في إمكان المعارضة السورية، إذا شاءت أن تعزّي نفسها بعد الاتفاق الذي عقدته إدارة باراك أوباما مع الروس من وراء ظهرها، أن تتذكر الاتفاق الذي عقدته هذه الإدارة نفسها مع إيران، من وراء ظهر حلفاء واشنطن أيضاً، مضحّية بمصالحهم ومهدّدة أمنهم الإقليمي، بعد أن شرّعت لطهران أبواب التدخل في مختلف دول المنطقة العربية، وقامت بتغطية هذا التدخل في معظم الأحيان، كما هي الحال في العراق ولبنان، وفي اليمن، كما يقول البعض، وكما تغطي الآن الدور الإيراني في سورية، بعد اتفاق الهدنة الأخير.
كان في وسع إدارة أوباما أن تقايض الاتفاق مع إيران بالحصول على التزامات من طهران بالتوقّف عن التدخل في شؤون المنطقة العربية. وكان في وسعها لو فعلت ذلك، أن تحصل على تنازلات إيرانية في المقابل، في وقت كانت إيران في حاجة الى التوصل لهذا الاتفاق لتخفيف العقوبات التي كانت مفروضة عليها، والتي كانت قد أصبحت تشكل عبئاً على اقتصادها، وتبعاً لذلك على الوضع السياسي الداخلي ودرجة الولاء الشعبي التي يتمتع بها النظام.
غير أن إدارة أوباما لم تفعل شيئاً من ذلك. قدّمت لإيران العصا والجزرة في وقت واحد. وانتهى الأمر الى أن إيران وإسرائيل هما المستفيدتان الوحيدتان من الاتفاق النووي، فيما تواجه دول المنطقة، صديقة واشنطن، تبعات الصلف الإيراني، مقروناً بشعور بالانتصار على «الشيطان الأكبر»، الذي هزم نفسه وأودى بمصالح حلفائه، غير عابئ بنتائج تلك السياسة الساذجة والمتهورة.
إدارة أوباما تفعل الآن الشيء نفسه، وربما أخطر منه، مع المعارضة السورية. ومثلما ضحّت بالمعارضة على رغم تهديد الرئيس الأميركي بـ «التحرك» إذا تجاوز بشار الأسد ذلك «الخط الأحمر» الشهير، وعقدت صفقة مع الروس على «تدمير» الأسلحة الكيماوية التي قصف بها النظام خان العسل في حلب وغوطة دمشق، ما سمح بإنقاذ النظام ورأسه آنذاك، ها هي الآن تضحّي بالمعارضة في اتفاق مشبوه مع فلاديمير بوتين، سينتهي بالقضاء على المعارضة بحجة محاربة «الإرهاب» (الحجة التي اعتمدها الأسد منذ بداية الثورة عليه) من دون أي إشارة الى الدور الذي تلعبه إيران والميليشيات الحليفة لها في أعمال القمع التي ترتكبها مع قوات النظام ضد السوريين، والتي حصدت وفق تقديرات الأمم المتحدة 400 ألف قتيل ودمرت المدن السورية وخرّبت اقتصادها وألقت بنصف أبنائها على طرق الهجرة والمنافي، داخل سورية وخارجها.
يمتدح جون كيري صفقة الهدنة التي توصل إليها مع سيرغي لافروف بأن البديل منها هو مزيد من القتلى، غير أن وزير الخارجية الأميركي يفضّل أن يتجاهل أن تراكم هذا العدد من القتلى يعود الى تراخي رئيسه عندما كان في إمكانه أن يضع حداً للنظام السوري، على الأقل عندما ارتكب مجزرة الغوطة بالسلاح الكيماوي قبل 3 سنوات.
وكما حصل آنذاك ستكون نتيجة الهدنة الآن أيضاً إفلات نظام بشار الأسد من العقاب بعد كل ما ارتكبه هو وزمرته بحق الشعب السوري. بل إن روسيا، شريكة هذا النظام بالتغطية على جرائمه وبمنع المحاسبة الدولية عنه، بواسطة «الفيتو» المتكرر على قرارات الإدانة في مجلس الأمن، روسيا أصبحت، بفضل أوباما ووزيره كيري، طرفاً في رعاية العملية السياسية المفترضة، والتي لن تؤدي الى أي نتيجة واقعية سوى التمديد للأسد فوق رؤوس السوريين، في ظل التسليم الأميركي بالغطاء الإيراني - الروسي لهذا الاتفاق الجديد.
يمثل الاتفاق الروسي - الأميركي مرحلة جديدة في القضية السورية؛ إذ هو الأبرز في توافق الدولتين المؤثرتين في قضية، كانت ولا تزال، أحد مصادر التناقض العميق في سياسة البلدين، رغم أنه من الصعب تقدير مدى التوافق في اتفاق غير معلن، يصر طرفاه على إبقائه طي الكتمان. لكن المعلن فيه يكفي للقول إنه يعكس توافقًا في نقاط، لعل الأهم فيها نقطتان؛ الأولى هي الهدنة، والثانية تحريك مسار الحل السياسي للقضية السورية، مع تأكيد الفارق في رؤية كل جانب لكل واحدة من النقطتين.
الروس في الاتفاق مع الأميركيين، لا يرون في وقف القتال والذهاب إلى المفاوضات إلا فرصة من أجل تحسين الأوضاع السياسية والميدانية للحلف الذي يشاركونه مع نظام الأسد وإيران وأدواتهم من الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها، وهم في هذا الجانب، يريدون أن يظهروا للعالم، حرصهم ومساعيهم لوقف الصراع المسلح والذهاب إلى حل سياسي بالتشارك مع الولايات المتحدة، التي يؤشر لها باعتبارها الأقرب إلى الطرف الآخر في الصراع السوري وحول سوريا، وهذه كلها تعطيهم مزايا سياسية، تعزز وضعهم ووضع حلفائهم، فيما تتواصل المجريات الميدانية من أجل تعزيز قوة حلفهم على الأرض بجلب مزيد من العتاد والمقاتلين من جهة، والعمل من جهة أخرى على إضعاف وتفكيك قوة الطرف الآخر بطرق وأساليب متعددة، لعل الأبرز فيها فصل جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) عن تحالفها مع تشكيلات المعارضة المسلحة في إطار جيش الفتح.
الأميركيون من جانبهم، لا يرون في الاتفاق سوى منجز سياسي أخير للعهد الأوبامي قريب الانتهاء في قضية كارثية، شغلت العالم وكانت متواصلة في عهد أوباما الذي فشل في تحقيق أي تقدم فيها، أو معالجة لأي من جوانبها الكثيرة، إن لم نقل إنه ساهم في تردياتها ومزيد من تداعيات إقليمية ودولية خطرة، أصابت كثيرًا من دول العالم بما فيها حلفاء واشنطن بآثارها الكارثية، ولأن الأمر على هذا النحو، فمن غير المستغرب أن يقدم الأميركيون للطرف الروسي تنازلات، وهو الأمر الذي قد يفسره التحفظ الأميركي على كشف تفاصيل الاتفاق.
النقطة الروسية - الأميركية المشتركة في الاتفاق، هي توافقهما في الحرب على الإرهاب، وبالتخصيص على «داعش» وجبهة فتح الشام، والتشارك في تلك الحرب. رغم الإشكالات، التي يثيرها الجمع بين «داعش» وجبهة فتح الشام في صفوف المعارضة السورية، فإن هذه النقطة تكشف توافقًا آخر بين الطرفين، وهو السكوت عما تقوم به الميليشيات الشيعية في سوريا من عمليات إرهابية، لا تقل بشاعة عن ممارسات «داعش»، الأمر الذي يعني في المشترك الروسي - الأميركي، أن ثمة ميلاً واضحًا لمصلحة الطرف الأول وتحالفه، وميلاً لإخراج القضية السورية من سياقها الأساسي، باعتبارها ثورة شعب ضد نظام مستبد وقاتل، وبناء مستقبل آخر، لجعلها قضية حرب على بعض الإرهاب، لا الإرهاب كله، خصوصًا أن حزب الله مصنف في أكثر من قائمة باعتباره جماعة إرهابية، تنبغي محاربتها.
وسط تلك الصورة من محتويات الاتفاق الأميركي - الروسي ومصلحة موقعيه، لا بد من قول إن السوريين يمكن أن يستفيدوا منه، إذا تم تنفيذ الهدنة ووقف القتل والتهجير، وجرى الذهاب إلى مفاوضات جدية على أرضية التوافقات الدولية ومرجعياتها، وخصوصًا بيان جنيف لعام 2012، غير أن أمرًا كهذا، سيكون مستبعدًا في ظل ثلاث حقائق معروفة.
أولى الحقائق، أن تجربة التوافقات والاتفاقات الأميركية - الروسية حول القضية السورية، افتقدت إلى الجدية، وغلب عليها الطابع السياسي والإعلامي أكثر بكثير من نزوعها نحو التطبيق، ليس فقط لأنها لم تتضمن برنامجًا تنفيذيًا، بل لأنه لا تتوفر لدى الطرفين إرادة عملية وسياسية لتطبيق ما تم الاتفاق عليه، وفي التقدير أن الاتفاق الأخير لن يكون أحسن حالاً مما سبقه.
الحقيقة الثانية، تتمثل في عدم توفر رغبة حقيقية من قبل نظام الأسد وحلفائه في الذهاب إلى حل سياسي، وأن الحل العسكري ما زال يحكم سياساتهم وتصرفاتهم العملية، وإن جرى تحولهم باتجاه الحل السياسي، فلا بد أن يكون الحل ناتجًا عن إملاءات ميدانية على نحو ما يجري في التسويات المحلية، ومنها اتفاق التسوية الأخير في داريا، الأمر الذي يعني أن حلاً عامًا، ينبغي أن تكون نتيجته الكلية في مصلحة النظام وحلفائه، ولا تكون فيه المعارضة إلا متلقية للنتائج، لا مشاركة في صنعها، طبقًا لما يعنيه حل سياسي، يكون ناتجًا عن توافقات تأخذ بعين الاعتبار مصالح المشاركين، وترضي الأطراف المنخرطة فيه.
الحقيقة الثالثة، وأساسها استغلال النظام للهدنة والحديث عن الحل السياسي، لخلق وقائع جديدة في الواقع الميداني، عبر القيام بخروقات لوقف إطلاق النار في مناطق ذات حساسيات مثل المناطق المحاصرة، والمماطلة إلى حد منع دخول المساعدات الغذائية والإنسانية أو تقييدها على نحو ما جرت الأمور، ولا يستبعد في هذا المجال، أن يقوم الطيران الروسي بضرب بعض تشكيلات المعارضة المسلحة بدعوى ضرب مواقع جبهة فتح الشام، وفي الطريق يضربون التشكيلات الموصوفة بـ«المعتدلة».
خلاصة القول في موضوع الاتفاق الأميركي - الروسي وما سيأتي بعده، إنه من غير المنتظر حصول تطورات مهمة بالاستناد إليه، سواء على الصعيد السياسي أو الميداني أو حتى الإغاثي، بحيث ينقلب الوضع إلى أفضل مما كان عليه قبل الاتفاق، غير أنه وفي كل الأحوال، ليس أمام السوريين إلا الانتظار، والأمل والعمل من أجل تغييرات تقودهم وبلادهم نحو سلام وحل لقضيتهم.
اقترب عمل المحللين السياسيين من التنجيم إلى حد كبير، و باتوا من قارئي الكف و مستشرفي الآفاق ، في إطار نظرتهم للاتفاق الأمريكي - الروسي حول سوريا ، وانضم إليهم كافة دول العالم، القريب منها للقضية السورية أو البعيد ، واتخذوا مقاعدهم في مدرجات الجماهير لمتابعة مجريات المبارزة المجهولة ، بين قطبي العالم.
في الشق السوري الحال ليس بأفضل ، فالجميع تصله تعليمات للجهة التي تمثله في المفاوضات ، ولايعلم إلا دوره الآني و الوقتي ، لساعات قادمة أو بضع أيام على أبعد تقدير.
المعلن من الاتفاق هو هدن متتالية يصل مجموعها لسبعة أيام (48 ساعة + 48 ساعة + 72 ساعة) ، يرافقها إدخال مساعدات إلى حلب من طريق الكاستيلو الذي سينزع السلاح منه ، يتلو ذلك جلسات عسكرية - مخابراتية ، بين طرفي الاتفاق لتوجيه ضربات مشتركة ضد "جبهة فتح الشام" على وجه التحديد ، إذ بات الحديث عن حرب خاصة من الطرفين ضد “داعش” هو محض غبار ينثر على العيون ، فالحرب على الأخير هي قائمة بكل الأحوال و من قبل الجميع و في أي وقت سواء بهذا الاتفاق أو بدونه.
الإخفاء القسري للمعلومات وورقة الاتفاق ، التي تتألف من خمس صفحات ، و الإصرار الأمريكي و المتعنت حول رفض فضحها ، فتح شهية الجميع للتحليل و التوقع ، و لكن في الحقيقة لا يمكن رؤية مشهد تفاؤلي واحد في ذلك الاتفاق ، ومن خلال زحمة التحليلات ، إذ الأمر يميل إلى كونه اتفاق إنهاء الصراع عن طريق القضاء على أحد الأطراف ، و طبعاَ سيكون من نصيب “الأضعف” ، وفق لاستراتيجية “عنتر بن شداد” ، القائمة على “ضرب أقوى الضعفاء ضرباً يجزع منه أقوى الأقوياء".
لا يمكن اعتبار الفصائل بأنها طرف ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ( ندي - مساوٍ - متوازن) ، في الصراع الدائر في سوريا ، و لذلك يعتبر الطرف الأضعف سيما مع التشتت و الاختلاف الذي يضرب أطنابه في صفوفها (ايدلوجياً - انتمائياً - تكوين شخصي - أهداف مستقبلية و حتى آنية) ، و بالتالي سيكون من نصيبها تلك الضربة التي ستهدد البقية ، من الممكن أن تكون إيران المستهدفة ، فاتفاق النووي لم يكن إلا تمهيداً لضربة تكون قاسمة ، يتم فيها وأد حلم امبراطوري تاريخي له لبوس ديني ، حلم يتفق الغالبية العظمى على إنهاءه و على رأسهم اسرائيل.
قد يكون السرد الآنف بعيد عن فحوى الصفحات الخمس ، التي تحدد الاطار التنفيذي للاتفاق الأمريكي الروسي ، لكنها واجبة الذكر في مسعى لامتصاص أكبر قدر ممكن من السلبيات التي تحملها المرحلة القادمة للثورة السورية.
وتثير الصفحات الخمس في الاتفاق الروسي - الأمريكي ، الحفيظة بشكل يتجاوز الرعب إذ وفق ما يتم تداوله في الغرف الضيقة أن الاتفاق تقتصر حدودها إلى حد بعيد في الشمال السوري ، و سيكون محدوداً للغاية في الجنوب و دمشق و بقية الجيوب التي تقض مضجع “سوريا المفيدة” ، و تمنع تنفيذ ما يعرف بالتقسيمات السلطوية السداسية في سوريا ، والتي سبق و أن ذكرتها في موضع سابق (لقراءة الموضوع السابق الرجاء الضغط هنا)، وتحول هذه التقسيمات التي من المفروض حدوثها ، من تقسيمات سلطوية إلى تقسيمات فعلية و تتحول السلطات الفرعية إلى سلطات قائمة بحد ذاتها و دول و امارات هو المخيف أو الشبح الذي حدد به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقوله عند عقد الاتفاق أنه “ قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ سوريا الموحدة".
سعى النظام السوري إلى «مَسْرَحة» تصديه للعدوان الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري قرب القنيطرة؛ إذ بعد انتهاء الغارة الإسرائيلية أُطلِقتْ على المقاتلات الإسرائيلية صواريخ سورية من طراز «أس 200» غير المتطورة، لبعث رسالة سياسية وإعلامية بإمكانية ردّ النظام السوري على اعتداءات الطيران الإسرائيلي. المهم هنا أنّ هذا الأمر يصعب أنْ يمرّ من دون غطاء روسي. والمثير للجدال أنّ ثمة توازنات وحسابات روسية رأتْ مصلحة في إعطاء الضوء الأخضر للصواريخ السورية بعد انتهاء الغارة الإسرائيلية، أي من دون إفساد التفاهمات الإسرائيلية - الروسية منذ التدخل العسكري في سورية قبل عام، والمتعلقة بالخطوط الحمر الإسرائيلية، القاضية بأنّ المنطقة الواقعة من جنوب دمشق وحتى الجولان السوري المحتل ينبغي أن تكون خاضعة للمراقبة والسيطرة الجوية الإسرائيلية، إلى جانب منع أي محاولة لتهريب أي سلاح متطور من سورية إلى «حزب الله» في لبنان.
وتنطوي التكهنات في شأن حسابات موسكو وخلفيات الضوء الأخضر الذي منحته لدمشق في هذا الحادث في سياق احتمالات عدة على رأسها:
أولاً، مساعي موسكو في إعادة تأهيل النظام السوري على المستوى الداخلي، وإعادة صرف ما غدا غير قابل للصرف، أيْ ممانعة دمشق وإعادة شحن الأسطوانة المشروخة إياها بأن الدموية التي قابل بها النظام شعبه كانت في صلبها تهدف إلى مواجهة المخططات الخارجية ضد نظام الممانعة، والمدعومة إسرائيلياً!. ومن هنا تأكيد آلة إعلام «الممانعة» بأنّ الردّ على إسرائيل يماثله التصدي لمعركة «قادسية الجنوب» التي أطلقتها فصائل إسلامية مسلحة في ريف القنيطرة الشمالي، بالتزامن مع اتفاق وقف النار الأميركي - الروسي الأخير.
ثانياً، إذا صحتْ التسريبات التي تقول إن ثمة مطالب وضغوطاً روسية على غرفة العمليات المشتركة بين الأردن وأميركا المعروفة بـ «الموك» لوقف دعمها المعارضة السورية في الجنوب السوري، فإن هذا قد يشير إلى مطامح روسية بأن عمليات تقاسم النفوذ في سورية لم تُسلّمْ بعد وفي شكل نهائي مناطق الجنوب السوري لرعاية «الموك» وحدها. وتذهب أوساط قريبة من محور دمشق - طهران - الضاحية الحنوبية إلى أنّ التفاهمات الروسية - الأردنية منذ نحو عام أسفرت خلاصتها عن انهيار نظرية «إسقاط دمشق من الجنوب»، وذلك مع التحوّل الجذري في ميدان الغوطة لمصلحة النظام، ومنع المعارضة من وصل أرياف درعا والقنيطرة ودمشق وقطع طرق الإمداد الأقرب للجيش السوري من درعا والقنيطرة نحو دمشق، وقد كانت استعادة الأخير مدينة داريا المرتبطة بميدان الجنوب آخر حلقات ذاك التحوّل. ولا يُعلم ما إذا كان امتناع «الجبهة الجنوبية» عن مساندة المعارضة في حلب في الأسابيع الماضية مرتبطاً بضغوط من موسكو. واللافت في الإعلام المقرب من «حزب الله» أنّ «إعادة تأهيل النظام» اقتضت ربط «قادسية الجنوب» بالتحرك الإسرائيلي في القنيطرة، والزعم بأنّ غرفة «الموك» حلّت بدلاً منها غرفة عمليات «صهيونية - سلفية» تستهدف بناء «شريط أمني» شبيه بالذي أقامه الاحتلال جنوب لبنان.
ثالثاً، إذا صحت الأنباء التي تحثت عن سعي روسي لاستمالة عناصر وقيادات في «الجبهة الجنوبية» وربطهم بقاعدة «حميميم» فإن هذا يعني أنّ حالة «الستاتيكو» في درعا والجنوب قد تكون عرضة للمقايضات والمفاوضات والتسويات بين الأطراف الدولية والإقليمية؛ مع أنّ هذه التسويات ستظل في الفترة المقبلة جزئية وناقصة، لكنّ أهميتها تأتي من أنها ستكون أنوية أولية وأساسية لإنضاج أي حلول أو تسويات شاملة، من المؤكد أنّها لن ترى النور في عهد الرئيس أوباما. والمرجّح أنّ الأخير ووزير خارجيته، جون كيري، معنيان بتوريث «شيء ما» للإدارة الأميركية المقبلة يمكنها البناء عليه في ما خص سورية وتحديد مناطق النفوذ فيها وإعادة ترسيمها كـ «بروفات» للحلول النهائية الشاملة مستقبلاً.
وضعت الولايات المتحدة وروسيا السوريين أمام خيارين لا ثالث لهما: الهدنة أو التقسيم. وبات الاتفاق الذي توصل له وزيرا الخارجية، جون كيري وسيرغي لافروف، بعد أكثر من خمسين اجتماعاً كأنه خلاصة نهائية، لا قبلها ولا بعدها.
حتى الآن، تبدو الهدنة صامدةً على نحوٍ نسبي، بما يفوق حسابات حتى الأطراف التي سعت إليها، وذلك عائدٌ، في صورةٍ أساسيةٍ، إلى الضغط الكبير الذي مارسته موسكو وواشنطن على النظام والمعارضة، من أجل ضبط النفس، ووقف الأعمال الحربية.
مصلحة أميركا من الهدنة أقلّ مردوداً مما تطمح إليه روسيا، وقبل كل شيء، تريد واشنطن من اتفاق اللحظة الأخيرة في عمر إدارة باراك أوباما أن تبرّئ ذمتها من وزر التقاعس والتواطؤ حيال الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري خمس سنوات، وعدم قيامها بأي رد فعلٍ من أجل مساعدة شعبٍ أعزل يتعرّض للإبادة والتجويع والتهجير من وطنه، ليس على يد نظام مجرم فقط، بل بمشاركة إيران وروسيا ومليشيات طائفيةٍ لبنانيةٍ وعراقية وأفغانية وباكستانية.
والأمر الثاني الذي تراهن عليه واشنطن، كمكسب من الاتفاق، ضرب جبهة النصرة التي تعتبرها تنظيم القاعدة، ولا يفيد في ذلك تغيير اسمها، أو حتى جلدها.
من منظور موسكو، فتح الاتفاق الباب لرفع العقوبات الغربية عن روسيا، ولحلٍّ في أوكرانيا، وهذا ما كانت روسيا تصرّ عليه في الكواليس، وهو يعد أحد الأسباب التي جعلتها تندفع بقوة نحو الملعب السوري، وتدرك روسيا أن تفاوضها مع الولايات المتحدة وأوروبا، بخصوص شبه جزيرة القرم وأوكرانيا والدرع الصاروخي، مختلف كليا عنه في حال لم تجهز هذه الحملة العسكرية التي حققت نجاحات كبيرة، منها على وجه الخصوص منع نظام الأسد من السقوط، وتوجيه ضربة جسيمة للمعارضة السورية المسلحة التي بات ظهرها إلى الحائط، الأمر الذي جعل خياراتها محدودةً، وهامش المناورة أمامها شبه معدوم.
ويفيد هنا التوقف أمام جملة وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، الشهيرة "ما لم يؤخذ بحد السيف لن يعطى على طبقٍ فوق طاولة المفاوضات"، وهو يقصد بذلك رحيل بشار الأسد الذي تتمسّك به المعارضة شرطاً أساسياً لأي حل. وستكون هذه النقطة، كما جرت العادة، الأولى على جدول مباحثات الطرفين، وسيتم البدء منها في أول جولة تفاوض مرتقبة في مطلع الشهر المقبل. وهناك معلومات متداولة في الكواليس تقول إن الملاحق السرية في الاتفاق الأميركي الروسي تعطي له الحق في الترشح من جديد، وكذلك الإبقاء على رؤساء الفروع الأمنية الذين ارتكبوا مجازر بحق الأبرياء، وتقع عليهم مسؤوليات قتل قرابة نصف مليون، وتهجير ثلثي الشعب السوري، وتدمير أكثر من خمسين في المائة من سورية.
الهدنة هي الفرصة الأخيرة. هذا ما ردّده كيري ولافروف، ما يعني أن فشلها سوف يقود إلى ما هو أسوأ. وهذا ما أفصح عنه الوزير الأميركي، حين طرح عليه سؤالٌ حول البديل عن الاتفاق، واعتبر أنّ من دونه "كان العنف سيزيد بدرجةٍ كبيرة، وكان سوريون كثيرون سيذبحون، أو يضطرون للفرار من بلدهم. كانت حلب ستتعرّض لاجتياح بالكامل. وكان الروس والأسد سيواصلون قصفاً عشوائياً عدة أيام، فيما نحن نجلس هناك، ولا نفعل شيئاً". واستنتج من ذلك "أنّ الاتفاق فرصة أخيرة للإبقاء على سورية موحدة".
سيقود تفاقم الوضع إلى هذا الحد حكماً إلى الخيار المشؤوم، أي التقسيم. وهذا أمر يطمح إليه النظام والإيرانيون الذين ارتكبوا مجازر، ومارسوا سياسات التجويع، من أجل تهجير مناطق كاملة من سكانها الأصليين، بهدف إقامة ما تسمى "سورية المفيدة" التي هي كناية عن كانتون النظام برعاية طهران.
لا خيارات أمام السوريين. هدنة كاذبة أو طربوش أميركي روسي للتقسيم.
يصف المنسّق العام للهيئة العليا للمفاوضات الرؤية التي قدّمها في الاجتماع الوزاري لمجموعة من دول أصدقاء سورية (لندن 7 - 9)، والمتعلقة بـ «الإطار التنفيذي للعملية السياسية»، أنها «ورقة تفاوضية وديناميكية وليست جامدة وقابلة للتطوير وفق تطلّعات الشعب السوري»، ولأنني أعرف أن الدكتور رياض حجاب لا يقول مثل هذا الكلام للاستهلاك الإعلامي بل لأنه يقصده فعلاً وقولاً، أرى أن من واجب كل سوري المشاركة الفاعلة في تطوير هذه الرؤية لتكون وفق ما قاله: «رؤية لسورية ولجميع السوريين... لا تستثني أحداً على الإطلاق. رؤية للمشاركة... بحيث لا يكون إقصاء ولا تهميش». على ذلك، وانطلاقاً من واجبي وحقّي، أيضاً، فإنني أقدم ملاحظاتي النقدية هذه مساهمة مني، أولاً، بتطوير الرؤية. وثانياً، لاستدراك ما غاب عنها من نقاط جامعة في ما يتعلق بشراكة كل مكونات الشعب. وثالثاً، حرصاً على تعاضد جهودنا جميعاً لطرح رؤية تمثل في مضمونها طموحات السوريين في دولة ديموقراطية تعددية لا يستبيحها الاستبداد تحت أي مسمى جديد.
وقبل الذهاب إلى التفاصيل، يجدر بي الحديث عن الأخطاء الأساسية التي تضمنت هذه الرؤية، فهي، أولاً، اعتبرت «هيئة الحكم الانتقالية» بمثابة هيئة تشريعية وتنفيذية مطلقة الصلاحيات، إذ أنيط بها الإشراف على السياسة والأمن والقضاء والموارد، من دون أن تخضع لأي هيئة أو مرجعية، ومن دون إلزامها بأي سقف زمني، إذ لا يقلل من ذلك ذكرها كلمة «موقتة». وفي الواقع، فإن هذا الأمر يعزّز المخاوف في شأن تحوّل هذه الهيئة إلى سلطة مطلقة أخرى، مع احتمال هيمنة قوى معينة عليها، سواء من طرف النظام أو من طرف المعارضة، والأرجح من الطرف الأول، بحكم ضعف الثاني وتشتّته وضعف خبراته وقلّة إمكاناته بالقياس مع النظام، ولعله يجدر التذكير هنا بأن «هيئة الحكم الانتقالية» ستتشكّل من النظام والمعارضة (وكجزء أقل من مستقلين).
ثانياً، اللافت أن ما جرى هو عكس ذلك، إذ بدلاً من النص (في الرؤية) على إطلاق حرية العمل الحزبي، شرط الالتزام بالعمل السلمي ونبذ الكراهية والقبول بالعملية الديموقراطية وتداول السلطة والعلنية، تم النص على تجميد الأحزاب، ما لا يمكن تبريره، حتى بدعوى إقصاء حزب ما، لأننا في ذلك نصادق على سياسة النظام الذي ألغى الأحزاب وحرّم العمل السياسي، ولأن الشعب هو الذي يمكن أن ينبذ هذا الحزب أو ذاك في صناديق الاقتراع. أيضاً، وبدلاً من تحصين «الهيئة الانتقالية» بهيئات أخرى منتخبة، مثل المجلس التأسيسي، الذي يأخذ دوراً تشريعياً ورقابياً ويضطلع بمهمة صوغ الدستور، إذا بالرؤية تنص على تعيين مجلس بصفة استشارية.
ثالثاً، تحدث النص عن تشكيل مجلس رئاسي منبثق عن هيئة الحكم المحلي، وإعطائه صلاحيات كبيرة ومطلقة هي في الحقيقة صلاحيات الهيئة الانتقالية ذاتها، بحيث لا يعود ثمة لزوم عملي أو حقيقي لها، وهذه سقطة كبيرة كان ينبغي الانتباه لها وعدم الوقوع فيها.
لكل ذلك، من المستغرب أن تتقدم المعارضة بوجهة نظر كهذه، من دون أن تحصّن المرحلة الانتقالية بمحددات تحول دون عودة النظام في شكل أو في آخر لأخذ السلطة مجدداً، أو تحصّن «هيئة الحكم الانتقالية» من إمكان التحول إلى سلطة مطلقة، في الصلاحيات والمدى الزمني.
هذا كله يثير ثلاث شبهات، بخصوص نوعية المفاهيم أو الإدراكات التي حكمت «الهيئة العليا للمفاوضات» التي صاغت هذه الرؤية: الأولى، ربما ظنّها أن تشكيل «هيئة الحكم الانتقالية» يعني نهاية الصراع مع النظام، رغم علمها أنه سيبقى وأنه سيكون شريكاً لها في الهيئة الانتقالية، كما هو واضح من كل الترتيبات التفاوضية، بعد تحول المعارضة من هدف إسقاط النظام إلى هدف رحيل الأسد. والثانية، أنها تتصرّف، عن قصد أو من دونه، كأن المهم الوصول إلى السلطة لا تغيير السلطة (أي النظام)، من نظام تسلطي واستبدادي إلى نظام تشاركي وديموقراطي، أي كأنها تسهل إعادة إنتاج الاستبداد بدل وضع المعايير والسياسات والتشريعات التي تحول دون ذلك. والثالثة، أنها كهيئة شكلت فقط لإدارة العملية التفاوضية، وأن تمثيل المعارضة في «هيئة الحكم الانتقالية» يحتاج إلى توافقات وإجماعات أكبر وأوسع، وأن مهمة «هيئة الحكم الانتقالية» إعادة الأمر إلى الشعب في أقرب وقت، وفي أفضل الظروف والشروط الممكنة.
في التفاصيل، سأكرّس نقدي على بنود المرحلة الانتقالية (البنود من 14 - 59). ففي البنود (14 و18 و19) حديث عن تشكيل «هيئة حكم انتقالي» من دون التوضيح من الجهة التي ستشكّلها، وكيف، وما المعايير؟ علماً أن هذا يحتاج إلى مؤتمر موسّع للمعارضة، ووضع معايير مشدّدة، تتيح اختيار الشخصيات الأكثر كفاءة وصدقية وقدرة على العمل، بغضّ النظر عن أي اعتبار آخر، علماً أن البند (20) الذي تحدث عن الشروط حددها بالنسبة لأعضاء الهيئة من حصّة النظام، من دون أن يحدّد الشروط أو المعايير التي يجب أن يستحوذ عليها عضو الهيئة من حصّة المعارضة، إذ إن الحديث عن قبول واسع من المجتمع السوري هو كلام عام ولا يمكن القياس به. وهذا ينطبق أيضاً على البند (21) فمن الذي يحدّد من هي المرأة التي ستمثل المعارضة في هذه الهيئة؟ وهل أقامت المعارضة كيانات تمثيلية حتى تحدد هذه المرأة أو تلك، ووفقاً لمعايير الكفاءة والخبرة؟
البند الرقم (15) يؤكد أن هيئة الحكم الانتقالي هي سلطة موقتة لا تقرّر عوضاً عن السوريين، من دون وضع معايير، ومن دون توضيح الضمانة حتى لا تصبح أكثر من موقتة، وحتى لا تحلّ إرادتها محل إرادة غالبية السوريين، لا سيما أن البند التالي (16) يثير مخاوف كهذه. ومعلوم أن هذا البند يؤكّد تولي الهيئة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية كافة (مع العسكر والموارد والعلاقات الخارجية)، وضمن ذلك إصدار إعلان دستوري وتشكيل لجنة لمراجعة القوانين (البند 16)، فمن الذي يضمن كيف ستسير الأمور، وكيف سيتم صوغ الإعلان الدستوري ووفقاً لأي معايير (في ضوء ما جرى من مشكلات في التجربتين التونسية والمصرية)؟ وهذا يعيدنا إلى الأخطاء التي ذكرتها في مقدمة هذه المادة، إذ إن البند (16) يتحدث عن تجميد العمل بقانون الأحزاب بدل إطلاق حرية العمل الحزبي، واللافت أنه في البند ذاته يتحدث في شكل مخفّف عن «إعادة النظر في عمل الأجهزة التي تورّطت في الانتهاكات».
أيضاً البنود (22 إلى 25) المتعلقة بهيئة الرئاسة (المنبثقة عن هيئة الحكم المحلي) ما الداعي لها؟ وفي الواقع، فإن تشكيل كهذا سيصبح بمثابة حكومة الحكومة أو حكومة في حكومة أو كأنه الحكومة الحقيقية، بخاصة مع وجود «حكومة المرحلة الانتقالية (البند 26).
من ناحية أخرى، فإن البنود (35 - 38) تتعلق بتشكيل المؤتمر الوطني، لكن السؤال لماذا لا يتم ذلك بالانتخاب، وفي رعاية دولية؟ ثم في هذا الوضع كيف سيشكل المؤتمر ووفق أي معايير؟ ثم لماذا ينبغي أن يخضع لهيئة الحكم الانتقالية؟ ولماذا يتمتع بدور استشاري فقط؟
في البند (60) يتمّ الحديث عن المرحلة النهائية وعن انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية، ولا أعرف لماذا فات الهيئة العليا للمفاوضات أن تقلب الطاولة، وأن تشرع بتغيير النظام من أساسه، ومرة واحدة، بالحديث عن التحول من نظام رئاسي (قد يمهد لتجديد الاستبداد) إلى نظام برلماني، أو مختلط (على الطريقة الفرنسية مثلاً) أو أي خيار ديموقراطي يجمع عليه السوريون؟
أخيراً، في مراجعة للبند الأول (في باب المبادئ) لا توجد حاجة له، لأنه يشعل نقاشاً هوياتياً لا طائل منه، ولا موجب له (مع تثميني للبنود من 2 - 15) التي تحدثت في شكل لائق عن المبادئ التأسيسية لسورية الجديدة، لكنني فضلت أن أركّز على تفاصيل المرحلة الانتقالية لأنها هي التي ستحدد المسار للمستقبل، إذا استجاب النظام للعملية السياسية أو إذا توافرت الضغوط الدولية اللازمة لذلك.
قصارى القول، أجد أن من واجبي كمواطنة، ومن موقعي في المعارضة، طرح وجهة النظر هذه على السوريين، وعلى أوساط المعارضة، بخاصة على «الهيئة العليا للمفاوضات» التي أقدر عملها وجهودها، لدراستها واتخاذ القرارات اللازمة بخصوصها، مع علمي أنه لا يوجد نص كامل، وأن الحوار والنقد والتفاعل هي ما يمكننا عمله لتطوير خطاباتنا، وإضفاء المبدئية والصدقية عليها، ومع معرفتي أن الصراعات لا تتوقف على النصوص فقط، وإنما هي تتوقف أيضاً على موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية. وإذا كانت القوى الخارجية هي التي تتحكم بالصراع السوري في هذه المرحلة، فالأولى بنا أن لا نستكين لذلك وأن نبذل جهودنا لتطوير أوضاعنا وكياناتنا وخطاباتنا كي نعزز دورنا وكي نعيد الاعتبار لحقنا ولثورتنا.
يلخص الاتفاق الأميركي - الروسي الجديد حول سورية مسار التراجع التدريجي الذي أجبرت الثورة السورية على سلوكه، بعدما واجهت عنف النظام في بداياتها، واضطرت إلى اختيار الولايات المتحدة سنداً، لأنها كانت القوة الدولية الوحيدة القادرة، لو أرادت فعلاً، على لجم دمشق، ولأن العرب عجزوا عن تقديم دعم فاعل، فيما حشدت حليفتا بشار الأسد، إيران وروسيا، كل ما في قدرتهما لمساعدته في مواجهة شعبه.
كانت مواقف الأميركيين منذ البداية تعكس ارتباكهم وانقسامهم بين الرغبة المبدئية في مساعدة السوريين على التغيير وبين أولوية قرارهم بالانسحاب من بؤر التوتر الإقليمية، وفي مقدمها الشرق الأوسط. وكي يتفادوا الإحراج المتعلق بدورهم كقوة عظمى وحيدة، صاروا يقولون غير ما يفعلون، ثم ركزوا على بناء شراكات متعددة في المنطقة تعفيهم من تحمل المسؤولية كاملةً عن كل نزاع مهما كبر حجمه أو صغر، واختاروا الروس في سورية.
أطلق الأميركيون في البدايات شعارات مغرية وفضفاضة عن ضرورة رحيل بشار الأسد، وثمة في المعارضة من يعتقد بأنهم كانوا في وقت ما يعنون ما يقولون، لكنهم أخضعوا ذلك للضرورات التكتيكية في علاقتهم مع القوى الأخرى في المنطقة، ثم للاستراتيجيات التي تخدم رؤيتهم إلى تقليص دورهم في أقاليم غير مجدية، والتركيز بدلاً من ذلك على استشراف التهديد الآتي من الصين المتعاظمة الدور والطموح.
ومنذ انعقاد مؤتمر جنيف الأول والفشل الذريع في فرض آلية لتطبيقه، بدا واضحاً أن واشنطن في طريقها إلى التخلي تدريجاً عن أهدافها وجر المعارضة معها إلى هذا التراجع. وجاء جنيف الثاني ليسجل رسمياً هذا التراجع عن مسار التغيير في سورية، وسط دعوات إلى «العقلانية» واقتناص «الممكن». ولم تُجد المقاومة التي أبدتها المعارضة، وسط ازدياد انقساماتها بفعل التذبذب في الخيارات والوسائل. وما لبثت الأهداف السياسية التي رعتها أميركا أن تقلصت وتراجعت من تسوية شاملة للوضع السوري إلى التركيز على التفاصيل في كل جبهة مواجهة على حدة، وطفت على السطح نغمة التفاهمات الموضعية التي أغرقت فيها المعارضة رغماً عنها، بسبب تراجع قدرتها على الصمود وحرصها على إنقاذ ما أمكن من مقاتليها أو من المدنيين، وأيضاً بسبب ربط القوى الداعمة استمرار دعمها بخضوع المعارضة لرغباتها السياسية.
وسرعان ما طغت التفاهمات التفصيلية على المفاوضات بين الأميركيين والروس، بحيث هبطت إلى مرحلة أقل أهمية الدعواتُ إلى تغيير النظام وصارت مجرد لازمة عند كل تراجع جديد.
وجاء الاتفاق الأخير تتويجاً لسلسلة التراجعات الأميركية التي أعادت انتفاضة السوريين إلى نقطة الصفر تقريباً، وصوّرتها كأنها صراع بين قبضايات الأحياء الذين يمكن للوسطاء إقناعهم بتقاسم النفوذ، وليست ثورةً تهدف إلى إنصاف شعب يعيش منذ نصف قرن تحت عسف نظام دموي قاتل. وصار الأميركيون يحذرون من أن عدم قبول ما يوافقون عليه يعني تقسيم سورية، في ابتزاز مفضوح للمعارضين.
شكلياً، ألغى الطرفان المتفاوضان دور حلفائهما، لكن مثلما هو بيّن عملياً، فإن الروس يلتزمون في شكل حاسم دعم نظام الأسد، أكثر مما يلتزم الأميركيون دعم المعارضة، ولذا سارع النظام وحلفاؤه الإيرانيون إلى قبول ما يعرض عليهم، بينما يتردد المعارضون. وتأكد أن واشنطن الغارقة في أولوياتها تعطي الروس دوراً أكبر مما يفترض، وربما أكثر مما يستطيعون، لأنها ترغب في حل سريع يريحها ويسمح لها بمتابعة هدف «القضاء على الإرهاب» الذي يشكل أساس تفاهمها مع موسكو.
نجح الروس مع الوقت في دفع الأميركيين إلى الاختيار بين القضم المتدرج للمدن والمناطق الحرة، وبين القبول بالفصل بين «المعتدلين» و «المتطرفين»، أي نقل المشكلة إلى داخل معسكر معارضي النظام، وأدخلوهم في تفاصيل معقدة أنستهم الهدف الفعلي للمفاوضات التي تحولت إلى مساومة على تقاسم النفوذ. وسواء صمدت الهدنة الجديدة أم لم تصمد، فإن الثمن الذي ستدفعه المعارضة في المراحل اللاحقة سيكون مرتفعاً جداً. فإذا قبلت «خيانة» الأميركيين مساراً، لن تستطيع الإفلات من التنازلات التدريجية المطلوبة التي تعني عملياً طي صفحة الثورة، وإذا رفضت ستواجه منفردةً كل عنف النظام وحلفائه.
الشكوك في فرص نجاح الاتفاق الأخير لوقف العمليات القتالية في سوريا الذي توصل اليه المسؤولون الاميركيون والروس، عميقة وواسعة، وتشمل حتى جهات اميركية رسمية. مسؤولون في القيادة المركزية المسؤولة عن العمليات العسكرية في سوريا والعراق قالوا علناً إنهم لا يتوقعون تشكيل "مركز التطبيق المشترك" الذي سيشرف على تنسيق العمليات العسكرية الاميركية - الروسية ضد تنظيمي "داعش" و"جبهة" النصرة فوراً بعد مرور سبعة أيام من الهدوء وفقا للاتفاق، نظراً الى انعدام الثقة بروسيا. ومعارضة وزير الدفاع آشتون كارتر وكبار العسكريين لأي تنسيق ميداني مع روسيا معروفة، لانه سيؤدي في رأيهم الى اعطاء الشرعية للقوات الروسية التي تمارس القصف العشوائي في سوريا، كما سيكافئ الجيش الروسي الذي احتل شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، فضلاً عن أي تعاون كهذا سوف يكشف طبيعة عمل القوات الاميركية وكيفية جمعها للمعلومات الاستخبارية. المتحفظون عن الاتفاق في واشنطن يراهنون على الاسد وحلفائه لتقويضه حتى قبل بدء تطبيقه.
سياسياً واستراتيجياً ليس من المبالغة القول إن موافقة واشنطن على الاتفاق هي بمثابة تسليم أميركي بأن روسيا هي الطرف الرئيسي الذي يبادر عسكرياً وسياسياً في سوريا، حيث تجد واشنطن نفسها – بسبب غياب قوات أميركية في سوريا - مضطرة الى ردود الفعل. وهناك عقبات كبيرة امام تطبيق الاتفاق من أبرزها سجل النظام السوري وحلفائه مثل ايران و"حزب الله"، وأيضاً روسيا في عدم احترام تعهداتهم ووعودهم، وخصوصاً منذ الاتفاق الاول لوقف العمليات القتالية في شباط الماضي. الاتفاق لا يتطرق الى كيفية مساءلة أي طرف ينتهك الاتفاق، كما لا يشير الى مسؤوليات أطراف مثل ايران والميليشيات الشيعية.
وهناك صعوبات تقنية ولوجيستية، وخصوصاً بعد معاودة النظام وحلفائه حصار حلب، الامر الذي يجعل مسألة فك تداخل قوات "جبهة النصرة"، التي تريد واشنطن ان تضربها مع روسيا، والفصائل الاخرى في حلب مسألة بالغة الصعوبة. وأكثر ما تخشاه قوات المعارضة التي لا تؤيد "جبهة النصرة" سياسياً، لكنها تجد نفسها ميدانياً تحارب مع "النصرة" أو قرب "النصرة" قوات النظام وحلفائه، هو انه اذا بدأ الاميركيون والروس بالفعل عمليات مشتركة لضرب النصرة، ان يؤدي ذلك الى تعزيز الوضع العسكري لنظام الاسد (تعزيز نفوذ موسكو) الامر الذي سيلغي أي ضغوط على الاسد لمعاودة المفاوضات. تطبيق الاتفاق العسكري – في غياب تفاهم على عملية سياسية تؤدي الى رحيل الاسد وحاشيته الدموية - سيؤدي الى إلحاق نكسة كبيرة بالمعارضة السورية.
تبريرات الوزير كيري للاتفاق لا تتعدى التمنيات. هذه هي النتيجة المنطقية لخمس سنوات من التردد والتخبط الاميركيين في سوريا.
بعد أن أعلنت مقاطعتها لموسم الحج هذا العام وحرمان شعبها والشعوب غير الفارسية داخل جغرافية ما يسمى بإيران من أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، بدأ النظام الإيراني بترويج الإشاعات تارة، واللجوء للتهديدات المباشرة وغير المباشرة تارة أخرى، بهدف إفساد موسم الحج وإرباكه.
قررت طهران مقاطعة الحج لأهداف سياسية محضة، فبعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاقية الحج صدرت الأوامر من "الولي الفقيه" برفض التوقيع ومغادرة جدة والعودة إلى طهران فورا. ذلك التغير المفاجئ في المواقف كان يهدف في المقام الأول إلى إرباك موسم الحج والتأثير على بقية الدول والشعوب الإسلامية، من خلال ماكينة إعلامية ضخمة سخرت كافة إمكاناتها وبلغات مختلفة، لهذا الغرض. من هنا، ومع اقتراب موسم الحج، شاهد وتابع الجميع الحملة الإعلامية الشعواء ضد المملكة التي شنها مسؤولو النظام الإيراني وعلى رأسهم الخامنئي وبقية رموز النظام والكتاب والصحفيين بلغة أقل ما يقال عنها إنها تتصف بالبذاءة والوقاحة والسفه. وقد ارتفعت وتيرة هذه الحملة المحمومة مع غرة شهر ذي الحجة لتصل إلى مرحلة أن القارئ لا يجد خبرا أو تقريرا في الصفحات الرئيسية للصحف الإيرانية ووكالات الأنباء التابعة للنظام والحرس الثوري إلا وقد هاجم السعودية وأطلق أبشع الأوصاف والعبارات ضد المملكة.
إن هذا الوضع الإعلامي والسياسي المنحدر أخلاقيا ومهنيا ودبلوماسيا من الجانب الإيراني يؤكد على حقيقة الأهداف الإيرانية تجاه بلاد الحرمين حكومة وشعبا، ومحاولة إلحاق الضرر بها بكافة الطرق والوسائل، لكن القيادة السعودية تركت للنظام الإيراني المهاترات الإعلامية واللغة السوقية وسخرت جهودها وإمكانياتها -كما جرت العادة- لخدمة ضيوف الرحمن والسهر على راحتهم وأمنهم وأدائهم النسك بكل يسر وسهولة. بعبارة أخرى، كان بإمكان السعودية معاملة إيران إعلاميا بالمثل إلا أنها ربأت بنفسها عن السفاهة حتى لا يخلط القارئ والمراقب المحايد بين الطرفين، وعملت الرياض طبقا لأبيات الإمام للشافعي يرحمه الله عندما قال:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا
من هنا كان الرد السعودي غير المباشر على مزاعم طهران، ومحاولات تجييش دول العالم الإسلامي ضدها، على الأرض، فتحقق بفضل الله ثم بتوجيهات القيادة واحترافية العمل من قبل القطاعات المختلفة المشاركة في موسم الحج نجاح باهر على كافة الأصعدة وانسيابة كبيرة في تحركات الكتل البشرية من منى إلى عرفة ثم من عرفة إلى مزدلفة ثم الإفاضة إلى منى ورمي الجمرات وانتهاء بطواف الوداع، دون أي حوادث تذكر، بحمد الله.
هذه الحقيقة الماثلة على الأرض استدعت إلى الأذهان الدور الإيراني التخريبي في العديد من مواسم الحج خلال ثلاثة عقود ونيف، وأن غياب حجاج إيران وبخاصة من يقوم النظام الإيراني بإرسالهم إلى موسم الحج لأهداف لا تمت لأداء الركن الخامس بصلة قد كشف أكثر من أي وقت مضى ارتباط الأعمال التخريبية والمشكوك في مسبباتها بأهداف طهران تجاه موسم الحج لضرب السعودية في أهم ما تفتخر به وهو خدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما وتحقيق الأمن والأمان لضيوف الرحمن خلال موسم الحج.
في نهاية المطاف، بفضل الله وتوفيقه، نجحت السعودية نجاحا باهرا ومشرفا في تسخير كافة الإمكانات لضيوف الرحمن ليخرج هذا الموسم في أبهى حلله، وفي الجانب الآخر فشلت إيران فشلا ذريعا في إقناع، ليس دول العالم الإسلامي فحسب، بل والشعب الإيراني أيضا بإشاعاتها ومزاعمها الكاذبة ضد المملكة وقدرتها على إدارة الحج، وانكشف للجميع مشروع طهران الرامي إلى تسييس شعيرة الحج التي قال الله سبحانه وتعالى عنها في محكم التنزيل "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ"، وتحويلها إلى شعارات سياسية كاذبة وجدال عقيم وفسوق أيديولوجي وفكري مقيت، وتأتي الطامة الكبرى من رأس الهرم الإيراني عبر دعوته الحجاج للتوجه إلى كربلاء بدلا من مكة، فأي مرشد وأي فقيه وأي مرجع تقليد هذا؟!
لقد أبى النظام الإيراني إلا أن يفضح نفسه ورموزه أمام الجميع وتسقط ورقة التوت الأخيرة، "واللي ما يشتري يتفرج"، كما يقال.
الواقع أن الشعب الإيراني الجار يستحق أن يكون في حال أفضل مما هو عليه اليوم، فهل هناك من رجل رشيد ينقذ ما يمكن إنقاذه؟ الجواب يملكه الشعب الإيراني دون غيره!.
ساءت العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران إثر الغزو الأميركي للعراق، وتفاقم الأمر مع رئاسة محمود أحمدي نجاد، ثم الحرب في سوريا والتدخل الإيراني في اليمن.
كان العالم يأمل بأنه مع حكومة حسن روحاني ستبدأ خطوات الانفراج بين الدولتين. لم يفكر أحد بصداقة أو بتحالف، إنما مجرد أن يجلسا ويتحدثا إلى بعضهما البعض. في السابق كانت هناك على الأقل علاقات دبلوماسية بينهما، هذا غير متوفر الآن، وقد تراجعت العلاقات بين الدولتين مع روحاني لأن صلاحياته محدودة والسياسة الإيرانية الخارجية بيد كل من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
ثم جاء موسم الحج؛ حاول المرشد علي خامنئي أن يستفيد من عدم مشاركة الحجاج الإيرانيين هذا العام. يعرف أن السبب يعود إلى تعنت قيادته، ويعرف أيضًا أن الحكومة لا تتمتع بشعبية، ويعرف أيضًا وأيضًا أن الإيرانيين لا يكنون أي مودة للسعوديين، فرأى أنه من السهل عليه أن يشن هجومًا كلاميًا قاسيًا على السعودية واضعًا اللوم عليها، معتقدًا بأنه في ذلك يبعد المسؤولية عنه، لكن لم يكن له ما اعتقد.
يقول علي رضا نادر محلل السياسة الدولية في «مؤسسة راند» وواضع الكثير من التقارير عن إيران: «في الأساس لا تستطيع حكومة روحاني فعل أي شيء، إذ لا سلطة للرئاسة في إيران ولست متأكدًا من أن روحاني في وضع يسمح له بتعديل الأحداث أو تغيير مجراها ومن الصعب رؤية تغيير جذري في إيران».
أسأل: ماذا يريد خامنئي من العالم العربي ومن الشرق الأوسط؟ يقول: «أعتقد أن خامنئي يريد أن يتأكد من أن الجمهورية الإسلامية قوة مهيمنة على كامل المنطقة».
تبرر إيران سياستها العدوانية ضد العرب بأنها تتعرض لحصار عربي، وبالتالي إذا لم «تشن» هجومًا قويًا سيكون دفاعها ضعيفًا، وتضاعف هجومها في سوريا والعراق واليمن.
يقول نادر: «تعتقد إيران أنها إذا لم تقاتل (داعش) و(القاعدة) في العراق وسوريا فسوف تواجههما في الداخل. وخطتها أن تربط دول الخليج بهذه المنظمات فتحصل بهذه الطريقة على دعم شعبي أكبر داخل إيران، ودعم من الشيعة في الشرق الأوسط وربما بعض السنة، وتصبح أقرب إلى بعض الدول الغربية لجهة الادعاء بأنها ضد (القاعدة) وضد (داعش)».
يرى أنه إذا نجح التحالف الدولي والعربي بدحر «داعش» فإن إيران ستجد أعداء جددًا. ستكون هناك دائمًا مجموعات سنية متطرفة وستكون الولايات المتحدة الأميركية دائمًا الحائط الذي سترمي عليه إيران المسؤولية، وقد تعود إلى مضاعفة نشاطها ضد إسرائيل، ثم هناك المنافسة مع تركيا.
إن قائمة الأعداء بالنسبة إلى إيران غير محدودة حتى ولو انتهى «داعش»، ومن المستبعد أن يختفي بالكامل، لأنه ستظل هناك مجموعات أخرى تتحدى محاولة سيطرة إيران على العراق وسوريا.
يقول نادر: «من يعرف كم ستستمر الحرب في سوريا، وقد يحدث عصيان في العراق في المستقبل القريب، لهذا لا أعتقد أن الأسباب التي تقوم عليها السياسة الإيرانية الخارجية ستختفي».
شيعة العراق العرب ليسوا عملاء لإيران، وصار السوريون يقولون الآن: سوريا للسوريين فقط. ولا يعتقد نادر أن الكثير من الشيعة العرب يريدون القتال من أجل إيران. هناك أقلية صغيرة بينهم ملتزمة بالآيديولوجيا الإيرانية وتقاتل من أجلها، إما لأنها تعتمد كليًا عليها ماديًا، أو لأنها تشعر بالتهميش.
من الأسباب التي تجعل من إيران مؤثرة في العراق أن الحكومة المركزية العراقية لم تنجح في القتال ضد «داعش» فتحركت إيران ومولت الميليشيات الشيعية في العراق، الأمر الذي أضعف الحكومة المركزية هناك وجعلها تعتمد أكثر على إيران.
بالنسبة إلى نظام الأسد، فلا أصدقاء له سوى روسيا وإيران و«حزب الله» اللبناني.
ويتساءل نادر: هل العلويون وحتى السنة الذين يدعمون النظام يحبون إيران؟ كلا. لكنها تساعدهم على البقاء، وإذا انتهت الحرب الأهلية فإن الحكومة السورية ستكون أكثر منها قبل الحرب، اعتمادًا على إيران.
لهذا نرى الجنرال قاسم سليماني يتنقل بين العراق وسوريا، وكأنه «يشرف على ممتلكاته». رغم أنه لم يحسم الحرب في أي منهما حتى الآن. وساعد هذا على انتشار الشائعات بأنه قد يكون الرئيس الإيراني المقبل. جاء روحاني بعلي شمخاني مستشار الأمن القومي ليواجه سليماني، وهو شخصية مهمة لكنه بيروقراطي، في حين تصور القيادة الإيرانية سليماني كبطل. شعبيته تعتمد على أنه يدافع عن إيران ضد «داعش» وضد السنة المتشددين، وأنه هزم الأميركيين في العراق، وجعل من إيران دولة قوية في الشرق الأوسط. هذا المفهوم منتشر لدى النخبة في إيران التي ترى أن النظام السوري لم يسقط ولا تزال حلب محاصرة.
وهل هذا يعود إلى إيران أم إلى روسيا؟ يقول نادر: «للاثنين معًا. التدخل الروسي كان حاسمًا لكن إذا نظرنا إلى القوات البرية في سوريا نرى أن الأكثر فعالية ليسوا السوريين، بل هم العراقيون والإيرانيون و(حزب الله). وهذا يؤجج الحرب المفتوحة حول سوريا وحول دور كل من السعودية وإيران».
ويضيف نادر: نظريًا هناك مجال لتسوية الخلافات بين الدولتين، يتخوف من أن يصبح الصراع أوسع. ويرى «إن أبسط شيء أمام الدولتين أن تجلسا وتتحدثا حتى لو لم تتفقا حول تحديد مصالحهما».
يوضح: «إن الإيرانيين والسعوديين يعرفون القليل عن بعضهما البعض، وهذا بحد ذاته خطر». هناك احتمال بأن يحدث شيء في المنطقة؛ قد تحدث اصطدامات، وقد تتأثر مناطق أبعد، الشرق الأوسط متفجر ويزداد الأمر سوءًا ويصل إلى أفغانستان وباكستان.
لكن ما دامت إيران تضع في استراتيجيتها السيطرة على المنطقة مهما كانت الكلفة من خراب وخسائر، فلن يستطيع أحد إقناع الطرفين بالجلوس معًا، لا الولايات المتحدة قادرة ولا أوروبا. حتى الرئيس الأميركي المقبل لن يستطيع أن يقنع الدولتين بالجلوس، غير أنه من المفيد أن نرى ماذا سيفعل. الصورة قاتمة وقد تمتد إلى سنوات عدة.
يقول نادر: «من المثير مراقبة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثم هناك انتخابات رئاسية في إيران العام المقبل، والوضع في تركيا مائع، الترتيبات الداخلية في بعض الدول مؤثرة جدًا». ويضيف: «هناك أيضًا خلافة خامنئي. فإذا نجحت النخب السياسية في الدول المعنية بما فيها السعودية، واستطاعت أن تتفهم بعضها بعضًا، ستتوفر الفرصة، إلا أن عدم معرفة ما سيجري داخل كل دولة لا يسمح لنا بالتفاؤل، فالظروف التي تسمح بالتفاؤل غير متوفرة الآن».
أسأل: رغم أن الحكومة الإيرانية لا تتمتع بالشعبية فهل النظام مستقر؟ يقول نادر: «بالنسبة إلى أوضاع الشرق الأوسط نعم. وازدادت نسبة الاستقرار بعد خروج أحمدي نجاد من السلطة، وبعد توقيع إيران الاتفاقية النووية، لكن كل هذا نسبي لأنه بعد خامنئي سيكون الاستقرار قضية مفتوحة على كثير من الاحتمالات».
يرفض نادر المراهنة على الاستقرار المستقبلي لإيران، لكن: «إذا قارناها الآن بالعراق وسوريا ولبنان وأفغانستان نلاحظ أنها أكثر استقرارًا حتى من تركيا، لكن كل شيء قد يتغير بسرعة».
عام 2009 خرجت مظاهرات ضخمة في إيران، وكان الاقتصاد يعاني، وكانت هناك انقسامات داخلية كثيرة، لكن السلطة نجحت في تجاوز ذلك ووقفت إدارة الرئيس باراك أوباما وقفة الممانعة وكأنها تحمي النظام، عكس ما فعلت مع دول «الربيع العربي». كان هناك تفكير «أميركي أوبامي» بحمايته استعدادًا لما سيتوفر لاحقًا من التوقيع على «النووي».
لكن، الوضع الاقتصادي لا يزال سيئًا جدًا، إذ بين اللاجئين إلى أوروبا الكثير من الإيرانيين. ليس هناك لاجئ جاء من دول الخليج. وهذا دليل مؤكد على أنظمة يريدها شعبها وتريده، وعلى نظام يريد التوسع على حساب حماية شعبه. أسقط النظام الإيراني صفة الاحترام عن شعبه عندما أمر مليونًا منهم بالعبور إلى كربلاء لأداء ما سماه «زيارة عرفة» وألغى مبدأ السيادة عند العراق. هذه الخطوة تؤكد سعي طهران إلى شق صف المسلمين. لكن، هل يبقى الحرس الثوري هو الأقوى؟
يقول نادر: «إنهم أقوياء وبعد خامنئي سيكون لهم الدور الأساسي في تقرير من سيخلفه».
أسأل، أي إن الحرس الثوري سيكون العنوان في إيران؟ يجيب: نعم!
فجأة تذكرت وكالة أنباء النظام الأسدي (سانا) أن الجولان السوري تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفجأة تذكرت قيادة (الجيش العربي السوري) استباحة الطيران الإسرائيلي الحربي للجو والأرض السورية في عهد عائلة الأسد المجيدة.
«سانا» أعلنت أن الجيش السوري أسقط طائرتين إسرائيليتين إحداهما حربية في سعسع بريف دمشق، وأخرى للاستطلاع بريف القنيطرة في الجولان.
إسرائيل نفت دعوى النظام الأسدي، وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي إن هناك قذيفة، أو صاروخ أرض جو «طائش» جراء «الحرب الأهلية الداخلية السورية» ولكنه توعد في نفس الوقت فأكد بجملة كاشفة: «يعتبر الجيش الإسرائيلي، النظام السوري مسؤولاً عما يجري داخل أراضيه، ولن يحتمل أي محاولة للمس بسيادة دولته وسلامة سكانها».
متحدثة أخرى باسم الجيش الإسرائيلي أوضحت أن الضربة الأخيرة هي الرابعة منذ 4 سبتمبر (أيلول).
هناك من يسأل: هل هي «مسرحية» من قبل الرعاة الدوليين للنظام السوري، خاصة روسيا - رغم مطالبة موسكو الطرفين بالهدوء - لإعادة تأهيل النظام الأسدي شعبيًا، على اعتبار أن أي «نصاب» يتحرش بإسرائيل، صوريًا، أو بطريقة مبالغ فيها إعلاميًا، يحصد الشرعية والشعبية، لدى العرب، مهما ارتكب ضد شعبه من جرائم؟ والجواب واضح لدى هؤلاء.
لكن في الثقافة الأمنية الإسرائيلية، حتى لو صح هذا الاحتمال، يعتبر أمن إسرائيل «خطا أحمر» حقيقيًا، ليس كخط أوباما الرقيق اللطيف.
من أجل ذلك فالدولة العبرية تتعامل مع مسألة الحدود والقدرات العسكرية المهددة في جوارها، بسرعة وحزم.
نتذكر في هذا السياق حادثتين، قريبتين:
* يناير (كانون الثاني) 2015 أعلن «حزب الله» اللبناني عن مقتل 6 من عناصره بغارة إسرائيلية استهدفت أحد مواقعه في مزرعة الأمل بقنيطرة الجولان بينهم جهاد نجل «قبضاي» الحزب عماد مغنية، وقيادات من «حزب الله»، وعميد في الحرس الثوري الإيراني.
غضبت إيران حينها، وجعجعت ضد إسرائيل كعادتها، وقال القائد العام للحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، إن على إسرائيل أن تنتظر «عاصفة مدمرة».
* قبل ذلك وبحثًا عن شرعية ما، ترمم وجه النظام الهرم، في مايو (أيار) 2013 كانت الأخبار تتحدث عن أن بشار الأسد قرر فتح جبهة «مقاومة» بالجولان، وتظاهر عناصر من عصابة جبهة أحمد جبريل على الحدود، وبس!
إسرائيل احتلت نحو 12 ألف متر مربع من الجولان في 1981 ومن حينها اعتبرت جبهة الجولان أكثر الحدود الإسرائيلية أمنًا، وهو الأمر الذي ذكر به ولد النظام المدلل، رامي مخلوف، الغرب، للمقايضة، في بداية الانتفاضة السورية.
هناك مسلسل سوري كوميدي شهير، بطله فنان النظام غوار الطوشه، عنوانه: صح النوم!
للمرة الثانية خلال ستة أشهر، يتوصل الطرفان، الروسي والأميركي، إلى اتفاق "لوقف العمليات القتالية" في سورية، يستثني جبهة النصرة التي غدا اسمها جبهة فتح الشام، وتنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من أن واشنطن وموسكو حاولتا، هذه المرة، معالجة الأسباب التي أدت إلى انهيار الهدنة السابقة، بدليل المفاوضات الماراثونية المستمرة منذ أشهر، سواء على المستوى السياسي (كيري - لافروف) أو على المستوى الفني (اجتماعات روبرت مالي- ألكسندر لافرنتيف في جنيف)، والاعتناء بأدق تفاصيل تنفيذ الاتفاق، إلا أن حظوظ الهدنة التي أعلنها الجانبان يوم الجمعة الماضي لا تبدو مع ذلك أفضل من سابقتها.
ومع أن تفاصيل كثيرة في الاتفاق غير معلنة، وبعضها قد لا يتم الإعلان عنه أبداً، إلا أنه يمكن، مع ذلك، تلمس بعض السمات العامة التي قد تتحول، بمرور الوقت، إلى ألغام تفجر الاتفاق من الداخل. يلاحظ أولاً أن المسألة السورية يتم التعامل معها على نحو متزايدٍ باعتبارها شأناً ثنائياً روسياً - أميركياً خالصاً، بعد أن استبعد كل طرف حلفاءه من المفاوضات الفعلية عندما حان وقتها، مع ترك حق التقاط صور لهم على هامش اجتماعاتٍ يزداد طابعها البروتوكولي كل مرة. وإذا كان مفهوماً أن هدف أي اتفاق هو خدمة مصالح أطرافه، فالمفهوم أيضاً أن المتضرّرين والمستبعدين سوف يسعون إلى إفشاله. ثاني ملامح الضعف في الاتفاق أنه يتعامل مع قضايا ميدانيةٍ بحتةٍ بمعزل عن أي إطار سياسي للحل، فهو يتعامل مع موضوع وقف العمليات القتالية، ومراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، والتنسيق الأمني والعسكري لاستهداف جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة، ما يعني فعلياً أن غرض الاتفاق تجميد الوضع الميداني بين النظام والمعارضة، وتأجيل البحث في الحل السياسي إلى ما بعد وصول إدارة أميركية جديدة. لكن الحكمة التقليدية تقول: اتفاق ميداني ناقصٌ إطاراً سياسياً يساوي الفشل.
ثالثاً، صمم الاتفاق، حصراً، للتعامل مع الهواجس الأميركية والروسية، مغفلاً بذلك كل سياقات الصراع المحلية والإقليمية، فالرئيس بوتين كان يسعى وراء هدفين رئيسين، يوشك أن يحققهما له الاتفاق: الأول، والأكثر أهمية، انتزاع موافقة إدارة الرئيس أوباما على التنسيق أمنياً وعسكرياً بين قيادة العمليات الروسية في سورية وقيادة قوات التحالف الذي تقوده واشنطن (ما يعني اعترافاً أميركياً سياسياً وعسكرياً بروسيا دولةً ندّاً)، وثانياً، انتزاع موافقة واشنطن "لفرط" القدرات العسكرية للمعارضة السورية، من خلال استهداف جبهة فتح الشام، ومن ثم تفكيك جيش الفتح الذي يمثل التحدّي العسكري الأكبر لقوات النظام وحلفائه في شمال غرب البلاد. أما إدارة أوباما فقد حصلت، في المقابل، على مبتغاها في موافقة روسيا على وقف استهداف النظام المدنيين في مناطق المعارضة، لأن ذلك يخفف الضغوط عليها في عز موسم الانتخابات، بسبب عدم اكتراثها بمقتل العشرات منهم يومياً، فضلاً عن قذف آلاف اللاجئين باتجاه أوروبا. وثانياً، انتزاع موافقة روسية على تركيز الجهد الحربي على تنظيم الدولة وجبهة النصرة، بدلاً من استهداف "المعارضة المعتدلة". لكن هذا الأمر تحديداً هو ما يمثل العقدة الأكبر في الاتفاق، ففي حين تسعى المعارضة إلى تجنب الدخول في مواجهةٍ مع الروس والأميركيين، إذا هي رفضت الاتفاق، إلا أنها، من جهة أخرى، لن تستطيع الوقوف موقف المتفرّج على استهداف "النصرة" التي تعد جزءاً أصيلاً من جيش الفتح الذي يخوض معارك طاحنة ضد قوات النظام وحلفائه في جنوب غرب حلب وشمال حماة، وهذا ما أدى، فعلياً، إلى سقوط الهدنة السابقة التي كبلت حركة فصائل المعارضة، فيما استمر استهداف الروس والنظام الفصائل الإسلامية المكونة جيش الفتح، بحجة أنها "نصرة" أو تتعاون مع "النصرة".
هناك تفاصيل كثيرة تضمنها الاتفاق، وأخرى سكت عنها، مثل وضع المليشيات المدعومة إيرانيا، ووضع وحدات حماية الشعب الكردية، ونطاق حركة طيران النظام، وكل واحدة من هذه القضايا كفيلةٌ بتفجير الاتفاق من الداخل، لكن العنوان الرئيس يبقى أن هذا اتفاق أمني بامتياز، لا يوصل إلى حل في سورية، لا بل يمثل، بشكله الحالي، وصفة لاستمرار الصراع بعد حرفه عن مساره الأصلي.