لا نعرف إذا كان حكام العالم وزعماؤه يصدّقون أنفسهم ومقتنعين بأن خطاباتهم الصاخبة أمام القمة السنوية للأمم المتحدة يمكنها أن تحدث فارقاً أو تغييراً، أم أنهم يدركون صورية ما يقومون به وأنه لا يُنتظر من هذه القمم الروتينية أي منفعة أو مردود! في حين يدرك السوريون جيداً، ماهية هذه المنظمة الأممية المثقلة بالعجز عن مساعدتهم في محنتهم وعن تنفيذ كثير من القرارات التي اتخذت لمعالجة مأساتهم، وهم خير مَن خَبِرَ شدةَ وحجم «القلق» الذي أبداه مراراً أمينها العام تجاه ما يكابدونه من عنف وتشريد وحصار واضطهاد!
ربما هو حظ السوريين التعيس، وشعوب الربيع العربي عموماً، أن تقترن ثوراتهم ورغباتهم في التغيير بظروف عالمية غير مناسبة، ولنقلْ معيقة ومؤذية، ما أشعر السوريين بوجود ما يشبه حالة تواطؤ دولي على إطالة زمن صراعهم الدموي ومنعهم من بناء مجتمع ديموقراطي واعد، تبادلت فيها، إلى جانب قوى الاستبداد والتطرف، دول الغرب والشرق، أدواراً متنوعة ومخزية، لكنهم اتفقوا جميعهم على استرخاص دماء السوريين ومستقبل أجيالهم والاستهانة بما يحل بهم من فتك وخراب. ولا يغير هذه الحقيقة المُرة تكرار الدعوات الصاخبة لوقف العنف المفرط ومشاريع هدن لا تتعدى استراحة المحاربين، ولا زيادة بعض المعونات المخصصة للاجئين والمتضررين، ولا الجهود المبذولة لإحياء مفاوضات سياسية لا تزال إلى اليوم مسقوفة بالفشل!
صحيح أن الحاجة الرئيسة لإنشاء الأمم المتحدة كانت إزالة آثار الحرب العالمية الثانية ومحاصرة فرص نشوب حرب جديدة، ما مكّن الدول المنتصرة من احتلال موقع متميز في مؤسساتها، وجعل مجلس الأمن كسلطة مهيمنة، أشبه بأداة توافق بينها لتسوية الصراعات والنزاعات، وغالباً على حساب الشعوب الضعيفة، وصحيح أن مياهاً كثيرة جرت وخلقت مهمات أممية ذات طابع إنساني تحتاج إلى تضافر جهود الجميع للتوصل إلى حلول لها، منها الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وظواهر الانحباس الحراري والتصحر، ومنها مخاطر اضطراب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفقر والبطالة والهجرة وانتشار الآفات والأوبئة وتفشي الاندفاعات العدوانية والنزاعات المختلفة، لكن ما هو صحيح، وللأسف، أن العالم الذي يفترض، في ضوء ما سبق، أن يتجه صوب الحاجة للتكاتف والتعاضد وتطوير الأمم المتحدة ومجلس أمنها وبلورة أداة أممية صالحة للتنسيق العادل بين مختلف المكونات العالمية ولإدارة الخلافات بينها على أسس سلمية، سار على النقيض تماماً، نحو أمراض الاستئثار والظلم وتغليب المصلحة الذاتية، دافعاً العديد من المجتمعات إلى التطرف والانكفاء والاحتماء بملاذاتها الإثنية والدينية والطائفية.
ألا يصح النظر من هذه القناة إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي؟ إلى تصاعد الدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة يهودية تبعد العرب المسلمين والمسيحيين منها؟ إلى ضيق صدر الشعوب من التعايش مع الآخر المختلف، واستِعار الصراعات الدينية والمذهبية لأتفه الأسباب؟ إلى تنامي التفرقة العنصرية في أكثر بلدان الغرب إعلاءً لقيم المواطَنة والمساواة ربطاً بتقدم وزن اليمين المتطرف في مشهدها السياسي؟ إلى تفشي روح التسلط والاستئثار على حساب المشاركة والمساواة وحقوق الإنسان، وعودة النهج القديم بتفضيل الأمن والاستقرار على التغيير الديموقراطي واحترام الكرامة الإنسانية، ما مكن أنظمة الاستبداد من استعادة زمام المبادرة لتسويغ القمع والقهر والتفرد في الحكم وفرض ما تراه من نمط حياة على شعوبها.
وإذ تعني العودة لسياسة الاستئثار والأنانية وتقدم المصالح الخاصة للدول، فشل الانفتاح على الآخر وتراجع القدرة التوافقية العالمية على إدارة هذا الكوكب بصورة مفيدة للجميع، فإنها لم تأت من فراغ، بل صنعتها أسباب متضافرة، منها تردي الحياة المعيشية للكثير من الشعوب جراء إخفاق الخطط التنموية وانفلات ظواهر الاستغلال والجشع والفساد، ومنها تنامي أزمة اقتصادية عالمية أضعفت القدرات الذاتية في تقديم المزيد لمصلحة العام الإنساني، ومنها العجز عن نشر ثقافة أممية ترسي قيم المواطَنة وحقوق الإنسان. وزاد الطين بلة انحسار المعيار الديموقراطي في تقويم الأنظمة السياسية، ما مكّن جماعات فئوية من السيطرة على مقاليد الحكم، لا يعنيها العمل الجماعي والبعد المؤسساتي العالمي بقدر مصالحها الضيقة ودوام هيمنتها على شعوبها وامتصاص ثرواتها، ومنها أخيراً، التأثير اللافت لسياسة الإحجام والانكفاء لدى الولايات المتحدة، بصفتها القوة الأعظم والقاطرة التي تقود العالم، وميلها للاهتمام بقضاياها الداخلية بعد وصول أوباما إلى الحكم، كرد فعل على النتائج المخيبة للآمال التي نجمت عن السياسة التدخلية النشطة إبان حكم الرئيس بوش.
والسؤال: هل كانت ستلقى ثورة السوريين المصير ذاته في حال كانت الأوضاع الدولية والإقليمية على غير ما هي اليوم؟! وهل كانت البلاد لتُستباح لو كان للإرادة الأممية كلمتها النافذة في محاصرة العنف وتمكين الناس من تقرير مصيرهم؟!
ثمة من يجيب بنعم، محمّلاً أطراف الصراع الداخلية المسؤولية الرئيسة عما آلت إليه الأمور، بدءاً بسلطة تنكرت للأسباب والحلول السياسية ولجأت إلى الفتك والتنكيل على أمل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وانتهاء بجماعات إسلاموية متطرفة يفتنها العنف وتزدري السياسة. وزاد الأمر تعقيداً احتدام صراع الطامعين على موقع هذا البلد ومقدراته. وفي المقابل، ثمة من يرجح مساراً سورياً مختلفاً لو اقترن بإرادة دولية حازمة ومسلحة بإجراءات عقابية تحاصر قوى الصراع الداخلية وتجبرها على ترك ميدان العنف.
وبين هذا وذاك يعتقد آخرون أن المحنة السورية، شكلت محكاً تاريخياً، فضح بَلادة المنظمة الأممية، ومهد لنقد بنيتها التنظيمية والجذور القانونية التي مكّنت الدول الكبرى من تسخيرها في خدمة أغراضها الخاصة من دون أن تعبأ بمصالح الآخرين وحقوقهم، والأهم أنها شكلت حافزاً قوياً لخلق رأي عام يتطلع لبنية ودور أمميين جديدين يقومان على دعم عالم لا ظلم فيه ولا عنف، وعلى إدارة حالة من التوافق بين مختلف مكوناته على أسس عادلة.
وأخيراً، ثار غضب وزير الخارجية الأميركي جون كيري واحتدّ في مجلس الأمن الدولي، وهو يشكّك في صدقية زميله العزيز الغالي على قلبه، نظيره الروسي سيرغي لافروف، في المسألة السورية. وصلت لحظة الحقيقة، قال كيري. والمسألة ليست نكتة، أضاف الوزير الأميركي الذي وجد نفسه عرضة للسخرية في بعض الأوساط الأميركية وغير الأميركية وهي تصفه بالساذج أمام المحنك في المكر، سيرغي لافروف. فالنكتة باتت على كيري ووزارة الخارجية الأميركية عندما تجيب عن كل سؤال جدي بأن كيري سيجتمع بلافروف وكأن الثنائي هو مؤشر المستقبل السوري بـ "رواق" بعيداً من المأساة اليومية التي بالكاد تؤرقهما قليلاً. المفاجأة في مجلس الأمن هذا الأسبوع لم تأتِ من فراغ لأن صبر إدارة أوباما وصل الحدود نتيجة الاستفزازات والمراوغات الروسية المتتالية، وبسبب تفاقم الكلفة الإنسانية الباهظة في سورية. إنما ماذا يعني أن ينفعل كيري وأن يعبس باراك أوباما في وجه نظيره الروسي فلاديمير بوتين احتجاجاً على السياسات والممارسات الروسية في سورية؟
الكرملين لن يخاف كثيراً لأن بوتين واثق من أن أوباما عاجز عن الوقوف في وجهه عملياً لما يتطلب ذلك من مواجهة أميركية - روسية في أجواء سورية. الكلمة الرئيسة هنا هي "العجز" لأن روسيا بنت كل سياستها نحو سورية على أساس أن الولايات المتحدة في عهد أوباما أصبحت الدولة "العجوز"، وأن واشنطن كبّلت أياديها بنفسها في سورية وباتت عاجزة عن التصرف كدولة عظمى، ليس فقط لأن أميركا لا تريد أن تحارب وإنما لأنها أيضاً أرادت إرضاء إيران كيفما كان حفاظاً على إنجاز الاتفاق النووي معها - فكان عليها طأطأة الرأس أمام الأولوية الإيرانية في سورية وهي التمسك ببقاء بشار الأسد في السلطة. هذا لا يعني أن سيد الكرملين ليس قلقاً بالمطلق، بل إنه ازداد قلقاً بعدما "أخطأت" الطائرات الأميركية - وفق ما تقول واشنطن معتذرة - عندما شنّت غارة ذهبت ضحيتها قوى نظامية سورية وغير نظامية إيرانية وميليشياوية تابعة لها. هذا الأمر أيقظ فلاديمير بوتين إلى القليل من التواضع وأثار فيه الكثير من السخط، فهو لا يشتري أبداً مقولة "الخطأ"، ويفهم ما حدث بأنه رسالة متعمدة عنوانها موسكو بقدر ما هو دمشق.
بوتين يدرك أن وضعه أكثر هشاشة من وضع أوباما لأن لا قوات أميركية في سورية، فيما روسيا دخلت طرفاً في الحرب الأهلية السورية، ولأن معركة حلب مازالت مصيرية، ولأن الضغوط على بوتين تتزايد في عقر داره بعدما نصب روسيا في الخط الأمامي للحرب مع "داعش" وأمثاله، ولأن روسيا ترتكب ما يرقى إلى جرائم حرب في سورية كما تؤكد منظمات غير حكومية، ولأن سورية تزداد شبهاً بمستنقع يتربص بروسيا فيما الولايات المتحدة تستعد - ولو متأخراً - لسلك الطريق الأخلاقي الأعلى فيما الورطة الروسية الأخلاقية في سورية تتفاقم.
كان هذا أسبوع سورية على هامش الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي شارك فيها أوباما وغاب عنها بوتين. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسط نفسه أينما كان وكيفما كان ليطرح أولوياته، ومن ضمنها، إنشاء منطقة حظر جوي في شمال سورية على طول الحدود التركية. اتهم "حزب العمال الكردستاني" بأنه يسعى وراء تقسيم سورية، وتعهَّد الحرص على وحدة سورية الجغرافية والسياسية. اعتبر أن عملية "درع الفرات" أمّنت الحماية وأنه حوّل جرابلس من حزام كان يمكن أن يكون إرهابياً إلى منطقة آمنة. ودعا أردوغان مجلس الأمن إلى محاسبة النظام السوري على جرائمه التي من ضمنها "استهدافه قافلة المساعدات" الإنسانية في حلب الاثنين الماضي.
فرنسا قالت على لسان رئيسها فرنسوا هولاند إن المأساة السورية ستبقى "وصمة عار على جبين المجتمع الدولي ما لم نضع حداً لها فوراً"، وأن "حلب مدينة شهيدة حيث تُستهدف القوافل الإنسانية، ويجوع السكان، وتُستخدم الأسلحة الكيماوية". طالب هولاند "داعمي النظام"، روسيا وإيران، بأن "يرغماه" على إحلال السلام "وإلا سيتحملان مسؤولية الفوضى في سورية". طالب بمعاقبة مَن استخدم الأسلحة الكيماوية في سورية، بعدما أكد تقرير دولي أن النظام و "داعش" استخدما تلك الأسلحة المحظورة.
وزير خارجية فرنسا جان ماري إرولت طرح مبادرة من 3 نقاط تتضمن إصدار مجلس الأمن قراراً بموجب الفصل السابع من الميثاق يدين ويعاقب مَن استخدم الأسلحة الكيماوية. وقال: "لا يمكن القبول بمساومة، كأن نتقيد بالهدنة مقابل التخلي عن الملاحقات بحق مستخدمي السلاح الكيماوي".
اقترح إرولت "إنشاء آلية مراقبة لوقف إطلاق النار" وإقامة نظام مراقبة مشترك للهدنة، تشمل فرنسا ولا تقتصر حصراً على الولايات المتحدة وروسيا. وضمن ما اقترحه الوزير الفرنسي كان فرض تجميد قوى النظام السوري في مكانها وفرض حظر على تحليق الطيران الحربي.
جون كيري طالب روسيا بمنع تحليق الطيران الحربي السوري في المناطق الرئيسة المتفق عليها في شمال سورية وإجبار النظام على التنفيذ، وذلك أثناء جلسة مجلس الأمن الصاخبة التي شهدت سجالاً بين كيري ولافروف. الوزير الروسي احتج على "شروط مسبقة" من الجانب الأميركي، فرد كيري بأن "عدم قصف المستشفيات والمدنيين وقوافل المساعدات ليس شرطاً مسبقاً، بل هو اتفاق دولي يتم انتهاكه في شكل متكرّر". قال: "كيف يمكن البعض الجلوس إلى الطاولة والتحدث فيما النظام السوري يقصف شعبه بالكيماوي؟".
روسيا، كما قال لافروف، مازالت متمسكة بضرورة العودة إلى مراجعة لائحة التنظيمات الإرهابية لإضافة تنظيمات جديدة إليها. وأضاف أن روسيا تحتاج ضمانات جديدة بأن للولايات المتحدة "نفوذاً على الأرض وعلى المجموعات التي تقول أنها ستتقيد بالاتفاق".
ماذا عن العملية السياسية والتي تبدو كأنها في المقعد الخلفي للاعتبارات الروسية والأميركية؟ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا إلى استئناف المفاوضات موضحاً أن على الجلسة الأولى التركيز على "الانتقال السياسي، خصوصاً كيفية ممارسة السلطات من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة والسلطات التنفيذية الأخرى". تحدث عن مفاوضات تؤدي إلى تشكيل الهيئة ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، وزاد أن مبعوثه ستيفان دي ميستورا سيقدم إطار عمل جديداً للمفاوضات. دي ميستورا قال أنه سيقدم اقتراح إطار عمل يستند إلى مبادئ "معالجة ممارسة السلطة من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة، والمشاركة في السلطة، وإيجاد هيئات انتقالية للإشراف على وقف النار والمساعدات الإنسانية، وإيجاد البيئة المؤاتية لممارسة النشاطات السياسية سلمياً، ومواصلة الدعم الدولي للعملية".
صارح دي ميستورا المعارضة السورية بمخاطبتها بأن "عليها أن تفهم أن أي انتقال لن يكون محصوراً في شأن شخص واحد ونقل السلطة من جانب سياسي إلى آخر". وتوجه إلى الحكومة السورية قائلاً ان "عليها أن تعي أن الانتقال يتضمن نقلاً حقيقياً للسلطة، وليس مجرد ضم المعارضة إلى الحكومة التي يحكمها شخص واحد". لافروف قال لدي ميستورا أنه مازال يتمتع بالدعم الروسي له، إنما نصحه بألا يخضع "للابتزاز".
أسبوع سورية في الأمم المتحدة لم يكن في مصلحة الديبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها منعزلة فيما أنظار العالم انصبت على الخروقات الرهيبة للقوافل الإنسانية وعلى التجويع والتشريد والقصف، سياسة يعتمدها النظام في دمشق بدعم من حلفائه، روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها.
ازدادت الضغوط الإعلامية والسياسية هذا الأسبوع بسبب حضور حلب إلى نيويورك أثناء الجمعية العامة ونتيجة العملية العسكرية الأميركية في سورية الجديدة نوعياً - خطأ كانت أو عمداً. إنما ما انتهى إليه الأسبوع هو الاستنتاج بأن التصادم الأميركي - الروسي السياسي ليس مؤشراً إلى نهاية النزاع، بل قد يكون المؤشر إلى إطالته. والأمر يعتمد على ما في ذهن بوتين في الكرملين، لا على أقوال أوباما وهولاند في نيويورك. يعتمد أيضاً على ما سينفذه أردوغان.
أما الرئيس الإيراني حسن روحاني، فكانت زيارته تحت الرادار، عكس زياراته السابقة. لعله قرر أن الأفضل له الآن الاختباء عن الأضواء كي لا يوضع في خانة الاتهام والمساءلة عمّا تقوم به إيران في سورية. الواضح أنه لم يتعرّض لضغوط جدية نافذة من نظيره الأميركي، أو من القادة الغربيين.
سرعان ما ستحاول الديبلوماسيتان الأميركية والروسية استدراك التوتر في العلاقة الثنائية لأن الملفات الإقليمية بينهما لا تقتصر على سورية. سيتم ترميم العلاقة ظاهرياً بعدما أصابها الصدع علناً لأن الدولتين حريصتان على الشراكة الضرورية بينهما بالذات في سورية.
الخطر يكمن في الترميم. فطالما تضع الدولتان علاقاتهما الثنائية فوق كل اعتبار، ستبقى ساحة التضحية سورية. فلقد كانت معالم المواجهة منذ البداية ذات حدود ولم يتوقع عاقل أن تتطور إلى مواجهة ميدانية. ترجمة هذه المعادلة أن لملمة الخلافات ستعني التورية على المأساة السورية كي لا تفضح ذلك النقص الفظيع في المواقف المبدئية.
أسبوع الصخب في نيويورك ليس حدثاً عابراً لكنه لن يصبح ذا معنى ما لم تهتز العلاقة الأميركية - الروسية بجدية، لا بمجرد خطابات رفع العتب التي لها نكهة التفاهمات المسبقة على أولوية استمرار الشراكة تحت أي ظرف كان بما فيه اللاأخلاقية السياسية نحو سورية.
أُشير في مقالٍ للكاتب والباحث والمترجم السوري، بدر الدين عرودكي، في الموقع الإلكتروني "جيرون" (23/9/2016)، بشأن البيان الذي ذاع الأسيوع الماضي، موقعاً من 150 مثقفاً سورياً، عن عدم أخلاقية السياستين الروسية والأميركية، يردّ على ما رآها مقال للزميل ساطع نور الدين في "المدن" (16/9/2016) عيوباً في البيان، أشير إلى أنه تمت ترجمة البيان إلى الفرنسية والإسبانية والانجليزية، لينشر في الصحف الناطقة بها، في الوقت الذي نشر فيه بالعربية، لكن عرودكي لا يفيد بأن هذا الأمر قد جرى، وأن البيان وجد سبيله إلى النشر في منابر وازنة باللغات الثلاث. ولم تأت الأخبار، في حدود ما يعلم صاحب هذه الكلمات، على ذلك، وإن صودف أن موقعاً إلكترونيا بالانجليزية نشر البيان، الموجه إلى غير السوريين، والذي يُفترض أن الروس والأميركيين هم أول من يلزم أن يقرأوه، صناع السياسات منهم خصوصا، والمثقفون وأهل الإعلام، وكذا أوساط العاملين في الميديا الأميركية والأوروبية، من دون انشغال بالسؤال عن العوائد من نشره وتعميمه، ذلك أن من أهم وظائف المثقف أن ينشط في سبيل إشاعة موقفه ورؤاه. ولمّا كانت المحنة الإنسانية الكبرى في سورية تحتم على كل النخبة السورية المنحازة إلى شعبها، وكذا العربية المناوئة لكل استبداد، أن تعملا بدأبٍ لا يتوقف على الاحتكاك مع الرأي العام العالمي، وفي مختلف وسائل التأثير عليه، وعلى الحوار مع التشكيلات الأهلية والحزبية والنقابية والأكاديمية الفاعلة في مجتمعات الغرب، ومثيلاتها في روسيا (لم لا؟) وفي عموم الأرض، في آسيا وإفريقيا وأستراليا والأميركيتين.
ليست هذه مهمةً سهلةً، ولا ميسورة، غير أننا لا نلحظ أي محاولة محدودة تنشط فيها، وليس هناك من مسعىً واحدٍ في خصوصه، على الرغم من الإلحاح الشديد الوجوب لوجود لوبيات مبادرة وحيوية من أجل القضية السورية، لا سيما وأن القناعات التي تتبنى اعتبار الحالة السورية حرباً ضد الإرهاب صارت تتعزّز في ساحات إعلامية وثقافية عريضة في العالم. ويكفي أن يشار، هنا، إلى أنه على الرغم من تعدّد الكيانات التي جمعت تمثيلاتٍ من الثورة السورية، والمعبرين عنها، منذ المجلس الوطني مروراً بالإئتلاف، وصولا إلى الهيئة العليا للمفاوضات، عبورا إلى تشكيلاتٍ جزئية أخرى وفيرة، إلا أن لا أحد منها أوْلى الأمر المتحدّث عنه هنا اكتراثاً أو التفاتاً، وكأن من البديهي أن ينتصر العالم من أجل قضيتك، وأنت تتحدّث مع نفسك ومع أنصارك.
جاء بيان ال 150 مثقفاً سورياً موفقاً وشاملاً في إحاطته أكثر من مسألةٍ تتصل بموضوعة انعدام الأخلاق في السياستين الروسية والأميركية بصدد محدلة التمويت والاضطهاد والاعتقال والعسف والتهجير والتشريد التي يتعرّض لها الشعب السوري. والمعوّل أن يحظى من موقّعيه، ومن الناشطين منهم، ومن غيرهم، في ساحات الفعل الثقافي والإعلامي والأكاديمي في غير بلد، في أوروبا وأميركا وغيرهما، بحركةٍ متواصلة، من أجل أن يصل إلى أكبر عدد من المثقفين والسياسيين في العالم، وأن يُتبع بمبادراتٍ مثيلة، وبياناتٍ وتظاهراتٍ وأنشطةٍ متنوعة، يُدعى إليها سياسيون ومثقفون وأكاديميون أميركان وروس وأوروبيون، ومحاورتهم ومساجلتهم، في خطابٍ متكامل الزوايا، يتأسّس على تفكيك منظومة الاستبداد القائمة في سورية، والتأكيد على أن تحرير الشعب هناك منها وحده الكفيل بإنهاء ظاهرة الإرهاب المتوحش، ونقض المقولة التي نجح أنصار النظام في إشاعتها، وهي أن بدائله هي تشكيلات الإرهاب الأسود وعصاباته.
يعرف المثقفون السوريون، قبل غيرهم، أن بياناً منهم لن يوقف صاروخاً روسياً يبعثه أهل القرار في موسكو إلى حلب وإدلب للتدمير والتهجير، غير أن ما يحسُن أن يعرفوه أيضا أن إصدار بيانٍ، وإن بدا في صيغةٍ راقية ومتقدمة، كما بيان الأسبوع الماضي، هو عتبةٌ إلى خطواتٍ أخرى، أهمها أن يكون هذا البيان موصولاً بنشاط مثابر وصعب وذي نفس طويل، وكفاحي وصبور، تتأهل له شبكةٌ متكاملة من ذوي الخبرة في الاتصال والتواصل، وفي المحاورة والمساجلة. .. هل تُرجم البيان إلى الانجليزية والفرنسية والإسبانية، ثم نشر بهذه اللغات؟
في الحديث الشهير الذي أدلى الرئيس باراك أوباما به قبل قرابة شهرين إلى الصحافي الأميركي جولدبرغ، وعبّر من خلاله عن الرؤية الفكرية التي حددت خياراته وأملت عليه قراراته ومواقفه، وردت جملة تقول بصيغة تساؤلية: ما هي أهمية سوريا بالنسبة لأميركا، تلاها رد أوبامي واضح وصادم، يقول حرفياً: سوريا ليست مهمة لنا.
في فهمه للصراع السوري ولآلياته، يقول أوباما مهنئاً نفسه على قراراته الحكيمة: إن خلف هذا الصراع، الذي له مظهر سياسي، حسابات وصراعات قبلية ومذهبية يصعب على أي أجنبي التدخل فيها، بسبب ما يشوبها من غموض ويكمن فيها من اعتبارات مغرقة في المحلية وذات أبعاد تاريخية يصعب على من يتدخل فيها الخروج منها بسلام، كما حدث بعد تدخلنا في العراق.
هكذا إذاً، لا حرية ولا شعوب ولا ظلم ولا استبداد، بل صراعات وحروب ظاهرها سياسي وحديث وجوهرها ما قبل مجتمعي / ما قبل تاريخي، فما الذي يمكن أن يغري أميركا: بلد الحداثة والتقدم، المنتمي إلى الزمن ما بعد الحداثي، بحشر أنفه فيها وخوض معاركها، التي لا تعنيه أصلاً ولا يمكنه التأثير في مجرياتها؟
سأتجاوز اللغة التحقيرية والأفكار الخاطئة، التي يرى أوباما من خلالها وقائع منطقة لطالما ادعى هو وفريقه أنها دخلت بفضل الربيع العربي المرحلة الرابعة من الثورة الديمقراطية الكونية، التي بدأت في الغرب، ثم اجتاحت البلدان الاشتراكية، قبل انتقالها إلى أميركا اللاتينية ووصولها أخيراً إلى العالم العربي.
صحيح أن أوباما ناقض نفسه، بعد الثورات الديمقراطية، عندما راهن على جماعة الإخوان المسلمين ورأى فيهم ممثلين طبيعيين لهذه الثورات يمثلون النزوع الديمقراطي للشعوب العربية، متجاهلاً ما يستندون إليه من أسس أيديولوجية مغايرة في جوانب عدة للنظام الديمقراطي.
حين فشلت تجربة الإخوان في مصر، وقبلت بالمشاركة السياسية في تونس، اعتقد أوباما أن ما حدث كان تعبيراً عن إخفاق المجتمع العربي في بلوغ الديمقراطية، ولم يرجع أسباب الإخفاق إلى سياسات خاطئة تبنوها في مصر.
بل أعادها إلى بنية عربية غير مجتمعية، نافية للحداثة والديمقراطية، من غير الجائز أن تساندها أميركا، لأن نتيجتها الوحيدة، التي يمكن أن تترتب عليها، ستكون نزاعات قبلية ومذهبية عصية على الضبط والتحكم، كان من نباهته أن تغافل عنها، وحال دون احتراق مواطنيه بنيرانها!
أين تتجسد هذه الهوية ما قبل المجتمعية، المفعمة بالعنف والغموض والمذهبية؟
يبدو أنها تتجسد في الثورة السورية، التي أيدها أوباما بقوة أول الأمر، ثم اكتشف أنها لا تستحق التأييد، لأن سوريا غير مهمة لأميركا، وحقق اكتشافه بعد أن استغل دماء السوريين كي يصفي حساباته مع إيران والنظام، وينتزع البرنامج النووي من الأولى والسلاح الكيميائي من الثاني.
عندئذ فقدت الثورة السورية هويتها كثورة مجتمعية وشعبية مطالبة بالحرية والقيم التي يقوم عليها العالم الحديث، وتحولت إلى شأن لا يعني أميركا، لا ضير عليها إن تخلت عنه وتركته لإيران ومرتزقتها، ولروسيا وشبيحة الأسد، وتفرجت بدم بارد على هؤلاء وهم يفتكون بأطفال السوريين ونسائهم وشيوخهم، وتجاهلت ما يستخدم ضدهم من أسلحة وذخائر تجرب لأول مرة على الآدميين، ولكن بصفتهم «حيوانات تجارب» لا يجوز أن ينفعل لموتها أحد، أو يذكر بها.
ليست سوريا مهمة لأميركا... يبدو أن أوباما نسي تصريحاته اليومية الداعمة لرحيل الأسد، وكان قصده الحقيقي والمضمر منها تسعير الصراع وتصعيده وإيصال السوريين إلى ما بلغوه اليوم من ترحيل وتهجير وتقتيل وتعذيب وإفقار وحصار وتجويع وإبادة.
لنفترض أن هذا لم يكن هدف الرئيس الأميركي، ألم يكن من الإنسانية أن يتحدث بشيء من التعاطف مع ضحايا العنف الأعمى، وأن يعتبرهم بشراً ماتوا من أجل حريتهم، من التجني اعتبار معركتهم قبلية ومذهبية، مساندتهم خطأ وموتهم فعل من أفعال البر والتقوى، أنجزه نظام لم يدنه ولو بكلمة واحدة منه خلال حديثه الطويل.
أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو توم أم جيري؟.
لا جواب واضح على السؤال، فذلك يتوقف على الزاوية التي يراقب من خلالها المشاهد، ذلك أن الحكم لا يتعلق بنتيجة اللعبة بينهما "لا غالب ولا مغلوب"، وإنما بالشد والرخي، واللف والدوران، وتبادل الأدوار، وفي النهاية يظهر الاثنان فائزان ذكيان.
بالطبع.. لا نحاول هنا تحليل أفلام الكرتون الأشهر "توم وجيري"، ولكننا استعرنا تشبيه الكاتب اللبناني سمير عطا الله لكيري بـ"جيري"، في مقال "قبيلة اللو" قبل يومين بجريدة الشرق الأوسط.
بعيداً عن الشخصيات الكرتونية وقريباً من الواقع، أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو جون كيري أم سيرغي لافروف؟
كيري-لافروف، علاقة بين خصمين تارة وبين صديقين تارة أخرى، ويقول بعض المحللين إن الرجلين يلعبان سياسة، علاقة وصفها بعض المحليين بأنها "علاقة الأضداد" ما بين السيد "لا" والسيد "نعم"، كيف تطورت العلاقة بين الثنائي الديبلوماسي الغريب والمتناقض "كيري (السيد نعم)-لافروف (السيد لا)"، واللذين أصبح اسميهما مقترناً ببعضهما إلى حد كبير، فهما الثنائي السياسي الذي اجتمع على مدى سنوات من أجل الموضوع السوري، اجتمعا مع بعضهما أكثر مما اجتمعا مع رؤساء دولتيهما، وبالطبع تفاوضا وتجولا وتحدثا، وشربا الفودكا الروسية وأكلا البيتزا الأميركية معاً بحضور الصحافيين "11 سبتمبر 2016، عندما دخل وزير الخارجية الروسية بملامح صارمة ولهجة جدية وبعد انتظار طويل، إلى القاعة المخصصة للصحفيين في ختام جولة مباحثاته مع كيري حول هدنة العيد في سوريا، دخل يومها لافروف حاملا زجاجتي فودكا مخاطبا الصحافيين بالقول: "البيتزا من الوفد الأميركي، نحن نأتي بالفودكا".
تشاؤم.. تفاؤل.. وهكذا دواليك
خلال مسيرة سنوات من العمل على الملف السوري الذي أرّق العالم كله، تناوب التفاؤل والتشاؤم على اجتماعات كيري- لافروف، وتعلم الجميع من صحافيين ومراقبين ومحللين أن التفاؤل والتشاؤم الأميركي الروسي لن يكون أكثر من جولة قصيرة، وسيتبادلان الأدوار بالاجتماع المقبل.
فخرج اليوم السبت 24 سبتمبر الوزيران من اجتماعهما في نيويورك بانطباع تشاؤمي، وإشارات متناقضة بين الطرفين حول النتيجة "المحدودة جداً"، كما وصفها كيري لهذا الاجتماع، وإن لم يتحدث كيري صراحة عن فشل، فإن لافروف في المقابل، لم يشر إلى أي تقدم محتمل بعد المحادثات.
ليس ببعيد عن اليوم وقبل 3 أيام فقط شهدت جلسة مجلس الأمن الدولي الخاصة في سوريا خلافا بين واشنطن وموسكو بشأن المعارضة السورية المسلحة، فهاجم كيري روسيا "النظام السوري وروسيا ليسا بحاجة إلى اتفاقات ومفاوضات كي يوقفا قصف المنشآت الطبية في البلاد"، وذهب كيري أبعد من ذلك –يومها- وانتقد التضارب في التصريحات الروسية بشأن الهجوم على قافلة الإغاثة الأممية في حلب، فما كان من لافروف إلا أن رد على زميله الأميركي باتهام فصائل المعارضة السورية بانتهاك الهدنة أكثر من 300 مرة.
ولكن ورغم كل تلك التناقضات فإنه يبدو واضحاً لمن يراقب الصحافة الروسية أن الروس يتعاطفون مع هذا الثنائي السياسي "كيري- لافروف" فالصحافة الروسية لا تنتقد كيري كثيراً مثلما تفعل مع الرئيس باراك أوباما.
ونقل تقرير صحيفة الديلي بيست الأميركية قبل عدة أشهر عن المحلل السياسي الروسي دميتري أوريشكن، قوله "لن يتطلب الأمر الكثير من آلة الدعاية الخاصة بنا لتحويل كيري إلى شخص متوحش أو سادي، ولكن لافروف لا يسمح بذلك، فهو يقدر علاقتهما الجيدة".
العلاقة في أسوأ أحوالها
كتب عرّاب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قبل أشهر قليلة "فبراير شباط 2016" أن العلاقات بين موسكو وواشنطن في الوقت الراهن "تكاد تكون في أسوأ أحوالها منذ انتهاء الحرب الباردة".
يبدو رأي كيسنجر متوافقاً مع الأحداث الدموية التي تسيطر على العالم فيما يتعلق بالملف السوري الذي يديره الرجلان الممثلان للدولتين الأكبر، إذ تشير التقارير إلى التلاعب الروسي بأميركا، وتظهر الأحداث والتطور على الأرض أن لافروف روسيا تجاهل كيري أميركا، وأظهر الضعف الأميركي بوضوح في أكثر من مناسبة.
وازدادت الانتقادات في الداخل الأميركي لسياسة الرئيس أوباما ورجله الأول جون كيري، وحمّله الكثيرون من السياسيين والصحافيين مسؤولية الكارثة الإنسانية التي اجتاحت سوريا وتسربت للعالم كله.
يتناقض توصيف كيسنجر عن العلاقة الروسية الأميركية مع آراء سياسيين أميركيين، إذ نقلت الصحافة الأميركية بعض الآراء حول دور كيري ولافروف بتقدم العلاقة بين البلدين الأكبر في العالم، وعلى الرغم من أنهما اختلفا حول الكثير من القضايا الرئيسية في الموضوعين الأساسيين "أوكرانيا، سوريا"، إلا أن الخلاف لم يقطع العلاقات والمحادثات الديبلوماسية، إذ إنهما مازالا يجلسان ويتحدثان لساعات وخصوصاً فيما يخص الموضوع السوري.
ولكن.. هل يمكن أن تبقى العلاقة قبل قصف قافلة المساعدات الأممية كما بعد قصف القافلة، وهل يمكن للديبلوماسية مهما كان لاعبوها "محترفين" أن تتجاهل الانتقادات والاتهامات التي تطايرت بين الطرفين، ففعل قصف القافلة جاء أكثر استفزازاً من تحليق قاذفاتها السوخوي فوق حاملة الطائرات الأميركية قبل أشهر قليلة، ووصف كيري حينها التحليق بأنه خطير واستفزازي، وبدا يومها أنه يهدد روسيا عندما نوّه لقدرة الجيش الأميركي على إسقاط الطائرات الروسية، ولكن روسيا ردت يومها بأن الطيارين الروس لم يخرقوا أي قواعد دولية وانتهى الأمر، وربما سينتهي موضوع قصف قافلة المساعدات بتمييع القضية وتجاهلها مع الوقت، ومحاولة إيجاد كبش فداء ليتحمل عبء القصف.
توم وجيري
في منتصف شهر مايو 2013، أعلن كيري للعالم بلغة حماسية أنه و"صديقه سيرجي" وافقا على المشاركة في استضافة مؤتمر السلام السوري في جنيف.، وبعدها مباشرها نقلت وكالات الاستخبارات الأميركية أن روسيا زودت نظام الأسد بصواريخ متطورة، وعلق في ذلك الوقت السيناتور جون باراسو "من يسأل روسيا لدعم مصالح الولايات المتحدة في سوريا هو كمن يسأل الثعلب لحراسة حظيرة الدجاج."
لمدة ثلاث سنوات، من جنيف الأولى إلى جنيف الثاني، إلى فيينا، إلى جنيف الثالثة، مروراً بكل قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بسوريا، وكل تلك الزيارات المكوكية والمحادثات الثنائية، لم تثمر إلا على زيادة نفوذ روسي، وضعف أميركي.
في سبتمبر 2015 حصل الأسوأ بالنسبة للسوريين وللسياسة الأميركية، فتدخلت روسيا مباشرة إلى جانب صديقها بشار الأسد، وأخذت زمام المبادرة واستهدفت المعارضة المسلحة بدون التفريق ما بين فصائل متشددة وأخرى معتدلة ما أغضب الأميركيين.
وفي بداية شهر شباط عام 2016، أصر كيري على وقف إطلاق النار فورا، فردت روسيا بحملات قصف رهيبة وشديدة وبضعة مجازر في حلب، وكان آخرها قصف وإحراق قافلة المساعدات الدولية.
وقبل يومين رفضت روسيا مقترحا لكيري بتعليق تحليق الطائرات الروسية والسورية فوق مناطق المعارك السورية ووصفه بأنه "غير عملي"، ما يمحي كالعادة كل تصريحات كيري- لافروف الماضية، ويصل الموضوع لحائط مسدود كما كل مرة.
لافروف.. كيري.. أيهما الأقوى
قال المحلل الروسي أوريشكن قبل أشهر بحسب صحيفة "الديلي بيست الأميركية" "إن وظيفة لافروف أصعب بكثير، لأنه لا يوجد لديه استقلال وإنما ينفذ قرارات بوتين فقط، وحتى لو اختلف مع بعض التحركات، فلم يكن لديه الخيار".
ومن يظن أن الرجلين على علاقة سيئة لكثرة التناقضات والخيبات بعد كل تصريح من أي منهما، فإنه مخطئ، إذ قال لافروف قبل أشهر قليلة إنهما "على علاقة جيدة جداً وأضاف، بحسب ما ذكر تقرير الـ"دايلي بيست"، "ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نبتسم من الأذن إلى الأذن، ونعبر عن الفرح خلال كل اجتماع لإرضاء الصحفيين الروس والأميركيين وغيرهم."
يتبادل الشرعيون المسيِّرون للفصائل في سوريا الفتاوى بين تحريم و تحليل ، واباحة و نهي ، حول قضايا الاندماج و المشاركة هنا و هناك ، في الوقت الذي تغص به السماء بأرواح الشهداء بشكل وصل لدرجة أن المعدل اليومي للشهداء يفوق الـ ١٠٠ ، من مدنيين ضعفاء و مقاتلين أشداء ، في حين أنهم يجلسون في مكامنهم يحللون القضايا و يصدرون الفتاوى التي لم تقد في يوم من الأيام لشيء ايجابي.
خرج شرعيو جبهة “فتح الشام” أمس الأول ببيان يقضي بـ”حرمانية” المشارك في معارك “درع الفرات” كونه تعامل مع عدو كافر صائل (الأمريكان) ، سبقهم شرعيو حركة أحرار الشام الاسلامية ببيان الإباحة ، في حين رد شرعيو المجلس الاسلامي السوري بالتحليل شرط عدم التوقف ضد الأسد و حلفاءه ، رد شرعي جيش الاسلام بأن تركيا دولة اسلامية فيجوز التعاون معها ، أنكر بعض أعضاء أهل العلم بيان الاباحة و أكدوا عدم مشاركتهم به ، و قال …. و رد … في حين اعتبر ….. ، أما …… فقد أشار إلى …. ، و يستمر الحديث و التكثيف البياناتي حول القضية ، و تجد الآيات ذاتها تطرح من جميع الأطراف و بتفسيرات متضاربة بشدة ، تجعل غالب الظن أن الخلاف بين دينين و ليس داخل مذهب واحد ، و حتى داخل ذات الشعبة.
السادة الشرعيون يعملون بكد و جد على مدار الساعة لتحليل المعطيات و اطلاق الفتاوى، و توجيه الجيوش لفتح هنا أو قصف هناك ، مراعين مبادئ الظروف و الحالة و الوضع السياسي و الحال المعاشي ، بالطبع على رأس أولوياتهم هو التقارب و التجاذب بين البقية من ذات التوصيف “الشرعي” ، الذي يشّرع كل شيء حتى من الممكن أن يصل الأمر به إلى إعلان الحرب و الإبادة على فصيل آخر ، فهو “الشرعي” الذي لا ينام على خطأ.
قد أصيب و أخطئ ، و أتحمل مسؤولية ما أفعل و أقول ، وذلك في حدود الأمور التي أملك ، و لكن أتساءل بشكل دائم لم لا يعترف “الشرعيون” بأخطائهم و يتوبوا إلى الله ، وكيف يختلفون حول ذات المصدر ، فيصر البعض على أنه صاف زلال و الآخرون رجس من عمل الشيطان ، و يقسموا المناطق و الدول لكفر و اسلام ، و الرايات لطاغوت و توحيد ، في حين يصمتون صمت الجبال حول مصدر الدخل و الدعم و تجدهم في عداد الأموت اتجاههم.
في كل يوم نودع عشرات الشهداء من خيرة المقاتلين و القادة العسكريين ، في مختلف الساحات ، و لكن عندما تبحث بين الأسماء لا تجد شرعي موجود بينهم ، و حين يقتل أحدهم فهو يقتل قصفاً بالخطأ أو استهداف تحت وسم “الاغتيال” بفتوى شرعي يقابله ، أليس أولى بهم إدارة الحرب و الافتاء بالمستجدات الدائرة على الأرض و الميدانية بشكل لصيق بالمقاتلين “المجاهدين” الذي يعمدون على مدهم بفتاوى الجهاد و ووجوبه ، و كيف يحكمون إذاً.
أذكر جيداً عندما كنت في أحد الأماكن أن فتوى من مجلس شرعي أفتى بعدم جواز مشاركة الشيخ “فلان” في المعارك خوفاً عليه من أن يقتل فتضيع المنطقة و قد تضيع الأمة من بعده ، و بالفعل قد تضيع الأمة إن قتل ، و لكن ان بقي بذات السوية فإن الأمة ستباد.
ليت الشرعيين المتناحرين بين سلفية بأنواعها و تلك المتصوفة بأشكالها ، أن يقولوا لا إله إلا الله فقط ، و ينطلقوا لساحات الوغى علّنا، نجدهم أسوة حسنة ، و ليكونوا بصدق “ورثة الأنبياء” أفضل من أن يكونوا ….. .
لم يكن للاتحاد السوفياتي في الماضي، ولروسيا الاتحادية الآن، من هم سوى أخذ سوريا والسوريين من كارثة إلى أخرى. ليس التفاهم الأميركي ـ الروسي الأخير في شأن الهدنة سوى امتداد للخط الذي سارت عليه موسكو دائما. هذا التفاهم الذي تبيّن كم هو هشّ تريد روسيا تفسيره بما يتناسب مع ما تعتبره حماية لمصلحتها. ومصلحة روسيا في هذه المرحلة وضع قسم من الأراضي السورية تحت وصايتها ورضوخ أميركا لشروطها.
باختصار شديد، هناك طلب روسي بسيط من الإدارة الأميركية. فحوى هذا الطلب أنّ سوريا أرض روسية وأنّ بشار الأسد ليس سوى دمية تحركها موسكو وأنّ المعارضة السورية كلّها مجموعة إرهابيين لا أكثر… وما على أميركا سوى القبول بهذا الواقع الذي يعني بين ما يعني قيام “سوريا المفيدة” التابعة لإيران.
هذا هو المفهوم الروسي للتفاهم في شأن الهدنة. لذلك، عندما قصفت الطائرات الأميركية، عن طريق الخطأ، أو غير الخطأ، قوات تابعة للنظام السوري في دير الزور، ردت موسكو بقصف لقافلة تنقل مساعدات إلى المواطنين في حلب. قتلت مدنيين ومنعت دخول المساعدات إلى المدينة المحاصرة.
من حقّ روسيا متابعة سياستها السورية التي تصبّ في تفتيت سوريا والانتهاء منها. هناك فرصة لا تعوّض اسمها إدارة باراك أوباما التي لم تعترض يوما بشكل جدّي على السياسة الروسية، خصوصا في سوريا. كانت نقطة التحوّل استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في سياق حربه على الشعب السوري صيف العام 2013.
بدل أن ينفّذ باراك أوباما وعيده بضرب القوات التابعة للنظام بغية معاقبتها على اللجوء إلى السلاح الكيميائي، قبل الرئيس الأميركي كلّ ما عرضه عليه الرئيس فلاديمير بوتين. قبل كل شيء، نسي أوباما أنّه كان رسم “خطا أحمر” لبشار الأسد وأنّه اعتبر أن على رئيس النظام السوري الرحيل.
ارتضى بضمانات بوتين الذي عرض التخلص من مخزون السلاح الكيميائي في سوريا بدل معاقبة الأسد الابن على اللجوء إلى هذا السلاح لقمع السوريين. أكثر من ذلك، اقتنع بالكلام الجميل الصادر عن بوتين في مقال كتبه في صحيفة “نيويورك تايمز” عن التعاون من أجل إقرار السلام والاستقرار في العالم. صدّق أن الرئيس الروسي الذي لا يؤمن سوى بنظرية محو المدن، على غرار ما فعل في غروزني، يمتلك خريطة طريق واضحة على استعداد للسير فيها إلى النهاية عندما لا يجد في واشنطن من هو على استعداد للوقوف في وجهه.
لماذا يأخذ بوتين باراك أوباما على محمل الجد هذه المرّة ولا يقنعه، عن طريق قصف قافلة الإغاثة بأن لا مجال أمامه سوى الاستسلام لروسيا في سوريا؟ صحيح أن هناك مراكز قوى أميركية، من بينها وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية والأمنية، لا تقبل بأن تكون الولايات المتحدة مجرد غطاء للسياسة الروسية في سوريا، لكنّ الصحيح أيضا أن إدارة أوباما لن تتهاون في كلّ ما من شأنه القبول بأن تكون روسيا صاحبة القرار في سوريا. فهذه الإدارة تضمّ مستشارين نافذين من الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس متعاطفين مع إيران مثل فاليري جاريت أو منحازين للنظام السوري مثل روبرت مالي. هذه الإدارة يهمّها قبل كلّ شيء حماية الاتفاق في شأن الملف النووي مع إيران، كما يصعب عليها إدراك أنّ النظام السوري و“داعش” وجهان لعملة واحدة وأن لا خلاص من “داعش” من دون القضاء على النظام السوري.
عندما يجد فلاديمير بوتين أمامه إدارة من هذا النوع أدارت ظهرها لكلّ ما له علاقة بحقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير للشعوب، ليس ما يمنعه من متابعة سياسته السورية. إنّها سياسة قديمة جدا تقوم على ضرب القوى الحيّة في سوريا ومجتمعها الغنيّ بتنوعّه وعلى نشر البؤس والفقر في البلد وتشجيع كلّ نظام قمعي فيه.
لا حاجة إلى العودة بعيدا إلى خلف. يكفي كيف دعم الاتحاد السوفياتي نظام البعث الذي أخذ سوريا ومعها مصر إلى حرب 1967 للتأكد من أن موسكو كانت في كلّ وقت مع سوريا الضعيفة والمهزومة التي تستخدم الإرهاب والابتزاز لتأكيد وجودها في المنطقة.
نجح الإرهاب والابتزاز حتّى مع روسيا نفسها وقبل ذلك مع الاتحاد السوفياتي. ألم يدخل حافظ الأسد عسكريا إلى لبنان بضوء أخضر أميركي واسرائيلي عندما كان رئيس الوزراء الكسي كوسيغين في زيارة لدمشق؟ هل قبل الاتحاد السوفياتي بمثل هذه الخطوة لمجرّد أنّها ذات طابع تخريبي كانت بين أولى نتائجها اغتيال النظام السوري لكمال جنبلاط الزعيم الدرزي اللبناني “حامل وسام لينين”؟
لم تعترض موسكو يوما على الممارسات السورية في لبنان. لم تعترض قبل ذلك على ارتكابات المسلّحين الفلسطينيين في لبنان. لم تقم يوما بأي عمل ذي طابع إيجابي في مجال خدمة الشعب السوري وتخليصه من الظلم اللاحق به منذ تحول النظام في البلد إلى نظام تتحكم به الأجهزة الأمنية في العام 1958 ومنذ انتقاله إلى حكم البعث في 1963 تمهيدا لسيطرة الضباط العلويين على مقدرات البلد في الثالث والعشرين من فبراير 1966.
كان الكرملين مع الظالم ضد المظلوم في سوريا، أكان ذلك في عهد الاتحاد السوفياتي أو في عهد روسيا الاتحادية. لم يتغيّر شيء في موسكو على الرغم من مرور السنين. الجديد الآن أن هناك إدارة أميركية مستعدة للذهاب إلى أبعد حدود في مسايرة الكرملين الذي ينسق مع إسرائيل في شأن كل شاردة وواردة. هل تنبع قوّة فلاديمير بوتين من هذا التنسيق؟ الجواب نعم، بل ألف نعم. ففي الماضي القريب جرّب براك أوباما الدخول في مواجهة مع بنيامين نتانياهو. اكتشف أنّه عاجز عن ذلك. عليه الآن الدخول في مواجهة الحلف الروسي ـ الإسرائيلي في وقت تشارف ولايته الثانية والأخيرة على نهايتها.
من لم يستطع مواجهة نتانياهو لن يتمكن من دون شكّ من مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الروسي معا. هذا لا يمنع من التساؤل مرّة أخرى لماذا هذا الإصرار الدائم في موسكو على الانحياز إلى كلّ من يريد الشرّ لسوريا وشعبها.
قد يكون الجواب الوحيد على ذلك أن ليس في استطاعة روسيا إلّا التدمير. من يريد مثلا حيّا على ذلك، يستطيع الاستعانة بتجربة الاتحاد السوفياتي في اليمن الجنوبي. ما الذي فعله الاتحاد السوفياتي في هذا البلد الذي استقل في العام 1967؟ هل بقي شيء من مدينة عدن التي كان يمكن أن تكون إحدى أهمّ المدن في شبه الجزيرة العربية قبل أن يقضي عليها الوجود السوفياتي في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته تمهيدا للسقوط في مستنقع التطرف الديني في 1994، وهو تطرف لم تخرج منه حتّى الآن.
ماذا تريد موسكو تحقيقه في سوريا؟ هل من عاقل يستطيع أن يبني على نظام بشّار الأسد. يمكن الاستعانة بما بقي من النظام لاستكمال عملية تدمير سوريا لا أكثر. لا يبدو أن هناك هدفا آخر للكرملين في هذا البلد…
لم تكن أزمة «اللاجئين والمهاجرين وتحركاتهم الكبرى» لتتحول عنواناً للقمة الدولية التي عقدت في الأمم المتحدة، لولا امتداد أبشع حروب هذا القرن منذ الحرب العالمية الثانية، إلى أكثر من 5 سنوات، أي الحرب السورية التي شهدت تدفقاً للنازحين هو الأكبر نتيجة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه.
فعلى ظهر النزوح السوري الذي فاض عن قدرة دول الجوار على الاحتمال، ركب النازحون من أفريقيا ودول آسيوية، قوارب الموت أو سلكوا طرق الهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا، مع كل المآسي التي أنتجتها غرقاً وموتاً وإذلالاً. ولم يكن قادة العالم ليخصصوا هذه القمة لللاجئين لولا أن الدول الراعية للإرهاب، لا سيما النظام السوري وإيران، استفادت من «تحركاتهم الكبرى»، من أجل دس المجموعات المتوحشة في صفوفهم، لارتكاب الجرائم الفظيعة في دول الغرب، بهدف وصم الثورة السورية بالإرهاب.
وعلى رغم أن عدد اللاجئين في العالم يفوق عدد الذين غادروا سورية، ويبلغ وفق إحصاءات الأمم المتحدة 65 مليون نازح نتيجة النزاعات الدموية، فإن ما يجري في سورية هو المثل الفاقع عما دعا إليه بعض قادة الدول في نيويورك، وهو الحاجة إلى إيجاد الحلول للحروب، وللفقر، وعدم الاكتفاء بالإغاثة، لمعالجة الأزمة المتمادية.
ففي سورية يشكل تفريغ المناطق بعد تجويع سكانها الذين يبقون على قيد الحياة، إذا نجوا من البراميل المتفجرة وقصف الطيران السوري والروسي، سلاحاً حربياً وأسلوباً متعمداً في الصراع الدائر، أمام أنظار قادة الدول الفاعلة، الذين أطنبوا الآذان في خطبهم في المنظمة الدولية قبل أيام.
وفي سورية يقود استمرار الحرب إلى التمادي في «الضرب تحت الزنار» حتى لو كان تحت مظلة هدنة مزعومة، إلى المزيد من المآسي، مثل قصف قافلة مساعدات إنسانية تابعة للأمم المتحدة تنتظر دخول الأحياء المحاصرة في حلب، رداً على قصف أميركي لمواقع الجيش السوري في دير الزور. ويقال إن هذا الضرب يتم، إما انتقاماً لمقتل جنود أميركيين جراء غارات روسية على بعض المواقع، أو انتقاماً لمقتل جنود روس نتيجة غارات أميركية.
ويشمل «الضرب تحت الزنار» موضوع التهجير وإجبار الناس على النزوح في سورية، ضمن خطة مبرمجة على يد النظام وحلفائه الإيرانيين، لإحداث تغييرات ديموغرافية، بحيث يصبح البحث عن حل سياسي أكثر صعوبة مع تراكم الأحقاد وتعقيدات مخلفات الحرب، إذا وضعت أوزارها، ما يبقي على بذور تجددها. فتحت مظلة التهجير يجري تغيير معالم مناطق بأكملها في سورية.
فمن حي الخالدية وغيره في حمص، إلى القصير إلى رنكوس والزبداني ومضايا... ثم قبل أيام داريا وقريباً المعضمية وحي الوعر في حمص أيضاً حيث جرى إحراق متعمد لدوائر الأملاك العقارية وبعض الأحوال الشخصية... وفي أحياء كبرى في قلب دمشق وفي ريفها مثل مزة البساتين وكفرسوسة ويعفور... تعتمد أساليب شيطانية ومافيوية من أجل تملك الإيرانيين عقارات في عملية بدأت منذ 2012، وحلول عراقيين ولاؤهم للميليشيات المقاتلة إلى جانب النظام، ولبنانيين تابعين لـ «حزب الله»، مكان السكان الأصليين.
هناك يجري اختطاف فرد من عائلة من قبل أزلام النظام ليدخل سجون النظام، فيطلب من أهله مبلغ من المال للإفراج عنه، وإذا قصروا عن تأمينه «يشار» إليهم بأن يبيعوا قطعة الأرض التي يملكونها في محيط العاصمة، فيفعلون. لكن بيع الأرض مشروط بموافقة أجهزة المخابرات، لتتحكم بهوية الشاري. وهناك تشترط الاتفاقات التي ترعاها إيران تارة وروسيا أخرى، من أجل فك حصار قوات «الدفاع الوطني» الموالية و «حزب الله»، عن أحياء أعياها القصف والتجويع والتخلي، أن يستسلم المقاتلون ويرموا السلاح ليحصلوا على الأمان مع عائلاتهم مع وعد بـ «تنظيف سجلاتهم»، أو أن ينتقلوا إلى إدلب، إذا رفضوا ذلك. وطالما أن معظمهم يلجأ إلى الخيار الثاني، يصنفون بأنهم «إرهابيون». وينص «قانون» الإرهاب الذي أصدره النظام، على حق الأخير بمصادرة أملاك «الإرهابيين»، لتبيعها الدولة لمن تشاء. وبعضها تملكتها إيران باعتبارها من الأصول التي توازي بعض القروض التي منحت للدولة السورية. وهناك يشب حريق متعمد في أسواق البازورية في آب (أغسطس) من العام الماضي في دمشق القديمة بعدما رفض تجاره الأصليون بيع عقاراتهم لجهة تبغي التوسع في التملك في منطقة قريبة من مقام السيدة رقية. وهناك يطلب من سكان أبنية إخلاؤها بحجة مخالفات البناء كما يحصل في كفرسوسة... تمهيداً لإجبارهم على بيعها.
يدرك بشار الأسد لماذا ستمتد الحرب في بلاده أكثر من غيره، على رغم أنه قال بالأمس انها لن تتوقف ما دامت جزءاً من صراع عالمي.
غادر حجاج بيت الله تعالى، ضيوفُ الرحمن، الديارَ المقدسةَ بعد أن أتموا مناسكهم بكل يسر وسهولة وراحة وأمن وطمأنينة، بتوفيق من المولى تعالى لقيادة المملكة العربية السعودية وحكومتها التي سخرت إمكاناتها كافة لخدمة الحجاج والمعتمرين والزوار، ابتغاء وجه الله تعالى. لقد كان حج هذا العام هو الأنجح في سلسلة مواسم الحج الناجحة كلها، بإجماع استطلاعات آراء الحجيج والمراقبين وحملات الحجيج، وأتصور أن هذا النجاح المؤزر ثمرة جهود ضخمة ومتكاملة وإدارة تنظيمية كفؤة، قامت على توافر أربعة عناصر ساهمت في هذا النجاح المشرف:
الأول: الأعمال والمشاريع التوسعية الضخمة التي لا سابق لها في تاريخ مشاريع الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، لخدمة بيت الله تعالى وحجاج بيته جل وعلا، مما كان له المردود الإيجابي الكبير في استيعاب أعداد الحجيج المتزايدة، وفي تسهيل وتيسير أداء مناسكهم، وفي سلاسة تنقلاتهم في المشاعر المقدسة كافة.
الثاني: التنظيم الدقيق المتكامل والتنسيق السلس المتناغم بين الجهات والأجهزة الرسمية والأهلية والتطوعية المعنية كافة، بتقديم الخدمات المختلفة، سواء على مستوى سير وتحركات الحجيج، ووسائل النقل وقطار المشاعر أو خدمات المرور أو الخدمات الصحية أو خدمات الكشافة الإرشادية والتوجيهية أو الخدمات الأمنية والعسكرية.. إلخ.
الثالث: المستوى العالي والمتطور في نوعية الخدمات المقدمة إلى الحجاج هذا العام، بتوظيف الأجهزة التقنية في أعمال التوجيه والإرشاد والأجهزة الذكية والتسجيل الإلكتروني والخرائط الإرشادية والمعصم الإلكتروني مما كان له أبلغ الأثر في انخفاض عدد التائهين نسبياً. كذلك قام قطار المشاعر المقدسة بنحو 1600 رحلة، ومع هذه الزيادة لم تتأثر دقة التفويج ومواعيد انطلاق الرحلات، كما التزمت حملات الحج كافة بجداول تفويجها، ونجحت هيئة تطوير مكة في الإشراف على تشغيل وصيانة أكثر من 36 ألف دورة مياه موزعة على كامل المشاعر المقدسة، مجهزة بالخدمات اللازمة كافة، إضافة إلى التنظيم الرائع من قبل رجال الأمن للحركة على جسر الجمرات.
الرابع: منع إيران لحجاجها هذا العام بسبب تعنتها وإصرارها على فرض توجهاتها السياسية والأيديولوجية، بتسييس الحج، مما دفع المملكة إلى رفض هذا التوجه الفوضوي المخرب، لخروجه على مقاصد الحج الكبرى، ومخالفته لقوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ». وحسناً فعلت المملكة، إذ حظيت بتأييد إجماعي من الدول الإسلامية، فحمت الحجيج من السلوكيات السلبية للحجاج الإيرانيين، ممن يقدمون حاملين توجيهات الولي الفقيه بالتظاهر ورفع شعارات سياسية عدائية وطائفية تفرق بين المسلمين وتثير اضطرابات وفوضى وحوادث أليمة يروح ضحيتها مئات الحجاج جرحى وقتلى. لقد ساهم عناد إيران بمنع حجاجها، في إضفاء أجواء من الأمن والطمأنينة والصفاء والسكينة على موسم حج هذا العام، إذ خلا من مظاهر الشغب والفوضى والعبث. المسلمون قاطبة يعرفون أن لإيران تاريخاً عريقاً في إثارة الاضطرابات والفوضى في مواسم حج سابقة، وذلك منذ ثورة الخميني، الذي كان يكلف الحجاج الإيرانيين بالترويج للثورة الإيرانية وتنظيم حملة دعائية لصالح الجمهورية الإسلامية بين الحجاج. ولقد تسبب هذا المسلك التخريبي لإيران في سقوط مئات الحجاج قتلى وجرحى، بينهم حجاج إيرانيون دفعت بهم حكومتهم إلى الموت تحت شعارات ضالة ومضللة. الحجاج الإيرانيون ليسوا حجاجاً عاديين كبقية حجاج العالم الإسلامي الذين يقدمون لأداء الفريضة كعبادة خالصة لله تعالى، وإنما هم مكلفون أيديولوجياً وسياسياً، يقودهم عناصر من الحرس الثوري يجيدون لغات أجنبية للترويج لأجندة إيران السياسية بين حجاج العالم الإسلامي باعتبار موسم الحج أفضل فرصة للدعاية لفكر الولي الفقيه.
إن لجهود المملكة العربية السعودية في خدمة بيت الله تعالى وزواره، تاريخاً عريقاً ومشرفاً ومعروفاً، لا ينكره إلا معاند مكابر أو ناكر جاحد. والذين ينادون بالتدويل مسيسون يدورون في فلك إيران.
تصوروا لو كانت المشاعر المقدسة تحت حكم ولاية الفقيه أو حكومة إسلام سياسي، كيف يكون وضع الحج وحالة الحجيج؟ صراعات سياسية ومزايدات حزبية وفتن طائفية.
حين تمتلئ سماء سورية بطائرات عسكرية أجنبية، وأرضها بأسلحة وبمقاتلين من دول عدة، وحين تصبح لروسيا ولأميركا ولإيران وتركيا قواعد عسكرية في المدن السورية كافة، حين يحصل كل ذلك نجزم بأن سورية أصبحت محتلة.
طلب النظام من روسيا حمايته في مجلس الأمن ومؤسسات الأمم المتحدة، منذ 2011، وكذلك فعلت المعارضة حينما طلبت كل أشكال الدعم والتدخل العسكري لتخليص سورية من المجزرة. لكن لا روسيا استطاعت إنهاء الثورة ولا أميركا نصَرَتْها. تطور الأحداث كان يَخضع للشروط الإقليمية والدولية، وكان لأميركا ولروسيا دور مركزي في تأجيل الحل السياسي وإدامة الحل العسكري، بقي الأمر كذلك حتى انهارت سورية بالكامل وأصبحت إمارات متقاتلة! دُمرت مدنُها وقُتل مئات ألوف الناس، وشُرد الملايين ونُهب الاقتصاد وأصبحت خسارتها أكثر من 250 مليار دولار.
بعد الهدنة الأخيرة، حدثت لقاءات بين كيري ولافروف وكُتبت وثائق، ومنها ما ظل سرياً، ورفضت القيادة الأميركية إعلانها، وهي بالتأكيد ستُعلن في وقت قريب. لكن هذا السلوك الامبريالي، الذي وافقتها روسيا عليه على رغم رغبتها في إفشاء السر، وبغياب المعارضة والنظام عنه، يؤكد مجدداً أن سورية محتلة.
النظام، ومنذ بداية الثورة، شعر أنها ستطيحه لا محالة كما حدث في تونس ومصر، فكانت الضرورة هذه تستدعي طلب التدخل الإقليمي والدولي. المعارضة أيضاً طالبت به، بسبب رؤيتها المشوشة للتموضعات الدولية والإقليمية، وأوهامها عن أن أميركا تريد نظاماً سورياً جديداً وبما يُكرر تجربة التدخل في العراق وليبيا، وبالتالي المعارضة والنظام أصبحا أدوات بيد الخارج. متانة الثورة وضخامة التدخل لمصلحة النظام، هما ما جمّد الوضع وأبقيا النظام، وفي مرحلة لاحقة لعبت أميركا دوراً مركزياً في ضبط كل العمليات العسكرية المناهضة للنظام.
أيضاً قوة الثورة، وعلى رغم كل أخطاء المعارضة، دفعت النظام والدول الإقليمية والعظمى لتسهيل دخول ألوف الجهاديين إلى سورية. وفي المقابل، فإن تلاشي قوة النظام العسكرية دفعه إلى الاستعانة بالميليشيات الطائفية التي تقودها إيران. عنف النظام ورداءة تحليل المعارضة للثورة والوعي الديني الشعبي هي ما سمح للجهاديين وللسلفيين بالوصول من الخارج أو الانبثاق من الداخل، وهذه فئات معادية للثورة أولاً، وللنظام ثانياً، وقد خاضت معاركَها بعد أن تمكنت من الشعب، أي قضت على منظماته السياسية والمدنية والإعلامية والإغاثية المستقلة، وبنت سلطتها الشمولية. والدقة تدفعنا للقول إنها خاضت معارك ضد النظام، وهي تُمكِن نفسها، لكنها ظلت معارك أقرب إلى صد هجوم قوات النظام، أو التدخل حينما تُنهِك فصائل الجيش الحر تلك القوات كما حدث في مناطق كثيرة في سورية.
الجهادية والسلفية ليستا من الثورة بشيء، وكذلك فالقوى السياسية المعارضة الحداثية لم تكن هي من أطلق الثورة، لكنها تساوقت مع بعض أهدافها وحاولت تسييد أهداف أخرى تراها ممثلةً للثورة. يعنينا هنا السلفية والجهادية، فهما تعلنان أن ثورتهما ليست من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل من أجل دولة إسلامية متخيَّلة ومن أجل استعادة المجتمع الإسلامي الذي هويته من هوية الأكثرية الدينية. أهدافهما هذه مناقضة لأهداف الشعب، الذي كرّر طيلة 2011 و2012 أن الشعب السوري واحد، أي أن أهداف ثورته هي من أجل كل السوريين.
في مطلق الأحوال، تمكنت الجهادية والسلفية من الثورة، وبالكاد نجد في 2016 تنظيمات عسكرية مستقلة أو سياسية، كما كانت في الأعوام الأولى للثورة، فأغلبيتها أصبحت خاضعةً لهذه التنظيمات.
على العموم، الدور السوري انتهى الآن، وسورية محكومةٌ بالتوازنات الإقليمية والدولية، وما يُعد من هُدنٍ أو اتفاقات علنية وسرية ليست لمصلحة السوريين. نعم كان السوريون ثائرين ضد النظام، والآن، أصبحت مهمّتهم الثورة ضد الاحتلالات المتعددة الأشكال.
ربما هذه المرحلة لم يحن وقتها لغياب أي دور فاعل للسوريين الوطنيين، لكن حينما تهدأ الجبهات سيجد السوريون أنفسهم مكبلين باتفاقات تضرّ بمصالح النظام والمعارضة معاً.
بكلمة واحدة، قاد الاستبداد البلاد إلى الاحتلال، وساعدته المعارضة الانتهازية في ذلك.
قبل أيام، مسّت الحاجة إلى مَن يفاوض على «هدنة» بين موسكو وواشنطن، وكانت أروقة مجلس الأمن مسرحاً لسجالات انفعالية بين المندوبَين الأميركي والروسي بمقدار ما كان مسرح العمليات السوري يشير إلى أن الاتفاق الأخير بين الدولتَين يترنّح، فهو لم يأتِ متأخّراً فحسب بل جاء متسرّعاً أيضاً، وتبيّن أنه ما كان ليُنجز لولا استجابة أميركية للشروط الروسية. وقد اتضح ذلك في تهافت موسكو على حماية مكسبها، ملحّةً على التعجيل بتفعيل الاتفاق قبل انقضاء «أسبوع الاختبار» متجاوزةً انتهاكات نظام بشار الأسد للهدنة، وعلى السعي الى تحصين هذا المكسب بجعله قراراً صادراً عن مجلس الأمن، ولو تطلّب الأمر كشف بنود الاتفاق حتى السرّية منها.
كان الرئيس الروسي أعلن بنفسه أنه يؤيد نشر مضمون الاتفاق، ولم يفعل ذلك من قبيل الشفافية، بل لإخراج انتصاره الديبلوماسي الى العلن، ولإحراج الإدارة الأميركية بعدما استنتج أن الخلاف بين جناحَيها قد يطيح مكسبه. وقد أفضى الجدل الإعلامي على نشر أو عدم نشر مضمون الاتفاق، معطوفاً على تعارض مواقف الخارجية والبنتاغون والـ «سي آي أي»، الى اقتناع عام بأن إدارة اوباما قدّمت تنازلات عسكرية وسياسية تتعارض مع مواقفها المعلنة ولا تحبّذ الكشف عنها، حتى لو كانت فعلت ذلك على سبيل المناورة، أو متوقّعة أن يفشل الروس في التزام تعهداتهم بالنسبة الى الهدنة والسلوك المفترض من جانب النظام وحلفائه الإيرانيين.
لكن هذا الجدل كان مرشّحاً للانتقال الى مجلس الأمن، لو عُرض عليه الاتفاق بكل تفاصيله، وكان سيفتح بالضرورة نقاشاً في غير مصلحة الطرفَين سواء للمطالبة بإيضاحات وتعديلات، أو لشرح بعض المفاهيم ومدى تطابقها مع ميثاق الأمم المتحدة. إذاً كانت موسكو تعلم أن ثمة مجازفة في مطالبتها بتدويل الاتفاق لكنها وجدت الفرصة مناسبة لإرباك إدارة اوباما وتسجيل النقاط ضدّها. وقد تجلّى ذلك أيضاً في استدعاء روسيا مجلس الأمن الى جلسة طارئة - لإدانة أميركا؟ - بعد مقتل جنود للنظام السوري في قصفٍ على دير الزور، إذ أظهر فارقاً شاسعاً مع ردود الفعل الأميركية الباهتة على القصف التدميري المنهجي لحلب بقصد تهجير مدنييها ومقاتليها، وهو ما لم تقل موسكو يوماً أنه «خطأ» ولم تعتذر عنه بل إنها مصمّمة على المضي به، وبتغطيةٍ بات يوفّرها الاتفاق مع واشنطن.
هل تقصّدت الطائرات الأميركية المغيرة على موقع لتنظيم «داعش» في دير الزور قصف موقع معروف وليس مستحدثاً لقوات الأسد، وهل أرادت بذلك الردّ على استفزازات فلاديمير بوتين لإبلاغه أن خياراتها لا تقتصر فقط على التلويح بإلغاء الاتفاق، وهل ذهبت موسكو الى مجلس الأمن لأنها أدركت أن القصف الأول من نوعه منذ بدء الحرب الأميركية على «داعش» انما كان رسالة موجّهة اليها وقد تكون أودَت بجنود روس؟... أي خبير عسكري يدقق في الخريطة سيقول أن الضربة كانت متعمّدة لأن مواقع «الدواعش» والأسديين ليست متلاصقة الى حدّ يسمح بـ «الخطأ». وكانت المفارقة أن تعليقات عدّة اعتبرت أنها المرّة الأولى والوحيدة التي يكون فيها القصف الأميركي الخاطئ مصيباً، لأن «داعش» ونظام الأسد هما واحدٌ أولاً وأخيراً. ولو أتيح لمجلس الأمن أن يدرس هذه الواقعة في إطار «الحرب على الإرهاب» لما استجاب للإدانة التي أرادتها موسكو. وهكذا أمكن الأخيرة أن تتعرّف الى ما يعنيه تعطيل مجلس الأمن عندما احتاجت الى تفعيله. والسؤال المهم هنا أن جرائم الحرب التي ترتكبها روسيا منذ تدخّلها هل تكفي «شرعية الأسد» لتغطيتها وهل يمكن أن تبقى مستثناة من المساءلة الدولية؟
في أي حال، أكدت البلبلة الحاصلة أن الاتفاق الأميركي - الروسي لم ينهِ الاستعصاء الدولي، أو لعله زاده تعقيداً، خصوصاً عندما بلغ الطرفان استحقاق «العمليات المشتركة» ضد الإرهاب من دون أن يُنضجا ظروفاً مناسبة للتعاون. وبطبيعة الحال، لم تكن اعتراضات البنتاغون والـ «سي آي أي» معنيةً بالمعارضة السورية أو بقضية الشعب السوري، بل بالمبدأ العام الذي بُنيت عليه مشاركتهما المفترضة مع الروس بالخطط والمعلومات والخرائط، وكلّها جُمعت أو أعدّت بتعاون عسكري واستخباري داخل حلف الاطلسي أو مع حلفاء وأصدقاء من خارج هذا الحلف. ثم إن العمل مع الروس في سورية، رغم رفضهم الانضمام الى التحالف الدولي ضد الإرهاب، يمثّل نقلة استراتيجية نوعية من دون أن تكون هناك استراتيجية متوازنة ومتّفق عليها، ورغم تحديد مجالها في الزمان والمكان فإن فلاديمير بوتين سيحاجج لاحقاً بأن لا شيء يبرر عدم تطبيقها في اوكرانيا على سبيل المثل.
لكن، حتى بالنسبة الى الشأن السوري، قد تكون منطلقات الخارجية الأميركية في تنازلاتها لروسيا مختلفة وأقل تدقيقاً بالتفاصيل من ملاحظات العسكريين والاستخباريين الذين يعملون على تماسٍ مباشر مع الأرض ومع نظراء لهم في غرفتي الـ «موك» والـ «موم». فأي اتفاق مهما كان صارماً، سيأخذه الروس على أنه ترخيص أميركي لسحق المعارضة، معتدلةً أو متطرّفة، وسيطبّقونه على طريقتهم وبمنطقهم «الشيشاني» المعروف. وإذا كانت واشنطن غضّت النظر بين عامَي 1994 و1996 فيما كانت روسيا ترتكب جريمتها في الشيشان، فقد ساعدها آنذاك نسبياً أن وسائل الإعلام الحديث لم تكن في ذروة تطوّرها كما هي اليوم، إلا أن التفريط بالمعارضة السورية وتعريضها لمذبحة على أيدي الروس والأسديين والايرانيين لن يكونا مجرد غضّ نظر بل مشاركة فعلية وعلنية في الجريمة.
قد تكون واشنطن خشيت الابتزاز الروسي في شأن كشف مضمون الاتفاق، ولعلها شعرت بأنه سيكون بمثابة ضبطها متلبّسة بتنازلات مكتوبة وموّقعة. وطالما أن الأمر متروك للتكهّن، فإن التراشق بتُهم عدم التزام التعهّدات، ومراجعة النهج الاوبامي السلبي طوال الأزمة، واستقراء الخطّ البياني للتغيير الذي طرأ على المواقف الأميركية منذ التدخّل الروسي، يمكن أن ترسم خريطة تنازلات جون كيري. وهي تظهر ببساطة أن واشنطن رضخت لميزان القوى على الأرض، بعدما ساهمت طوال الأعوام الخمسة في هندسة اختلاله لمصلحة نظام الأسد، وبعدما تغاضت عن تدخّل ايران وميليشياتها، وأخيراً بعدما تركت الروس يفرضون أمراً واقعاً لا يمكن العمل إلا بمنطقه «الشيشاني». لم يصدّق أحد أن الهدنة «التجريبية» التي أقرّها اتفاق الدولتَين تضمن إقلاع الروس عن ذلك المنطق، بل إنهم أبدوا استعجالاً لاستئناف القصف حتى قبل اختبار الهدنة التي لم تصمد أصلاً سوى ساعات قليلة.
لم يحدّد كيري هدفاً لتنازلاته سوى «خفض مستوى العنف»، أما الأسد فترجمها، مكرّراً خلال أقلّ من شهرين تصميمه - أي تصميم الروس والإيرانيين - على استعادة كل مناطق سورية... استعادتها، طبعاً، خاليةً من أهلها. أما «تنازلات كيري» فيمكن إيجادها في كل العناوين، سواء في الترتيبات العسكرية، أو في التفاهمات السياسية. وليس واضحاً أبداً أنه استطاع في المقابل انتزاع أي تنازل روسي، فوقف طيران النظام وبراميله الذي قدّم على أنه مكسب مُنح استثناءً في الغوطة، والفصل بين فصائل المعارضة و «جبهة فتح الشام» («النصرة» سابقاً) لم يكن واقعياً طالما أن الاتفاق «لم يُبنَ أساساً على الثقة بالروس» كما ردّد الأميركيون، وبالتالي حتى لو وُجدت خرائط واضحة ومفصّلة لا يمكن ضبط الروس الذين يصنفون كل من ليس مع الأسد بأنه «إرهابي»، وفي حال توصّلت الجهود الراهنة للفصائل الى صيغة لتوحيد صفوفها فإن التمييز في ما بينها سيغدو استحالة.
صحيح أن الهدنة المفترضة رُبطت باستئناف الحل السياسي، إلا أنها لم تُربط بالحفاظ على شيء من التوازن الميداني، بل تُرك عرضة لكل الاحتمالات. لكن «تنازلات كيري» السياسية، وفقاً للمتداول، لم تكتفِ ببقاء الأسد وبتمييع «الانتقال السياسي» بل تجاوزتهما لتكريس الاحتلالَين الروسي والإيراني، وهذا كافٍ وحده لتقويض أي حل سياسي وللحؤول دون عودة المهجّرين وإعادة الإعمار، فلا الروس يوحون بالثقة لاستعادة الاستقرار ولا الإيرانيون مستعدّون للتخلي عن خطط التغيير الديموغرافي لتوطيد نفوذهم.
من يصدق أن نظام بشار الأسد كان سيلتزم الهدنة بعد خمس سنوات من قصف شعبه بطائراته وقنابله وغازه الكيماوي. وقف القتال والتراجع عنه ليسا موجودين في ثقافة عائلة الأسد ونظامه. وحده قرار مجلس الأمن الرقم 1559 أجبره على التراجع والخروج من لبنان. لكن لم يوقف تدخله، فاستمر في اغتيال شخصيات لبنانية عدة حتى انتقل إلى قتال أهل بلده.
الحاجة الآن ماسة إلى قرار مجلس أمن جديد يخرج الأسد من سورية. فأي إنسان على رأس بلد يحرم شعبه من المساعدات الإنسانية ويوقف القوافل الإغاثية ويعرض مسؤوليها للقتل ويقصف أبناء شعبه وأهله بالكيماوي ويفرغ المدن من معارضين له كي يرسم خريطة جديدة لمؤيديه؟
من استمع إلى مستشارة الأسد بثينة شعبان على القناة الرابعة البريطانية، وهي تقول للصحافية كاترين نيومان إن سورية تواجه الاستعمار وهيمنة الخارج، يدرك مدى إنكار الواقع المرير في أوساط نظام بلد يعيش تحت رحمة روسيا وإيران و «حزب الله». لو لم تدخل روسيا إلى سورية لما استطاع الأسد البقاء. وسيستمر ألم الشعب السوري طالما لم تتخل روسيا عن الأسد، فهو يقاتل شعبه للاستمرار على رأس بلد مدمر هُجر ملايين منه ولن يعودوا وهو في الحكم.
كان الاتفاق الروسي - الأميركي على الهدنة محكوماً بالفشل. صحيح أن المدنيين في المدن السورية متعطشين لوقف النار إذ أنهكهم القصف والقنص والقتل وتدمير المستشفيات وقتل الأطباء. لكن هدنة تم التفاوض عليها بين جون كيري الذي يتنازل كثيراً للثعلب الروسي سيرغي لافروف لم تحمل أي أمل بالنجاح، خصوصاً أن كيري كان وعد حلفاءه قبل ستة شهور بأنه لن يصل إلى اتفاق تعاون عسكري مع الروس إلا بضمانات روسية في شأن المرحلة الانتقالية في سورية. لكنه عاد وأعلن اتفاقاً للهدنة وإدخال المساعدات الإنسانية سرعان ما فشل من دون أن يكون هناك أي تغيير في الموقف الروسي من المرحلة الانتقالية.
كيف يمكن أن يوافق الجانب الأميركي على تبادل معلومات عسكرية واستخباراتية مع الجانب الروسي وروسيا تحارب وتحمي نظام بشار الأسد؟ وعد كيري مرات عدة المعارضة السورية بفرض إدخال المساعدات الإنسانية إلى المدن المحاصرة من النظام ولكنه لم يفِ بوعده وفشل في ذلك. ولم يكن قصف قافلة المساعدات الإنسانية أمس سوى إجرام جديد من نظام يتغذى من راعييه الروسي والإيراني اللذين لا يعرفان معنى الإنسانية.
لا حل اليوم للوضع السوري حتى يقرر الحليف الروسي أن الأسد أصبح عبئاً عليه ويتخلص منه. وهذا لن يحصل إلا بتغيير في السياسة الأميركية التي كانت بالغة الضعف في وجه فلاديمير بوتين. وكل المفاوضات بين كيري ولافروف تشير إلى ذلك، كما مفاوضات أوباما مع بوتين بعد استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي.
تغيير الإدارة الأميركية قريباً إذا تم انتخاب هيلاري كلينتون قد يكون فرصة أفضل لإظهار حزم وقوة أكبر للسياسة الأميركية في مواجهة بوتين، ولو أن الولايات المتحدة لا تبالي بالشعب السوري واهتمامها الأول هو مصالحها، فقد ترى إدارة أميركية جديدة مصلحة في عدم ترك هيمنة روسيا على المنطقة والضغط عليها للتخلي عن بشار الأسد. فقد قال الجانب الروسي مراراً - لمن يريد الاستماع إليه - إنه ليس في زواج مع بشار الأسد، لكنه لا يرى بديلاً له. لهذا بإمكان احتمال تقاطع المصالح الأميركية - الروسية في عهد أميركي جديد أن يقلب المعادلة، على رغم أن ذلك يبقى مجرد رهان.