هذه ملاحظات دونتها خلال الأيام القليلة الماضية، وأطلعتُ العديد من الأخوة والأخوات الذين أثق بوطنيتهم العالية على بعض منها.. أعرضها على العام هنا مؤكداً أنها لا تمثل ولا تلزم أحداً سواي.. وأنها مجرد تفكير بصوت مسموع (أو مقروء إذا شئتم)، فأنا ممن يعتقدون أن أحد مقاتل أية حركة وطنية أو سياسية إنما يكمن انغلاقها على أعضائها، وعدم انفتاحها على الجمهور كله تحت ضوء الشمس ورابعة النهار... محاولة للتفكير بمنهج بديل للخروج من هذه المقتلة، وصيانة سوريا الغالية مما يُخطط لها في عواصم العالم!
خلفية لا بد منها
يجب أن نعترف بكل جرأة ووضوح أن الثورة الشريفة التي قام بها شباب وشابات سورية من أجل الحرية والكرامة قد فقدت بريقها وألقها، واستطاع النظام المجرم بالقمع الوحشي والإغراءات والاختراقات دفعها نحو التسلح الذي شكل مقتلاً لها.
ذلك أن التسلح يعني أولاً ضرورة الارتهان لقوى خارجية للتزود بالسلاح والذخيرة ورواتب المقاتلين.
ولأن التسلح يغري الجهلة والمتسلقين وحتى الزعران بركوب هذه الموجة، كي يصبحوا قادة بالقوة والجبروت على مجتمعهم ومحيطهم، وهنا يبدأ تذمر الناس وضيقها، وصولاً إلى كفرها بالثورة!
ولأن التسلح (والقمع الوحشي للنظام) يجلب الغرباء للتدخل في الثورة تحت ستار (نصرة الإسلام والمسلمين)، وبدفع من قوى إقليمية تريد جزءاً من الكعكة السورية!
وقد دفع النظام إلى ذلك بكل قوته، وأطلق سراح المتشددين ذوي الخبرات في الحركات الجهادية لكي يبدؤوا دورهم في تطييف الثورة واستخدام السلاح.
كل هذه العوامل أفقدت الثورة بريقها في عيون حاضنتها الشعبية أولاً، ومنحت النظام ما يحتاجه من مبررات وحجج للاستمرار في القمع وتكتيل قواعده وأجهزته حولة باعتبارهم أصبحوا مهددين بحياتهم.
وزاد من الأثر المأساوي للتسلح والتطييف أن القوى الدولية التي تظاهرت بتأييدها لأهداف الشعب السوري في الحرية والعدالة، وجدت المبرر لسحب يدها تدريجياً، وتحويل مواقفها حتى أصبحت أقرب للنظام منها للشعب المعذب المكتوي بنار البراميل.
كل ذلك ترافق مع غياب القيادات السياسية الواعية، والتغييب القسري لها من قبل النظام قتلاً وسجناً، مع إطلاق سراح المتشددين ليتصدروا المشهد العام ويزيدوا من تنفير مجتمعهم والعالم كله من الثورة.
هذه لم تعد إذن ثورة الشعب السوري.. ليست الثورة التي خرجت من أجل حرية وكرامة السوريين.. ليست ثورة غياث مطر، وباسل شحادة، ورزان زيتونة، ومشعل تمو، وعبد العزيز الخير، والآلاف غيرهم ممن اغتالهم النظام أو غيبهم.. فقد استولى عليها الغلاة الذين أظهروا (في المناطق التي سيطروا عليها) عداءهم لقيم الحرية والكرامة.
أما الشخصيات التي سارعت "لتمثيل" الثورة في الخارج، فقد أظهرت مع بالغ الأسف قصوراً بالغاً في الرؤية، ونقصاً شديداً في الخبرة السياسية، واستكانة مخجلة أمام تدخل القوى الإقليمية والدولية.. حتى أصبحت بالفعل ممثلة لهذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك، أكثر من تمثيلها لجماهير الثورة ومصالح السوريين.
وبالتالي وجد النظام المجرم الأمور مهيأة لاستمراره في القمع والقتل، بصمت عالمي لا سابقة له، وبدعم من حلفاء طائفيين مصرين على بقائه لأنه أصبح حصان طروادة بالنسبة إليهم في سعيهم لتغيير ديمغرافية سوريا، وإلحاقها بالإمبراطورية الفارسية المدعومة أمريكياً وروسياً.
وخلف كل هؤلاء، يتربع الكيان الصهيوني المستفيد من كل هذا الدمار والقتل لهذا البلد العريق وتغييبه لعشرات السنين القادمة.
لقد ظن البعض أن نداءاتنا للحفاظ على سلمية الثورة في بداياتها كانت ناتجة عن مثالية أو ملائكية، أو عدم فهم لطبيعة النظام! والحقيقة أن معارضتنا للتسليح كانت ببساطة لأنه لا ينجح مع مثل هذا النظام، وإلا لما دفَعَنا النظام إليه دفعاً لكي يقاتل في الساحة التي يتقنها جيداً! ساحة القتل والتعذيب والقصف الأعمى! كان موقفنا في الدعو للسلمية نابعاً من فهمنا الدقيق للنظام والآليات المطلوبة لمواجهته.
غير أن الاستمرار في السلمية كان بحاجة إلى درجة عالية من الوعي والصبر وضبط النفس لم تكن متوفرة لدى قواعد الثورة. كما كان بحاجة إلى قيادات ميدانية متمرسة تستطيع ضبط وتوجيه حركة الجماهير وتكريس السلمية وحض الناس عليها. وقد اغتيلت سريعاً جميع القيادات التي كانت تبشر بمثل هذا النهج. وبالمقابل وجدنا القيادات التلفزيونية تتبارى في دغدغة مشاعر العامة وتدعو - بجهل بالغ - للتصدي للنظام من مهاجرها الأمينة الهادئة! غير أن ست سنوات من فشل هذا الخيار لا بد أن توقظ المخلصين إلى الحقيقة الدامغة، وهي أنه لا منتصر في سوريا اليوم ولا غداً.. فالقوى التي تغذي الصراع لن تسمح بهزيمة ماحقة لأي طرف.. وجل ما يمكن تحقيقه هو التقسيم المستند إلى الأمر الواقع، وهو ما بدأنا نر
ى مقدماته مع بالغ الأسف!
نحن إذن بحاجة إذن لثورة جديدة على الثورة.. ثورة تعيد قيم الكرامة والوطنية الحقة.. ثورة لا تستخذي أمام المال السياسي، ولا تبيع ولاءاتها ودماء شعبها.. ثورة وطنية سورية لا شية فيها!
وبالتالي فإن هناك حاجة إلى حركة شعبية جديدة.. هناك حاجة لا إلى حزب سياسي جديد، ولا لمنظمة معارضة، بل لوطن جديد ينهض من تحت الرماد بجهود جميع أبنائه.. حركة للسوريين جميعاً على كلا الجانبين لإعادة التفكير بمصير وطنهم الذي أصبح على كف العفريت الصهيوني الإيراني الدولي.. حركة لاستنهاض قيم الوطنية السورية بكل معانيها لتفويت الفرصة على الأعداء من كل صنف ولون. حركة تكون باختصار:
حركة وطنية سلمية سورية، تؤمن بحرية سوريا واستقلالها، وبحق جميع مكوناتها في العيش في ظل دولة ديمقراطية عادلة.
حركة تريد اجتراح مقاربة مختلفة للخروج من النفق المظلم والخطير الذي دخل فيه الوطن دون أمل بالخروج منه!
حركة تريد جمع أشتات السوريين من جديد، للحدب على وطنهم، وإعادة المحبة بينهم، وعدم الدخول – في هذه المرحلة الخطيرة جداً – في التفاصيل السياسية التي تفرق بينهم، وذلك كمقاربة جديدة ومختلفة لتناول الأزمة المستعصية التي تعصف بالوطن وتهدد مصيره.
حركة تريد – مرحلياً على الأقل – تجاوز خلافات السوريين، والتركيز على ما يجمعهم لا على ما يفرقهم. ففي نهاية المطاف، المباديء والممارسات أهم من الأشخاص، وسوريا أهم وأغلى وأبقى من هوية حاكمها.
إن بناء حركة شعبية كهذه لن يكون بالأمر السهل أبداً.. فقد بلغ اليأس بشعبنا كل مبلغ، وساهمت هيئات المعارضة بنصيب وافر من المسؤولية عن تيئيس الناس وخذلانهم. ونخر الفساد والمحسوبية والتنفع هياكل المعارضة حتى أصبح الشرفاء يتطيرون من أية دعوة للعمل العام. فكل مغامر أصبح يسعى لتأليف تجمع لكي يتاجر بعد ذلك بأعضائه إما للوصول إلى المساعدات القذرة من هنا أو هناك، أو للوصول إلى مناصب خلبية ربما منحته مالاً أو شهرة أو زعامة!
ولذلك فإن أول ما يجب الحرص عليه هو أن تُصمم هذه الحركة بحيث تكون مغرماً لا مغنماً، بحيث يهرب منها ضعاف النفوس، ولا يأتي إليها إلا من يريد العطاء من ماله أو جهده أو وقته أو دمه إذا تطلب الأمر! لا بد – حتى تنجح هذه الحركة الشعبية – من أن تجعل الانتساب لها شرفاً يتطلع إليه الوطنيون الشرفاء، ويرنو إليه شباب الوطن بمختلف انتماءاتهم!
إننا نرى أن الحركة الشعبية الجديدة يجب أن ترتكز على المبادئ والاستراتيجيات التالية:
• إعادة الحراك السلمي الوطني الرافض للتدخل في شؤون سوريا الداخلية من جميع الأطراف، والرافض لأي وجود أجنبي على أراضيها من أي طرف غير سوري، وبالتالي إنقاذ سوريا من التدخلات الخارجية كلها، وخروج كافة القوى والمليشيات والجيوش والقواعد غير السورية من أرض سوريا تمهيداً لاستعادة القرار الوطني السوري.
• دم السوري على السوري حرام.. ويكفي سوريا ما سُفك من دماء أبنائها. وبالتالي ضرورة وقف نزيف الدم والتدمير، الناتج عن الارتهان المذل لكافة القوى الخارجية التي تمول وتؤجج الصراع بين السوريين تمهيداً لتقسيم وطنهم، وتفتيت وحدتهم.
• فك الحصار عن كافة المناطق المحاصرة، والسماح بدخول المساعدات والمواد الغذائية والطبية إليها دون قيد أو شرط.
• إطلاق سراح كافة المعتقلين لدى جميع الأطراف، ووقف جميع أعمال الاعتقال والخطف في جميع أنحاء سوريا.
• السماح بعودة المهجرين في الداخل والخارج إلى بيوتهم ومناطقهم دون أعمال انتقامية من أي طرف كان.
• السوريون أدرى بشعاب وطنهم، وسيجلسون لتحديد طريقة وصولهم إلى الدولة الديمقراطية العادلة التي يريدونها بمجرد خروج كافة القوى والمليشيات، وتوقف الدول عن التدخل بشؤونهم.
• يجب على الأمم المتحدة أن تعيد تقييم موقفها، وأن تطالبَ كافة القوى الإقليمية والدولية بالكف عن التدخل في الشأن السوري، وأن تمارس دورها الحقيقي لاحترام القرار الوطني السوري واحترام إرادة السوريين الحرة المستقلة.
معالم على الطريق:
1- لا بد من بناء أوسع حركة شعبية سورية ممكنة من المؤمنين بالأهداف الواردة سابقاً داخل الوطن وخارجه. ومن مختلف المرجعيات والأطياف الفكرية والسياسية، باعتبار أن ما يجمع كل هؤلاء هو الإيمان بسوريا حاضراً ومستقبلاً.
2- اتباع الطرق السلمية في التعبير عن الرأي وفي الضغط الشعبي في الداخل والخارج لتحقيق أهداف الحركة، واتباع كافة الاستراتيجيات والتكتيكات السلمية التي تزخر بها تجارب العالم في هذا المجال.
3- وضع آلية لاختيار قيادة الحركة من الأشخاص المشهود لهم بالنزاهة، والوطنية، وعفة اليد واللسان، والتاريخ المشرف، والحرص على سوريا بجميع مكوناتها.
4- وضع آلية شفافة للمحاسبة والمكاشفة، وتجديد القيادات، وإعطاء دور محوري وازن لشباب الوطن وشاباته باعتبارهم الأداة الرئيسية للتغيير.
5- الخروج إلى الشمس، وتجنب الأسماء الوهمية لأن ما تقوم به الحركة لا يحق لأحد أن يختلف معه، ناهيك عن إدانته أو
المعاقبة عليه، وتجنب ممارسات الغرف المغلقة والأسرار، ووضع الجمهور أولاً بأول بكافة أنشطة الحركة واستراتيجياتها وتحركاتها ومباحثاتها مع أي طرف كان.
6- تحريم تلقي أي دعم مادي مشروط من خارج أعضاء الحركة. فالحركات السلمية الشعبية إنما تنفر خفافاً، وليست بحاجة إلى الأموال الطائلة المُفسدة، بل هي بحاجة إلى المؤمنين المخلصين، وبالتالي فلن يكون للطامعين الأجانب من سبيل لشرائها أو حرفها أو اختراقها.
7- وضع آلية بالغة الشفافية تعرض دورياً على أعضاء الحركة وعلى الجمهور عموماً في حجم الأموال المتبرع بها ومصادرها، وآليات وأوجه صرفها تفصيلياً.
8- تصميم راية واحدة تمثل سوريا فقط، ويرفعها جميع منتسبي الحركة والمؤمنون بنهجها، ويكون رفع هذه الراية الوطنية والتمسك بها من باب أضعف الإيمان.
9- يقدم كل منتسب للحركة سيرة ذاتية مبسطة يوضح فيها ما الذي يمكنه تقديمه لسوريا. بدءاً بالدعم المادي، ومروراً بالعمل مع الجمهور، والعلاج النفسي، والكلمة، واللوحة، والفيلم، والتظاهر، والعمل مع الجهات السياسية الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان، وإرسال الرسائل للمنظمات والسياسيين وقادة الرأي في كل ساحة من الساحات، وانتهاء بمجرد تبني راية هذه الحركة ورفع علمها ومشاركة بوستاتها.
10- تتولى قيادة الحركة رسم استراتيجية تفصيلية بعيدة المدى وخطوات مرحلية محددة لتحقيق أهداف الحركة، وتوسيع رقعة أعضائها والمؤمنين بها، وتحدد في كل مرحلة طبيعة الأنشطة السلمية والإعلامية التي يجب القيام بها داخل الوطن وخارجه. ويتم إطلاع كافة الأعضاء، وحتى الجمهور الواسع، على تلك الاستراتيجية إشراكاً لأوسع الشرائح في تبنيها وتنفيذها.
11- في جميع أدبياتها وتصريحاتها ومواقفها تلتزم الحركة بالتعبير عن الهم السوري العام، والمصلحة السورية العليا، والهدف المركزي الذي قامت من أجله، دون الدخول في الخلافات السياسية التي تضعف دورها الوطني الأساسي كحركة جامعة للسوريين بمختلف منابتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية، وتؤجل ما عدا ذلك من قضايا (رغم إدراكها للخطورة والتعقيدات الكبيرة لتلك القضايا).
12- وبناء على البند السابق، ورغم الصعوبات الجمة، تسعى الحركة إلى تعزيز القواسم المشتركة بين السوريين، وتهذيب الخطاب العام، وتصليب الموقف الوطني حول الثوابت. وفي سبيل ذلك تسعى جاهدة إلى ترشيد خطاب أعضائها، واستبعاد كل من يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الهوة بين السوريين، دون الحجر على حرية الناس ومصادرة حقهم في الاعتقاد والتعبير في إطار المصالح الوطنية العليا.
13- في سعيها لبناء تيار شعبي واسع حول أهدافها المركزية، تعمل الحركة على الاستفادة من التجارب العالمية في مجال المصالحات الوطنية، والتوعية الوطنية، ومد الجسور، وأشكال العمل المدني الموحد لتحقيق أهدافها النبيلة.
وأخيراً، ليست لدينا أية أوهام في مدى سيطرة القوى الإقليمية والعظمى على القرار السوري على الجانبين. غير أننا ممن يؤمنون بقوة الفكرة إذا ما تهيأ لها حَمَلةٌ مؤمنون مضحون. فهي كالزهرة التي تشق أعتى الصخور. ولا بد أن تولد من لجة هذا اليأس إرادة جديدة للحياة ورفض إملاءات الشياطين الكثر.
ونحن على ثقة بأن مثل هذه الحركة الشعبية ستلاقي القمع من النظام كما تلاقيه من المعارضة المسيطرة على الأرض، رغم أن كلا الطرفين يتغنيان بأهدافها المعلنة، وسيجدان صعوبة في إدانتها واضطهاد أنصارها الذين سيكثرون مع كل انتصار صغير يحققونه، وسيلونون أرض الوطن وسماءه بوعيهم وصبرهم وتمسكهم بالثوابت الوطنية وبحق سوريا في الوحدة والبقاء والحرية والتقدم.
خلاصة التسوية بين مقاتلي داريا ونظام الأسد، تقضي بتسليم المدينة للنظام مقابل خروج نحو خمسة آلاف هم من تبقى من سكان المدينة والمدافعين عنها إلى مناطق خارج سيطرة النظام. وبهذه الخلاصة، يسدل الستار على فصل مهم من قصة مدينة صغيرة قاومت قوة النظام العاتية لنحو خمس سنوات، في ظل حصار خانق، فشل العالم في فكه أو تخفيف معاناة المحاصرين على نحو ما فشل في الوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، كانت داريا ستجد فيه إمكانية لتجاوز التسوية الأخيرة في تسليم المدينة ورحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها.
داريا أكبر مدن غوطة دمشق الغربية، وهي الأقرب للعاصمة دمشق؛ إذ لا تبعد عنها سوى ثمانية كيلومترات، وتجاور مطار المزة العسكري الموصوف بأنه أكبر وأخطر قواعد النظام الأمنية والقتالية في محيط دمشق، حيث توجد فيه طائرات الهليكوبتر، ومقر فرع التحقيق للمخابرات الجوية سيئ الصيت، وبلغ عدد سكان داريا أكثر من مائتين وخمسين ألفًا عشية ثورة السوريين على النظام في مارس (آذار) من عام 2011، لكن غالبية هؤلاء تم تهجيرهم من المدينة في ظل سياسة القتل والاعتقال والحصار والتجويع، التي مارسها نظام الأسد، وأدت إلى مقتل وإعطاب عشرات الآلاف من السكان، وفقد آلاف منهم، قامت الأجهزة الأمنية والعسكرية باعتقالهم أو اختطافهم.
ويمثل موقع المدينة الاستراتيجي أحد أسباب السياسة الدموية، التي اتبعها النظام في التعامل مع المدينة وسكانها، وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه، منها أن داريا كانت بين أوائل المدن السورية التي انخرطت في الثورة، فأطلقت حراكًا مدنيًا سلميًا، ميز الثائرين من أبنائها في سلوكياتهم وشعاراتهم رغم البطش المبكر الذي مارسه النظام ضدهم مع بدء المظاهرات في أواخر 2011، وكرس أبناء داريا فكرة سلمية الثورة بصورة منظمة ومنضبطة، وعملوا على صيانة المدينة والحفاظ على وحدة المسلمين والمسيحيين من أبنائها، وحافظوا على الوافدين من سكانها، وانفردوا بين الثائرين بتوزيع الورود والمياه على جنود النظام، وحافظوا على خطاب الثورة وشعاراتها دون الذهاب إلى التطرف.
غير أن النظام رد على اعتدال داريا وسلميتها بعنف شديد، كانت مجزرة داريا في 2012 إحدى أبرز ذرواته المبكرة، التي قُتِل فيها ثلاثمائة من سكان المدينة في يوم واحد، يضافون إلى ثلاثمائة وستين آخرين قُتلوا في العام الأول من الثورة مع اختفاء واعتقال نحو ألف من أبنائها في العام الأول، وكانت المجزرة بين الأسباب التي عززت توجُّه بعض ثوار داريا إلى التسلح للدفاع عن النفس، خصوصًا بعد تزايد عدد أبناء المدينة الذين انشقوا عن جيش النظام وأجهزته الأمنية، وانضموا إلى الثورة، فتم تشكيل المجموعات الأولى من «الجيش الحر» في المدينة، وتوحدت تلك المجموعات في كتائب أبرزها كتيبة شهداء داريا، قبل أن تنتظم تلك الكتائب تحت اسم «لواء شهداء الإسلام» في أعقاب المذبحة الكبرى التي ارتكبها النظام في أغسطس (آب) عام 2012.
فرض النظام الحصار على داريا مع أواخر عام 2012، فمنع مرور الأشخاص والسلع بما فيها الغذاء والدواء إلى المدينة بهدف إخضاعها. لكن الأهالي والفعاليات الأهلية والمدنية، أعادت ترتيب الحياة في المدينة من خلال مجلس محلي مُنتَخَب بطريقة ديمقراطية، هدفه تجاوز نقاط الضعف والفوضى والتشتت، وتجميع الجهود لإدارة المدينة وحياة سكانها عبر مكاتب متخصصة، يديرها مكتب تنفيذي، كان الوحيد بين المجالس المحلية الذي يشرف على المكتب العسكري ويوجهه، وفي هذا عكس أبناء داريا وعيهم وقدرتهم على تنظيم وإدارة حياتهم بما في ذلك الدفاع عن مدينتهم ضد هجمات النظام التي ظلت متواصلة ومتصاعدة طوال السنوات التالية.
واستنزفت الحرب الطويلة مع الحصار الشديد، ومنع الغذاء والدواء قدرات أهالي داريا، وتفاقم الوضع بعد التسوية الجزئية، التي تمت بين نظام الأسد والمعضمية جارة داريا وخاصرتها في الغرب، وبعد التوقف الكلي لأية مساعدات كان يمكن أن تجد لها طريقًا إلى المدينة، ثم زاد الأمر سوءًا إغلاق أفق التسوية السياسية للقضية السورية، وتشديد النظام لهجماته البرية والجوية على المدينة وأطرافها، وكلها عوامل جعلت من إمكانية سقوط المدينة بيد نظام الأسد أمرًا ممكنًا، وكانت السبب في التوصل إلى الاتفاق الأخير الذي ما زالت بعض تفاصيله غير معلنة.
قصة داريا، قصة المدينة المثال في ثورة السوريين من حيث تجسيدها لسعي السوريين السلمي من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وحتى عندما ذهبت الثورة إلى التسلح والعسكرة، فقد ظلت المدينة تحكم قبضتها عبر مجلسها المحلي على القوة العسكرية، وتخضعها لقرارات المجلس المحلي، الأمر الذي ساعد في صمود المدينة وأهلها في وجه القوة الطاغية للنظام.
ولئن استطاع الأخير أخذ المدينة بالقوة الطاغية، وترحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها، وسط ظروف سياسية وميدانية محليًا وخارجيًا، فإنه لن يستطيع إلغاء فصل عظيم من تاريخ مدينة ظلت سنوات وسط حصار تقاوم العدوان والدموية في تجربة لا تكاد تماثلها تجربة في تاريخ المدن، بل إن حصار مدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية لمدة ستة أشهر، ليس إلا فصلاً بسيطًا من تجربة داريا.
هناك أعداء كثر لكن في نظر الأتراك العدو الأول هم الأكراد الأتراك الانفصاليون٬ وكذلك الأكراد السوريون المتحالفون معهم. وللتذكير٬ فالأكراد٬ مثل العرب٬ شعوب مختلفة منتشرون في تركيا وسوريا والعراق وإيران. وسبق للقوات التركية أن دخلت العراق مرات٬ ولاحقت الجماعات الكردية التركية العابرة للحدود.
«العدو الأول» صار خطًرا بشكل مفاجئ خلال أشهر قليلة٬ عندما تمددت الفصائل الكردية السورية على مساحة شاسعة تقدرها التقارير الصحافية بنحو ستمائة كيلومتر من شمال سوريا بمحاذاة تركيا. والسر أن أكراد سوريا٬ رغم ميولهم اليسارية٬ تطوعوا ليكونوا رأس حربة في حرب التحالف ضد «داعش»٬ بدعم لوجيستي ضخم واستخباراتي أميركي مكنهم من التوسع.
بالنسبة لكل الأطراف؛ الأتراك والإيرانيين والنظام السوري والمعارضة السورية والروس٬ لم يعارضوا تقوية الأكراد ما دام الهدف «داعش» فقط٬ إلا أن الأكراد خرجوا على التفاهمات واستولوا على مدن ومناطق كاملة ما بين نهري دجلة والفرات. لم يكتفوا بمقاتلة «داعش» بل قاموا بتفريغ مناطق كاملة من سكانها!
ونتيجة لاكتساحهم الواسع صاروا في مواجهات متعددة٬ مع قوات تركية و«داعشية»٬ وحتى قوات الأسد.
الأتراك استشعروا الخطر مما فعلته وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني. رأْوا فيه مشروع دولة على حدودهم ويهدد وحدة بلادهم٬ فقرروا إعلان الحرب داخل سوريا لأول مرة منذ بداية الأزمة قبل خمس سنوات.
ولا يمكن أن تخطئ العين التهديدات التي تمثلها الحرب في سوريا على كل الدول التي لها حدود معها٬ وأولها تركيا الأطول حدوًدا والأكثر تشابًكا٬ ثم العراق الذي فقد منذ زمن بعيد السيطرة على حدوده ونحو ثلث أراضيه لـ«داعش»٬ والأردن الذي قام بالسيطرة الكاملة لكن بعد أن عبر إليه مليون لاجئ٬ ونشبت معارك هائلة بجواره في محافظة درعا السورية. وهناك قوات إيرانية وميليشيات «حزب الله» تتمركز في مواجهة الجيش السوري الحر المتمركز شمال الأردن داخل الأراضي السورية.
رأى الأتراك في توسع الأكراد تهديًدا لوحدة بلادهم فدخلوا سوريا٬ يطاردون الميليشيات الكردية٬ وقوات التحالف٬ بقيادة الولايات المتحدة٬ سحبت الغطاء عنها ضمن تفاهمات مبررة.
انتصار الجيش التركي السريع في جرابلس وغيرها قدُ يختتم باتفاق يقيد أكراد سوريا وينهي مشروع بناء إقليم مشابه لإقليم كردستان في شمال العراق شبه المستقل منذ عام 1990 .
بالنسبة للأسد وتركيا٬ ورغم العداوة بين النظامين٬ يتفقان على رفض إقامة أي كيان كردي في تلك المناطق. فحكومة أنقرة تعتبره مشروًعا لزعزعة أراضيها لأن الإقليم الكردي السوري الجديد يبنى على حدودها الجنوبية٬ وسيكون حديقة خلفية للحركة الكردية التركية الانفصالية. والأمر كذلك بالنسبة لنظام الأسد الذي يخشى أن يكون الكيان الكردي حصان طروادة لقوات التحالف لهندسة مشروع التغيير في سوريا٬ كما فعل الكيان الكردي العراقي وشارك في إسقاط نظام صدام حسين في العراق.
وفي رأيي أنه كان بإمكان تركيا مبكًرا٬ ومنذ سنوات الحرب الأولى٬ تأمين حدودها بل ومد نفوذها إلى محافظة كبيرة مثل حلب المجاورة ثم التأثير على نتيجة النزاع٬ إلا أن أنقرة يبدو أنها رغبت في عدم إرباك المشهد بالتدخل المباشر مما زاد من الأخطار عليها اليوم.
على أية حال٬ يفترض أن نضع في الحسبان العوائق المحتملة التي ربما أثرت على قرارات أنقرة٬ فهي ملتزمة بقواعد الاشتباك التي تفرضها اتفاقات الدفاع ضمن حلف الناتو٬ فدخول أي دولة عضو في حرب دون موافقة الحلف لا يلزمه بالدفاع عنها٬ إضافة إلى مخاطر خرق القوانين الدولية المنظمة للنزاعات واعتبارات السيادة.
هل تستطيع تركيا٬ بدخولها عسكرًيا في سوريا٬ أن تحوله إلى عملية سياسية تشجع الأطراف المختلفة على الحل السياسي وإنهاء الحرب؟ ستكون لاعًبا أقوى من السابق٬ لكن أستبعد تعاون إيران وروسيا٬ اللتين لا تشعران بعد بضرورة إقصاء الأسد.
أي حل يبقي على الأسد سينفخ في نار الحرب ولو أجمع السياسيون عليه. فالأسد٬ على الأرض٬ بلا جيش ولا قوات أمن٬ التي كانت وراء بقائه في الماضي حاكًما بالقوة. حالًيا بلا قوة تتبعه. فجيشه البري الذي يحارب عنه هو قوات إيرانية وميليشيات «حزب الله» وأخرى عراقية٬ وقوته الجوية هي روسية تقوم بالحرب نيابة عنه.
وحتى لو رضخت قيادات المعارضة السورية لحل الأسد رئيًسا٬ فإن المقاتلين سيتمردون على قادتهم٬ لأن حجم العداء٬ بعد نصف مليون قتيل٬ لا يمكن أن يفرض رغًما عنهم حلاً يوقع في فنادق سويسرا.
لم يكن ممكناً للقوات التركية دخول الأراضي السورية، ولو بغاية دعم الجيش السوري الحر في السيطرة على جرابلس، من دون ضوء أخضر أميركي ـ روسي. يُفترض أيضاً أن الإيرانيين كانوا على علمٍ بذلك، على خلفية زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى طهران الأسبوع الماضي، ولقائه نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف. بالطبع، من المفترض أيضاً وأيضاً أن يكون الإسرائيليون على علمٍ بذلك، كعنصر ميداني، يقوم بعمليات عسكرية محدّدة في سورية، من اغتيال قادة من حزب الله، وقصف قوافل السلاح التابعة للحزب، فضلاً عن قصف مناطق في الجولان السوري.
عليه، قد يكون الجميع على علمٍ بالعملية التركية قبل حدوثها، إلا النظام السوري، بما يؤشر إلى أن دوره سيكون هامشياً، في المرحلة المقبلة، خصوصاً في أية مفاوضاتٍ أو مشاورات. الدلالات كثيرة. الروس بأنفسهم لا يتعاملون مع النظام، ورئيسه بشار الأسد، على أنه "عنصر فاعل" في سورية، بل على قاعدة "تقاطع المصالح" التي صودف وجود الأسد فيها فترة طويلة، قبل انبلاج فجر التحالفات الجديد في الأسابيع الأخيرة، تحديداً، بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو/ تموز الماضي.
في العام الماضي، رفع الأتراك من نبرتهم في شأن "المنطقة الآمنة" على الحدود السورية ـ التركية. جوبهوا باعتراضاتٍ روسية كبيرة، أدّت لاحقاً إلى تعليق المشاورات بشأن هذه المنطقة. كان واضحاً أن إنشاء مثل هذه المنطقة من عدمها أمر دولي، أكثر منه إقليميّاً. وهو ما يحصل حالياً، فتحرير جرابلس شرّع الأبواب أمام ترسيخ مثل هذه المنطقة ميدانياً. بالتالي، فإن السؤال لم يعد عن وجودية "المنطقة الآمنة" بحدّ ذاتها، بل تجاوزها إلى السؤال حول مساحتها الجغرافية، وأهدافها المستقبلية.
وقبل اتضاح حيثيات المنطقة العتيدة، يبدو الدور الروسي "مفاجئاً" لكنه فعلياً غير مفاجئ. اعتاد الكرملين التصرّف ببراغماتية أشبه بسياسة توحي بـ"تخلٍّ" أو أقلّه "نصف تخلٍّ"، منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. يعمل بوتين وفق قاعدةٍ قائمةٍ على ثلاثة اعتبارات. الأول، يتعلق بالتعامل مع القوى الكبرى عالمياً، من موقع "الفتى المشاكس"، لا "الدولة المنسجمة" في تركيبة قوانين هذه الدول. الثاني، يتمحور في إقناع الدول الضعيفة بأن "الروسي هو حليفها الأوثق"، وحين يأمن جانبها وركونها إليه، يعمد إلى استغلالها، على قاعدة "ألا بديل عنه"، بما يشبه فعل السخرة السياسية. أما الاعتبار الثالث، فمتعلق بالثوابت غير المتغيرة، أي المرتبطة بـ"القومية الروسية"، وإفرازاتها في دول الجوار من البلطيق إلى أواسط آسيا.
عليه، لن يتردّد الروسي في تغيير مساره التكتيكي سورياً، بما يحفظ مصالحه. وهو أمر نوقش عشرات المرات، بين موسكو وعواصم إقليمية ودولية. يريد بوتين كسب كل دول الشرق الأوسط إلى جانبه، لا سورية فقط، ووفقاً لشروطه، تحديداً لجهة تأمين الأسواق للسلاح والغاز الروسيين. وهو ما يظهر في سير عمله دبلوماسياً واقتصادياً.
أما بالنسبة للولايات المتحدة التي بدت، لوهلة، وكأنها تدعم معظم الأطراف في معركة جرابلس، فإنها ليست في وارد الإقدام على فعلٍ ما، قبل ثلاثة أشهر من انتهاء عهد الرئيس باراك أوباما، لكنها قادرة على إطالة المعركة في الشمال السوري، حتى بدء عهد الرئيس/ة المقبل/ة. من المؤكد أن أموراً كثيرة ستتغير في سورية في الفترة المقبلة، إذ سبق لرئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدرم، أن أكد، بصورة غير مباشرة، على احتمال حدوث تطوراتٍ كبيرة في الملف السوري في الأشهر الستة المقبلة. وإذا كان الشهر الأول منها يبدو مفاجئاً، فإن جميع الاحتمالات مفتوحة، مع ثابت وحيد: بدء انتهاء تأثير النظام السوري كلياً على امتداد المساحة الجغرافية السورية، واستطراداً على بعض دول الجوار.
ليست تقنية الإلهاء جديدةً على اللعبة السياسية، وقد مارسها الحكام عبر التاريخ، قبل أن يتم توصيفها وتصنيفها ووضع قواعدها، ثم إعلان ذلك كله على الملأ في القرن العشرين.
ولعل أكثر قضية سياسية تم فيها التلاعب بعقول الناس باستخدام تقنية الإلهاء هي القضية السورية، فمنذ انطلاق الثورة السورية قبل خمس سنوات ونيف، لم يتوقف العالم عن الخروج بأفكار جديدة، واقتراحات ووعود ومبادرات ومشاريع، كانت كلها تذهب أدراج الريح، بعد أن تكون قد تذهب بأرواح بعض السوريين، وبعقول معظمهم، والعالم الذي نقصده بتفريخ الأفكار، هو القوى الكبرى والمجتمع الدولي، والمنظمة الدولية، وبمراجعةٍ هادئةٍ لحجم وعدد الأفكار التي أطلقت وشغلت الناس، طوال السنوات الخمس، نكتشف حجم الخديعة التي تعرّضنا لها، وعدد المرات التي سقطنا فيها في الحفرة نفسها، من دون أن ننتبه، وفي كل مرة كنا نكرّر المسار نفسه، فنتحمس ونبدي المواقف والآراء، بعضنا يقف مع الفكرة، وبعضنا ضدها، تنشغل مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف منطقية وغير منطقية، مواقف محمولة على مشاعر وطنية، وأخرى على مشاعر ضيقة، ثم تفرّد الصحف والفضائيات مساحاتها لآراء المحللين والكتاب والسياسيين لتبدو آراؤهم المتناقضة حول الموضوع المطروح، حتى يتلاشى الأمر برمته، ونعود إلى نقطة الصفر، لنتلقى فكرةً جديدةً لنكرّر التجربة من جديد.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ وتحصى، فمنذ أول اقتراحٍ لتشكيل حكومة وحدة وطنية في عام 2011، والتي تم تداول اسم هيثم مناع، لرئاستها في ذلك الوقت، حتى تشكيل المجلس الوطني، وقبله هيئة التنسيق، وحتى الأسابيع الأخيرة التي يتم فيها الحديث عن مجلس عسكري مشترك، مرّت مئات الأفكار والمبادرات والاجتماعات والمؤتمرات التي أوحت كل واحدةٍ منها بأن نهاية الحرب السورية باتت قاب قوسين، وانتهت جميعاً إلى نتيجةٍ واحدة، هي اللاشيء.
والفكرة الأخيرة التي يتم تداولها الآن، وهي فكرة المجلس العسكري المشترك تم بثها بطريقة توحي بجديتها، وباختلافها عن سابقاتها، فقد تم الإيحاء بأن هذه الفكرة هي حصيلة حوارات طويلة بين الروس والأميركان، وأنها دعمت باتفاق بين الروس والأتراك، وبالتنسيق مع الإيرانيين، وتم منحها مسحة إضافية من الجدية بتسريب تفاصيل عنها تبدو قابلةً للتصديق، مثل أن رئاسة المجلس العسكري ستكون لشخصية من النظام، وإنها ستضم، في عضويتها، ضباطاً منشقين، وقياديين في الجيش الحر، وكذلك ضباطاً متقاعدين، يمكن اعتبارهم محايدين، وأن هذا المجلس سيكون العمود الأساسي لضمان المبادئ العليا لحل الأزمة السورية، ومنها الحفاظ على سورية موحدة وعلمانية، والحرص على عدم انهيار مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، وقد تضمن تسريب الخطة معلوماتٍ عن ولادتها تزيد من قابلية تصديقها، من قبيل أن بوتين كلف المخابرات الروسية ووزارة الدفاع اختبار الخطة واختيار الشخصيات المناسبة للمشاركة في هذا المجلس العسكري، والسير في خطوات تنفيذها، وأنه تولى بنفسه إقناع الأميركان والأتراك والإيرانيين بالموافقة عليها والمساعدة في تنفيذها.
ونقلت صحف عن مسؤولين في وزارة الدفاع والاستخبارات الروسية أنها (أي وزارة الدفاع) بدأت جس نبض شخصيات في الجيش السوري النظامي، وفي "الجيش الحر"، لاحتمال تشكيل مجلس عسكري. كما طرحت الفكرة وراء الأبواب مع ضباط سوريين متقاعدين. كان الحديث بداية عن حوالى 70 عضواً، لكن بات الحديث يتناول بين 42 و45 عضواً بقيادة ضابط من الجيش النظامي على أن يضم ضباطاً منشقين في غالبية أعضائه، خصوصاً من الضباط رفيعي المستوى الذين لم ينخرطوا في العمل العسكري المباشر في السنوات الماضية، ويقيمون في دول مجاورة أو خليجية.
طبعاً التسريبات حول هذه الخطة تشبه إلى حد كبير الفكرة التي سبقتها مباشرةً، وهي مبادرة تعيين خمسة نواب للأسد، لإدارة المرحلة الانتقالية، والشبه بينهما بدأ من التسريب، ثم تغيير في بعض التفاصيل للإيحاء بجدية الطرح، ففي موضوع النواب تم الحديث عن خمسة نواب، ثم عن أربعة، ثم عن ثلاثة، قبل أن يستقر الطرح على خمسة، ثم يتلاشى الموضوع نهائياً، ويذهب أدراج النسيان. والآن، تم الحديث عن 71 شخصية عسكرية، ثم عن أربعين ثم عن 33، وتنوعت التفاصيل بين كلام عن نظام وفصائل مسلحة، وبين نظام وضباط منشقين، وبين نظام ومنشقين وضباط متقاعدين.
هي بضعة أيام، وستنتهي هذه الفكرة في الهواء، كما انتهت كل فكرة قبلها، وستنجح في أداء وظيفتها، كما نجحت كل مرة سابقة في إلهائنا.
منذ الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أكثر من 17 عاماً، أصبح من الواضح أن الحرب لم تعد مسألةً محلية. إيقاد نار الحرب مسألة خاصة بالتأكيد، فهي تبدأ بين طرفين، أو أكثر، يعتقد أحدهم أن لديه ما يكفي من القوة لسحق الآخر، وفرض مطالبه أو رؤيته عليه، أو إخضاعه لإرادته. لكن منذ اللحظة التي يشعل فيها أول ثقاب، تخرج الحرب من سيطرته، وتدخل في ديناميكيات جديدة تحرّكها الانقسامات والنزاعات والتوترات الطويلة القائمة في محيطه، والتي تنتظر مناسبةً لتفصح عن نفسها، وتقفز على بؤر الحرب المشتعلة لتضع حطبها فيها، وتجيّر نتائجها لمصلحتها. ولذلك، عندما بدأت بعض الأصوات تخرج من صفوف بعض الثوار، بعد أشهر طويلة من المكابدة، مناديةً بأنه لا يمكن الاستمرار في المظاهرات السلمية من دون سلاحٍ يردع العصابات المسلحة التي أطلقها النظام لمهاجمتها، وقتل عشرات من الناشطين بدم بارد، كنت أقول للناشطين: لا تستعجلوا حمل السلاح، وإدخال الثورة في مرحلة مسلحة، فلن يخفف اللجوء إلى السلاح من معاناة الشعب والثوار، ولن يحل المصاعب المتزايدة التي تواجهها الثورة. فهو، أولاً، خيار النظام الذي يريد أن ينقل الصراع إلى الميدان الذي يعتقد أن لديه التفوق الساحق فيه. وهو، ثانياً، لن يقلل من عدد الشهداء والضحايا بين الثوار، وإنما سيزيدهم لأن النظام سوف يعتبر أن من حقه، بعد ذلك، استخدام كل أنواع الأسلحة التي في حوزته، وهي لا يستهان بها. وثالثاً، لن يقصر أمد الصراع، وإنما سيطيله، إذ متى ما دخلنا النزاع المسلح، لن يكون هناك سبيل لوقف الصراع، إلا بحسم لمصلحة أحد الطرفين. ومع وجود ترسانةٍ لا تنفد من السلاح عند النظام، سوف ندخل في نفقٍ لا نعرف نهايته. ورابعاً، سوف يعمل الدخول في الحرب على تضييق هامش استقلالنا، وربما ارتهان قرارنا الوطني لتلك الدول والقوى التي سنعتمد عليها، من أجل مدّنا بالمال والسلاح اللذين من دونهما لن نستطيع الاستمرار في الحرب. وخامساً، ستسحب منا الحرب بأسرع مما نتصور ورقتنا الرابحة الرئيسية، فبمجرد دخولنا في منطق السلاح نكون قد حكمنا على الشعب وملايين السوريين بأن يخرجوا من دائرة الصراع، ورهنّا معركتنا بفصائل مقاتلةٍ، لا سيطرة لنا عليها، ولا نعرف من يمكن أن يتحكّم بها فكرياً وسياسياً، في الوقت الذي تشكل فيه المظاهرات المليونية، بهتافاتها المدوية وأهازيجها وشعاراتها، قوتنا الاستثنائية، بل هي التجسيد الحي للثورة ذاتها، بوصفها حدثاً خارقاً للعادة، وخارجاً عن منطق التطور العادي للأمور، وبانياً لميزان قوى جديد، يقزّم النظام، ويقيده ويفرغ وجوده السياسي نفسه من معناه. فليس هناك شك في أن هذه المظاهرات الحاشدة هي التي أفقدت النظام صوابه، وأظهرت حقيقته، وبؤس خياراته القمعية وكذبه على العالم. ولم يعد له هم آخر سوى وقفها مهما كان الثمن ليظهر أنه لا يزال مسيطراً على الوضع. وما من شك أيضاً، وهذه كانت نتيجةً سادسةً لم تخطر على ذهني في تلك الساعة، أن دخول الثورة في مرحلة الكفاح المسلح قد أدى إلى تغييراتٍ عميقة في قاعدتها الاجتماعية، وثقافة المشاركين فيها، وشعاراتهم وأهدافهم، فغلبت الشعارات الدينية والأبعاد الطائفية، وربما مشاعر الضغينة والانتقام على مشاعر الوطنية الجامعة، وتطلعات التحرّر والانعتاق.
رثاء الثورة السلمية
لم يكن لدي أي وهم في أن الأوضاع كانت متجهةً نحو النزاع المسلح. كان في ذهني هدفان من تخفيف الرهان والتسابق على السلاح. الأول، تمديد زمن الثورة السلمية وتظاهراتها الحاشدة لأطول فترةٍ ممكنةٍ، كي تترسخ حقيقتها الشعبية من جهة، وينصهر فيها، في لحظة انعتاق استثنائية، جميع السوريين، على مختلف أصولهم وانتماءاتهم ومذاهبهم ومناطقهم، قبل أن يستبد بالمسرح السلاح، وتتحوّل الثورة، في نظر الرأي العام، الشعبي والدولي، إلى حربٍ أهلية. والثاني، أن نعطي للمجتمع الدولي الذي كان يظهر التفاعل مع الثورة الشعبية الوقت، لتكثيف ضغطه على النظام، وترتيب تدخله لحماية المدنيين، قبل أن تفقد الثورة إشعاعها وصورتها الأسطورية وشرعية قضيتها، بوصفها ثورة شعبٍ مضطهد في مواجهة أكثر النظم عتوّاً وطغياناً واستعداداً للقتل والدمار، وتصبح صراعاً تقليدياً بين نظام ومعارضة، كما أصبحت اليوم.
ببطولاتهم وبسالتهم وتضحياتهم غير المسبوقة، نجح الثوار في كسر إرادة النظام الاستبدادي، وتمريغ وجهه بالوحل، وحل المذابح الجماعية التي أصبحت رديفةً لاسمه، ووحل الاحتماء بالتدخلات الأجنبية التي كان يتهم خصومه باطلاً بالمراهنة عليها، ووحل الاستسلام للمشاريع الطائفية والاستعمارية والتقسيمية التي أصبح أول مطلقيها وصانعيها. ولم يعد للنظام اليوم، لا في صفوف السوريين، ولا في الأوساط الدولية، بما في ذلك الأطراف التي احتمى بها، أي صدقية أو قيمة أو اعتبار. وهم إذ يعملون المستحيل، لإيقافه على قدميه والحفاظ على ما تبقى له من مظهر الدولة النافقة، فذلك لاستخدامها قناعاً، واستخدام رئيسها نفسه، والشرعية الاسمية التي ورثها، أداةً لتحقيق مآربهم وأهدافهم الخاصة والأنانية.
لكن، في المقابل، بعد ست سنوات من الحرب الشاملة التي لم يترك الأسد سلاحاً لم يستخدمه لقتل السوريين وترويعهم، وتدمير مدنهم وبلداتهم وقراهم، بهدف تشريدهم وإفراغ البلاد من ساكنيها، يجد السوريون أنفسهم على جميع الجبهات مستنزفين بشرياً، لعظم ما فقدوه من أبنائهم وفلذات أكبادهم، حتى لتكاد سورية تفقد جيلين من الأعمار التي تراهن الدول عادةً عليها، لإحداث الثورات التقنية والعلمية والاقتصادية الاجتماعية، بين 20 و45 سنة. وبعد أن كان كثيرون منهم يراهنون على أشهر للخلاص، والتوصل إلى حلّ أو سقوط النظام، ها نحن اليوم في السنة السادسة للحرب، وليس هناك بعد أي بارقة أمل في أن تكون السابعة سنة خلاص وسلام. وإذا كانت هناك "نبوءة" أثبتت تحققها بالكامل، فهي تلك المتعلقة بارتهان السوريين إلى القوى الأجنبية. كنت أعتقد أن التبعية للداعمين بالمال والسلاح سوف تقتصر على نشطاء الثورة السلميين، والذين لا يملكون لمواجهة نظام مدجج بالسلاح، أكثر من أصواتهم وأياديهم وأعلامهم المصبوغة بالدم. لكنه انطبق أيضاً، وبشكل أكبر، على النظام الذي اضطر، في النهاية، إلى رهن البلاد بأكملها عند المضاربين الإقليميين والدوليين. وأخيراً، يكاد حلم سورية الديمقراطية الحرة يغيب، ومعه اسم سورية ذاته، أمام ضجيج شعارات الطائفية وأصوات الانتقام السنية والشيعية والعلوية، ونداءات الهويات القومية العربية والكردية والتركمانية والأشورية والسريانية، وغيرها.
حرب الاستنزاف الدائمة
ليس هذا هو الوقت المناسب لمراجعة قرار اللجوء إلى السلاح من عدمه، لأن قرار الحرب كان، من دون أدنى ريب، قرار النظام، ومن أجله لم يترك وسيلةً للاستفزاز وإذلال الناشطين وإهانة الرأي العام وتعبئة مشاعر الطائفية إلا استخدمها، وفي مقدمها أفلام الفيديو التي بثها قصداً، وفيها يستعرض أمام الرأي العام السوري كله شراسة أساليبه في التعذيب وخرق المحارم والمقدّسات، وانتهاك الأعراض في سبيل دفع الناشطين حتماً إلى الاختيار بين الانسحاب وحمل السلاح.
وعلى الأغلب، لم يكن النظام ليتردّد في إعدام كل الذين شاركوا في الثورة والمسيرات والتظاهرات، لو وقعوا بين أيدي رجاله الأمنيين، ولعل الخوف من هذا المصير هو الذي دفع كثيرين منهم إلى الانخراط في الفصائل المسلحة، وتحرير المناطق التي تحولت إلى حماية لهم من انتقام النظام، قبل أن يأتي الوباء الداعشي الأسود، لينتزعها منهم. فلم يكن هناك في الأصل أي خيار. والواقع، كما يثبت التاريخ، لم يتخذ أي طرفٍ محسوبٍ على الثورة قرار اللجوء إلى السلاح، وما حصل في ما بعد جاء على سبيل رد الفعل على توحش نظامٍ لم يعد يتورّع عن ارتكاب أي عمل، بما في ذلك أعمال الاغتصاب والإذلال والتمثيل بالجثامين، ونشر صورها لردع الشعب عن الاستمرار في تظاهراته السلمية، والإعلان بأسرع ما يستطيع إلى الرأي العام الدولي أن الثورة لم تكن، وأن سيطرته على الوضع لم تمسّ. خيار الحرب الشاملة وحرق البشر والبلاد لم يكن سوى الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي اعتقد النظام أنها الوحيدة التي تمكّنه من تصفية الثورة، وتشتيت الناشطين وتدمير حاضنتهم الشعبية، وتهجير القسم الأكبر منها، ودفعهم إلى الدخول في مساراتٍ بعيدةٍ كلياً عن مسارات الثورة الأصلية، وما كانت ترمي إليه. وقد تحقق له ذلك، بمقدار ما أدى العنف غير المسبوق، وغير المشروع الذي استخدمه ضد مدنيين مجردين من أي سلاح سوى أصواتهم، إلى انشقاق الضباط والعسكريين، وهو ما فتح باب تشكيل التنظيمات العسكرية، وشرعن العنف المضاد، وشجع شباب الأحياء والقرى على بيع مجوهرات نسائهم للحصول على السلاح، للدفاع عن أنفسهم او التضامن مع أخوانهم، في رد عنف النظام المستشرس عنهم.
لا ينفصل خيار الحرب هذا عن موقف النظام السياسي، بل هو الجواب المنطقي لرفضه التفاوض على أي جزءٍ من سلطاته المطلقة، واعتقاده الراسخ والدائم بأن مجرّد القبول بالحوار يعني الاعتراف بشرعية الاحتجاج، أي أيضاً بحق الشعب فيه، وبالتالي، بالشعب نفسه طرفاً وشريكاً ومحاوراً وصاحب إرادة وخيار. وهذا يعني القضاء على شرعية الاستبداد المطلق، وانهيار صرحه من أساسه. فهو لم يقم ولم يستمر إلا على نفي وجود الشعب طرفاً مستقلاً وفاعلاً وصاحب قرار، وتجريده من كل حقوقه السياسية والسيادية، وإحلال نفسه محله. وهذا ما بيّنه تغييب نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، بعد دعوته إلى جلسة حوار يتيمة مع المعارضة في أحد فنادق دمشق.
كانت الحرب الرد الطبيعي من نظامٍ قام على أنقاض الشعب السياسي، ولا يخاف شيئاً أكثر من عودته إلى الحياة. ولم يدخل النظام الحرب، ويقبل اللجوء إلى كل الأسلحة المحرّمة لكسر إرادة السوريين، ولا يتردّد في الانقياد لأجندات الداعمين الخارجيين، والتحالف معهم ضد شعبه، إلا لأنه كان على ثقةٍ بأنه سيربح الحرب، وسيكبد الشعب الذي خرج عليه أو فكّر بالتخلي عنه الثمن الأغلى والأكثر دموية. ولا يوجد شك في أن نظام الأسد كان، قبل ثورات الربيع العربي، وبشكل أكبر بعد انطلاقها، قد وضع الخطة الكاملة لسحق أي حركة احتجاجٍ شعبيةٍ سورية، وأن في صميم هذه الخطة الاستخدام اللامحدود وغير المقيّد للعنف، وهذا ما أوصله في 21 أغسطس/ آب عام 2013 إلى استخدام السلاح الكيماوي رسالةً للسوريين، المصرّين على خروجه من السلطة، على مدى استعداده للتطرف في العنف والذهاب به إلى أقصى ما يمكن أن يكون.
ماذا بعد فشل الحلول الدولية؟
لم تخدم الحرب أحداً، لكنها قضت على سورية، وجزء عزيز وكبير من السوريين، ممن استشهدوا أو تعوقوا أو شرّدوا وفقدوا أغلى ما لديهم. واستمرارها لن يقود إلى أي حسم، كما يعتقد النظام، وبعض أطراف المعارضة أيضاً. ولكن فقط إلى مزيد من الخسائر التي شهدناها حتى الآن: البشر والوقت والسيادة والانقسام والتذرّر والانشقاق الداخلي. وعلى الرغم من الدعم غير المسبوق الذي حظي به النظام من إيران ومليشياتها الطائفية، ثم من روسيا، والتشويش الهائل على شعارات الثورة ومسارها من القوى الظلامية التي أطلقها، من "داعش" وغيرها، والحروب الموازية التي رعاها لمحاصرة الثورة الشعبية، بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، على الرغم من ذلك كله، يدرك النظام السوري، اليوم، أنه فقد أي أمل بحسم الحرب لمصلحته، وأنه هو نفسه لم يعد يمثل شيئاً للسوريين، سوى راية الحرب المرفوعة مهما كان الثمن، وواجهة تخفي وراءها الدول الأجنبية مفاوضاتها السرية والعلنية لاقتسام مناطق النفوذ والمصالح على جثة الشعب السوري، وعلى حساب دماء أبنائه. وفي أحسن الأحوال، لن يكون مصير النخبة الطائفية التي فجرتها للحفاظ على احتكارها السلطة والدولة والقرار أفضل من مصير النخبة الطائفية المارونية التي خرجت الخاسرة الوحيدة من الحرب الأهلية في لبنان.
حتى وقت قصير، تعلق السوريون الذين أصبحوا، في غالبيتهم الساحقة، ضحيةً للحرب وأسرى لها، بأمل التفاهم الدولي بين موسكو وواشنطن، لفتح ثغرةٍ في جدار الصراع الدامي، وتعبيد الطريق نحو مفاوضاتٍ تفضي إلى حل سياسي يوقف الحرب، ويبدأ الخطوات الأولى نحو عودة السوريين المشردين إلى بلادهم، واستعادة الحياة الطبيعية فيها. لكن، إذا كان هناك طرفٌ دوليٌّ يريد فعلا نهاية الحرب، وتجنب مزيدٍ من أضرارها عليه، فهناك أطرافٌ إقليمية ودولية أكثر لا تزال ترى في استمرار الحرب خدمةً لمصالحها، أو أنها غير مستعدة لوقفها، قبل أن تحصل على ما تنتظره من المشاركة فيها. ويزيد من إضعاف الأمل أن الحرب الدائرة لم تعد تعني سورية، بوصفها رهاناً يتنازع على كسبه الأطراف، وإنما وسيلة لكسب رهاناتٍ أخرى خارجها، وأبعد منها، إقليمية وعالمية. من هنا، ينبغي أن نفهم انهيار مفاوضات جنيف الأولى والثانية والثالثة. وليس من المؤكد أن مصير مفاوضات جنيف الرابعة سوف يكون أفضل من سابقاتها.
لكن، إذا كان من غير الممكن، ولم يعد من المقبول، المراهنة على تفاهم الأطراف الدولية والإقليمية، أو الارتهان لنزاعاتها، هل يمكن في المقابل العودة إلى الرهان على تفاهم بين السوريين؟ في هذه الحالة، ما يطرح على السوريين المعنيين بمصير بلادهم وشعبهم في ما وراء انقسامهم إلى موالاة ومعارضة، ليس سؤالاً من طبيعةٍ علميةٍ وتفسيريةٍ، مثل: هل يمكن الخروج من الحرب؟ وإنما سؤالٌ مركزيٌّ ذو طابع سياسي مباشر: كيف يمكن الخروج من الحرب؟ وماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا لوقف مسيرة تفكيك سورية وفرطها أمام أعينهم، وما هي الخطوات والمبادرات والسياسات والخطط التي على الفاعلين اتخاذها أو تطويرها، من أجل المساعدة على وقف نزيف الدم، وتعطيل آلة الدمار التي تكاد تقضي على حضارة سورية بأكملها. ليس هذا السؤال مطروحاً على المثقفين والسياسيين والفاعلين العسكريين فقط، وإنما هو مطروح على سبيل النقاش والاستئناس على كل سوريٍّ، يشعر بأنه معنيّ بمصير بلده، وقادر على أن يحمل قسطاً من المسؤولية في تقرير مصيره ومستقبله، ويستطيع أن يلعب دوراً، ولو صغيراً، في إعادة سورية النازفة إلى الحياة. في انتظار الأجوبة، أودّ أن أعبر عن اقتناعي العميق بأن إنهاء الحرب السورية وحده الذي يفتح الطريق أمام إنهاء حروب الآخرين على سورية وأرضها. العكس غير صحيح.
خلال يوم واحد، تواترت في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ثلاثة مشاهد مرعبة، أخبرت بفداحة الحالة السورية، وبانتهاك الإنسان في بلاد الشام. وجاءت معبّرة عن معاناة آلاف المدنيين السوريين الذين تقطّعت بهم السّبل وأدمتهم الحرب، وأكلتهم المعتقلات. فدفعوا من حياتهم وأجسادهم وكينونتهم ثمن حربٍ لم يختاروها، بل فرضت عليهم، وتحوّل معها شوقهم إلى العيش في كنف الحرّية والعدالة والكرامة التي ثاروا من أجلها إلى كابوس لا يكاد ينتهي...حرب تعدّد الفاعلون فيها، وتنوّعت فيها الجريمة وأدوات التدمير، وكان السوري ضحيّتها الأبرز. في المشهد الأوّل، صورة صادمة لطفل سوري في عمر الزهور اسمه عمران (5 سنوات)، من حلب، داهمته الطائرات الهادرة والقاذفات القاتلة، وهو في منزله وبين ذويه، فحوّلت بيت أهله ركاماً، وبعثت الهلع في النفوس، وجعلت الوجوه مكفهرّة من شدّة الفزع وقوّة الدمار وعمق الجراح. وظهر عمران في ذلك الخراب صامتاً، مشدوهاً، مضرّج الوجه بالدماء والغبار. كان جالساً في سيّارة إسعاف، يتحسّس محيّاه الجريح، ولا ينبس ببنت شفة، لم يكن يبكي، لأنّ الصورة كانت تبوح بما فوق البكاء، ولأنّ فؤاده كان مسكوناً بالصدمة والحيرة وكان وجهه المشوّه بالشظايا يسائل بوتين وبشّار وزعماء العالم أن بأيّ ذنب أقصف؟ وبأيّ سبب تنتهك طفولتي؟ وبأيّ شرعةٍ يهدم بيتي، ويُشرّد أفراد أسرتي؟ ويسائل ضمير الإنسانية أن كيف أحمي حياتي من ويلات هذه الحمم النازلة من السماء؟ أين سأمضي ليلتي المقبلة؟ أين سأبيت وقد أصبحت بلا بيت؟ أليس من حقّي أن أعيش مثل أطفال العالم؟ أسئلة يعجّ بها ذهن الطفل المنكوب، وتفيض بها صورته الصادمة المعبّرة في آن. صورة هي صرخة إدانة في وجه مجتمع دولي غير مسؤول، لزم الحياد والصمت إزاء الجرائم المرتكبة ضدّ الأطفال وعموم المدنيين في سورية.
المشهد الثاني اختزله تقرير منظمة العفو الدولية "إنه يكسر الإنسان: التعذيب والمرض والموت في السجون السورية"، وجاء فيه أن أكثر من 17 ألف شخص قضوا في أثناء الاعتقال ما بين مارس/ آذار 2011، تاريخ اندلاع الثورة ضد النظام الحاكم، وديسمبر/ كانون الأول 2015. ما يعني أن عشرة أشخاص ماتوا يومياً، و300 أو أكثر في الشهر، بحسب المنظمة التي وثقت نتائج التقرير من خلال مقابلات أجرتها مع 65 ناجياً من التعذيب، وأكّدوا، في إفاداتهم، بشاعة المعاملة التي يلقاها السجناء في معسكرات الاعتقال التابعة للنظام والمليشيات الموالية له، بدءاً بحفلة الترحيب الرهيبة، مرورا بالتفتيش الأمني المهين، وصولاً إلى التجريد من الثياب والمنع من النوم ومن الزيارة، والصعق الكهربائي وانتزاع الأظافر، والاغتصاب، وغير ذلك من ألوان التعذيب الدالّة على الاستهانة بقيمة الإنسان، والإمعان في انتهاك كرامته وإهدار حقوقه، بسبب رأيه المخالف للنظام أو بسبب خروجه في مظاهرة سلميةٍ معارضة للسلطة الحاكمة، أو حتى بسبب إطالته شعره وتشبّهه بوليد جنبلاط، بحسب رواية أحدهم.
ومدار المأساة أن البلد أصبح سجنا كبيراً، فمن لم يَطُله أوار الحرب، ولم يُهجّره وطيس المعارك، يجد نفسه فجأة ضحيّة اعتقال تعسّفي من أعوان النظام، أو من المليشيات المعارضة، فيتمّ زج آلافٍ في زنازين بدائية، تفتقر للتهوئة، ولأبسط الشروط الصحية، ويتمّ التنكيل بالضحايا، ويُحال بينهم وبين العالم، فلا الأهل يدرون مكان اعتقالهم، ولا المنظمات الحقوقية الدولية تجد سبيلاً للتواصل معهم، والاطلاع على أحوالهم، فالسجون السرية أو المعلنة التابعة لأطراف النزاع في الداخل السوري ممنوعةٌ على الصحافيين والحقوقيين والمراقبين الدوليين. ومعلوم أنّ ذلك يزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، ومن معاناة المعتقلين وذويهم على السواء. ويُفترض أن تتخذ جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والقوى الدولية الفاعلة تدابير فورية إجرائية لإلزام النظام السوري والأطراف المتصارعة باحترام حقوق المساجين، والسماح للبعثات الحقوقية بزيارة معسكرات الاعتقال، وأن يتم تأمين مفاوضات إفراج متبادل عن الأسرى لدى الأطراف المتحاربة، والمراد إنقاذ الإنسان ووضع حدّ لمسلسل التعذيب الرهيب.
الصورة الثالثة من المأساة جلاّها حصار آلاف المدنيين السوريين في مضايا، والزبداني، وداريا، ومخيّم اليرموك، والغوطة الشرقية، والفوعة، وكفريا، وغيرها، ومنعهم من الماء والغذاء والدواء أسابيع، عملا بآلية العقاب الجماعي العشوائي على متساكنين عُزّل، لا ذنب لهم سوى أنّهم سكنوا تلك المناطق، أو أنّهم تظاهروا سلمياً ضدّ النظام أو ضدّ خصومه، فيُحال بينهم والمساعدات الإنسانية، حتّى مات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ من شدّة الجوع وندرة الدواء وقلّة ذات اليد. وهذا المشهد التراجيدي وصمة عار في جبين الإنسانية، وخضوع لعدمية "الجوع أو الركوع" التي يحاول المحاصِرون فرضها على المدنيين. وأحرى بالمجتمع الدولي أن يستجمع قوّته، لفرض وصول المساعدات إلى المنكوبين، وفتح ممرّاتٍ آمنةٍ لتحرير المحاصرين. ومن المهمّ، في هذا الخصوص، التفعيل الفوري لقانون الأمم المتحدة لحماية المدنيين، ودفع المتنازعين إلى طاولة الحوار، لبلورة حلّ سياسي عادل للأزمة السورية، ولوضع حدّ لمعاناة المدنيين الذين توزّعوا بين المقابر والسجون والمنافي.
اليوم بتنا أمام مشهد جديد ، يحمل في طياته ذات البدايات التي شهدناها في كل منطقة تم تهجير أهلها ، و من الخطأ أن ننتظر حصول ذات النتائج بذات الأساليب المقيتة، التي تفقدنا أعز ما نملك و أغلى ما يجب أن نحافظه .
بعد تتالي الصور القادمة من انتقال أهالي داريا منها لتصبح منطقة محتلة يدنسها (الشيعة)، في حرب طائفية بحتة في مسوغاتها و اسلوبها و مسارها ، دون أي مواربة أو تجميل ، لأن أي تلاعب بالالفاظ تحت أي مسمى في هذا الأمر ، هو التلاعب بالدين و العرض .
“قادمون” وما تلاها من تحضيرات جرارة (اعلامياً)، بغية العودة إلى حمص و الحفاظ على ما تبقى منها و من أهلها ، من الابعاد و الترحيل و التغيير الذي طال كل المعالم الدينية و الأصيلة في المدينة التي تحتضن رفاة خالد بن الوليد ، م تؤتي أوكلها لاأسباب معرفة لدى الجميع ، ولكن مع تصاعد الهجمة على الوعر التي باتت اليوم تحت خيارين الابادة أم الهجرة و فان الأمور بحاجة لاعادة ترتيب الأوراق .
اليوم لا مكان للكلام العاطفي أو شحن من أي نوع ، فحي الوعر الذي انتهت علاقاته بالعالم الخارجي تماماً ، مع سيطرة القوات الطائفية على قريتي ( قزحل و ام قصب) نتيجة فشل فصائل ريف حمص الشمالي في حمايتهما ، و حماية الطريق الأخير و الجسر الوحيد الموصل للوعر ، وتحولت مع هذا الوعر إلى لقمة سائغة بكل ما تحتويه من أجساد و أرزاق.
حمص اليوم مهددة ككل بفقد قلبها النابض ، و رئتها و أملها الوحيد، في محافظة “السنة” على حضورهم في المنطقة الوسطى ، فبعدها لن يعود هناك أي دليل على حمص التاريخ و التركيبة و الحضارة ، وستكون شيعية أم علوية بحتة و بالمطلق ، ومن تبقى فيها مرغماً و صاغراً سيكون معرضاً للموت قتلاً أو ذلاً.
حسب المنطق العام الوعر يختلف عن داريا ، في كون المقاتلون “الحماصنة” لهم حضور قوي على مختلف الجبهات ، ابتداء من درعا ووصولاً إلى حدود تركيا ، و يشاركون في كافة الفصائل و يملكون ارادات و تشكيلات قد لاتكون بالحجم الكبير و لكنها فعالة و يحسب لها حساب ، والأهم هناك مفاتيح ضغط يكاد العد يخطأها، مع تواجد فصائل قوية في قلب المكون المعادي في الريف الشمالي ، مما يجعل أمر القتل يواجه بالقتل ، و بالتالي الألم والنحيب لن يكون لأهالي حمص الأصلاء أمام المستجلوبون ، والذين سيرضخون حتماً عندما يصل الأمر لحدود معينة.
قد يؤخذ على كلامي كثير من المآخذ، والتي يكون أبرزها هو حشيها باللغة الطائفية ، المفروض ألا تطرح كي يكون هناك “عيش مشترك” و “شراكة في الوطن” ، وطن قتلنا فيه و شردنا و حرق كل شيء فيه بفعل قلة قليلة تمارس “الرذيلة” و “القذارة” بدعم اسطوري من أمم قيل أنها متحدة للأمن و السلم و لكنها في الحقيقة ما تبرع به هو شيء واحد ألا وهو الع… .
مما لا شك فيه أن للحرب الإعلامية والتصوير دور كبير في الثورة السورية ونهوضها، والتي أوصلت معاناة الشعب السوري الثائر لكل العالم، وأعطت دفعاً كبيراً لتشجيع الثوار ورفع المعنويات من خلال تصوير المعارك وبثها عبر مواقع التواصل، أيضاً من شأنها إدخال الرعب لدى العدو المتمثل بنظام الأسد وحلفائه، ممن حاولوا مراراً استخدام ذات الحرب لإرهاب الشعب السوري وإخافته بالدبابات والصواريخ والطائرات، وعبر الأقنية الإذاعية التي استخدموها في حرب الشعب الثائر.
كما لعب التصوير والعمل الإعلامي دور كبير في توثيق جرائم النظام السوري الذي سعى دائماً ومازال لإخفاء كل آثار الجريمة التي يرتكبها، بل وتلفيق اتهامات مغلوطة وإلباسها لغيره كمجازر الكيماوي وغيرها من المجازر التي يتهم الثوار تارة بارتكابها وتارة تنظيم الدولة، طبعاً بعد التمهيد الإعلامي بأن الثوار والتنظيم باتوا يمتلكون هذه الأسلحة، والأمثلة كثرة من ذلك الشاهد الأكبر عليها مجازر الثمانينات بحق الألاف في مدينة حماة والتي غابت عن توثيقها عدسات الكمرات وضاعت حقوق الألاف بعدها.
ومع تقدم سنين الثورة وتطور العمل الإعلامي دخلت تقنيات حديثة وعديدة على مستويات عدة من التجهيزات والأنواع المختلفة من الكاميرات ومعدات التصوير حتى وصلت لطائرات مسيرة عن بعد وكاميرات توضع على الراس وتقنيات مختلفة، ساعدت بشكل كبير في توثيق الأحداث الميدانية والمجازر والمعارك بشكل أكبر وبتقنيات متطورة جديدة، أضف على ذلك رواج العمل الإعلامي بشكل كبير وكثرة الناشطين المحدثين، ممن لا يتقنون استخدام هذه التقنيات لأغراضها الأساسية، أو ممن لا يملكون الخبرة عن أهمية العمل الإعلامي وكيفية توجيهه لخدمة الثورة والثوار.
ونظراً للانتشار الكبير للأنترنت ومعدات العمل الإعلامي، أيضاً كثرة الوكالات الإعلامية المحدثة، بات العمل الإعلامي أمام مطبات كبيرة وخطيرة حولته عن هدفه الأساسي في المعركة الحالية ضد النظام، لتغدو الكمرة وسيلة للرياء الإعلامية وإظهار الذات، فتارة يأخذ السيلفي في مكان عمله ونومه ومأكله ومشربه وحتى فوق جثث الضحايا، يثبت لأصدقائه عبر مواقع التواصل أنه كان هنا، وأنه في قلب الحدث، فغدت الكاميرة وسيلة لخدمة نفسه بدل أن تكون لخدمة الثورة ككل.
أيضاً انتشرت صور السيلفي بشكل كبير في أوساط الجمعيات الإغاثية، فباتت آهات وعذابات الفقراء باباً لالتقاط صور السيلفي وإظهار الذات والترويج للجمعية الفلانية "صورني وأنا عم أعطيه 50 دولار" والطفل لاحول له ولا قوة دفعته الحاجة لتقبل الموقف وقد لا يكون طفلاً بل شيخاً كبيراً أو امرأة لم يجرؤ على الاعتراض خوفاً من أن يحرم من هذه المنحة التي قد لا تسد رمق عائلته ليوم واحد.
صور يومية وكثيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تستعرض أطفال أو كبار في السن من رجال ونساء وقد مزقتهم شظايا الصواريخ وانتهكت حرمة بيتهم وحولته لرماد، وفي ظل هذا المنظر المؤثر الذي يدمي القلوب تجد عدسات الكاميرات أكثر بكثير من المسعفين بل قد يصور الناشط هذه الحالة وتلك ويتجاوزها ليصور غيرها من حالات دون ان يقدم لها يد العون أو يساعد في إسعافها، حتى بات هذا المشهد متداول بكثرة في عشرات بل مئات الحوادث، فالتوثيق للجريمة مطلوب ولكن ليكن لدينا قليلاً من الإنسانية في التعامل مع هذا المشهد، قليلاً من الوعي الإعلامي لعدم إظهار صورة تلك الأم الثكلى وهي تبكي وليدها وزوجها، تلك المحجبة التي لم تعد تعرف أين ذهب حجابها وباتت وسط الجموع، تلك التي تحاول أن تبحث عنه روح حياة بين ركام منزلها، لتواجهها عدسات الكاميرات تتربص حالتها بكل لقطة، لأن في هذه اللقطات العفوية أمولاً أكثر تدر عليهم من الوكالات الإعلامي لاسيما الأجنبية منها.
هذه القضية وانتقال العمل الإعلامي من صورته السامية في نقل الواقع وتوثيقه، إلى الرياء وإظهار الذات والمتاجرة بقضية الأمة، تتطلب وعياً إعلامياً وجهود كبيرة لتصحيح المسار، يبدأ من ذاتنا فرداً فرداً وينتقل للأخرين ليعمم على الجميع، ويغدو الناشط ناشطاً يوثق الحدث في مجاله، ويبتعد الشيخ عن العدسات ليلازم منبره وساحات القتال التي تحتاج لرفع الهمم لا لالتقاط صور السيلفي هنا وهناك توثق نفسه وحركته وحتى نومه، ويعود العمل الإعلامي لسابق عهده الذي وجد بالفطرة ودون خبرة إلا أنه كان نقياً طاهراً من كل الشوائب التي تعلقت فيه بفعل الاستخدام الخاطئ والذي أوصلنا لدرجات متدنية من المهنية.
محت القوات الروسية والأسدية والإيرانية مدينة حلب الجميلة من فوق الأرض وسوّتها بها، أو كادت. فما يجري في سورية ليس حرباً على الإرهاب يخوضها ما يعرف بالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي يبدو أن التوصيف الواقعي له هو التحالف لتدمير سورية وقتل شعبها وتهجيره ومحو المدن وإبادة البشر والحجر والشجر. فظاهر الأمر يدل على أن تنظيم «داعش» غير مستهدف فعلياً بضربات التحالف، فهو يَتَعَاظَمُ شأنه ويَتَفَاقَمُ خطره وتتقوَّى شوكته، بينما تستهدف تلك الضربات الثوار الأحرار والمواطنين العزل الذين يقاومون كل هذا الحشد الإجرامي المتعدد الجنسيات والعقائد.
سورية تباد اليوم إبادة كاملة أمام مرأى من العالم ومسمعه، ولنقل بعبارة أدق، أمام الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية اللتين هما القوتان العظميان القابضتان على زمام مجلس الأمن، الذي صار خاضعاً لهما، فاقداً مصداقيته، ولم يعد كما كان يراد له أن يكون «حكومة العالم»، تضطلع بمسؤولية حفظ الأمن والسلم في العالم، وحماية القوانين الدولية من الانتهاك والعبث بها. وهي إبادة حقيقية وليست مجازية إطلاقاً.
إن السؤال الذي ينبغي أن يطرح: هل كل من يحمل السلاح في سورية ويحارب النظام الطائفي، هو من الإرهابيين؟. هذا ما يقوله النظام ومعه روسيا وإيران وتوابعها، وهم كثر. وعلى هذا الأساس، تتضافر جهود هذه الأطراف المتحالفة، لتطهير سورية من شعبها الذي يحمل السلاح في وجه النظام لإسقاطه. الملاحظ أن داعش لا يحارب النظام السوري. صحيح أن هذا التنظيم قد اكتسح مناطق شاسعة من التراب السوري، واحتل مدناً وقرى، لكنه لا يدخل في معارك مع قوات النظام. وإنما المسألة بخلاف ذلك تماماً، فداعش يحارب فصائل المعارضة السورية ويضربها في مقتل، ثم ينسحب من المناطق التي يحتلها ويتركها تحت وابل القصف الهمجي الذي يدمر كل شيء، ما يجوز معه القول إن هذا التنظيم الإرهابي يتصدى لأعداء النظام السوري، ويعمل لحسابه.
إنها المأساة الإنسانية المرعبة التي تفضح التواطؤ بين القوى العظمى في تنفيذ مؤامرة دولية، هي بكل المقاييس، إنذار شديد القوة بإفلاس النظام العالمي وبوار السياسة الدولية، وبدخول العالم مرحلة من الفوضى التي يُنتهك فيها ميثاق الأمم المتحدة، ويتعرض الأمن والسلم الدوليان لأخطار شديدة. وإذا لم يبادر المجتمع الدولي بإزالتها، ستزداد الكوارث المدمرة في المنطقة التي يتحمَّل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية اللاعبون الكبار بالنار، والعابثون بحقوق الإنسان، والمتاجرون بأرواح البشر، في هذه المرحلة العصيبة التي يعيشها العالم، والتي وصل فيها التهديد للسلام العالمي درجة لم يصلها من قبل. إن السياسات المنافقة واللاأخلاقية التي تنتهجها القوى العظمى في تعاملها مع الأزمة السورية، من شأنها أن تزيد في خطورة الأوضاع، ليس في سورية فحسب، وإنما في المنطقة بأسرها، إلى درجة أن بعض المحللين العارفين بخفايا الأمور، يذهبون إلى القول بأن الحرب العالمية الثالثة، إذا ما كانت ستقوم، فستندلع من الأراضي السورية. ونحن لا نرى في هذا الاحتمال مبالغة ما، لأن كل ما يجري في سورية اليوم يسير نحو هذا الاتجاه. لكن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية ومعهما إيران بأحقادها وأطماعها الطائفية في المنطقة العربية، هي المسؤولة عن تدهور الحالة في سورية إلى هذا المستوى المأسوي.
وفي ظل الوضع الجديد في تركيا في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي بدأت معالم من دبرها ودعمها تتضح يوماً بعد الآخر، والتي من أهدافها تقليص الدعم التركي للثوار السوريين، يستمر قتل الشعب السوري وتدمير بلاده في إطار سياسة طائفية مقيتة تهدف إلى القضاء على المواطنين السنة، أو تهجيرهم ليهيموا في أقطار الأرض، وإحلال الشيعة في مناطقهم تستقدمهم إيران من بلدان عدة. وهذا مخطط بالغ الخطورة لا يعرف أحد كيف سينتهي ولا إلى أين يتجه. وما يزيد من تعقيد المسألة ومن خطورة الوضع في سورية، أن ما يجري على الأرض هو نتيجة للتوافق بين القوى العظمى ومعها إيران، هذا التوافق الذي هو القاعدة في التآمر ضد العرب والمسلمين جميعاً، وليس فقط ضد الشعب السوري.
والعرب والمسلمون جميعاً، لا يمكن إعفاؤهم من تلك المسؤولية، فالخطر يتهددهم، والتآمر يستهدفهم، وهم أصبحوا في قلب الأحداث، حتى وإن بعُد بعضهم منها جغرافياً. فها هي إيران تعد جيشاً طائفياً متعدد الجنسيات، لتنفيذ خطتها التوسعية جهاراً نهاراً. ولذلك يتوجّب على منظمة التعاون الإسلامي أن تتحرك في اتجاه إنقاذ الشعب السوري من الإبادة الجماعية، وحماية معالم الحضارة الإسلامية في هذا البلد المنكوب، وحماية العالم الإسلامي من حمى الطائفية المقيتة التي تنفخ في نارها إيران ومن يخدم سياساتها.
فالوضع جد خطير، ولا يقبل التأخير.
قرار طهران بوقف استخدام إحدى قواعدها الجوية لتزويد القاذفات الروسية بالوقود في غاراتها على المعارضة السورية، بعد استيائها من «قلة كياسة» موسكو، ليس مجرد تشتيت لإحراجات إيرانية داخلية فحسب، بل يعكس أيضاً مزاجية العلاقة بين الدولتين وهشاشتها، وما تنطوي عليه من خداع متبادل، على رغم تشديد الطرفين على بعدها الاستراتيجي والمصالح الطويلة الأمد التي تخدمها، والتي تبقى محل تقييم.
انتظرت إيران أياماً قبل أن تستفيق على «وقاحة» الروس وانفرادهم بالإعلان المتلفز عن نشر طائراتهم، في استهانة واضحة بها. والسبب الذي قدمته لامتعاضها أن الروس نقضوا اتفاقاً بالحفاظ على السرية التي تنتهجها هي استراتيجية دائمة منذ وصول رجال الدين إلى السلطة قبل نحو أربعة عقود. فالعمل في الخفاء تقليد معتمد لدى طهران التي رفعت طويلاً، على سبيل المثال لا الحصر، شعارات العداء للولايات المتحدة فيما كانت تفاوضها في السرّ.
أدركت طهران أن إعلان موسكو الصاخب كان استدراج عروض للأميركيين يستهدف إقناعهم بالدخول معها في اتفاق شامل حول سورية، بدلاً من الاعتراف المتدرج البطيء بدورها ونفوذها. فبوتين قد يكون مستعجلاً للحصول من باراك أوباما على أقصى ما يمكنه، قبل وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض، ربما بات مقتنعاً أنه لن يكون «صديقه» دونالد ترامب.
لكن سكوت طهران عن الإعلان الروسي أسبوعاً، كان أيضاً يستهدف الضغط على الأميركيين قبل الانتخابات لتسريع إلغاء العقوبات الذي لا يزال يطبق بالقطارة، والاعتراف الواضح بنفوذها الإقليمي، وخصوصاً في العراق حيث تتشدد واشنطن في شروط ما بعد استعادة الموصل من «داعش» وفي دور الميليشيات الموالية لإيران في المعركة المنتظرة وفي مستقبل بلاد الرافدين، بما فيها إقليم كردستان الإشكالي.
وقد يكون حديث وزارة الدفاع الروسية عن احتمال توقيع اتفاق مع إيران مماثل لذلك الموقّع مع سورية، أثار حفيظة طهران المعتدّة بنفسها، والتي تعرف تماماً أن الاتفاق الذي سمح لروسيا بتوسيع انتشارها العسكري والتحكم بغرفة العمليات المشتركة مع الجيش النظامي السوري، تضمن انتهاكاً فاضحاً للسيادة الوطنية، وجاء مذلاً للحكم في دمشق، وأظهره مجرد تابع ينفذ الأوامر، إلى حد استدعاء بشار الأسد إلى القاعدة الروسية لتلقي تعليمات وزير دفاع موسكو. أما إيران فتعتبر نفسها لاعباً مهماً في المنطقة على قدم المساواة مع روسيا، إن لم تكن أهم منها، بسبب القرب الجغرافي والتاريخ المشترك.
وبالتأكيد فإن أحد الأسباب التي دفعت طهران إلى التراجع عن الاتفاق، هو أن القصف الروسي لم يغير عملياً الكثير على الأرض، لا سيما في منطقة حلب، حيث لم يتمكن الجيش النظامي والميليشيات الإيرانية من توظيف تكثيف الغارات في تغيير الواقع الميداني. بل أن الخطوة الروسية قد تكون السبب في اتخاذ الأميركيين إجراء مقابلاً يتناقض مع سياستهم بعدم التدخل المباشر، عندما أرسلوا طائراتهم لحماية مستشاريهم العسكريين العاملين مع «قوات سورية الديموقراطية»، في تلويح باحتمال إقامة منطقة حظر جوي تطالب بها المعارضة السورية منذ سنوات، وقد تشمل الطيران الروسي. فإذا قاست إيران مدى نجاح الخطوة بنتائجها تبين لها أن النتائج جاءت عكس ما ترغب، لأن توسيع التدخل الدولي في سورية أياً كان حجمه يأكل من دورها ونفوذها.
وفي حين تتصرف روسيا باعتبارها دولة كبرى تأخذ في حسابها تجاذباتها في شكل خاص مع الأميركيين والأوروبيين، في مناطق أخرى مثل أوكرانيا، ولا تجد حرجاً في التلميح إلى أن مصلحتها في استمرار منفذها على البحر المتوسط عبر سورية أهم من مصير الأسد على المدى الطويل، أو من تحويل سورية إلى كيان فيديرالي، تعتبر إيران أن تغيير النظام السوري أمر غير خاضع للنقاش، وأنها تخوض في سورية معركة «حياة أو موت» وتدافع عن نظام «الجمهورية الإسلامية» نفسه.
وثمة في طهران من يرى أن الإيرانيين يقدمون «التضحيات» في سورية من مالهم وجنودهم وميليشياتهم، فيما يقطف الروس وحدهم «الانتصارات» السياسية والخبطات الإعلامية.
الحديث الروسي المتصاعد عن تفاهمات مُنجَزة مع الولايات المتحدة فيه كثير من المبالغة المقصودة، وهو تعبير عن سياسة «التغلغل الناعم» الذي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدخول على قضايا الشرق الأوسط، وذلك بالموازاة مع فظاظة وحلف القوة العسكرية التي يستخدمها بمواجهة الشعب السوري. فبوتين يلعب بالميدان الشرق أوسطي وكأنه أمر يتعلق بالمدى الحيوي المباشر للعاصمة موسكو.
ولا توازي البهجة التي ترتسم على وجه وزير دفاعه سيرغي شويغو وهو يعلن عن الشروع باستعمال القاذفات الاستراتيجية المنطلقة من قاعدة همدان في إيران لقصف مواقع «الإرهابيين» في سورية، إلا فرحة وزير خارجيته سيرغي لافروف وهو يمسك بأوراق الملف السوري مُفوَّضاً من الولايات المتحدة لحل المسألة السورية.
لكن في موازاة المبالغة المقصودة، هناك أمل روسي دائم بإمكانية التوصل إلى تفاهم أمني وسياسي مع الأميركيين، نجح حتى الآن في إطار الحد الأدنى لتفادي الاشتباك ليس إلا. مبعث ذلك هو حاجة الأميركيين لإنجاز فعلي في مواجهة داعش في العراق أو سورية قبل موعد رحيل الرئيس باراك أوباما الذي تعتمد إدارته سياسة الغموض البناء ولا تفصح عن أهدافها الحقيقية.
إزاء ذلك تُستدرج روسيا إلى الانخراط عسكرياً في شكل أكثر فاعلية في الساحة السورية، على قاعدة تحسين شروطها وموقعها في التفاوض السياسي. وهي تجد نفسها متوغلةً في الشأن الكردي وشؤون المسيحيين والأقليات في شكل عام، ما يجعلها على تماس مع مشكلات المنطقة ويدفعها إلى الانغماس في تناقضاتها اليومية. ولقاء الإمساك بمجمل هذه الأوراق، يظهر السياق التصاعدي للتورط الروسي في ظل عجزها عن ترجمة ثقلها العسكري إلى مكاسب سياسية، وقد كانت أعلنت منتصف آذار (مارس) الماضي انسحابها بعد «تحقيق الأهداف المرسومة»!
هذا الانزلاق التدريجي يدفع روسيا إلى الانخراط بكل تفاصيل الاشتباك الإقليمي الدائر في المنطقة والإطلالة على كل ساحاته أيضاً، بخاصة بعدما تم صدها من الحدود الشرقية لأوروبا بعد قمة حلف الأطلسي الأخيرة في وارسو التي أقرت استراتيجيةً طويلة الأمد لردع الطموحات الروسية واحتوائها. وبعدما بدأت تخسر جولات عسكرية في سورية، فهي لن تتردد في البحث عن أوراق تقوي موقعها في مواجهة القوى الإقليمية التي تتصارع معها هناك، بخاصة إذا كانت إيران مستعدةً لمساعدتها وتمكينها من ذلك.
من هنا يمكن فهم الموقف الملتبس للسياسة الروسية في الخليج حين رفض المندوب الروسي في مجلس الأمن صيغة مشروع البيان الذي يندد بتشكيل المجلس السياسي لتحالف الحوثيين وصالح في اليمن، بعدما كانت موسكو متعايشةً مع القرار الدولي رقم 2216، على رغم إعادة تأكيد مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف على اعترافهم بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، يُضاف إلى ذلك رمزية انطلاق الطائرات الروسية من قواعد في إيران وانتشار فرقاطات روسية قرب خليج عدن بذريعة حماية السفن من عمليات القرصنة. فالخليج يشكل وجهةً منطقيةً للانتشار الروسي، بعدما رسّخ حضوره في المتوسط وعزز علاقاته الاستراتيجية مع مصر.
لا شك في أن عقبات كثيرةً تقف حائلاً أمام حلم بوتين في استعادة أمجاد سوفياتية سالفة، فالشرق الأوسط الذي احتضن الوجود السوفياتي كان يقوم على بنية قومية صلبة وصراع مع إمبريالية الولايات المتحدة وصعود القضية الفلسطينية التي رسخت نزعة العداء لإسرائيل، وكل ذلك شكل الأرضية الثقافية الحاضنة لفكرة التوازن الاستراتيجي مع عالم الغرب المنحاز. لكن روسيا اليوم تقف على شرق أوسط يتآكله مشروع إيران المذهبي وهي تدخل إليه من الجانب الذي يعاكس نزعاته المعاصرة مُنحازة إلى ما تبقى من استبداد ومقتبِسة منه أساليبه العنفية ذاتها. وهذا الشرق الأوسط لا أرضية فيه لوجود توازن مستدام تفرضه روسيا على شعوب المنطقة، الّلهُمّ إلا باستعمال القوة المفرطة.
من جهة أخرى، شهد الشرق الأوسط عبر التاريخ توازناً دقيقاً للغاية بين نفوذ إيران وتمدّد روسيا، بحيث يفرض تراجع الأولى تمدداً للثانية وهكذا دواليك، وأفضل من أدرك هذا التوازن كان الرئيس السوري حافظ الأسد الذي بادر إلى الالتحاق بالمركب الأميركي في تحرير الكويت عام 1991 عندما لاحت بوادر سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك إيماناً منه بأنه سيصبح رهينةً لإيران، إذا لم يوازنها بتجسير علاقاته مع الولايات المتحدة التي مدّدت له إقامته في لبنان وأبقت ورقة حزب الله بيده.
لذلك ربما يستدعي النظر إلى التمدد الروسي من هذه الزاوية وباعتباره يأخذ من درب إيران في المدى البعيد. أما الرسالة من وراء الحضور الروسي في الأجواء وعلى الأراضي الإيرانية فتكمن في التوازن مع الوجود الأميركي في الخليج وتأمين المظلة الفعلية لإيران في المنطقة. روسيا تقول إنها شريكة لإيران من موقع الأُبوّة، وكما حمى خامنئي نظام الأسد فبوتين يحمي نظام خامنئي من أي تحول خارجي أو حتى داخلي، مقابل أن تكون له الكلمة الفصل في القضايا الرئيسية.
عين روسيا على التمدد في الشرق الأوسط لتأمين حضورها الطويل الأمد في سورية، وعين الولايات المتحدة على توريطها في الوحول السورية ورفع كلفة وجودها لإضعاف موقفها على الصعيد الدولي، ومن السذاجة التطلع إلى الأداء الأميركي من غير هذه الزاوية.