تنتهي السنة السادسة، منذ تحرّك السوريون في مارس/ آذار 2011، آملين التخلص من أحد أكثر أنظمة الحكم دموية وفساداً، ويكاد يصل عدد من فقدوا حياتهم من السوريين إلى نصف مليون مع عدد مماثل من المعاقين والجرحى، وعشرات آلالاف المفقودين والمقتولين تعذيبا في سجون طاغية دمشق، إضافة إلى ملايين المشرّدين واللاجئين داخل سورية وخارجها، وآلاف المقتولين ذبحاً بسيوف داعش وأشباهه، من دون أن يرى السوريون ضوءاً في نهاية نفق الدمار والموت.
كانت هناك آمال كبيرة لدى ملايين السوريين، في بداية ثورتهم، بإمكانية نقل بلادهم من سطوة نظام عائلي مافيوي دموي إلى نظام ديمقراطي، يمكّنهم من اختيار حكوماتهم وممثليهم بطريقة ديمقراطية، ويتيح لهم التحكّم بثروات بلادهم وطاقات شبابهم وبناتهم، وحشدها لإحداث نقلة حضارية في حياتهم، تخلصهم من فقر وتخلف فرضته عليهم مافيا أمنية اقتصادية، عطلت طاقاتهم، وبدّدت ثرواتهم نصف قرن. لكن شراسة نظام مافيا الأسد ودمويته، وتخاذل المجتمع الدولي وتمنّعه عن دعم الطموحات المشروعة للسوريين، إضافة إلى أسلمة الثورة (بالمعنى السياسي للكلمة) وتسليحها، رداً على عنف النظام المفرط وإجرامه، وتناقض مصالح القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، حوَّل حلم التغيير الديمقراطي في سورية إلى كابوس مليء بالدماء والدمار، وحوّل سورية ساحةَ لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، خاسرها الأكبر هو الشعب.
استطاعت روسيا، سعياً منها إلى استعادة دورها الدولي، تأمين حماية كاملة لنظام الأسد، ففي البداية منعت اتخاذ أي قرار أممي جدي، يوقف قتله المتظاهرين السلميين، واعتقال آلاف منهم بوحشية، وقتل بعضهم تعذيباً، كما منعت إنضاج أي حل سياسي متوافق عليه دولياً، يؤمن انتقالاً سياسياً سلمياً في سورية، بينما تولت إيران ومليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية حماية النظام عسكرياً بوجود مباشر على الأرض السورية، قبل أن تضطر روسيا للتدخل العسكري المباشر لمؤازرة إيران ومليشياتها والحفاظ على النظام ومنعه من السقوط.
اقتصر دور الولايات المتحدة التي تزعمت الدول الداعمة للمعارضة السورية على الحفاظ على توازن قوى، يمنع المعارضة من إسقاط الأسد، ويمنع الأخير من هزيمة المعارضة، واستعادة السيطرة على البلاد، ما أدى إلى إطالة زمن الحرب، وأعطى الفرصة لجذب متطرفي العالم إلى سورية، وتحويلها إلى ساحة معركة بين تنظيماتٍ متطرّفة تدعم النظام (حزب نصر الله، إيران وحرسها الثوري، والتنظيمات الأصولية الشيعية المدعومة من إيران)، وتنظيمات تكفيرية أرادت إسقاط النظام، لتحويل سورية إلى قاعدة لإرهابها لتهديد العالم (داعش والقاعدة وتفرعاتها)، ما يتيح فرصة ذهبية للولايات المتحدة للتخلص من الطرفين معاً بأقل تكلفة بشرية واقتصادية ممكنة، ولو أدى ذلك إلى تدمير سورية وتشريد شعبها، الأمر الذي يخدم مصلحة إسرائيل في تدمير الشعب الأكثر قدرةً على الوقوف في وجهها، لو أتيحت له فرصة امتلاك زمام أمره، بعيدا عن الاستبداد والفساد.
نجح إجرام نظام الأسد المافيوي، بخبرته الطويلة في القمع وجاهزيته لرهن سورية ومصيرها لمن يمنع سقوطه، مستفيداً من معارضة عديمة الخبرة، منقسمة في ولاءاتها ومتنافسة فيما بينها، في تحويل الثورة التي قام بها، في البداية، جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية ضد نظام مافيوي مستبد وفاسد إلى حربٍ أهلية، ذات صبغة طائفية، واستطاع أن يتحول من نظام مجرم تجب محاكمته، إلى طرفٍ في هذه الحرب، فضمن لنفسه كرسياً حول أي طاولة مفاوضات، للبحث في حل سياسي، ينهي الكارثة السورية.
سورية اليوم كوطن وشعب واقعة بين سندان استبداد الأسد والمليشيات الطائفية الإيرانية التي تدعمه ومطرقة التطرّف التكفيري، المتمثل بداعش والتنظيمات القاعدية والإسلامية الرافضة الدولة الحديثة القائمة على حكم الشعب والدستور الذي لا يميّز بين مواطني الدولة على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء القومي.
ليس للدول العظمى مصلحة مباشرة في إيقاف مثل هذه الحروب المذهبية، طالما أنها تحقق مصالحها، وتجري في منطقة بعيدة عنها جغرافياً، ولا تهدد مصالحها مباشرة، وهي مرشحة لأن تتحول إلى حروب مزمنة، تحاول كل قوة دولية أو إقليمية أن تخوضها بالوكالة، عبر تمويل أو دعم مليشيا أو تنظيم عسكري أو سياسي من المليشيات والتنظيمات العسكرية والسياسية، المتكاثرة كالفطر على الساحة السورية. وهذا ما بدا واضحاً في تحالف إيران وروسيا مع مليشيات النظام والولايات المتحدة مع مليشيات "قوات سورية الديمقراطية"، وأخيرا تركيا مع جزء من المعارضة المسلحة لتحجيم "داعش" والأكراد، ومنع خطرهم عن حدودها، والأصابع الأخرى، المرئية وغير المرئية، لدول صغيرة وكبيرة، ما سيؤدي إلى تلاشي إمكانية استعادة سورية دولة ووطناً، وتحولها إلى حالة شبيهة بالصومال أو أفغانستان، أو تقسيمها كما حصل في يوغسلافيا السابقة.
على الرغم من استفحال المعضلة السورية، وخطورة المرحلة التي تمر بها، إلا أنه لازالت هناك آمال في إنقاذ سورية من التحول دولة فاشلةً، وساحة حربٍ مزمنةٍ، أو بلقنتها وتقسيمها، لكن ذلك يحتاج نخبة سياسية سوريةً وطنيةً ونزيهة، قادرة على طرح حلول جريئة وواقعية، تعتبر وقف هذه الحرب المجنونة أولويةً لا بد منها، والعمل على الانفتاح على جميع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة على الحالة السورية، ومناقشة هذه الحلول معها، للوصول إلى تفاهماتٍ لا تحقق بالضرورة كل أهداف الثورة، لكنها توقف التدمير، وتفتح طريقاً آمناً لعودة المهجرين، والبدء بإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وقبل كل شيء، تؤمن مرحلة انتقالية بضماناتٍ دولية، تنتهي بانتخابات حرة، تتيح للسوريين التصويت على دستور يحكم حياتهم، وانتخاب قياداتهم بحرية.
خرجت السياسة الأميركية من الحرب الباردة مزهوّة بفائض القوة، هذا المتشكل من حيوية الفكرة ومتانة الاقتصاد وسطوة الآلة العسكرية، والمسلّح «برؤيا» ديموقراطية تبشيرية كادت تصير ديناً مع جورج بوش الابن، بعد أن نطق هذا الأخير بما يشبه «الوحي» الذي كان يتلقاه أثناء نومه، أو في أحلام يقظته.
حصدت الولايات المتحدة الأميركية الفشل إثر الآخر، في ميدان قيادتها العالمية، ولم تستطع، بعد الحرب الباردة، أن تكون قطباً جاذباً كما كان عليه موقعها قبل هذه الحرب، وعلى العكس من آليات الجمع والتجميع التي اعتمدتها السياسة الأميركية، اعتمدت هذه السياسة وما زالت، آليات الفرز والتصنيف والاستبعاد، مثلما مارست أساليب الابتزاز والتهويل والتهديد، وتخلت في مناسبات كثيرة عن معادلة العصا والجزرة، فلوحت بالعقاب غالباً، وحجبت الثواب إلا عن أولئك الذين يقولون قولها الحرفي، ويرون رؤيتها المحلية أو التكتيكية أو الاستراتيجية، ومن منظارها هي فقط.
دخلت السياسة الأميركية إلى العالم المتبدل على قاعدة التجريب والتعلم من الخطأ، أي من دون رؤية شاملة متوازنة تحافظ على عدم الاختلال الإجمالي بين ما تراه مصلحة خاصة أميركية، وبين ما هو مصالح دول أخرى لا تستطيع النزول على حكم «الطبيب» الأميركي، ولا تثق بما يقترحه من معالجات غريبة عن الجسد المريض بالسياسة والاقتصاد، وذلك لسبب بديهي، هو أن الوصفة خيالية، ولا صلة لها «بالمعاينة السريرية» للجسد المراد علاجه.
ميدان التجريب الأساسي للسياسة الأميركية كان في الشرق الأوسط، وفي الديار العربية، فبعد أفغانستان التي ما زالت مدمرة، جاء دور العراق، ومن بعدهما كرَّت سبحة التدخلات غير المجدية حيناً، وسبحة الانسحاب والتخلي، عن ميدان المسؤولية أحياناً كثيرة.
أخطأت السياسة الأميركية، وما زالت ممعنة في إدارة أخطائها، بل هي تضيف إليها عوامل احتقان سياسية لها انعكاساتها على الميادين التجريبية التي اختارتها الإدارة المسؤولة عن تلك السياسة، فباتت، بفضل عدم التعلم من الخطأ، ساحات تخريب للعمران والاجتماع، ولأن الكلفة يتحملها أولئك المستهدفون بالتخريب، فإن الهدوء الأميركي حيال الآثار الجانبية لتجاربهم، ما زال سيد الموقف، أي سيد الموقف الموضوعي العام، الناجم عن التطورات، وليس سيد الموقف السياسي الأميركي، الذي يبدو للكثيرين أنه سياسة اللاموقف.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية معتصمة خلف بحار عزلتها حين تشاء، ومتدخلة بسطوة قوتها العابرة للقارات حين تريد، ومتصلة ومنفصلة عن الأمكنة التي تختارها مناطق حارة وباردة، لأساليبها المتبدلة والمتداخلة، لكل ذلك، تصير مادة الشعوب المقهورة بأنظمتها الداخلية، وبسياسات المراكز الدولية، موضوعاً للمزايدة السياسية الداخلية، في الداخل الأميركي ذاته، مثلما تصير موضوع دعاية وكسب رخيصين للحزب الجمهوري من جهة، والحزب الديموقراطي من جهةٍ أخرى، بخاصة في مواسم الانتخابات الرئاسية.
على سبيل التعداد، كانت الحملة ضد أفغانستان موضوع حشد وتعبئة واستنفار غرائز، بعد الهجوم على نيويورك، وتم اختراع الأدلة الكاذبة كتمهيد لاجتياح العراق، وما زالت سورية تترنح بفعل الضربات الخارجية، وعلى مسمع ومرأى من «قيادة أميركا العالمية».
لم تغب أحداث الساحات هذه عن نظر المخطط السياسي الأميركي عندما ناقش اقتصاداً أو سياسة، أو عندما ناقش رئاسيات وعلاقات وتوازنات، بين الدول العربية وبين جيرانها. في عدم الغياب هذا، كان الحاضر الدائم التلاعب بالمصالح العربية، والسماح للقوى الإقليمية بالنيل منها، وباختراع أعداء داخليين للعرب تجدر محاربتهم، لكي ينالوا بطاقة الدخول إلى نادي الرضا الأميركي، بغض النظر عن كلفة الدخول والرضا.
أحدث عناقيد هذه السياسة، قانون «جاستا» الذي أقره الكونغرس الأميركي. فحوى هذا القانون التهديد، وهدفه استكمال سرقة ونهب الثروات العربية، ومنطقه الغطرسة التي تتيح للناهب والقاتل الخارجي، أن يحاسب سواه، وأن يظل في منأى عن كل محاسبة. ببساطة، بل بصفاقة سياسية وأخلاقية، يريد الطرف الأميركي أن يحاسب على النتائج، وكأن لا علاقة له بالأسباب، وببساطة، بل وبأسلوب احتقار للذاكرة العالمية، يريد «المشرِّع» الأميركي، أن تنسى الشعوب التي استهدفت بعشرات الحملات العسكرية الأميركية، ما سببته تلك الحملات من ويلات ودمار، وهو يريد، أي المشرِّع، أن يغمض المقتول عينيه عن يوميات القتل التي ما زالت تستهدفه في الأيام الراهنة.
لقد ازداد الضعف العربي في زمن اختلال التوازن العالمي، وتبدو مسيرة الضعف والاستضعاف مفتوحة، مما يغري الآخر الخارجي بسهولة النيل من كل الوضعية العربية. لم يعد خارج الموضوع القول، إن البلاد العربية المستهدفة، أو ما تبقى منها، مضطرة لصياغة ردود جمعية، مع من يمكن جمعه، ولعل اليوم مناسب للقول أيضاً إن الفكرة العربية ما زالت راهنة، والبلاد التي تتعرض للنهب وللعدوان وللتهديد... بلاد عربية. بلاد لها ما لها وعليها ما عليها، لكن لا بديل عن الردّ المجدي في لحظة مثل هذه اللحظة السياسية المصيرية.
هل ستكون حلب الحد الفاصل بين سورية المفيدة وسورية «الأخرى» التي لم تتحدّد معالمها بعد؟ أم ستكون الورقة الأصعب في الحسابات الأصعب بين الراعيين الكبيرين الخصمين لمشروع السلام المفقود؟ أم أنها ستكون المقدّمة لتحوّل نوعي في استراتيجية المقاومة السورية وتكتيكاتها في مواجهة اندفاع حلف النظام؟
أسئلة مشروعة تُطرح، مع غيرها، تحت وطأة الحالة السوريالية التي تعيشها المبادئ والقيم الإنسانية، والمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الشعوب، وروحية العالم المتحضّر والأنظمة الديموقراطية. فهذه كلها باتت أشبه بالسراب الخادع مقابل ما تتعرض له حلب من تكالب غير مسبوق للقوى الوافدة جميعها، حاملة رايات الحقد والانتقام من العقد الماضوية بكل تلاوينها وأسمائها.
حلب تتعرّض للذبح أمام الجميع، بحيث تجاوز بان كي مون قلقه المعتاد ليتجرأ ويقول: تحوّلت حلب إلى مسلخ. حلب العاصمة الإقتصادية الأشهر في شرق المتوسط تتحوّل إلى مسلخ، لا للبشر وحدهم، بل للقيم كلها التي أصبح مجرد الحديث عنها، وعن مبادئ وميثاق الأمم المتحدة، يسبب الغثيان الوجودي.
حلب تتعرض، ومعها سورية، للذبح أمام هلامية دور النظام الرسمي العربي نتيجة تباين الأولويات، وانشغال كل نظام بمشكلاته الداخلية، وخشيته من مواجهة الاستحقاقات المكبوتة.
المجتمع الدولي شبه مشلول لأسباب غير مقنعة في مواجهة الاندفاع الروسي، والبطر الإيراني. والأمم المتحدة لم تتمكّن من فعل أي شيء على مدى أكثر من خمسة أعوام لإيقاف القتل والتدمير والتهجير، ما يؤكد مجدداً ضرورة إعادة النظر في ميثاقها ونظامها الداخلي، لتكون في مستوى التحديّات والمهمات المطلوبة، التي تختلف كثيراً عن تلك التي انطلقت منها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في جهودها التأسيسية للمنظمة.
مجموعة أصدقاء الشعب السوري الضخمة لم تتمكّن بقيادة الولايات المتحدة من اتخاذ أية خطوة لدعم الشعب السوري، بحيث يُصادَر على كل ما نراه اليوم من تدمير وقتل وتطرّف وإرهاب.
وكان من الواضح منذ البداية أن المحور الذي تمفصلت حوله هذه المجموعة هو الموقف الأميركي غير الحاسم، ما أدّى إلى ترّهل المجموعة وضعفها، وتقلّص دائرة الفاعلين فيها، حتى اختُزلت تماماً في الموقف الأميركي الذي تناغم لمدة طويلة مع الموقف الروسي، على أساس تفاهمات ما زال معظمها طي الكتمان.
ولمعرفة الأسباب الكامنة وراء إقدام الولايات المتحدة على إعطاء هذا الدور لروسيا، يمكننا التفكير في احتمالات عدة منها:
- الرغبة في تجاوز تبعات دور القطب الواحد وتكاليفه عبر إشراك قوة أخرى وفق معايير لا تخرج عن نطاق المرسوم المحسوب. قوة تتحمّل أعباء وتكاليف إعادة ضبط المعادلات الإقليمية والدولية، وحتى إعادة رسم الخرائط في ضوء المصالح والأولويات المستجدة.
- الرغبة في استنزاف طاقات القوى المتصارعة، بما فيها روسيا، وإنهاكها، في سياق استراتيجية المصادرة على دورها المتنامي والإرباكي مستقبلاً، ما يطمئن التحالف الاستراتيجي في المنطقة، ويوسّع دائرة خياراته.
- غياب الاستراتيجية أصلاً في ميدان التعامل مع قضايا المنطقة، واعتماد منطق التجريب، ما يفسّر إلى حدٍ ما المعالجات الوحيدة التوجه لجملة قضايا، بينها محاربة الإرهاب. فالتركيز هنا يتم على النتائج من دون المقدمات. كما تُهمل التبعات والمآلات لمرحلة ما بعد إنجاز الهدف الآني الإغاثي.
وربما كانت هناك احتمالات أخرى، أو حالة مزج وتداخل بين أكثر من احتمال. لكن النتيجة على الصعيد الواقعي هي ذاتها بالنسبة إلى الشعب السوري. فقد غدت معاناته خارج نطاق اهتمامات أصحاب المصالح، إن لم نقل إنها تشكل وجهاً من أوجه حصيلة الصفقات التي كانت، أو هي في طريقها، إلى التبلور، بين هؤلاء.
معركة حلب مهمة بنتائجها المنتظرة، لكنها مكلفة جداً على صعيد المعاناة البشرية في ظل الشلل شبه التام للجهود الدولية. ولكن في موازاة معركة حلب، هناك معركة الموصل التي يمكن أن تبدأ في أية لحظة، وكذلك معركة الرقة.
وعلى ضوء نتائج هذه المعارك الثلاث ستتحدّد ملامح المنطقة من مختلف النواحي، وستكون هناك إعادة ترتيب للتحالفات ولمناطق النفوذ، وربما الشروع في عملية إعادة نظر في الخرائط المعتمدة راهناً. وكل ذلك يثير حفيظة وهواجس القوى الإقليمية الكبرى التي تدرك قبل غيرها مواطن ضعفها، وتعمل بدأب على منع استغلالها من الآخرين.
لكن تجربة قرن بعد سايكس- بيكو أثبتت أن حالات الإنغلاق والتشنج والصراعات بدرجاتها المختلفة، قد بدّدت الطاقات، وشتّتت الجهود التنموية، وأفسحت المجال أمام أنظمة استبدادية أغرقت مجتمعاتها بالمظالم والفساد.
وما تحتاجه منطقتنا قبل كل شيء هو ترسيخ ثقافة الاعتراف بالآخر المختلف دينياً، أو مذهبياً، أو قومياً- عرقياً، أو فكرياً وجنسياً، واحترام خصوصيته وحقوقه بعقود مكتوبة، واجراءات وممارسات فعلية واقعية، وبناء جسور التواصل والتفاعل معه. وذلك عوضاً عن الهستيريا المدمّرة الطاغية هذه الأيام، والتي تُسبغ قداسات مزيفة على ممارسات وجرائم مدنّسة.
ما نحتاجه هو التعاون الإقليمي لحل المشكلات والقضايا الإقليمية والداخلية لكل دولة، لا السعي المستمر من أجل قمع الإرادات، والتستّر على المشكلات والقضايا، والهروب منها عبر استخدام كل أنواع القمع، وإرغام المطالبين بالحل على السكوت أو الرحيل بكل صيغه.
الأوضاع التي نعيشها سوداوية في جميع أبعادها، ولكن مع ذلك فالعقل يُلزمنا بضرورة عدم قطع الأمل.
تعبّر أكثريّة السوريّين، ويعبّر محبّو سورية والعدل، وذوو المعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة، عن ألم لا يصفه إلا الشعراء. وبينما تمعن الأنظمة السوريّة والروسيّة والإيرانيّة في تدمير حلب، تساعدها التوابع والميليشيات، يرشّ الإحساسُ بالعجز مصحوباً بالقرف من التخلّي الدوليّ مِلحاً كثيراً على جرح يتقرّح.
وهذا اليأس المفهوم، بوصفه حالة شعوريّة، يُخشى تحوّله إلى حالة ذهنيّة، وإلى معتقد تقوى عدميّته الكارهة للعالم وتتأصّل.
ونحن في هذا الشطر من المعمورة لا ينقصنا البرم بالعالم، تضخّه أصلاً مشكلة فلسطين العالقة منذ عقود، كما يرفده اليوم إحساس بعضنا بأنّ أصدقاء قدامى في الغرب خانوا صداقتهم ومالوا إلى إيران. وقبل هؤلاء، أحسّ بعضنا بأنّ اضمحلال دولة الشرق السوفياتيّة ترك العرب بلا سند ولا ظهير. إنّه إذاً «الزمن العربيّ الرديء»، وفق قول سقيم ورائج.
وهذه، على تعدّدها، مصادر للغربة في عالم لسنا سعداء فيه، ولا يمكن أن تستوطنه السعادة. وكما في هذه الأيّام، مع توزيع جوائز نوبل، يُعاد تذكيرنا سنويّاً بأنّ مساهماتنا في إنجازات دنيانا تكاد لا تُذكر.
والحال أنّ العالم ليس سيّئاً ولا حسناً، بل هو يسوء ويحسن. وهو، في حقبتنا الزمنيّة، يسوء، ويتطلّب جهوداً ذاتيّة، بينها جهودنا، لكي يحسن. لكنْ لا بأس بأن نتذكّر أن بلداً كبولندا جزّئ واقتُسم ثلاث مرّات في تاريخه الحديث، وأنّ بلداً كتشيكوسلوفاكيا السابقة بيع لهتلر قبيل الحرب العالميّة الثانية التي سبقها وتلاها نقل شعوب بأكملها من مكان إلى مكان.
ولئن كان الفلسطينيّون أصحاب الظلامة الكبرى في العالم العربيّ، فقد حلّت على اللبنانيّين، أواخر الثمانينات، ظلامة صغرى نسبيّاً. فهم بدورهم، بيعوا لحافظ الأسد مقابل اشتراكه في حرب الكويت، وارتفعت أصوات الكثيرين منهم تستهجن ذاك الاهتمام العالميّ بالإمارة الغنيّة مقابل إشاحة البصر عن جمهوريّة فقيرة. لكنْ في 2005، عاد لبنان إلى صدارة الاهتمام العالميّ وأحرز استقلاله الثاني.
والأمور تسير، خطوات إلى الوراء وأخرى إلى الأمام، وعلينا أن نواكبها حتّى حين نعاندها، نغيّرها ونتغيّر في الوقت عينه. أمّا النوم على وسادة الصرخة العرفاتيّة الشهيرة، عام 1982، «يا وحدنا»، فأقصر الطرق إلى أن نبقى وحدنا، وأن نصبح أشدّ وحدة، لا نجد ما نتلذّذ به إلاّ ألمنا الذي نصير، والحال هذه، لا نتميّز إلاّ به بوصفنا الضحيّة الفريدة. ولأنّه ليس من عالم سوى هذا العالم، يترك يأسنا وانكفاؤنا للوعي القاتل والسينيكيّ أن يمضي في عدوانه على الحياة، كما يتركان للوعي الأصوليّ أن يكمّل هذه المهمّة واعداً بحياة وعالم آخرين ننساق تدريجاً إلى «تفهّم» طوباهما.
وكم كنّا وحيدين، قبل أيّام، في جنازة شمعون بيريز التي تقاطر إليها ممثّلو العالم، بينما نحن نسكر بتعبير «جزّار قانا». والتعبير، على صحّته، لا يختصر الرجل وتحوّله الذي كاد يعادل تحوّل دي كليرك في أفريقيا الجنوبيّة، حين نقلته ظروف بلاده والعالم من أحد أركان النظام العنصريّ إلى شريك لنيلسون مانديلاّ في تفكيكه. والأهمّ، أنّ الاحتفال ببيريز إن دلّ إلى خطأ كبير في هذا الكون، فالاحتجاب عن خطأ، غدا إجماعاً، يصعب أن يكون صواباً، ويستحيل أن يمهّد لبناء الصداقات والتأثير في العالم. إنّه سبب للحزن الشالّ والمشلول.
وقد سبق للإسرائيليّين أن قدّموا درساً كان حريّاً بعِبَره أن تستوقفنا. ففي 1956، دعم الأميركيّون عبدالناصر في مواجهة بن غوريون، فتقدّم الأوّل لمواجهة النفوذ الغربيّ ومواقعه في المنطقة، معزَّزاً بانتصار حقّقه سواه، فيما تقدّم الثاني لمراضاة الولايات المتّحدة التي اكتشف أنّها حلّت محلّ فرنسا وبريطانيا. وإذ مضى آيزنهاور يُفهم الإسرائيليّين أنّ العراق والخليج أثمن منهم لمصالح أميركا الاستراتيجيّة في الحرب الباردة، مضى بن غوريون، بسلوك يخالطه التذلّل، محاولاً أن يبرهن العكس لواشنطن. وبالفعل تبيّن في 1967، أنّ ما راهن عليه بن غوريون تحقّق، إذ تأكّدت لواشنطن فاعليّة التحالف الجديد، فيما أفضت رهانات المكابرة الناصريّة إلى هزيمة مطنطنة.
والآن، أكثر من أيّ وقت، نحن مضطرّون إلى كسب الأصدقاء، مدركين أنّهم ليسوا نحن وليسوا مثلنا، وإلى إظهار أنّنا نملك ما نقايض به العالم الذي لا تقتصر سلّة عملاته، للأسف، على سلعة الأخلاق والقيم. وشئنا أو أبينا، نحن مدعوّون إلى الرهان على تغيّرات العالم، وإلى الإسهام فيها، وهذا من أجل أن نوقف الكارثة عند حدّ فلا تلد مزيداً من الكوارث.
تنطوي المواقف الرنانة والتصعيدية التي تصدر عن كل من موسكو وواشنطن نتيجة تفاقم الخلاف على سورية وتعليق التعاون بينهما حول الهدنة التي اتفقا عليها مطلع الشهر الماضي، على قدر كبير من المناورة والرياء الخادع. فتارة يلوح الجانبان باستعدادهما للمواجهة العسكرية، عبر خطوات رمزية من نوع نشر موسكو صواريخ إس- 300 وإرسال المزيد من الفرقاطات إلى المتوسط، أو تحليق طائرات استطلاع أميركية فوق السفن الروسية وقاعدة طرطوس الروسية والتلويح بتزويد المعارضة صواريخ أرض- جو وقصف مدرجات المطارات السورية، وأخرى يعيدان فتح باب التواصل الديبلوماسي ويعاود جون كيري وسيرغي لافروف التواصل الهاتفي بينهما.
ترتفع النبرة في الرسائل الميدانية والعسكرية من دون وضع اليد على الزناد، في استعراض قوة لا طائل منه وبات الجميع يدرك أنه مجرد مناورات ليس إلا، أمام أعين العالم، بينما يواصل الروس وقوات بشار الأسد والإيرانيون محاولة قضم مدينة حلب فوق أشلاء السوريين التي مزقتها القنابل الروسية الارتجاجية والعنقودية، وعلى أشلاء أحياء المدينة التي سيسجل التاريخ أنها تحولت «غروزني» ثانية بعد 16 سنة على تدمير عاصمة شيشينيا. وبلغ التصعيد الكلامي حد وقف فلاديمير بوتين التعاون مع الأميركيين على خفض الأسلحة النووية، والعودة عن التخلص من أطنان من البلوتونيوم «رداً على التصرفات الأميركية غير الودية».
لا يملك أي من الدولتين كلفة المواجهة المباشرة، فلا روسيا يمكنها التصرف مثل كوريا الشمالية في جموحها النووي العسكري (والذي حولها دولة مارقة)، في وقت طموحها الفعلي هو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المؤذية التي أنهكت اقتصادها نتيجة الأزمة الأوكرانية، ولا أميركا ستتورط في صدام في وقت تستند فلسفة باراك أوباما إلى الانسحاب من الحروب في الخارج للتعافي من تداعيات حربي العراق وأفغانستان، فكيف بحرب مع الدب الروسي، على رغم قيام البيت الأبيض «بمراجعة الموقف في سورية حول خيارات استخدام القوة». وبات واضحاً أن ما يجري من تحريك قوات أو أسلحة يتم من أجل حرب لن تحصل.
ومع أن التهديد الأميركي أنتج إعلان قوات الأسد تقليص الضربات الجوية في حلب، فإن هذا لم يكن إلا ثمرة إبقاء الجانبين على الخيار الديبلوماسي تحت سقف الكباش الحاصل بينهما. موسكو تعطي الإشارة بالتراجع أمام «المراجعة» الأميركية، عبر الأسد، حتى لا تفقد صورة من يستخدم فائض القوة الذي تمارسه في حلب وغيرها، لتبرهن أنها دولة قوية. وواشنطن تشتري هذا التنازل الصوري حتى لا تزداد هيبتها اهتزازاً نتيجة إحجامها عن أي خطة لوقف الحرب السورية عبر إحداث التوازن الميداني.
ولا يغير كل ما يحصل بين الدولتين العظميين من الواقع الذي يفرض استمرار هذه الحرب: إدارة أوباما تترقب انتهاء ولايته بلا تورط عسكري في أي مكان في العالم، مع اتخاذ الخطوات المناسبة للحؤول دون فرض تغييرات دراماتيكية في سورية على الإدارة التي ستخلفه، فإذا أرادت التشدد لديها الإمكانات العسكرية عبر القواعد المنتشرة في سائر دول المنطقة والبحار، والقيصر مطمئن إلى أن سورية ملعبه المسلم بأرجحيته فيه، غير آبه بمخاطر جره إلى المستنقع الذي يشكله، على رغم كلفة تحريكه قواته الجوية والبحرية قياساً إلى الكلفة المتدنية عند الأميركيين.
بدل البحث بالمرحلة الانتقالية في سورية، باتت المرحلة الانتقالية في السلطة في أميركا هي معيار الحسابات. وفي انتظار مرور الأشهر، يتحفنا كيري بتصريحات تنتقد «قرار الروس الطائش دعم الأسد وتغاضيهم عن استخدامه غاز الكلور والبراميل المتفجرة»، ويعدنا لافروف بأنه يريد «إعادة سورية إلى وضعها الطبيعي». فالأول يكتشف فظاعات النظام بعد تجاهلها لسنوات، والثاني يضمر استعمال القوة المفرطة ويتلمس الطريق إلى تقسيم النفوذ في سورية بينه وبين إيران والأكراد.
أفسحت واشنطن وموسكو الطريق للفرنسيين كي يملأوا فراغ فشل مبادرتهما الديبلوماسية حول الهدنة، وفتحوا الطريق أيضا لتحرك الاتحاد الأوروبي في السعي لتفادي مزيد من التدهور في العلاقة بينهما، والذي قد يكون أحد مظاهره تزويد المعارضة بأسلحة نوعية.
انتظار الإدارة الأميركية الجديدة قد يكون فسحة زمنية كي تأخذ القوى الإقليمية التي لطالما تأرجحت إدارة أوباما بين دعوتها إلى أخذ دورها وكبحها عن أي مبادرة جوهرية، دورها في إدارة مرحلة الانتظار هذه. وقد تكون التفاهمات السعودية التركية الأخيرة محطة رئيسة على طريق ممارسة هذا الدور. فهل يتقدم خيار إقامة منطقة آمنة في شمال سورية يتم نقل عشرات الآلاف من النازحين إليها، مع حماية لأجوائها لأسباب إنسانية؟
المفارقة المؤلمة، أن السوريين الذين نجحوا في كسر جدار الخوف والصمت المطبق على صدورهم لعقود، ورفعوا صوتهم عالياً ضد الواقع القائم مطالبين بعد ركود طويل بحريتهم وحقوقهم، باتوا اليوم تحت رحمة مخاوف جديدة، أنعشت وعززت ما اختزنته أرواحهم من خوف ورهبة دأبت قوى القهر والاستبداد على نشرهما وترسيخهما لإخماد نفوس البشر وشلّ دورهم في الحياة العامة.
الخوف الأعم والأعمق لدى غالبية السوريون، يثـيـره استمرار الصـراع الدمـوي في البلاد وتصاعد العنف المنفلت وما يخلفه من ضحايا وخراب ومعوقين ومشردين، مــهدداً مع كل يــوم يمر حيوات المزيد من المواطنين وبيوتهم وممتلكاتهم وشروط عيشهم، وإذا أضفنا فشل مشاريع التهدئة وتفاقم خلافات الراعيين الأميركي والروسي وعجزهما عن حقن الدماء وتفعيل خطة الحل السياسي، ثم المقارعة الإقليمية على النفوذ، وتقدم وزن مراكز قوى محلية من النظام والمعارضة على السواء، لا مصلحة لها بالسلام وإخماد الصراع بل يهمها استمرار مناخ الحرب للحفاظ على امتيازاتها ومصادر ثرواتها، وأضفنا أيضاً تنامي خشية السوريين على مصير وطن حملوا اسمه ويعتزون بالانتماء إليه، إن لجهة ما خلقه منطق السلاح من اصطفافات وتخندقات سهلت وضع فكرة التقسيم البغيضة موضع التنفيذ، وإن لجهة ما ولدته الاستفزازات الطائفية ولغة التجييش ضد الآخر من شروخ وتصدعات عميقة ومن شحن العصبيات والغرائز وروح التنابذ والنزاع في المجتمع، وإن لجهة تصاعد الاستباحة الخارجية للبلاد من أطراف لا يهمها دم السوريين واجتماعهم الوطني بقدر ما يهمها حماية مصالحها وجعل سورية ميداناً لتصفية حساباتها مع التطرف الجهادي ومع خصومها لتحسين فرص نفوذها وحصتها من الهيمنة على المشرق العربي، ثم أضفنا إصرار النظام وبعض الجماعات المسلحة على الخيار العسكري وتنامي شعور كل منهما مدعوماً من حلفائه بقدرته على تعديل التوازنات القائمة والتقدم نحو الحسم، نــقــف أمام أهم دوافع خوف السوريين من حاضر دموي مؤلم وخطير ومن مستقبـــل لا أفـــق سياسياً له ومكتــظ بمزيـــد مــن الضحايا والخراب، ولا يغير هذه الحقيـــقـــة بل يزيدها وضوحاً، احتمال انتصار طرف على آخر، وإن في صورة نسبية وموقتة، ما يفـــضي إلى إجهاض خطة الحل السياسي تماماً، ويستجر، كما درجت العادة في الصراعات الأهلية، ردود أفعال ثأرية وانتقامية، وعودة قوية للغة القهر والتمييز.
لا نأتي بجديد عند التذكير بخوف السوريين المزمن من سطوة أجهزة السلطة على حياتهم ومقدراتهم وتفاصيل عيشهم، أو بنهج مديد من الاعتقال التعسفي والتغييب غير محدّد الزمن، فكيف مع شروط حياة لا تطاق اليوم للسجناء وقد باتوا بلا قيمة تذكر ويخضعون لكل أصناف التعذيب والإذلال؟ وكيف الحال مع تعدد المراكز التي يحق لها أن تفعل ما تشاء بالمواطن من دون أن تخضع لأية مساءلة أو محاسبة؟ وكيف الحال مع رعب السوريين من احتمال أن تحكمهم فصائل إسلاموية جهادية، مصابة بالعمى الأيديولوجي وتواجه قتلاً وتكفيراً أي تفسير أو اجتهاد يخالف ما تعتقده، ساعية الى فرض نمط حياتها وما تحلله وتحرمه على الناس أجمعين من دون احترام لخيارتهم الإنسانية ولأبسط حاجاتهم وحقوقهم، ومستسهلة تحت الراية الدينية مصادرة كل شيء وتطبيق حدودها الجائرة من سبي وإعدام وجلد وبتر، من غير شأفة أو رحمة.
داهم السوريين خوف جديد ولده تراجع إمكاناتهم على العيش وقدراتهم على تأمين حاجاتهم الحيوية، وإذا وضعنا جانباً من خسر بيته وممتلكاته ومدخراته نتيجة القصف والتدمير وبات في حالة عوز شديد، وتجاوزنا من فقد عمله ولا يجد فرصة لتأمين دخل مادي يقي نفسه وأسرته من الجوع والحرمان، نقف عند تردي أحوال غالبية العاملين في الدولة وقد باتوا يلهثون بلا جدوى وراء لقمة العيش مع الارتفاع الجنوني في الأسعار والتراجع الكبير في سعر صرف الليرة السورية، زاد الطين بلة ما خلفه العنف المفرط من دمار في البنية التحتية وتهتك الكثير من المؤسسات الإنتاجية والخدمية والصحية والتعليمية.
وأخيراً، ثمة خوف يتفاقم لدى النازحين واللاجئين السوريين ليس فقط من عوامل الطبيعة ببردها وقيظها، أو من تراجع المعونات وتردي شروط حياتهم في المخيمات وضياع مستقبل الملايين من أطفالهم، وإنما أيضاً من تغير موقف مجتمعات الاغتراب منهم، نتيجة ضغط كثرتهم عليها وما حصل من تعديات داعشية فيها، وتالياً من صعوبة بحثهم عن حلول كريمة للاستمرار في العيش هناك، والتكيف مع ظواهر التمييز والإذلال، أحد وجوهها رفض التعاطي معهم أو مساعدتهم، وأحياناً معاملتهم كالمنبوذين والأعداء، وتجنب مشاركتهم وسائل النقل العامة والمطاعم وحتى الأرصفة والشوارع.
صحيح أن قيام ثورات الربيع العربي شكّل تحولاً في نفسية السوريين وحافزاً، وإن تأخر كثيراً، للنهوض وكسر جدار الصمت والخوف، وصحيح أن السلطة الحاكمة التي تنكرت لأسباب الصراع السياسية، ورفضت تقديم التنازلات، وتصرفت كأنها في معركة وجود أو لا وجود، لا تزال مصممة على فرض هيبتها على المجتمع بمنطق القوة والغلبة، في رهان على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه وتثبيت مناخ الخوف والرعب مجدداً، لكن الصحيح أيضاً أن استمرار خوف الناس من غدهم ومما هم فيه وفقدانهم أي دور في محاصرة العنف والحض على حل سياسي يحفظ وحدة البلاد ومشروع التغيير الديموقراطي، لم يعد سببه انفلات عنف النظام فقط، ولا جماعات جهادية ديدنها التعصب والإرهاب، وإنما أيضاً غياب بديل سياسي يحوز ثقة المجتمع، يحدوه ضعف المعارضة السورية وارتهانها لضغوط الجماعات الإسلاموية المسلحة ولإملاءات الخارج، واستمرار عجزها بأطيافها كافة عن إدارة صراع دموي مكلف وعن إطلاق المبادرات التي تساعد على تخفيف معاناة البشر وما يكابدونه، وعن طمأنة الجميع، سياسياً وأخلاقياً، بأنها طرف يمكن الركون إليه لتجنيب المجتمع مزيداً من العنف والفوضى والخراب.
لم تشكّل الأزمة الأوكرانية، على رغم حساسيتها بالنسبة إلى روسيا وإلى الحلف الأطلسي، تجربة جديدة لموسكو خارج حدودها سياسياً وعسكرياً، فشبه جزيرة القرم كان جزءاً من روسيا وجرى ضمه إلى أوكرانيا في عهد نيكيتا خروتشوف ربما لأن ذلك القائد السوفياتي كان أوكرانياً، والخلاف مع الأطلسي في أوروبا الشرقية هو جزء من القلق الذي يصحب رسم حدود جديدة للنفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
الأزمة السورية هي التجربة الأولى في امتداد الاتحاد الروسي خارج حدوده، وعلى رغم العلاقات الحميمة بين موسكو ودمشق فإن الجيش الروسي لم يحط آلياته وعديده في الساحل السوري إلاّ بعد حوالى أربع سنوات من بدء ثورة سورية تحوّلت، مع التدخّلات، إلى حرب أهلية ثم إقليمية، لتخطو مع الحضورين العسكريين الروسي والأميركي نحو ما يشبه حرباً دولية.
ويلاحظ المخضرمون في مقر الأمم المتحدة في نيويورك أن الأميركيين والروس لم يصلوا إلى هذه الدرجة من التنافر والتوتر حتى في أزمات الحرب الباردة في العهد السوفياتي. وفي هذه الأجواء المشحونة ثمة من يوزّع إشاعات تفيد أن لقاء أصدقاء سورية في باريس ستنجم عنه قرارات سرّية بهجوم عسكري أطلسي لاحتلال سورية، وترافق ذلك مع إعلان موسكو نشر صواريخ «أس 300» في طرطوس، تضاف إلى صواريخ أخرى في قاعدة حميميم، ما يعني استعداداً لمواجهة أي هجوم على الجيش السوري واعتباره هجوماً على الجيش الروسي الحليف. وحملت الأخبار في هذا الإطار خبر وصول زورقي صواريخ روسيين إلى شرق المتوسط تتبعهما حاملة طائرات لتعزيز الاستعدادات لأي حرب محتملة.
ليست طبول الحرب التي تدقّ بل هو فشل المحادثات السياسية الطويلة والبطيئة لوزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري، خصوصاً بعد توصّلهما إلى اتفاق لوقف النار والمساعدات الإنسانية لم ينشر كاملاً، كما لم يستكمل الطرفان تشكيل اللجنة المشتركة لمراقبة وقف النار وفقاً للاتفاق.
لم تتحمّل واشنطن ضربات القتل والتدمير المتواصلة في حلب فأوقفت المحادثات مع موسكو، تاركة لصقور البنتاغون أن يتسيّدوا القرار، فهل من مواجهة؟ أم أن البنتاغون لن يضع على مكتب باراك أوباما قرار الحرب ليوقّعه، مكتفياً بوصول «الجبّارين» الأميركي والروسي إلى حافّة الحرب، ربما لمعاودة المحادثات على أسس أكثر وضوحاً، على رغم تعقيدات الوضع السوري، بطرفيه، النظام والمعارضة المسلّحة، ومن يعاونهما.
وإذ نقول «جبارَيْن» تبدو روسيا غير جديرة باللقب، فالرؤية شبه الفاشية لفلاديمير بوتين توصله إلى معارك لا يستطيع إغلاقها، وكل ما في الأمر أنه يرى النفوذ مجرّد سيطرة عسكرية وأمنية، وتلك صفة عالم ثالثية عرفناها في أنظمة استبداد، من بينها عربياً نظاما جمال عبدالناصر وصدّام حسين. أما النفوذ في الرؤية الديموقراطية فيتّخذ أشكالاً ثقافية وعلمية، وبالتحديد احترام الدساتير ودولة القانون الذي يطبّق بالتساوي على المواطنين.
يعيدنا بوتين إلى مراحل الاستبداد، لذلك نراه في أول خروج لروسيا لتأسيس مراكز نفوذ وتأكيد قطبيتها العالمية، يتصرف باستخفاف المستبدّ القوي، فنراه يعقد علاقات متشابكة مع إيران وسورية القريبتين إليه سياسياً، ومع دول أخرى لا تشاركه الموقف السياسي. يوصله سعيه إلى التشابك فلا يستطيع تمييز النهايات من البدايات، ولا إقرار ثوابت تحكم علاقات دولة بدولة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بل حتى عسكرياً لإنهاء الحرب.
سورية في محرقة مؤكدة حتى مطالع كانون الثاني (يناير) المقبل وإطلالة الرئيس الأميركي الجديد، أو الرئيسة. أما نحن العرب فنستمر في استنهاض مفردات ثقافية تليدة تدفعنا إلى الدم والخراب، وننتهز الأزمات السياسية لتصفية حسابات قديمة أو جديدة، تاركين للأجيال المقبلة عبء البناء، وسيأتي في أعقابهم من يهدمه... وهكذا.
اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي متوجس، فهو حذّر بصراحة مطلقة روسيا والولايات المتحدة من تجاهل «حصة إيران في سوريا» وقال إنه يتخوف من أن تؤدي الاتصالات السرية بين البلدين إلى «حصة أقل لإيران».
لكن ما نوع الحصة التي تريدها إيران، وهل روسيا معنية كثيرًا بأهداف إيران؟ الطرفان يختلفان حول مصير الأسد وكل لأسبابه الخاصة. فبسبب موقع سوريا الاستراتيجي، تنظر إيران إلى التسوية السلمية وسيلة للحفاظ على نفوذها، وفي جهدها لتحقيق هيمنة إقليمية فإنها ترى سوريا أفضل ممر لإمداداتها لـ«حزب الله» في لبنان. تدرك أن أي اتفاق سلام لإيقاف الحرب سيؤدي إلى تقاسم السلطة على أساس عرقي - مذهبي سيكون بالطبع عرضة لشلل سياسي، لذلك فإنها تفضل ألا تكون هناك سلطة مركزية، لأنها تريد المحافظة على الأرض السورية جسرا لجماعاتها في لبنان. وبالتحديد فإن الأسد ودائرته الضيقة هما الحلقة الرئيسية والأساسية لإبقاء النفوذ الإيراني.
على الرغم من أن الطائفة العلوية تشكل 13 في المائة من مجموع السوريين، فإن هناك كثيرا من العائلات العلوية القوية التي تخاصم الأسد وترفض إيران.
الاعتقاد السائد هو أن طهران تدعم النظام السوري لأن الطرفين من الطائفة الشيعية التي هي أقلية في عالم سني. لكن كما يقول الباحثون إن الاستراتيجية الإيرانية تعتمد على عوامل جيوسياسية، وليس على عوامل مذهبية، خصوصًا بين شيعة إيران والعلويين في سوريا. إيران تقولب كل الحقائق لتحمي مصالحها الإقليمية. عام 1960 عندما وصل ضباط علويون إلى الحكم، لم يقيموا علاقات وثيقة مع طهران، لكن الحرب العراقية - الإيرانية حققت نقطة التحول. كانت طهران مع ثورتها الخمينية مرفوضة من الغرب، ومتخوفة من الاتحاد السوفياتي، كانت تبحث عن حلفاء. من ناحيته كان حافظ الأسد الرئيس السوري آنذاك يعادي البعث العراقي، فالعالم العربي بنظره لم يكن يتسع لـ«بعثين»، فرأى في الحرب فرصته لإضعاف بغداد. اشترت إيران موقفه إلى جانبها بتوفير النفط المجاني لسوريا عام 1982، لكن العلاقات «الدينية» بين شيعة إيران وعلويي سوريا ظلت متوترة كالعادة. وفي عام 1985 كشفت برقية دبلوماسية أميركية عن أن شيعة إيران يرون العلويين «هراطقة»، ووصل الأمر عام 1996 إلى أن أرسلت إيران مرشدين إلى أوساط العلويين في سوريا فألقى النظام القبض عليهم.
أيضا عام 1987. عندما استمد «حزب الله» قوة من إيران لاعتقاده أنها تحقق مكاسب في الحرب ضد العراق، قاتلت القوات السورية في لبنان «حزب الله»، لأن مكاسبه على الأرض هددت التوازن الهش بين الطوائف فيه. ثم إن سوريا لم تشعر براحة عندما بدأ «حزب الله»، بناء على أوامر الحرس الثوري الإيراني، بخطف الغربيين في لبنان. وكانت دمشق هي من كشفت عن مبيعات الأسلحة الأميركية لإيران أثناء الحرب ضد العراق، فيما عرف بقضية «إيران كونترا».
بنت إيران وسوريا تحالفًا دفاعيًا يقوم على الخصوم والمخاوف المشتركة بينهما، من هنا، فإن العلويين في سوريا كلهم يتعاونون مع إيران إذا ما شعروا بتهديد وجودي، وفي حال تم التوصل إلى اتفاقية سلام تضمن أمن العلويين فالأغلب أن تنأى الطائفة العلوية بنفسها عن إيران.
أيضا، لا تستطيع إيران من أجل تثبيت نفوذها في سوريا الاعتماد على الشيعة السوريين، إذ إنهم يمثلون اثنين في المائة، وكون الحجم الديموغرافي يحدد الثقل السياسي فلن يكون للشيعة السوريين الوزارات أو الوظائف الإدارية الأهم في نظام تقاسم السلطة في سوريا ما بعد الحرب، وبالتالي لا يمكن لأي كتلة شيعية أن تمنع أي تشريع تتبناه الأغلبية السنية، وهذا يعني الحد من نفوذ إيران في سوريا. من هنا، فإن بقاء الأسد هو خيار إيران الأفضل للحفاظ على نفوذها بعد أي تسوية.
فوق كل هذا مع إطالة الحرب في سوريا، تحول بشار الأسد من حليف إلى ورقة بيد إيران نتيجة اعتماده عليها للإبقاء على نظامه. هذا الواقع لم يغب عن العائلات العلوية المتناحرة التي ترفض تبعية الأسد لطهران. لذلك، فإن الأسد المتخوف من أن يطاح به من قبل الدائرة العلوية، مستعد أن يقدم ضمانات للمصالح الإيرانية في سوريا طالما أنها من أجل هذه المصالح تحميه من أي انقلاب داخلي محتمل.
اليوم تتخوف إيران من أن يؤدي سقوط الحكم العلوي إلى حكومة سنية يمكن أن تتحالف مع المملكة العربية السعودية، التي تعتبرها إيران السد الواقف في وجه تحقيق سيطرتها المطلقة على المنطقة. وتتخوف كذلك من العزلة الإقليمية التي ستلي ذلك. يقلقها أيضا أن سوريا السنية ستمنعها من إيصال الأسلحة إلى «حزب الله» في لبنان.
وهكذا، من شأن سقوط نظام بشار الأسد أن يمحو كل المكاسب الإقليمية التي تعبت لتحقيقها، عبر الإرهاب ونشر عدم الاستقرار طوال 37 سنة من عمر الثورة الإيرانية.
إن طهران لا تستطيع تحمل فقدان العلويين السلطة في سوريا، ولهذا السبب فإنها سوف تتشبث بقوة للإبقاء على الوضع الراهن؛ إذ طالما بقي هناك حجر واقف، تفضل إيران استمرار الحرب.
إنه الخوف من وصول السنة إلى الحكم في سوريا الذي يجمع إيران والنظام السوري. إنه حلف دفاعي مبني على المصالح، وتأكيد الجذور الشيعية، هو خدعة لتأليب ضعيفي النفوس ودفعهم إلى أن يكونوا وقودًا لنيران حرب تشد إليها كل القتلة. واعتقاد بعض الدول بأن إيران جزء من الحل، ولا بد من دور لها، إنما يقوي أمثال «داعش» و«النصرة» ويطيل أمد الحرب.
لهذا تطرح إيران تسوية سلمية تبقي الأسد على رأس السلطة في مرحلة ما بعد الحرب. لكن أحلامها هذه قد تبددها روسيا التي لها جدول طموحات خاص بها. في سوريا لن تكتفي روسيا بقاعدة حميميم الجوية، إذ بدأ الحديث في موسكو عن الحاجة إلى قاعدة جوية ثانية «لأن الحملة الروسية على (داعش)، مستمرة، ولأن القوات الجوية الروسية تحتاج إلى قاعدة انطلاق من أجل تعزيز فعالية المهمات القتالية وتقليل الإنفاق من الموارد».
من المؤكد أن كل هذا يسحب البساط السوري من تحت أقدام الإيرانيين، ويجعلهم يصرون على إطالة الحرب.
المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لها أطرها وقواعدها، ولن تصل إلى صراع عسكري بين الطرفين. وكان واضحا أبعاد تسريب محادثة جون كيري وزير الخارجية الأميركي مع مجموعة من المعارضة السورية، إذ أبلغها بشكل غير مباشر بأن الولايات المتحدة لن تتخلص من الأسد تحت أي ظرف، قال للسوريين: «قاتلوا (داعش) و(النصرة) عنا»، كما أنها لن تصعد عسكريًا مع سوريا. قال كيري أيضا إن «(حزب الله)، لا يهدد أميركا مباشرة».
من هنا، ولأن روسيا صارت المحاور الرئيسي للنظام السوري، نظرًا لحجم نفوذها العسكري والدبلوماسي، فهي عضو في مجلس الأمن وليس إيران. تبقى إيران، رغم كل جهودها في سوريا واستثماراتها الشريك الأصغر، لذلك تشعر، كما عبر اللواء صفوي، بالقلق. هي لا ترتاح لأميركا، ثم إن عدم الثقة بينها وبين روسيا يتقلص ما دامت الحرب مستعرة في سوريا وستقاوم كل مبادرة للسلام من ناحيتها، ومع اشتداد التجاذبات مع واشنطن لا ترى موسكو جدوى من التخلص من الأسد، إذا لم تكن قادرة على استخدامه ورقة مساومة، وما لم تكن مبادرة للسلام في الأفق. من هنا، سيبقى الدور الإيراني إشعال الحرب أكثر في سوريا، لأن المواجهة بينها وبين روسيا ستشتعل إذا ما خمد القتال في سوريا وبُذلت جهود لوضع نهاية للحرب. صدق صفوي عندما أصر على «حصة إيران في سوريا»!
لم يكن غريبا أو مفاجئا أن تنهار الاتصالات الأميركية - الروسية بشأن الأزمة السورية، وأن يعود الطرفان إلى لغة التلاوم وتبادل الاتهامات. فالكلام عن الهدنة وعن تفاهم بين واشنطن وموسكو للتنسيق في جهود تثبيت وقف النار وتهيئة ظروف تحقيق التسوية، كان محكوما بالفشل منذ البداية، والشواهد كانت ماثلة أمام كل من كان يقرأ الصورة على حقيقتها البشعة والمؤلمة.
ليس هناك استراتيجية واضحة، ولا أرضية واحدة أو رؤية مشتركة حول الهدف النهائي. الحسابات متباينة، بل ومتعارضة، وسوريا تدفع ثمن الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، في ظل عودة أجواء الحرب الباردة والواقع الدولي الراهن الذي تراجع فيه أميركا حساباتها، وتتحسس خطواتها، مع بروز أقطاب جدد ينافسونها ويتحدون هيمنتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا. منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات، كانت أميركا في حالة تراجع على الصعيد الخارجي بعد أن شعرت بضغط الكلفة الباهظة لحربي أفغانستان والعراق. باراك أوباما دخل أصلا إلى البيت الأبيض وفي مقدمة أولوياته إعادة القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وضمن استراتيجيته عدم قيام أميركا بدور شرطي العالم. لذلك لم يكن واردا في حساباته منذ البداية التدخل عسكريا في سوريا، رغم ضغوط الحلفاء والأصدقاء. روسيا فلاديمير بوتين كانت تعرف ذلك، وكانت في الوقت ذاته تبحث عن استعادة مكانتها بعد التقزيم الذي أصابها مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وتريد فرد عضلاتها في مواجهة الغرب الذي تمدد إلى حدودها وضم تحت أجنحته دول فلكها الأوروبي القديم. لذلك شكلت سوريا ساحة مناسبة لبوتين للرد وإظهار قدرة موسكو على التحرك بعيدا عن حدودها لمشاكسة الغرب، أو لمنع سقوط نظام حليف، أو لفرض وجودها على الساحة الدولية.
في ظل هذه الأجواء لم يكن متوقعا أن يصمد «التفاهم» الأميركي - الروسي، ولا اتفاق الهدنة الأخيرة، ناهيك عن أن يصدق أحد التصريحات عن توفير أجواء مؤاتية لتسوية الأزمة. فروسيا تعرف، كما يعرف النظام السوري وحلفاؤه، أن أميركا تعيش حالة «بيات انتخابي»، وأن إدارة أوباما التي لم يتبق لها في البيت الأبيض سوى مائة وستة أيام، لن تقدم على أي تصعيد ولن تبدل فجأة في استراتيجية «الانكفاء» التي انتهجتها حتى الآن، كما أن أي إدارة جديدة سوف تستغرق وقتا قبل أن تلتفت جديا إلى الأزمة السورية. من هنا فإن روسيا ونظام الأسد ينظران إلى هذه الفترة كفرصة مواتية للتصعيد لا للتهدئة.
بعض الدوائر الأميركية ترى أن سياسة «القفاز الناعم» والنفس الطويل التي انتهجها وزير الخارجية جون كيري مع موسكو لم تحقق أي نتائج، بل وفرت غطاء لموسكو للمماطلة الدبلوماسية وكسب الوقت لتعزيز الدعم لنظام الأسد وحلفائه لانتزاع المزيد من المواقع من المعارضة. الواقع أن كيري لم يكن يملك غير الدبلوماسية المكوكية، في ظل موقف رئيسه الرافض «للدبلوماسية العسكرية».
وبعد فشل الجهد الأخير، تعالت بعض الأصوات التي تطالب إدارة أوباما بالنظر في خيارات أخرى وتوفير أسلحة متطورة للمعارضة، بينما يرى آخرون مثل الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية أن واشنطن يجب أن تكون مستعدة لتوجيه رسائل قوية لموسكو، وأن تتحرك في هذا الإطار لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا.
هذه الأصوات تبدو مجرد تعبير عن الإحباط إزاء سياسة العجز والتخبط التي ميزت تعامل إدارة أوباما مع أزمة خلفت واحدة من بين أكبر الماسي الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فليس هناك من يتوقع انقلابا في نهج واستراتيجية إدارة أوباما في هذا الوقت المتأخر من عمرها، أو اتخاذ خطوات مثل فرض الحظر الجوي من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة غير مضمونة العواقب مع القوات الروسية في سوريا. فأوباما رفض هذه الخيارات مرارا قبل ذلك ومن الصعب رؤية تزحزحه في أواخر أيامه بالبيت الأبيض عن عقيدته التي تحدث عنها بإسهاب في مقابلته الشهيرة مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية العام الماضي، وأكد فيها اعتزازه بأنه لم يستجب لأصوات التدخل العسكري في سوريا، معلنا أن الشرق الأوسط لا يمكن علاجه من مشاكله.
العودة إلى تفعيل دور «المجموعة الدولية لدعم سوريا» هي الخيار المطروح الآن من قبل واشنطن أو موسكو، لكن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد شراء للوقت، ومحاولة إظهار أن العالم يفعل شيئا من أجل السوريين. فالظروف والملابسات التي أفشلت كل مساع للحل في السابق، ما تزال ماثلة، بل تزداد تعقيدا في ظل أجواء الحرب الباردة دوليا، والساخنة إقليميا. الانتخابات الأميركية لن تعني تغييرا سريعا، خصوصا إذا انتخبت هيلاري كلينتون. أما إذا حدث زلزال سياسي يدفع بالغوغائي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن كل شيء يصبح واردا بما في ذلك إزاء الأزمة السورية.
وليد أبو مرشد – الشرق الأوسط
هل تكفي تسوية مدينة حلب بالأرض وتفريغها من سكانها، لإنهاء النزاع السوري وإعادة سوريا إلى خريطة دول الشرق الأوسط؟
الجواب لا يزال في ملعب أوباما، وملعبه يشهد اليوم تباينات بين رؤيته للحالة السورية ورؤية رئيس دبلوماسيته، جون كيري، قد تعكس، كما يبدو، اختلافًا في تقييم «الديمقراطيين» لموقع أميركا على الساحة الدولية بعد التحدي الروسي لها في سوريا.
بعد أكثر من خمس سنوات على الانتفاضة الشعبية في سوريا، تشعر واشنطن أن استمرار التزامها بدبلوماسية «لا في العير ولا في النفير» بدأ يمس بهيبتها كدولة عظمى، واستطرادًا مصداقيتها في أوساط الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم والأعداء.
أن تأتي تلاوة «فعل الندامة» على فرص الإدارة الأميركية المفَوَّتة في سوريا من رأس هرم الدبلوماسية الأميركية ومهندسها، أي وزير الخارجية جون كيري، حدث قلّ نظيره في سجلات الدبلوماسية الغربية، والأميركية تحديدا. ولكن العبرة السياسية لهذا الندم، التي يصعب تجاهلها، أنها جاءت في سياق «تحصيل الحاصل» هذه الأيام، أي تحميل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مسؤولية إحباط كل اقتراحات ومبادرات التدخل المباشر في سوريا.
ندم وزير الخارجية الأميركي، إن كَشف عن أمر ما، فهو صعوبة - وربما استحالة -التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في سوريا، بعد اعتماد آلة الحرب الروسية سياسة «الأرض المحروقة»، ومؤازرة سلاحها الجوي جيش النظام في مهمته الناجحة لتدمير مدينة حلب على رؤوس أبنائها.
إعراب وزير الخارجية الأميركي (أمام وفد من المعارضة السورية) عن «إحباطه» من موقف رئيسه، باراك أوباما، مؤشر كافٍ للاستنتاج بأن ما لم يقدم عليه الرئيس أوباما، أي التدخل العسكري، بات المدخل الوحيد للحل.
ولكن السؤال يبقى: أما زال هذا الحل في يد الولايات المتحدة؟ محوران إقليميان ما زالا يسمحان بأمل تعديل الوضع الميداني لصالح المعارضة:
المحور الأول - والأكثر منطقية - هو «الجيش السوري الحر»، والثاني هو تركيا.
بالنسبة لـ«الجيش السوري الحر» ما زالت الفرصة سانحة لتجميع صفوفه وتزويده بالعتاد المناسب لتعديل الوضع الميداني الراهن، إذا عادت إدارة أوباما إلى التعامل مع قضيته بجد ومصداقية.
لو تم هذا الأمر قبل خمس سنوات، أي يوم كان «الجيش السوري الحر» رأس حربة الانتفاضة السورية، لربما كان تزويده، آنذاك، بخمسين صاروخ «ستينغر» أرض -جو كافيًا لتحييد سلاح الجو السوري وقلب موازين المواجهة العسكرية لصالح المعارضة تمهيدًا للعودة إلى طاولة المفاوضات.
واليوم، وبعد أن زجت روسيا بسلاحها الجوي في النزاع السوري، قد يتسبب اتخاذ واشنطن لهذا القرار بتعريضها لمواجهة مباشرة مع موسكو، خصوصا أن القوات الروسية «ذاقت مُرّ» هذه الصواريخ في حرب أفغانستان (1979 – 1989). رغم قناعة العديد من المراقبين السياسيين بأن موسكو، كما واشنطن، لا ترغب في التسبب بحرب عالمية ثالثة بسبب سوريا، فإنه ما زال بإمكان واشنطن الالتفاف حول «العامل الروسي» باتخاذها قرارًا جريئًا يرفع «الفيتو» الذي تفرضه على تزويد حلفائها في المنطقة المعارضة السورية بهذه الصواريخ والأسلحة النوعية التي تفتقدها في مواجهاتها غير المتكافئة مع قوات التحالف الروسي - السوري - الإيراني.
على صعيد المحور التركي، قد تبدأ مسيرة تعديل الوضع الميداني بتخلي واشنطن عن معارضتها اقتراح أنقرة فرض منطقة آمنة على طول حدودها مع سوريا، وإعطاء «الضوء لأخضر» للجيش التركي لمواصلة عملياته العسكرية في سوريا، المباشرة وغير المباشرة.
رغم أن الجيش التركي فقد العديد من كوادره القيادية نتيجة حملة «التطهير»التي نفذها الرئيس رجب طيب إردوغان، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، فهو لا يزال ثاني أكبر جيوش دول حلف شمال الأطلسي. وبالنسبة لإردوغان قد تشكل عملياته في سوريا فرصة سانحة لتأكيد قدراته القتالية.
سجلّ الرئيس أوباما في البيت الأبيض لا يوحي باحتمال تغيير موقفه من سوريا في آخر أيام عهده. ولكن الأمل في التغيير يبقى قائمًا في حال احتفظ الديمقراطيون بالرئاسة الأميركية، وعادوا إلى مقاربة الدولة العظمى في دبلوماسيتهم الدولية.
كانت لديفيد سانغر، من «نيويورك تايمز» ملاحظة مثيرة للاهتمام جاءت في أحدث مقالاته عن السياسة الخارجية الغريبة لفلاديمير بوتين. وكتب سانغر، أن روسيا «اقتصاد ينهار مع إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا». كيف لها إذن أن تتسلط على الولايات المتحدة الأميركية، الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم، و«أكبر جيش على وجه الأرض؟» وكما قال الرئيس أوباما خلال الأسبوع الماضي؛ ذلك لأن رئيس الولايات المتحدة حذر إلى درجة التردد، وهو حريص إلى درجة يبدو معها جبانًا.
الأزمة في الوقت الراهن هي سوريا وحصار حلب. لقد تم قصف مستشفيات المدينة بما يطلق عليه «القذائف المخترقة للتحصينات»، وتم استهداف مواقع مدنية أخرى. ووصف ستيفن أوبراين، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية: «القصف العشوائي» بأنه «مستوى من الوحشية لا ينبغي لأحد من البشر تحملها». قوات النظام السوري، بمساعدة «حزب الله» وإيران على الأرض، ومساعدة روسيا من الجو، مستعدة لإنهاء المسألة وإنجاز المهمة.
نهاية الشهر الماضي، قصف السوريون، والروس، أو السوريون بمساعدة روسيا قافلة مساعدات إنسانية نظمتها الأمم المتحدة. وردت الولايات المتحدة الأميركية على هذا الاعتداء الشنيع بالاحتجاج، وبتعليق المحادثات مع موسكو يوم الاثنين الماضي.
أربك رفض أوباما لدعم المطالبات بوقف إطلاق النار بالتهديد باستخدام القوة جون كيري، وزير الخارجية، الذي اعترف لبعض رفاقه من الدبلوماسيين بإصابته بالإحباط؛ وسرعان ما تم تسريب كلماته. ويتخذ كيري حاليًا موقفًا معارضا لسياسات الرئيس، وهو الأمر الذي كان مشكوكًا فيه من قبل. مع ذلك ما حدث لكيري كان أمرًا بسيط، مقارنة بما حدث لأوباما نفسه. فقد دفعه الوضع إلى تقديم تفسيرات لقراراته تصل إلى حد الهذيان. لقد دمّر الحقائق، وجعل الترتيب الزمني مشوشًا، وأظهر نفسه بلا ذنب أو مسؤولية عن مقتل نحو 500 ألف شخص في سوريا، ونزوح 8 ملايين شخص في الداخل، والموجة الكاسحة من المهاجرين التي عصفت باستقرار أوروبا.
وتساءل الرئيس الأسبوع الماضي خلال اللقاء العام في المجلس المحلي، الذي استضافته محطة الـ«سي إن إن»، في فورت لي: «هل هذا وضع يؤدي فيه استخدام قوات أميركية كبيرة العدد إلى نتيجة أفضل؟». إنه سؤال لا بأس به، إلا أن هناك سؤالا أفضل: من اقترح مثل هذا التصرف؟ لا أحد له مكانة وأهمية. لقد أوصى فريق الأمن القومي لأوباما ذات مرة بتمويل، وتدريب المتمردين، الذين نبذهم أوباما في السابق ناعتًا إياهم بـ«المزارعين أو المعلمين أو الصيادلة السابقين الذين يتخذون الآن موقفًا معارضا من نظام يتمتع بالخبرة في الحرب».
لقد أنصت أوباما إلى مدير الاستخبارات الأميركية، ووزير خارجيته، ووزير دفاعه، والقادة العسكريين، لكنه قال لا في النهاية، وانتهى النقاش؛ ولم يتم التوصية بإرسال قوات على الأرض.
في فورت لي، حفز الرئيس التدخل الروسي والإيراني في سوريا بقوله: «يقول المنتقدون لي إنه لو كنت قد منحت الدعم الكافي في وقت مبكر للمعارضة المعتدلة، لتمكنت المعارضة من الإطاحة بنظام الأسد المجرم القاتل. المشكلة في هذا الطرح هو أننا رأينا أن نظام الأسد يحظى بدعم روسيا وإيران».
صحيح أن النظام السوري كان يحظى دومًا بدعم كل من إيران وروسيا، لكن تطلب الأمر وقتًا ليشارك كل من «حزب الله»، وروسيا في القتال بالفعل.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 كان أوباما قادرًا على القيام بفعل ما، وهو ما أشار ضمنًا إليه وقتها حين قال: «لقد آن الأوان لتنحي الرئيس الأسد». ولم يمتنع الأسد عن التنحي فحسب، بل لطخت قواته لاحقًا «الخط الأحمر» الشهير، الذي كان يتحدث عنه أوباما طوال الوقت، بإطلاق الغاز السام على مواقع مدنية.
رأى الأسد، وبوتين، والأشرار الآخرون على اختلافهم حينها، وتحديدًا عام 2013 أن أوباما رجل ضعيف.
أفهم جيدًا أن المرء لا يحب الاعتراف بفشله، خاصة إذا كان فشلا فقد الكثيرون أرواحهم بسببه. يقول بيل كلينتون إنه لن يسامح نفسه أبدا على عدم التدخل في إبادة رواندا. وبالمثل سوف يطارد هذا الأمر أوباما.
مع ذلك لا يزال في إمكان الرئيس اتخاذ موقف، حيث يمكنه دعم وزير خارجيته، وفرض ممر للمساعدات الإنسانية، أو على الأقل إلقاء المواد الطبية والطعام جوًا. لدى الولايات المتحدة بالفعل طائرات في المنطقة تستخدم في قتال تنظيم داعش. ولا يعد إلقاء المساعدات الإنسانية جوًا فعلا عدائيًا، ولا ينبغي لروسيا أن تراه كذلك. يمكن لأوباما القيام بذلك لأن أميركا تستطيع القيام بذلك، ولأنه لا ينبغي لها أن تقف وتشاهد ذبح الأبرياء دون أن تحرك ساكنًا، ولأنها تستطيع إخبار روسيا بأن عليهما التزاما أخلاقيا بإنقاذ الأرواح. ليس هذا خطا أحمر، بل هو الأمر الأهم.
يعتقد الموالون لنظام بشار الأسد، وأنصار «محور الممانعة» الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما، ومعهم عواصم عربية كالقاهرة والجزائر، أن استمرار النظام واستعادته السيطرة على كل المناطق هما دعامة الحفاظ على سورية «موحّدة». وعلى رغم تفاوت حجج هذه الأطراف وتمايز منطلقاتها، إلا أن مواقفها استندت عن قصد أو غير قصد الى منطق واحد ووقعت عملياً في الاصطفاف نفسه. وبما أن النظام انعطب منذ العام الثاني للأزمة وصار معتمداً كلّياً على الدعم الإيراني، فإن مواصلة الرهان عليه صارت واقعياً رهاناً على إيران، يتساوى في ذلك أن يكون المراهنون معنيين بالأجندة والمشروع الإيرانيين أم لا. وبعد التدخّل الروسي، بطلب إيراني كما حرصت طهران على التأكيد مراراً، انقسمت تلك الأطراف بين مَن يستمدّون من موسكو «مشروعيةً» لمواقفهم ورهاناتهم، ومَن ظلّوا على الولاء لإيران ونفوذها في سورية، معتبرين أن طهران هي التي تدير موسكو.
وفيما دأب إعلام «الممانعة» على اعتبار أن الأزمة تفاقمت بسبب قوى أخرى تدخلت و «دعمت الإرهاب»، كما كرّر رئيس النظام مشيراً الى تركيا والسعودية وقطر تحديداً، فإن ذلك الإعلام كان يتّهم الأطراف المتدخّلة بأنها تسعى الى إسقاط نظام الأسد لإحلال «نظام إسلامي متطرّف» محله، أو الى فرض التقسيم. وفي تبريرهم الحرب الهمجية التي تُشنّ على حلب، راح «الممانعيون» يقولون أن الدافع الرئيسي لـ «تحرير حلب» هو «إحباط مخطط تقسيم سورية». وطوال أعوام الأزمة، وصولاً الى عقدتها الراهنة، لم يبدِ أي ناطق روسي أو إيراني أو أسدي أي موقف يؤكّد الحرص على وحدة سورية، بل إن «سورية المفيدة» بات مصطلحاً يحدّد الإطار الجغرافي للمخطط الأسدي - الإيراني، وقد غدا منذ عام 2013 في مثابة مقترح أول في أي مساومات تقسيمية مقبلة. أما في الجهة المقابلة، سواء في المعارضة أو الدول الداعمة لها، فلم يُعرف أي مخطط أو مقترح مضاد، بل شدّدت كل المؤتمرات برعاية الجامعة العربية وغيرها على وحدة سورية، وكانت الخشية الدائمة من نيات تقسيمية قديمة ومبيّتة لدى الجانب العائلي - الطائفي المهيمن على النظام.
وما حصل خلال آب (أغسطس) الماضي، كان ذا دلالة، أولاً بالرعاية الروسية لوقف إطلاق النار بين القوات النظامية والكردية لمصلحة سيطرة الأكراد في الحسكة، ثم في عدم الاعتراض الروسي أو الإيراني - مع اعتراض شكلي من النظام - على التدخل التركي في عملية «درع الفرات» لطرد تنظيم «داعش» من جرابلس ومطالبة الأميركيين بسحب القوات الكردية من منبج وإبقائها شرق الفرات. إذ تشير الواقعتان الى أن مشروع «استعادة السيطرة عل كل المناطق»، وفقاً للأسد، ينطوي على استثناءات، وأن «سورية المفيدة» هي أقصى طموحه، أما الحروب المستمرّة فتهدف الى تحصين هذا الطموح بإحاطته بمناطق مدمّرة وأراضٍ محروقة لإضعاف مصادر الخطر عليه أو إزالتها كليّاً. ولعل «العملية الكاملة» التي يخوضها التحالف الثلاثي (روسيا وإيران والنظام) بدت ممكنة أخيراً في حلب كمقابل للقبول الصامت بدور تركي حدّدته موسكو جغرافياً وقصرته على محاربة «داعش» واحتواء من التوسّع الكردي الطموح.
مع انهيار الهدنة الأخيرة وبدء الهجوم على حلب، كان وزير الخارجية الفرنسي المسؤول الغربي الوحيد الذي حذّر من أن «النظام يلعب في حلب ورقة التقسيم». وكان سبقه نظيره الأميركي في شباط (فبراير) الماضي، الى القول بأن الفشل في فرض هدنة يعني استدراج الوضع السوري نحو التقسيم، وتبعه قبل أسابيع مدير الـ «سي آي إيه» في ترجيح هذا المسار. وباستثناء إشارة من نائب وزير الخارجية الروسي الى «الفيديرالية» (التي تعني استمرار وجود دولة مركزية قوية)، فإن الروس لم يفصحوا عن أي موقف في شأن مشاريع التقسيم، لكن إدارتهم للأزمة والحرب بقيت في الخطة التي رسمها الثنائي الأسدي - الإيراني منذ 2011، لذا جاء تدخّلهم وسيطرتهم على القرار العسكري ليساهما في مزيد من القتل والتدمير خدمةً لتلك الخطة التي أفضت عملياً الى وضع كل معالم التقسيم على الأرض.
ولم تكن طهران أكثر شفافيةً من موسكو في توضيح نياتهم، لكن المفاهيم التي ضخّها العديد من مسؤوليها وعسكرييها عن أهداف متصلة ومتماثلة لحروبهم في سورية والعراق واليمن، لم تخف عداءهم للشعوب واستخفافهم بمسائل كوحدة الأرض والدولة فضلاً عن سعيهم المؤكّد الى تفكيك الجيوش والمؤسسات كافةً وتمكين الميليشيات التي يؤسسونها على قاعة المذهبية، أو تلك التي يستتبعونها وأبرز مثل لها ميليشيات فرّخت في مناطق سيطرة نظام الأسد، لا سيما في الساحل. وعلى رغم إحجام الإيرانيين عن الإشارة الى التقسيم (يفضّلون مبدئياً السيطرة الكاملة)، إلا أن أحد أتباعهم اللبنانيين لم يتردد في القول أن «تقسيم سورية والعراق أمر وارد» (نعيم قاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، 04/08/2016). وليس أدلّ على ذلك من سياسة التهجير القسري التي انتهجها النظام بإخلاء المدن والبلدات والقرى منذ الشهور الأخيرة لعام 2011، ثم تولّى الإيرانيون استثمارها في الأعوام التالية لإحداث تغيير ديموغرافي مبرمج، خصوصاً في محيط دمشق وفي حمص، وقد ظهرت معالمها أخيراً في حصارات التجويع والقصف الوحشي في الزبداني والقلمون وداريّا وحي الوعر. ولا ترمي هذه السياسة إلا الى جعل أي حل سياسي مستحيلاً لاستحالة عودة النازحين واستعادتهم بيوتهم وأملاكهم أو الذين أحرقت محالهم التجارية وأُزيلت عقاراتهم، أو حتى عودة «الغائبين» الذين صودرت أملاكهم باعتبارهم «إرهابيين» (تطبيقاً للسيناريو الإسرائيلي بالتصرف بأملاك الفلسطينيين).
لكن إعلام «الممانعة» الإيراني يغطّي دناءة هذه الممارسات بشعارات خوض المعركة «الأخيرة» في حلب باعتبارها «هدية محور المقاومة لوحدة سورية»، ويواصل الادعاء بأن كل ما تفعله إيران ونظام الأسد يهدف الى مواجهة مخططات إسرائيل والولايات المتحدة. وقد اتهم الأسد أميركا بالعمل على تقسيم سورية لضمان أمن إسرائيل وتطويق النفوذ الإيراني، وحجّته في ذلك أن أميركا تدعم الجماعات الإرهابية والتنظيمات الكردية الانفصالية وتعطّل مساعي الحل السياسي. لا يمكن تبرئة الأميركيين من هذه الاتهامات، لكنها تنطبق أيضاً وحرفياً على نظام الأسد، بما فيها خدمة إسرائيل التي لم يكفّ عن مغازلتها. غير أن الواقع الذي أفضت إليه الأزمة يفيد بأن جميع المتدخلين في سورية (الروس والأميركيين، الإيرانيين والإسرائيليين والأتراك) باتوا أطرافاً متنافسة تتحيّن الظروف وصولاً الى محاصصات تضمن مصالحها، ويصعب تحصيل هذه المصالح في سورية واحدة. ولا يُستثنى من ذلك سوى الجانب العربي الذي لم تكن له في أي مرحلة نيات أو مخططات تقسيمية خدمةً لنفوذٍ أو مصالح. أما النظام نفسه فقد جعل من نفسه أحد هؤلاء المتدخّلين، لأن ممارساته لم تعبّر يوماً عن حرص على سورية وشعبها. وما دام الأميركيون يعملون للتقسيم، كما يقول الأسد، فهل أن رفضهم الدائم إطاحته جزءٌ من المخطط؟
كل ما فعله الأسد ونظامه وإيرانيّوه من تخريب اجتماعي وعمراني واقتصادي في سورية، كان بهدف التهرّب من أي مشاركة أو «إصلاح» سياسيَّين ينهيان عملياً حكم العائلة - الطائفة المتخفّي وراء غلاف واهٍ وفّره حزب البعث «العلماني» (؟). كان الأهم في دمشق وطهران أن يبقى نظام الأسد لا أن تبقى سورية، لذلك اختُرعت «المؤامرة الكونية» لتسويغ القمع الوحشي واستدراج البلد الى حرب أهلية، ولما لم تُهزم «المؤامرة» لجأ الأسد والإيرانيون الى حيلة الإرهاب للتشهير دولياً بالمعارضة سعياً الى سيناريو «حرب كونية» ظهر بعض معالمها منذ التدخّل الروسي، لكن بقي هدفها البحث عن تسويات دولية - إقليمية سعياً الى تقاسم سورية.
يعرف الروس والإيرانيون أن بقاء الأسد لم يعد عنواناً لبقاء الدولة بل بات مجرّد وسيلة لـ «تشريع» أدوارهم واحتلالاتهم، واستطراداً لم يعد نظامه قادراً على الحكم أو جديراً به إلا بوجودهم الدائم في سورية والحفاظ على الأسد صورةً وواجهةً لما يقررونه. لكن تحصين احتلالاتهم يحتاج الى بلورة التقسيم في تسوية دولية - إقليمية، وهم يستخدمون معركة حلب كبداية ضغط على الإدارة الأميركية المقبلة للتعجيل بتلك التسوية. وفي الانتظار، قد يعملون على «عملية سياسية» ولو ملفّقة بمشاركة بعض «المعارضات» الصُورية التي ساهموا في تصنيعها لإعادة إنتاج النظام السابق مع بعض التعديلات.