليدي؛ الشروال والصدرية، ويجر حماره المحمل بأنواع شتى من الخضروات، أطلب تجد، سبانخ، بقدونس، لِفْت، شمندر أحمر، طرخون، بصل أخضر، نعنع، باذنجان، بندورة، فليفلة، ملوخية، وغير ذلك.
كنا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي نسكن في حي الميدان قرب سكة القطار جنوبي مستشفى المجتهد، وحين يأتي أبو راتب إلى الحارة ينادي: يا أخضر يا ريان، فتسارع نسوان الحارة وتتحلق حوله، وهنّ يفحصنَ خُضْرة أبو راتب بالأعين والأصابع.
ويحدث أن تمزح إحداهن معه، وتتهم خضرواته بأنها مسقيّة بمياه الصرف الصحي، فيرد عليها فوراً وبصوته الأجش وعفويته المعهودة: الله وكيلك يا أختي، الخُضْرة من أرضي ولا أسقيها إلا بمية بير صافية زلال ".
نعم يا داريا، مياه آبارك صافية زلال، وأرضك طيبة، وخضرواتك نقية، وأنت تجمعين بين الصفاء والخصوبة والنقاء، وتضيفين إلى كل ذلك الشجاعةَ النادرة.
أما العنب الديراني، فيا عيني على العنب الديراني، لاسيما إذا كان من عرائش أبو راتب.
مرة طلبت منه عُودين لأغرسهما في داري في القصير، فأحضر لي رزمة عيدان محترمة. أخذتها وشددت الرحال إلى بلدتي، وفي أرض الدار زرعت عودين، وأعطيت الباقي لبعض أقاربي وأصدقائي، وبعد سنوات قليلة أصبحت القصير وداريا متلاحمتين عبر عرائش العنب، فالأصل من داريا والفرع في القصير، وحين يأتيني ضيوف، أقدم لهم صينية العنب، وأقول لهم هذا عنب ديراني ــ قصيراوي، هلمّوا.
آآآآه.. وبعد نحو أربعين سنة، تلاحمت داريا والقصير مرة أخرى، ولكن هذه المرة عبر استهدافهما بالقتل والتدمير من أعداء حاقدين، فاستشهد الآلاف من المدينتين، وطُرد من تبقى من الأهالي في تطهير عرقي ومذهبي لم ولن يشهد التاريخ مثيلاً له من قبل ومن بعد.
فهل يعود أهل القصير إلى القصير، وأهل داريا إلى داريا.!؟.
الأحداث التي تزداد تشابكاً وتعقيداً، تجعلنا نقول: الله أعلم.
لامني أصدقاء، عندما قلت إن فك حصار حلب يؤسّس واقعاً جديداً بالنسبة لمسار الثورة السورية، من علاماته أن ما تم إنجازه ميدانيا هناك لن يكون قابلاً للإلغاء، لأن إلغاءه يتجاوز هزيمة الثورة إلى هزيمة تركيا التي تعمل على أكثر من محور وجبهة، داخلها وخارجها، للرد على ما يدبر ضدها من تهديدٍ يطاول وجودها، وتصرفت بروحية من يرد خطراً مصيرياً عن نفسه، عبر حلب، حيث تركّزت، في العام الأخير، مخاطر تحمل دلالاتٍ قاتلةً بالنسبة لها، قدر ما تحمل مثل هذه الدلالات بالنسبة لثورة سورية وشعبها، لا عجب أنها فرضت عليهما شراكة مصيرٍ انتقلت بتركيا من التعامل المتوجس مع ما يجري إلى مجابهته برؤيةٍ صراعيةٍ استراتيجية الأبعاد، يتطلب تطبيقها ممارسة دور هو ضمانة إقليمية/ دولية الأبعاد لثورة سورية التي كانت قد بلغت، بحصار حلب، لحظةً مفصليةً حاسمةً، اعتبرها النظام و"مستشاروه" الإيرانيون انتصارهم النهائي ضد السوريين، وقرأها الروس خطأً، حين طلبوا من شعب حلب مغادرة مدينته، ومن مقاتليها إلقاء سلاحهم، فجاء الشعور بالخطر الوشيك تركياً إلى الانخراط في شراكة مصيرية مع الثورة، ما لبثت أن قلبت الموازين، وأخذت الأوضاع إلى حال مغايرة لما وجد السوريون أنفسهم فيه، معظم الوقت بعد ظهور "داعش"، ودورها الإجرامي لصالح الأسد ونظامه، فكان من الطبيعي أن تترجم شراكة المصير إلى جهد ميداني يفك قبضة حلف الإجرام الأسدي/ الإيراني/ الروسي عن حلب، ويطرد شريكه الداعشي من جرابلس، وأن يتلقى الحلف في المدينتين ضرباتٍ ستكون نتائجها مما سيصعب على الأسدية المتهالكة، وملالي الإجرام والعدوان في طهران، وقفه، أو مواجهته في مقبلات الأيام، ولو بلغ عدد طائرات فلاديمير بوتين ألفاً.
ليس ما حدث قابلاً للإلغاء، لأن شراكة المصير التركية/ السورية ليست قابلة للإلغاء، فيما يتصل بالعلاقة مع التكامل الأسدي/ الداعشي. وإذا كان من الضروري تعداد إنجازات الشراكة في الأسابيع القليلة الماضية، فهي:
أولاً وقبل كل شيء، إبطال مشروع صالح مسلم الانفصالي، الذي توهم أنه سينجح في فرض كيان دولوي خاص بحزبه، على العرب والكرد السوريين والعراقيين، وعلى تركيا وإيران، وروسيا وأميركا، وصدّق أن استخدام مرتزقته في الحرب ضد "داعش" يحتم موافقة واشنطن على أوهامه، وها هي تكشر عن أنيابها في وجهه، بمجرد أن طرح الرئيس التركي، أردرغان، عليها الاختيار بين مشروع مسلم المستحيل ومصالحها في تركيا ومعها.
ثانياً، إخراج "داعش" من معادلات الصراع في سورية، وبداية عودة هذه المعادلات إلى ما كانت عليه بعد الثورة، البديل الديمقراطي هو الخيار الوحيد بعد إسقاط الأسد. أخرجت شراكة المصير، بوضعها خطّا أحمر للنظام وإيران في حلب، ولصالح مسلم في الشمال السوري، الإرهاب من حسابات البدائل السورية، وعزّزت، بدعهما معركةً ينفرد الجيش الحر، بخوضها من دون أية إضافات "غير معتدلة"، فرص البديل الديمقراطي الذي بنيت وثيقة جنيف والقرارات الدولية على حتميته، وتطرحه اليوم شراكة المصير بديلاً وحيداً للنظام. عند هذه النقطة، سيكون من المهم والمصيري أن تقوم جبهة فتح الشام بخطوةٍ إضافية، تستعيد، بواسطتها، وتؤكد بصورة علنية وملزمة، وعودها الأولى حول قبولها الاختيار الشعبي الحر لبديل النظام، وتعهدها بعدم استخدام العنف لتحقيق أهدافها السياسية، بعد إسقاط الأسد، وقبولها فكرة الشعب السوري الواحد ووضع جهادها في خدمة جميع مكوناته، بما في ذلك العلوي منها. ومع أنني أعي صعوبة المطلب الأخير ، فإنني أعتقد جازماً أن تحولاً كهذا في مواقف جبهة النصرة سيلعب دوراً حاسماً في تهيئة الأجواء السورية والعربية والدولية لإسقاط النظام، من دون أن تستبعد حرية بلاد الشام الخيار الإسلامي، الحر والسلمي.
مع فك الحصار عن حلب، وتطهير جرابلس من حلفاء الأسد، تتاح لنا فرصةٌ، إن أحسنا الإفادة منها، أخذتنا إلى حل عادل، لا محل للأسد والإرهاب فيه.
لا صوت يعلو فوق صوت المعركة شعارٌ يفهمُ منه كثيرون اقتصار المعركة على الجانب العسكري، وعدم الخوض في المجال السياسي، وهذا تحييدٌ للعقل، وتقييد لميدان العمل، والثورة ميدان آخر كليا، يحتاجُ إلى خوض جميع المعارك، عسكرية وسياسية وإعلامية وحقوقية ...إلخ. وفي الحالة السورية، لولا البندقية وتضحيات حامليها، لكان الأسد يتربعُ الآن مرتاحاً على عرشه فوق دماء السوريين وأشلائهم، وبمباركة دولية. ولكن، في الوقت نفسه، لا غنى عن المعركة السياسية التي ستختصر الطريق إلى النصر، وتجنبنا حالة الاستنزاف التي ندفعُ إليها دفعاً.
فبعد اتساع جغرافية الصراع، وتعدّد أقطابه، لاتزال هناك خيوط في أيدي السوريين، على الرغم من تدخل قوى إقليمية ودولية، وحتى نستطيع أن نكون رقماً صعباً في حل المعادلة السورية، نحتاج إلى أن نفكر بطريقة جديدة مختلفة عما سبق، ونستجمع قوانا العسكرية والسياسية والمدنية، فالصراع أصبح مع الاستبداد والاستكبار الدولي، ولم يعد يقتصر على الأسد وحده، فكل اللاعبين الكبار منخرطون في استنزافنا، سواء الذين يقاتلون، بطائراتهم وعسكرهم، أو الذين يتلونون أمام كل استحقاق إنساني وحقوقي في وجه الأسد، فيبيعون الشعارات، ويطلقون يد الجلاد ويدعمون أطرافاً على حساب أخرى، لتستمر الحرب، ويستمر النزيف السوري لخدمة مصالحهم فقط.
وتستلزم النجاة بالمركب السوري مد الجسور بين القوى الثورية، مؤسسات وأفراداً، لبلورة رؤية سياسية واقعية، والبحث عن خيارات جديدة، من دون التخلي عن الثوابت، مع الاستفادة من حالة الانتصارات العسكرية الأخيرة، وترجمتها في ميدان السياسة. وإذا أردنا النجاح في هذه الخطوة، لا بد لنا من الابتعاد عن لغة التخوين والتسفيه، والتي كانت، على مدار خمس سنوات من عمر الثورة، أداة اغتيال للأفكار والأشخاص، أدت إلى وأد روح المبادرة، حتى فرّت العقول والكوادر، وانزوت في ركن الانتظار، وطفت على الساحة طبقةٌ سياسيةٌ، همها إرضاء الشارع أمام الإعلام لا خلاصهُ. وفي الكواليس، الانبطاحُ الصفيق على أعتاب الدول وسفاراتها، ففقدت هذه الطبقة هيبتها أمام الدول، وخسرت ثقة الناس، بسبب عدم الإنجاز، فأصبحت جزءاً أصيلا من المشكلة، بدل أن تكون بوابةً للحل والأمل.
وللخروج من حالة الاستعصاء السوري، لابدّ من تشكيل طبقةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، عمادها ثوار الميدان والشخصيات الوطنية التي تم تحييدها وتهميشها في العمل السياسي لصالح الثورة، مع تمثيل كل القوى السياسية الأخرى التي تتقاطع مع مشروع الثورة الوطني، وكلٌ حسب حجمه وتأثيره الحقيقي. تسعى هذه الطبقة، صاحبة القرار والتأثير الفعلي، إلى خوض المعركة السياسية، وفي مقدمتها المواجهة مع روسيا التي تعد الآن أهم القوى المنخرطة في الصراع المباشر في سورية لصالح الأسد. وهي كما يعلم الجميع، دولةُ مافيا همها مصالحها فقط، ولا تلقي وزنا لدماء الأبرياء. وفي غياب حلفاء حقيقيين، بمستوى روسيا، على الساحة الدولية، لا بدّ من الحديث معها ومحاولة تحييدها من صف الأسد، وهو عمل صعبٌ وطويلٌ، وليس مستحيلاً، ويحتاج إلى قوة ردع ميدانية حقيقية، توازيها قوة سياسية، تدخل معها في مفاوضاتٍ في سبيل تحقيق هذا الهدف. وتحييدها من صف النظام إن حصل يعتبرُ إنجازاً عظيماً على طريق وقف الحرب والخلاص السوري، فلا يخفى على أحد أن التدخل العسكري الروسي أوقف الانهيار العسكري للنظام ومليشياته، ومن خلفها إيران.
والآن، وبعد تمكن الثوار من كسر حصار حلب، أثبتت الثورة السورية، مجدّداً، قدرتها على قلب الموازين العسكرية، ولابدّ من استثمار هذا الانتصار سياسياً مع الروس قبل غيرهم، وقد رأينا كيف اتجهت روسيا إلى لقاء جزء من المعارضة السورية، بقيادة الشيخ معاذ الخطيب في الدوحة، في محاولةٍ منهم للعودة إلى طاولة المفاوضات، وفق الرؤية الروسية. ويدرك الخطيب تماماً أهمية تحييد الروس من المعادلة السورية، ويبني، من البداية، تصوراته على هذا الأمر، وحاول كسب ودهم لصالح الحل، بدل الدفاع عن أحد أطراف الصراع. لكنه، في كل مرة، يخطئ في آليات عمله نحو هذه القناعة، فيتركُ قوى الميدان، ويلجأُ إلى طبقة السياسيين التي تحدثنا عنها، والتي تعلمُ جدوى الفكرة، ولا تعمل عليها. ثم يطلقُ أفكاره ومبادراته في جوٍ عام، يرى فيه معظم السوريين حرق الطائرات الروسية أبناءهم، ويعلمون أن الروس مافيا لا تتحرك باتجاه الشخصيات النظيفة، إلا لخدمة مصالحها وفرض رؤيتها وشقّ صف الثوار، وليس بحثاً عن الحلول. فيصادمُ الناس من دون جدوى، ويصطاد السياسيون في الماء العكر، وتبدأ المزاودات السياسية الرخيصة.
وجزء كبير من الناس يثق بالشيخ معاذ الخطيب، ويعلمُ أنه يريد خلاص السوريين. ولكن، لن يكون هناك خلاص بدون قوى الميدان، وفصائله وأهله القابعين تحت محرقة الطيرانين، الروسي والأسدي وبراميلهما، فهؤلاء، مهما أثرت عليهم القوى الدولية والإقليمية، لن تسلبهم همتهم في معركتهم مع النظام. وعلى كل السوريين الشرفاء، وفي مقدمتهم الخطيب، أن يتجهوا إلى الميدان وقواه، ولا يبخلوا عليه بالوقت والجهد، فأهلهُ هم الحاملُ الحقيقي أي مشروع لخلاص سورية، فلن يكون هناك حل بدونهم، وتشكيل طبقة سياسية جديدة صاحبة قرار، تعبر عن تضحيات السوريين وتطلعاتهم، هو أولى الخطوات نحو هذا الحل، وعندها يصبحُ هذا المشروع مشروع الشعب، وليس مشروع فئةٍ أو حزبٍ أو شخص. وفيما عدا ذلك، كل تحركات روسيا، ولقاءاتها مع أي جهة لا تمتلك القرار الفعلي، مجرد مناورةٍ سياسيةٍ منها، لخدمة مصالحها فقط، وشق صف المعارضة السورية لصالح فرض رؤيتها للحل السوري.
هذه ملاحظات دونتها خلال الأيام القليلة الماضية، وأطلعتُ العديد من الأخوة والأخوات الذين أثق بوطنيتهم العالية على بعض منها.. أعرضها على العام هنا مؤكداً أنها لا تمثل ولا تلزم أحداً سواي.. وأنها مجرد تفكير بصوت مسموع (أو مقروء إذا شئتم)، فأنا ممن يعتقدون أن أحد مقاتل أية حركة وطنية أو سياسية إنما يكمن انغلاقها على أعضائها، وعدم انفتاحها على الجمهور كله تحت ضوء الشمس ورابعة النهار... محاولة للتفكير بمنهج بديل للخروج من هذه المقتلة، وصيانة سوريا الغالية مما يُخطط لها في عواصم العالم!
خلفية لا بد منها
يجب أن نعترف بكل جرأة ووضوح أن الثورة الشريفة التي قام بها شباب وشابات سورية من أجل الحرية والكرامة قد فقدت بريقها وألقها، واستطاع النظام المجرم بالقمع الوحشي والإغراءات والاختراقات دفعها نحو التسلح الذي شكل مقتلاً لها.
ذلك أن التسلح يعني أولاً ضرورة الارتهان لقوى خارجية للتزود بالسلاح والذخيرة ورواتب المقاتلين.
ولأن التسلح يغري الجهلة والمتسلقين وحتى الزعران بركوب هذه الموجة، كي يصبحوا قادة بالقوة والجبروت على مجتمعهم ومحيطهم، وهنا يبدأ تذمر الناس وضيقها، وصولاً إلى كفرها بالثورة!
ولأن التسلح (والقمع الوحشي للنظام) يجلب الغرباء للتدخل في الثورة تحت ستار (نصرة الإسلام والمسلمين)، وبدفع من قوى إقليمية تريد جزءاً من الكعكة السورية!
وقد دفع النظام إلى ذلك بكل قوته، وأطلق سراح المتشددين ذوي الخبرات في الحركات الجهادية لكي يبدؤوا دورهم في تطييف الثورة واستخدام السلاح.
كل هذه العوامل أفقدت الثورة بريقها في عيون حاضنتها الشعبية أولاً، ومنحت النظام ما يحتاجه من مبررات وحجج للاستمرار في القمع وتكتيل قواعده وأجهزته حولة باعتبارهم أصبحوا مهددين بحياتهم.
وزاد من الأثر المأساوي للتسلح والتطييف أن القوى الدولية التي تظاهرت بتأييدها لأهداف الشعب السوري في الحرية والعدالة، وجدت المبرر لسحب يدها تدريجياً، وتحويل مواقفها حتى أصبحت أقرب للنظام منها للشعب المعذب المكتوي بنار البراميل.
كل ذلك ترافق مع غياب القيادات السياسية الواعية، والتغييب القسري لها من قبل النظام قتلاً وسجناً، مع إطلاق سراح المتشددين ليتصدروا المشهد العام ويزيدوا من تنفير مجتمعهم والعالم كله من الثورة.
هذه لم تعد إذن ثورة الشعب السوري.. ليست الثورة التي خرجت من أجل حرية وكرامة السوريين.. ليست ثورة غياث مطر، وباسل شحادة، ورزان زيتونة، ومشعل تمو، وعبد العزيز الخير، والآلاف غيرهم ممن اغتالهم النظام أو غيبهم.. فقد استولى عليها الغلاة الذين أظهروا (في المناطق التي سيطروا عليها) عداءهم لقيم الحرية والكرامة.
أما الشخصيات التي سارعت "لتمثيل" الثورة في الخارج، فقد أظهرت مع بالغ الأسف قصوراً بالغاً في الرؤية، ونقصاً شديداً في الخبرة السياسية، واستكانة مخجلة أمام تدخل القوى الإقليمية والدولية.. حتى أصبحت بالفعل ممثلة لهذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك، أكثر من تمثيلها لجماهير الثورة ومصالح السوريين.
وبالتالي وجد النظام المجرم الأمور مهيأة لاستمراره في القمع والقتل، بصمت عالمي لا سابقة له، وبدعم من حلفاء طائفيين مصرين على بقائه لأنه أصبح حصان طروادة بالنسبة إليهم في سعيهم لتغيير ديمغرافية سوريا، وإلحاقها بالإمبراطورية الفارسية المدعومة أمريكياً وروسياً.
وخلف كل هؤلاء، يتربع الكيان الصهيوني المستفيد من كل هذا الدمار والقتل لهذا البلد العريق وتغييبه لعشرات السنين القادمة.
لقد ظن البعض أن نداءاتنا للحفاظ على سلمية الثورة في بداياتها كانت ناتجة عن مثالية أو ملائكية، أو عدم فهم لطبيعة النظام! والحقيقة أن معارضتنا للتسليح كانت ببساطة لأنه لا ينجح مع مثل هذا النظام، وإلا لما دفَعَنا النظام إليه دفعاً لكي يقاتل في الساحة التي يتقنها جيداً! ساحة القتل والتعذيب والقصف الأعمى! كان موقفنا في الدعو للسلمية نابعاً من فهمنا الدقيق للنظام والآليات المطلوبة لمواجهته.
غير أن الاستمرار في السلمية كان بحاجة إلى درجة عالية من الوعي والصبر وضبط النفس لم تكن متوفرة لدى قواعد الثورة. كما كان بحاجة إلى قيادات ميدانية متمرسة تستطيع ضبط وتوجيه حركة الجماهير وتكريس السلمية وحض الناس عليها. وقد اغتيلت سريعاً جميع القيادات التي كانت تبشر بمثل هذا النهج. وبالمقابل وجدنا القيادات التلفزيونية تتبارى في دغدغة مشاعر العامة وتدعو - بجهل بالغ - للتصدي للنظام من مهاجرها الأمينة الهادئة! غير أن ست سنوات من فشل هذا الخيار لا بد أن توقظ المخلصين إلى الحقيقة الدامغة، وهي أنه لا منتصر في سوريا اليوم ولا غداً.. فالقوى التي تغذي الصراع لن تسمح بهزيمة ماحقة لأي طرف.. وجل ما يمكن تحقيقه هو التقسيم المستند إلى الأمر الواقع، وهو ما بدأنا نر
ى مقدماته مع بالغ الأسف!
نحن إذن بحاجة إذن لثورة جديدة على الثورة.. ثورة تعيد قيم الكرامة والوطنية الحقة.. ثورة لا تستخذي أمام المال السياسي، ولا تبيع ولاءاتها ودماء شعبها.. ثورة وطنية سورية لا شية فيها!
وبالتالي فإن هناك حاجة إلى حركة شعبية جديدة.. هناك حاجة لا إلى حزب سياسي جديد، ولا لمنظمة معارضة، بل لوطن جديد ينهض من تحت الرماد بجهود جميع أبنائه.. حركة للسوريين جميعاً على كلا الجانبين لإعادة التفكير بمصير وطنهم الذي أصبح على كف العفريت الصهيوني الإيراني الدولي.. حركة لاستنهاض قيم الوطنية السورية بكل معانيها لتفويت الفرصة على الأعداء من كل صنف ولون. حركة تكون باختصار:
حركة وطنية سلمية سورية، تؤمن بحرية سوريا واستقلالها، وبحق جميع مكوناتها في العيش في ظل دولة ديمقراطية عادلة.
حركة تريد اجتراح مقاربة مختلفة للخروج من النفق المظلم والخطير الذي دخل فيه الوطن دون أمل بالخروج منه!
حركة تريد جمع أشتات السوريين من جديد، للحدب على وطنهم، وإعادة المحبة بينهم، وعدم الدخول – في هذه المرحلة الخطيرة جداً – في التفاصيل السياسية التي تفرق بينهم، وذلك كمقاربة جديدة ومختلفة لتناول الأزمة المستعصية التي تعصف بالوطن وتهدد مصيره.
حركة تريد – مرحلياً على الأقل – تجاوز خلافات السوريين، والتركيز على ما يجمعهم لا على ما يفرقهم. ففي نهاية المطاف، المباديء والممارسات أهم من الأشخاص، وسوريا أهم وأغلى وأبقى من هوية حاكمها.
إن بناء حركة شعبية كهذه لن يكون بالأمر السهل أبداً.. فقد بلغ اليأس بشعبنا كل مبلغ، وساهمت هيئات المعارضة بنصيب وافر من المسؤولية عن تيئيس الناس وخذلانهم. ونخر الفساد والمحسوبية والتنفع هياكل المعارضة حتى أصبح الشرفاء يتطيرون من أية دعوة للعمل العام. فكل مغامر أصبح يسعى لتأليف تجمع لكي يتاجر بعد ذلك بأعضائه إما للوصول إلى المساعدات القذرة من هنا أو هناك، أو للوصول إلى مناصب خلبية ربما منحته مالاً أو شهرة أو زعامة!
ولذلك فإن أول ما يجب الحرص عليه هو أن تُصمم هذه الحركة بحيث تكون مغرماً لا مغنماً، بحيث يهرب منها ضعاف النفوس، ولا يأتي إليها إلا من يريد العطاء من ماله أو جهده أو وقته أو دمه إذا تطلب الأمر! لا بد – حتى تنجح هذه الحركة الشعبية – من أن تجعل الانتساب لها شرفاً يتطلع إليه الوطنيون الشرفاء، ويرنو إليه شباب الوطن بمختلف انتماءاتهم!
إننا نرى أن الحركة الشعبية الجديدة يجب أن ترتكز على المبادئ والاستراتيجيات التالية:
• إعادة الحراك السلمي الوطني الرافض للتدخل في شؤون سوريا الداخلية من جميع الأطراف، والرافض لأي وجود أجنبي على أراضيها من أي طرف غير سوري، وبالتالي إنقاذ سوريا من التدخلات الخارجية كلها، وخروج كافة القوى والمليشيات والجيوش والقواعد غير السورية من أرض سوريا تمهيداً لاستعادة القرار الوطني السوري.
• دم السوري على السوري حرام.. ويكفي سوريا ما سُفك من دماء أبنائها. وبالتالي ضرورة وقف نزيف الدم والتدمير، الناتج عن الارتهان المذل لكافة القوى الخارجية التي تمول وتؤجج الصراع بين السوريين تمهيداً لتقسيم وطنهم، وتفتيت وحدتهم.
• فك الحصار عن كافة المناطق المحاصرة، والسماح بدخول المساعدات والمواد الغذائية والطبية إليها دون قيد أو شرط.
• إطلاق سراح كافة المعتقلين لدى جميع الأطراف، ووقف جميع أعمال الاعتقال والخطف في جميع أنحاء سوريا.
• السماح بعودة المهجرين في الداخل والخارج إلى بيوتهم ومناطقهم دون أعمال انتقامية من أي طرف كان.
• السوريون أدرى بشعاب وطنهم، وسيجلسون لتحديد طريقة وصولهم إلى الدولة الديمقراطية العادلة التي يريدونها بمجرد خروج كافة القوى والمليشيات، وتوقف الدول عن التدخل بشؤونهم.
• يجب على الأمم المتحدة أن تعيد تقييم موقفها، وأن تطالبَ كافة القوى الإقليمية والدولية بالكف عن التدخل في الشأن السوري، وأن تمارس دورها الحقيقي لاحترام القرار الوطني السوري واحترام إرادة السوريين الحرة المستقلة.
معالم على الطريق:
1- لا بد من بناء أوسع حركة شعبية سورية ممكنة من المؤمنين بالأهداف الواردة سابقاً داخل الوطن وخارجه. ومن مختلف المرجعيات والأطياف الفكرية والسياسية، باعتبار أن ما يجمع كل هؤلاء هو الإيمان بسوريا حاضراً ومستقبلاً.
2- اتباع الطرق السلمية في التعبير عن الرأي وفي الضغط الشعبي في الداخل والخارج لتحقيق أهداف الحركة، واتباع كافة الاستراتيجيات والتكتيكات السلمية التي تزخر بها تجارب العالم في هذا المجال.
3- وضع آلية لاختيار قيادة الحركة من الأشخاص المشهود لهم بالنزاهة، والوطنية، وعفة اليد واللسان، والتاريخ المشرف، والحرص على سوريا بجميع مكوناتها.
4- وضع آلية شفافة للمحاسبة والمكاشفة، وتجديد القيادات، وإعطاء دور محوري وازن لشباب الوطن وشاباته باعتبارهم الأداة الرئيسية للتغيير.
5- الخروج إلى الشمس، وتجنب الأسماء الوهمية لأن ما تقوم به الحركة لا يحق لأحد أن يختلف معه، ناهيك عن إدانته أو
المعاقبة عليه، وتجنب ممارسات الغرف المغلقة والأسرار، ووضع الجمهور أولاً بأول بكافة أنشطة الحركة واستراتيجياتها وتحركاتها ومباحثاتها مع أي طرف كان.
6- تحريم تلقي أي دعم مادي مشروط من خارج أعضاء الحركة. فالحركات السلمية الشعبية إنما تنفر خفافاً، وليست بحاجة إلى الأموال الطائلة المُفسدة، بل هي بحاجة إلى المؤمنين المخلصين، وبالتالي فلن يكون للطامعين الأجانب من سبيل لشرائها أو حرفها أو اختراقها.
7- وضع آلية بالغة الشفافية تعرض دورياً على أعضاء الحركة وعلى الجمهور عموماً في حجم الأموال المتبرع بها ومصادرها، وآليات وأوجه صرفها تفصيلياً.
8- تصميم راية واحدة تمثل سوريا فقط، ويرفعها جميع منتسبي الحركة والمؤمنون بنهجها، ويكون رفع هذه الراية الوطنية والتمسك بها من باب أضعف الإيمان.
9- يقدم كل منتسب للحركة سيرة ذاتية مبسطة يوضح فيها ما الذي يمكنه تقديمه لسوريا. بدءاً بالدعم المادي، ومروراً بالعمل مع الجمهور، والعلاج النفسي، والكلمة، واللوحة، والفيلم، والتظاهر، والعمل مع الجهات السياسية الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان، وإرسال الرسائل للمنظمات والسياسيين وقادة الرأي في كل ساحة من الساحات، وانتهاء بمجرد تبني راية هذه الحركة ورفع علمها ومشاركة بوستاتها.
10- تتولى قيادة الحركة رسم استراتيجية تفصيلية بعيدة المدى وخطوات مرحلية محددة لتحقيق أهداف الحركة، وتوسيع رقعة أعضائها والمؤمنين بها، وتحدد في كل مرحلة طبيعة الأنشطة السلمية والإعلامية التي يجب القيام بها داخل الوطن وخارجه. ويتم إطلاع كافة الأعضاء، وحتى الجمهور الواسع، على تلك الاستراتيجية إشراكاً لأوسع الشرائح في تبنيها وتنفيذها.
11- في جميع أدبياتها وتصريحاتها ومواقفها تلتزم الحركة بالتعبير عن الهم السوري العام، والمصلحة السورية العليا، والهدف المركزي الذي قامت من أجله، دون الدخول في الخلافات السياسية التي تضعف دورها الوطني الأساسي كحركة جامعة للسوريين بمختلف منابتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية، وتؤجل ما عدا ذلك من قضايا (رغم إدراكها للخطورة والتعقيدات الكبيرة لتلك القضايا).
12- وبناء على البند السابق، ورغم الصعوبات الجمة، تسعى الحركة إلى تعزيز القواسم المشتركة بين السوريين، وتهذيب الخطاب العام، وتصليب الموقف الوطني حول الثوابت. وفي سبيل ذلك تسعى جاهدة إلى ترشيد خطاب أعضائها، واستبعاد كل من يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الهوة بين السوريين، دون الحجر على حرية الناس ومصادرة حقهم في الاعتقاد والتعبير في إطار المصالح الوطنية العليا.
13- في سعيها لبناء تيار شعبي واسع حول أهدافها المركزية، تعمل الحركة على الاستفادة من التجارب العالمية في مجال المصالحات الوطنية، والتوعية الوطنية، ومد الجسور، وأشكال العمل المدني الموحد لتحقيق أهدافها النبيلة.
وأخيراً، ليست لدينا أية أوهام في مدى سيطرة القوى الإقليمية والعظمى على القرار السوري على الجانبين. غير أننا ممن يؤمنون بقوة الفكرة إذا ما تهيأ لها حَمَلةٌ مؤمنون مضحون. فهي كالزهرة التي تشق أعتى الصخور. ولا بد أن تولد من لجة هذا اليأس إرادة جديدة للحياة ورفض إملاءات الشياطين الكثر.
ونحن على ثقة بأن مثل هذه الحركة الشعبية ستلاقي القمع من النظام كما تلاقيه من المعارضة المسيطرة على الأرض، رغم أن كلا الطرفين يتغنيان بأهدافها المعلنة، وسيجدان صعوبة في إدانتها واضطهاد أنصارها الذين سيكثرون مع كل انتصار صغير يحققونه، وسيلونون أرض الوطن وسماءه بوعيهم وصبرهم وتمسكهم بالثوابت الوطنية وبحق سوريا في الوحدة والبقاء والحرية والتقدم.
خلاصة التسوية بين مقاتلي داريا ونظام الأسد، تقضي بتسليم المدينة للنظام مقابل خروج نحو خمسة آلاف هم من تبقى من سكان المدينة والمدافعين عنها إلى مناطق خارج سيطرة النظام. وبهذه الخلاصة، يسدل الستار على فصل مهم من قصة مدينة صغيرة قاومت قوة النظام العاتية لنحو خمس سنوات، في ظل حصار خانق، فشل العالم في فكه أو تخفيف معاناة المحاصرين على نحو ما فشل في الوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، كانت داريا ستجد فيه إمكانية لتجاوز التسوية الأخيرة في تسليم المدينة ورحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها.
داريا أكبر مدن غوطة دمشق الغربية، وهي الأقرب للعاصمة دمشق؛ إذ لا تبعد عنها سوى ثمانية كيلومترات، وتجاور مطار المزة العسكري الموصوف بأنه أكبر وأخطر قواعد النظام الأمنية والقتالية في محيط دمشق، حيث توجد فيه طائرات الهليكوبتر، ومقر فرع التحقيق للمخابرات الجوية سيئ الصيت، وبلغ عدد سكان داريا أكثر من مائتين وخمسين ألفًا عشية ثورة السوريين على النظام في مارس (آذار) من عام 2011، لكن غالبية هؤلاء تم تهجيرهم من المدينة في ظل سياسة القتل والاعتقال والحصار والتجويع، التي مارسها نظام الأسد، وأدت إلى مقتل وإعطاب عشرات الآلاف من السكان، وفقد آلاف منهم، قامت الأجهزة الأمنية والعسكرية باعتقالهم أو اختطافهم.
ويمثل موقع المدينة الاستراتيجي أحد أسباب السياسة الدموية، التي اتبعها النظام في التعامل مع المدينة وسكانها، وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه، منها أن داريا كانت بين أوائل المدن السورية التي انخرطت في الثورة، فأطلقت حراكًا مدنيًا سلميًا، ميز الثائرين من أبنائها في سلوكياتهم وشعاراتهم رغم البطش المبكر الذي مارسه النظام ضدهم مع بدء المظاهرات في أواخر 2011، وكرس أبناء داريا فكرة سلمية الثورة بصورة منظمة ومنضبطة، وعملوا على صيانة المدينة والحفاظ على وحدة المسلمين والمسيحيين من أبنائها، وحافظوا على الوافدين من سكانها، وانفردوا بين الثائرين بتوزيع الورود والمياه على جنود النظام، وحافظوا على خطاب الثورة وشعاراتها دون الذهاب إلى التطرف.
غير أن النظام رد على اعتدال داريا وسلميتها بعنف شديد، كانت مجزرة داريا في 2012 إحدى أبرز ذرواته المبكرة، التي قُتِل فيها ثلاثمائة من سكان المدينة في يوم واحد، يضافون إلى ثلاثمائة وستين آخرين قُتلوا في العام الأول من الثورة مع اختفاء واعتقال نحو ألف من أبنائها في العام الأول، وكانت المجزرة بين الأسباب التي عززت توجُّه بعض ثوار داريا إلى التسلح للدفاع عن النفس، خصوصًا بعد تزايد عدد أبناء المدينة الذين انشقوا عن جيش النظام وأجهزته الأمنية، وانضموا إلى الثورة، فتم تشكيل المجموعات الأولى من «الجيش الحر» في المدينة، وتوحدت تلك المجموعات في كتائب أبرزها كتيبة شهداء داريا، قبل أن تنتظم تلك الكتائب تحت اسم «لواء شهداء الإسلام» في أعقاب المذبحة الكبرى التي ارتكبها النظام في أغسطس (آب) عام 2012.
فرض النظام الحصار على داريا مع أواخر عام 2012، فمنع مرور الأشخاص والسلع بما فيها الغذاء والدواء إلى المدينة بهدف إخضاعها. لكن الأهالي والفعاليات الأهلية والمدنية، أعادت ترتيب الحياة في المدينة من خلال مجلس محلي مُنتَخَب بطريقة ديمقراطية، هدفه تجاوز نقاط الضعف والفوضى والتشتت، وتجميع الجهود لإدارة المدينة وحياة سكانها عبر مكاتب متخصصة، يديرها مكتب تنفيذي، كان الوحيد بين المجالس المحلية الذي يشرف على المكتب العسكري ويوجهه، وفي هذا عكس أبناء داريا وعيهم وقدرتهم على تنظيم وإدارة حياتهم بما في ذلك الدفاع عن مدينتهم ضد هجمات النظام التي ظلت متواصلة ومتصاعدة طوال السنوات التالية.
واستنزفت الحرب الطويلة مع الحصار الشديد، ومنع الغذاء والدواء قدرات أهالي داريا، وتفاقم الوضع بعد التسوية الجزئية، التي تمت بين نظام الأسد والمعضمية جارة داريا وخاصرتها في الغرب، وبعد التوقف الكلي لأية مساعدات كان يمكن أن تجد لها طريقًا إلى المدينة، ثم زاد الأمر سوءًا إغلاق أفق التسوية السياسية للقضية السورية، وتشديد النظام لهجماته البرية والجوية على المدينة وأطرافها، وكلها عوامل جعلت من إمكانية سقوط المدينة بيد نظام الأسد أمرًا ممكنًا، وكانت السبب في التوصل إلى الاتفاق الأخير الذي ما زالت بعض تفاصيله غير معلنة.
قصة داريا، قصة المدينة المثال في ثورة السوريين من حيث تجسيدها لسعي السوريين السلمي من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وحتى عندما ذهبت الثورة إلى التسلح والعسكرة، فقد ظلت المدينة تحكم قبضتها عبر مجلسها المحلي على القوة العسكرية، وتخضعها لقرارات المجلس المحلي، الأمر الذي ساعد في صمود المدينة وأهلها في وجه القوة الطاغية للنظام.
ولئن استطاع الأخير أخذ المدينة بالقوة الطاغية، وترحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها، وسط ظروف سياسية وميدانية محليًا وخارجيًا، فإنه لن يستطيع إلغاء فصل عظيم من تاريخ مدينة ظلت سنوات وسط حصار تقاوم العدوان والدموية في تجربة لا تكاد تماثلها تجربة في تاريخ المدن، بل إن حصار مدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية لمدة ستة أشهر، ليس إلا فصلاً بسيطًا من تجربة داريا.