مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ سبتمبر ٢٠١٦
إطلاق النار على الشاشات

في الحديث عن الكارثة السورية، تمكننا العودة كل يوم إلى ما قاله الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، من أن «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته».

ومع تدحرج كرة الدم السورية واتساعها بفضل حلفاء الأسد، يصير الحديث عن الاستبداد وتشريح بنيته ضرورة فكرية، خاصة بعد أن أتاحت إدارة أوباما لبوتين في الملف السوري هذا الظهور العسكري الفج في الساحة السورية، ليبدو كقيصر جديد لروسيا.

مستبد أول يرفض التنازل ويتحالف مع مستبدين، مستبدون بيدهم جيوش وحاملات طائرات وآلاف الجنود، ومعارضة مسلحة لم تمتلك حتى اللحظة مضاد طيران.

إعلامياً، مازالت المناقشات السياسية تميل لمناقشة الخبر السوري المستمر، بينما تروي وقائع الأرض آلاف الحوادث المرعبة، حوادث تستند في عمقها إلى هذه القاعدة الاستبدادية التي ساندت الطاغية المستبد وأطالت في عمره حتى الآن.

روى لي صديق إعلامي حوادث هائلة الدلالة لم يسمع بها الإعلام، حوادث إطلاق النار على شاشات التلفزيون من قبل عناصر وجنود وشبيحة وموالين لنظام الأسد، وذلك عندما كانوا يشاهدون سقوط تماثيل حافظ الأسد وصور بشار في عدد من المناطق السورية في أعوام 2012 و2013 و2014، وكلهم كانوا يتابعون القنوات العربية الإخبارية لمعرفة الخبر السوري، لكنهم عندما كانوا يرون سقوط رمزهم المستبد وتحطيم تماثيله تحت أرجل الناس لم يجدوا أمامهم سوى شاشات التلفزيون ليطلقوا عليها النار انتقاماً وتثبيتاً لسلطة أرادت طوال عقود حكمها أن تكون هكذا، عبارة عن رصاص ونار.

هنا أيضاً ينسى الإعلام البحث عن إيريك فروم وهو يحلل في كتابه «تشريح التدميرية البشرية» سيكولوجيا الطغاة من هتلر إلى ستالين.

وهنا أيضاً تصير العودة إلى الفيلسوفة الأميركية ذات الأصل الألماني هنه أرنت ضرورة أخلاقية، وهي تعرفنا في مناقشتها لبنية الشمولية والاستبداد كيف يكون شخص نازي مثل إيخمان الذي قبضت عليه إسرائيل وحاكمته، عبارة عن منفذ أوامر في بنية استبدادية جعلته يرى حرقه ملايين اليهود في ألمانيا فعلاً لا علاقة له به شخصياً.

وأيضاً هناك كتاب ممدوح عدوان «حيونة الإنسان» الذي استمد بعض أحداثه من وقائع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تصير المجازر لذة لطغاة صغار دخلوا أتون هذا اللهب والسعير.

كل عنصر مسلح عند الطاغية يرى نفسه طاغية، كل ضابط، كل موالٍ، كل شخص موال لنظام الأسد هو أسد صغير، وتتدحرج كرة الدم ويرى كل هؤلاء الطغاة الكبار والصغار أن من يتخلى عن السلطة الآن يموت ولن تعود السلطة إليه أبداً.

عندما مات باسل الأسد في 21 كانون الثاني (يناير) 1994 في حادث سير، في ذلك اليوم رأيت عاملاً سورياً قروياً موالياً يعمل في تلك الأيام 12 ساعة في اليوم ليحصل على أجر يبلغ 150 ليرة، رأيته يبكي أمامي ويتمنى لو أنه خسر أولاده الشبان الخمسة ولم يسمع بخبر موت باسل.

وحين وقع المثقفون السوريون «بيان 99» بعد توريث السلطة لبشار الأسد مطالبين بإصلاحات سياسية، شاهدت صحافياً موالياً كان يشرف على ملحق ثقافي يضرب الطاولة بيديه ويصرح في ممرات الجريدة مطالباً بمحاسبة كل من وقّع على هذا البيان.

من هنا يمكن مثلاً أن نتعرف إلى البنية العميقة للاستبداد، حيث يصير المستبد راعياً ومنتجاً لقطيع كامل من المستبدين. وتفكيك هذه البنية معرفياً جزء لا يتجزأ من مهمة تنظيف العقل الإنساني وتنويره.

اقرأ المزيد
٥ سبتمبر ٢٠١٦
تقاسم خريطة سورية يرسّخ التقسيم خياراً وحيداً؟

يبدو صعباً أن تبرم روسيا والولايات المتحدة اتفاقاً استراتيجياً في سورية. أقصى ما يمكن أن تتوصلا إليه تفاهمات على وقف للنار هنا وهدنة هناك. أو رسم حدود العمليات الجوية لكل طرف. وسبل ضرب جبهة «فتح الشام» (النصرة). والأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية. فالثقة مفقودة بين الطرفين على رغم رغبتهما في التعاون. ففي حين تتطلع موسكو إلى تفاهم واسع يشمل جملة من القضايا والملفات الشائكة، تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي ببلاد الشام، ترغب واشنطن في تعاون لا يتجاوز سورية. خصوصاً أنها باتت أكثر ارتياحاً إلى توازن القوى على الأرض. فهي حاضرة عبر دعمها «قوات سورية الديموقراطية» وغالبيتها الكردية. كما أن تدخل تركيا التي هرولت إلى مراضاتها بعدما أشاحت بوجهها نحو الكرملين، يضيف قوة إلى هذا الحضور.

حتى وإن توصل الأميركيون والروس إلى اتفاق استراتيجي، فإن العبرة ستكون بالتنفيذ. وهذا دونه عقبات كبرى. صحيح أن اللاعبين الخارجيين رسموا حدود «مناطقهم» وتدخلهم، وحجزوا لهم مقاعد على طاولة أي مفاوضات لرسم صورة بلاد المشرق العربي، إلا أن مشاريعهم ومصالحهم تتضارب ولا يقيمون اعتباراً لمصالح سورية وإن بالغوا في إبداء الحرص على وحدتها! حتى داخل صفوف الحلفاء تتعارض الأجندات. فاللاعبون الإقليميون لهم أجندات مختلفة تتجاوز قدرة الكبار على فرض الحلول والتسويات. والحروب المندلعة بالوكالة، أو مباشرة، في المسرح السوري، لا تشي مثلاً بتفاهم استراتيجي بين واشنطن وأنقرة بقدر ما تزخر باختلافات ومواجهات على الأرض. أما الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة في الجانب العربي فلا شيء يقلقهم أكثر من إيران وسياسة التدخل التي تعتمدها في الإقليم. ويشككون في سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما. ومثلهم أوروبا التي لا تخفي انزعاجها من استئثار البيت الأبيض والكرملين بالملف السوري. وكذلك الأمر على جبهة دمشق وحليفيها الروسي والإيراني. فلكل من هذه الأطراف الثلاثة هدفه الخاص وأجندته المختلفة. وأبعد من ذلك أن المتصارعين على الأرض لا يثقون بوعود الولايات المتحدة أو روسيا أو بقدرتهما على الوفاء. وإذا صح أن الكرملين يمسك وحده بالقرار فإن البيت الأبيض يجد نفسه حائراً وسط وجهات نظر مختلفة بين الخارجية والبنتاغون والكونغرس، وجل ما تلتقي عليه هذه هو محاربة «داعش» فحسب.

بات توزيع المسؤوليات عن المناطق في سورية واضحاً لا لبس فيه. تقاسم المتدخلون الجغرافيا والديموغرافيا. لذلك تستحيل رؤية حل في الأفق القريب ما لم تتلاق هذه الأطراف على رؤية واحدة وأهداف واضحة. بالطبع لن يأتي الحل على هوى الأطراف المحلية المتصارعة. فمنذ أن قرر هذا الطرف أو ذاك الاستقواء بقوة خارجية قريبة أو بعيدة، بات منطقياً أن تراعي أي تسوية مصلحة هذه القوى الخارجية. فعندما استنجد النظام بإيران والميليشيات الحليفة رهن قراره تلقائياً برغبات طهران وسياساتها، حتى باتت لبعض الميليشيات مناطق نفوذ تنفرد بها عن دمشق نفسها، من داريا إلى القلمون والقصير... وكذلك دعوة روسيا إلى التدخل تعني منحها مساحة كبيرة في المجال السياسي وباتت اليوم تنفرد بعقد تفاهمات مع فصائل مقاتلة هنا وهناك بصرف النظر عن موقف النظام ورغباته. كما أن المعارضة التي هللت أخيراً لتدخل تركيا الميداني من بوابة جرابلس، ستجد نفسها مرغمة على مراعاة المواقف السياسية لأنقرة وسماع كلمتها. فالدعم العسكري الذي قدمته وتقدمه هذه إلى «الجيش الحر» وشركائه لن يكون بلا ثمن، حتى وإن توجهت حكومة بن علي يلدريم إلى تسريع وتيرة تطبيع العلاقات مع دمشق. لن يكون أمام «الهيئة العليا للمفاوضات» رفع صوت الاعتراض عالياً، ما دامت الآلة العسكرية التركية على الأرض توفر للفصائل المقاتلة فرصة تصحيح ميزان القوى في المواجهة مع النظام وحلفائه.

قد لا تكون هذه المشكلة الوحيدة التي تواجه المعارضة اليوم بجناحيها السياسي والعسكري. ذلك أن أي تفاهم بين روسيا والولايات المتحدة على لائحة الفصائل الإرهابية سيؤدي إلى مزيد من إضعاف لجبهة خصوم النظام، ولا سيما المعتدلين منهم. فالكرملين يكاد يلتقي مع دمشق في اعتبار معظم الفصائل إرهابية. في حين ترغب واشنطن في تحييد بعضها، خصوصاً تلك التي توفر لها دعماً وتدريباً. كما أن سعي القوتين الكبريين إلى تفاهم على سبل إبعاد المعتدلين عن «جبهة فتح الشام» («النصرة») قد يعقد مجريات الحرب على «تنظيم الدولة»، ويعيد خلط الأوراق في صفوف المقاتلين على الأرض. «أحرار الشام» مثلاً التي تضعها موسكو في سلة واحدة مع العناصر الجهادية قد لا تستسيغ الابتعاد عن «النصرة»، فكيف بقتالها؟ وكانت دافعت عنها في مواجهتها مع «داعش». هي تعتقد بأن الموسى ستصل إليها عاجلاً أم آجلاً، ولا تريد أن تكون الثور الأبيض بعد أكل الثور الأسود. كما أن «الائتلاف الوطني» الذي يقطف ثمار مشاركة الجبهة ميدانياً في قتال قوات النظام سيجد نفسه بعد أي اتفاق أميركي - روسي أمام خيار الابتعاد عنها. لن يكون بمقدوره الإفادة من العائد السياسي الذي توفره مشاركتها الميدانية. علماً أن الجبهة التي أعلنت قطع صلاتها بتنظيم «القاعدة» لا تزال تعيش تداعيات هذا القرار. فهناك صراع بين أجنحتها. بين من يريد التماهي مع «أحرار الشام» والفصائل التي انضوت تحت عباءة «الهيئة العليا للمفاوضات» وأولئك المتشددين الراغبين في إعادة ربط ما انقطع مع زعيم التنظيم أيمن الظواهري، وهم الغلبة. إضافة إلى ذلك، بات طبيعياً أن تبدل فصائل كثيرة ولاءاتها. وهذا ما يعقد مهمة الساعين، خصوصاً الأميركيين، إلى التوافق على لائحة واضحة بالتنظيمات الإرهابية. كما أن فصائل الجبهة الجنوبية تعيش في فضاء آخر تبعاً لأجندات رعاتها الإقليميين في إطار تفاهم يكاد يكون الثابت الوحيد. وهو ما حال دون تحركها في الفترة الأخيرة لتخفيف الضغط مثلاً عن المناطق التي كان النظام يحاصرها وبدأت «تستسلم» الواحدة بعد الأخرى.

هناك من يتوقع أن يدفع تقاسم اللاعبين الخارجيين الجغرافيا السورية الأطراف المحلية إلى تسوية سياسية، وإن بقوة الفرض والإرغام. لكن سعي هؤلاء إلى تثبيت مصالحهم أولاً وأخيراً يعقد الحلول. وقد فاقم تدخل تركيا الوضع وبدل المشهد كلياً. باعد بين الحلفاء القدامى والجدد. صحيح أن أنقرة تفاهمت مع الجميع بمن فيهم دمشق، إلا أنها بالتأكيد لن تعود إلى الوراء مثلها مثل الذين سبقوها إلى الميدان. بل تستعجل الخطى نحو مشاركتهم في المستنقع السوري. وهكذا يتساوى الجميع في العجز عن الحسم ما دام لا قدرة على بناء نوع من التوازن بين المصالح المتضاربة. فلروسيا حساباتها التي لا تلتقي وحسابات أميركا وتركيا. بل لا تلتقي في النهاية مع حسابات النظام وحليفه الإيراني الذي يتهم بالمساهمة في سياسة التهجير ودفع عجلة التغيير الديموغرافي. علماً أن تدخلها العسكري طال أمده المقرر ولم تستطع فرض التسوية لعجزها عن إلحاق هزيمة ساحقة بخصوم النظام. وهي لا تسقط من حساباتها قدرة الآخرين على إغراقها في المستنقع. فكيف لها أن تقيم توازناً بين ما ترغب فيه وما يرغب الآخرون فيه؟ وللولايات المتحدة مصلحة في الحفاظ على علاقات استراتيجية مع أنقرة، لكنها في النهاية لا يمكنها التخلي عن دعم «وحدات حماية الشعب» طرفاً قادراً على مواجهة «داعش»، لكنه خصم لدود تضعه حكومة بن علي يلدريم في سلة واحدة مع حزب العمال الذي تقاتله «تنظيماً إرهابياً». وهكذا تبدو في حيرة لا تسمح لها باعتماد سياسة راسخة وثابتة، وتضعف حربها على الإرهاب. أما الرئيس رجب طيب أردوغان فهو الآخر يعيد النظر في حساباته لتقويم الأخطاء. ولن يكون سهلاً على حكومته أن تقيم توازناً بين رغبتها في احتضان المعارضة وسعيها إلى تطبيع العلاقات مع النظام في دمشق. هذا من دون الحديث عن أوروبا التي يضايقها الثنائي الروسي - الأميركي، لكنها لا تبدو قادرة على فرض موقفها وهي تغرق في أزمة اللاجئين ومواجهة ذئاب «تنظيم الدولة» في مدنها وشوارعها.

حيال عجز الجميع عن الحسم العسكري وابتعاد التسوية كأنها باتت من المستحيلات، لا يبقى سوى ترسيخ حدود تقاسم المسؤوليات الذي يفرضه تدخل المتدخلين بانتظار أن ترسو سورية الجديدة على خريطة فيديرالية تأخذ الواقع القائم على الأرض والتغييرات التي فرضتها الحرب الأهلية... إلا إذا لم يعد مفر من التقسيم الفعلي الذي أصبح حقيقة على الأرض بقوة الكبار الدوليين والإقليميين مباشرة أو عبر وكلائهم، وينتظر نضج الظروف في المنطقة كلها وتفاهم الكبار على النظام الدولي الجديد. وقد لا ينفع الرهان على تغيير واسع وكبير تقوم به إدارة أميركية جديدة، خصوصاً إذا قدر لهيلاري كلينتون دخول البيت الأبيض. الخريطة السورية ترتسم فيها حدود باتت شبه ثابتة والحرب على «داعش» ليست أولوية جميع اللاعبين. بل هناك في إسرائيل من يحذر من القضاء نهائياً على «دولة البغدادي» لأنه يرى إلى بقائها ضرورة لمواجهة تحالف موسكو - طهران - دمشق!

اقرأ المزيد
٥ سبتمبر ٢٠١٦
تفجيرا طرابلس: صمت الممانعين

لا يضيف القرار الاتهامي الصادر في شأن جريمة تفجيري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس اللبنانية الشيء الكثير إلى الصورة الراسخة لآليات عمل نظام حافظ وبشار الأسد وسلوكه وقيمه ونظرته إلى أسلوب التعامل مع خصومه في الداخل والخارج.

اللبنانيون الذين تعرّفوا إلى هذا النظام عن كثب منذ أربعين عاماً عندما تدخلت قواته في حربهم الأهلية قبل أن يمنح العرب حافظ الأسد تفويضاً سياسياً وعسكرياً شاملاً، لم يفاجأوا بالقرار الظني الصادر قبل يومين والذي أكد لهم المؤكد، من أن أجهزة الاستخبارات السورية خططت ونفذت التفجيرين اللذين ذهب ضحيتهما اكثر من خمسين قتيلاً مدنياً إضافة الى مئات الجرحى، لدى خروجهم من المسجدين عقب صلاة الجمعة في 23 آب (أغسطس) 2013. أصابع الاتهام وُجّهت إلى النظام السوري قبل أن تجف دماء الضحايا وكان الاتهام صائباً.

ذريعة الجريمة، «الانتقام من خصوم النظام»، لا تشكل بدورها تبدّلاً في أساليب القتل المعتمدة، حيث لا قيمة لحياة المدنيين ولا أهمية لمدى انحيازهم إلى الخصوم، ناهيك عن استسهال اللجوء إلى سفك الدماء سواء بالتفجير أو بالاغتيال ضد أي معارض أو خصم.

الجديد في القرار الاتهامي الذي يفصّل أدوار الضباط السوريين وعملائهم اللبنانيين، هو الصمت الذي قوبل به في لبنان. وباستثناء بعض التعليقات من السياسيين الطرابلسيين ومن الخصوم المعروفين لنظام بشار الأسد، ساد صمت المقابر ضفة «الممانعين» اللبنانيين الذين أعلنوا بصمتهم موافقتهم على ارتكاب أجهزة الاستخبارات السورية الجرائم المتمادية ضد مواطنيهم.

يقول «منطق» الممانعين اللبنانيين إنهم يعرفون سوء نظام الأسد وإجرامه وكل موبقاته ومثالبه، لكنهم لا يجدون مفراً من تأييده ودعمه. لماذا؟ «لأنه أفضل من داعش». هكذا يدفع الممانعون وأشباههم انفسهم الى الثنائية العدمية في حصر الخيار بين تنظيم ديني متطرف يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع وبين نظام «وطني وتقدمي»... يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع. وهذا واحد من جملة طويلة من التشابهات بين الأسد و «داعش».

بيد أن الممانعين ليسوا على قدر السذاجة التي يريدون أن يتصورها الآخرون عنهم. بل إنهم يعلمون تمام العلم المآلات الكارثية التي يسيرون بعيون مفتوحة على اتساعها صوبها. ويعلمون ان انخراطهم في حرب النظام السوري على شعبه وعلى معارضيه من اللبنانيين، لا يقل عن فتح أبواب جهنم لألف عام من الحروب الأهلية والطائفية والجهوية التي دمرت مجتمعات المنطقة. ويعلمون أن التغيير الديموغرافي الذي ينفذونه جهاراً نهاراً في دمشق ومحيطها، على نحو لم يعد في حاجة إلى إثبات، لا يمكن أن يمر إلا على بحور من الدماء.

هؤلاء الممانعون الذين لا تنقصهم الوقاحة لاستغلال اسم فلسطين (الضابط المخطط لتفجيري طرابلس من «فرع فلسطين» في الاستخبارات السورية)، وادعاءات العلمانية وحماية الأقليات والتنوير ومحاربة الإمبريالية، مقابل اتهام خصومهم بالظلامية والتكفير والعمالة للغرب، لم يقولوا كلمة واحدة في الاعتراض على سلوك حليفهم الممعن في اغتيال وقتل وتفجير مواطنيهم.

بصمتهم هذا يعلنون منظومة جديدة من الأولويات، حيث تقع مصلحة لبنان كدولة واللبنانيين كمجتمع في اسفل القائمة، وتسبقها ولاءات خارجية وطائفية تكرس انقسام هذه البلاد انقساماً لا عودة عنه.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
جلب الأسد إلى لبنان

لولا تخاذل إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما في قضية إستخدام نظام بشار الاسد السلاح الكيميائي بحق الشعب السوري قبل أعوام لكان الاسد اليوم خلف قضبان سجن العدالة الدولية. وحتى هذه اللحظة لا يزال هذا النظام متورطا في جرائم موصوفة كان آخرها قبل أيام عندما دعت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الى فرض عقوبات على دمشق بعدما أكد التحقيق أن جيش الاسد شنّ هجومين كيميائيين في عاميّ 2014 و2015 على بلدتين في محافظة إدلب هما تلمنس وسرمين. وكالعادة برز الفيتو الروسي في مجلس الامن ليحمي القاتل.

في الساعات الماضية، أصدر القاضي آلاء الخطيب القرار الإتهامي في قضية تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس وقد تضمن القرار تسمية ضابطين في المخابرات السورية المخططين والمشرفين على عملية التفجير وهما النقيب في فرع فلسطين في المخابرات السورية محمد علي علي والمسؤول في فرع الامن السياسي في المخابرات السورية ناصر جوبان. وليس هناك من حاجة للتفتيش عمن يجب أن يوجه اليه الاتهام لإصداره الامر بتنفيذ الجريمة المزدوجة والتي أدت الى إستشهاد أكثر من 45 وجرح 500 آخرين في 23 آب 2013 على رغم ان القرار الاتهامي للقاضي الخطيب يقول "ان الامر قد صدر عن منظومة امنية رفيعة المستوى والموقع في المخابرات السورية".

في السجن يقبع الوزير السابق ميشال سماحة في قضية نقل متفجرات لتنفيذ مخطط أرهابي في الشمال أيضا. أما البطل الحقيقي للمخطط فهو اللواء السوري علي المملوك الذي يداوم خلف مكتبه في دمشق. لكن في كلتا قضيتيّ المسجدين وسماحة نحن امام الاسد الذي يتحمّل المسؤولية مباشرة.

في تغريدته امس عبر حسابه على تويتر قال الرئيس سعد الحريري: "... سنتابع جهود القاء القبض على المتهمين من أدنى قتلتهم إلى رأس نظامهم المجرم". والطريق الى هذا القصاص العادل معروف في كل الشرائع الدولية. ولنا شاهد هنا، هو المطالبة المستمرة بالاقتصاص من الرئيس الليبي معمّر القذافي جراء إرتكاب أجهزته إخفاء الامام موسى الصدر ورفيقيه قبل 38 عاما على رغم ان القذافي أصبح تحت التراب.

قبل أيام كشف النائب مروان حمادة أن وزير الاشغال السوري حسين عرنوس بعث اليه ببطاقة دعوة لحضور معرض إعادة إعمار سوريا في 7 أيلول الحالي بدمشق في حين كان حمادة يتلقى سابقا مذكرات جلب بحقه من النظام السوري. لا ضير في أن يخطو القضاء اللبناني خطوة في إتجاه إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق الاسد. وإذا كان هناك من وسيلة لتنفيذ المذكرة فلتكن على شاكلة بطاقة دعوة الى حضور جلسة إنتخاب رئيس جديد للجمهورية على ان يكون القضاء اللبناني في إنتظار الاسد لتوقيفه. قد يكون هذا الكلام ضربا من الخيال، لكن الواقع هو ان الطغاة يتساقطون والاسد لن يكون إستثناء وهو من دمّر سوريا.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
الرأي العام العالمي يساعد على الانتصار

يتساءل سوريون كثيرون ومناصروهم عن سبب هذا الموقف المتردّد، والمتشكك أحياناً، من المجتمع المدني والرأي العام الأوروبي والأميركي تجاه ثورة الشعب السوري وحقه في التخلص من حكم مافيوي عائلي، حكمه بالحديد والنار أكثر من خمسة وأربعين عاماً، ويستغربون غياب الدور الذي لعبه المجتمع المدني الغربي إلى جانب حق شعب فيتنام في التخلص من الهيمنة الأميركية، أو في دعم مسعى شعب جنوب إفريقيا للتحرّر من نظام الفصل العنصري. ولماذا لم تستطع كل المظالم والدماء في سورية دفع النخب الثقافية الغربية إلى الشعور بالذنب تجاه تقصير حكوماتها بحق قضية السوريين العادلة، كما حصل عندما تظاهرت هذه النخب في شوارع مدن الغرب، دعماً لتطلعات الأفارقة الجنوبيين نحو الحرية والمساواة والعدالة، أو تلك النزعة لدى النخب الأوروبية التي ناصرت، بكل قوة، حقوق دول أميركا اللاتينية في التحرّر من الدكتاتوريات الموالية للغرب التي حكمتها، وتحكّمت بمصيرها عقوداً، أو الحماس الغربي للوقوف إلى جانب دول أوروبا الشرقية، عندما خرجت شعوبها بالملايين في رومانيا وألمانيا الشرقية وتشيكيا وهنغاريا، مطالبة بإسقاط مستبديها الشيوعيين الذين أذاقوها الأمرّين عقوداً من الحقبة الشيوعية.

من حقنا أن نتساءل، ومن واجبنا أن نبحث عن الأسباب. وعلينا التوقف عن القول إن القصة كلها مؤامرةٌ تحاك ضدنا، نحن العرب والمسلمين، لأن خسارة معركة الرأي العام العالمي هي أحد أسباب تأخر انتصار القضايا العادلة للشعوب التي تواجه طغاةً بقسوة الذي نواجهه ووحشيته.

على الرغم من أن الحكومات الغربية تعتبر أن مصالح حكوماتها ورضا شعوبها، وليس العواطف والمشاعر الإنسانية هي الأسس التي تضمن كسب معاركها الانتخابية ضد خصومها السياسيين، إلا أن التاريخ يعلِّمنا أن نجاح أنصار أي قضيةٍ في تحويل قضاياهم ومظالمهم إلى قضايا رأي عام في الدول الديمقراطية كان دائماً مقدّمة لانتصار هذه القضايا، ولو أنه شرط لازم غير كاف.

خصّصت، أخيراً، وقتاً لمتابعة وسائل الإعلام والصحافة الأوروبية وبعض الأميركية، وللحديث إلى مطلعين نسبياً على ما يجري في سورية، في الوسط الثقافي الأوروبي وبعض الدبلوماسيين المتقاعدين الذين عملوا، قبل تقاعدهم، في دول الربيع العربي، وفي سورية خصوصاً. وحاولت متابعة مقالات بعض كتاب الرأي المختصين بالشرق الأوسط في أوروبا الغربية ولقاءاتهم مع محطات التلفزة الغربية، وراقبت تصريحات وتحليلات محللين غربيين كثيرين لوسائل إعلام ناطقة بالعربية. كما كنت أحاول أن أتلمّس نظرة المواطن الأوروبي إلى ما يجري في سورية. من ذلك كله، أستطيع أن ألخص مواقف صنّاع الرأي في أوروبا والغرب من الثورة السورية كالتالي:
أولاً، الأسد مستبد وفاسد ودكتاتور، ورث السلطة عن أبيه المستبد والدكتاتور والفاسد أيضاً. والاثنان قادا ما يشبه مجموعة عائلية، ارتكبت جرائم كثيرة بحق السوريين الذين من حقهم المطالبة بالتخلص من هذه المجموعة، ونيل حريتهم واستعادة قدرتهم على انتخاب حكوماتٍ تحترم حقوقهم ومحاسبتها، لكن البديل التي أفرزته الثورة السورية (هم يعتقدون أن القوى التي تقاتل الأسد هي "داعش" وتنظيمات شبيهة تختلف مع "داعش" على أحقية حكم سورية وإدارة الخلافة الإسلامية فيها) سيكون أكثر استبداداً ودمويةً، وقد يقضي على بعض الحريات الاجتماعية التي أتاحها نظام الأسد العلماني (لا أوافق أن نظام عائلة الأسد علماني، هو مافيوي لا يعنيه لا الدين ولا الشريعة ولا العلمانية، بل يستخدمها جميعاً لاستمرار سلطته)، وبعض مبادئ "البعث" الخاصة بحقوق المرأة والأقليات الدينية.

ثانياً، في البداية، كان هناك تعاطف كبير مع الثورة والمعارضة السورية، لأن معظم الوسط الثقافي والصحافي المهتم بالشرق الأوسط كان يكتب عمّا يجري في سورية ودول الربيع العربي أنه شبيه بالثورات المطالبة بالانفتاح والديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية، عند سقوط الاتحاد السوفييتي. وبمراجعة مقالات كتبها مهتمون بالشأن السوري، قبل أربعة أعوام، كانت تعتبر التظاهرات السلمية ومشاركة جميع أطياف الشعب السوري فيها، إضافة إلى دور المرأة السورية الواضح فيها، أمراً إيجابياً ومبشراً. غير أن مقالات هؤلاء أنفسهم اليوم، بعد ظهور "داعش" وجبهة النصرة والرايات السود، وهيمنتها على المشهد المعارض السوري، سنجد حجم التغيير الذي حصل، وخصوصاً بعد ظهور صور قطع الرؤوس والرجم والجلد وسبي النساء والرايات السود والعمليات الإرهابية في أوروبا.

أصبح كثيرون من صناع الرأي في أوروبا يفضّلون بقاء ما يعتقدون أنهم مستبدون علمانيون حداثيون على وصول المتطرفين الإسلاميين لحكم تلك الدول والمجتمعات، حيث لم تستطع هذه الثورات، حسب رأيهم، تقديم بديل مقنع آخر، يجعلهم ينزلون إلى الشارع لمناصرته.

لا تقل معركة الرأي العام أهميةً إطلاقاً عن أي معركة أخرى، يخوضها الشعب السوري في سبيل حريته ومستقبل أبنائه، وأن غياب إعلام معارض واع ومدرك مستلزمات هذه المعركة ساهم أيضاً في هذه الخسارة، حيث تُركت الساحة لآلة النظام الإعلامية، لكي تنقل ما يحدث في سورية بالشكل الذي يخدم صورة طاغيتها. وقد ساعد وجود "داعش" و"النصرة" والتنظيمات الإسلامية الأخرى، وما ارتكبته من جرائم بحق السوريين، وما تطرحه من أفكار ظلامية في تأكيد الصورة التي أراد هذا الإعلام طبعها في الرأي العام العربي والعالمي، عن الثورة السورية ومآلاتها.

هل لا تزال هناك فرصة لعمل شيء؟ نعم، لو خلُصت النيات.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
سورية: إلى أين وصلنا؟

من الصعب القول إنّ هنالك توافقاً، أو صفقة دولية منجزة، حول سورية، بين الروس ومعهم الإيرانيون والأتراك والأميركان، وتفسير ما يجري من تطوراتٍ تشي بترتيباتٍ على الأرض وفصل المناطق المتنازعة، بوصفه تنفيذاً لهذه الصفقة الكلية، بقدر ما يعكس تسوياتٍ وصفقاتٍ وتفاهماتٍ جزئيةٍ مرتبطةٍ بمصالح الدول الإقليمية، وانعكاسات التحول في ميزان القوى على الأرض.

على صعيد النظام والروس، هم في الطريق إلى استكمال مشروع "سورية المفيدة"، عبر عمليات هندسةٍ ديمغرافيةٍ طائفيةٍ سافرة، يتم خلالها تهجير سكان أحياء دمشق، وريفها، من كل معارضي النظام، ما يعني تحجيم "الكتلة السنية" هناك، بدايةً من الزبداني، مروراً بعين الفيجة ووادي بردى، ثم الحجر الأسود والقدم ومخيم اليرموك، وصولاً إلى داريا والمعضمية، والحبل على الجرار.

في الأثناء، تجري عملية إنهاء "ملف حيّ الوعر" لتصفية حمص، والتفرّغ لجيوبٍ أخرى من المقاومة في المناطق الممتدة بين دمشق والساحل وحمص وحلب واللاذقية، وشريط الحدود السورية اللبنانية، فيما ارتفع سقف طموح النظام لضم حلب إلى الكيان الجديد.

في المقابل، تسعى تركيا جاهدةً إلى إنهاء "حلم الكيان الكردي"، عبر التدخل العسكري عبر الفرات، ودفع القوات الكردية إلى شرق النهر، ويشي الموقف الدولي الرمادي تجاه هذا التدخل بوجود تفاهماتٍ مسبقةٍ عليه مع الأميركان، وربما الروس، إذ توقف الأتراك عن الإلحاح في المطالبة بتسليم فتح الله غولن، بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي أنقرة. في المقابل، أعطى الأميركيون ضوءاً أخضر ضمنياً لتدخل الأتراك في مواجهة التمدّد الكردي في شمال سورية.

في المناطق الجنوبية، محافظة درعا، يبدو أن الأمر متروك، مؤقتاً، للهدنة والستيتس كيو، أي الأمر الواقع، بتفاهماتٍ بين الأردن ومعه غرفة الموك والروس، فيما تتكثف جهود الأردن والحلفاء على مواجهة تنظيم داعش، عبر الجيش الحرّ، في درعا الجبهة الجنوبية، وفي المناطق الريفية الشرقية- الجنوبية جيش سورية الجديد.

تبقى، إذا، حلب البؤرة الساخنة حالياً، والمنطقة المتنازع عليها، لكن مصيرها، هي الأخرى، مرتبط بما يجري من مفاوضات ونقاشات تركية وإيرانية وروسية، إذ تحاول وسائل الإعلام المقرّبة من طهران والنظام السوري التبشير بأن هنالك تفاهماتٍ بين تركيا وإيران حول حلب مقابل التدخل التركي. وتشير تلك المصادر إلى اجتماعات سرية تجري في العراق ودول عربية أخرى، واجتماعات على مستويات عليا منتظرة، لا يمكن التأكد من صحتها، لكن تلك الأخبار والتسريبات تكشف عن الأهداف والأفكار التي تحكم رؤية النظام السوري، في محاولته تجيير الاستدارة التركية لصالحه إلى أوسع مدى.

ضمن هذه المعطيات، نجد أنفسنا أمام ما كنّا نتحدث عنه سابقاً، وما كشفته دراسة خطيرة منشورة لمؤسسة راند قبل شهور حول معالم الحل المطلوب في سورية، والتي تقوم، ابتداءً، على تحديد مناطق النفوذ وترسيمها، وعقد هدنات عسكرية، خطوة أولى نحو الحل السياسي.

ويبدو أن هذه الصورة تكاد تكون جاهزةً في مناطق كثيرة. في إدلب شبكة النصرة وأحرار الشام. في غرب الفرات وريف حلب الشمالي، وجود للجيش الحر المدعوم من الأتراك. في الحسكة الأكراد. سورية المفيدة تحت سيطرة النظام، درعا والمناطق الجنوبية للجيش الحرّ بإدارة أردنية وأميركية وغربية غير مباشرة، فيما دير الزور ما تزال مقتسمة بين داعش والنظام.

بالضرورة، تبقى المشكلة الأخرى المتمثلة في داعش، ومصير الرقة بعد انتهاء التنظيم، وهي أيضاً مسألةٌ خاضعةٌ للتفاهمات الدولية والإقليمية، وإن كانت المقالات والتحليلات الغربية تشي اليوم بإعادة تفكير غربية في تسارع عملية القضاء على داعش، لطرح تساؤلات ونقاشات مسبقة حول تداعيات سقوط التنظيم، أو اليوم التالي لذلك.

يعكس هذا وذاك من التحولات والترتيبات تغيراً جذرياً يحدث في ديناميكيات الصراع في سورية أو عليها، وعلى الأغلب، أننا نتحدّث عن اتفاقات جزئية ومرحلية، إلى أن يتم التفاهم على الكعكة الكبيرة؛ أي المشهد الأخير لهذه الدراما الدموية.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
ثورة مفصلية

بتحوّل حرب النظام الأسدي ضد الشعب السوري إلى حدثٍ تتخطى مجرياته وأهميته دائرته الوطنية المباشرة، وبتطاير شرر هذه الحرب إلى بلدان مجاورة، عربية وغير عربية، وبتدخل إيران المبكر الذي نقلها إلى الإقليم، وبصراع أميركا وروسيا الذي أدخلها إلى المجال الدولي، شهدت المعضلة السورية تحولين مفصليين، هما:
أولاً، انضواء ثورة السوريين من أجل حريتهم في صراعٍ حدّه الأول نضال شعبي/ وطني، من أجل نظام جديد يبنى على مفردات إنسانية وثورية، يؤسّس على الحرية، مبدأ احتضن دوماً الحداثة والعدالة والتقدم. وحدّه الثاني شمولية استبدادية تجسّدها سياسياً الأسدية، ومذهبياً نظم عديدة: عربية وإقليمية. هذا التناقض، بالاصطفافات المتناقضة عربياً وإقليمياً ودولياً، التي ترتبت عليه، أضفى أهمية مفصلية، تتخطى المكان السوري على ثورةٍ بدأت محض سورية، وأكسبها سماتٍ تشبه التي عرفها صراع تاريخي/ كوني، محوره الإنسان ككائن يتعيّن بالحرية: مقصد شعب يريد نمطاً من العيش، ركيزته المواطنة المتساوية والعدالة، منفتح على أعظم قدر من التجدّد الإنساني الذي يعينه على فك أغلال عبوديةٍ تجسّدها زمر استبدادية متحكّمة، تستند على تكويناتٍ دنيا وما قبل مجتمعية، هي الطوائف التي حدّثتها أمنياً، وفرضت من خلالها قيمها وممارساتها المعادية للإنسان، وواجهت أمنياً وطائفياً ثورة الحرية بثورةٍ مضادةٍ، أخضعت جميع السوريات والسوريين لأنواع شتى من العنف، وعملت لجرّهم إلى صراع هوياتٍ مذهبي، يبطل ما بينهم من أواصر وطنية وإنسانية، تاريخية وراهنة، ويحول شعبهم الواحد إلى اقلياتٍ مقتتلة، يمهد صراعها لتفجير حروبٍ عربيةٍ/ إقليمية، من الضروري أن تنتشر من سورية إلى المنطقة، ويحفز إنشاء (وصعود) تنظيمات إرهابية معادية للحرية وللمقاتلين من أجلها، تقضي من جانبها على التطلعات الثورية لدى شعوب المنطقة، وتحرقها بنيران اقتتالٍ مذهبيٍّ بين هوياتٍ متنافية، لا يوفر مواطناً أو جماعة أو دولة.
بهذه الأبعاد، تلزم ثورة الحرية كل عدو للاستبداد السياسي والاقتتال المذهبي بالانتماء الطوعي إليها، وبالانخراط فيها، وإن لم يكن سوري المولد، ما دام أن انتصار الثورة المضادة الأمنية والمذهبية لن يقضي على تطلعاته وحدها، بل سيقضي، أيضاً، على حقه في الحياة والكرامة، حتى إن وقف، كشخص، على الحياد، وامتنع عن تأييد ثورة الحرية في سورية، مع أن عائدها الإيجابي لن يقتصر على السوريين، بل سيطاول كل مواطنٍ على امتداد المنطقة. لذلك، لا بد أن يعتبر كل محبٍّ للحرية نفسه سورياً، وأن ينضم إلى الثورة، ويدافع عنها كأي واحدٍ من أبنائها، داخل ميدانها السوري المباشر وخارجه، ويواجه الثورة المضادة مناطقياً وإقليمياً ودولياً، كعدو يلزمه واجبه تجاه نفسه وشعبه بالنضال ضده، ليكون انتصار الحرية في سورية انتصاراً شخصياً له ولشعبه، ولكل رافض للذل والمهانة.

ثانياً: بتركيز قوى الثورة المضادة جهودها على سورية، وبقتالها لإنزال هزيمةٍ بثورتها، تكون، في الوقت نفسه، هزيمة للحرية في كل مكان، يستطيع أنصار الحرية خوض معركتها في البلدان التي حولها تدخل حكامها في سورية إلى ساحةٍ أخرى للمعركة ضد الاستبداد التي يعني خوضها مواجهة الثورة المضادة الموحدة، وتشتيت قواها من خلال وحدة الثوار العابرة للحدود، وتركيز جهودهم على تبديل علاقات القوة بينهم وبين قوى الثورة المضادة، وخصوصاً في إيران، مركز الثورة المضادّة الإقليمية ومحركها المذهبي والطائفي.

تستوطن الحرية قلوب الأحرار وعقولهم، قبل أن تقيم، بتضحياتهم والتزامهم الثوري/ الإنساني، وطناً للحرية، يكون وطناً لكل طالب لها، وثائر من أجلها، ولكل عدو للاستبداد والظلم يربط مصيره بمصير مركزها السوري، ويؤمن أن من يقصر في الدفاع عن سورية وشعبها اليوم، يخون شعبه ونفسه، اليوم وغداً.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
هدنة “حلب” الأمريكية - الروسية .. هل هي سلاح للثوار أم عليهم ..!؟

“أنا حريص للغاية على سماع أفكاركم و ملاحظاتكم حول مضمون هذه الرسالة .. سنعود للاتصال بكم قريباً لتزويدكم بتفاصيل أكثر دقة”، هي الخاتمة التي حملتها رسالة المبعوث الأمريكي إلى سوريا ما يكل راتني إلى الفصائل العاملة في حلب، سبقها أربعة صفحات من الحديث عن أمور تتعلق بمبادئ الهدنة و ميزاتها الفنية و التعبوية ، كأنها سلاح جديد يتم منحه للثوار ، فهل هي سلاح له أم عليه ..!؟

الاتفاق الأمريكي - الروسي ، لا يمكن أن يكون ملخص في رقعة جغرافية واحدة تمتد على بضع كيلومترات ، وترك الملايين الأخرى من الكيلو مترات خارج الاتفاق ، أي لاتقصف في الكاستلو و احرق ما تبقى ، وكأن القضية السورية باتت ملخصة في طريق امداد لمنطقة بعينها و ترك قرابة ٥٠ منطقة أخرى في مواجهة الحصار المفضي للتهجير، اذ تلخيص الأمر بهذا الشكل يشير إلى تثبيت الأمور في بقية المناطق و اعتبارها أمراً واقعاً .

القراءة في رسالة المبعوث الأمريكي تحتاج لنفس طويل ، اذ الكلام المنمق الذي يشير إلى وجود مشكلة مع مكون أساسي موجود في صفوف الثوار (النصرة - فتح الشام) وقائمة تطول لتشمل الكثير من الفصائل ، وترك كل الجحافل التي تدعم الأسد و تسانده ، ارهابها يفوق أي ارهاب عرفته البشرية ، سواء أكان المستند على أساس ديني أم عرقي (فارسي)، أم حقد تاريخي، و تجاهلها يجعل عدم التساوي في الكفة واضحاً جداً .

استند “راتني”على أمر غاية في الخطورة، وتمثل بوصف أن روسيا تدعم الأسد و امريكا تدعم المعارضة ،وهو أمر غير واقعي مطلقاً ، فلا وجود لأمريكا على الأرض أو في الجو في المواجهة مع الأسد ، الذي يحظى بدعم يفوق العقل من قبل روسيا ، في الأرض و الجو و السياسة ، وحديث كهذا يصدر من الممثل الأمريكي في الشأن السوري يمنح بلاده سك البراءة من كل ما ارتكبته أمريكا بحق الشعب السوري من خذلان وصل حد المواجهة الفعلية على الأرض.

رسالة “راتني” لم توضح أي شيء عن فحوي الاتفاق الأمريكي الروسي ، و إلى أين يصل وما الهدف منه ، و مدى تطابق أهدافه مع رؤية الشعب السوري، أو على أقل تقدير رأي العناصر الفاعلة على الأرض ، الأمر الذي يعتبر بمثابة تهميش حقيقي ، يضاف إلى انذار باقتراب المواجهة ، عند الحديث عن وجود تنسيق بين الدولتين “روسيا - أمريكا” لاضعاف القاعدة ، في اشارة فعلية إلى جبهة فتح الشام التي تتقاسم مع الثوار المناطق انتشاراً و ادارة، في المقابل لا ذكر لأي مليشيا شيعية تدنس أرض سوريا و ترتكب من الفظائع ما لايعد و لا يحصى ، اضافة للحرس الثوري الذي تدعي امريكا أن قائد جناحها الخارجي “فيلق قدس” قاسم سليماني على قوائم المطلوبين و المدرجين تحت مسمى الارهاب، وهو الارهاب ذاته الذي ستضرب جبهة فتح الشام لأجله.

و كشفت الرسالة التي بعثها بتاريخ الأمس “راتني” إلى الفصائل، أن وصف الحليف لـ”أمريكا” غير صحيح مطلقاً ، فهذه التفاصيل التي تم تدارسها على مدى أسابيع طويلة ، كان يعلم بأدق تفاصيلها الأسد و حلفاءه من كبيرهم وحتى صغيرهم ، و الحملات الجنونية على المناطق التي تم تحريرها ضمن “ملحمة حلب الكبرى” ، خير دليل على نوعية المعلومات التي يمتلكونها ، وحتى التوقيت ، اذ مقتل المئات بحملات مسعورة و انتحارية ، كانت تهدف لاخراج “الراموسة” من المعادلة ، الأمر الذي يعيد للأسد و حلفائه قدراتهم على التلاعب بأي اتفاق سيتم تنفيذه على الأرض ، في الوقت الذي سحب سلاح الثوار الفعال و المواجهة له من خلال اعادة اغلاق طريق “الحياة” الجديد لحلب.

قد لا يكفي بضع سطور للحديث عن رسالة من بضع صفحات تخفي مفاوضات امتدت على مدى ساعات طويلة و جولات ماراثونية من المباحثات ، و لكن الخطوط العريضة التي تكشفها الرسالة أن الاتفاق هو سلاح جديد للأسد ضد الشعب السوري، وكما سبق و أن تحدثت في مقال سابق “الاتفاق الأمريكي - الروسي .. لا تنتظر من “قاتل” أن ينقذك”.

اقرأ المزيد
٤ سبتمبر ٢٠١٦
الاتفاق الأمريكي - الروسي .. لا تنتظر من “قاتل” أن ينقذك

منذ خمس سنوات و نيف و الحال على ماهو عليه ، ليس ثباتاً بل تصاعداً بحجم القتل و شدته، ضد الشعب السوري ، و كلما كثرت الاجتماعات و اقتربت الاتفاقات من التمام ، يكثر معها الموت و يتنوع بأشكال لم نعهدها ، لتكون مفاوضات من يقتل أكثر و بطريقة أشد شناعة.

اليوم نقف على أعتاب الاتفاق الأمريكي الروسي ، الذي امتدت مفاوضاته قرابة التسعة أشهر ، من الزيارات وجولات المفاوضات الماراثونية ، المعلن منها و المخفي ، السياسي و العسكري و طبعا المخابراتي، و لم يتمخض عن هذا المناكفات إلا شيء واحد ، ارتفاع معدل الموت و اشتداد حملة التدمير و الأخطر تضيق الخناق على المتواجدين في سوريا مساحةً و معيشتة ً و حياة.

ما ظهر من مسودة الاتفاق قبل قرابة الشهر و النيف في آخر زيارات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى روسيا ، عبارة عن بنود فضفاضة، لاتؤثر بشيء على الوضع في سوريا ، الوضع الذي يتميز بشائكته لحد الادماء لنفسه و لكل من يعمل به ، صراعات لا تعرف حدود ولا مسار، ولا أفق لأي حل ، مع اختلاط عجيب بالتركيبة العاملة على الأرض.

يلخص مايكل راتني المبعوث الأمريكي إلى سوريا الحل بنقاط أساسية ثلاث ، تترتكز في أساسها على منطقة جغرافية واحدة تكون بمثابة حقل التجارب لتعتمد كالاستراتيجية فيما تبقى ، ويقوم الاتفاق وفق راتني على اقامة منطقة منزوعة السلاح في شمال حلب و من ضمنه الكاستلو ، وفق ما يؤكده البند الثاني من الاتفاق و المتمثل بسحب قوات الأسد من هذا الطريق و جعله طريقاً ذو صبغة عمومية ، فيما يتضمن النص الثالث الذي كُشف عنه هو توقف روسيا عن قصف المعارضة السورية ، توقفٌ لا معنى له في ظل نص الاتفاق الأساسي (بين روسيا و أمريكا) على استهداف مشترك لـ”جبهة النصرة” أو “فتح الشام” ، اذ لافرق بين الاسمين فالتغيير لم يحدث أي أثر له في النظرة لهذا الفصيل ، الذي تتشابك مناطق نفوذه مع بقية الفصائل السورية لحد كبير ، و قد تصل للتشارك في منزل واحد ، و بالتالي عملية وقف القصف تكون عبارة عن “وهم” جديد ، تضعه الادارة الأمريكية في أعين الجميع و لاسيما السوريين أنها تسعى لحقن الدم ، في حين أنها تتجه إلى المشاركة في “اسالته”.

و قد يكون من الخطئ الذي يواصل الثوار بشقيهم (السياسي - و العسكري) الارتكاز و الانتظار على ما تفضيه المباحثات الدولية ، حتى يتم التعامل معها على الأرض ، و من الخطئ الأكبر القول هو السيطرة الكاملة لأمريكا أو لروسيا على الأرض السورية ، فهناك أسلحة لازالت متمردة ، لو اتفقت أو على الأقل تنازلت بعض الشيء عن عنجهية أو تصرف أرعن من تصرفاتها ، لقلبت الآية بشكل كامل ، و لنا في فك حصار حلب و اعادة حصارها من جديد ( نفى من يرغب و أكد من يشاء) ، درس و عبرة ، فلا الواحد استطاع أن يغلب الكثر ، و لا البضع تمكنوا من مواجهة الكل ، فهنا لا بطولة في التفرد ، و إنما القوة أن تضبط الأمور بشكل سليم ، فالموت القادم لن يطالك وحدك ، و كذلك الموت القادم لشريكك في الأرض لن يختصر عليه.

و أمام كل ما سبق ذكره ، لا يمكن الانتظار من “قاتل” أن يأتي لنصرتك أو مساندتك ، و إنما سيكون انتظار لاجتماع القتلة ليتم لنهائك بشكل كامل .

اقرأ المزيد
٣ سبتمبر ٢٠١٦
داريا وأخواتها

كان المشهد استثنائياً في داريا السورية. آلاف من المواطنين يتم اقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم، وترحيلهم إلى بقاع أخرى بعد حصار استمر أكثر من أربع سنوات. مشهد يقود تلقائياً إلى التفكير بسيناريوهات مماثلة عاشتها أراض عربية، ولا سيما فلسطين المحتلة، والتي لا يزال يعيش النظام السوري وحلفاؤه تحت راية تحريرها، ورسم الطريق إليها.

داريا التي سطرت، منذ بداية الثورة السورية وحتى يومها الأخير من الصمود، سقطت ضحية التهجير الممنهج الذي يتبعه النظام وحلفاؤه، باعتراف الأمم المتحدة، ضمن مخطط تأسيس ما بات يصطلح على تسميتها "سورية المفيدة"، وهو مسمى لم يعد خافياً أنه يهدف إلى رسم حدود التقسيم، وتحديد الأراضي التي يريد نظام الأسد الاحتفاظ بها ضمن أي اتفاق سياسي مرتقب، أو حتى في حال تعثر التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وتقرّر إبقاء الوضع على ما هو عليه.
ضمن هذا السياق، لم تكن داريا الأولى، ولن تكون الأخيرة. والترانسفير الذي بدأ سابقاً من الزبداني في 2015 عبر ترحيل 225 عائلة، ها هو يتمدّد ويتوسع، ليصل إلى داريا ومن بعدها المعضمية، في إطار إفراغ الغوطة من سكانها المعارضين، وإيجاد بيئة حاضنة للنظام وحلفائه فيها ضمن المشروع "الممانع".

كثير من الكلام يتداول عن مخططات الإحلال في المناطق المفرغة من سكانها، قد يكون في معظمه شائعات لا أساس له من الصحة. غير أن ما هو صحيح ومتأكد منه أن داريا باتت خالية، وأن لا موعد أعطي لأهلها للعودة إليها، ولا سيما بعد تسجيلات مصورة تظهر عمليات بيع أثاث المنازل التي لم يتمكن أصحابها من نقلها معهم. حال هي عملياً استنساخ للسياسة الإسرائيلية التي اعتمدت تجاه الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم في عام 1948، حين تم اعتبار كل ما تركوه خلفهم "أملاك غائبين"، يحق لدولة الاحتلال التصرف فيها. وهو الأمر نفسه الذي سيحصل مع أراضي أهل داريا الغائبين أو المغيبين، فكلها ستكون ملكاً للأسد الذي رفعت صورته على أنقاض المدينة.

قد لا تكون هذه فقط هي الصيغة المستنسخة من تجربة الاحتلال الإسرائيلي، فالتهجير بالأساس ونقل السكان وإحلال آخرين محلهم هي عملياً ما قامت به الدولة العبرية في الفترات اللاحقة لقيامها على خلفيات دينية وعقائدية، وهو الأمر الذي يسير على هديه النظام على خلفيات مشابهة أساسها الولاء، وتأسيس كيان صافٍ سياسياً يؤمن الاستمرارية للأسد وآله.

وقبل التهجير والإحلال والمصادرة، لا يمكن تجاهل العقلية المؤسسة لهذه الممارسات، وهي أيضاً عقلية مستوحاة من الممارسات الإسرائيلية. عقلية لا تقتصر على المستوى الرسمي السوري، بل أصبحت منتشرة بين أنصاره من كل الفئات وعلى المستويات كافة، وحتى غير السوريين. فكل من هو غير موال للنظام أو لا يبجل الأسد وممانعته يستحق القتل. أمر مشابه للنظرة الإسرائيلية أو اليهودية إلى الآخرين من "الأغيار" الذين يرون أيضاً أنهم لا يستحقون الحياة. وعلى هذا الأساس كانت المجازر في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1948 إلى اليوم. غير أن الأسد وحلفاءه تمكنوا من التفوق في هذه النقطة وارتكبوا من المجازر خلال الأعوام الخمسة الماضية ما لم يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الثماني والستين الماضية.

على الرغم من ذلك، لا يزال النظام السوري وحلفاؤه يرفعون شعار أن كل ما هو جارٍ على الأرض السورية هو في سبيل وقف محاربة إسرائيل، أو سد الطريق إلى القدس، والتي يبدو أن الوصول إليها، بحسب هذا المنطق، لن يكون إلا بعد تدمير كل المدن السورية المعارضة وتهجير سكانها.

اقرأ المزيد
٣ سبتمبر ٢٠١٦
التهجير القسري في سوريا

يصر النظام السوري على تهجير السكان الأصليين للمدن والقرى التي يحاصرها ويقصفها ويهدم منازلها ويقتل أهلها منذ نحو خمس سنوات حتى تضطر أن تخضع وتذعن لما يسميه المصالحات، كما حدث مؤخراً في داريا، وكما يحدث في المعضمية وحي الوعر الحمصي، وقد جرت عملية التهجير سابقاً في حمص وفي الزبداني وفي العديد من المناطق السورية التي تعرضت لحصار شديد شاركت فيه قوى الاحتلال الإيراني وميليشيات طائفية لبنانية وعراقية وأفغانية. وقبل عام ونيف عرضت إيران تغييراً ديموغرافياً بين منطقة الزبداني وبين قرى شيعية تقع قرب مدينة إدلب (الفوعة وكفريا)، ورعت الأمم المتحدة اتفاقاً بين إيران وحركة «أحرار الشام» لنقل الجرحى، واليوم يفسر أكثر السوريين ما يحدث بأنه خطة للنظام تهدف إلى طرد سكان المناطق المحيطة بدمشق ليحل محلهم مستوطنون شيعة يأتون من إيران والعراق وأفغانستان ليتملكوا أراضي وبيوتاً وممتلكات ليست لهم، على غرار ما فعلته إسرائيل حين هجرت السكان الأصليين من الفلسطينيين.

لكن الهجرة الأكبر التي تشكل عمق المأساة السورية هي هجرة ما قد يزيد على اثني عشر مليون سوري، أكثرهم من أهل السنة الذين سيصبحون أقلية في سوريا إذا استمر هذا النزوح. أما عمق المأساة فهو هجرة الكفاءات العلمية والتقنية والصناعية وفراغ سوريا من طاقاتها الأكاديمية ومن علمائها وأطبائها ومهندسيها من مختلف الشرائح والأديان والمذاهب، وقد هُجّروا رغماً عنهم خوفاً من الاعتقالات العشوائية ومن براميل الموت الجماعي.

ولا يجد السوريون تفسيرات أبعد من استقراء مفجع لدوافع التهجير القسري والتغيير السكاني، وقد نشط تفسيران أولهما شك في كون النظام يريد تلبية الأغلبية من الموالين الذين أطلقوا على صفحات التواصل الاجتماعي دعوات (مبرمجة) للنظام تطالبه بمحو محافظة إدلب من الخارطة السورية، وتحض على إبادة جماعية، وقد عزز هذا التفسير إصرار النظام على تهجير أهل داريا إلى إدلب بالتزامن مع تصاعد القصف السوري والروسي اليومي على المدنيين في إدلب، وقد استخدمت فيه القنابل العنقودية والفوسفورية والنابالم، وانتشرت صور الضحايا من الأطفال والنساء، لكون الأهداف تنحصر في المدن، وتحديداً في المنازل والساحات والأسواق، وهي ليست أهدافاً عسكرية.

أما التفسير الآخر عند بعض السوريين فهو أن ما يحدث هو ترسيخ لخطة خفية للتقسيم بحيث تفرغ سوريا (المفيدة) من المعارضين، ويحشر كل الذين طلبوا الحرية والكرامة في إمارة دينية يتم حصارها من العالم كله، وتتعرض لقصف من قوى التحالف الدولي ضمن حربه على الإرهاب، وتكون محافظات الشمال «سوريا غير المفيدة» لمجرد أنها لا تؤيد النظام، ويظن بعض السوريين أن الطلب من حزب «البي يي دي» بأن يغادر إلى شرق النهر وبعض وسائل الإعلام تدس كلمة «المناطق الكردية» تهميداً لمنح هذا الحزب إقليماً يسميه بعضهم «كردستان السورية» متجاهلين وجود العرب وسواهم من المكونات في المنطقة. ومع أنني لا أرى صواب هذه التفسيرات فإني أشارك كثيراً من السوريين مخاوفهم من الغموض المبهم الذي بات خفياً حتى على دول كبرى من مضامين مباحثات واتفاقيات (كيري ولافروف)، ومن هذا الصمت الدولي المريب على ما حدث في داريا وما يحدث في المعضمية والوعر، وعلى خطة النظام بفرض مصالحات قسرية على المناطق الساخنة عبر تخيير سكانها بين الحصار القاتل والإبادة الجماعية وبين القبول بتسليم أنفسهم ومغادرة ديارهم!

إن ما يحدث من فظائع يفتح المستقبل لاحتمالات مزيد من الدمار ومن ارتداداته الإقليمية والدولية، ورغم الشعور العام لدى السوريين بأن الحل السياسي الذي اعتمد على بيان جنيف وعلى القرارات الدولية قد فقد حضوره منذ أن أهملته الدول التي دعت إليه وتمكنت روسيا وإيران من تعطيل فاعليته، فإن بث الحياة فيه هو مسؤولية دول أصدقاء سوريا، ونرجو أن يكون إحياؤه موضوع بحثهم في مؤتمر لندن القادم.

اقرأ المزيد
٣ سبتمبر ٢٠١٦
داريا تقلق أبوالغيط..

يعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط عن قلقه إزاء الاتفاق الذي أبرم حول مدينة داريا في الريف الدمشقي.

أعلن أمر “القلق” متحدث باسم الأمين العام، فالأمر هامشيّ عرضي داخل المأساة السورية ولا يستحق ظهور الأمين العام بشخصه في مؤتمر صحافي للتعليق على الحدث، ولا يستحق طبعا دعوة لوزراء الخارجية العرب ولا حتى اجتماعا على مستوى المندوبين.

والحقّ يقال إننا فوجئنا بـ“موقف” أبوالغيط، ذلك أننا في وجداننا، قد أعفينا منذ زمن “جامعة العرب” من أي دور أو وظيفة تتعلـق بالمـوقف من الحرب في سوريا.

استقال النظام العربي السياسي برمّته حين نجح في طرد مندوب النظام السوري من الجامعة ولم ينجح في استبداله بمندوب لسوريا يمثّل معارضة هذا النظام.

وبما أن النظام السوري لم يعد يقبل بأي انخراط للجامعة العربية في شؤون سوريا، فقد استجابت الجـامعة ونفضت يدها برشاقة من الوحول السورية، تاركة لإيران وتـركيا وإسرائيل وروسيا والـولايات المتحدة وغيرها الانهماك في طبخ لم يعد للعرب في ورشته إلا استنشاق روائحه من بعيد.

قلقٓ أبوالغيط من “صيغة داريا”، التي عرف بها عبر وسائل الإعلام، كما يقول البيان، لأنها لم تتمّ تحت رعاية الأمم المتحدة، أي أن القلق متعلّق بشكل ارتكاب الجريمة وليس مضمونها.

يقلق أبوالغيط ولم يصدر عن جامعته القديرة في السنوات الأخيرة أي موقف لافت يتعلق بالمجازر التي ترتكب في المدن السورية الأخرى التي تتعرض، وفق تقارير لا تصدرها الجامعة، للبراميل المتفجرة وقصف النابالم واستخدام الغازات السامة وحصار التجويع.. إلخ.

وقد لا يمكن لوم الأمين العام الحالي ولا السابق ولا الأسبق، طالما أن العرب أنفسهم منقسمون حول المسألة السورية، ومنشغلون بمعضلاتهم البيتية التي يحاولون مواجهتها بحيث تدفع النموذج السوري عن أبوابهم.

لكن لماذا يقلق أبوالغيط في داريا ولم يقلق في حمص ولا يقلق في حلب؟

لا نملك جوابا منطقيا، ذلك أن قلق الجامعة لا منطقي. وقد يكون البيان الصادر عن الأمين العام زلّة لسان وتمرينا لدفع السأم عن “بيت العرب” في القاهرة.

ثم إن أبوالغيط القلق من حدث داريا، هو سليل الدبلوماسية المصرية وأحد وجوهها الأساسيين في العقود الأخيرة، كما أنه في هذه الأيام يمثل فلسفتها على رأس المنظمة الإقليمية الأولى للـدول العـربية. فهل أطل قلق الرجل من كونه رأسا للجامعة أم صوتا آخر يعكس صدى للسياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي؟

ثم لماذا يقلق أمين عام جامعتنا العربية؟ ألا تعتبر “استعادة” داريا من قبل النظام السوري متّسقة مع رؤى القاهرة في الدعم الضمني لنظام دمشق ضد “الإرهابيين”؟ أولم تتم الصفقة برعاية الحليف الروسي المتفق مع القاهرة على مكافحة الإرهاب، حتى في داريا؟ أوليست “التسوية” انتصارا للأجندة الإيرانية التي لم نسمع أن القاهرة عارضتها بشكل جدي أو استخدمت ضدها موقفا حاسما جازما؟

أما إذا كان قلق الأمين العام يتمحّور حول التفريغ السكاني المقيت الذي ارتكبته هذه التسوية في مدينة عربية داخل دولة عربية هي “قلب العروبة النابض” وفق معلّقات نظام دمشق، فهل أمر كهذا لا يستأهل إلا القلق، والقلق فقط؟

تفرج صفقة داريا عن لبّ الهواجس التي تقضّ مضجع النظام في دمشق. يعتبر النظام السوري أن مشكلته ليست مع “المندسين” ثم “الإرهابيين التكفيريين المتصهينين العملاء للإمبريالية”.. إلخ. فحين أخرج معمر القذافي يوما كتابه الأخضر اعتبر أن مضمونه قابل للتطبيق في دول كالسويد والنرويج وليس على الشعب الليبي القاصر عن أن يكون بمستوى فهم فكر القائد.

مشكلة النظام السوري هي مع الشعب السوري نفسه، الذي أعمل فيه خلال عقود الحكم الغابرة السيف والسجن والاغتيال والترهيب انتهاء بالمجازر منذ العام 2011، فبات من الضروري أن يرحل هذا الشعب كما رحل ناس داريا.

يقلق الأمين العام لجامعة الدول العربية من ترحيل شعوب العرب عن مدن العرب. سبق لإسرائيل أن مارست ذلك علنا في فلسطين، ومذاك يعتبر العالم أجمع أن إسرائيل دولة محتلة. فهل يقصد أبوالغيط من خلال قلقه أن الدولة السورية باتت دولة محتلة تجوز ضدها مسلمات مواجهة الاحتلال وفق الشرائع الدولية، بما في ذلك الحقّ في مقاومة الاحتلال؟

ثم إن إسرائيل حين أجلت العرب عن مدنهم شيّدت مستوطنات واستقدمت يهودا من العالم للعيش داخلها، فهل يعيّ الأمين العام أن ما بعد تفريغ داريا وغيرها (وهنا الكارثة المقبلة) إحلال سكان جدد في داريا وغيرها، بما يعني أن الوطن سيتحوّل إلى ورشة استيطان خبيثة.

لم تعد التقارير تخفي خطط النظام السوري وحلفائه في طهران على إحداث تغيير ديموغرافي يؤسس لسوريا المفيدة العزيزة على قلب بشار الأسد.

في التقارير وقائع وبيانات ومستندات وإحصاءات وخرائط لمخططات لا تكلّ تستبـدل هـويـة مـذهبيـة بـأخـرى وفـق أجنـدة معلنة لا لبس فيها تطلقهـا أبواق إيران دفاعا عن “المراقد”. فأما وقد حوّلت إيران العراق إلى حسينية كبرى، على حدّ تعبير أحـد الأصدقـاء العـراقيين، فلماذا لا تتمدد تلك الحسينية نحو سوريا باتجاه لبنان؟

ستعمل روسيا والولايات المتحدة المولجتين، بتواطؤ حميم، بالتعامل مع “الحالة” السورية على مواكبة خطط دمشق-طهران لردع “الإرهابيين” عن تخوم دمشق. وهنا يبدو قلق الجامعة العربية هزيلا، فحتى جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، الدولة البعيدة غير العضو في جامعة الدول العربية، سبق أبوالغيط في التعبير عن ضيق من صفقة داريا. لكن الواضح أن ردّ فعل كيري يعبّر عن شأن هو من صلب ميدان العمل الأميركي، فيما ردّ أبوالغيط يبدو استشراقيا يتعلق بشأن من خارج ميدان عمل جامعة الدول العربية.

لا عليك أيها الأمين العام فلجريمة داريا قصة تجمعت خيوطها وأظهرت حبكتها تواطؤا جماعيا دوليا إقليميا لإسقاطها.

في أواخر عام 2014 وصلت فصائل “الجبهة الجنوبية” التابعة للجيش السوري الحر إلى مشارف الغوطة الغربية ولم تفصلهم سوى 30 كيلومترا عن داريا وبضعة كيلومترات إضافية للوصول إلى جنوب دمشق وبلدات الغوطة الشرقية.

شيء ما حال دون ذلك لاحقا: تدخّل الميليشيات التابعة لإيران؟ ربما. لكن الأهم، هو تبدل مزاج غرفة العمليات الدولية المشتركة “الموك” ومقرها الأردن، التي تقدم الدعم لفصائل المعارضة، التي أعادت قلب خرائط العمليات وتشتيت فصائل الجنوب ودفعها لخوض معارك في قلب حوران وشرقها. فكانت معارك تحرير الشيخ مسكين واللواء 52 وبصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي، إلى أن تزامن التدخل الروسي مع تراجع “الموك” تدريجيا عن تقديم الدعم لمعظم فصائل “الجبهة الجنوبية”، وذلك ضمن اتفاقيات دولية. فبات مستحيلا، بقرار دولي، فكّ الحصار عن داريا.

تفرّغ داريا من أهلها، لكن حجارتها مازالت تتحدث عن أهل المدينة وعن حكاية صمود أسطوري، وستتحدث لاحقا عن رحيل قوم ومرور أقوام أخرى وعن نكسة تُسقط مدن العرب وتحيلها تفصيلا في حشايا التسويات، فيما أهل المدن يهيمون بحثا عن أحياء أخرى تبتلعهم بانتظار قدر آخر لا يسبب قلقا للأمين العام لجامعة العرب.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)