مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٠ سبتمبر ٢٠١٦
لماذا تخشى أميركا انهيار داعش؟

ليس للأمر علاقة بعمالة تنظيم داعش للولايات المتحدة الأميركية، كما يعتقد بعضهم، فالتنظيم ليس صنيعة مخابرات أميركية أو إسرائيلية أو إيرانية أو روسية، كما يحلو لبعضهم أن يطلق عليه، لا لشيء سوى للهرب من مسؤوليةٍ حقيقيةٍ تقع على الجميع، أسهمت في ظهور هذا التنظيم. ومع ذلك، تخشى أميركا من انهيار التنظيم، لأسبابها الخاصة المتعلقة بأمنها بالدرجة الأولى.

عندما تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة على مساحاتٍ وأراض واسعة في العراق وسورية، كانت أميركا تراقب، وهي التي كانت تعلم جيداً أن حجم فظاعات رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، ستقود، لا محالة، إلى ظهور التشدّد بطريقةٍ أعنف وأكثر تطرفاً عن القاعدة التي كان يقودها أبو مصعب الزرقاوي في العراق تحديداً، وبقية أماكن وجود القاعدة حول العالم.

ولأن لأميركا خططاً وأهدافاً واستراتيجيات، ولأن لها بدل الطريق عدة طرق، للوصول إلى غاياتها، تركت التنظيم يظهر ويكبر ويتمدّد، ولعلنا نتذكّر جيداً التصريحات الأميركية التي هولت وكبرت من حجم التنظيم وقوته، بل إن وزير الدفاع الأميركي السابق، ليون بانيتا، قال إن الحرب على هذا التنظيم قد تستغرق 30 عاماً.

ساهم الإعلام الأميركي، والغربي عموماً، بالتطبيل لأسطورة داعش، فلقد ضجّت المواقع والصحف الأميركية والغربية بأخبار التنظيم، بعضها يتحدّث عن قوته، وبعضها الآخر يتحدّث عن أماكن انتشاره، حتى وصل الأمر بصحيفةٍ أميركية إلى نشر خريطة للعالم، وضعت عليها أماكن انتشار داعش، في حين ساقت صحيفةٌ أخرى أمثلة عديدة على كيفية استغلال التنظيم قضية اللاجئين، وكيف أن عشرات من عناصره تسرّبوا إلى أوروبا من خلاله. وأمثلةٌ لا مجال لحصرها وذكرها هنا ساهمت كلها في نسج أسطورة التنظيم، تماماً كما أسهمت أميركا وإعلامها في تعظيم شأن قاعدة العراق، وأنها التنظيم الذي لا يهزم، حتى أن قائد القوات الأميركية في العراق، ريكاردو سانشيز، قال، في مؤتمر صحفي في المنطقة الخضراء في بغداد عام 2005، إننا "ربما فقدنا الأنبار إلى الأبد"، في إشارةٍ إلى سيطرة القاعدة على المدينة، فتخيل كيف لقائد القوات الأميركية، بقضّها وقضيضها، أن يصدر على لسانه هذا التصريح!

تركت أميركا داعش يتمدّد في العراق وسورية، لتضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، فهي، من جانب، استعادت وجودها في العراق الذي خسرته وقتياً عقب انسحاب قواتها من العراق نهاية 2010 ومطلع 2011، وباتت لأميركا اليوم خمس قواعد كبيرة في البلاد.

الأمر الآخر أن أميركا وجدت في هذا التنظيم فرصة لها لسحب البساط من تحت تنظيم القاعدة، ولها في ذلك مآرب عدة، فللقاعدة استراتيجية مختلفة عن تنظيم الدولة الإسلامية، استراتيجية بيّن أهدافها الزعيم السابق للتنظيم، أسامة بن لادن، يوم أن قال لن تنعم أميركا بالأمن قبل أن نلمسه واقعاً في فلسطين، بمعنى أن استراتيجية القاعدة كانت تقوم على مهاجمة الغرب في عقر داره، وهو ما نفذته القاعدة في سلسلة هجمات دامية.

في المقابل، كان تنظيم الدولة الإسلامية يقوم على استراتيجية مركزية، تؤكد على دولة الخلافة التي لها حدود تتوسع وتنكمش، تبعا لطبيعة سير المعارك، ولاحظنا كيف أن تنظيم الدولة بدأ يسحب حتى ولاءات عناصر القاعدة الذين صدّقوا أنه بات هناك للخلافة حدود وجغرافيا يجب الدفاع عنها.

قوّت أميركا، عبر إعلامها وتصريحات مسؤوليها، تنظيم الدولة الإسلامية، حتى إن زعيمه، أبو بكر البغدادي باتت له مكانة كبيرة بين صفوف الجهاديين في العالم، وبزمن قياسي، في وقت خفت صوت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري.
لاحظنا، بعد ذلك، كيف أن مئات الجهاديين تدفقوا على العراق وسورية للدفاع عن دولة الخلافة، الأمر الذي وجدت أميركا أنه خلاص من المتشدّدين، وخصوصاً أتباع القاعدة الذين خلع عشرات منهم بيعتهم الظواهري وبايعوا البغدادي، والتحق كثيرون منهم بصفوفها في العراق وسورية.

ما يقارب من عامين ونصف العام من ساعة ظهور التنظيم وإعلان خلافته، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يقصف المواقع التي يتحصن بها عناصر التنظيم في الجغرافيا التي اختارها التنظيم لنفسه، أمر منح الولايات المتحدة وكل أطراف التحالف الدولي الفرصة للتخلص من كبار القيادات التابعة للتنظيم، أو حتى التابعة للقاعدة، ممن بايعوا البغدادي.

عندما شنت تركيا عملية "درع الفرات"، واستطاعت أن تطرد تنظيم الدولة الإسلامية من مدينة جرابلس السورية المحاذية للحدود مع تركيا، انكشفت حقيقة التنظيم، وأنه ليس بالقوة التي روجتها أميركا وإعلامها وكبار مسؤوليها، فقد تمكنت القوات التركية في ساعات من استعادة جرابلس وبلا خسائر كبيرة، الأمر الذي شجع الرئيس التركي، أردوغان، على مطالبة العالم بالسماح لتركيا بعمليةٍ مماثلةٍ في الموصل.

تخشى أميركا من انهيار "داعش"، لأنها تدرك أن القاعدة في الانتظار، وهي التي ستتلقف عناصر التنظيم، هذا إذا لم يكن تنظيم الدولة هو نفسه سيتبنى استراتيجية القاعدة، بعد أن ثبت له عدم جدوى استراتيجية البغدادي إقامة دولة الخلافة، الأمر الذي يعني أن أميركا والغرب ستكون على موعد مع صيفٍ لاهب، أو ربما حتى خريف ساخن.

أما لماذا لا تبقي أميركا على هذا التنظيم والحال هكذا، فللأمر، على ما يبدو، علاقة بصفحة أخرى من التآمر، خصوصاً في أعقاب الاتفاق الأميركي الروسي الذي بقيت أغلب بنوده غير معروفة.

اقرأ المزيد
٢٠ سبتمبر ٢٠١٦
هل تسرّعت أنقرة في تأييد التفاهم الأميركي - الروسي؟

خمس سنوات دموية، دفع فيها المدنيون ومدنهم الثمن الأشد كلفة. لم نسمع شيئاً بعد عن الديمقراطية الموعودة وخطط إعادة بناء سورية الجديدة، وإشارة الانطلاق نحو المرحلة الانتقالية. كل ما وصلنا إليه هو تفاهم أميركي روسي، لا نعرف حدوده القانونية ومشروعيته الدولية ومصداقيته السياسية، يعلن خطة وقف للنار على جبهات القتال، وتحييد بعضها.

تركيا التي انتقدت هدنة فبراير/ شباط المنصرم التي أطلقت يد روسيا في سورية، ما دفع وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إلى اتهامها بتقويض الهدنة، وطاردها على حدودها السورية، أشهراً طويلة، كابوس "داعش"، وشعرت "بالخطر الكردي"، يقترب أكثر فأكثر من الجوار السوري، وأفاقت، وفي حضنها ثلاثة ملايين وافد سوري، وصلت أعباء استضافتهم إلى عشرة مليارات دولار، وعانت، أخيراً، من التصعيد الواسع في عمليات حزب العمال الكردستاني في جنوب شرقها، تركيا هذه أعلنت تأييدها العلني للتفاهم الأميركي الروسي الذي تكشف أنه يشمل أكثر من مسألة وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة بين المتقاتلين.

وعلى الرغم من معرفتها أن اتفاق الهدنة يهيئ الظروف للحل السياسي الذي يحمي مصالح من يعد الاتفاق ويشرف على تنفيذه، قبل مصالح الحلفاء والشركاء، وأن مواد التفاهم لا تسري على تنظيمي داعش والقاعدة في سورية، وأن انتهاكات للهدنة سيتم التعامل معها بالتنسيق العسكري المباشر بين واشنطن وموسكو، وأن كلام لافروف نفسه، المختلف تماماً هذه المرة، وهو يتحدث عن تحولٍ في مواقف القيادات التركية حيال بشار الأسد، حيث لم تعد توجه الإنذارات
"بدعمها الاتفاق الروسي الأميركي في سورية، قد تكون تركيا دخلت في ورطة تقديم الكثير لموسكو ولواشنطن، وحتى لبشار الاسد نفسه، من دون أن تدري"

والتحذيرات المطالبة برحيله، على الرغم من ذلك، ترى تركيا في الاتفاق فرصةً لوضع حدّ للعنف الذي يعاني منه الشعب السوري منذ فترة طويلة، وأن هذه الهدنة ستكون أكثر فعالية، ولها الأثر في تهيئة الظروف الملائمة للانتقال إلى الحلّ السياسي، وأن التفاهم الأميركي الروسي سيكون فرصةً لتكريس قبول خطي حلب والموصل درعي الدفاع الأول لتركيا من جهة حدودها مع سورية والعراق، ومنع تنامي أي خطر على أمنها القومي على مقربة من الخطين. وأن الاتفاقية تتضمن احترام وحدة سورية وتماسكها، لمنع أي كيان قومي أو إيديولوجي يسعى إلى تغيير الحدود الجغرافية أو المعايير الديمغرافية للبلاد، وأن وقف القتال وتقديم المساعدات في حلب يمثلان أهمية كبيرة بالنسبة لها، وأنها ستدعم جهود ضمان صمود الهدنة، وأن الاتفاق قد يتحول خريطة طريق باتجاه وقف الأعمال القتالية، وسيسمح باستئناف المحادثات السياسية بشأن مرحلة انتقالية في سورية.

يقدّم المقرّبون إلى حكومة "العدالة والتنمية" في تركيا المشهد اليوم على أن القيادات السياسية تعلمت من دروس فشل اتفاقية وقف النار والهدنة في فبراير، وأنها نجحت في خمسة أشهر فاصلة في تغيير سياستها الروسية والسورية، والكثير من تحالفاتها المحلية هناك، والخروج من وضعية اخسر اخسر، على الرغم من أنها رفعت مع منظر سياستها السابق أحمد داود أوغلو شعار اربح اربح. وقد تمكنت أنقرة، بدعم مثل هذه الاتفاقية، من قطع الطريق على حلم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بالتنسيق مع واشنطن ودعم روسي، لناحية التمدّد عبر جرابلس ومنبج ثم الباب وتل رفعت، باتجاه إنشاء ممرّ واصل بين مقاطعتي كوباني وعفرين الكرديتين، فيما يكتفي أنصار زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، اليوم برفع الأعلام الأميركية على مداخل منبج لحمايتها من السقوط بيد الجيش السوري الحر والقوات التركية المساندة، والترديد أن الدخول التركي إلى جرابلس يشبه دخول مستنقعٍ يصعب الخروج منه.

ألا يزعج تركيا إعلان وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، التوصل إلى خطةٍ لإرساء هدنة، سيسفر صمودها عن تعاون عسكري بين البلدين؟ ومن يضمن لها أن حلفاءها المحليين في سورية لن يتحولوا إلى أهداف أميركية، بعدما كانوا حتى الأمس القريب أهدافاً روسية؟ أين عثرت القيادة التركية في بنود الاتفاقية على ما يضمن شروطها ومطالبها المعروفة، لناحية وجود خطةٍ واضحةٍ لتغيير النظام؟ وهل تشمل مواد الاتفاقية مطلب إزاحة الطرف الكردي الذي يقلق تركيا من طريق الحل المرتبط بالكيان الكردي على حدودها الجنوبية؟

يصوّر بعضهم التفاهم بين واشنطن وموسكو أنه قد يستهدف سياسة تركيا السورية، وأن تقع أنقرة في مصيدة ما نجحت في منعه سنوات طويلة، أي استهداف حلفائها المحليين عبر شن الضربات الجوية ضدهم تحت غطاء القضاء على الجماعات المتطرفة، وأن كل ما حصلت عليه كان هدنة عيد الأضحى، وتعهدات فتح الممر أمام إدخال المساعدات الغذائية إلى حلب.

ونكتشف اليوم أن ما قيل وكتب عن اتصالاتٍ بين أنقرة والنظام السوري كان هدفها، إذا ما تمت فعلاً، التمهيد لإعلان اتفاقية وقف النار والهدنة في سورية لتكون مقدمةً لتطبيق تفاصيل خطة التفاهم الأميركي الروسي. فهل فعلت ذلك أنقرة فعلاً، وهل قبلت مواد الاتفاقية وتفاصيلها التي ترفض واشنطن الكشف عنها، وتتضمن كثيراً من الغموض والتأويل والتفسيرات المتناقضة؟

هناك من يردّد أن التفاهم الأميركي الروسي يعني، بشكل أو بآخر، سقوط مشروع الدولة الإسلامية السنية التوجه، الإخوانية الميول في سورية، وأن قيام نظام إسلامي في سورية سيصبح ضرباً من الاستحالة، فهل تزعج مثل هذه التحليلات أنقرة أم لا، أم هي متمسكة بنظامٍ علمانيٍّ تريده نموذجاً أفضل لسورية المستقبل، حيث فشلت، في ذلك، مع "الإخوان المسلمين" في مصر، أم هي تريد التريث لانجلاء المشهد السياسي والأمني في سورية، وعندها تقول ما عندها؟
في الطرف المقابل، هناك من يرى أن تركيا اليوم بين خيار ما تسمى واقعية الصفقة الأميركية – الروسية ومحاولة تغيير الأوضاع الميدانية لصالحها، فهي تعرف أن مشروع وقف النار قد لا يدوم، لأنه لا ضمانات واضحة في حماية تنفيذ الخطة، وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع الانتقال إلى حكومة وحدة وطنية بعد الأسد. لذلك، نراها تتمسك بخطة تحويل بعض المناطق إلى مناطق آمنة، وطروحات إنشاء مناطق حظر الطيران في شمال سورية.

وإن تفاهم أنقرة وموسكو بشأن سبل التوصل، في أسرع وقت ممكن، إلى وقفٍ لإطلاق النار في مدينة حلب، ومسارعة تركيا إلى إعلان أن عمليةً بريةً تقودها يمكن أن تنجح في طرد تنظيم داعش من مدينة الرقة، إذا حصلت على دعم جوي من التحالف الدولي، يعكس حقيقة رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في التمسّك بإقحام الأكراد المحسوبين على صالح مسلم في خانة الإرهاب، متحدّياً الموقف الأميركي الذي يرفض المنطق التركي، ويعتبر هذه المجموعات شريكاً في الحرب على "داعش" في سورية وفي العراق.

بدعمها الاتفاق، تكون تركيا تدافع ربما عن إنجازات "درع الفرات"، وفتح الطريق أمام تمدّد حليفها الجيش السوري الحر في شمال سورية، وحماية حصته في المعادلات السياسية والأمنية المقبلة في خارطة سورية الجديدة، لكن أنقرة ملزمة بالرد على تساؤلاتٍ تكاد تتحول إلى انتقاداتٍ بينها كيف تدعم تركيا اتفاقاً لا تعرف مضمونه، ويرفض حليفها الأميركي الكشف عن بنوده، تحت مقولةٍ لن يصدّقها الأطفال، حتى في تجنب الكشف عن الوثائق أمام مجلس الأمن، حتى لا يُساء فهمها، وتضع المعارضة السورية في خطر! ألا ترى في ذلك استهدافاً لمصداقيتها ودورها في سورية، خصوصاً إذا ما بدا بعضهم يردّد أن أنقرة لعبت دوراً في إخراج التفاهم، ولا تريد البوح بذلك؟ ثم كيف سترد على ما يقال حول وجود مواد تتحدّث عن المحاصصة الطائفية، وإنهاء دور "أصدقاء الشعب السوري"، وفرض الوصاية الروسية على سورية بغطاء أممي؟ وخصوصا أن بعضهم بدأ يتساءل ما إذا كانت تركيا أطلقت يد كيري للمساومة على كل شيء، وقلصت في خطة "درع الفرات"، وحولتها إلى "درع الساجور"، ونسيان وحدات صالح مسلم في منبج تحت حماية العلم الأميركي؟

ويقول الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، إن أنقرة تدعم اتفاق وقف إطلاق النار. هذا من حيث المبدأ. لكن، للأسف، لدينا مخاوف بالغة بشأن استمراريته مع مواصلة المعارك التي تعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، واستئناف مباحثات السلام، لكن لافروف ينفي وجود اختلافات بين موسكو وأنقرة حول تصنيف "الإرهابيين" في سورية، ويؤكد أنهما تشتركان في الموقف نفسه بشأن ضرورة انسحاب قوات المعارضة السورية من المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهابيين.

بدعمها الاتفاق، قد تكون تركيا دخلت في ورطة تقديم الكثير لموسكو ولواشنطن، وحتى لبشار الاسد نفسه، من دون أن تدري، فهل علينا أن نقول، ونفترض أنها لم تحسب ذلك جيدا؟ فهناك حتماً ما هو أهم وأبعد من مسألة إيقاف النار لإيصال المساعدات إلى المحتاجين.

لا يشير الاتفاق إلى خريطة طريق مفصلة حول المسألة السورية، ويستثني دور المعارضة، بشكل أساسي، مع تهميشها في معظم الفقرات عند التطرّق إليها، بل هو يفتح الطريق أمام تعاون عسكري روسي أميركي للقضاء عليها بكل فصائلها، ويعطي روسيا المشروعية التي كانت تبحث عنها لاستهداف هذه القوى، بمباركةٍ أميركيةٍ، وتحت شعار محاربة مجموعاتٍ تم توصيفها إرهابية لا يمكن تبنيه، وترويجه والدفاع عنه بمثل هذه البساطة. هل هناك ما لا نعرفه في أسباب تأييد أنقرة التفاهم الأميركي الروسي؟

اقرأ المزيد
٢٠ سبتمبر ٢٠١٦
هل ينهي اتفاق حلب الأخير النفوذ الأميركي في المنطقة؟

يعتقد كثيرون أن أوباما أوصل أميركا إلى بر الأمان٬ وأخرجها من حروب شرق أوسطية٬ واستعاد توازنها الاقتصادي٬ وسمح لها أن تركز انتباهها على منطقة آسيا٬ ومواجهة التمدد الصيني. ولا يمانع أن يمنح البعض الرئيس أوباما وسام الذكاء والشجاعة٬ لأنه لم ينجر وراء العاطفة٬ وكان واقعًيا في سياساته: المصلحة الأميركية لا غير!

في سياق هذه الواقعية٬ توصل أوباما٬ منذ أيام مع الروس٬ إلى اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا وفتح ممرات إنسانية٬ علاوة على التعاون في محاربة الإرهاب٬ وبالتحديد «داعش» و«النصرة» (فتح الشام)٬ هذا التعاون يتأسس على فرضية تحييد الخلاف حول مصير الأسد٬ والعمل على هزيمة الإرهاب واستكشاف سبل الحل السياسي في سوريا٬ ما هو مسكوت عنه في الاتفاق هو الاعتراف الضمني بالأسد ونظامه٬ ومنحه بالممارسة الحق في الدفاع عن نفسه٬ وأن يكون شريًكا في الحرب على الإرهاب! بعبارة أخرى٬ لم يعد أوباما يرى في الأسد عقبة٬ وإزاحته شرًطا٬ ولا عجب إن سمعناه غًدا يقول٬ كما يردد الروس والإيرانيون: لنترك للشعب السوري حرية القرار. وإذا ما قال ذلك لم يعد ثمة خلاف مع الروس على الإطلاق٬ ولا مع الإيرانيين٬ إنما سيكون خلافه مع حلفائه في السعودية٬ وتركيا وبعض دول الخليج.

وهذا يعني أن سياسة أوباما تأسست على التحالف مع الأعداء٬ والابتعاد عن الحلفاء!

اعتبر أوباما في إحدى تجلياته (الواقعية) أن روسيا دولة من الدرجة الثانية (دولة إقليمية)٬ ونبذ رئيسها عدة مرات٬ وفرض عقوبات عليها٬ لكنه اضطر الآن أن يتابع مع روسيا تفاصيل في الشرق الأوسط٬ بعد تدخلها في سوريا٬ وفي عملية السلام بين الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية وكذلك في أزمة أوكرانيا٬ واضطر أن يعترف بأنها ند٬ وأن وجودها في سوريا أصبح واقًعا لا يغيره سوى المصادمة المباشرة معها٬ الاصطدام خيار استبعده أوباما منذ اليوم الأول٬ وبالتحديد عندما خرق الأسد خطه الأحمر في سوريا. وكم كانت فرحة أوباما بعدما تدخل بوتين لإراحته من ضرب الأسد وتبعات المواجهة مع الروس! كما ثَّمن لروسيا كثيًرا تعاونها معه لحل المشروع النووي الإيراني «سلمًيا».

يعتقد أوباما رغم إقراره بإيجابية التعاون مع روسيا أنها بتدخلها في سوريا تغرق نفسها في الوحل السوري٬ وأن أميركا ستكتفي بالتفرج على هذه الورطة! يرى أوباما أن روسيا ترتكب حماقة بتدخلاتها في أوكرانيا وفي سوريا٬ وأن النتائج عليها حصار أوروبي٬ وعداء عربي٬ وهواجس إسرائيلية! وهذا كله يجعل أميركا القوة الوحيدة المتحكمة في القرار٬ ومن دون تكاليف!

في الخليج العربي يتحرش الإيرانيون بسفن أميركا الحربية٬ ويجبرونها على إرسال الملايين من الدولارات في طائرات خاصة٬ وسًرا٬ ولا يتورعون دوًما عن تهديدها٬ ناهيك عما فعلوه في الماضي بالقوات الأميركية في بيروت٬ أو الُخبر وفي أماكن أخرى من العالم. وفي بحر الصين٬ يتحرك بوتين ويرسل سفنه الحربية لإجراء مناورات مع الصين٬ في تحٍد واضح للإدارة الأميركية التي تطالب الصين بتخفيف وجودها العسكري في هذه المنطقة! كما أن حليف أميركا٬ وصديق أوباما٬ الرئيس إردوغان٬ لم يتورع عن اتهام أميركا بالتآمر عليه٬ وتصالح مع بوتين٬ مع أنه ثاني أقوى دولة في حلف «الناتو»٬ المخصص أصلاً لمواجهة الاتحاد السوفياتي.

الأغرب٬ أن المرشح الأميركي دونالد ترامب قال علانية إن أوباما رئيس ضعيف٬ وإنه يفضل عليه بوتين القوي!

إذن نحن أمام واقع قلما رأيناه من قبل؛ رئيس دولة عظمى يقول بأن أميركا لا تزال القطب الأوحد٬ بينما تخسر يومًيا سمعتها٬ وكلمتها٬ وحتى حلفاءها٬ لقد تحولت أميركا في نظر الخصوم إلى كيان أجوف٬ وأصبحت سمعة رئيسها بلا معنى٬ لأنه يقول ما لا يفعل٬ وفي نظر الحلفاء أصبحت دولة مشكوًكا في مصداقيتها. فالمملكة العربية السعودية٬ كمثال٬ كانت الحليف الوفي والأوثق لأميركا٬ لكن أميركا تسن ضدها قانوًنا لمحاكمتها بتهمة الإرهاب للاستيلاء على مدخراتها المالية٬ أميركا تحاكم حليفها بالإرهاب٬ وتصادق عدوتها إيران٬ وتمدها بالمال٬ وتسمح لها بتطوير السلاح النووي والباليستي٬ بحجة الحفاظ على الاستقرار! في مفهوم الكونغرس أصبحت المملكة التي لم تتلفظ بكلمة ضد أميركا٬ ولم تتواَن لحظة عن مساعدتها متطرفة٬ وأصبحت إيران٬ قاتلة المارينز في لبنان والخبر في السعودية٬ ومنشئة الميليشات الطائفية٬ والمخططة لقتل السفير السعودي في أميركا٬ وقاتلة الجنود الأميركان في العراق٬ وحاضنة قياديي «القاعدة»٬ والمترجمة لكتب مفكر الإرهاب سيد قطب في نظر أميركا٬ والمشعلة لبركان الحقد الطائفي٬ دولة معتدلة٬ وأصبحت المملكة الحليفة عدوا!

ما يهم أن هذه السياسة الأميركية المشوشة كانت لها تداعياتها في المنطقة والعالم٬ على المستوى العالمي نشاهد اليوم غياب الهيبة الأميركية٬ وانفراط القطبية الأحادية٬ واستبدال الأقطاب المتعددة بها٬ وتزايد النزاعات٬ وخواء الأمم المتحدة٬ في أوروبا تدخل الروس لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية٬ واقتطعوا أرًضا من أواكرانيا وضموها لروسيا٬ وتمددت الصين في بحر الصين الجنوبي٬ وأنشأت٬ رغم صدور قرار دولي من محكمة العدل الدولية٬ حظًرا جوًيا فوق منطقة بحرية متنازع عليها٬ وفي أفغانستان تعاظمت قوة «طالبان» واتجهت باكستان أكثر صوب الصين. وفي منطقة الشرق الأوسط نشاهد تسارع دول كثيرة نحو روسيا٬ وكانت آخرها تركيا٬ لعقد تفاهمات مع القيصر الروسي الذي دخل المنطقة ولا يفكر في الخروج منها٬ وحتى الصين أصبح لها موطئ قدم في الشرق الأوسط على حساب الرصيد الأميركي.

لقد أظهر اتفاق حلب الأخير أميركا على وجهها الحقيقي؛ دولة ليست بالعظمى٬ وعاجزة ليس عن حماية حلفائها٬ بل حتى مصالحها٬ كانت أميركا٬ مع بداية عهد أوباما٬ دولة تدافع (ولو انتقائًيا) عن حق الشعوب بالحرية٬ وتطالب بنزع السلاح النووي٬ وتفعيل الأمم المتحدة٬ ومحاربة الإرهاب٬ وأصبحت بعد نهاية عهده دولة متآمرة على حرية الشعوب٬ وعلى حقوق الإنسان٬ ولا تبالي بانتهاكات القانون الدولي٬ ولا بانتشار السلاح النووي٬ ولا بتحول الأمم المتحدة إلى داعم للاستبداد والقهر.

اقرأ المزيد
٢٠ سبتمبر ٢٠١٦
ليس لها إلا لـ“أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “

قال لي لاتستخدمها، فهي باتت مستهلكة لحد أن أحداً لن يتأثر بها ،  قررت ترك الموضوع بحثاً عن توصيف أو شيئ يساعدنا على لئم جراحنا ، و تضميدها وحدنا ، وفي الوقت ذاته أن نبقى نحتمل مزيداً من الضربات ، و لكن لا أجد سوى أن ألجأ لها ، لأكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ” .

أرقب مناقشات الجمعية العام للأمم المتحدة ذات الرقم ٧١ ، وما ينهال منها من صور عن لقاءات و اجتماعات ثنائية و ثلاثية و كذلك تلك ذات الـ٢٣ جهة في آن معاً ، و في نفس الوقت أتابع عداد الغارات ، و سجل الرصد و مناطق القصف و نوعيته و مخلفاته من بارود و غبار و منازل و أحلام و أتوقف متوجساً أمام الأرواح المتصاعدة ، و أنا أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

تتكثف الصور و الفيديوهات من مواقع استهداف الهلال الأحمر في ريف حلب الغربي ، و أشاهد فظاعة ماحدث و كيف مزقت أجساد كانت ناعمة و طاهرة، إلى حد يُسمح لها بلمس الطعام دون أن يمتعض أحد ، و أتلقف تصريحات الغضب من الدول و الهيئات و المنظمات ،  لأتعامل بنحو اعتيادي مع خبر تعليق الأعمال الانسانية في سوريا ، و أقف قليلاً لأتسائل هل المطلوب تعليقها أم تعليق عمل سلاح الجو و نزع مخالبه ، و أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

تصدر روسيا بياناً توضيحياً حول الاستهداف بالأمس وتنفي كل ماحدث و تضعه في اطار المسؤولية الدائمة لـ”الثورة” و “الثوار” ، و يتبعها الأسد ببيان مشابه و أكثر “وقاحة” ، و أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

تبدل الأمم المتحدة الكلمات و تقول أن ماحدث هجوم مجهول المصدر و ليس قصف جوي ، و أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

أرقب المتحدثين الذين يعتلون منصة الأمم المتحدة ليبثوا كلماتهم في المحفل الأممي، فأوباما يقول أن روسيا تسعى لاعادة أمجادها بالقوة ، و هولاند يعبر عن العجز بالقول “كفى” ، الأردن و لبنان يحملان همومهما من اللاجئين السوريين باحثين عن مصدر رزق جديد ، و قطر تقول أن لامكان للأسد و السعودية تساندها بذات القول ، و تركيا تنضم لهما و تشدد على قتال “الارهابيين” ، و أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

في اجتماعات خصص لها اسبوع يبحث الجميع عن مفردات و هوامش في الحرب علي الشعب السوري ، ينتقون بشدة العبارات و التعابير الوجهية و المخفية ، حتى لا يجرح شعور أحد ، بمن فيهم القاتل ، و لكن جميعهم يصمتون أمام “الأسد” و يقولون “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “.

ليس تكبيراً به أو رفعاً من شأنه ، و إنما هو العجز المتولد من المصالح المتضاربة ، والجودة المتوفرة من قبل الأسد في توفير المنطقة الملائمة للاشتباك العسكري بين جميع الدول ، فيما تكون للسياسة مكان آخر .

و من المفروض أن نملك أدوات فك العقدة و لكن يبدو أنها مفقودة هي الأخرى ، و لأعود و أكرر “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ “

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
«فولكلور أممي» وملايين المنكوبين

تبدأ في نيويورك اليوم الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تشكل مناسبة لقادة الدول الـ193 الأعضاء في المنظمة، لمخاطبة نظرائهم والعالم ومناقشة ملفات عدة والبحث عن تسويات لأزمات. ودرجت العادة أن تعقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة، قمم تركز على مواضيع محددة تتطلب أوسع قدر من التعاون بين الدول.

وفي كل عام تكون الاجتماعات فرصة لظهور وجوه جديدة على المسرح العالمي، كما سيكون الحال بالنسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ومناسبة لوداع آخرين وأبرزهم هذه السنة الرئيس الأميركي باراك أوباما المنتهية ولايته والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي سيكون التنافس على خلافته أحد المواضيع المطروحة على هامش الاجتماعات، علماً أن اختيار خلفه أمر متروك لمجلس الأمن.

وهذه الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت أولى جلساتها في لندن في العام 1946. وعلى امتداد تلك السنوات الطويلة، قلما علقت في الأذهان أحداث مميزة تخللت اجتماعات الجمعية العامة، مثل إقدام الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف على الضرب بحذائه على الطاولة متوعداً الأميركيين، أو الظهور الأول للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أو الخطاب الأخير للزعيم الليبي معمر القذافي.

والملفت أيضاً أن أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة قلما شكلت بحد ذاتها منطلقاً لمبادرات تاريخية، بل شكلت فرصة لعقد قمم على هامشها لهذا الغرض. ولعل أبرز المناسبات من هذا النوع هذا العام، اللقاءات حول أزمة المهاجرين واللاجئين والتي استهلت بقمة مطلع الأسبوع نوقشت خلالها أزمة الهجرة الأخطر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية والمتداخلة مع الفوضى المستحكمة في ليبيا وأيضاً مع النزاع السوري الذي برزت قناعة أخيراً على أن حله بات كالعادة في عهدة التسويات الأميركية - الروسية.

وكانت قمة الهجرة موضع انتقادات حتى قبل انعقادها بأيام، وذلك لتبنيها إعلاناً سياسياً بدائياً، لم يتضمن أهدافاً محددة بأرقام ولا التزامات قاطعة عن كيفية تقاسم أعباء اللاجئين الذين ناهز عددهم 24 مليوناً (فضلاً عن 41 مليون نازح داخل بلدانهم)، وهو رقم مخيف بحد ذاته، بل اقتصر الإعلان على تأكيد «احترام الحقوق الأساسية» لهؤلاء وعلى التعاون الدولي من أجل مكافحة تهريب البشر، إضافة إلى محاربة العنصرية والعداء للأجانب في الدول التي تستضيفهم وحق أطفالهم في التعليم.

ومع غياب الأهداف المحددة والالتزامات الواضحة حيال موضوع الهجرة، باتت الآمال في هذا الشأن معلقة على قمة ثانية يستضيفها أوباما اليوم، ستخصص لجمع مساهمات الدول وتعهداتها المالية تجاه المهاجرين والنازحين لدعم البرامج الإغاثية عالمياً.

لا شك في أن قضية اللاجئين سببت ضغوطاً هائلة على دول أخذت تفقد قدرتها على التحمل، مثل اليونان وأيطاليا، ما بدأ يهدد بخلافات أوروبية، تجسدت بوادرها في انتقادات حادة وجهها رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو رينزي إلى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية انغيلا مركل، وهي انتقادات تكاد ترقى إلى مستوى اتهامهما بعدم المبالاة حيال معاناة بلاده مع الهجرة.

سيكون قدر كبير من الأضواء مسلطاً على نيويورك هذا الأسبوع، لكن الواقعية السياسية تقتضي عدم الرهان كثيراً على ما يجري أمام الكاميرات بل خلف الكواليس، خصوصاً في لقاءات ممثلي الدول الكبرى مع مندوبي قوى إقليمية فاعلة، غير أن الرهان الأساسي يبقى التوصل إلى تفاهمات، أقله في ما يتعلق بإدارة أزمة اللاجئين، لئلا تتحول الاجتماعات في نيويورك إلى مجرد «فولكلور» أممي لا يقدم ولا يؤخر في الاستحقاقات والأزمات.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
الأسد لن ينتصر

منذ زيارته داريّا المنكوبة، تعاظم شعور بشّار الأسد بالانتصار. فهو تصرّف وتحدّث على هذين النحو والافتراض، فكأنّه استنتج وضعه من كونه نقيض داريّا. وما دام أنّ الأخيرة صارت خراباً، فإنّه كضالع في سياسات الإبادة غدا المنتصر التلقائيّ.

والحال أنّ الأسد ضمن لنفسه هدنة روسيّة - أميركيّة بدت نافعة له. صحيح أنّها قد لا تعيش ولا تتحوّل مدخلاً إلى تسوية سياسيّة، لأسباب أهمّها أنّ الأميركيّين والروس ليسوا متّفقين كثيراً على اتّفاقهم الجديد، ما توحي به الضربة الجوّيّة الأميركيّة الأخيرة. مع هذا ثمّة من يعوّل على أنّ الأسد، وفي الحالات جميعاً، كرّس نجاحات ونمّ عن نجاحات. فمطلب إزاحته لم يعد مطلباً أميركيّاً ولا عاد مطلباً تركيّاً. أمّا الميليشيات الإرهابيّة الداعمة له، اللبنانيّة منها والعراقيّة والأفغانيّة، فلفّ الصمت الدوليّ دورها مثلما لفّ أوضاع السوريّين الذين يتلذّذ النظام بسجنهم وقهرهم وتغييبهم. وهذه وسواها ممّا أطنب النقّاد والمعلّقون في تناوله تقول إنّ الأسد انتصر، وإنّ انتصاره يعكس توازنات قوى محلّيّة وإقليميّة ودوليّة لاءمته ولم تلائم معارضيه.

مع هذا، يصحّ الرهان على أنّ ذاك التأويل سراب، وأنّ الأسد لا يمكن أن ينتصر، لا اليوم ولا في أيّ غد مقبل. وهذا لا يرجع فحسب إلى أنّ سلطته تقتصر على نصف المساحة السوريّة، وإلى أنّ جيشه وأجهزته الأمنيّة أضعف كثيراً من أن تستثمر بذاتها أيّ انتصار وأن تحوّله إلى واقع سياسيّ. وطبعاً لا يُعوّل كثيراً على الصرخات الحماسيّة البريئة لبعض المعارضة من أنّهم «لن يمرّوا»، خصوصاً أنّ مثلاءهم سبق لهم للأسف أن مرّوا في إسبانيا وفي كلّ مكان عرف الخطابة الحماسيّة.

واقع الأمر أنّ الأسد لن ينتصر لأنّه أهين على مرأى شعبه والعالم وعلى مسمعهما. وهذا نمط من الأنظمة يحتمل إهانة واحدة كبيرة يعالجها بقمع يُنهي الاعتراض بالدم قبل أن تعود الأمور إلى «طبيعتها». إلّا أنّه لا يحتمل خمس سنوات ونيّفاً حفلت بالإهانات وتمزيق الصور ودوس التماثيل وتمريغ الرموز.

ولمّا كان النظام، الضعيف الأدوات والخائر القوى، مضطرّاً، بعد انتصاره المفترض، إلى إدامة الاستعانة بالروس والإيرانيّين وبميليشياتهم، كي يبقى نظاماً، فهذا ما سوف يضاعف طبيعته كتركيبة مُهانة وذليلة. وهي طبيعة لابدّ من أن تفاقمها المقارنة التي يلحّ عليها تبجّح مثلّث الأضلاع: انتصاريّ مشوب ببقايا اللغة القوميّة لحزب البعث، و «حضاريّ» أنتجته السنوات الماضية حيال «العربان»، وسياديّ ووطنيّ حيال «الإمبرياليّة وعملائها».

ثمّ إنّ ظروف التهجير والنزوح ممّا طاولا ملايين السوريّين تجعل التأطير والضبط اللذين لا يقوم نظام أمنيّ من دونهما في غاية الصعوبة. فكيف حين نضيف تعرّض ربع الشعب السوريّ لتأثيرات الخارج الذي انتقلوا إليه وتفاعلوا معه، ويقظة بعض الروابط الطائفيّة أو القرابيّة أو العداليّة مع أطراف في الجوار مناهضة هي الأخرى للأسد؟

وبعد كلّ حساب، هل يمكن أن يقوم، في العالم العربيّ، بعد تجربة ثوراته، نظام يضمّ رصيده أقصى الطغيان وأقصى الثأريّة وأفدح الأكلاف الإنسانيّة وضعفاً في الأدوات العسكريّة والأمنيّة والسياسية والاقتصادية التي تجعل الحاكم حاكماً، كما تجعل الاستعمار الخارجيّ المباشر حالة يوميّة وعيانيّة وملموسة؟

صحيح أنّ حظّ الأسد يبقى أفضل من حظوظ القذّافي وصدّام لأسباب معروفة، إلّا أنّ رحيل الأوّلين قصّر فاتورتَيهما الدمويّتَين بقدر ما أطال البقاء على قيد الحياة الفاتورة الدمويّة لزميلهما السوريّ. وهذا يسمح بالقول إنّ الأسد لن ينتصر ولن يحكم. أما أن يُهزم أيضاً معارضوه، وأن تكون سورية القديمة التي هندسها أبوه هي نفسها قد انتهت، فهذان موضوعان آخران.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
القصف الذي لم يحدثث

للأسف؛ إن العمل الصحيح الوحيد الذي قامت به الولايات المتحدة في سوريا طوال خمس سنوات، هو غارة خاطئة. فقد قصف طيرانها لأول مرة مواقع عسكرية لقوات نظام الأسد في محيط مطار دير الزور، استهدف كتيبتي المدفعية والصواريخ. واشنطن اعترفت واعتذرت، مع أن القوات الروسية قصفت مرات عديدة مواقع للمعارضة السورية (الجيش الحر)، إلا أن موسكو لم تعتذر ولم تبرر.

ولو أن القوات الأميركية كررت قصف قوات الأسد، وميليشياتها المرافقة لها، عن خطأ أو عمد، لوجدت رغبة في المفاوضات للقبول بحل سلمي ينهي هذه المأساة. إنما بسبب غياب التوازن في وجه روسيا وإيران الداعمتين لنظام الأسد، تستمر الحرب والمأساة والمخاطر، وبسبب انعدام التوازن ولدت «داعش». وبسببه يرفض النظام السوري أي حل لا يعيد له السلطة على كامل البلاد.

وهذه هي المرة الأولى التي تتعرض لها القوات السورية للقصف، بعد أن تمتعت على مدى سنوات القتال بهيمنة جوية مطلقة، أعطى الأسد شعورا بأن نظامه آمن مهما فقد من قوات وخسر معارك، لذا يرفض القبول بحل سياسي معقول ينهي الأزمة.

هل كان القصف متعمدا كما تردد وسائل إعلام الأسد؟ بالطبع لا، لأن الأميركيين كانوا يستطيعون تبرير القصف بلغة مختلفة، وتحويل اللوم على قوات النظام أو على شريكهم الروس، إلا أن واشنطن اعترفت بأنه خطأ ووقع نتيجة غياب التنسيق. وقد كان واضحا، منذ إعلان موسكو عن مشاركتها في الحرب في سوريا، حرص واشنطن على تفادي الصدام بين قوات التحالف الذي تقوده والقوات الحليفة لنظام الأسد، وكل الخلاف الذي نسمع عنه مقصور على مسؤولية إدارة العمليات العسكرية هناك. والجميع، الأميركيون والروس والأتراك، يتفقون داخل الأراضي السورية على عدو واحد هو «داعش». ويتميّز الروس بوجود عسكري كبير ثابت على الأرض ضمن مساندتهم للقوات السورية والإيرانية لمقاتلة المعارضة السورية، التي لا تزال تدهش الجميع بقدرتها على الصمود. المعارضة السورية المسلحة أفشلت وعود الأسد والإيرانيين والروس، الذين تنبأوا بنهاية للحرب بعد اتفاق الدول الثلاث على شن الحرب بشكل جماعي، لم ينجحوا رغم نجاحهم في محاصرة «الجيش الحر» في مناطق عديدة، وقطع معظم إمداداته. إلى اليوم لم يستطع العدوان الثلاثي، قوات الأسد وروسيا وإيران، من الاستيلاء على حلب التي كانت أول وعد قطعوه منذ نحو عام.

وقد يدفع قصف الأميركيين لقوات الأسد الروس إلى التنسيق معهم من أجل تفادي تكرار الأخطاء القاتلة، وقد يكون العكس هو الصحيح؛ أن يستخدمه الروس حجة لتحجيم الحضور العسكري الأميركي في الأجواء السورية التي لطالما اعتبرتها موسكو خرقا لسيادة الدولة السورية.

لم يبق من الوقت الكثير في إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حتى يمكن أن يبنى على المفاوضات الأخيرة بين موسكو وواشنطن أفكار جديدة للحل السياسي، ولا يمكن أن نتصور أن القصف الخاطئ سيحقق تغييرا في إدارة الحرب للقوتين العظميين في سماء وأرض سوريا. وما قيل عن «اتفاق سري» بين وزيري الخارجية، وفق تصريحات منسوبة لوزير الخارجية الروسي الذي يطالب بنشرها علانية، أيضا لا تبدو أكثر من كونها نقاشات لم تحقق شيئا على الأرض.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
لا تستطيع إيران تبرئة سجلها من الإرهاب

كان رونالد ريغان يحبذ اقتباس كلمات جون آدامز الشهيرة "الحقائق أمور عنيدة"، لذا عندما صرح محمد جواد ظريف –وزير خارجية إيران- حول محاربة التطرف، تُظهِر لنا الحقائق أن تعليقاته كانت ساخرة في الغالب ولا تمثل سوى دعاية كاذبة.

الحقيقة هي أن إيران دولة رائدة في دعم الإرهاب، بوجود مسؤولين حكوميين ضالعين بشكل مباشر في عدد من الهجمات الإرهابية منذ 1979، بما في ذلك التفجير الانتحاري للسفارة الأميركية في بيروت، وثكنات البحرية الأميركية في مطار بيروت الدولي، وكذلك تفجير أبراج الخبر في عام 1996، وشن الهجمات ضد ما يزيد عن عشر سفارات من ضمنها السفارة البريطانية وسفارة الولايات المتحدة الأميركية وسفارة المملكة العربية السعودية، واغتيال الدبلوماسيين حول العالم، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر.

لا يمكن الالتفاف حول حقيقة أن إيران تستخدم الإرهاب للمضي قُدماً في سياساتها العدائية، فلا يمكن لإيران أن تتحدث عن التصدي للتطرف في حين أن قادتها وفيلق القدس وحرسها الثوري مستمرون في تمويل وتدريب وتسليح وتسهيل العمليات الإرهابية.

إذا كانت إيران تريد إظهار صدقها ورغبتها بالمساهمة والمشاركة في الحرب العالمية للتصدي للإرهاب، فيمكن لها أن تبدأ أولاً بتسليم قادة تنظيم القاعدة الذين استمتعوا بالأمان الذي قدمته لهم إيران على مدى 15 سنة بمن فيهم ابن أسامة بن لادن "سعد" وقائد عمليات القاعدة "سيف العدل" وهما من بين العديد من العناصر المدانين بتنفيذ الهجمات الإرهابية ضد السعودية والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الأهداف. وأنها لحقيقة أن سيف العدل قد أصدر الأوامر بتنفيذ التفجيرات في الرياض والتي أودت بحياة أكثر من 30 شخصاً بمن فيهم 8 أميركان، وذلك من خلال مكالمة هاتفية أثناء تواجده في إيران في مايو 2003، ومع هذا لا تزال إيران تحميه.

كما يمكن لإيران أن توقف تمويلها للمنظمات الإرهابية، بما في ذلك حزب الله، الذي تفاخر أمينه العام بأنه يتلقى كامل تمويله من إيران. كما يمكن لإيران أن توقف عملية تصنيع وتوزيع القنابل المصنوعة يدوياً والتي قتلت وأصابت آلاف الجنود الأميركان في العراق وأفغانستان. كما يمكن أيضاً لإيران أن توقف إمداد الأسلحة للإرهابيين والميليشيات الطائفية في المنطقة التي تسعى إلى استبدال الحكومات الشرعية بدمى إيرانية.

وفي سوريا، فإن أيدي إيران ملطخة بدماء أكثر من 500 ألف شخص ذبحوا من قبل نظام الأسد، الذي أمدته إيران بقوات ما بين جنود نظاميين وعناصر خارج نطاق الدولة لإنقاذ النظام السوري، وقد صرح القادة الإيرانيون علناً بأنه لولا جهودهم لكان الأسد قد سقط من السلطة.

ويعض المسؤولون الإيرانيون أصابع الندم في بعض الأحيان على الفتنة الطائفية والعنف، ولكن حتى في هذا الموضع لا تزال الحقائق عنيدة، حيث كانت تعم المنطقة والعالم حالة من السلام مع إيران إلى أن اندلعت ثورة الخميني في عام 1979م والتي لازال شعارها "الموت لأميركا"، حيث استولى الملالي على السلطة وتعهدوا – كما هو مكتوب في دستورهم – بتصدير الثورة ونشر أيديولوجيتهم عن طريق الصراع الديني والطائفي.

ولتصدير ثورتها، شكلت إيران ما يُعرف بالمراكز الثقافية التابعة للحرس الثوري في العديد من الدول – مثل السودان ونيجيريا وسوريا ولبنان واليمن وجزر القمر – مكرسة لنشر أيديولوجيتهم عبر الدعاية والعنف، وذهبت إيران بعيداً في هذا المنحى لصنع الدعاية للمسلمين الشيعة الذين يعيشون خارج إيران بأنهم ينتمون إلى إيران لا إلى الدول التي هم مواطنون فيها، وهذا تدخل غير مقبول في شؤون الغير، وينبغي رفضه من جميع الدول.

إنها الأيديولوجية "الخمينية" -تدفعها شهية للتوسع ويغذيها كره العالم الغربي وتحفزها النعرة الطائفية- من آثار وأجج التطرف. تخليص العالم من هذا الفكر المتطرف والسام هو السبيل الوحيد لاحتواء الطائفية وهزيمة الإرهاب واستعادة السلم للمنطقة. إن كانت إيران جادة في محاربة التطرف إذاً عليها أن تحجم عن تلك السياسات والأفعال التي تسهم في صعود التطرف.

منذ أن وقعت إيران على الاتفاقية النووية العام الماضي، قام القادة الإيرانيون بتوجيه أصابع اللوم نحو الآخرين للمشاكل الإقليمية التي ساهموا في وقوعها، ولكن قبل تصديق ذلك الخطاب، على المرء أن يأخذ بعين الاعتبار عدة أسئلة: ما الدولة التي أصدرت فتوى لقتل المؤلف سلمان رشدي –تهديدٌ بالقتل لا زال قائماً حتى يومنا هذا؟ (إيران). ما الدولة التي هاجمت أكثر من 10 سفارات داخل أراضيها في انتهاك لكافة القوانين الدولية؟ (إيران). ما الدولة التي أدارت وخططت ونفذت هجوم أبراج الخبر ضد البحرية الأميركية عام 1996؟ (إيران). هل هذه الأجوبة تشير إلى دولة تمتلك موقفاً جاداً حول محاربة الإرهاب والتطرف؟

لقد اتخذ العالم الإسلامي موقفاً بالإجماع لإدانة السلوك الإيراني، حيث رفض مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي – الذي عقد في مدينة اسطنبول في شهر ابريل – بشكل رسمي سياسات إيران الطائفية والتدخل في شؤون الغير ودعم الإرهاب.

السعودية قائدة في الحرب ضد الإرهاب، حيث جمعت بلادي العالم بأسره في مؤتمر عُقد في عام 2005 لمواءمة مواقف جميع الدول في الحرب ضد الإرهاب. كما ساهمت المملكة بتقديم أكثر من 100 مليون دولار أميركي لتأسيس مركز عالمي لمحاربة الإرهاب في الأمم المتحدة، وأسست تحالفاً عسكرياً إسلامياً مكوناً من 40 دولة بهدف مكافحة الإرهاب والتطرف. كما أن المملكة هي إحدى الدول المؤسسة للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وتشترك في عملياته العسكرية الجارية.

علاوة على ذلك، أحبطت المملكة عدة هجمات كانت تستهدف الولايات المتحدة، وكان قادتها هدفاً للهجمات الإرهابية الانتحارية. إن سجل المملكة نظيف ومصادق عليه من قبل حلفائنا في المجتمع الدولي.

ولكن سجل إيران هو سجل مليء بالقتل والدمار، كما يظهر ذلك عياناً في سوريا وأجزاء من العراق. الكلمات لن تغير من ذلك، بل الأفعال الملموسة سوف تفعل ذلك.

موقف السعودية ظل ثابتاً فيما يتعلق بإيران، فالمملكة ترحب بعلاقات أفضل مع إيران بناء على مبادئ علاقات حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وهذا يعني أنه يتوجب على إيران التخلي عن أنشطتها التخريبية والعدائية، والتوقف عن دعمها للإرهاب، ولكن حتى الآن، سجل إيران ليس مشجعاً.

نقلاً عن ذا وول ستريت جورنال
عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي
بتاريخ 19 سبتمبر 2016

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
فنون الغرب في الموت وجنون السوريين به

أيقظ جروحي إعلان في أحد المواقع الأجنبية يروج لشراء مقابر، وترتيب جنازات الموتى بعقد رسمي، تأملت الإعلان مرة ومرتين وثلاثة، وتساءلت لما لا يشترون قبورهم في سوريا؟ فكل بقعة فيها تصلح للدفن، ولم يعد في معظم أراضيها سوى المقابر والحطام.

حاولت التغاضي و الضغط على الجرح، ليلاحقني حظيّ العاثر بإعلان آخر يقدم عرضاً بديلاً عن الدفن، وهو حرق جثة الميت ونثر رماده في الهواء، بميزات مالية أقل مقارنةً بالإعلان السابق، لأرتعش و تملأ أنفي رائحة جثث السوريين وقد أحرقتهم أسلحة النابالم، و الصواريخ المحملة بالفوسفور، فلا غرابة أن يستثيرني الفرق بين مجتمع يروج لحرق جثة ومراسم دفن باذخة، ومجتمع انحصر تفكيره بسؤالين لا ثالث لهما، كيف سيدفن أمواته بسرعة أكبر إن حظي بجثامين كاملة ؟ أو كيف سيدفن أشلاء إنسان بعد أن فتك به صاروخ متفجر؟

وفي خضم غرز الخنجر في ذاكرتي المدمية من جديد، عدت بذاكرتي ست سنوات، وتساءلت ماذا لو كانت لدينا فكرة حرق الجثة؟ كيف ستكون رائحة حرق تلك التقرحات والجروح التي أصيب بها أولئك المغيبون عن سطح الأرض؟ وهل ستحتمل السماء قروحهم أو سواد دخانهم أو حتى بشاعة ما عايشوه بعيداً عن الشمس؟

حاولت أن أهز رأسي سريعاً، وأشتم عبق الياسمين بدلاً من حرق الجثث ، لكن كلمات الإعلان لم تفارق مخيلتي، لأعود إلى الضياع من جديد و إلى تلك الذكريات التي باتت هي كل حياتنا، فكم من سوري قتل في جبهات القتال أو بالقصف، وكم قلة هم السوريون الذين حظوا بالدفن في مقبرة قريبة من أهلهم، وحظوا بقراءة سورة الفاتحة على أرواحهم كلما مر الأحباب من جانب قبورهم.

بذخ الدفن أو بالأحرى الموت بجثة كاملة أمر بات شبه معدوم لدى السوريين، وها هي ذاكرتنا مملوءة بالجثث المشوهة أو صورة ضبابية لجثة ابتلعها عمق بحر في بطنه، أما موت الأحياء فيبقى حاضراً بيننا، ذلك الموت الذي يشعر به كثير من السوريون، الموت التدريجي الذي يتغلغل في روح المعتقلين الذين تعفنت أطرافهم من الرطوبة والجوع والعيش في أقبية رطبة، يلتحفون الصدأ، أولئك الذين يعيشون كل يوم بين الجثث الملفوفة بالسجاد أو البطانيات الغليظة الشبيهة بغلاظة السجانين في الأفرع الأمنية.

كم هناك مفارقة بين ذاك المجتمع الأوروبي والمجتمع السوري البائس، فهناك في الغرب يفكرون كيف سيدفعون ضرائب نقل التوابيت الى المقبرة، أما في سوريا فلا يوجد في جيب المواطن ثمن مراسم دفنه بعد موته أصلاً، ويبقى أقصى طموح لدى السوري الذي يتعايش مع الموت ويرضع من ثدي القهر كل يوم ألف مرة ألا يموت جوعاً في حصار، إن لم يكن حلمه الأكبر كيف سيسد رمق أطفاله؟ هل سيطعمهم لحم قطة يذبحها أم حساء أوراق التوت؟ أعذروني فليس لدى المواطن السوري وقت ليفكر هل ينثر رماده بين الشجر أو فوق البحر.

ولم يعد الدفن من القصص المهمة بالنسبة للإنسان السوري، فالحياة و الموت سواء ، والاقتلاع من الأرض بفك الموت أمر مهيأ له في أي لحظة، لذا لا وقت لديه للتفكير كيف ستكون مراسم دفنه وكيف سيتم نثر الورد على نعشه.

لم يخطر ببال الشعب الغربي ذات يوم أن يشهدوا الموت الجماعي، الذي يشهده الشعب السوري، ولم يُخيل لهم أن تكون العصافير هي الوحيدة التي تواسي بقايا جثثهم التي دفنت، وتبقى فكرة نبش القبور بزخم من الصواريخ والقذائف لتنتشر روائح تفسخ الجثث مجرد لقطات في أفلام هوليود، وبالمقابل لم يخطر ببال الشعب السوري كيف سيرتمي في أحضان تابوت من خشب، فكل التوابيت في وطنه تحطمت، وتحولت الى قطع خشب بين الركام.

عدت وبحثت في فنون دفن الموتى لدى الغرب، فقرأت في مجلة سويدية أنماط تتحدث عن وضع الجثة في التابوت ومن ثم في دروج داخل المدافن، وتابعت المجلة حديثها عن أنماط أخرى كوضع التابوت في فرن مخصص لحرق الجثث لتصبح رماداً ودفن الرماد في الارض او نثره في مكان المقبرة.

وما يثير الغرابة أنهم يفتعلون أنماطاً تناسب كل الأذواق، كأن يطلب الميت أن ينثر رماده فوق البحر، بينما ليس لدينا في سوريا قوانين لنعوشنا، لأنها استبيحت كما استبيحت بيوتنا وأجسادنا بصواريخهم، وبات الموت ضيفاً دائماً على كل أحياء سوريا.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٦
لماذا إدلب

بعيداً عن العواطف الجياشة والعادات التي يتميز بها اهالي محافظة إدلب من إغاثة الملهوف والمهجر، وبعيداً عن إكرام الضيف الوافد إلينا من محافظات الجنوب والوسط السوري، والتي باتت إدلب المقصد والقبلة الوحيدة التي يختارها نظام الأسد ويجبر عليها المهجرين لتكون المكان القادم لإقامتهم بعد أن دمرت أرضهم ومنازلهم وأجبرهم الحصار على تركها مجبرين إلى إدلب، وبعد تكرار عمليات التهجير التي باتت واضحة للعالم أجمع عن نوايا نظام الأسد الخبيثة ومن خلفه إيران للتغيير الديمغرافي في سوريا، بدأت ترتاد للأذهان تساؤلات كثيرة لماذا إدلب .....؟ وما سبب اختيار نظام الأسد محافظة إدلب تحديداً لتكون الموطن الثاني لهؤلاء المهجرين.


صحيح أن محافظة إدلب كانت ثاني محافظة تحرر من قبضة نظام الأسد، وأول محافظة تخرج عن سيطرة تنظيم الدولة بعد أن سيطر عليها، على الرغم من بقاء ورقة الضغط الأكبر ضد المحافظة وبيد الأسد وإيران وليس كما يظن البعض أنها ورقة رابحة بيد الثوار والفصائل وهي "كفريا والفوعة" والتي غدت الدافع الأكبر والقضية الوحيدة لتجييش الشيعة وكل الميليشيات في سوريا لنصرة قضية أهل الفوعة والمحاصرين، وبالتالي تهديد المحافظة في الوقت الذي يرونه مناسباً للضغط عليها والدافع موجود.


وصحيح أيضاَ أن محافظة إدلب باتت أحد أهم أعمدة الثورة السورية والتي باتت تتمركز فيها القوة الأكبر من الفصائل الفاعلة في الساحة، والنظام يعي جيداً ان القوة التي تواجهه في الساحل وحماة وحلب جلها تنطلق من إدلب، ويعي جيداً أن المهجرين لاسيما الثوار منهم والذين وصلوا للمحافظة سيكونون جزءاً من هذه القوة وسيعودون لمواجهته من جديد على جبهات أخرى، ومع ذلك يتعمد ويصر نظام الأسد على تهجير مناطق الجنوب والوسط باتجاه إدلب.


وبدأت عمليات التهجير الأولى من أحياء حمص ثم القصير ويبرود و ريف دمشق فمضايا والزبداني وداريا والتحضير يتم لتهجير الوعر ومعضمية الشام وبلدات الغوطة الشرقية وربما مناطق أخرى ليست في حسابات المعارضة وقوى الثورة يجهز لها نظام الأسد عمليات التهجير ويحضر لها الخطوات والترتيبات التي اتبعها في كل منطقة تبدأ بالتضييق والحصار والتجويع والقصف والتدمير ليصل الأهالي لمرحلة لا يطيقون كل هذه الانتهاكات ويقبلون بالتسوية والخروج من مناطقهم وهم يترقبون العودة إليها بسقوط الأسد.


هذه الخطط الممنهجة والعمليات التي باتت الأمم المتحدة شريك أساسي فيها تنذر بخطر كبير يحدق بالثورة السورية، من خلال تجميع كل الطاقات والقدرات في مكان واحد وضربها جواً وربما تتطور لعلميات برية قد تحاصرها لاسيما بعد المعلومات التي تصل عن نية قوات الأسد وروسيا التقدم باتجاه جسر الشغور ومخاطر الوحدات الكردية في عفرين التي تتطلع للوصول لباب الهوى والمعابر الرئيسية، أضف على ذلك سيطرة الميليشيات الشيعية على الريف الجنوبي لحلب والتي باتت هي المتحكمة في المنطقة التي تشكل الوجهة الشرقية لمحافظة إدلب.


في هذه المرحلة الحساسة وبعد كل عمليات التهجير والتي مازالت مستمرة إلى إدلب، باتت التكهنات المحذرة من تحويل إدلب لسجن كبير موضع دراسة وشبه واقع ملموس بات واضحاً وبشكل كبير، وسط تواطئ أممي ودولي خصوصاً أصدقاء الشعب السوري منهم قطر والسعودية الذين بات صوتهم بعيداً هذه الفترة، وسط سعي تركي كبير لتغيير المعادة على الأرض ضمن عملية درع الفرات التي تقوم بها بدعم الجيش الحر، إلا أن الموقف التركي لا يمكن التعويل عليه بشكل كبير، فهي الدولة التي تحاك ضدها كل المؤامرات وتواجه مخاطر كبيرة لكسرها وإنهاء قوتها في المنطقة، وهي التي تسعى جاهدة لضمان أمن شعبها وحدودها في المرحلة الأولى وحسب ما تقتضيها مصلحتها في البداية.


ولعل إغلاق الحكومة التركية الحدود بشكل كامل عبر بناء الجدار العازل على طول الحدود من الغرب حتى الشرق، واتباع اجراءات معقدة للدخول إلى أراضيها أبرزها امتلاك جواز سفر رسمي صادر عن نظام الأسد، الذي لايمكن الغالبية العضمى في الثورة من الحصول عليه، أضف على ذلك التقارب التركي الأيراني الروسي والكل يعلم أن روسيا وأيران هما من يقود العمليات العسكرية في سوريا ومن تدعمان نظام الأسد، ولكن بالمحصلة تركيا تريد مصلحتها وتريد بناء تحالفات تضمن استقرارها وأمن حدودها، وقد ترغم في وقت من الأوقات وضمن تفاهمات أو ضغوطات على إغلاق حدودها مع سوريا وبالتالي خنق إدلب بشكل كامل، وهذا غير مستبعد في حال وصلت تركيا لخيارات صعبة تهدد أمنها واقتصادها واستقرارها.


هذه التخيلات أو بالأحرى التنبئات التي باتت كواقع ربما يحصل في أي وقت وبشكل مفاجىء من شانه تحويل إدلب لسجن كبير ليس لأهالي إدلب فحسب، بل لكل من هاجر من أرضه وبلده مجبراً مرغماً بفعل الحصار والتجويع واستوطن في المحافظة وبين أهلها، وهذا مايجب أن يتداركه الجميع وتتحمل الفصائل العسكرية بالدرجة الأولى المسؤولية الكاملة، وهي التي تقبل بما تمليه الدول الغربية من هدن واتفاقيات ثم تهجير ولاتحرك ساكناً أو تعمل على تغيير الواقع من خلال الضغط على النظام بمعركة أو بسيطرة على منطقة حساسة أو برفض هذه الاتفاقيات وتحمل التبعيات كاملة عبر حلفائها وداعميها وعبر التوحد في كيان واحد ربما يكون له كلمة فصل ويجبر الجميع على سماعه ليكسبه ويامن صفه باعتباره بات قوة كبيرة موحدة.

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٦
الفرصة الأخيرة لسلام سورية؟

على رغم أن الاتفاق الأميركي - الروسي المتواضع في شأن التهدئة في سورية جاء متأخراً كثيراً لخمس سنوات ونيف، فإن الواقعية تقتضي القول إنه من الأفضل أن يأتي متأخراً من ألا يأتي أبداً. فالبديل سيكون كارثياً ويزيد من الدمار ويؤدي إلى مزيد من القتال والدم والتشريد والمآسي والقضاء على سورية التي أحببناها وعرفناها واحة أمن وأمان وموئلاً للحضارات ورمزاً للتعايش والمحبة على امتداد عصور التاريخ.

ويعترف عرابو الاتفاق بأنه لم يكن بالإمكان (إمكانهم بالطبع) أفضل مما كان، بكل أسف علينا وعلى القوتين «العظميين» اللتين تعترفان بالفشل وتتفرجان على أكبر جرائم التاريخ وأكثرها وحشية ودموية وتتشاركان في تعميق المأساة، ثم تتحدثان عن «الفرصة الأخيرة» مع أننا نعرف أنهما تستطيعان بقرار حاسم واحد وقف الحرب وفرض السلام بالقوة إذا توافرت لديهما النيات الحسنة والإرادة الصادقة.

أما التهديد بفزاعة الفرصة الأخيرة، فلا يُفهم إلا بمعناه الحقيقي، وهو أن روسيا وأميركا ستنفضان أياديهما من الحل في أي لحظة والاتجاه إلى كتابة فصل آخر من فصول المؤامرة الخبيثة على حساب دماء الأبرياء السوريين المجنى عليهم الذين دفعوا أثماناً باهظة بسببها.

ومن يتابع دقائق الأمور يصدم بالصراحة المطلقة، إن لم نقل الوقحة، في الحديث عن صفقات تحت الطاولة ومحادثات حول قضايا وخلافات ثنائية، مثل وضع القرم وأزمة أوكرانيا ومصالح في النفط والغاز وتقاسم المنافع، حتى أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أكد بصراحة أن روسيا ترفض الهيمنة الأميركية في النظام العالمي، وأنه كلما أسرع الجانب الأميركي في إدراك هذه الحقيقة وبدأ تغيير موقفه، أمكن تسوية الخلافات بين الدولتين في شأن ملفات مختلفة ومنها النزاع السوري.

نعم هذا ما قاله بالحرف الواحد، أي أن دماء السوريين النازفة لا اعتبار لها في الصفقات المطلوبة، وأن مصير سورية أخذ رهينة لتحقيق المآرب وترتيب أمور النظام العالمي الجديد وتأمين المصالح والمطامع التي اكتمل جزء منها بإقامة القواعد العسكرية الأميركية والروسية داخل الأراضي السورية وتقاسم النفوذ في شكل سافر.

ونظرة سريعة على الاتفاق الأميركي - الروسي تسجل ملاحظات وتساؤلات وشكوك عدة حول الغموض والسرية والجداول الزمنية منها:

- إن التفاؤل المفرط غير وارد بسبب الألغام الكثيرة المزروعة وغموض الصيغة، فالاتفاق ما هو إلا هدنة محدودة وهشة تتضمن استثناءات وتعقيدات قد تفجر الوضع برمته، ما يدعو إلى التساؤل عن أسباب عدم التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار ووضع صيغة واضحة لمواجهة أي خرق.

- إن موضوع استثناء «جبهة النصرة» التي تراجعت عن مبايعتها لتنظيم «القاعدة» وغيرت اسمها إلى «جبهة فتح الشام» سيؤدي إلى تعقيدات ومشاكل قد تنسف الاتفاق كله، إضافة إلى علامات استفهام كثيرة، مثل التداخل في الجبهات وانتشار مسلحيها من الحدود اللبنانية إلى الحدود الأردنية والتركية. كما أن إعلان «حركة أحرار الشام» بعدم الالتزام بالاتفاق يدق مسماراً في نعشه على رغم أن المراقبين يعتبرون أن الرفض مجرد موقف مبدئي ولا يتوقعون أن تعمد الحركة إلى خرق الهدنة لأنها ستتعرض للتصفية، إلا إذا اضطرت للرد على هجوم مؤكد.

- الشكوك المطروحة تشمل الأطراف كلها، بدءاً من العرابين اللذين يعترفان بالاختلافات والخلافات، وصولاً إلى المتحاربين، فالنظام السوري يخشى أن تستغل الفصائل العسكرية الفرصة لتعيد تنظيم صفوفها وتعزيز قدراتها التسليحية، فيما تعبر الفصائل عن مخاوف من أن تضرب الواحدة بعد الأخرى بعد تصفية التنظيمين الرافضين، ما يؤكد غياب الثقة بين الطرفين وهي أهم عوامل نجاح أي تسوية.

- كما أن هناك تفسيراً يختلف بين فريق وآخر بالنسبة إلى توصيف الخرق وأسلوب الرد عليه، ومن هي الجهة الحيادية التي يؤخذ برأيها عند مراقبة التنفيذ وما هو دورها وتحديد أماكن وجودها وضمانات أمن أفرادها بعد ملاحظة تهميش دور الأمم المتحدة واستبعادها من الاتفاق وحصر دورها في إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة.

- لم يرد في الاتفاق أي حديث عن الضمانات الأميركية والروسية والوضوح في شأن مواجهة الجهة التي تخرق الهدنة، وإن كانت من القوى النظامية والميليشيات المتحالفة معها أو من الفصائل المتعددة، بعد إعلان تأسيس مركز عسكري مشترك للمراقبة والمتابعة وتبادل الآراء والمواقف، ومن ثم العمل معاً لتنفيذ خطة مرسومة في حال صمود الهدنة سبعة أيام والقيام بعمليات ضد «الإرهابيين» من دون تحديد هوياتهم وأماكن تواجدهم وما إذا كانت ستطاول مراكز «داعش» في الرقة وغيرها أو لتشمل أيضاً الفصائل الأخرى، ما يعني أن القصف سيطاول مناطق شاسعة من سورية.

وقد أثار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إشكالات ومخاوف من نسف الاتفاق عند وقوع أي هزة، ما يؤكد وجود بعض الخلافات حول توسيع نطاق الحرب مع فضح وجود بنود سرية تريد موسكو نشرها، لكن واشنطن لا تزال تفضل بقاءها سرية، إذ أن روسيا تريد توسيع نطاق الحرب لتشمل الجولان بزعم وجود منظمات إرهابية فيه. وجاء هذا الطلب متزامناً مع التصعيد العسكري على الجبهة بين سورية وإسرائيل.

يدل هذا كله على أن الاتفاق ثنائي يقصي الأطراف الأخرى جميعاً من لعب أي دور فيه أي أن الحل والربط سيكون بأيدي موسكو وواشنطن، وما على الأطراف المتحاربة إلا الالتزام. وهذا ما تأكد بإعلان التزام أطراف رئيسة مثل الحكومة السورية وإيران اللاعبة مع ميليشياتها والمتضررة الأولى في حال نجاح العملية لأنها استبعدت من دوائر القرار وسط أنباء عن استيائها، ما دعا روسيا إلى إعلان أن لا خلاف مع إيران على التفاصيل.

أما تركيا، فنالت حصتها سلفاً بإعادة الأكراد إلى شرق الفرات وإحباط آمالهم بإقامة كيان مستقل. كما اكتملت هذه الحصة بالسماح لتركيا بدخول الأراضي السورية والسيطرة على مناطق شاسعة بحجم لبنان لمنع قيام الكيان الكردي على حدودها تمهيداً لإقامة منطقة آمنة في حال رفض إقامة منطقة حظر جوي.

هذه الوقائع لا تعني نهاية الأمر، ففي يد كل فريق صواعق تفجير كثيرة لإثبات وجوده. وحتى الفصائل المسلحة التي وافقت على الهدنة يمكن أن يحدث من داخلها خروج عن الخط أو دخول طرف ثالث عليه وتحميلها المسؤولية وخلط الأوراق، ما يعني أن هذه الهدنة ستبقى هشة ومعرضة للاهتزاز في أي لحظة. ولكن بانتظار الخطوات التالية، والتي ستركز في البداية على إيصال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة، يبدأ الحديث عن المستقبل لإفساح المجال أمام المواطنين للتنفس من عناء سنوات القصف والدمار والعنف، وهي تعد الإيجابية الوحيدة المعلنة.

باختصار شديد، يمكن القول إن هذا الاتفاق، على رغم أنه مجزأ وهامشي ولا يلامس واقع الحال، فإنه يُعد أهون الشرين للبناء عليه إذا توافرت النيات الحسنة من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية الصعبة، وهي شكل الحل السياسي والمرحلة الانتقالية وإعادة تأهيل اللاجئين وإعادة الإعمار التي ستنتظر طويلاً ليصل دورها في البحث عن مصادر التمويل.

وسط كل هذه الشكوك ومع كل هذه التساؤلات، نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً على سورية الوطن والمواطن، ومن أجل كل عربي حر يعرف قيمة سورية ودورها عبر التاريخ. وندعو الله أن تأتي الخواتيم كما يشتهي الشعب السوري الأبي والعزيز ويغلق هذا الملف الأسود. إنها بداية النهاية مع الأمل بأن تتسارع الخطوات وتتكثف الجهود بعد المضي في الخطوة الأولى من طريق الألف ميل.

صلوا معنا من أجل السلام، ومن أجل الأطفال والأبرياء. من أجل التاريخ والجغرافيا وكنوز حضارات العالم. من أجل القلب العربي النابض في الشام. من أجل وحدة البلاد المهددة بالتقسيم في حال فشل الحلول. صلوا معنا لتتحول هذه الفرصة إلى شعلة أمل ويصبح الحلم حقيقة، لا أن تكون آخر فرصة للسلام ومن بعدها الشر المستطير والمصير المظلم والانتحار الإجرامي وتدمير ما تبقى من حجر ومن بقي من بشر، لا قدر الله.

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٦
«اتفاق الكاستيلو»: وداعاً للهدنة و... الحل السياسي

الحديث عن معاودة المفاوضات السورية قريباً يبدو نوعاً من العبث. من السذاجة أن يظن أحد أن النظام في دمشق أو «الهيئة العليا للمفاوضات» سيتوليان رسم التسوية. يكاد مجلس الأمن نفسه يكون غائباً عن أي دور، حتى على صعيد التخفيف من المأساة الإنسانية. الاتفاق الأميركي - الروسي، أو «اتفاق الكاستيلو»، لم يلغ دور الأطراف السورية فحسب، بل قفز على كل القرارات الدولية الخاصة بالأزمة السورية وبيان جنيف وتفاهمات فيينا ومواقف «أصدقاء سورية» وحلفاء النظام. البيت الأبيض والكرملين يخططان بعيداً عن جميع المنخرطين، سعياً إلى هدنة بينهما لم تعمر تحت وطأة الاتهامات وانعدام الثقة. وليس على الآخرين سوى التزام ما يتفقان عليه. وليس عليهم سوى حشد مزيد من القوات، كما حصل ويحصل هذه الأيام. إذ تكاد سورية تضيق بهذا الكم المتعدد الجنسية من الجيوش الذي لم يحصل مثيل له في أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية. ما يشي بأن هذا الجمع يتهيأ لحدث أكبر من بلاد الشام. لحدث ينطلق منها إلى الإقليم كله. لقد فشل المحافظون الجدد أيام رئاسة جورج بوش الابن في بناء شرق أوسط جديد. وجهدت الإدارة الحالية انطلاقاً من حلب لبناء لبنة تفاهم مع موسكو، تستكملها الإدارة المقبلة، من أجل إعادة بناء هذا الشرق على حطام هذه الفوضى العارمة والشاملة، وتوزيعه مناطق نفوذ بينهما ومع القوى الإقليمية الكبرى أو بالأحرى مع إيران وتركيا... فالعرب لا حول لهم ولا قوة.

يختصر هذا الجمع الكبير والمتعدد من القوات وخريطة انتشاره صورة واضحة لتداخل جميع اللاعبين وأجنداتهم المختلفة ومناطق نفوذ كل واحد منهم. فالروس يرابطون على الساحل الغربي والمناطق المحاذية للبنان وحتى حدود الجولان. والإيرانيون وميليشياتهم في هذه الجغرافيا فضلاً عن دمشق. ولا يخفون مشروعهم للإمساك بالطريق الرابط بين العاصمة والبوكمال على الحدود مع العراق، حتى يكتمل التواصل مع الجمهورية الإسلامية شرقاً، ولبنان غرباً عبر القلمون والمصنع صعوداً حتى حمص وحماة. إنه «الأوتوستراد الإيراني» يرث «الأوتوستراد العربي» الذي ولدت فكرته إثر هزيمة 1967. ويقابلهم الترك الذين لن يكتفوا بـ «درع الفرات» وبحصتهم من «الأوتوستراد» في سورية. سيطلقون «درع دجلة» أيضاً عندما تنطلق معركة تحرير الموصل من «داعش». والأميركيون يتريثون في إطلاقها إلى أن يتحقق التوافق بين القوى التي ستساهم في الحرب: من القوات العراقية إلى ميليشيات «الحشد الشعبي»، «الحرس الثوري العراقي الجديد»، إلى القوات الأميركية ومقاتلي «البيشمركة» فضلاً عن الأتراك. وهؤلاء يرون أنه يحق لهم ما يحق للآخرين. إسرائيل تدافع عن اليهود أينما كانوا. تعاملهم جزءاً من مواطني الدولة. ومثلها روسيا التي تغطي تدخلها من جورجيا إلى أوكرانيا بحماية مواطنيها من أصول روسية. وكذلك إيران التي تعمم تجربة «الحرس الثوري» فـي بلدان عربية عدة. وتحمل لواء الدفاع عن الشيعة أينما كانوا وأياً كانت جنسيتهم. لذا تجد أنقرة أن من حقها أن تحذو حذوهم في الدفاع عن التركمان أينما وجدوا، وعن السنة عموماً في المشرق العربي والذين يشعرون بأنهم باتوا بلا ظهير وسند.

أما الأميركيون الذين يملأون المنطقة بطائراتهم وحاملاتها، فتنتشر قواتهم الـــبرية على قلة أعدادها مقارنة بالآخرين، في مناطق تجاور الحضور الإيراني والانتشار الكردي. ناهيك عن حضور الأردن وإسرائيل فـــي الجبهة الجنوبية من الجولان إلى درعا. وهي جبهة يرعاها تفاهم رباعي أردني - إسرائيلي - روسي - أمـيــركي. ويعمها هـــدوء كأن الحرب تجري فـي بلد آخر! إنها قوات تناهز أربعين ألف رجل. كأنهـا قـــوة احتياط تنتظر أوان رسم حدود الإقليم برمـــتـــه وليس بلاد الشام وحدها. ناهيك عـــــن الحضور العربي عبر كثير من الفصائـــل المقاتلة والقوى السياسية المنضوية تــحـــت عباءة «الائتلاف الوطني». كما أن بريطانــيا وفرنسا تحاول كل منهما أن تعزز انتشارها وحضورها هنا وهناك. وتصران علــى مناقشة الاتفاق الأميركي - الروسي في مجلـــس الأمن للاطلاع على ما خفي منه، هما الخبيرتان في إبرام الصفقات السرية أيام الاستـــعمار القديم، وكان أبرزها «اتفاق سايكس - بيكو». لعلهما تخشيان أن تتقاسم الولايات المتحدة وروسيا الإقليم عندما تنضج الظروف، انطلاقاً من وحدة التنسيق العسكري التي يبدو أنها وئدت قبل أن تولد. وكانت خطوة سابقة منذ الحرب العالمية الثانية. لذلك تحفظ قادة البنتاغون وعلى رأسهم وزير الدفاع اشتون كارتر أكبر المعترضين على قيام هذا النوع من التنسيق الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة المتبادلة بين واشنطن وموسكو.

«اتفاق الكاستيلو» استهدف ترسيخ هدنة بين واشنطن وموسكو أكثر منها هدنة بين المتصارعين على الأرض. فجل ما كان يبتغيه الأميركي اليوم هو مواصلة الحرب على الإرهاب وتخفيف معاناة الناس العاديين. فيما لا يغيب عن الروسي هاجس الغرق في مستنقع يفاقم استنزاف اقتصاده الداخلي العليل على وقع تدني أسعار النفط ونتيجة العقوبات التي يفرضها الغرب عموماً. لا اهتمام بالحل السياسي. بات هذا من الماضي... القريب. إدارة الرئيس باراك أوباما من زمن لم تعد تتحدث عن مواجهة الإرهاب بالتوازي مع البحث عن تسوية. لم تعد تتحدث حتى عن هذه المواجهة مدخلاً إلى الحل. وهي منذ اندلاع الأزمة لم تبد أي اهتمام بالتدخل. لذلك لا مبالغة في القول إن الاتفاق الثنائي المتهاوي ألغى عملياً أي مسعى نحو التسوية. بل إن سقوطه سيصب مزيداً من الزيت في نار الحرب التي ستطول إذا قصد رأس النظام في دمشق وحلفاؤه استعادة حلب. وكان متوقعاً من البداية ألا يسهل النظام الهدنة وإيصال المساعدات. فهو لم يتخل يوماً عن فكرة الحسم العسكري، ما دام أنه يتلقى دعماً كبيراً من موسكو وطهران. بل بات أكثر اطمئناناً إلى مستقبله مع الاشتباك المتجدد بين واشنطن وموسكو في مجلس الأمن وعبر المنابر الإعلامية. كيف لا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لفت المعنيين إلى أن شعبية الرئيس بشار الأسد «في ازدياد مستمر بين مواطنيه الذين يرون إليه ضماناً لمنع وقوع سورية بيد الإرهابيين وانهيارها كدولة». وما لم يقله الوزير صرح به نائبه غينادي غاتيلوف. دعا المعارضة السياسية إلى التخلي عن مطلبها رحيل الرئيس الأسد، وذلك كمبادرة «حسن نية» قبل عقد جولة جديدة من المفاوضات. موسكو التي صرحت في مناسبات كثيرة أن مصير الرئيس السوري لا يعنيها باتت لا تتورع عن دعوة المعارضة إلى العودة إلى حضن «الشرعية»! ولمَ لا؟ لقد انتزعت من واشنطن في «اتفاق الكاستيلو» مواقف أكثر مرارة للمعارضة. ميخائيل بوغدانوف، نائب لافروف، قال إن الاتفاق الثنائي لا يشمل مصير الأسد ولا يتضمن العملية الانتقالية «لأن ذلك مسألة سورية بحتة»! وأكد أن ما اتفق عليه في فيينا ونيويورك ومجلس الأمن يمثل الخطة الوحيدة التي تدعمها موسكو «ولا خطة باء ولا خطة جيم...»! بعد هذا هل يمكن المعارضة السورية أن تصدق أن لها دوراً في أي مفاوضات وأنها يمكن أن تتقدم نحو مرحلة انتقالية تمهيداً للتغيير المنشود؟ الاتفاق الثنائي، على رغم تعثره، جبَّ كل ما قبله.

أما المعارضة العسكرية وفصائلها المتنوعة فتواجه اليوم خيارين أحلاهما مر وقاتل: إذا تمسكت بالتنسيق مع «جبهة فتح الشام» (النصرة) لمواصلة الإفادة من قدراتها وخدماتها الميدانية ستصنف «إرهابية». وإذا ابتعدت عنها وتركتها وحيدة بمواجهة غارات التحالف الدولي والطيران الروسي تفقد سنداً لا يمكنها تعويضه. ستضعف قواها أمام هجمات النظام وحلفائه. بل إن بعض الفصائل بما فيها تلك التي تنتمي إلى «الجيش الحر» قد تلتحق بالمتشددين ليأسها وشعورها بأن العالم تخلى عنها. وما رفض فصيل «أحرار الشرقية» قبل أيام وجود مستشارين أميركيين في بلدة الراعي مع حملة «درع الفرات» سوى إشارة إلى مدى امتعاض هذا الجيش وشركائه من المواقف الأميركية. علماً أن هذا الفصيل أفاد من برنامج البنتاغون لتدريب عناصر مقاتلة يعتبرها معتدلة! إضافة إلى كل ذلك تصر موسكو على توصيف «جيش الإسلام» و»أحرار الشام» بالإرهاب، وتنشد شمولها بالحرب المفتوحة على الجهاديين. وذهب مندوبها في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن بعيداً في اتهام الولايات المتحدة بدعم فصائل إرهابية.

«اتفاق الكاستيلو» المترنح كان مقدراً له الحفاظ موقتاً على الصورة الجديدة لانتشار القوات المتعددة الجنسية، وتالياً على مناطق النفوذ بين الكبار البعيدين والقريبين. يبقى السؤال هل تملك القوتان الكبريان بعد فشلهما في ترسيخ هدنة من بضعة أيام، ما يتيح لهما كبح جماح الطامحين إلى مواصلة الحرب لتغيير موازين القوى على الأرض ليتسنى لهم تغيير خريطة الإقليم ورفع حدود دولية جديدة وتقسيم المقسم بدل الاكتفاء بتقاسم الحصص ومناطق النفوذ؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى