كاد يمر عام على بدء روسيا حملتها العسكرية في سورية، وبدأت تظهر الآن فقط معالم مرحلة جديدة في النزاع السوري، تأتي فيها تركيا في طليعة هذه المرحلة. فنتيجة لتبعات إستراتيجيتها الخاصة في سورية، إضافة إلى دور الفاعلين الخارجيين، يتحول موقف تركيا في النزاع السوري ببطء إلى موقف أقرب إلى موقف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وبينما سيرحب الكثيرون بهذا التغيير كزيادة في إمكانية تحقيق تسوية سياسية للنزاع، فإن من المحتمل أن يزيد من عدم الاستقرار المحلي في تركيا.
لقد كانت للولايات المتحدة وروسيا وجهات نظر متباعدة بخصوص النزاع السوري. فقد رفضت روسيا دائماً تغيير النظام في سورية، بينما تمسكت الولايات المتحدة بإصرار برحيل الرئيس بشار الأسد. إلا أن الخطاب الأميركي لم يصاحبه قط عمل ملموس لتمكين حدوث هذا التغيير. فمن دون دور أميركي نشط في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة أو مستوى كاف من الدعم للمعارضة السورية، سياسياً كان أو عسكرياً، تركت الولايات المتحدة الباب مفتوحاً بشكل فعال لتحول روسيا وجهات نظرها الخاصة بسورية إلى حقيقة ملموسة.
في الوقت نفسه، كانت إستراتيجية النظام السوري الخاصة في معالجة النزاع تعتمد على مسانديه الخارجيين، أولاً إيران، ثم روسيا، مع تقديم معركته ضد المعارضة على أنها معركة ضد التطرف. وعلى المستوى التكتيكي، قام النظام بالسماح بشكل غير مباشر بنمو جماعات مثل تنظيم «داعش»، خصوصاً بعد أن بدأ «داعش» استهداف الثوار السوريين. لكن عندما بدأ التنظيم مهاجمة المناطق الخاضعة للنظام أيضاً، رأت روسيا في هذا فرصة. فالتدخل الروسي الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) الماضي تحت ذريعة قتال «داعش» لم يمكّن الأسد من البقاء في السلطة فقط، خصوصاً وقد قامت روسيا بقصف كل من «داعش» والجماعات المختلفة من الثوار السوريين كجزء من حملتها الجوية، لكنه أيضاً جعل روسيا صاحبة مصلحة رئيسية لا يمكن الوصول إلى تسوية للنزاع السوري من دونها.
مع صعود «داعش»، وجدت الولايات المتحدة عدواً مناسباً لتحويل الانتباه بعيداً عن السياسة السورية، وزادت من إبراز تدخلها في النزاع السوري على أنه لمكافحة الإرهاب. وهكذا، تواءم المنهجان الأميركي والروسي في شأن سورية. هذا التواؤم ينمو إلى مناقشات حول تنسيق حملات عسكرية ضد «داعش» والجماعات الأخرى المسماة «إرهابية» في سورية. في هذه الأثناء، بدأت الولايات المتحدة وروسيا مناقشة اتفاق إطاري خاص بتسوية النزاع يتضمن السماح للأسد بالبقاء في السلطة خلال الفترة الانتقالية.
مع تتابع كل تلك التطورات، وجدت تركيا نفسها تحت ضغط متزايد. فبخلاف الولايات المتحدة، سعت تركيا بشكل نشيط لإزاحة الأسد من السلطة من خلال منح الدعم للجماعات المسلحة المتعددة في سورية. كما رأت أيضاً، في البداية، أن صعود «داعش» يشكل فرصة محتملة للتخلص من الأسد بسرعة، وفي النزاع السوري ذريعة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد «حزب العمال الكردستاني» في الجنوب على طول الحدود السورية. إلا أن سياسة غض النظر التي اتبعتها تركيا في ما يتصل بحدودها مع سورية، والتي سمحت لآلاف المقاتلين الأجانب بالعبور إلى سورية من أوروبا وغيرها للانضمام إلى «داعش» والجماعات الأخرى، وضعت تركيا تحت ضغط من أوروبا، إضافة إلى الولايات المتحدة التي بدأت تعدها عنصراً من العناصر المسببة لعدم الاستقرار. لقد جاءت المبادرة التركية في مراقبة الحدود متأخرة جداً حيث كان «داعش» عندئذ قد أرسى وجوده على التراب التركي وبدأ سلسلة من الهجمات الإرهابية في المدن التركية المختلفة.
انضمت تركيا بصورة مترددة إلى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش»، مما أدى إلى زيادة مجال نشاط «داعش» على أرضها بدافع الانتقام. بالانضمام إلى التحالف، توقعت تركيا أن تلعب الولايات المتحدة في المقابل دوراً أكثر نشاطاً في دعم رغبة تركيا في تغيير النظام في سورية. لكن هذا لم يحدث.
أكثر من هذا، بدأت الولايات المتحدة دعم القوات الكردية المنتمية لـ «حزب العمال الكردستاني» في سورية (وحدات حماية الشعب) على رغم إدراجها «حزب العمال» كجماعة إرهابية، ووجدت في «وحدات حماية الشعب» شركاء عسكريين يمكن أن يكونوا موضع ثقة على الأرض في المعركة ضد «داعش». كذلك بدأت روسيا إخافة تركيا من خلال الحملة الجوية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 2015، ليس فقط بالاختراقات الدائمة للطائرات المقاتلة الروسية للمجال الجوي التركي، ولكن أيضاً بقصف الجماعات السورية الثائرة المدعومة من تركيا، إضافة إلى إمداد «حزب العمال الكردستاني» بالأسلحة ودعم الأكراد في سورية أيضاً.
شعرت تركيا بالعزلة. فهي أصبحت تحت ضغط روسي، وإلى حد كبير من دون دعم أميركي، وتشهد تحولاً تدريجياً في السياسة الأميركية في سورية إلى موقف أقرب إلى موقف روسيا. كذلك أصبحت مثقلة بتفاقم مشكلة «داعش» على أرضها، من دون أن ترى فرصة لتغيير النظام في سورية، وخشيت إمكانية قيام منطقة كردية مستقلة على حدودها مع استغلال الأكراد السوريين صلاتهم مع الولايات المتحدة وروسيا للمطالبة بالحكم الذاتي. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير محاولة الانقلاب الذي حدث في تركيا في تموز (يوليو) الماضي والذي قابله رد فعل فاتر في الولايات المتحدة وأوروبا.
من بين كل تلك المشاكل، فإن فرصة الحكم الذاتي الكردي خارج منطقة كردستان العراقية هي الخط الأحمر بالنسبة إلى تركيا. وحتى لا يتم عبور هذا الخط الأحمر، عرفت تركيا أن عليها القبول بحل وسط. هذا الحل الوسط يأخذ شكل سورية.
قبل أيام قليلة، أعلن رئيس الوزراء التركي أن تركيا تقبل بقاء الأسد في السلطة خلال فترة انتقالية. وبعد ذلك بأيام قليلة، أرسلت تركيا قوات إلى داخل سورية للسيطرة على بلدة جرابلس الحدودية لمنع مقاتلي «وحدات حماية الشعب» من انتزاعها من «داعش»، إذ أن سيطرتهم عليها كانت ستمكنهم من ربطها بمناطق أخرى تحت السيطرة الكردية في شمال سورية. وفي مجموعة لم يسبق لها مثيل من التحركات، طلبت الولايات المتحدة، إضافة إلى تركيا، أن تتراجع القوات الكردية إلى شرق الفرات، بينما قصف النظام السوري أيضاً الأكراد في الحسكة، بعد أن رأى في زيادة الثقة بالنفس من قبل الأكراد تهديداً لوحدة سورية.
للمرة الأولى في تاريخ النزاع السوري، تتجه الولايات المتحدة وروسيا وتركيا نحو تحقيق درجة من التواؤم في شأن سورية ولو على حساب الأكراد، إضافة إلى العديد من الثوار السوريين المدعومين من جانب الأتراك. وعلى رغم أن هذا يعني أن تركيا لن تجد منطقة كردية مستقلة ذاتياً على عتبتها، فقد كان ثمن هذا عالياً. فالاقتصاد التركي تأثر تأثراً سلبياً، ومن المحتمل أن تستمر النشاطات الإرهابية من قبل «داعش» و»حزب العمال الكردستاني»، كما سيكون على تركيا الإذعان للطلبات الروسية والأميركية الخاصة بسورية، والتي لا يمكن إلا أن تلحق الأذى بالمصداقية السياسية للرئيس أردوغان. قد تتخطى تركيا هذه المرحلة في النهاية، لكن التداعيات المحلية، الاقتصادية والأمنية والسياسية، تستحق وقفة للتفكير.
يشكل حديث نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عن رؤيته إلى الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة في مواجهة تحديات السياسة الخارجية، أفضل تفسير حتى الآن لمحدودية دور بلاده في سورية، وأوضح شرح للأسباب الكامنة وراء ما يراه كثيرون تخلياً من جانبها عن «الخطوط الحمر»، ونكوصاً عن دعم التغيير، و»تفويضاً» لروسيا وقوى أخرى بترتيب «البيت السوري»، مع الحفاظ على الحد المقبول من المصالح الأميركية.
لخص بايدن «عقيدته» في حديث نشرته مجلة «أتلانتيك» قبل أيام على النحو التالي: استخدام القوة العسكرية يجب أن يستند أولاً إلى ما هو مصلحة قومية استراتيجية، وأن نستطيع الحفاظ على زخم هذا الجهد والتأكد من أنه سيأتي بنتائج، وأن نعرف ثانياً ما هي الخطوات التالية بعد التدخل.
وكان أوباما تحدث إلى المجلة نفسها قبل أشهر عن أهم إنجاز له في ولايتيه الرئاسيتين، وكيف أنه لم يلتزم «كتاب التعليمات» للسياسة الخارجية الأميركية الذي يحدد متى وكيف ترد واشنطن على التحديات الخارجية، مبرراً امتناعه عن ضرب نظام بشار الأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي.
وكرر بايدن ما بات معروفاً من أن سورية لا تشكل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة، لأنها دولة لا تمتلك موارد مغرية، ولم تعد طرفاً في المحور الضامن للاستقرار في الشرق الأوسط، والذي كان يضم أيضاً السعودية ومصر، بعدما دخلت المنطقة في حرب محاور وانضوت سورية في المحور الإيراني.
ويضيف نائب الرئيس الأميركي: «لو أرسلنا 200 ألف جندي أميركي إلى سورية، وربما ندخل حينها في حرب مع روسيا، سيكون باستطاعتنا السيطرة على الوضع وتهدئته. لكن ما أن نغادر حتى تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه»، مشيراً إلى مثال أفغانستان المهددة بعودة حكم «طالبان» في حال أنهت القوات الأميركية والأطلسية وجودها.
وتعتبر إدارة أوباما أن الإرهاب لا يشكل تهديداً وجودياً للولايات المتحدة، على رغم قدرته على إلحاق الأذى من قتل وتدمير، مع تأكيد أن مساهمتها في الحرب على «داعش» وباقي التنظيمات الإرهابية تستهدف استباق الاعتداءات الإرهابية في أوروبا وأميركا نفسها. وقال بايدن إن التهديد الوجودي الفعلي هو التهديد النووي، كأن يندلع نزاع نووي غير مخطط له، مع روسيا أو الصين وكوريا الشمالية أو مع باكستان.
ولأن المعطيات السورية لا تلبي شروط التدخل الأميركي الواسع، تحدث بايدن عن «إعادة التوازن» مع روسيا، وتعديل الوضع الذي ورثته الإدارة الديموقراطية من جورج بوش وكانت فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم بلا منازع، وإلى الانخراط مع قوى دولية أخرى، لأن الموقف الأميركي من مشكلات العالم تغير، وبات من الحيوي تعزيز التحالفات وبناء ترتيبات جديدة تقوم على تشارك المسؤوليات والمعلومات.
وهذا تماماً ما فعله الأميركيون عندما فاتحوا الروس بضرورة تعزيز دورهم في سورية والانتقال من مجرد مدافع عن نظام الأسد ومزود له بالسلاح، إلى لاعب أساسي في المفاوضات ورسم مستقبل سورية ومحاربة الإرهاب. أي أنهم عرضوا عليهم مشاركتهم في تحمل مسؤولية حل الأزمة السورية، بغض النظر عن كيفية تفسير موسكو لهذه الدعوة، وكيف تصرفت لاحقاً بناء على هذا التفسير.
وهكذا صار للأميركيين شريك رئيسي في سورية، بعدما تقاسموا مع إيران النفوذ في العراق وأشركوها في وضع أسس التسوية السياسية في هذا البلد تمهيداً لانسحابهم العسكري منه. وجاءت دعوتهم إلى دور روسي أكبر في سورية بهدف القضم من الدور الإيراني هناك وإقناع الإيرانيين بالاكتفاء بالملعب العراقي، علماً أنهم حالوا حتى الآن دون أي دور روسي في العراق على رغم إلحاح موسكو.
أما باقي الشركاء في البلدين، مثل الأكراد والعرب والأتراك، فلا يؤدون بالنسبة إلى الأميركيين سوى أدوار ثانوية، والعلاقة بهم تتوقف على مدى خدمتهم التقاسم الذي تحدده واشنطن، ورهن التطورات على الأرض، لكن من دون مسار ثابت.
عندما سُئلت باربرا ف. وولتر، الخبيرة في الحروب الأهلية، عن صراعات مماثلة للحرب السورية على مر التاريخ، سكتت قليلاً ثم فكرت في بعض الاحتمالات، قبل أن تستسلم قائلة إن ليس هناك أي صراع مماثل، "إنها حقًا قضية صعبة جداً جداً".
لا تكمن فرادة الحرب السورية في الفظائع التي يرتكبها المتقاتلون في حق شعب بكامله فحسب، وإنما أيضاً في ممارسات الأمم المتحدة التي يفترض أنها منظمة محايدة لا علاقة مشبوهة لها بأي من الاطراف ولا تقدم مصلحة أي منهم على مصلحة الآخر. فكأن تعطيل الخمسة الكبار مجلس الأمن لا يكفي لنسف دورها في وضع حد للنزاع، لتتكدس الشبهات في عملها الانساني أيضاً، وصولاً أخيراً الى تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن دفع الأمم المتحدة عشرات ملايين الدولارات لنظام الرئيس بشار الأسد بموجب برنامج المساعدات.
وفي عملية حسابية بسيطة يتبين أن المنظمة الدولية دفعت 31,5 مليون دولار على الأقل في عقود لإدارات ومؤسسات وجمعيات على علاقة بالنظام وتخضع لعقوبات أوروبية وأميركية ترمي أصلاً الى اضعاف النظام ومنعه من مواصلة ممارساته ضد شعبه وإجباره على تقديم تنازلات للتوصل الى حل. ويظهر أيضاً تحليل عقود الأمم المتحدة أن وكالاتها عقدت صفقات مع 258 شركة سورية أخرى على الأقل، ودفعت مبالغ في عقود تراوح قيمتها بين 54 مليون دولار و36 مليون جنيه استرليني وصولاً إلى 30 ألف دولار. ويرجح أن كثيراً من هذه الشركات لها صلات بالأسد أو القريبين منه.
ليس مقنعاً قول الأمم المتحدة إن عملها الإغاثي أنقذ ملايين الأرواح، فهذا عمل المنظمة أصلاً، وليست مجادلتها بأن عليها التعامل مع النظام إذا أرادت التحرك في سوريا كافية لتبرير ما يرقى الى مستوى تواطؤ مع طرف أساسي في الحرب.
وكم تبدو مخيبةً التقارير الواردة منذ بداية المهمة الانسانية في سوريا عن ضغوط يمارسها النظام على البعثة الدولية لتوجيه المساعدات الى مناطق معينة وإرغامه إياها على تعديل تقاريرها بما يتلاءم ومصلحته تحت تهديد منعها من العمل في البلاد، بل هي تشكل نقطة سوداء في سجلها الانساني. سياسة الإذعان والتسويات التي تعتمدها الامم المتحدة في سوريا لا تقل خطراً عن تلك التدخلات الخارجية والمصالح المتضاربة الكفيلة بمدّ أمد النزاع وجعله أكثر عنفًا وأكثر استعصاء على الحل.
مع تسويات مشبوهة كهذه وإذعانها لتهديدات النظام بسحب ترخيص العمل منها، تساهم الامم المتحدة في تغذية العنف وإطالة زمن الحرب الى حين فناء البشر والحجر معاً.
قُصفت داريّا بوابل من قنابل النابالم، قبيل إخلائها، وقال شهود عيان أن الحرائق بدت ليلاً من دمشق أشبه بفوّهة بركان مشتعلة. لم يقل أحد، ولا الأمم المتحدة، أن نظام البراميل المتفجّرة عبّأ براميله بسلاح محظور دولياً، ولو من قبيل توثيق الواقعة. الأرجح، أن التعب الدولي من انتهاكات النظام جعل التنبيه الى جرائمه بلا معنى أو مغزى، فهي كثيرة ويومية. غير بعيد من داريّا، في المعضمية، قبل ثلاثة أعوام، كان القتل بالسلاح الكيماوي، وتعاون الأميركيون والروس على لفلفة الجريمة آنذاك، والأرجح أنهم سيتعاونون على حماية النظام القاتل بعدما حمّله التحقيق الدولي مسؤولية واقعتين كيماويتين بأدلة قاطعة.
كانت لداريّا رمزية خاصة بدلالة تجربة العيش المشترك بين أبنائها مختلفي الانتماءات، ففيها تجلّت «سلمية الثورة» بأبهى حللها في تقديم الورود الى جنود السلطة، وفيها انكشف باكراً الوجه العنفي الحاقد للنظام بقتل حامل الورود غياث مطر بعد اعتقاله، وفيها كذلك ارتكب النظام المجازر المنهجية الأولى قبل أن يشرع في حرب إبادة ضد المدينة، وفيها أخيراً سجّل عسكريون وشبان اضطرّوا للتعسكر واحدة من تجارب الصمود الإنساني الأكثر إذهالاً. كانوا مقاومة شعبية حقيقية، ذات هوية وطنية، ولا ارتباطات خارجية لهم، ولا أسلحة ثقيلة، ولذلك كان وجودهم على مقربة من دمشق مصدر إزعاج لا للنظام وإيرانييه فحسب، بل حتى لفصائل أخرى قريبة وباتت الآن تحت ضغوط براميل النابالم تمهيداً لإخلائها بدورها.
بالنسبة الى إعلام نظامَي بشار الأسد وملالي إيران، شكّل الانتهاء من عقبة داريّا خطوة متقدّمة في «تأمين دمشق»، بعد القلمون والزبداني، والتأمين هذا اسم مرادف لاقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي. هو استنساخ دقيق لنموذج الإرهاب والمجازر الإسرائيلي في إخلاء المَوَاطن من أهلها، ومن ثَمّ التصرّف بما يسمّى «أملاك الغائبين» والسهر على تهويد الأماكن. قبل داريّا، مورس النهج «التهويدي» في حمص، ويستكمل الآن - بالنابالم - في حي الوعر، الرقعة الأخيرة منها خارج سيطرة النظام.
لكن هذا النظام قبل طوعاً تقزيم وجوده في الحسكة، بعدما طردته منها قوات «حزب العمال الكردستاني»، وليس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وفق التسمية التي اعتمدها محافظ الحسكة. وفي هذه الواقعة أيضاً، سيكون للتغيير الديموغرافي أثره القاسي في الناس، تحت أنظار الروس الذين تولّوا «التوسّط» بين النظام والأكراد. وهو تغيير يتمّ في سياق يخدم أجندة النظام، إذ يقبل سيطرة الكرد طالما أنهم سيهجّرون العرب. وما دام الـ «بي كي كي» السوري تسبّب بنفي قسم كبير من مواطنيه الأكراد غير المتوافقين معه سياسياً وتهجيرهم، فماذا يُتوقّع منه حيال العرب، وقد هجّر منهم مَن هجّر، وعلى رغم نفيه المتكرّر لم يستطع أحدٌ منهم العودة الى قريته أو بلدته.
لوقائع مثل داريّا والحسكة أبعادٌ «مستقبلية» باتت تنبثق من قذارة الحرب وأهداف اللاعبين فيها، ويمكن أن تضاف إليها الحالات الميليشياوية التي فرضت نفسها على مناطق المعارضة، كما دأب الإيرانيون على نشرها في «مناطق النظام» حتى أن الروس الذين ازدروها في بداية تدخّلهم، لم يجدوا مناصاً من التعامل معها وأصبحوا يستقبلون وجوهها في قاعدة حميميم. هذه وقائع أقلّ ما يقال فيها أنها لا تسابق «الحل السياسي» وتضاعف صعوباته وتعقيداته فحسب، بل إنها ماضية في قتله وفي تغيير الوقائع على الأرض، الى حدّ أن القرار الدولي 2254 الذي لم يظهر إلا في العام الخامس للصراع، أُفرغ من مضمونه في غضون شهور قليلة. وإذ يُنظر بيقين الى «داعش» على أنه خطر زائل لا محالة بعدما وفّر لجميع من ساهموا في ظهوره حقولاً للقتل والتدريب وتجريب الأسلحة، فالمؤكّد أن «داعش» لا مستقبل له في سورية أو في العراق، لكن ما يحصل على الأرض ماضٍ في صنع مستقبل لمن أوجدوا التنظيم واستغلّوه تحديداً في إفساد قضية الشعب السوري.
فمن داريّا التي أعادت إنعاش حلم الأسد والإيرانيين في «سورية المفيدة»، الى الحسكة التي أكّدت وجود تفاهم أميركي - روسي على منح الأكراد كياناً خاصاً بهم، الى جرابلس التي دشّنت دخول تركيا منطقة النفوذ التي أفردها لها الروس والإيرانيون، الى مواصلة الأميركيين والروس بحثهم عن «هدنة شاملة» في حلب وعن أفضل تنسيق لنشاطاتهم الجوية وأفضل تمييز ممكن بين معارضتين معتدلة ومتطرفة، وإلى استمرار النقاش والخلاف حول «مصير الأسد» فيما تتمسك به موسكو وطهران وتستعد أنقرة لتطبيع العلاقة معه وتسلّم واشنطن بوجوده في مرحلة «قصيرة» لا يريدها الأسد نفسه، بل لا يعترف بأي صفة «انتقالية» لها... يبدو أن الطرف الوحيد الذي لن يتاح له أن يقرّر مصيره هو الشعب السوري، وإذ كانت تركيا حتى أمس قريب أشبه بحصن أخير لقضية هذا الشعب، أقلّه بحكم موقعها الجغرافي، فإن التحاقها باللاعبين الخارجيين الآخرين مرشحٌ لأن يُضعف التزاماتها تجاه المعارضة.
لا شك في أن الدخول التركي الى الأراضي السورية، لمقاتلة «داعش»، صار مقبولاً أميركياً بعدما نالت تركيا قبولاً روسياً - إيرانياً، بل قُبل معها أيضاً «الجيش السوري الحرّ» الذي كانت أميركا أمعنت في إهماله وتهميشه يوم كان قادراً على صدّ اختراق «داعش» وانتشاره، ثم مانعت لاحقاً أي دور له في محاربة الإرهاب، كأنها لا تجد له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها، ولذا فضّلت الاعتماد على «بي كي كي» السوري لأنها حجزت له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها. تم تحريك هذا الفصيل من «الجيش الحرّ» تحت الإمرة التركية، ووفقاً للصيغة التي اشترطتها أميركا منذ 2014، أي لمقاتلة «داعش» لا لمقاتلة النظام. هذا يناسب المعايير الروسية، ولا يقلق إيران، وإن كان مجرد ذكر «الجيش الحرّ» يثير كل الحساسيات داخل الحلقة الضيّقة للنظام، وحتى لدى جمهوره. لكن حسابات الحلفاء برهنت في محطّات عدة، أنها لا تكترث بهواجس الأسد وزمرته.
في أي استراتيجية يمكن وضع التحرّكات الدولية والإقليمية الراهنة، وهل هي منسجمة مثلاً مع نص القرار 2254 الملتزم «وحدة سورية»، أو حتى مع «المبادئ» الثلاثة التي ادّعاها «التفاهم الثلاثي» الروسي - الإيراني - التركي (وحدة سورية أراضيَ وسيادةً، حكومة وطنية موسّعة، إعطاء الشعب السوري الفرصة لتقرير مصيره...)؟ الواقع، أن الأمم المتحدة اتّبعت مع أمينها العام الحالي خطّ العمل في موازاة ما تتفاهم عليه أميركا وروسيا اللتين عطّلتا كل سلطة مبدئية أو أخلاقية للمنظمة الدولية كما ألزمتا المبعوث الأممي بمراعاة إيران والنظام على حساب الأطراف الأخرى.
لكن المتدخّلين الخارجيين جميعاً، كما نظام الأسد، لم يُثبتوا يوماً احترامهم وحدة سورية. إيران أولاً لاستحالة تحقيق مطامعها في سورية موحّدة، وإيران مع النظام بعدما بانت صعوبة استعادته الحكم على كل البلد، ثم روسيا التي أدركت سريعاً أن سورية تجزّأت قبل تدخّلها، وأن خيارها الوحيد حماية «سورية المفيدة» كمشروع إيراني - أسدي يمكن أن تحافظ على مصالحها فيه، أما الولايات المتحدة فانتزعت نفوذاً عبر إدارة المعارضة وكبحها في الجنوب وتمكين الأكراد في الشمال، ومن خلال الدورَين الروسي والأميركي حصلت إسرائيل على «حقّها» في التدخل، وإذا لم تكن تبحث عن منطقة نفوذ فلأن لديها الجولان وتريد اعترافاً بأنه لم يعد محتلاً، بل أصبح «حلالاً لها»، وأخيراً انضمّت تركيا الى اللعبة وهي تعلم أن لـ «البازار» الذي يرحّب بها قواعد وشروطاً لا تتلاءم بالضرورة مع كل ما تسميه «ثوابت» لا تحيد عنها.
نعم، قد يشكّل تقاطع مصالح أنقرة وطهران ودمشق ضد الكرد قاعدةً لتقاربها، لكن المشروع الكردي يحظى بتفاهم أميركي - روسي وبتشجيع إسرائيلي، وبالتالي فإن ما تستطيعه الدول الثلاث المتضرّرة هو إبطاء هذا المشروع وحصر تداعياته عليها. ولا شك في أن نظام الأسد يمثّل هنا الحلقة الأضعف، فهو، على قول بعض القريبين، لم يعد معنياً إلا بـ «قصر المهاجرين» (مقرّ حكمه)، أما انزلاق سورية أكثر فأكثر الى مستنقع التقسيم فلا يشغله، لأن التقسيم حصل في رأسه منذ اندلاع الأزمة.
منذ فجر الثورة ولغاية منتصف 2014 ظل حي الوعر الحمصي يعيش حالة نسبية من الهدوء، ولكن بسبب التهجير الذي نفذته آلة الحرب التابعة لنظام الاستبداد والإجرام وميليشياته، التي طالت غالبية مدن وقرى محافظة حمص بحقد مقيت يهدف لقمع الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، بدأت الكثافة السكانية في الحي تتزايد حتى وصلت نحو نصف مليون نسمة، ما يعادل خمسة أضعاف عدد السكان الأصلي، يتوزعون على مساحة لا تزيد على ثلاثة كيلومترات مربعة.
الشعور السابق بالأمان، سرعان ما تبدد مع اقتراب صيف عام 2014، وبعد أن بدأ النظام ينفذ عمليات قصف على الحي بدعم من الميليشات الطائفية المقاتلة إلى جانبه، وأطلق يد عناصره ليمارسوا القمع والتضييق على السكان بالإضافة إلى عمليات الاعتقال وصولاً إلى فرض حصار كامل على الحي.
عشرات آلاف المدنيين اختاروا النزوح مجدداً، فتحت التهديد المستمر بالقصف والقتل والحصار والاعتقال، لم يكن خيار البقاء في الحي سهلاً، وبدأت حركة نزوح جديدة خارج الحي، ومع استمرار التصعيد في القصف وتشديد الحصار وصلت أعداد النازحين إلى أكثر من 300 ألف نسمة، غادروا الحي الواقع غربي مدينة حمص الذي لا يفصله عنها سوى نهر العاصي وبساتين حمص الشهيرة.
المدخل الوحيد للحي كان عبر قرية «المزرعة» التي قامت ميليشيات موالية للنظام انطلاقاً منها بتنفيذ انتهاكات شديدة بحق أهالي حي الوعر، من خلال دعم الحصار والمشاركة في التضييق ومحاولات متكررة لإذلال السكان والأهالي، وصولاً إلى جرائم الخطف وطلب الفدية مقابل إطلاق سراح المخطوفين.
ومع تشديد الحصار كان لا بد لسكان الحي من التأقلم مع الواقع الجديد والمتفاقم، والبحث عن سبل أخرى للعيش، فكانوا مثالاً للإبداع والعمل الدؤوب والجاد، وتمكنوا من النجاح في شتى المجالات، وخاصة في مجال التعليم الذي لم يتوقف يوماً، سواء فيما يخص المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، وصولاً إلى المعاهد المتوسطة، وكذلك الحرف اليدوية والزراعة التي كانت من أهم ما ساعد سكان الحي على الاستمرار بالحياة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ظهرت مشاريع العمل المدني، سواء في مجال الحفاظ على النظافة أو أعمال الدفاع المدني أو تقديم خدمات الطبابة والإسعاف. ورغم شدة الحصار، وبدء الاحتلال الروسي باستهداف الحي بالقصف مستخدماً ذخائر محرمة منها القنابل العنقودية وقنابل النابالم الحارقة، ورغم قناصة النظام المتمركزين على المباني العالية القريبة من الحي والمطلة عليه لاستهداف المارة؛ فقد أصر عشرات الآلاف من سكان الحي على الاستمرار في الحياة والبقاء في بيوتهم وعدم المغادرة.
تدخلت الأمم المتحدة عدة مرات بعد الضغط الشديد الذي مورس عليها من داخل الحي وخارجه، لكن جميع محاولات التدخل باءت بالفشل ولم يتم إدخال سوى القليل القليل من المساعدات الإنسانية.
دور الأمم المتحدة لم يكن منحازاً لصالح الطرف الذي طاله الظلم، لم يقف إلى جانب الحق، ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد فشلت المنظمة في التمسك بموقف محايد، بل كان مكتب الأمم المتحدة في دمشق يضغط على السكان من خلال موظفيه، في محاولة لتمرير هدنة تفضي في نهايتها إلى الاستسلام، حيث قام مكتب دمشق بزيارات واتصالات مع سكان الحي لإقناعهم بالموافقة على الهدنة المزعومة، ما يشير إلى شراكة في مشروع التهجير، وإلى عجز وخيبة الأمم المتحدة في معالجة الأمر وفشلها المدقع في حماية المدنيين تحت القوانين الدولية، كل ذلك دون ذكر قضايا الفساد التي بدأت تطفو وتتكشف في الآونة الأخيرة.
مهما يكن من أمر، وعلى الجانب الآخر، حاولت فصائل الجيش السوري الحر كسر الحصار المفروض على الحي أكثر من مرة، لكن تضاريس الحي المكشوفة، ووجوده قرب ثكنات عسكرية تابعة لقوات النظام أعاق تلك الجهود، وحال دون تكللها بالنجاح.
نظام الأسد ينتهج سياسة إجرامية بات العالم كله يعرفها، وهي تهدف إلى القتل والتهجير والتدمير، من أجل الاحتفاظ بالسلطة بغض النظر عن الكلفة، متوهماً أن ارتكاب المزيد من الجرائم يمكن أن يقتل إرادة الحرية لدى الشعب السوري الثائر، ومستخلصاً مما جرى مؤخراً في مدينة داريا أسوأ العبر والدروس، التي ستكون دون شك ذات عواقب وخيمة عليه، فصمود داريا طوال 4 سنوات، رغم الحصار الخانق، ورغم الوضع الاستراتيجي الصعب على المقاتلين داخل المدينة والحساس لقربه من مواقع ومراكز النظام؛ لا يمكن وصفه إلا بالصمود الأسطوري الذي كشف العديد من الحقائق والذي سيكون سبباً في تلاحم الثوار وصمودهم في سائر أنحاء سوريا. إن هلاك الظالمين قدر محتوم، ولا يمكن لجرائم النظام في سوريا ومدنها وقراها وبحق سكانها؛ أن تمر دون أن تكون سبباً في هلاك المجرمين وإسقاطهم ومحاسبتهم.
وهنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى دور ومسؤولية وواجب المجتمع الدولي، وخاصة الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الصديقة المساندة للشعب السوري، فجميعها مطالبة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بالقيام بما من شأنه حماية المدنيين في سوريا، والانتباه إلى سياسية النظام في قتل وتهجير أبناء سوريا، فكما جرى في مناطق عدة كان آخرها داريا، يسعى النظام للاستمرار في ممارسات التهجير القسري بأي وسيلة ممكنة، بدءاً من القصف والقتل والحصار وصولاً إلى فرض هدن محلية غير عادلة وتمثل خرقاً للقانون الدولي يتم تحت ستارها فعل التهجير والطرد، هدن تمثل في حقيقتها وصمة عار في تاريخ المنظومة الدولية والقانون الدولي كونها تسمح لنظام مارق، استخدم الأسلحة الكيميائية، والبراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، ضد المدنيين؛ بالاستمرار في ممارسة أفعال القتل والتدمير والتهجير القسري.
لا بد من ضمان حق السوريين في البقاء في بيوتهم من خلال وقف حملات النظام وأعوانه عليهم، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية والمواد الطبية إلى المحاصرين.
لا بد من اتخاذ خطوات عملية تمهد لحل سياسي ينهي معاناة الشعب السوري ويحقق تطلعاته. الشعب السوري يريد الحياة، الحرة الكريمة، ولن يتمكن تحالف قوى الشر كلها على وجه الأرض من كسر إرادته تلك.
إن تجدد الجرائم والانتهاكات والتهجير القسري، سيظل هاجساً لا يمكن إلا التخوف من تكراره، ما دام رد الفعل الدولي البارد مستمراً تجاه كل الخروقات، بكل ما يترتب عليه من مخاطر ليس أقلها إجهاض الجهود الدولية الرامية إلى استئناف العملية السياسية.
استأنفت روسيا حربها المدمرة على سورية انطلاقاً من مدينة حلب. سبق لروسيا، ولفترة قصيرة جداً ادعاءها الانسحاب من الحرب في سورية، ولم يكن في الحقيقة سوى ادعاء كاذب. منذ فترة، تحتكر الطائرات الروسية سماء المدينة، وتمعن في تدميرها على من فيها من سكان مدنيين أو مقاتلين، وعلى بناها ومبانيها. يذكّر التدمير الروسي لحلب بما جرى لمدينة غروزني في الشيشان، والتي قادت تمرداً على السيطرة الروسية وطالبت باستقلالها عن الاتحاد، فكان جواب الرئيس الروسي بوتين مسحها من الوجود وتحويلها ركاماً وأطلالاً. يبدو أن هذا الأسلوب قريب جداً على قلب قائد روسيا في تعامله مع شعوب بلده وغيرها من الأوطان.
لا شك في أن روسيا تخوض حربها الخاصة لتأمين مصالحها في المنطقة ونفوذها على البحر المتوسط. آخر الهموم في عقل بوتين هو الشعب السوري أو النظام أو الرئيس الأسد نفسه، وإن يكن شعار التمسك بهذا الأخير ليس سوى شماعة تبرر له التدخل. يستفيد بوتين من التردد الأميركي ومن إخلاء الساحة وتركها في فراغ. هذا الفراغ ملأه بوتين كأفضل وسيلة للتدخل.
ما يدور في سورية هو عملياً حرب بين «الكبار» من القوى العظمى، حيث لا مكان فعلياً للقوى «الصغيرة» مثل إيران والميليشيات التابعة لها أو لتركيا وقواها أو لسائرالقوى الإقليمية. دور هذه القوى تأمين الغطاء لحروب الكبار. أما الشعب السوري وما يصيبه وما يعانيه، فلا يقع في حساب لا الكبار ولا الصغار. سورية مساحة لحروب بديلة ولتصفيات القوى العظمى لنزاعاتها الخارجية، والأكثرمن ذلك ميدان إجراء التسويات أو التمديد للحروب.
الجديد في الحرب الروسية المدمرة على سورية هو استخدام قاعدة «همدان» الإيرانية في انطلاق طائراتها لضرب مدينة حلب وغيرها من المدن. لا شك في أن الكثيرين ذهلوا من السهولة التي سمحت فيها إيران بانتهاك سيادتها والتسليم بوجود قوى عسكرية خارجية على أرضها. لا يقنع الكلام الإيراني عن أن السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية لا يعني وجوداً عسكرياً على الأرض. فألف باء العلم العسكري الذي يعرفه الإيرانيون جيداً، أن وجود الطائرات في القواعد العسكرية يحتاج إلى قوى لوجستية وإلى قوى حماية لها. ومن يعرف العقلية الروسية العسكرية يعرف أن القيادة فيها لا تثق بحماية جنود إيرانيين لهذه الطائرات ولطواقمها العسكرية واللوجستية. إذاً القرار الإيراني هو مس بالسيادة اتخذته القيادة طوعاً، وهو فريد من نوعه منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، بل هو سابقة لم يجرؤ شاه إيران نفسه على السماح للأميركيين، أصدقائه وحماته، بإعطائهم هذا الحق بالتواجد العسكري.
ما بات واضحاً أن ما أملى على إيران شرب «كأس السم السيادي» هو فشلها الواضح في إنهاء الحرب العسكرية في سورية، وفي العجز عن السيطرة على مدينة حلب بعد أن تكبدت مع حلفائها والميليشيات التابعة لها خسائر جسيمة. يرى الإيرانيون أن هذا الحلف مع روسيا سينقذ ماء وجههم في حـرب طالت وستطول حكماً، وتوقعهم أن الجيوش الإيرانية مقبلةٌ على الغوص في رمالها ووحولها أكثر من أي وقت مضى. فهل يكون التدخل الروسي وسيلةً إنقاذ لإيران فعلاً، مثلما سيكون إنقاذاً للأسد ونظامه؟ الجواب في ما ستحمله الأيام المقبلة من مسار الحرب.
لا يقع في باب التكهن أن الروس ستفاجئهم تعقيدات في مسار الحرب وردود الفعل عليها. فالاستكانة للتردد الأميركي وعدم الانغماس في المواجهة قد لا يعني تسليماً لروسيا بحسم الحرب. عودنا الأميركيون على سياسة مراوغة لا تضع في الحسابات سوى مصالحها، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح الأوطان والشعوب، كما هي روسيا.
يصعب أن تبقى أميركا خارج اللعبة، ويصعب أن تقبل بتسليم المنطقة لروسيا، وهي الخصم لها في أوكرانيا وأكثر من منطقة في العالم. تملك أميركا وسائل متعددة لوضع العصي في الدواليب الروسية، وليست مضطرةً للنزول إلى الأرض للقيام بذلك. قد نرى الأميركيين فجاةً يغذون قوى معارضة بأسلحة نوعية تهدد الطيران الروسي، وقد يكون العقل الأميركي في وارد إغراق روسيا بأفغانستان أخرى. هذه التوقعات تنبع من معرفة العقل العسكري الأميركي، ومن الإشارات الاعتراضية التي بدأت تبثها الإدارة الأميركية احتجاجاً على العمليات العسكرية الروسية في سورية. ستظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كانت التسوية على سورية قد نضجت لدى الكبار، أم أننا أمام مراحل جديدة من الحرب. قد يكون التوقع الثاني هو الأرجح.
الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا حول العالم للاستماع إلى رئيسهم يتحدث عن ديبلوماسية فرنسا يطرح السؤال: من سيكون على رأس فرنسا في هذه الفترة من السنة المقبلة لقيادة هذه الديبلوماسية وكيف ستكون ديبلوماسيته؟ ومن سيقود الولايات المتحدة وكيف سيكون تأثير ذلك على العلاقة مع فرنسا وأوروبا؟ شعبية الرئيس الفرنسي منخفضة جداً لأن الوضع الاقتصادي في البلد سيء والبطالة لم تزل مثلما توقع هولاند في بداية عهده. ولكن موقفه من القضايا الدولية خصوصاً بالنسبة إلى سورية ولبنان والعالم العربي موقف جيد. فهو منذ بداية الصراع السوري يطالب بحل سياسي ويدين إجرام النظام السوري وحلفائه. فكيف سيكون وجه الديبلوماسية الفرنسية مع الرئيس الجديد في السنة المقبلة إذا لم يعد هولاند حسب توقعات شعبيته المتدنية؟ فالفائز في الانتخابات الأولية لحزب الجمهوريين (اليمين المعتدل) قد يكون لديه الحظ الأكبر في الوصول إلى الرئاسة. والمتنافسان الأكثر شعبية في حزب الجمهوريين هما رئيس الوزراء السابق ألان جوبيه الذي تولى حقيبة الخارجية مرتين في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران وفي عهد نيكولا ساركوزي والآخر ساركوزي، علماً أن حزب «الجبهة الوطنية» (اليمين المتطرف) التي تترأسه مارين لوبن يحظى بشعبية متزايدة. وإذا عاد ساركوزي إلى الرئاسة على رغم أن كثيرين في اليمين لا يتمنون عودته، فإنه لن يغير في تعامله مع النظام السوري كونه هو الذي سحب البعثة الديبلوماسية الفرنسية من دمشق ومنع التعامل مع النظام، علماً أنه كان دعا بشار الأسد إلى باريس مرتين واستقبله بحفاوة ولكنه سرعان ما أدرك أن النظام كاذب ولم يلتزم يوماً بما تم الاتفاق عليه. ولكن ساركوزي ينتقد هولاند على سياسته مع روسيا وتجاهل هذا البلد الكبير. إلا أن بوتين يعتبر أن ساركوزي خدعه في ليبيا عندما اتخذ قرار مجلس الأمن ذريعة لتغطية إزالة نظام القذافي. أما جوبيه وهو اليوم في استطلاعات الرأي الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الأولية، فسيكون إذا وصل إلى الرئاسة أقرب إلى توجهات هولاند في سورية ولكن مع تغيير في الأسلوب والنهج والتعامل بإرادة أقوى وحزم أكبر وسرعة في اتخاذ القرار.
إن الإرهاب سيكون المشكلة الأساسية التي يواجهها الرئيس الفرنسي الجديد لأن الحرب مع الإرهابيين طويلة وقاسية. وأي من المرشحين لقيادة فرنسا سيستمر في الحرب ضد «داعش» وفي ملاحقة ومراقبة الجهاديين في فرنسا مثلما تقوم به الحكومة الحالية. ولا يملك أي من المرشحين وصفة سحرية لإزالة هذه الكارثة للدولة. ولا شك أيضاً أن التغيير في الولايات المتحدة سيؤثر على فرنسا. فإذا فازت هيلاري كلينتون قد تتغير أمور عدة في الشرق الأوسط خصوصاً بالنسبة للصراع السوري، لأنها استاءت مرات عدة من موقف أوباما إزاء التراجع بالنسبة لسورية. أما بالنسبة إلى الحل السياسي في سورية فهذا غير ممكن على ضوء ما يجري على الأرض.
فالصراع السوري مستمر منذ خمس سنوات وقد يستمر أكثر خصوصاً إذا تم تغيير القيادات الغربية التي بإمكانها إذا كانت أكثر حزماً مع روسيا أن تقنعها بضرورة الحل السياسي في سورية وإلا أصبحت مستنقعاً لها وللميليشيا اللبنانية «حزب الله». إن تغيير القيادات المقبل في الولايات المتحدة وفرنسا وربما ألمانيا وبعد تسلم تيريزا ماي رئاسة الحكومة في بريطانيا، يطرح مسائل عدة إزاء حل الصراع السوري وما إذا كانت هذه الدول مستعدة لبقاء الأسد والعودة إلى التحدث معه.
هناك في اليمين الفرنسي رئيس حكومة سابق في عهد ساركوزي هو فرانسوا فيون الذي يتنافس مع ساركوزي وجوبيه في الانتخابات الأولية ولكنه أقل حظوظاً وهو يدعو إلى العودة للتحدث مع الأسد بحجة حماية مسيحيي الشرق وكأن مسيحيي الشرق لهم مستقبل في بلد دمره الأسد. فالأسئلة عديدة عن مصير المفاوضات لحل سياسي في سورية مع كل هذه التغييرات الآتية في الغرب والوقت الذي ستحتاجه لتقوم بعملها. وفي هذه الأثناء يستمر القصف الوحشي السوري والروسي على شعب ليس لديه أي حل في وجه هذه الوحشية.
الضاحية الدمشقية الجنوبية الغربية، أو مدينة داريا، هي القصة التي يمكن أن تشكل نموذجا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه نظام بشار الأسد وحلفاؤه في التدمير والقتل. هذه المدينة التي تشكل إحدى أكبر ضواحي العاصمة السورية ضمت في الأحوال الطبيعية نحو ربع مليون نسمة، وهي على تماس مع مطار المزة العسكري، ودخلت منذ العام 2012، كما العديد من المناطق السورية، في عداد المدن والبلدات الثائرة على نظام الأسد والساعية إلى تغيير النظام.
خلال أكثر من 4 سنوات وداريا تتعرض لهجوم عسكري دمر معظم منشآتها المدنية. حتى المستشفى الوحيد جرى تدميره بالكامل. وتعرضت لحصار طال كل شيء، ما اضطر، منذ سنوات، ما تبقى من السكان، إلى سدّ رمقهم بالحشائش والأعشاب. وبقيت داريا صامدة وفاجأت جيش النظام بقدرة الثوار على خرق الحصار وتهديد مطار المزة العسكري، وصولا إلى تهديد الطريق الدولي الذي يربط بين دمشق وبيروت. وبقيت عصية على الاستسلام والرضوخ، رغم أكثر من عشرة آلاف قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة وبالقذائف المدفعية وغارات الطيران التي شاركت روسيا أخيرا فيها بطائراتها، لضرب أي معلم للحياة في المدينة.
الأسد استكمل عملية التدمير والقتل من دون توقف مستعينا بالحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله بالإضافة إلى روسيا، لكن الأهم كان إدراك الأسد أن سقوط دمشق خط أحمر دولي وإسرائيلي، وبالتالي استخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتدمير داريا، وجرى إحكام الحصار عليها إلى الحدّ الذي لم يعد من ذخيرة لدى المقاتلين في داريا، فوافقوا أخيرا على الخروج بسلاحهم إلى خارج منطقة “سوريا المفيدة”، وإلى محافظة إدلب تحديدا. وهذا ما جرى خلال ثلاثة أيام بإشراف الهلال الأحمر السوري.
الخذلان لداريا هو ما نقله بعض الذين خرجوا من المدينة التي أُفرغت بالكامل يوم الأحد. الخذلان بسبب عدم تحرك فصائل المعارضة على جبهة الجنوب لنصرة داريا أو فتح الجبهة لتخفيف ضغط الحصار، أو محاولة مدها بالحد الأدنى من الذخيرة والمؤن. على أن ما يثير الانتباه هو أن داريا لم يجد داعش فيها موطئ قدم ولا استطاعت جبهة النصرة أو فتح الشام أن تكون ضمن فصائلها المقاتلة. أبناء داريا الذين دافعوا عنها ببسالة استثنائية، هم النموذج الذي لم يدخل في أجندات إقليمية ولا استهوته التنظيمات الدينية المتطرفة، رغم أن الهوية الإسلامية تبقى الهوية الطبيعية لأبناء داريا التي توجد فيها أقلية مسيحية من الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
هنا تكمن أهمية داريا. وبالتالي فإن دلالة سقوطها في يد النظام بعد تدميرها شكلت من الناحية العسكرية نموذجا للفصائل الوطنية السورية. فقد أدرك النظام أن خطورة داريا تكمن في النموذج الذي تقدمه، إذ أن الأسد والحرس الثوري الإيراني، كان هدفهما ضرب أي نماذج للمعارضة يمكن أن تشكل بديلا مقبولا دوليا للنظام. لذا شجعا على تقوية التطرف وقاتلا بشراسة أي مظهر لمعارضة معتدلة. وهذا بات واضحا في سيرة الثورة السورية ولا يحتاج إلى أدلة لكثرتها.
داريا اليوم… والخطوة التالية الغوطة الشرقية وما تبقى من مناطق نفوذ للمعارضة السورية تمهيدا لإمساك الأسد وحلفائه بالعاصمة وريفها بالكامل. داريا كانت تمثل استكمالا لما قام به حزب الله في القصير ومناطق القلمون السوري المحاذي للبنان. فمنذ العام 2013 جرت أكبر عملية تهجير لأبناء القلمون من خلال تدمير شبه كامل للمدن والبلدات والقرى السورية. هذا التفريغ استكمل بتهجير أكثر من مليون سوري من حمص، بالطبع ممن ينتمون إلى الأكثرية السنية. هي إذن خطوات تطهير مذهبي ضمن خارطة سوريا المفيدة. إذ يجب الانتباه إلى الكتل السكانية الكبرى في ريف دمشق، من مخيم اليرموك إلى داريا وبرزة والغوطة وغيرها من ضواحي دمشق، تلك التي تعرضت لعملية تدمير هائل وعمليات قتل غير مسبوقة في التاريخ السوري، والهدف التغيير الديمغرافي تثبيتا لدعائم نظام الأسد الذي بات طموحه أن تستقر له السلطة في “سوريا المفيدة”، أي تأمين جزء من سوريا تشكل فيه الأقليات الدينية مع النفوذ الإيراني وحزب الله وزنا ديمغرافيا وسياسيا يؤمن شروط الحكم.
ليس خافيا أن السيطرة من قبل النظام على داريا ترافقت مع دخول تركي إلى جرابلس بغطاء روسي وأميركي وإيراني، بغاية تحجيم الدور الكردي وتوفير الحسابات الأمنية التركية الداخلية، من خلال القضاء على آخر جيوب تنظيم داعش هناك. وفيما كان الجيش السوري الحر يدخل جرابلس بدعم تركي في الميدان، كان النظام السوري يدخل داريا باتفاق لا يخل بمعجزة صمود داريا كل هذه السنوات، ولكن في ظل صمت إقليمي وعربي ودولي رافق كل الارتكابات التي طالت داريا بشكل لا يوصف.
جامعة الدول العربية حذرت قبل أيام من جريمة التغيير الديمغرافي في سوريا. الصمت العربي هو الثغرة التي نفذ منها النظام للمزيد من عملية التطهير الديمغرافي، لا سيما أن تركيا كما روسيا وإيران فضلا عن واشنطن وإسرائيل، تعيد ترسيم سوريا بما يتناسب مع نظام المصالح المرتبط بكل دولة من خلال تقاسم النفوذ، بينما العرب وحدهم أصحاب المصلحة بإعادة بناء سوريا على قاعدة مصالح السوريين. وهو ما يبدو غير مقبول بالمعايير العربية.
إيران تطمح إلى المحافظة على نفوذها بالمزيد من تهميش الدور العربي، وتركيا تولي حساباتها الوطنية الأولوية التي فرضت عليها الاقتراب من إيران وموسكو ولم تقطع مع إسرائيل وواشنطن، فيما باتت إيران تعتبر أن الحصان التركي هو من يجب الرهان عليه بعدما ضمنت مستوى متقدما في العلاقة مع روسيا وواشنطن، وهي السياسة التي تريد من خلالها المزيد من تهميش الدور العربي في سوريا.
يبقى أن الثورة السورية، بما هي سعي لتغيير نظام الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي، هي القضية الحية، وهي المدخل لإعادة ترميم الدور العربي في سوريا. خيار العرب في سوريا هو السوريون وثورتهم، وسوى ذلك سيكونون خارج التأثير ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة العربية عموما.
بات الآن مستحيلاً إنكار أن النظام السوري استخدم غاز الكلور مراراً كسلاح ضد شعبه»... هذا ما استخلصه البيت الأبيض من تقرير «آلية التحقيق المشتركة» بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وهو كلام موجّه مباشرة إلى الكريملن الذي التزم على الدوام بتحصين حليفه النظام من أية إدانة أو عقوبات يقرّها مجلس الأمن، بل ذهب إلى حدّ اتهام فصائل المعارضة السورية بشنّ هجوم كيماوي ضد سكان المعضمية التي تسيطر عليها في غوطة دمشق (21 أغسطس عام 2013).
كانت هذه الواقعة أبرز العلامات الفارقة في الصراع السوري، لا بسبب استخدام سلاح محرّم دولياً فحسب، بل خصوصاً في كونها أظهرت استعداد الدولتين الكبيرتين وتوافقهما على تجاوز القانون الدولي لاعتماد صيغة تسوية لا تخلو من عقوبة للنظام السوري بإلزامه التخلّي عن ترسانته الكيماوية والقبول بتسليم مخزونه وتدميره. وقد واجه القرار الدولي 2118، قبل صدوره متضمّناً هذه التسوية، انتقادات حادة من المجتمع الدولي، ما دفع الأميركيين والروس - بحثاً عن التوازن - إلى تضمينه أيضاً «بيان جنيف» (30 يونيو 2012)، الذي ينص على تسوية سياسية للصراع عبر «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويتبيّن اليوم أن الصيغ المطروحة للحل السياسي لا تنفكّ تبتعد عن «صيغة جنيف»، كما أن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقرّ حالياً بأن نظام دمشق أخفى عنها مواد ومعلومات عن برنامجه الكيماوي، ولم يسلّم كل مخزونه، رغم أنها أعلنت رسمياً (مطلع يناير 2016) أن المخزون دمّر بنسبة «مئة في المئة».
الهجمات الكيماوية تتكرّر كلّما أراد النظام حسم مواجهات بدت صعبة لقواته، أو لمعاقبة بعض المناطق على احتضانها فصائل المعارضة. وآخر الوقائع سُجّل أوائل أغسطس الحالي في سراقب (محافظة إدلب) التي قصفت ببراميل فيها غازات سامّة، كردٍّ على إسقاط مروحية روسية في نواحيها، لكن التقرير الدولي الجديد تضمن للمرّة الأولى نتائج تحقيق مستند إلى عيّنات موثّقة من تسع هجمات ثبت في اثنتين منها أن مروحيات عسكرية تابعة للنظام ألقت غاز الكلور (في بلدة تلمنس 21/04/2014 وبلدة سرمين 16/03/2015). وفي التقرير نفسه اتهام لتنظيم «داعش» باستخدام غاز الخردل في معركة مارع (ريف حلب، 21/08/2015). وحيث لم يؤكّد الاتهام كانت الأدلة ضعيفة، رغم أن تقارير الأطباء وإفاداتهم المصوّرة مع الضحايا تتحدّث عن العوارض ذاتها.
عندما يناقش مجلس الأمن هذا التقرير سيكون عليه أن يتحمّل المسؤولية، أي أن يحاسب الجهة المتهمة، وهي هنا حكومة لا تزال ممثّلة في المنظمة الدولية ومعترفاً بشرعيتها رغم أن غالبية دول العالم قطعت العلاقات معها، ولم تعد تعتبرها شرعية طالما لم تعدم وسيلة لقتل شعبها، من الكيماوي إلى قنابل النابالم (الأسبوع الماضي في داريّا قبيل الاتفاق على إخلائها)، ومن الصواريخ الباليستية إلى البراميل المتفجّرة. هذه المرّة هي الأولى التي يجد فيها النظام نفسه أمام إدانة حتمية وعقوبات دولية محتملة لا يمكن أن يعطّلها سوى «فيتو» من روسيا، وربما يدعمه أيضاً «فيتو» من الصين. وسيعني ذلك، إذا حصل، أن دولتين كبريين مستعدتان لـ«شرعنة» جرائم ترتكبها «دولة» عضو في الأمم المتحدة.
في عام 2013 تجاوز استخدام نظام دمشق السلاح الكيماوي ما كان الرئيس الأميركي حدّده كـ«خطّ أحمر» يستوجب التحرك ضدّه، واتخذ بالفعل خطوات أولية لضرب أهداف عسكرية للنظام، لكن موسكو دفعت بحجج عدة لإجهاض هذا التهديد، أولها أنه لم يثبت أن النظام هو من قام بالهجوم ولا «أدلة قاطعة» لتجريمه، وثانيها أن الضربات الجويّة لن تجدي والأفضل حرمانه من هذا السلاح لضمان عدم تكراره اللجوء إليه، وثالثها أن ضرب النظام سيقضي على أي أمل في حل سياسي للأزمة، وهكذا تخلّى باراك أوباما عن خططه العسكرية ليجنح إلى تسوية عملية. لكن معظم العواصم المعنية، باستثناء موسكو وطهران، كانت تشتبه بأن النظام لن يسلّم كل مخزونه، وهو ما تأكد لاحقاً.
هذه المرّة لن تستطيع موسكو المحاججة بأن الأدلة ليست قاطعة، لكنها قد تسعى إلى التخفيف من خطورة الجرم بذريعة أن غاز الكلور غير مصنّف كسلاح كيماوي مثل غازَيّ الخردل والسارين. لذلك دعا المندوب الروسي في الأمم المتحدة إلى «عدم استخلاص نتائج متسرّعة»، مبدياً استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة في معالجة هذا الملف، لكن أي تسوية لن تستطيع تجاهل الوقائع المثبتة في التحقيق، وفي أسوأ الأحوال قد يُصار إلى إلزام النظام السوري باستكمال تصفية برنامجه الكيماوي وبسلوك جدّي في أي مفاوضات من أجل الحل السياسي للأزمة.
لطالما أحببت الصحافة الاستقصائية التي تسعى إلى نبش الحقائق التي تسقط بالتقادم ، ورغم أني تركتها منذ فترة طويلة، إلا أنني ما زلتُ أحن إليها..
وقد أثارتها لدي مؤخراً قصة مقام "سكينة بنت علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه
التي زعم أتباع حكومة الاحتلال أن لها مقاماً مهملاً في داريا، ولا بد من بنائه!
فقد قرأت التاريخ جيداً، ولم يسبق لي أن قرأت عن ابنة لسيدنا علي باسم سكينة!
فمن أين جاء مقام سكينة بنت علي إذن؟
بالعودة إلى جذور هذا الموضوع، بدأت تتكشف لدي خيوط القصة برمتها..
القصة لا تعدو كونها تأليفاً من أحد كبار مجرمي النظام الذين جمعوا المليارات
من المتاجرة بعقارات ريف دمشق ومختلف أنواع الفساد والإفساد،
ألا وهو "لص ريف دمشق" ومحافظ ريفها، المجرم علي زيود!
الذي سبق أن وصف الشيخ صالح العلي بأنه قاطع طريق!
ففي عام 2004، وأثناء عمليات شق الطرق في داريا، تعين مرور الطريق
بتكية قديمة كتلك الموجودة في كل قرية وبلدة، ويحترمها بعض عجائز داريا..
لم نستطع التحقق ممن بدأ بالفكرة: المخابرات الإيرانية أم علي زيود نفسه
ولكن الشيء المؤكد أن علي زيود قبض مبلغاً هائلاً من المال لحبك قصة جديدة،
فأمر المهندسين بتلافي هدم التكية على أساس أنها مقام للسيدة المجهوة التي لم يسمع بها المؤرخون!
وبناء على ذلك سارعت إيران إلى تعيين وصي على المقام هو "آية الله السيد أحمد الواحدي"،
الذي بدأ بالفعل بجمع التبرعات لإعادة بناء المقام وتأليف تاريخ جديد لهذه الشخصية!
وقد ترافق ذلك عام 2005 بتضاعف النشاط الإيراني المحموم لنشر التشيع في دمشق وما حولها
وتأسيس ما يسمى (درع النجمة المحمدية) والمقصود بها السيدة زينب ابنة الإمام علي كرم الله وجهه!
والذي ترافق مع مهرجان سنوي تحشد له المخابرات الإيرانية في دمشق، وتجمع كافة الشخصيات الدينية
وتقوم بتكريم الشخصيات المختلفة التي تداهن وتقبل مثل هذا الغسيل الدماغي للسوريين.
وقد حرصت إيران على تقديم درع النجمة المحمدية إلى وزراء الثقافة في نظام الأسد..
حيث نال الدرع الدكتور محمود السيد عام 2005، ورياض نعسان آغا!!! عام 2006
بالإضافة طبعاً للعديد من الشخصيات الدينية والمذهبية الأخرى، ومنها السيد محمد حبش!
وفي عام 2008، سُلم الدرع إلى البائع الأكبر للوطن، بشار الأسد، وتسلمه نيابة عنه الدكتور الآغا أيضاً!
وساهم في تلك المهرجانات السنوية (ونال جوائزها) العشرات من رجال الدين من مختلف الطوائف
ومن "الشعراء" والكتاب القابلين بالمشاركة في هذه الحملة التبشيرية الشريرة (وقوائمهم موجودة)!
بمثل هذه الخلفية يمكن تفسير استقتال إيران في دفاعها عمن اشترت منه تاريخ دمشق وعروبتها
مقابل المال الحرام، والحماية من الشعب وثورته عندما يحتاج النظام للحماية!!
الصور: مهرجان (درع النجمة المحمدية) - الدكتور رياض نعسان آغا يستلم الدرع نيابة عن الأسد - وآية الله السيد أحمد الواحدي
استأنفت روسيا حربها المدمرة على سورية انطلاقاً من مدينة حلب. سبق لروسيا، ولفترة قصيرة جداً ادعاءها الانسحاب من الحرب في سورية، ولم يكن في الحقيقة سوى ادعاء كاذب. منذ فترة، تحتكر الطائرات الروسية سماء المدينة، وتمعن في تدميرها على من فيها من سكان مدنيين أو مقاتلين، وعلى بناها ومبانيها. يذكّر التدمير الروسي لحلب بما جرى لمدينة غروزني في الشيشان، والتي قادت تمرداً على السيطرة الروسية وطالبت باستقلالها عن الاتحاد، فكان جواب الرئيس الروسي بوتين مسحها من الوجود وتحويلها ركاماً وأطلالاً. يبدو أن هذا الأسلوب قريب جداً على قلب قائد روسيا في تعامله مع شعوب بلده وغيرها من الأوطان.
لا شك في أن روسيا تخوض حربها الخاصة لتأمين مصالحها في المنطقة ونفوذها على البحر المتوسط. آخر الهموم في عقل بوتين هو الشعب السوري أو النظام أو الرئيس الأسد نفسه، وإن يكن شعار التمسك بهذا الأخير ليس سوى شماعة تبرر له التدخل. يستفيد بوتين من التردد الأميركي ومن إخلاء الساحة وتركها في فراغ. هذا الفراغ ملأه بوتين كأفضل وسيلة للتدخل.
ما يدور في سورية هو عملياً حرب بين «الكبار» من القوى العظمى، حيث لا مكان فعلياً للقوى «الصغيرة» مثل إيران والميليشيات التابعة لها أو لتركيا وقواها أو لسائرالقوى الإقليمية. دور هذه القوى تأمين الغطاء لحروب الكبار. أما الشعب السوري وما يصيبه وما يعانيه، فلا يقع في حساب لا الكبار ولا الصغار. سورية مساحة لحروب بديلة ولتصفيات القوى العظمى لنزاعاتها الخارجية، والأكثرمن ذلك ميدان إجراء التسويات أو التمديد للحروب.
الجديد في الحرب الروسية المدمرة على سورية هو استخدام قاعدة «همدان» الإيرانية في انطلاق طائراتها لضرب مدينة حلب وغيرها من المدن. لا شك في أن الكثيرين ذهلوا من السهولة التي سمحت فيها إيران بانتهاك سيادتها والتسليم بوجود قوى عسكرية خارجية على أرضها. لا يقنع الكلام الإيراني عن أن السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية لا يعني وجوداً عسكرياً على الأرض. فألف باء العلم العسكري الذي يعرفه الإيرانيون جيداً، أن وجود الطائرات في القواعد العسكرية يحتاج إلى قوى لوجستية وإلى قوى حماية لها. ومن يعرف العقلية الروسية العسكرية يعرف أن القيادة فيها لا تثق بحماية جنود إيرانيين لهذه الطائرات ولطواقمها العسكرية واللوجستية. إذاً القرار الإيراني هو مس بالسيادة اتخذته القيادة طوعاً، وهو فريد من نوعه منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، بل هو سابقة لم يجرؤ شاه إيران نفسه على السماح للأميركيين، أصدقائه وحماته، بإعطائهم هذا الحق بالتواجد العسكري.
ما بات واضحاً أن ما أملى على إيران شرب «كأس السم السيادي» هو فشلها الواضح في إنهاء الحرب العسكرية في سورية، وفي العجز عن السيطرة على مدينة حلب بعد أن تكبدت مع حلفائها والميليشيات التابعة لها خسائر جسيمة. يرى الإيرانيون أن هذا الحلف مع روسيا سينقذ ماء وجههم في حـرب طالت وستطول حكماً، وتوقعهم أن الجيوش الإيرانية مقبلةٌ على الغوص في رمالها ووحولها أكثر من أي وقت مضى. فهل يكون التدخل الروسي وسيلةً إنقاذ لإيران فعلاً، مثلما سيكون إنقاذاً للأسد ونظامه؟ الجواب في ما ستحمله الأيام المقبلة من مسار الحرب.
لا يقع في باب التكهن أن الروس ستفاجئهم تعقيدات في مسار الحرب وردود الفعل عليها. فالاستكانة للتردد الأميركي وعدم الانغماس في المواجهة قد لا يعني تسليماً لروسيا بحسم الحرب. عودنا الأميركيون على سياسة مراوغة لا تضع في الحسابات سوى مصالحها، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح الأوطان والشعوب، كما هي روسيا.
يصعب أن تبقى أميركا خارج اللعبة، ويصعب أن تقبل بتسليم المنطقة لروسيا، وهي الخصم لها في أوكرانيا وأكثر من منطقة في العالم. تملك أميركا وسائل متعددة لوضع العصي في الدواليب الروسية، وليست مضطرةً للنزول إلى الأرض للقيام بذلك. قد نرى الأميركيين فجاةً يغذون قوى معارضة بأسلحة نوعية تهدد الطيران الروسي، وقد يكون العقل الأميركي في وارد إغراق روسيا بأفغانستان أخرى. هذه التوقعات تنبع من معرفة العقل العسكري الأميركي، ومن الإشارات الاعتراضية التي بدأت تبثها الإدارة الأميركية احتجاجاً على العمليات العسكرية الروسية في سورية. ستظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كانت التسوية على سورية قد نضجت لدى الكبار، أم أننا أمام مراحل جديدة من الحرب. قد يكون التوقع الثاني هو الأرجح.
باتت الحرب الإعلامية شكل أساسي من أشكال المعركة الشاملة التي تدور رحاها على تراب سوريا من الشمال حتى الجنوب بين نظام الأسد وحلفائه من مختلف الجنسيات والانتماءات يقابلها في الطرف الثاني الثوار من مختلف التشكيلات والفصائل، لتغدو هذه الحرب في مقابلة الحرب المسلحة، تعطي الدفع الإعلامي الكبير ضد الخصم وتساهم في إحباط معنوياته وتأكيد الحقائق التي يحاول إخفائها عن مؤيديه.
ولعل حرب السيلفي عبر التقاط صور من المواقع التي يتم السيطرة عليها باتت الرائجة في الميدان، حيث تتحارب الصور كحرب الدبابات، يتنافس فيها العاملين في المجال الإعلامي، يدحضون فيها ادعاءات الخصم بالسيطرة على موقع معين، عبر اثبات وجودهم في هذا المكان عبر صورة سيلفي تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل إعلاميي نظام الأسد كانوا الأقدم في استخدام السيلفي فوق جثامين الشهداء وفي المواقع التي تحتلها قواتهم، في محاولة منهم لإعطاء دفع إعلامي لمؤيدي الأسد، والتغني بانتصاراتهم المزعومة، ليبدأ ناشطو الثورة باستخدام ذات الحرب والتي باتت وبالاً على نظام الأسد وجنوده، حيث باتت صور السيلفي لناشطين وإعلاميين معروفين بمثابة حرب حقيقية تواجه نظام الأسد، ترى صورهم تملأ مواقع التواصل من أطراف الراموسة وكلية المدفعة وحلفايا وطبية الإمام وجرابلس وعشرات المواقع التي تحرر من رجس عصابات الأسد.
صور السيلفي هذه أربكت إعلام الأسد الذي يحاول عبر وسائل إعلامه تغيير الحقائق وعدم الاعتراف بتقدم الثوار، كلية المدفعية في الراموسة مثالاً والتي طالما حاول شادي حلوة مراسل نظام الأسد أن ينفي سيطرة الثوار عليها إلا أنه اصطدم مراراً بصور السيلفي التي نشرها ناشطون من داخل أبنية الكليات ومن مواقع معروفة في المنطقة، تثبت سيطرة الثوار وتدحض كل محاولاته اليائسة لنفي هزيمتهم من فيديوهات صورها على طرقات قال أنه على مشارف الراموسة.
أيضاً معارك حماة التي ماتزال مشتعلة على عدة جبهات، لم يذكرها الإعلامي الرسمي لنظام الأسد وتحاشى التطرق لها عبر وسائل الإعلام، إلا أن صور السيلفي التي خرجت من أمام المراكز الرئيسية في مدينة حلفايا وبعدها مدينة طيبة الإمام والتي تعني انكسار كبير لنظام الأسد وجنوده وخسارته عشرات المواقع على الجبهة، ما أربك الاعلام الحربي ودفعه للاعتراف ان هناك مناوشات وهجمات تستهدف مواقعه وأنه مازال يقاوم، إلا أن الصور التي تخرج عبر وسائل التواصل لم تترك له مجالاً للتهرب وبات الاعتراف بالهزيمة أمراً واقعاً لا محال.
وتشكل الحرب الإعلامية جزء أساسي من المعركة الراهنة، لابد للثوار من حسن ادارتها واستخدامها في دحض ادعاءات نظام الأسد وتبيان كذبه وتزييفه للحقائق التي يحاول اظهارها لعوام مؤيديه، في الوقت الذي تتلقى فيه قواته الضربات الموجعة على يد الثوار وتنال الهزيمة إعلامياً وعسكرياً.