المشهد الأخير من التراجيديا الأوبامية في المأساة السورية، هو الإعلان الرسمي عن العجز والاستقالة، أو هكذا على الأقل هو معنى كلام وزير خارجية عهد الانسحاب الأميركي، جون كيري.
الوزير الضجر، كشف بتعليقات له على هامش اجتماع الأمم المتحدة بنيويورك لوفد من المعارضة السورية، وممثلي دول أخرى، عن هذه الحقيقة، وشكا لهم إخفاقه في إقناع الإدارة الأوبامية بفعل شيء ملموس، لأن سبب ضعف الدبلوماسية الأميركية مع الروس، حول سوريا، هو عدم إسنادها بالقوة العسكرية، ولو على سبيل التلويح، طبقًا لكيري.
ثم ختم، حسب تسريبات «نيويورك تايمز»، ناصحًا المعارضة بالانخراط في عملية انتخابية مع قاتل الشعب، بشار!
حصاد بئيس لإدارة تسببت في تدهور سوريا، وإيصال الكارثة لهذا الغور السحيق، مهما تفاصح الرئيس، وكان يقال منذ بدء المأساة السورية، إن العزوف الأميركي، حسب النظرة الأوبامية العليلة، لا يعني اختفاء المشكلة من الوجود، بل يعني تفاقمها، لدرجة الإضرار بالأمن العالمي كله، ومنه الأمن الأميركي، بل إن السلبية القاتلة لأوباما تجاه سوريا، قد تشعل حرب الجبابرة، بين واشنطن وموسكو، من حيث أراد الحكيم أوباما، حماية أميركا، بالعزوف السلبي، ومغازلة «المزاج» الشعبي الأميركي، في مسألة عدم خوض الحروب، وهو عنوان يصلح لفيلم رومانسي، وليس لعمل سياسي واقعي.
نعم، انهيار الهدنة، وموت اتفاق كيري لافروف، قد يسوق الأمور للهاوية، ففي تعليق متشائم لصحيفة «كوميرسانت» الروسية، حذرت من تحول واشنطن وموسكو لـ«خصمين حربيين في سوريا».
المتحدث باسم الخارجية الأميركية (جون كيربي) كان أعلن الأربعاء الماضي أنه في حال استمرت الحرب بسوريا فعلى روسيا توقع استقبال: «عسكرييها في أكياس وتبديد مواردها».
هذا التعليق اعتبره الروس إدانة لأميركا، وأنها ضالعة بتمويل المقاومة ضدهم، أو «الإرهاب» حسب وجهة نظرهم - أوباما يفعلها! - من هؤلاء نائب وزير خارجية روسيا (سيرغي ريابكوف) والمتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الروسية الجنرال (إيغور كوناشينكوف).
التوتر بلغ غايته هذه الأيام بين واشنطن وحلفائها، مع موسكو، فقد قال وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون إن روسيا تخاطر بأن تصبح دولة منبوذة. مؤكدًا أن دولته توثق جرائم الحرب الروسية بسوريا، خاصة قصف القوافل الإنسانية.
كيف وصلنا لهذه المحطة؟
كيف انبعثت الحرب الباردة من جديد بين قطبي العالم؟ حرب تزداد سخونتها مع أفول العهد الأوبامي؟
بكلمة واحدة، لا غير، لأن شخصا يقود أقوى دولة في العالم، حامية النظام العالمي، قرر ألا يفعل شيئا.
في لحظات ما، الجمود، يعادل في خطورته، السقوط الحر من شاهق.
أن يُفرض عليك مع كل اشراقة شمس و حتى غروبها ، و ذات الأمر مع ظهر أول ضوء للقمر و اقترابه من الأفول ، أن تكون بشكل لصيق كـ ”زوجة” أو “ابن” مع تلك المتوالية الغير متناهية من الطلاسم ، و السيول الدائمة من الأخبار ، حول “فُلك” الثورة ، لتستنتج عند آخر رمق لدى عيونك على مصطلح “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
“أنا الثورة و الثورة هي أنا” هي أشد الكلمات التوبيخية التي تجلدني و تؤلمني في الحقيقة ، و أشعر من قائلها أني اقترفت من الذنوب تجاوزت الموبقات السبع ، و لا مكان للصفح أن التوبة ، و لا حتى “الحج” يكفي لإزالة براثن الاثم عني، فهنا خطئي يتعلق بحقوق “الثورة” التي يمثل و التي يُشكلها.
“أنا الثورة و الثورة هي أنا” هي كـ بطاقة “ذهبية” ، كُتب عليها يسمح لحاملها الولوج في كل العقول دون أن “حاضر أو دستور” ، ليفرغ فيها “الثورة” الحقّة ، و يطرد من الفراغ المعلومات حوامل الذاكرة بما فيها في الفضاء القذر الذي يحوي فقط المرفوضين و الخارجين من عطف “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
لا يوجد يقين أو تحديد دقيق لمراحل الثورة عموماً و لتلك المندلعة في سوريا على وجه الخصوص ، فهنا يغيب التاريخ المسقط عليها ، و تضمحل التجارب وتتحول إلى “ثغاء” ، ولا يبقى إلا “أنا الثورة و الثورة هي أنا”، هي الكلمة الفصل والحسم في أي شأن كان سواء سلاح أم سياسة أو اعلام و منظمات و اغاثة و كذلك اجتماع و ثقافة وحتى هيكلية أو تشكيلات منظومية، فأنت أمام من ولّد الثورة من رحم عقولنا الرضيخة المتلذذة بـ”سادية” الاستبداد .
يمرقك “أنا الثورة و الثورة هي أنا” عند مرورك في أي باب ، ويعاقبك عند كل انحناء داخل كل نفق ، و يصفعك في أي حالة من حالات الركون أو الاستراحة ، و يجلدك بسوط حديدي مع خطوة راجعتها أو فكرت بأن تفعل هذا الاثم المخرج من “الثورة” التي هي عبارة عن “ثورته الحصرية”.
حامل لقب “أنا الثورة و الثورة هي أنا” ، عملة نادرة تضج بها الثورة السورية الجميلة ، والتي يعتبر أحد أزهارها و ريحانة العطر التي تجمّل أجوائها ، فهو يقفز و ينبه و يوجه و يستشرق و ينجم ، و قد يصل لحد رسم القدر الذي يسير عليه الملايين ، و من الممكن أيضاً أن يحدد ساعة الموت و لحظة الاصابة و ثانية القصف ، وأجزاء ثانية الفاصلة بين السمع والمشاهد، فهو من المبصرين في جحافل العميان قلوباً ، و عندما يحدث ما رسم سيقول “قلتها قبل زمن” و لكن أنت أخرق لا توقن معنى “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
آلية رهيبة تقود المتوالية “حذرتكم من هذا” و “نبهتكم من ذلك” و “كنت أول من قال” و “أشرت لذلك فيما سبق” ، و تختلف المصطلحات حول هذا اللولب و المغناطيس الذي تناسيناها ، لننسى ما حدث و نركز على قضية كيف تجاهلنا تحذيراته و أحاديثه و انشغلنا عن اشاراته و أقواله ، ماذا لو استمعنا إلى “أنا الثورة و الثورة هي أنا”، كنا وفرنا كمية هائلة من الدماء و لا حدود لحجم الأوجاع ، لا بل قد وصلنا لقناعة محتمة أن “لو أننا لم نخرج بتلك الثورة” و نسرقها من مالكها.
يظن “أنا الثورة و الثورة هي أنا” أنه يعيش في غابة من اللصوص، المدمنين، شذاذ الآفاق، الغير أخلاقيين، الشواذ فكرياً، و الجميع يهيم خلفه لسرقة ما امتلك وحاز ، عن طريق كده و جهده و عرق جبينه ، فهو الخارج في المظاهرة الأولى ، كذلك متلقي صفعة الانطلاق ، وهو من فض “بكارة” الدم في الثورة ، وهو من احتضن الرصاصة ولامس حرارة البندقية ، في الوقت الذي كان الجميع في غياهب التأليه للسيد القائم المبجل المسمى “رئيس”.
في مصطلح “أنا الثورة والثورة هي أنا” يكمن الوجع الأكبر والفكرة الأصدق لفشل متتالي وغير منتهي يخيم على الثورة في هذا المكان أو ذلك.
كيف يمكن تفسير العجز الأميركي حيال ما يجري في مدينة حلب؟ وكيف يمكن تفسير لجوء الدولة الأقوى في العالم إلى مجلس الأمن، لممارسة ضغوط لا تنفع على روسيا، لوقف العمليات العسكرية في حلب؟ هل هو ضعف أميركي؟ أم تواطؤ مع الروس، لإبعاد حلب من معادلة الصراع؟
ليس ما جرى، أخيراً، مجرد عمليات قصف عشوائية على المدينة فحسب، بل هو عمل عسكري منظم ومدروس، هدفه إحكام السيطرة على منافذ المدينة، وإعادة تكرار تجربة حمص في حلب، وبالتالي، إنهاء الوجود المسلح للمعارضة في المدينة.
تشكل حلب أهمية كبرى للنظام، ليس فقط من الناحية المعنوية، بسبب كونها المدينة الثانية بعد دمشق من حيث الحجم، ولا لأنها المدينة التي شكلت الساحة الأكثر عنفاً في الصراع فقط، وأرّقت النظام ثلاث سنوات، بل لأن السيطرة على المدينة، وهذا هو الأهم، تشكل مقدمة للسيطرة على الريف الحلبي الكبير.
ولحلب واقع مختلف عن كل ساحات المعارك في سورية، فهي تختزل الصراع المحلي والإقليمي والدولي، وفيها تتحارب كل أطراف الأزمة، وفيها تنتهي المعارك الكبرى في سورية.
من الناحية العسكرية، تشكل جبهة أمامية وخلفية، في الوقت نفسه، لمن يسيطر عليها، حيث تصبح المدينة منطلقاً سهلاً نحو الأرياف الأربعة للمحافظة، في وقتٍ تصبح المدينة قاعدة رجوع، وحماية خلفية أمام أي هجوم طارئ ومفاجئ.
من ناحية الجغرافيا السياسية، تعني سيطرة النظام على المدينة إخراج الفصائل الإسلامية، خصوصاً الفصيلين الأقوى، جبهة فتح الشام وأحرار الشام، الأمر الذي يعني إبعادهم من معادلة الصراع في الساحة العسكرية الأهم في سورية في الوقت الحاضر، وهذا هدف أميركي، قبل أن يكون هدفاً روسياً. ولذلك، من غير المستبعد أن تكون الحملة الأميركية في مجلس الأمن من أجل التعمية على موقفها الراغب في إضعاف قوة الفصائل الإسلامية، وسحب هيمنتها العسكرية على باقي الفصائل، لاسيما "الجيش الحر" الذي تحوّل، في الآونة الأخيرة، رأس حربة لواشنطن وأنقرة، وبتوقيع روسي.
تتمحور المقاربة الأميركية التي بدأت تتمظهر، في الأشهر الماضية، حول تشكيل قوة سورية خالصة من أبناء المناطق ذات توجهاتٍ علمانيةٍ، تكون مقابلاً لوحدات حماية الشعب الكردي، ومكملاً لها في الجزء الذي لا تستطيع فيه وحدات الحماية إتمامه. إنه الجزء المتعلق بمعاداة النظام السوري.
والأهم من ذلك، على هذه القوة الجديدة أن تقبل الانخراط في التسوية السياسية، ضمن الرؤية الأميركية للحل، وتكون خارج المقاربة التركية ـ السعودية للحل. وعليه، لم تكن مصادفةً أن تعتمد أنقرة في عمليتها "درع الفرات" على فصائل الحر والمكونات المحلية، وإبعاد حليفها الأقوى (أحرار الشام) عن هذه المعركة. إنه اتفاقٌ ستكون الأيام المقبلة شاهداً عليه، بحيث تُترك حلب للساحة الروسية في مقابل استكمال أنقرة تأمين عمقها الاستراتيجي في شمال وشمال شرق حلب، غير أن هذه المعادلة قد تدفع قوى إقليمية، وخليجية تحديداً، إلى الخروج من عباءة المقاربة الأميركية التي أسهمت في تقوية النظام على حساب المعارضة، ولعل تصريح مسؤول أميركي أن انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، أخيراً، زاد احتمال تسليح دول الخليج العربية المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، ثم تصريح قائد جماعة الفرقة الشمالية، العقيد فارس البيوش، إن المعارضة حصلت على طراز متطور من صاروخ غراد، مؤشر على أن المدينة مقبلة على معارك هي الأشرس في تاريخ الأزمة السورية.
وقد تستفيد الدول الداعمة للمعارضة، كما تفعل روسيا، من مرحلة الصمت والسكون الأميركي، في الفترة الانتخابية، للحيلولة دون سقوط حلب، إلا أن ذلك سيضع تركيا في مأزقٍ مع الروس، من شأنه أن ينعكس سلباً على معركتها "درع الفرات"، وهي المعركة التي تعطيها أنقرة أولوية على غيرها، كونها تتجاوز، في تداعياتها، المسألة السورية إلى الأمن القومي التركي.
تكمن المشكلة الرئيسية في أن الولايات المتحدة في حالة نَوَسان سياسي وعسكري، فهي تريد إضعاف القوى الإسلامية، وفي الوقت نفسه، لا تريد تحقيق ذلك من دون تنازلاتٍ من روسيا والنظام، وهو ما تعجز عن تحقيقه. وهذا التردد هو ما تلعب عليه موسكو، لإعادة ترتيب هدنة جديدة، أو الضغط على واشنطن للانصياع إلى مطالبها. لكن، يبدو من تسارع الأحداث أن المسألة الحلبية تُركت إلى الإدارة الأميركية المقبلة.
على الرغم من بروز الخلافات بين جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) وشريكها الاستراتيجي في المعارضة السورية المسلحة، حركة أحرار الشام، عبر البيانات المتبادلة بخصوص الموقف من عملية درع الفرات التي تقودها تركيا في الريف الشمالي لحلب والمناطق الحدودية، إلاّ أنّ ذلك ليس مؤذناً بنهاية هذا التحالف، أو بموافقة الفصائل الإسلامية المختلفة على الشروط الأميركية بالتخلي والانفصال عن جبهة فتح الشام.
بدأت الخلافات مع الرد الواضح الذي أصدرته جبهة فتح الشام على بيان "أحرار الشام" الذي يؤيد العملية، بينما رفض الطرف الأول ذلك بشدة، ثم بدأت حالة الاصطفاف واضحةً في وقوف الفصائل السورية الإسلامية الأخرى إلى جانب "أحرار الشام"، إذ أصدر المجلس الإسلامي في حلب بياناً يؤيد العملية، بينما أصدر أحد مرجعيات جبهة فتح الشام، الأردني أبو محمد المقدسي، تصريحات شديدة ضد العملية والمشاركين فيها.
المتغيّر الرئيس وراء الخلاف بين الطرفين ("فتح الشام" من جهة والأحرار والفصائل الأخرى من الجهة الثانية) يكمن في الموقف التركي، خصوصاً بعد فشل محاولة الانقلاب العسكرية، وإنْ كانت بوادر التغيّر بدت قبل ذلك، فالأتراك الذين دعموا المعارضة المسلحة في مواجهة الحصار، وساعدوهم على كسره في منطقة الراموسة، لم يأخدوا مدىً أبعد في معركة حلب، فتُركت المعارضة المسلحة وحيدةً لمواجهة الحملة العسكرية الجوية الروسية غير المسبوقة، والدعم العسكري الإيراني غير المحدود على الأرض.
واضح أن الرئيس التركي أردوغان استدار نحو مصالح بلاده القومية وأمنها الوطني، وقرّر الالتفات إلى الحدود والمسألة الكردية وإقامة المنطقة العازلة، بعد أن أدرك حجم التغير الكبير في المواقف الدولية والغربية تجاه سورية، مع هشاشة الموقف العربي، ومحدودية الخيارات التركية في السياسة الخارجية.
يبدو أن القرار الجديد، أي الاكتفاء بالمنطقة الآمنة، جاء في سياق التصالح والمهادنة مع الروس، والضوء الأخضر الأميركي، بعد أن تدهورت العلاقة بين الطرفين (الأميركي- التركي) بعد محاولة الانقلاب، مع إصرار الأتراك على تسليم فتح الله غولن لهم. ثم تراجع حدّة الخلافات بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي، جون بايدين، أنقرة، ولاحظنا بعدها كيف أن الأميركان قدّموا تنازلاتٍ في المسألة الكردية، فيما يبدو أن المطالب التركية في موضوع غولن تراجعت.
على أيّ حال، أضعف التحوّل في الموقف التركي الموقف الاستراتيجي للمعارضة المسلحة في حلب، وأعطى فرصةً كبيرةً للروس والإيرانيين لتشديد الحصار، وتعزيز الحملات الجوية والبرية، وهو ما انعكس على رهانات المعارضة تجاه الأتراك، والتغير في مقاربتهم تجاه سورية؛ فبينما رأت جبهة فتح الشام في عملية درع الفرات تمهيداً لتسليم حلب للنظام، وتخلياً تركياً عن دعم المعارضة، رأت "أحرار الشام" والفصائل الإسلامية الأخرى في المقاربة التركية، على الرغم من التحولات الأخيرة، مفيدةً في المناطق الشمالية، للحفاظ على هويتها، ومنع استيلاء الأكراد عليها.
لا يعني ذلك بداية النهاية لعلاقة "فتح الشام" بالفصائل الأخرى، وبالأحرار تحديداً، فهذه ليست المرة الأولى لخلافات بين الطرفين، إذ أمكن تجاوزها سابقاً، على الرغم كذلك من وجود أجنحةٍ في هذه التنظيمات، جبهة فتح الشام والمعارضة الأخرى، تدفع نحو فك الارتباط، ويتمثل السبب في بقاء التحالف قائماً، وديناميكياته فاعلةً، في أنّه لا بديل أمام الطرفين، ولا خيار سوى الانتحار.
لماذا؟ بالنسبة للفصائل الإسلامية و"أحرار الشام"، لا تتزاوج المطالب الروسية والأميركية بالتخلي عن جبهة فتح الشام مع أي وعودٍ أو آفاق عسكرية أو سياسية حقيقية، فالمطلوب فقط التخلي عن الجبهة، لكيلا تضرب هذه الفصائل، وهي وعودٌ غير مقنعة، في هذا المنعطف الحاد في مصير الثورة المسلحة، فجبهة فتح الشام أحد أهم الفصائل في حلب وإدلب والمناطق الأخرى، وسيُحدث التخلي عنها أو الاصطدام بها، تغييراً جذرياً في ميزان القوى لصالح النظام، ويقلب المعادلة كلياً.
وبالنسبة لجبهة فتح الشام التي تخلت عن الارتباط بالقاعدة، ودخلت في صدامٍ مع داعش، وعقدت تحالفاتٍ مع الفصائل الأخرى، سيجعلها الصدام مع الفصائل الأخرى معلقةً في الهواء، لا هي مع "داعش" ولا مع الفصائل المسلحة، ولا مقبولة دولياً ولا محلياً، وسيضعف تماسكها الداخلي أكثر وأكثر.
إذاً خيارات المقاومة السورية اليوم محدودة وواضحة، وهي البقاء متماسكةً موحدةً في اللحظة العصيبة الحالية من أحداث حلب، وبعدها لكل حادث حديث.
بنت الولايات المتحدة سياساتها تجاه الصراع السوري على إقامة توازن قوى بين النظام والمقاومة، يتيح لها فرصاً مفتوحة لتدخل تحكّمي في الحدث السوري من جهة، وإطالة الصراع إلى الوقت الذي تريده، من جهةٍ أخرى.
لم تلحظ هذه السياسات مفارقةً ترتبط بإدارة التوازن، هي أن كسره لصالح المقاومة يفضي إلى الحل السياسي الدولي الذي يطبق وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، بينما يعني كسره لصالح النظام إسقاط هذا الحل، وفرض حل عسكري لطالما ألزم الأسد نفسه به، ولم يتخلّ عنه في أي وقت. بذلك، عطل تمسك أميركا بالتوازن تحقيق الحل السياسي الدولي، المستحيل بلوغه من دون تفوق المعارضة عسكرياً على النظام في مرحلة أولى، وصمودها في مواجهة حلفائه العسكريين الذين سيسارعون إلى نجدته، في طور تال. في المقابل، لم يحل التوازن دون جهود الأسد وحلفائه لكسره عسكرياً لصالحهم. وبالفعل، مكّنه الروس والإيرانيون والمرتزقة الذين جلبهم إلى سورية من تقويض التوازن، بما لدى جيشي البلدين من قوةٍ حربيةٍ متفوقةٍ تستطيع تقويض ما هو قائم من توازن لمصلحتهما، بما تمتلكانه من تفوقٍ نوعي بالسلاح، ومن طيران وذخائر متقدمة وأعداد مقاتلين. ومن قدرةٍ على شن حرب تغطي كامل الرقعة السورية، ليس لدى قوى المقاومة قدرات كافية للقيام بما يماثلها.
بدخول جيشَي روسيا وإيران المتزامن إلى سورية كُسر توازن القوى إلى حدّ يجعل من المحال استعادته من دون أسلحة نوعية مضادة للطائرات، تزود بها المقاومة، أو تدخل عسكري أميركي مباشر، لكن أياً من هذين الشرطين لم يتحقق، وبينما ظلت المقاومة تحت صبيب ناريٍّ لا يتوقف من الجو، زاد من اختلال التوازن العسكري الميداني ضدها، ركّزت أميركا جهودها على الحرب ضد الإرهاب. على الرغم من أن علاقتي أميركا وروسيا بالنظام والمقاومة تتفرّعان عن علاقاتهما الدولية المعقدة والعدائية، فإن واشنطن لم تتخلّ عن آليةٍ في حفظ التوازن، اتسمت بالتقطع والتدابير اللحاقية، أملاها موقفها من الصراع وعزوفها عن حسمه. لذلك، مثّل دخول جيش بوتين إلى سورية مصحوباً بجيش إيران تطوراً مفصلياً، تحدّى قدرات المقاومة، وزاد الطين بلةً تمسّك واشنطن بخطوطها الحمراء التي منع أحدها إمدادها بالأسلحة النوعية المطلوبة. ومثله رد المقاومة على التحدّي الذي جاء ناقصاً ومتعثراً وعازفاً عن تطويرها، بحيث تحتوي التحدّي بمعونة أنماط متطوّرة وموحّدة من التنظيم. لا عجب أن أسقطت هذه التطورات الحل السياسي الدولي وفرصه، وجعلت الحل العسكري، الروسي/ الإيراني/ الأسدي خياراً وحيداً.
هل غفلت واشنطن عن نتائج تمسّكها بسياساتٍ توازنيةٍ رجراجة وهشّة إلى أبعد حد، حالت دون غلبة المقاومة على النظام الأسدي، وفرضت عليها توازناً مرّ بفتراتٍ طويلة من عدم التكافو، شجّع الأسد على قتل وتدمير وتجويع وحصار وترويع حامل الثورة الاجتماعي/ الوطني، ولم يبق في ساحة السياسة غير حله العسكري الذي أيدته إيران بكل صراحة، وروسيا من دون إعلانات طنانة، ونرى اليوم مرتسماته في حلب؟.
أتساءل، في مقابل موقف واشنطن: هل سيستمر إخوتنا العرب في احترام خطها الأحمر، وتجاهل مخرجاته التي تحتم تصدّيهم للتحالف الروسي/ الإيراني/ الأسدي، وإمداد الثورة بسلاحٍ مضاد للطائرات، تكسر بمعونته خطوط أميركا الحمراء، وتثبت أن ما تقرّره واشنطن ليس قدراً يستحيل تحدّيه، وتسقط الحل العسكري من خلال علاقات قوى جديدة تحول أيضاً دون انكشاف العرب، في حال تخلى البيت الأبيض عنهم، كما تخلى عن شعب سورية طوال قرابة ستة أعوام، وقف خلالها مكتوف الأيدي، وهو يتفرّج مستمتعاً على مأساته؟
اللغة، حتى اللغة في "سورية الأسد"، قوية، بدليل أن مفردات الحياة اليومية عامرة بكلمات من قبيل: بطل، وشجاع، ومقدام، وصنديد، ونمر، وديب، وأسد... وفي الكلية الحربية، يطلبُ الضابطُ من طالب الضابط المتدرب أمراً، فإذا نفّذه على أكمل وجه، يمتدحه بقوله: آه يا وحش.
وللوحوش أهمية خاصة في سورية الأسد. رُوِيَتْ نكتةٌ عن مسؤولٍ جاء من دولة أجنبية، ليزور سورية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وكانت الاحتفالات بذكرى الحركة التصحيحية على أشدّها، واللافتات البيضاء تملأ الساحات العامة، وكأننا نعيش في خضمِّ معركة "ذات السواري"... فالتفت إلى مترجمه، وطلب منه أن يُطْلِعَه على محتوى اللافتات، فأفهمه أنها، كلها، تشيد بالأسد، فكتب في مذكّراته: الشيء الغريب أن الشعب السوري يحب "الأسد" أكثر من جميع الحيوانات الأخرى.
في "سورية الأسد" لا يوجد شيء مستحيل. ذات مرة، بعدما أصدر محمد ناجي عطري (أبو منير) تشكيلتَه الوزارية، شرع الناسُ يتحدّثون عن وجود وزيرين عجيبين فيها. كان أحدُهما يعمل، قبل الوزارة، سائقاً لحافلة ركاب "ميكروباص" على طريق حمص - مصياف، فتَحَوَّلَ، بلمح البصر، من كادح إلى وزير. والثاني يحمل شهادة علمية عالية، ومع ذلك بقي ردحاً طويلاً من الزمن بلا عمل، لأنه ممنوعٌ من التوظيف بسبب تقرير أمني يتهمه بمعاداة النهج القومي الاشتراكي، ولكنه كان، في الوقت نفسه، عضواً في أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ورشّحه حزبه للوزارة، فتحوّل من عاطلٍ من العمل إلى وزير.
لقد أجرت الحواشي السياسيةُ والمخابراتيةُ والإعلاميةُ الملحقة بنظام الأسد تعديلاً جوهرياً على المثل الشعبي "لا يوجد كبير غير الجَمَل"، فجعلته "لا يوجد كبير غير الأسد".
للحقيقة والتاريخ، لم يكن في سورية، خلال هذه الحقبة، كبيرٌ غير الأسد. ولكن بعض المسؤولين، مع ذلك، كانوا يعتقدون أنهم رجال دولة، وأن للواحد منهم كلمةً مسموعة، ومن ثم فهو يستطيع أن يأمر، وينهى، ويضع خططاً، ويُصدر قراراتٍ وفرماناتٍ. ففي يوم من الأيام، قرّر محافظ إدلب، وهو رجل يحمل شهادة الليسانس في الحقوق، أن يجتمعَ مع موظفي مديرية الزراعة في المحافظة، ليعرض عليهم مشروعاً مهماً. وبمجرد ما التأم الاجتماعُ، أبلغهم أنه قرّر زرع خمسة ملايين شجرة صفصاف على ضفاف المجرور الخاص بالصرف الصحي الذي ينقل فضلات إدلب، بطريقة الجريان السطحي، إلى منطقة قريبة من مدينة حلب.
ارتسمت ابتساماتٌ لاإرادية على وجوه بعض الحاضرين، انتبه إليها المحافظ، فانزعج منهم، وتوجّه إليهم بالسؤال عن رأيهم في الموضوع. ولأن الناس في حقبة الأسد يعرفون أن أخطر شيء هو (الرأي) فقد صمتوا، عدا واحد اشتهر بعناده ولامبالاته تجاه المسؤولين، اسـتأذن، وقال:
- الطريقة المثلى لجريان ماء الصرف الصحي الوسخ تتلخص في أن يجري ضمن أنابيب إسمنتية، فالجريان السطحي ينشر الروائح والجراثيم، ويصبح مرتعاً للحشرات والسحالي، أما زراعة أشجار الصفصاف، فتكون، عادةً، على ضفاف الأنهار والسواقي العذبة، والأهم من هذا وذاك هو الرقم الرهيب الذي تتحدّث عنه حضرتك، خمسة ملايين شجرة؟!... علمياً، يجب أن تترك مسافة بين الشجرة والأخرى لا تقل عن عشرين متراً، والكيلومتر هو ألف، أي أنه يتسع لخمسين شجرة على كل ضفة، أي ما يساوي مئة شجرة على الطرفين، ونحن لدينا 65 كيلومتراً الطول التقريبي للمجرور، أي أن ستة آلاف وخمسمئة شجرة تكفي، وإذا أردت أن توسع عملية التشجير، فيكون الخط مزدوجاً، تحتاج لثلاثة عشر ألفاً فقط...
ما حصل بنتيجة هذا الحوار غير المتكافئ أن المحافظ المذكور (ركب دماغه)، ودماغه، بحسب عادل إمام، جزمة قديمة، وبقي مصمّماً على زراعة الملايين الخمسة، ولم يستطع أحدٌ أن يعرف السر في حصول تلك المصادفة العجيبة التي جعلت القيادة الحكيمة تعيّنه وزيراً (للزراعة) في أول حكومة سورية قادمة.
"هيْدي حلب، مش أيّْ مْدينة، ستّ المدايِن هيِّ حلب".. صدق الفنان سميح شقير كثيراً في أغنيته الجديدة، كتابةً ولحناً وغناءً، إذ يقول هذا فيها. وهي أغنيةٌ تكاد تُحسب مرثيةً للمدينة السورية التي يريدها القاتلون الكثيرون، شلّت أيديهم، حطاماً لا غير، أو بلا ناسها. يغني سميح: "باقي منها ظلّ مدينة".. بأنغامٍ ذات بساطةٍ ظاهرة، يتوازى فيها الشجى والأسى، الحزن والفقد. وبتقشّفٍ واضح، وبعوده فقط، وصوته الخافت، والذي تقيم فيه أنّات الموجوعين، يؤدي سميح شقير مغناته هذه. تُشاهده، بين صور متحرّكة، لأنقاضٍ وخرائب، ودمار وحرائق ونيران، وأسواقٍ مهجورة وبيوتٍ متروكة، لغبار الصواريخ وجنونها، لأطفالٍ جزعين، ومصابين واجمين، ولركام يفتّش فيه ناس ناجون عن ناس سالمين أو مصابين أو موتى. صور من هذا كله، تتخللها مشهدياتٌ أخرى من حلب لمّا كانت، عمائر نظيفة، وأسواقاً بهيجة، موحيةً بالأمن والأمان.. يغني المغني بين هذا كله عن "رعبٍ وموت"، وعن فقراء باقين، ومقتدرين "فلّوا".
تعبُر حلب من جولة تمويتٍ إلى أخرى، من نوبة قصفٍ متوحشٍ إلى متوالياتٍ مثلها وأعنف. لا يُراد للمدينة التي "انتظمت فيها العلالي العجيبة"، على ما كتب ابن بطوطة، أن تحترق فقط، بل أن تغيب وتمّحي ربما، أن تصير مثالاً كيف يكون تأديب من يرفضون حكم الأسد. تُشاهد ما تُيسر لك شاشات التلفزات من أهوال المأساة اليومية فيها، فيطرأ على بالك سؤالٌ عمّا يريده القاتلون من هذه المدينة بالضبط. ما هكذا يُحارب الإرهاب والإرهابيون، ولا هكذا تُخاض الحروب، ولا بمثل هذه الفظاعة يصدّ نظامٌ متسلط تمرّداً عليه. ثمّة أغراضٌ أخرى، إذن، للأسد والروس والإيرانيين، أولها الانتقام الأقصى والأقسى. لا يجوز لحلب أن ينتفض أحدٌ فيها على المحتل الأسدي الجاثم على البلاد. على فقرائها أن يعرفوا أن نعيماً غزيراً كانوا يرفلون فيه، تحت جناح السلطة الحانية عليهم، وإذا ما ركلوه، فإن عليهم أن يتحمّلوا ما يذوقونه من صنوف التقتيل والتهديم والتهجير، والتي تُبدع فيها صواريخ روسية وبراميل متفجّرة. هذا هو المعنى الأساس في المحرقة الماثلة في حلب، المدينة التي كتب المؤرخ أرنولد توينبي إن صمودها وعدم سقوطها في يد الفرنجة، على الرغم من حصارها الطويل في العام 1124 كان نقطة تحوّل مهم في تاريخ العالم، وقد استعصت على جيوش الصليبيين، فلم تقدر هذه أن تحتلها، لمناعة تحصينها.
مدينة الصناعات الرائقة والبديعة، ومدينة الحلويات الشهية، ومدينة القدود الطربية، تضجّ كتب رحالةٍ وعساكر ورسامين ومستشرقين كثيرين بالإتيان على أناقتها. كتب بعضهم عنها إنها كانت، إبّان العهد العثماني، الأجمل بناءً، وألطف المدن عِشرةً، وأصحَّها مناخاً. كتبوا إن الحلبيين "أكثر أهل السلطنة العثمانية تمدّناً". هذه الحاضرة التي نستيقظ صباحاً، وننام مساءً، ومشاهد الدم والتهديم فيها تؤشّر إلى فداحة القاع الذي تمكث فيه الأمة، كم بقي فيها من سكانها الخمسة ملايين؟ هل يُراد منهم أن يهجروها؟ هل هذه هي الخطة التي لا نعرف؟ هل تشهد يوماً تعود فيه إلى البهاء والألق اللذيْن كانت عليهما، وقد تهدّم فيها نحو مئة وخمسين شاهداً وعمراناً أثرياً؟ احترقت مكتبة المسجد الأموي الذي تضرّر كثيراً. نال الدمار أسواقاً وأبواباً قديمة، وأحالت صواريخ بوتين وقذائف الأسد وحراب خامنئي وأشياعه حواضر في المدينة إلى ما يضرب نفوسنا بسويداء باهظة، وحلب "محلّها في النفوس أثيرٌ"، على ما كتب الأندلسي ابن جبير (توفي في 614 هجرية)، لمّا جال فيها، ولم يستطع أن يُحصي خاناتها لكثرتها، ورآها "بلدةً تليق بالخلافة". وعلى وفرة ما شاهد في أسفاره، رأى ابن بطوطة (توفي في 779 هجرية) أنه لا نظير لحلب "في حسن الوضع واتفاق الترتيب واتّساع الأسواق". أما عن ناسها، فقد أدهش سموُّ أخلاقهم وحسن تصرّفهم ووقارهم الشاعر الفرنسي لامارتين (توفي في 1869 ميلادية).
لم يتزيّد سميح شقير، إذن، في تسميته حلب "ست المداين"، كما غنى أخيرا، في جديده (إنتاج ميتافورا). وقد أوجع كثيراً لمّا رمى زفرته الأسيفة في أغنيته "يا خسارتنا يا حلب".
ترفع الولايات المتحدة التحدي السوري أمام روسيا إلى أقصاه. الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية جون كيربي يقول الخميس إنه يخشى هجمات جهادية على المصالح والمدن الروسية إذا ما واصلت موسكو العمليات العسكرية في حلب. ليس هذا فحسب، فهناك مسؤولون أميركيون لمحوا الاربعاء الى ان دول الخليج العربية قد تقدم على تسليح المعارضة السورية بصواريخ أرض - جو محمولة على الكتف رداً على غارات المقاتلات الروسية. وينطوي التحذير الاميركي على تذكير بحال الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي.
وأكثر من ذلك لا يخفي جون كيري أن الفصل "الأسوأ" من الحرب السورية لم يأت بعد. وكأنه يحمل تهديداً مبطناً لروسيا اذا لم توقف دعمها العسكري للنظام أو اذا لم تضغط على دمشق لوقف العمليات العسكرية وقت تنصل الجانب الاميركي بوضوح تحت ضغط "البنتاغون" من احتمال قيام أي تنسيق عسكري مع روسيا ضد "جبهة النصرة" باسمها الجديد "جبهة فتح الشام" بسبب عقوبات اميركية على موسكو تتعلق بالملف الاوكراني.
وتلتقي كل التحذيرات الاميركية لروسيا تحت عنوان عريض. هذا العنوان يقول نحن الاميركيين قادرون على جعل سوريا أفغانستان جديدة بالنسبة الى روسيا، بينما لا تملك موسكو مهما زجت من قوات أدوات الحسم الكامل للنزاع السوري وإن تكن منعت سقوط النظام وجعلته أقوى في مواجهة قوى المعارضة التي تدعمها دول الخليج العربية وتركيا.
والحصيلة تكون استمرار الحرب التي لا قدرة للكرملين على دفع تكاليفها المادية. وهذا من وجهة النظر الاميركية وضع مثالي لواشنطن لتكرر انتصارها في الحرب الباردة الثانية. ولا يبدو ان الولايات المتحدة، عكس موسكو، في عجلة من امرها لوقف النزف الروسي وخصوصاً اذا ما تمكنت من تحويله نزفاً لروسيا وايران و"حزب الله".
وسوريا هي واحدة من أهم ساحات الصراع الاميركي - الروسي المتجدد. وخسارة دمشق لن تكون لروسيا حدثاً عابراً يمكن تجاوزه. لذلك تدخلت عسكرياً وتتحمل الاعباء التي ستكون أقل كلفة من الناحية الاستراتيجية لو كان قيض لاميركا أن تطيح النظام في سوريا وتلحق هذا البلد بتجربتي العراق وليبيا "الناجحتين".
وتضع أميركا روسيا أمام خيار القبول بشروطها لوقف الحرب السورية، وهي شروط غير مقبولة لدى موسكو، أو مواجهة الخيار الثاني القائم على الدخول في حرب استنزاف وتكرار المشهد الافغاني.
وربما لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يريد أياً من الخيارين، يحاول الان انطلاقاً من حلب فرض معادلة عسكرية جديدة هي أشبه بمعادلة الشيشان وليس أفغانستان.
يترنح الحوار الروسي - الأمريكي على جهاز الانعاش كما وصف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ، بعد أكثر من عشرة أيام على انهيار الهدنة الأخيرة ، والتي أفضت حتى اللحظة إلى ما يفوق الـ ٥٠٠ شهيد و آلاف الجرحى في حلب وحدها، ووسط هذا الترنح خرج جون كيري يآساً من العملية برمتها ، و مستسلماً بشكل يشي بأن لم يعد بالامكان أكثر مما كان .
فبعد الاتصال الأخير ، مساء الجمعة ، بعد عرابي الاتفاق جون كيري و سيرغي لافروف ، خرج كالعادة بيانين متناقضين يفتحان الآفاق باسهاب أمام جملة متوالية من التحليلات التي لاتصل إلى معنى دقيق لما تم ، و لكنها تصب في زيادة الغموض في العلاقة “الغير نظيفة تاريخياً” بين الطرفين فيما يتعلق بالملف السوري.
فبيان الخارجية الروسية كان كالعادة ابداء لرغبة في الحل ، و استعداد للولوج به ، شريطة التي تبقى الطائرات تحوم في الأجواء السورية و تقتل و تجرح و تدمر ما تشاء و أينما تشاء دون أي توقف ، و في الوقت ذاته تضع روسيا سلسلة من الاحجيات كفصل المعارضة و تصنيفها و ادلاء بالمعلومات الدقيقة عنها ، وصولاً لما وصفه بيان الخارجية الروسية بـ”التطبيع في حلب”، تطبيعاً لم يوضحه البيان ، و لكن المجريات تشير إلى صفقة جديدة تزيد من رصيد حلفاء روسيا على الأرض.
أمريكا المنقسمة على نفسها و داخلها خرجت بتصريح يفهم منه اليأس و اليقين أن لا حل سياسي ، و إنما الفصل ميداني بحت ، و لكنها كما عادتها تلجئ إلى الكلام عن النيات و التأكيدات على استمرارية الأبواب المفتوحة أمام المفاوضات ، و لو تمتلك يقينا تام بأنها تحاول عبثاً في احياء جسد متعفن بعد أن ملّ من الضرب المتكرر .
كلام المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر عن أن الولايات المتحدة الأمريكية "على وشك" تعليق الاتصالات الثنائية مع روسيا بشأن سوريا، في اشارة إلى أن هذا لن يغلق ، أتبعها بتوصيف الحالة بأنها “بغرفة الانعاش” بأن الموت قد يلحق به بأي لحظة ، و إن لم يلحق لن يكون بحال جيدة للاستمرار.
و بعيداً عن المعلن و ما يرشح للعوام ، كان في حديث جون كيري لمجموعة “صغيرة” من السوريين ، تأكيد دون مواربة أن الامور انهارت ، و أن صقور “الحل السياسي” في ادارة باراك أوباما “المنتيهة” قد فقدوا أي دليل على صوابية مسيرتهم طوال السنوات الماضية ، و على وجه الخصوص العام المنصرم الذي حمل في طياته العدوان الروسي على الشعب السوري.
و لكن يأس كيري و احباطه انسحب على مختلف القطاعات وصولاً إلى العسكرة ، معتبراً في جزء من حديثة ، الذي سربته نيورك تايمز أمس ، أنه وسيلة للتعبير عن الغضب الأمريكي من الخيانات الروسية المتتالية ، و لكن كما قلت اليأس أصاب كل مفاصل الاداراة الأمريكية ، التي كانت تمني النفس بأن تخرج من الحكم عبر وضع الأمور على سكة الحل المؤقت ، ولكنها وضعتها على سكة الموت الموسع، و هذا ما بدى من حديث كيري أن "أي جهود أمريكية أخرى لتسليح المعارضة أو الانضمام للقتال قد تؤدي لنتائج عكسية.”، هذه النتائج دفعته للطلب من المعارضة الرضوخ و الدخول في حكومة انتقالية كما يرغب الأسد كـ”حل”.
بين جاهزية التطبيع الروسية و جهاز الانعاش الأمريكي يترنح مئات آلاف السوريين في حلب و الغوطة الشرقية ، التي دخلت في المقتلة اعتباراً من الأمس مع استشهاد قرابة ٢٠ مدنياً في مشهد مشابه لبدايات ماحدث في حلب، ليكون الجرح الغائر في مكانيين و يؤلمان أكثر و يلزمان الجميع بأحد الخيارين إما الموت قصفاً أو الموت تحت حكم الأسد حصاراً أو اعتقالاً.
لم تعد القضية السورية منحصرة بثورة عارمة ضد الاستبداد، فلابد من تحولها إلى حركة مقاومة شعبية للتدخل الروسي والإيراني والمتعدد الجنسيات، ومع نهاية شهر سبتمبر 2016 يكون قد مضى عام على التدخل الروسي المباشر، فضلاً عن الاحتلال الإيراني الذي أرسل قواته الطائفية (اللبنانية) تمهيداً للاحتلال، ثم أضاف إليها عدة مليشيات من العراق ومن مرتزقة جاؤوا من مختلف الجنسيات، كما وقعت سوريا تحت احتلال آخر من قبل تنظيم «داعش» الذي أعلن «خلافة» مزعومة على مناطق واسعة في الشرق السوري فضلاً عن مناطق عراقية! ولم تكن التنظيمات المتطرفة أقل خطراً، فقد أسهمت في تشويه صورة الثورة السورية التي تحولت في كثير من ملامحها إلى صراع دموي غابت عنه شعارات الحرية والكرامة، وبات الشعب كله يعرف أن النظام دفع إلى حضور هذه التنظيمات المتطرفة ومكنتها بعض الدول بالتمويل والتسليح لتساعد النظام في رسم المشهد على أنه صراع بين السلطة العلمانية وبين الإرهاب الديني! وربما كان السماح لـ«حزب الله» بدخول سوريا براياته الطائفية نوعاً من التحريض لظهور تنظيمات مشابهة ترفع شعارات دينية مواجهة. وكادت المطالب الشعبية تضيع بين صراع الرايات المذهبية، وهذا ما دعانا في الهيئة العليا للمفاوضات إلى تحديد واضح لرؤية الشعب في بيان الرياض، وفيما قدمناه حول الإطار التنفيذي للمرحلة الانتقالية.
واليوم بعد مرور عام على التدخل الروسي في سوريا يقف العالم عاجزاً أمام إصرار الروس على سحق المعارضة السورية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وهو يرى أن القصف يطال المدنيين بخاصة، والصور التي يتناقلها الإعلام العالمي تكشف كون الأطفال هم الضحايا الأكثر تعرضاً للقتل، وأن ادعاء روسيا أنها تقصف إرهابيين هو مجرد تغطية على مشروعها في سحق المعارضة وتهجير السكان، وكل من عارض النظام.
وما حدث في داريا والمعضمية والوعر والغوطة وما يحدث في العديد من المناطق المحاصرة وأهمها اليوم حلب التي يتعرض فيها أكثر من 600 ألف شخص لخطر الموت الجماعي، عبر تصعيد القصف واستخدام أحدث أنواع أسلحة التدمير، كله يتم على مرأى العالم، ويخفق مجلس الأمن في إيقافه، بل يخفق حتى في إدخال المساعدات التي قصفت قوافلها الأممية في تحد للإنسانية كلها.
وما تزال روسيا تدعي أنها راعية للحل السياسي، وهي التي عطلت هذا الحل، ومنعت مجلس الأمن من تنفيذ قراراته، وبات الأميركان يتراشقون معها التصريحات حول خفايا الاتفاق بين كيري ولافروف، بينما الطائرات ترشق المدنيين بالقنابل ويموت المئات تحت الأنقاض، وتهدم المشافي كي لا يجد الجرحى فرصة للعلاج.
ومع إصرار روسيا على تحويل تدخلها في سوريا إلى انخراط طويل الأمد، عبر إنشاء المزيد من القواعد العسكرية والمطارات، وعبر نيابتها عن السلطة الحاكمة على رغم ادعائها أنها تراها شرعية، أجد من الضروري أن تتحول الثورة السورية إلى حركة تحرير وطني، وينبغي أن ينخرط فيها السوريون جميعاً.
لقد أجرت وفود عديدة من المعارضة الوطنية حوارات مع قادة روسيا، ولم يرفض أحد وجود مصالح متبادلة بين البلدين، وكانت المعارضة حريصة على ألا تكون في مواجهة عدائية مع روسيا، وأن يبقى هدفها تحقيق الحرية والكرامة والانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية وإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم، ولكن روسيا أصرت على مواجهة الشعب السوري.
ومع انسداد الأفق السياسي ودخول الولايات المتحدة في سبات ما قبل الانتخابات الرئاسية فيها، وعجز الاتحاد الأوروبي عن فعل شيء خارج إرادة روسيا وأميركا، ومنع الولايات المتحدة حصول المعارضة المسلحة على مضادات للطيران الروسي، فإن المدنيين في الشمال السوري سيتعرضون لاستهداف ممنهج، والذريعة أن الإرهابيين يعيشون بينهم، وملايين الأطفال والنساء والجرحى والمعوقين والعجزة سيواجهون ما هو أخطر من الجحيم، ولن يجدوا ملجأً يأوون إليه، والروس يطلبون منهم أن يخرجوا من حلب ومن إدلب، وهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، والطائرات تلاحقهم بحممها.
إننا نطالب العالم كله باتخاذ مواقف حاسمة وسريعة لمنع إيران والنظام وداعميه ومليشياته من ارتكاب المزيد من الجرائم الكبرى التي يندى لها جبين الإنسانية.
لم يعد هناك من صديق أو من حليف للولايات المتحدة الأميركية. في مجلس الأمن استمرت «المهزلة» التي لم يعد يصدقها أحد. سامنثا باور السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة كادت تبكي، بعد ظهر الأحد الماضي، وهي تعدد أخطاء روسيا. ثم انسحبت هي وسفيرا فرنسا وبريطانيا عندما بدأ المندوب السوري بشار الجعفري يلقي كلمته.
في كلمتها، اتهمت الروس بالكذب. كان هذا توجيهًا من وزارة الخارجية الأميركية، فحسب مسؤول فيها فإن صبر جون كيري وزير الخارجية الأميركي قد نفد، بعد تعرُّض قافلة المساعدات الدولية لـ«القصف الروسي». يوم الاثنين الماضي، قال البيت الأبيض إن الرئيس باراك أوباما قلق بشأن الوضع في سوريا، ربما ليسمح لكيري المتفائل بأن يستمر في محاولاته تحقيق بعض النتائج الإيجابية من المحادثات مع الروس. لكن مشكلة كيري أنه ينطلق من موقع ضعف، إذ إن الرئيس أوباما كان حاسمًا في رفضه أن يلتزم بإرسال قوات برية أميركية أو أسلحة متطورة إلى المعارضة السورية، بحيث تستطيع التصدي للهجمات العسكرية الروسية في سوريا، أو مواجهة قوات نظام الأسد. يعرف كيري أن نظام الأسد ولأكثر من 5 سنوات يقوم بهجوم منهجي ضد كل المعارضين السوريين، سواء كانوا متشددين، أو معتدلين يسعون إلى إزاحة حكمه الاستبدادي.
وفي حديث إلى «سي إن إن»، أصرّت بثينة شعبان مستشارة الأسد على وصف كل المعارضة بالإرهابيين. نعود إلى مسألة اتهام السفيرة سامنثا باور الروس بالكذب، يقول مصدر في الإدارة إن كيري يعرف أن الروس «حفنة من الكذابين» حتى قبل الهجوم على قافلة المساعدات المتوجهة إلى حلب، حيث اتهمت موسكو كل الأطراف الأخرى، باستثناء طيرانها، فقد شعر المسؤولون الأميركيون بالذعر من الكذب الروسي الصارخ. قبل أسابيع قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية: «عندما نقول للروس إن لدينا أدلة على أن طائراتهم العسكرية تستهدف تجمعات المدنيين، يكون جوابهم: كلا، إن الغارات يقوم بها الطيران الأميركي». ثم أضاف: «كيف يمكن أن نتعامل مع هذا النوع من الناس؟!».
بالنسبة إلى الروس، فإنهم يستغلون عدم قدرة الولايات المتحدة على فصل حلفائها في المعارضة عن المتشددين. ونُقل عن مسؤول روسي: «إن الأميركيين لا يعرفون مَن يدعمون، وليس لديهم السيطرة على المقاتلين». لكن المؤكد أن روسيا تشعر بالضغط بعد الهجوم على قافلة المساعدات، إلى درجة أنها اتهمت أصحاب «الخوذات البيضاء» بأنهم وراء الهجوم. وهؤلاء مجموعة من المتطوعين لإنقاذ الضحايا في حلب، وتم ترشيحهم لجائزة نوبل. كما أن الروس اتهموا الطائرات الأميركية من دون طيار، وهاجموا مصداقية المصادر الأميركية، وقالوا أحيانًا كتبرير، إن الإسلاميين الراديكاليين كانوا جزءًا من قافلة المساعدات، وإنه جرى تفريغ الحمولات في حلب قبل تعرض القافلة للهجوم. يقول المصدر الأميركي: «هذا التخبط الروسي في الاتهامات العشوائية يجعل حتى المتحدثين سابقًا باسم الاتحاد السوفياتي يخجلون».
التخبط الروسي يماثله تخبط في الإدارة. والمستفيد الرئيسي من هذا التخبط كان ولا يزال إيران. عندما دعا كيري في مجلس الأمن إلى وقف الغارات الجوية في سوريا ليتسنى للمساعدات الإنسانية الوصول إلى حلب، كان أول المحتجين والرافضين الرئيس الإيراني حسن روحاني؛ ففي حديث مع شبكة «إن بي سي» الأميركية، عندما سُئل روحاني عن رأيه في هذا الطرح، استفاض في التذكير بأن قوات التحالف قصفت موقعًا للجيش السوري، بمعنى أنه «كان دفاعًا عن (داعش)». وأضاف: «لذلك إذا أوقفنا كل الغارات الجوية، فهذا يعني السماح لـ(داعش) بالاستمرار في القتل الهمجي. إذا أوقفنا الغارات فإن ذلك سيكون لمصلحة الإرهابيين»، عاد المذيع ليسأله: «لكن هل تدعم وقف الغارات الجوية على الأقل لأسبوع واحد أو أسبوعين؟»، رد روحاني: «هذا ليس بالحل لتجنب قصف مثل هذه القافلة (...)».
في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز» كتب روجر كوهين: «إن سوريا كانت أسوأ أخطاء أوباما. إنها كارثة لا يمكن أن تستثير أي فخر، وتجاوز (الخط الأحمر) قوّض كلمة أميركا، وقوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما ثبَّت بشار الأسد في السلطة».
لكن، يبقى أن الجانبين «يكذبان». ولم تكن حقيقية «دموع» سامنثا باور يوم الأحد الماضي، عندما اتهمت الروس بالكذب والوحشية. الكل يتفق على أن إدارة الرئيس أوباما أعطت سوريا والشرق الأوسط لروسيا. وانسحاب السفراء الغربيين من الجلسة لا يعني عدم «موافقتهم» على بقاء الأسد في السلطة. وتجدر الإشارة إلى أنه في مؤتمر صحافي للرئيس أوباما في 18 من ديسمبر (كانون الأول) 2015، قال التالي عن روسيا: «لقد ناقشت تكرارًا منذ 5 سنوات اقتراح الرئيس بوتين، وأعتقد أن بعض الجمهوريين يتبنون الآن الاقتراح نفسه، بأن الأسد ليس سيئًا للغاية، ولنسمح له بأن يمارس الوحشية والقمع قدر ما يستطيع، لكنه على الأقل سوف يبقي على النظام». يضيف الرئيس أوباما: «قلت: انظروا. إن المشكلة في أن محاولة الحفاظ على النظام، عندما تصير الغالبية العظمى في البلاد ضدك، ليست بالأمر الجيد. وها أنا بعد 5 سنوات أثبت صحة رأيي».
هذا كان العام الماضي، لكن يتساءل محدثي: لماذا لم يفرض البيت الأبيض «الخط الأحمر» على النظام السوري في عام 2012؟ ولماذا لم يفعل شيئًا ليوقف الأسد؟ ولماذا لا يفعل شيئًا الآن؟ ويجيب: «بصرف النظر عن التبجح بقتال (داعش)، وتقليص مساحة الأرض التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، فإن رفض أوباما التدخل ليس بسبب فشل التدخل الأميركي في العراق، هناك أمر آخر أساسي وحقيقي، هو الصفقة النووية مع إيران. وتفسير ذلك بسيط جدًا؛ لو تدخلت الولايات المتحدة عسكريا في سوريا لما تمت الصفقة مع إيران». يضيف: «في الواقع، إن الدعم الأميركي للتدخل الإيراني في سوريا كان الشرط المسبق للصفقة». ويستعرض محدثي ما قاله أوباما في مؤتمره الصحافي آنذاك (18 ديسمبر 2015) وعن احترامه لـ«الأسهم» الإيرانية في سوريا، قال الرئيس: «أعتقد أن الأسد سوف يضطر للمغادرة من أجل وقف إراقة الدماء (...) لكن الآن، هل هناك طريقة تسمح لنا ببناء جسر يؤدي إلى انتقال سياسي يتيح لحلفاء الأسد، أي الروس والإيرانيين، أن يضمنوا الحفاظ على مصالحهم في سوريا، وأن الأقليات، كالعلويين، لن يتعرضوا لانتقام أو سحق (...)؟ أعتقد أن هذا سيكون مهمًا جدًا».
هذه العبارات تعني ببساطة ترك الأسد حاكمًا من أجل إبقاء الإيرانيين مطمئنين.
في كتابه «حروب إيران» يقول جاي سولومون: «بعث أوباما برسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي يبلغه فيها بأنه لن يستهدف الأسد»، ويقول في مكان آخر: «أبلغنا مسؤولون في وزارة الدفاع بأنهم قلقون من أن العمليات في سوريا يمكن أن تقوّض المفاوضات النووية مع إيران». يعود محدثي إلى القول: «باختصار فإن الصفقة النووية مع إيران لم تكن لتحديد كمية اليورانيوم المخصب، أو تفتيش المنشآت النووية فقط، بل كانت أيضًا حول الحرب في سوريا، حيث وافقت الولايات المتحدة على عدم التدخل، وسمحت لإيران بأن تحمي (أسهمها) في سوريا بأي وسيلة بشعة تراها مناسبة».
يؤكد أن سياسة أوباما لم تكن تقصيرًا في الرؤية السياسية، ذلك أن الأموال التي تلقتها إيران عبر الصفقة، إضافة إلى مبلغ 1.7 مليار دولار كفدية عن الرهائن الأميركيين، ساعدتها في حربها بسوريا ضد الشعب السوري.
وماذا الآن؟ يقول: «بشكل محدد، يعتبر الأسد ودائرته الخاصة الممر الوحيد لتثبيت نفوذ إيران في سوريا، أما روسيا فترى في الديكتاتور السوري ورقة مساومة في صراعها مع الولايات المتحدة، هي مستعدة للتخلي عنه، إذا وافقت واشنطن على إعادة النظر في موقفها من أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا».
ينهي: «لا حل قريبًا في الأفق، ولننتظر الرئيس الأميركي المقبل».
من يتحمّل مسؤولية جرائم الإبادة في حلب ومَن يُحاسب عليها؟ أثبتت الجلسات الأخيرة لمجلس الأمن، أن المجتمع الدولي مستعدٌّ لمواصلة التفرّج وإبداء الغضب والتأثّر من دون أن تكون لديه القدرة على لجم الوحشية الروسية، بعدما أمضى أعواماً في تمكين بشار الأسد ونظامه من الإفلات من العقاب. العالم يتعامل مع المحنة السورية على أنها مجرّد مشاهد «درامية»، كما لو أن الأطفال المنتشلين من تحت الأنقاض لا يموتون ولا يروّعون ولا يفقدون عائلاتهم، بل يلعبون أدواراً لاستدرار العطف وامتحان المشاعر، أو تُتخذ مآسيهم وسيلة للتراشق الدولي، بالأحرى الأميركي - الروسي، بالاتهامات لترجيح «أخلاقية» هذا وبربرية ذاك. كانت هناك أيام بنت فيها أميركا «عظمتها» على العنف المطلق، بالسلاح النووي في هيروشيما وبـ «النابالم» في فيتنام والقصف «السجّادي» في أفغانستان والقنابل الثقيلة في العراق، وجاءت أيام استعادة روسيا «عظمتها» السوفياتية بنقل إرث البراميل المتفجّرة من أفغانستان الى سورية كما بتكرار جرائم غروزني في حلب.
ليس في خطاب روسيا، ولا في قنابلها الفوسفورية والعنقودية والارتجاجية، سوى نموذج للإرهاب والتوحّش بأحدث أنواع الأسلحة، واحتضان متماهٍ مع إرهاب نظام الأسد وحليفه الإيراني ووحشيتهما. وبذلك تنتفي كذبة البحث عن «المعتدلين» في الجانب الآخر، وفرزهم عن «المتطرّفين» المطلوبة إبادتهم، لتصبح مهمة روسيا وحليفيها الحضّ على العنف والتطرّف، أقصى العنف والتطرّف، تبريراً لـ «محاربة الإرهابيين» وإبادتهم. سبق لنظام الأسد أن واجه سلميّة شعبه بالقتل، ومذّاك لم يعد شعبه ولا عاد هو رئيسه، ثم دفع عسكرييه دفعاً الى الانشقاق، فلم يعد الجيش العربي السوري موجوداً ليحلّ محلّه «جيش الأسد»، ثم دفع معارضيه دفعاً الى التعسكر ليُفلت كل ترسانته ضد الشعب وصولاً الى السلاح الكيماوي. وفي ذلك كله، كان فلاديمير بوتين حليفاً وراعياً وموجّهاً، فهو والأسد والملالي متضامنون على غرائز لا إنسانية مشتركة تغذّي عملياً من إرهاب «داعش» وتستعدي خصوصاً كل مَن يدافع عن وجوده وحقوقه ومستقبله داخل وطنه.
إما التهجير قسراً أو الاستسلام أو الإبادة، تلك هي الخيارات «الداعشية» التي تعرضها روسيا على المدافعين عن حلب. وإذا كان الوجه الوحشي لبوتين استفزّ العالم، فالأرجح أنه لم يرَ في حلب حتى الآن سوى عيّنة أوليّة منه. فلا هو باحث عن سلام ولا عن حلٍّ سياسي، وهو لم يتدخّل مباشرةً إلا لقيادة الحل العسكري. ويتبيّن الآن، أن حواراته مع واشنطن كانت تمثيليات تبدي تفاهمات ظاهرية، لكن تغلب عليها التجاذبات لفرض شروطه على الأميركيين، الذين قدّموا كل التنازلات السياسية والعسكرية الممكنة، من دون أي اعتبار لمصالح الشعب السوري وطموحاته، لكنها لم تكن كافية. فمنذ انهيار الهدنة الأولى في آذار (مارس) من هذه السنة، ومع اقتراب نهاية ولاية باراك أوباما، مسّت الحاجة الى ترتيب هدنة ممكنة الصمود، وبدأت المساومة التي استغرقت أكثر من ستة شهور ثم تمخّضت عن الاتفاق الأميركي – الروسي الأخير.
على رغم أن التنازلات العسكرية ليست علنية، إلا أنها تبيح لروسيا واقعياً ضرب فصائل المعارضة بذريعة القضاء على تنظيم «القاعدة» (جبهة النصرة/ فتح الشام)، وهذا يسمح لواشنطن بالضغط لاحقاً على المعارضة وداعميها لتمرير التنازلات المتعلّقة بالحلّ السياسي. كان الاتفاق ينطوي على معادلة رابحة وغير مكلفة بل مجانية بالنسبة الى موسكو، لكنها طالبت واشنطن بـ «شراكة» بين جيشَي البلدين طالما أن تصفية «القاعدة» من ثوابت الأهداف الأميركية، وعندما جاءت الموافقة من باراك أوباما اعتبر الروس أن واشنطن قدّمت لتوّها «تنازلاً استراتيجياً» في سورية، وبدل أن يثبّتوا إنجازهم هذا بإنجاح الهدنة والالتزامات المرتبطة بها إحراجاً لمعارضي الاتفاق في البنتاغون والـ «سي آي إيه»، فإنهم على العكس واصلوا حماية انتهاكات النظام، وعلى وقع انتكاس متدرّج للهدنة بدأوا حملة ابتزاز ديبلوماسي لنشر مضمون الاتفاق والدعوة الى تكريسه بقرار من مجلس الأمن.
وسط هذه الحملة، قصفت الطائرات الأميركية بـ«الخطأ» موقعاً لقوات الأسد، وشكّل ذلك رسالة دموية ردّت عليها روسيا برسالة دموية أيضاً حين قصفت قافلة المساعدات الإنسانية. في تلك اللحظة، تزعزعت الهدنة لكن طرفيها الخارجيين واصلا شكلياً اعتبارها قائمة في انتظار مساعي إنقاذها، إلا أن لقاءات في نيويورك كشفت خلافهما وعمّقته، الى حدّ أن الجانب الروسي انتهز مشاركته في اجتماع «المجموعة الدولية لدعم سورية» ليُصدر من دمشق بياناً باسم «الجيش السوري» يعلن فيه انتهاء الهدنة وبدء «عملية كاملة» للسيطرة على حلب «خلال أسبوعين» وفقاً لمصادر النظام، أو «خلال أسبوع» وفقاً لميليشيا «النجباء» العراقية، وهي أحدث فوج استقدمته إيران الى سورية، أو «بتدمير كامل للمدينة وقتال من شارع الى شارع خلال شهور» وفقاً لتقدير أورده المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي خسر الدعم الروسي على ما يبدو.
اصطدم الجبّاران فدفعت حلب وأهلها الثمن من دمائهم. ومن الواضح أن معارضة البنتاغون والاستخبارات أسقطت اتفاق كيري - لافروف وأطارت صواب موسكو، خصوصاً أن تلك المعارضة انتقلت الى العلن، ثم أصبحت رسمية مع إعلان رئيس الأركان الأميركي جوزف دانفورد في جلسة استماع، «أننا لن نتشارك معلومات استخبارية مع روسيا». وبالتالي لم يعد الروس معنيين بالهدنة، ولا بتقديم أفكار لإنقاذها، بل بنتائج المعركة التي تُخاض خصوصاً بالتدمير وليس بمواجهات قتالية سبق لقوات الأسد والإيرانيين أن جرّبوها وخسروا فيها جميعاً، ولن تتقدّم هذه القوات الى أي موقع إلا بعد التأكّد من تدميره وإخلائه كلياً. قد يكون هذا التصعيد في حلب وارداً مسبقاً في حسابات واشنطن، إلا أن وحشيته المفرطة وضعتها أمام تحدٍّ روسي بالغ الفظاظة، وحتى إذا كانت لديها خيارات للردّ عليه فمن الصعب تصوّر إدارة أوباما في أواخر أيامها منخرطةً في مواجهة يريدها بوتين بل يبحث عنها. بديهي أن الانفلات الروسي الذي أسقط الهدنة، أسقط معها الحل السياسي بالشروط التي تم التوافق عليها مع واشنطن.
كانت معارك مطلع آب (أغسطس) الماضي، لفك الحصار عن حلب، وما رشح عن المحادثات الأميركية - الروسية للفصل بين «جبهة فتح الشام» و «المعارضة المعتدلة»، وما يحصل راهناً، ضاعفت جهود فصائل حلب لتوحيد صفوفها. غير أن هذه الخطوة المتأخّرة جداً لن يكون لها معنى إلا اذا توافر شرطان: الأول، التزام واضح من الفصائل كافةً، بما فيها «فتح الشام» و «أحرار الشام»، بما يسميه رياض حجاب «المشروع الوطني السوري» الذي يُفترض أن يجمع المعارضة بكل أطيافها. والثاني، اتفاق موازٍ بين الدول الداعمة لمواكبة هذا المشروع بشقّيه السياسي والعسكري، مع إزالة/ أو تجاوز التحفّظات الأميركية عن تسليح مناسب يمكّن الفصائل من الدفاع عن نفسها وعن مواقعها.
هذا ما يُشار إليه بمصطلح «الخطة باء»، وإذا لم يكن أوانها قد فات فإنها تفرض نفسها بكل إلحاح، بعدما كانت الولايات المتحدة تلجمها لتحرث في الأوهام البوتينية، وإذا بها تحصد هزيمة شنيعة لديبلوماسيتها وتتسبب بكارثة فادحة للشعب السوري، وإنْ لم تعترف بهما. خلال بضعة أيام، تغيّرت معطيات الأزمة وفتح فصلٌ جديدٌ فيها، فنظام الأسد وجد روسيا تحسم أمرها بالعودة الى الاعتماد على خططه العسكرية والسياسية، وفي المقابل ظهرت بوادر التصلّب عند المعارضة السياسية برفض روسيا «كراعٍ لأي مبادرة» ما دامت شريكة للنظام في جرائمه، فيما صارت الفصائل المقاتلة تعتبر الروس أهدافاً لها. وهذا مؤشر أول الى سورية - المستنقع الذي كانت روسيا ولا تزال تخشى الوقوع فيه، ولا شك في أن أميركا ستحرص على إغراقها فيه.