لا يمكن فصل التصعيد الاعلامي الغير اعتيادي حول سوريا ، بأنه عبارة عن كلام في الهواء اذ أنه يرتبط بتطورات على الأرض قد تمهد لحدوث أمر كبير، و في الوقت ذاته لا يمكن الاعتماد عليه كلياً في رسم خطوط الطريق الذي سيتم السير عليه فب المرحلة القادمة ، اذ أن الأمور تطبخ في مطابخ لا يعلم بها إلا القلة القليلة، بينم يتخذ البقية موضع المتابع أو المراقب و كتوصيف دقيق موثق لما يحدث.
النبرة اختلفت بشكل كبير منذ ١٩ الشهر الجاري ، وهو تاريخ انهيار الهدنة الشكلية أو هدنة حسن النوايا بين أمريكا و روسيا ، و كان هذا التاريخ نقطة تحول جعلت الجميع يلملم حوائجه “السياسية” و يبدء باستلال سيوف الحرب ، وظهور الأمور على الاعلام “العلني” و ليس “السري”، يشي بأن الأمور وصلت حد التمهيد الذي يسبق الاشباك، ووفقاً للعرف السائد في مثل هذه الأمور فإن مدة انطلاق الفعل ، تترواح بين الاسبوع على أقل تقدير و الشهر في أبعد توقع.
ما يميز النبرة المتصاعدة الممهدة لتغيير التوجيهات هو الصخب الاعلامي الذي يحمل عدة روايات و لكنها جميعها تصب باتجاه واحد ألا وهو ، الحاجة إلى “لي ذراع” الأسد كشخص و روسيا كمقصد ، من خلال سلسلة من “الأخطاء” المقصودة ، كما حدث في دير الزور الشهر الفائت ، تفضي إلى زعزعت التركيبة الغير متجانسة بالأصل على الأرض التي تعتبر سلاح روسيا البري ، والذي يضم بعض العصابات التي تتخذ اسم “جيش سوريا” و عشرات الميلشيات التي تختلف باللغة و التركيبة، صحيح أن مرجعيتها تعود لنبع واحد “المرشد ثورة ايران” إلا أن عقول المنفذين مختلفة ، و الأهم أن الروابط بين العصابات و المليشيات ليس بجيد و الخلافات بينهما عميقة، اضافة لعدم ثقة روسيا بالمقاتلين الذين يمهد لهم طيرانها على مدار الساعة، وفق ما كشفه محلل اسرائيلي بالأمس .
ووجدت المخابرات الأمريكية و قيادة الأركان المشتركة ، في استسلام أوباما و فريقه و اعتزالهما الملف السوري ، البوابة الأمثل لاعادة بسط سيطرة بلادهم على أكثر الملفات أهمية في العالم ، وتسريبات “واشنطن بوست” و إن كانت لاتؤخذ كتقرير صحفي ، و إنما هي الرسالة التي تمهد لما هو قادم ، رسالة تم تعزيزها من مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب الذي قال “ لا يحترمون قادة أميركا وقصفهم لسوريا يجب أن يتوقَّف”، و على الصعيد الدولي توقيت ظهور تقرير الأمم المتحدة حول استهداف قافلة المساعادت في ريف حلب في ١٩ من أيلول بأنه بقصف جوي ، هو جزء من الخطة التمهيدية.
ووفقاً للمجريات الآنفة الذكر فإن الرد سيكون في ذات السياق الروسي ، الذي أخذ منحى ضرب الفصائل المعتدلة و انهاكها لحد كبير ، الأمر الذي بات بحاجة لشيء مماثل للأسد و بعض حلفاءه ، من خلال ضربات مركزة على نقاط القوة بغية الوصول إلى انهاك نسبي يفضي لاضطرار الجميع الدخول في التسوية و التهدئة .
أثناء متابعتي لصفحات التواصل الاجتماعي بشكل يومي, أتفاجأ بأنه مازال هناك كلمات وقصائد وحتى أغاني تتكرر عن صمت العرب، كـ أغنية الضمير العربي التي تعود إلى أيام نكبة فلسطين, والشعارات التي يهتفون بها حتى اللحظة كـالشعب العربي وين, الدم العربي وين.
فعادت بي الذاكرة إلى بداية الثورة السورية عام 2011والتي بدأت شرارتها من محافظة درعا حين هب الشعب السوري بكافة أطيافه معلنين بدء ثورتهم ضد الدكتاتورية، ولكن لم يكن بالحسبان المواجهة المسلحة بالرصاص الحي، وضحى العديد من الشبان بأرواحهم لأجل نيل الحرية المطالبين بها، ومتأملين بأن الأمة العربية سوف تدعم ثورتهم. وبالفعل بدأ الدعم في بداية عام2012 ولكن دعمهم أقتصر فقط على الأسلحة، وحيث نزح الملايين من المدنيين العزل ولكن الدول التي دعمت الثورة السورية بالأسلحة فاجأتهم حين لم تستقبل مواطناً سوريا على أراضيها وهنا اقصد دول الخليج وعلى رأسها (السعودية، قطر)، والتزمت دول الجوار كـ (لبنان) ولكن بطريقة قذرة، فمنهم من حرم التعليم ومنهم من عاملهم كـ عبيد وصولاً إلى اغتصاب السوريات وإرغامهن على العبودية الجنسية على سبيل المثال لبنان.
اكتفى العرب بإرسال بطانيات وخيم وتصويرهن بأبشع الطرق والإذلال لكي تحصل الدول المضيفة للاجئين السوريين على بعض الدعم الزائد, وبعدما فقد الشعب السوري الثقة بالدول العربية بدأ يهتف كل جمعة في تظاهراته ياحيف ولله ياحيف على هالأمة العربية.
ومن هنا تشتت العرب السنة في سوريا وانقسموا إلى عدة فصائل معارضة، منها من بايع تنظيم الدولة داعش ومنهم من حمل سلاحه وانضم إلى جبهة النصرة ومنهم من تطوع في صفوف قوات النظام السوري وبقي القليل ضمن الفصيل المعتدل الجيش الحر، وبدأ الاقتتال الأخوي بينهم، والى اللحظة يقتلون بعضهم بالأسلحة التي دعمتهم الدول العربية بها, حيث تأكد أغلب السوريين بانه لا وجود لدولة عربية مساندة لشعب عربي في كل مناطق النزاع كـ فلسطين المحتلة وصولاً إلى العراق وسوريا.
أما الكرد رغم عدم وجود دولة لهم يساندون بعضهم في كل بقاع الأرض, كـ إقليم كوردستان العراق الذي استقبل اكثر من مليوني كردي سوري على أراضيه متمتعين بكافة حقوقهم رغم صغر مساحة أراضيها, وأيضاً دعمت وحدات حماية الشعب في معركة كوباني عام 2014 حين قام مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية داعش بشن هجوما واسعا على مدينة كوباني، حيث قام رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني بتقديم تنازلات لـ أنقرة للسماح بمرور شحنات مساعدات عبر الأراضي التركية إلى كوباني وإرسال عدداً من قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان العراق , ولم يقتصر الأمر على إقليم كوردستان وحسب، حيث هب الكرد من جميع المدن والبلدات في تركيا والعراق وسوريا وحتى إيران دعماً لمعركة كوباني, أما الدول العربية لم ترسل كيساً من مادة الطحين إلى الغوطة، وداريا, ومضايا, الذين مات العديد منهم جوعاً بسبب الحصار المفروض عليهم (فقط لانهم عرب سنة).
والطائفة المسيحية توحدت أيضاً في عهد النزاع في سوريا كما حصل بعام 2015 حين أختطف مسلحي تنظيم الدولة داعش 240 أشوريا من بلدة تل تمر غرب الحسكة شمال سوريا، لم يهدأ المسيحين حول العالم وكثفوا جهودهم لإطلاق سراح أخوتهم المختطفين وتكللت محاولاتهم بالنجاح بعد دفع الملايين كجزية عنهم، وهذا في حين لازال آلاف العرب السوريين محتجزين لدى النظام والتنظيم في سوريا ويمارس بهم اقسى وسائل التعذيب كـ الحرق, والغليان, والتفجير, والذبح, والجوع, ولم يتدخل أحد إلى الآن لإطلاق سراح المعتقلين العرب السنة.
وبعد 6سنوات من الثورة السورية لم يفلح العرب السوريين إلا بتقسيم أنفسهم إلى عدت فصائل متطرفة ومتشددة ومنها المعتدلة وهم قتلوا بعضهم البعض، ومازال العرب يعبدون شعار أمة عربية واحدة.
ليس هذا المقال عن علي الشهابي، المناضل أو السياسي أو الكاتب، إنه عن علي المفقود أو المغيّب قسرياً. هو إذن عن المفقودين في سورية الذين توحّدهم ظلمة الفقد، وتوحّد ذويهم وأصدقاءهم مشقة البحث عنهم.
اختفى علي الشهابي في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2012 في دمشق. سعى، بكل نبله وشهامته، إلى الحيلولة دون وقوع مجزرة في مخيم فلسطين، مستنداً في مسعاه إلى وزنه المعنوي في المخيم. وفي اليوم التالي لاختفائه، حاول عمه (عمر الشهابي) الاستفادة من علاقاته، بصفته عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية القيادة العامة، للتحرّي عنه لدى الفرع الذي يرجّح أنه اعتقله (فرع فلسطين التابع للأمن العسكري)، فأجابه رئيس الفرع آنذاك، سهيل رمضان، إن علي لديهم في الفرع، ويجري التحقيق معه. في اليوم التالي، دهمت دوريةٌ من الفرع إياه الغرفة التي كان يسكنها علي في المخيم، بعد أن هجر بيته الذي صار، حينها، ضمن منطقة الاشتباكات، وصادرت كمبيوتره، ما يؤكد أن علي كان لدى فرع فلسطين بالفعل.
المريب الذي حصل بعد ذلك أن عمر الشهابي كرّر الاستفسار من رئيس الفرع نفسه عن مصير ابن أخيه، فكان جواب رئيس الفرع أنه تم الإفراج عنه بعد 48 ساعة من اعتقاله، وأوصله إلى باب الفرع، ما تشكل شهادة واضحة على الكذب.
هكذا ضاع الخيط، وانضم أهل علي إلى آلاف الأسر السورية الباحثة عن أبناء ضاعوا في "بطن الغول"، حسب تعبير الروائية حسيبة عبد الرحمن. وقائع وأحداث مكرورة: تبليغ الصليب الأحمر، ثم القضاء العسكري الذي يحوّل الأهالي، حين لا يعثر على اسم المفقود بين أسماء الموتى، إلى مكتب الأمن الوطني الذي يحوّلهم بدوره إلى مكتب المصالحة الوطنية. هناك ينتهي المطاف، يأخذون الاسم ورقم هاتف الأهل على أساس أن يتصلوا حين يعثرون على المفقود، الأمر الذي لا يحدث.
عالم من متاريس وحواجز وتنصل من المسؤولية، وردود متأففة. عيون يائسة، ودم منهك، وانتظار بعد انتظار، وإهمال واحتقار، وضعف بشري مؤلم، يحيل القلب إلى ما يشبه البالون المثقوب. ثم عودة خاوية إلا من أمل مفتعلٍ يتكئ على الهواء.
بعد عام من انقطاع أخبار علي، أثمرت جهود ذويه وأصدقائه عن بصيصٍ من الأمل، جاء على شكل رد من "الحكومة السورية" في 31/12/2013، على استفسار مؤسّسة الكرامة لحقوق الإنسان عن مصيره. يقول الرد "إن علي الشهابي اعتقل على أرضية شكوكٍ حول نشاطاته، ولا يزال رهن التحقيق من السلطات القضائية المختصة". "رهن التحقيق" بعد أكثر من سنة على اعتقاله؟ ولكن، لا يهم، ما يهم إنه على قيد الحياة، بات هذا الأمر الجوهري.
لم يعد الأهالي يأملون بخروج أبنائهم، بات أملهم يتركّز في بقائهم على قيد الحياة، لكن بصيص الأمل الذي أشعله ذاك الرد، راح يخفت مع مرور الأيام. السجناء القلائل الذين يخرجون من "بطن الغول" يذكرون أسماء من كانوا معهم، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي هناك من يعمل على نشر هذه الأسماء، فقد تعثر أسرة بائسة على اسم مفقودها. والقلق يثقل على أرواحهم من أن يصبح المفقود فقيداً. وبعد كل شيء، لم يعثر ذوو علي على اسم له.
"عالم من متاريس وحواجز وتنصّل من المسؤولية، وردود متأففة. عيون يائسة، ودم منهك، وانتظار بعد انتظار، وإهمال واحتقار، وضعف بشري مؤلم، يحيل القلب إلى ما يشبه البالون المثقوب. ثم عودة خاوية إلا من أمل مفتعلٍ يتكئ على الهواء"
كما لو من الهواء الخفيف، تناهى إلى سمع أهل علي أن سجيناً خرج ويقول إنه التقى علي في السجن. فجأة يصبح العالم أقل ثقلاً، ويصبح من الممكن للنهار أن يكون جميلاً. اتصالات وربط خيوط، متابعات واستفسارات، والأمل يضمحل أكثر كلما اقترب أكثر من المصدر المزعوم. سراب أو بالأحرى لا شيء.
في خريف عام 2014، يتقدّم ذوو علي بطلب "بحث عن مفقود" لدى القضاء العسكري. يجري تحويلهم إلى الشرطة العسكرية في القابون، حيث توجد قاعدة بيانات بأسماء المتوفين في السجن. يدخل العنصر إلى "مقبرة الكمبيوتر"، فيما يتعثّر الدم في شرايين المنتظرين. يخرج العنصر قائلاً: لا اسم له عندنا، ناصحاً بمراجعة مكتب الكفري في منطقة القزاز.
يقع المكتب في منطقة القزاز، يديره شخصٌ يدعى حسين الكفري، ويلقبه رجاله بالدكتور. عائلات كثيرة تنتظر. قدم أهل علي ورقة كشف عن مفقود، كغيرهم من الأهالي. "كان تعامل العناصر هناك غير عدائي" يقولون. بعد انتظار، جاءهم الرد: ليس علي الشهابي في قوائم الموتى، ولا يزال في فرع فلسطين.
لا يعلم الأهالي من هو الكفري، ولا يهمهم كثيراً أن يعرفوا. يقول العناصر العاملون في المكتب إنه تابع إلى المخابرات الجوية. ويبدو أنه حقق اختراقاتٍ ما لصالح بعض الأهالي، وهذا ما أعطى مكتبه هذه السمعة. واللافت أن مكتبه كان يقدّم الخدمات من دون مقابل مادي، وكأنه مؤسسة عامة تقوم بوظيفتها. وعلى كل حال، لم يستمر مكتب الكفري في العمل أكثر من ثلاثة أشهر.
ليس لعلي إذن اسم في "مقبرة الكمبيوتر". ويؤكد مكتب الكفري أنه حي، ينبغي، والحال هذا، الذهاب إلى محكمة الإرهاب، للبحث عن اسمه بين أسماء المعتقلين الذين ينتظرون المحاكمة. المحكمة نفت وجود اسم له.
فاتنا أن نقول إن أهل علي قدموا في القصر العدلي طلب الكشف عن مفقود إلى وزير العدل، فجاءهم الرد بأنه "لا توجد مذكرة توقيف بحق المدعو علي الشهابي". والحق أن لا شيء يشبه عبثية هذا الرد سوى عبثية تقديم الطلب، لكن الغريق يتعلق بخيوط الهواء. المحصلة أن الدولة الرسمية يجب أن نضيف هذه الصفة، لا دخل لها بعلي المفقود.
في المحاولة الأخيرة في محكمة الإرهاب، يقول العنصر بشيء من نفاد الصبر: لا يبقى السجين أكثر من سنة في الفرع، يُحال بعدها إلى المحكمة، ولا ينتظر أكثر من سنة أخرى. منذ متى اختفى فقيدكم؟ "منذ ثلاث سنوات"، "طيب افهمومها بقا". ينظرون إليه، ويقولون بقهر: "عسى الله أن لا يفجعك بعزيز"، وينصرفون من دون رغبة في أن "يفهموها"، فقد سبق لهم أن قابلوا، خلال رحلة البحث الطويلة، أمهاتٍ أو زوجاتٍ استلمن هويات مفقوديهن لإجراء معاملة شهادة الوفاة، ثم استلموا بعد سنوات ورقةً زيارة لهم، بعد أن أكّد لهم أحد السجناء الخارجين إنه حي في السجن الفلاني.
من لم يرَ خراب حلب لن يدرك معنى الخراب.
هذه الانفجارات اليومية لأوعية المدينة وشرايينها، وهذا الدم المُرسَل متخثّراً ومختلطاً بالأتربة البيضاء، على وجوه العابرين فيها والمقيمين. حجرٌ وبشرٌ وعددٌ لا يُحتمل من الأطفال الموتى والراقدين تحت التراب، كأنّ بطن الأرض، كلّما اهتزّت، أو أجفلت، بصقتهم إلى العراء، وكلما انهارت عمارةٌ، أو دُكّ بناء، كانوا هناك.
من لم يرَ الصمتَ الذي يسوّر دمارَ حلب لن يدرك معنى الفظاعة.
صمتٌ معدنيٌ حادّ يخرق جدارَ صوت الطيور الفولاذية التي تحوّم في الفضاء، لتبصق نيرانها المستعرة على تاريخ أقدم مدينة في العالم، لم تزل مأهولة إلى الآن. صمتٌ يزن أطناناً، يُطبق على صدر المدينة، وقد أطبقت عليها غربانُ الكراهية السوداء، وطيور الحقد الأعمى تنقد بمناقيرها المسنّنة كبدَ الحاضرة - المأساة.
من لم ير وجع حلب لن يدرك معنى الفجيعة.
من تحت الركام، من قلب المقبرة ومن سابع أرض، فلتدركوا، مرّة أخيرةً ونهائيةً، أن الخارطة محفورة ههنا، على الصدور العارية، وأنها، وإن أُفنيتْ، أيها القتلة المجرمون، باقيةٌ هناك، مغروزةً، في اللحم، في الجينات. ولتدركوا، مرةً أخيرة ونهائية، أنها لن تكون لكم، هذي البلاد. أيها اللصوص الجناة المستبدون، هذا ليس نبعكم ولا الماء، هذي ليست أسرّتكم، ولا هي مفاتيحكم، ولا هنا ترابكم الأخير أو مدافنكم. حتى قتلى، لا نريدكم فيها، حتى خاسرين ممرّغين بوحول الإهانة والسوء، لا نريدكم معنا. عابرين ستظلون على سطح التاريخ، دمامل لن يلبث الوقتُ أن يفقأها، وباءٌ يسمّم سنابل أيامنا، لكنّ ريحاً مقبلة لن تلبث أن تذريه.
*
المرة الأولى التي ظهرت فيها عبارة "جريمة ضد الإنسانية" كانت خلال الحرب العالمية الأولى، بسبب جرائم الإبادة التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، عام 1915، حين ندّدت روسيا وفرنسا وبريطانيا بتلك المجازر، معتبرة أنها "جرائم ضد الإنسانية والحضارة".
وفكرة الجريمة ضد الإنسانية جاءت ردّ فعل على الأفعال غير الإنسانية التي لا ترتبط بأخطاء، أو بأعمالٍ عسكرية، كجرائم الحرب على سبيل المثال، وإنما تلك الهادفة إلى قتل أو اضطهاد التجمعات المدنية التي تشكل عائقاً في وجه سلطة. وقد يتم استهداف الإنسانية بجرائم، من غير أن تتخذ تلك شكل إبادةٍ لمجموعةٍ بشرية.
أفضل من عبّر عن هذا المفهوم هو أندريه فروسّار، الصحافي والباحث والأكاديمي الفرنسي، حين قال "الجريمة ضد الإنسانية هي قتل أحدٍ ما بذريعة أنه قد وُلد". وتهمة الولادة تعيد إلى كل ما هو طبيعي في الكائن البشري، أي الى كل ما يعدو كونه خياراً لديه: الطبقة الاجتماعية، التعليم، الدين، الانتماء الإثني، إلخ، ومعناه أن هذي الجرائم إنما تستهدف إنسانية الفرد والمجموعة الملحق بها، عبر تجريد الضحية من قيمتها الإنسانية وكرامتها وحقوقها، وهذي الأخيرة هي، في الأصل، دوافع ارتكاب تلك الجرائم، وليست من عواقبها. ومعناه أن باعث الجريمة ليس خارجاً عن الجريمة، بقدر ما هو الجريمة نفسها.
*
لا أعتقد أن هناك مأساة بعد مأساة الشعب السوري اليوم. الأرقام تحكي. والصور تحكي. والَمشاهد المصوّرة تحكي. أما البشرية فصمّاء. أما الضمائر فنائمة. فيما أصبح السوريون مشرّدي هذي الأرض وملعونيها، وأرقام الضحايا والجرحى إلى ارتفاع. من السماء، تأتي اللعنة، قصفاً وبراميل وصواريخ تدخل سابع أرض لتنبش المختبئين هلعا. الجريمة ضد الإنسانية باتت جرائم تعاد وتُكرر، على مرأى من البشرية جمعاء. ما الذي يمنع صوت العالم إذاً من أن يعلو اعتراضاً؟ ما الذي يكمّ أفواه المنتفضين عادة، والمدافعين عن حقوق المقهورين والمظلومين؟ لماذا لم تتحرّك المجتمعات المدنية، لماذا لم تسر مظاهرات؟
الوقائع كلها هنا، تحت مرأى العين، في متناول اليد. هناك من يقتل المدنيين كل يوم، من يحاصرهم ويشرّدهم، لأنهم لا يطابقون رؤيته لما ينبغي "للشعب" برأيه أن يكون. وهناك من يحالفه في هذا، فيأتي ليضرب أرضاً ليست أرضه، وشعباً ليس شعبه. الأمر بهذه البساطة، أجل، وبهذا الوضوح...
الجريمة ضد الإنسانية؟ إنها خاصة، وأيضاً كل هذا الصمت المشين.
لا يختلف اثنان على أنّ 30 سبتمر العام الماضي كان يوماً مفصلياً من عمر الثورة في سورية، والذي شهد تدخل روسيا المباشر في الحرب السورية بذريعة مكافحة الإرهاب، حيث عمل الرئيس فلاديمير بوتين على إخراج هذا التدخل وهندسته، وإكسابه شرعية وطابعاً سياسياً ودينياً، مستنداً، بالدرجة الأولى، إلى أنّ حكومة دمشق طلبت منه التدخل، وهو لبّى النداء.
إبّان ذلك، اختلفت وجهات النظر والآراء في الوسط السياسي الخاص بالملف السوري بشأن طبيعة هذا الحراك الروسي، وما غايته ولماذا جاء بعد العام الرابع من عمر الصراع في سورية، إضافة إلى سؤال آخر في غاية الأهمية: من الذي أطلق يد روسيا في سورية، ولماذا؟
حملت تلك الأسئلة احتمالات عديدة، أوّلها متعلّق بإيران التي باتت عاجزة عن دعم الأسد اقتصادياً وعسكرياً، فلم تعد تستطيع الاستمرار منفردةً مع ذراعها في المنطقة حزب الله اللبناني، ناهيك عن الخسائر التي مُنيت بها في استنزاف القوة البشرية والاقتصادية، فتمّ الترجيح أن تكون طهران طلبت من موسكو التدخل لتستلم زمام الأمور، وتستمر في دعم الأسد الذي شارف، آنذاك، على السقوط جرّاء الهزائم التي تكبّدها، وخصوصاً في مدينة إدلب التي خرجت عن سيطرته بشكل كامل إضافةً إلى وصول الفصائل العسكرية إلى أبواب الساحل بما يُعرف البيت الداخلي للنظام.
فيما يبقى الاحتمال الثاني للتدخل الروسي، وهو الرغبة الأميركية لاستجرار روسيا في المستنقع السوري، لاستنزافها اقتصادياً وعسكرياً، فأوعزت لبوتين بإطلاق يده في سورية بعد تنسيق ثلاثي (أميركي روسي إسرائيلي)، ظهرت تداعياته في الزيارات المكوكية والاجتماعات التي سبقت التدخل بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتياهو.
عسكرياً، أكسبت روسيا نظام الأسد مظلةً جوية للاستمرار في ارتكاب المجازر بحق شعبه، والتي اشتركت بها موسكو مباشرة باستخدام أحدث الطائرات، إذ استطاع النظام خلالها استعادة معظم مناطق ريف اللاذقية المحرّرة المعروفة بموقعها الاستراتيجي، واستعاد بلدات ريف حلب الجنوبي من قبضة الفصائل.
والإنجاز الأهم تفريغ طوق العاصمة دمشق من الكيان السني من بلدات الغوطة الشرقية: داريا والمعضمية والزبداني، وأيضا حي الوعر في ريف حمص بموافقة دولية، عبر مصالحات أفضت إلى خروج أصحاب الأرض الأصليين، من غير عودة إلى شمال سورية، والمجيء بعوائل إيرانية عراقية من المكوّن الشيعي، في إشارة إلى تنفيذ التغيير الديمغرافي، والذي بات مؤخراً يهدّد مدينة حلب المحاصرة.
خلال عام دام من الاستفراد الروسي في سورية، ارتكبت روسيا أكثر من 160 مجزرة، معظمها على الأحياء المأهولة بالسكان، وقصفت أكثر من 60 مركز طبي ودفاع مدني ومستشفيات مدنية، معظمها في حلب، لتكون حصيلة القتلى أكثر من تسعة آلاف مدني، جُلّهم من النساء والأطفال، كما استطاعت روسيا توسيع نفوذها عبر الاستيلاء على قاعدة حميميم، وإنشاء أخرى في تدمر وتطوير قاعدة طرطوس، وهذا يجعلها تعزّز وجودها بالمياه الدافئة إلى إشعار آخر.
سياسياً، من الواضح أنّ روسيا استطاعت أن تفرض نفسها قوة دولية على جثث السوريين، محاولةً استعادة أمجادها السابقة قوة عظمى، وخصوصاً أمام أميركا وحلفائها التي باتت تُبدي امتعاضها، إلى حد ما، من استغلال روسيا في ربط الملف السوري بملفاتٍ عالقة، كالملف الأوكراني، ما يطرح هنا تساؤلاً آخر: ماذا تريد روسيا سياسياً؟
قد يبدو، على المدى القريب، أنّ ما يهم بوتين تحقيق نقاط لصالحه، تتعلّق بثلاث نقاط، أهمها ضم شبه جزيرة القرم بشكل نهائي، والاعتراف بها رسمياً جزءاً من روسيا الاتحادية. ثانياً رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وآخرها متعلّق بالدرع الصاروخي. من هذه المعطيات الثلاثة، يبدو جلياً أنّ بوتين تدخل في سورية، للحصول على تنازلاتٍ دولية، تحقّق تقدماً في الملفات الثلاث. حينها، ربما يحدث انفراج في الملف السوري، متعلق حصرياً باستغناء روسيا عن الأسد، وهو ما يبدو غير وارد في المنظور القريب.
لم يخطر ببالي أن أثير مثل هذا التساؤل، مدركًا أن إدارة الرئيس باراك أوباما لم ترغب أبدًا في فعل شيء، هذه سياستها التي هي في نظرها أقل ضررًا وأرخص ثمنًا، وإن أثبتت أحداث السنوات الثماني الماضية أنها كانت أعظم أذى وأغلى كلفة. الذي دفعني للتفكير حيال التعامل مع الأزمة السورية خارج الصندوق هو التصريحات المتعددة الصادرة عن موسكو، تحذر واشنطن بألا تتحداها في سوريا، حذارِ يا إدارة أوباما من استهداف نظام الأسد في دمشق، وإلا فإنها ستزلزل المنطقة!
إذن هناك احتمال، ولو ضئيل جدًا، أن تتحدى الولايات المتحدة تحالف دمشق في الفترة الزمنية القصيرة المتبقية من عهد الرئيس أوباما. الدوافع كثيرة، منها وقف الزحف الإيراني الروسي جوًا وبرًا في مناطق المعارضة، ووقف المجازر والتدمير الرهيب الذي تقوم به هذه الجيوش، التي ستهدد أمن المنطقة وأوروبا وربما العالم.
ولا بد أن في داخل البيت الأبيض من سيحذر الرئيس بشدة من عدم التعرض لنظام الأسد وعاصمته، منبهًا إلى خطورة تفكيك النظام وأنه سيعني انهيار الدولة، وسيتسبب في أن تعم الفوضى أنحاء البلاد. الحقيقة لم تعد هاتان حجتين مقنعتين، فالنظام مفكك ومنهار ويعيش إكلينيكيًا على قوات إيرانية وميليشيات شيعية متطرفة مجلوبة من لبنان والعراق وأفغانستان، والغالبية من أفرادها لا تتكلم اللغة العربية، لغة سوريا. كما أن الخوف من انتشار الفوضى حجة تصلح للتبرير منذ عامين، أما اليوم فإنه لا توجد زاوية في سوريا آمنة، فهي إما تعيش في حالة فلتان أمني، أو أنها تحت حماية وإدارة عصابات محلية وأجنبية تقوم بجباية أموالها من الأهالي بالقوة. وبالتالي فاستهداف مقر النظام في دمشق سيرسل رسائل متعددة؛ الأولى التأكيد على ضرورة احترام الخريطة التي قسمت الدولة بين «معارضتنا» و«قواتكم»، والتي تجاوزها الإيرانيون والروس بالهجوم على حلب وغيرها من مناطق المعارضة المعتدلة. من المؤكد أن الوضع القائم قبل القصف الأخير سيحترمه حلفاء دمشق. والثانية، ستكون رسالة مهمة للنظام بأنه إن رفض التفاوض بجدية مع المعارضة، ورفض مفهوم الحل السياسي المبني على الشراكة، فإنه هو أيضًا معرض لأن يفقد وجوده. حاليًا، يرفض كل الحلول مماطلاً لأنه يعتقد أن الروس والإيرانيين سيقضون على المعارضة بتدمير مناطقها، وبالتالي ليس مضطرًا للقبول بأي حل سياسي فيه تنازلات من جانبه.
ما هي ردود فعل حلفاء دمشق، في حال استهداف مراكز النظام؟ الحقيقة، إنهم ارتكبوا كل ممنوع قبل ذلك، لم يحترموا أي اتفاقيات دولية، أو تفاهمات ثنائية، أو مصالح إقليمية، أو اعتبارات أمنية، وقد أخضعوا الأتراك والأردنيين والخليجيين، وأذلوا الأميركيين. كل هذا حدث تحت سمع وبصر إدارة أوباما. ولو أنها تقوم بعملية واحدة كبيرة لربما رممت سمعتها وتاريخها وسهلت على الإدارة الجديدة أن تدخل البيت الأبيض في وضع تفاوضي أفضل مع نظام الأسد وحلفائه. وقد عرف عن النظام السوري تاريخيًا أنه يستجيب للضغوط الجادة وليس للتهديدات الكلامية التي اعتدنا من وزير الخارجية الأميركي ترديدها. فالأتراك عندما تمادى نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد بدعمه المعارضة الكردية التركية الانفصالية (PKK) بقيادة عبد الله أوجلان، حركوا دباباتهم باتجاه منفذ باب الهوى الحدودي مهددين بغزو سوريا. وخلال يومين سارع الأسد إلى تسليم أوجلان للأتراك عبر دولة أفريقية، وأغلق معسكرات التنظيم الكردي. أيضًا، عندما تجاهل الرئيس الحالي، بشار الأسد، التحذيرات الإسرائيلية حول تسليح حزب الله في جنوب لبنان، قاموا بخرق جدار الصوت فوق سكنه مباشرة، في مقر إجازته السري، وبعدها صلحت العلاقة بين الجانبين.
لو أن النظام في دمشق يظن، ولو لحظة، أنه مهدد بهجوم أميركي عليه فإنه سيبدل سلوكه، وكذلك سلوك حليفه الإيراني. والروس لا يريدون مواجهة مع الأميركيين من أجل حماية نظام مهترئ في وقت يتعاملون فيه بحذر مع أزمة أوكرانيا، القضية الأكثر أهمية لهم.
قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما الانسحاب من الصراع في سوريا ، تاركاً الملف برمته للجنرالات الذين يبدو أنهم قد قرروا إدارة الملف في المرحلة اللاتوازن الأمريكية نتيجة الانتخابات التي لم تظهر وجه الوافد الجديد إلى البيت الأبيض.
الإعلان الأمريكي المزدوج (البيت الأبيض - الخارجية)، يوم أمس، حول إنهاء المفاوضات فيما يتعلق بالملف السوري مع روسيا ، هو إشارة قطعية أن مكان الساسة قد انتهى و أتى الدور الكامل للعسكر و المخابرات ليقودوا النزاع المتجدد و المستمر مع روسيا ، في مشهد يشابه إلى حد ما خمسينيات القرن الماضي ، عندما بلغ الصراع الأمريكي الروسي “نووياً” ذروته.
و يحمل الإنهاء السياسي للعلاقة الروسية الأمريكية ، مع التحذير الواضح من وزير الدفاع الأمريكي قبل أيام من “نووي مصغر” روسي مطور ، بأن أمريكا قد وصلت لقناعة تامة أن الاشتباك سيحدث و أن التحضير له يجري.
العادات الأمريكية في الفترات الانتخابية لم تختلف ، فأوباما سيترك البيت الأبيض من دون أن يحمّل الرئيس القادم أي اتفاق لا يقبله ، وبالتالي سيبقي الأمور معلقة بين الانفلات و الضبط ، بانتظار القادم الجديد سواء أكانت كلينتون أم ترامب ، و في كلا الحالتين يحمل الاثنان نزعة “الاسطورة” الأمريكية التي يجب أن تبقى حاكمة ، ولايمكن أن تكون السيطرة إلا من خلال القوة.
المرحلة المتراوحة بين الانفلات التام و الانضباط الجزئي ، حملت في الأيام الماضية سلسلة من الأمور حول اتفاقات إقليمية بين عدة دول فاعلة في الملف السوري ، تم تغييبها إبان المفاوضات الروسية - الأمريكية ، و وجدت بالفشل مدخلاً للعودة و ترتيب الأوراق ، وماقاله الرئيس التركي في آخر ظهور اعلامي حول “ترقب” الدعم الكبير الذي ستقدمه السعودية و قطر للثوار ، بعد لقاءات جمعته مع ولي العهد السعودي ووزير الدفاع القطري الذين حجّا لأنقرة بشكل متتابع.
وبين هذا و ذاك تحتاج المعركة الكبيرة كي تنطلق لشرارة محددة بعينها ،و كلمة السر الخاصة بها هي “مضاد الطيران” ، والذي لايشكل تسليمه للثوار مشكلة بحد ذاتها ، و لا حتى اذا ما استعمل ضد طائرات الأسد فحسب ، بل القضية تفقد السيطرة تماماً مع سقوط أول طائرة روسية ، وهنا مربط الخيل ، اذ أن التحذيرات الأمريكية و كذلك الروسية ستكون فعلية هذه المرة ، سنكون أمام حرب من نوع جديد لا وجود للطائرات الاعتيادية مكاناً فيها ، إذ يتطلب الأمور طائرات من النوع الذي لا يُرى ، و الحاضر الأبرز هو الصواريخ العابرة للقارات التي شهدت حضوراً يعتبر تدريبياً في الفترة الماضية ، و سيكون جاهزاً للحضور القاتل في المرحلة القادمة.
و تشير مصادر متطابقة أن استعمال الصورايخ العابرة للقارات لن يكون مجرد صواريخ اعتيادية ، بل تحمل تأثيراً أشد فتكاً ، و في الوقت ذاته لن نكون أمام “هيروشيما” جديدة ، بل صواريخ “نووية مصغرة” كشف عنها وزير الدفاع الأمريكي و حذر منها أمام لجنة الكونغرس قبل عشرة أيام بقوله “ إن السيناريو المحتمل حاليا لاستخدام السلاح النووي ليس تبادل الهجمات بنموذج الحرب الباردة، بل هجمة أصغر. ومع ذلك، ستكون لها قوة تدميرية لا سابقة لها من جانب روسيا أو كوريا الشمالية مثلا".
ليس ببعيد بأن الحرب العالمية الثالثة التي حذر منها الجميع قبل سنوات بشكل متواصل ،قد نصل إلى أعتابها ، و لكن القضية الأهم في كل ذلك أن لادافع للتكاليف سواءً أكانت بشرية أم مادية سوى الشعب السوري المتبقي في الداخل .
المشهد الأخير من التراجيديا الأوبامية في المأساة السورية، هو الإعلان الرسمي عن العجز والاستقالة، أو هكذا على الأقل هو معنى كلام وزير خارجية عهد الانسحاب الأميركي، جون كيري.
الوزير الضجر، كشف بتعليقات له على هامش اجتماع الأمم المتحدة بنيويورك لوفد من المعارضة السورية، وممثلي دول أخرى، عن هذه الحقيقة، وشكا لهم إخفاقه في إقناع الإدارة الأوبامية بفعل شيء ملموس، لأن سبب ضعف الدبلوماسية الأميركية مع الروس، حول سوريا، هو عدم إسنادها بالقوة العسكرية، ولو على سبيل التلويح، طبقًا لكيري.
ثم ختم، حسب تسريبات «نيويورك تايمز»، ناصحًا المعارضة بالانخراط في عملية انتخابية مع قاتل الشعب، بشار!
حصاد بئيس لإدارة تسببت في تدهور سوريا، وإيصال الكارثة لهذا الغور السحيق، مهما تفاصح الرئيس، وكان يقال منذ بدء المأساة السورية، إن العزوف الأميركي، حسب النظرة الأوبامية العليلة، لا يعني اختفاء المشكلة من الوجود، بل يعني تفاقمها، لدرجة الإضرار بالأمن العالمي كله، ومنه الأمن الأميركي، بل إن السلبية القاتلة لأوباما تجاه سوريا، قد تشعل حرب الجبابرة، بين واشنطن وموسكو، من حيث أراد الحكيم أوباما، حماية أميركا، بالعزوف السلبي، ومغازلة «المزاج» الشعبي الأميركي، في مسألة عدم خوض الحروب، وهو عنوان يصلح لفيلم رومانسي، وليس لعمل سياسي واقعي.
نعم، انهيار الهدنة، وموت اتفاق كيري لافروف، قد يسوق الأمور للهاوية، ففي تعليق متشائم لصحيفة «كوميرسانت» الروسية، حذرت من تحول واشنطن وموسكو لـ«خصمين حربيين في سوريا».
المتحدث باسم الخارجية الأميركية (جون كيربي) كان أعلن الأربعاء الماضي أنه في حال استمرت الحرب بسوريا فعلى روسيا توقع استقبال: «عسكرييها في أكياس وتبديد مواردها».
هذا التعليق اعتبره الروس إدانة لأميركا، وأنها ضالعة بتمويل المقاومة ضدهم، أو «الإرهاب» حسب وجهة نظرهم - أوباما يفعلها! - من هؤلاء نائب وزير خارجية روسيا (سيرغي ريابكوف) والمتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الروسية الجنرال (إيغور كوناشينكوف).
التوتر بلغ غايته هذه الأيام بين واشنطن وحلفائها، مع موسكو، فقد قال وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون إن روسيا تخاطر بأن تصبح دولة منبوذة. مؤكدًا أن دولته توثق جرائم الحرب الروسية بسوريا، خاصة قصف القوافل الإنسانية.
كيف وصلنا لهذه المحطة؟
كيف انبعثت الحرب الباردة من جديد بين قطبي العالم؟ حرب تزداد سخونتها مع أفول العهد الأوبامي؟
بكلمة واحدة، لا غير، لأن شخصا يقود أقوى دولة في العالم، حامية النظام العالمي، قرر ألا يفعل شيئا.
في لحظات ما، الجمود، يعادل في خطورته، السقوط الحر من شاهق.
أن يُفرض عليك مع كل اشراقة شمس و حتى غروبها ، و ذات الأمر مع ظهر أول ضوء للقمر و اقترابه من الأفول ، أن تكون بشكل لصيق كـ ”زوجة” أو “ابن” مع تلك المتوالية الغير متناهية من الطلاسم ، و السيول الدائمة من الأخبار ، حول “فُلك” الثورة ، لتستنتج عند آخر رمق لدى عيونك على مصطلح “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
“أنا الثورة و الثورة هي أنا” هي أشد الكلمات التوبيخية التي تجلدني و تؤلمني في الحقيقة ، و أشعر من قائلها أني اقترفت من الذنوب تجاوزت الموبقات السبع ، و لا مكان للصفح أن التوبة ، و لا حتى “الحج” يكفي لإزالة براثن الاثم عني، فهنا خطئي يتعلق بحقوق “الثورة” التي يمثل و التي يُشكلها.
“أنا الثورة و الثورة هي أنا” هي كـ بطاقة “ذهبية” ، كُتب عليها يسمح لحاملها الولوج في كل العقول دون أن “حاضر أو دستور” ، ليفرغ فيها “الثورة” الحقّة ، و يطرد من الفراغ المعلومات حوامل الذاكرة بما فيها في الفضاء القذر الذي يحوي فقط المرفوضين و الخارجين من عطف “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
لا يوجد يقين أو تحديد دقيق لمراحل الثورة عموماً و لتلك المندلعة في سوريا على وجه الخصوص ، فهنا يغيب التاريخ المسقط عليها ، و تضمحل التجارب وتتحول إلى “ثغاء” ، ولا يبقى إلا “أنا الثورة و الثورة هي أنا”، هي الكلمة الفصل والحسم في أي شأن كان سواء سلاح أم سياسة أو اعلام و منظمات و اغاثة و كذلك اجتماع و ثقافة وحتى هيكلية أو تشكيلات منظومية، فأنت أمام من ولّد الثورة من رحم عقولنا الرضيخة المتلذذة بـ”سادية” الاستبداد .
يمرقك “أنا الثورة و الثورة هي أنا” عند مرورك في أي باب ، ويعاقبك عند كل انحناء داخل كل نفق ، و يصفعك في أي حالة من حالات الركون أو الاستراحة ، و يجلدك بسوط حديدي مع خطوة راجعتها أو فكرت بأن تفعل هذا الاثم المخرج من “الثورة” التي هي عبارة عن “ثورته الحصرية”.
حامل لقب “أنا الثورة و الثورة هي أنا” ، عملة نادرة تضج بها الثورة السورية الجميلة ، والتي يعتبر أحد أزهارها و ريحانة العطر التي تجمّل أجوائها ، فهو يقفز و ينبه و يوجه و يستشرق و ينجم ، و قد يصل لحد رسم القدر الذي يسير عليه الملايين ، و من الممكن أيضاً أن يحدد ساعة الموت و لحظة الاصابة و ثانية القصف ، وأجزاء ثانية الفاصلة بين السمع والمشاهد، فهو من المبصرين في جحافل العميان قلوباً ، و عندما يحدث ما رسم سيقول “قلتها قبل زمن” و لكن أنت أخرق لا توقن معنى “أنا الثورة و الثورة هي أنا”.
آلية رهيبة تقود المتوالية “حذرتكم من هذا” و “نبهتكم من ذلك” و “كنت أول من قال” و “أشرت لذلك فيما سبق” ، و تختلف المصطلحات حول هذا اللولب و المغناطيس الذي تناسيناها ، لننسى ما حدث و نركز على قضية كيف تجاهلنا تحذيراته و أحاديثه و انشغلنا عن اشاراته و أقواله ، ماذا لو استمعنا إلى “أنا الثورة و الثورة هي أنا”، كنا وفرنا كمية هائلة من الدماء و لا حدود لحجم الأوجاع ، لا بل قد وصلنا لقناعة محتمة أن “لو أننا لم نخرج بتلك الثورة” و نسرقها من مالكها.
يظن “أنا الثورة و الثورة هي أنا” أنه يعيش في غابة من اللصوص، المدمنين، شذاذ الآفاق، الغير أخلاقيين، الشواذ فكرياً، و الجميع يهيم خلفه لسرقة ما امتلك وحاز ، عن طريق كده و جهده و عرق جبينه ، فهو الخارج في المظاهرة الأولى ، كذلك متلقي صفعة الانطلاق ، وهو من فض “بكارة” الدم في الثورة ، وهو من احتضن الرصاصة ولامس حرارة البندقية ، في الوقت الذي كان الجميع في غياهب التأليه للسيد القائم المبجل المسمى “رئيس”.
في مصطلح “أنا الثورة والثورة هي أنا” يكمن الوجع الأكبر والفكرة الأصدق لفشل متتالي وغير منتهي يخيم على الثورة في هذا المكان أو ذلك.
كيف يمكن تفسير العجز الأميركي حيال ما يجري في مدينة حلب؟ وكيف يمكن تفسير لجوء الدولة الأقوى في العالم إلى مجلس الأمن، لممارسة ضغوط لا تنفع على روسيا، لوقف العمليات العسكرية في حلب؟ هل هو ضعف أميركي؟ أم تواطؤ مع الروس، لإبعاد حلب من معادلة الصراع؟
ليس ما جرى، أخيراً، مجرد عمليات قصف عشوائية على المدينة فحسب، بل هو عمل عسكري منظم ومدروس، هدفه إحكام السيطرة على منافذ المدينة، وإعادة تكرار تجربة حمص في حلب، وبالتالي، إنهاء الوجود المسلح للمعارضة في المدينة.
تشكل حلب أهمية كبرى للنظام، ليس فقط من الناحية المعنوية، بسبب كونها المدينة الثانية بعد دمشق من حيث الحجم، ولا لأنها المدينة التي شكلت الساحة الأكثر عنفاً في الصراع فقط، وأرّقت النظام ثلاث سنوات، بل لأن السيطرة على المدينة، وهذا هو الأهم، تشكل مقدمة للسيطرة على الريف الحلبي الكبير.
ولحلب واقع مختلف عن كل ساحات المعارك في سورية، فهي تختزل الصراع المحلي والإقليمي والدولي، وفيها تتحارب كل أطراف الأزمة، وفيها تنتهي المعارك الكبرى في سورية.
من الناحية العسكرية، تشكل جبهة أمامية وخلفية، في الوقت نفسه، لمن يسيطر عليها، حيث تصبح المدينة منطلقاً سهلاً نحو الأرياف الأربعة للمحافظة، في وقتٍ تصبح المدينة قاعدة رجوع، وحماية خلفية أمام أي هجوم طارئ ومفاجئ.
من ناحية الجغرافيا السياسية، تعني سيطرة النظام على المدينة إخراج الفصائل الإسلامية، خصوصاً الفصيلين الأقوى، جبهة فتح الشام وأحرار الشام، الأمر الذي يعني إبعادهم من معادلة الصراع في الساحة العسكرية الأهم في سورية في الوقت الحاضر، وهذا هدف أميركي، قبل أن يكون هدفاً روسياً. ولذلك، من غير المستبعد أن تكون الحملة الأميركية في مجلس الأمن من أجل التعمية على موقفها الراغب في إضعاف قوة الفصائل الإسلامية، وسحب هيمنتها العسكرية على باقي الفصائل، لاسيما "الجيش الحر" الذي تحوّل، في الآونة الأخيرة، رأس حربة لواشنطن وأنقرة، وبتوقيع روسي.
تتمحور المقاربة الأميركية التي بدأت تتمظهر، في الأشهر الماضية، حول تشكيل قوة سورية خالصة من أبناء المناطق ذات توجهاتٍ علمانيةٍ، تكون مقابلاً لوحدات حماية الشعب الكردي، ومكملاً لها في الجزء الذي لا تستطيع فيه وحدات الحماية إتمامه. إنه الجزء المتعلق بمعاداة النظام السوري.
والأهم من ذلك، على هذه القوة الجديدة أن تقبل الانخراط في التسوية السياسية، ضمن الرؤية الأميركية للحل، وتكون خارج المقاربة التركية ـ السعودية للحل. وعليه، لم تكن مصادفةً أن تعتمد أنقرة في عمليتها "درع الفرات" على فصائل الحر والمكونات المحلية، وإبعاد حليفها الأقوى (أحرار الشام) عن هذه المعركة. إنه اتفاقٌ ستكون الأيام المقبلة شاهداً عليه، بحيث تُترك حلب للساحة الروسية في مقابل استكمال أنقرة تأمين عمقها الاستراتيجي في شمال وشمال شرق حلب، غير أن هذه المعادلة قد تدفع قوى إقليمية، وخليجية تحديداً، إلى الخروج من عباءة المقاربة الأميركية التي أسهمت في تقوية النظام على حساب المعارضة، ولعل تصريح مسؤول أميركي أن انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، أخيراً، زاد احتمال تسليح دول الخليج العربية المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، ثم تصريح قائد جماعة الفرقة الشمالية، العقيد فارس البيوش، إن المعارضة حصلت على طراز متطور من صاروخ غراد، مؤشر على أن المدينة مقبلة على معارك هي الأشرس في تاريخ الأزمة السورية.
وقد تستفيد الدول الداعمة للمعارضة، كما تفعل روسيا، من مرحلة الصمت والسكون الأميركي، في الفترة الانتخابية، للحيلولة دون سقوط حلب، إلا أن ذلك سيضع تركيا في مأزقٍ مع الروس، من شأنه أن ينعكس سلباً على معركتها "درع الفرات"، وهي المعركة التي تعطيها أنقرة أولوية على غيرها، كونها تتجاوز، في تداعياتها، المسألة السورية إلى الأمن القومي التركي.
تكمن المشكلة الرئيسية في أن الولايات المتحدة في حالة نَوَسان سياسي وعسكري، فهي تريد إضعاف القوى الإسلامية، وفي الوقت نفسه، لا تريد تحقيق ذلك من دون تنازلاتٍ من روسيا والنظام، وهو ما تعجز عن تحقيقه. وهذا التردد هو ما تلعب عليه موسكو، لإعادة ترتيب هدنة جديدة، أو الضغط على واشنطن للانصياع إلى مطالبها. لكن، يبدو من تسارع الأحداث أن المسألة الحلبية تُركت إلى الإدارة الأميركية المقبلة.
على الرغم من بروز الخلافات بين جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) وشريكها الاستراتيجي في المعارضة السورية المسلحة، حركة أحرار الشام، عبر البيانات المتبادلة بخصوص الموقف من عملية درع الفرات التي تقودها تركيا في الريف الشمالي لحلب والمناطق الحدودية، إلاّ أنّ ذلك ليس مؤذناً بنهاية هذا التحالف، أو بموافقة الفصائل الإسلامية المختلفة على الشروط الأميركية بالتخلي والانفصال عن جبهة فتح الشام.
بدأت الخلافات مع الرد الواضح الذي أصدرته جبهة فتح الشام على بيان "أحرار الشام" الذي يؤيد العملية، بينما رفض الطرف الأول ذلك بشدة، ثم بدأت حالة الاصطفاف واضحةً في وقوف الفصائل السورية الإسلامية الأخرى إلى جانب "أحرار الشام"، إذ أصدر المجلس الإسلامي في حلب بياناً يؤيد العملية، بينما أصدر أحد مرجعيات جبهة فتح الشام، الأردني أبو محمد المقدسي، تصريحات شديدة ضد العملية والمشاركين فيها.
المتغيّر الرئيس وراء الخلاف بين الطرفين ("فتح الشام" من جهة والأحرار والفصائل الأخرى من الجهة الثانية) يكمن في الموقف التركي، خصوصاً بعد فشل محاولة الانقلاب العسكرية، وإنْ كانت بوادر التغيّر بدت قبل ذلك، فالأتراك الذين دعموا المعارضة المسلحة في مواجهة الحصار، وساعدوهم على كسره في منطقة الراموسة، لم يأخدوا مدىً أبعد في معركة حلب، فتُركت المعارضة المسلحة وحيدةً لمواجهة الحملة العسكرية الجوية الروسية غير المسبوقة، والدعم العسكري الإيراني غير المحدود على الأرض.
واضح أن الرئيس التركي أردوغان استدار نحو مصالح بلاده القومية وأمنها الوطني، وقرّر الالتفات إلى الحدود والمسألة الكردية وإقامة المنطقة العازلة، بعد أن أدرك حجم التغير الكبير في المواقف الدولية والغربية تجاه سورية، مع هشاشة الموقف العربي، ومحدودية الخيارات التركية في السياسة الخارجية.
يبدو أن القرار الجديد، أي الاكتفاء بالمنطقة الآمنة، جاء في سياق التصالح والمهادنة مع الروس، والضوء الأخضر الأميركي، بعد أن تدهورت العلاقة بين الطرفين (الأميركي- التركي) بعد محاولة الانقلاب، مع إصرار الأتراك على تسليم فتح الله غولن لهم. ثم تراجع حدّة الخلافات بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي، جون بايدين، أنقرة، ولاحظنا بعدها كيف أن الأميركان قدّموا تنازلاتٍ في المسألة الكردية، فيما يبدو أن المطالب التركية في موضوع غولن تراجعت.
على أيّ حال، أضعف التحوّل في الموقف التركي الموقف الاستراتيجي للمعارضة المسلحة في حلب، وأعطى فرصةً كبيرةً للروس والإيرانيين لتشديد الحصار، وتعزيز الحملات الجوية والبرية، وهو ما انعكس على رهانات المعارضة تجاه الأتراك، والتغير في مقاربتهم تجاه سورية؛ فبينما رأت جبهة فتح الشام في عملية درع الفرات تمهيداً لتسليم حلب للنظام، وتخلياً تركياً عن دعم المعارضة، رأت "أحرار الشام" والفصائل الإسلامية الأخرى في المقاربة التركية، على الرغم من التحولات الأخيرة، مفيدةً في المناطق الشمالية، للحفاظ على هويتها، ومنع استيلاء الأكراد عليها.
لا يعني ذلك بداية النهاية لعلاقة "فتح الشام" بالفصائل الأخرى، وبالأحرار تحديداً، فهذه ليست المرة الأولى لخلافات بين الطرفين، إذ أمكن تجاوزها سابقاً، على الرغم كذلك من وجود أجنحةٍ في هذه التنظيمات، جبهة فتح الشام والمعارضة الأخرى، تدفع نحو فك الارتباط، ويتمثل السبب في بقاء التحالف قائماً، وديناميكياته فاعلةً، في أنّه لا بديل أمام الطرفين، ولا خيار سوى الانتحار.
لماذا؟ بالنسبة للفصائل الإسلامية و"أحرار الشام"، لا تتزاوج المطالب الروسية والأميركية بالتخلي عن جبهة فتح الشام مع أي وعودٍ أو آفاق عسكرية أو سياسية حقيقية، فالمطلوب فقط التخلي عن الجبهة، لكيلا تضرب هذه الفصائل، وهي وعودٌ غير مقنعة، في هذا المنعطف الحاد في مصير الثورة المسلحة، فجبهة فتح الشام أحد أهم الفصائل في حلب وإدلب والمناطق الأخرى، وسيُحدث التخلي عنها أو الاصطدام بها، تغييراً جذرياً في ميزان القوى لصالح النظام، ويقلب المعادلة كلياً.
وبالنسبة لجبهة فتح الشام التي تخلت عن الارتباط بالقاعدة، ودخلت في صدامٍ مع داعش، وعقدت تحالفاتٍ مع الفصائل الأخرى، سيجعلها الصدام مع الفصائل الأخرى معلقةً في الهواء، لا هي مع "داعش" ولا مع الفصائل المسلحة، ولا مقبولة دولياً ولا محلياً، وسيضعف تماسكها الداخلي أكثر وأكثر.
إذاً خيارات المقاومة السورية اليوم محدودة وواضحة، وهي البقاء متماسكةً موحدةً في اللحظة العصيبة الحالية من أحداث حلب، وبعدها لكل حادث حديث.
بنت الولايات المتحدة سياساتها تجاه الصراع السوري على إقامة توازن قوى بين النظام والمقاومة، يتيح لها فرصاً مفتوحة لتدخل تحكّمي في الحدث السوري من جهة، وإطالة الصراع إلى الوقت الذي تريده، من جهةٍ أخرى.
لم تلحظ هذه السياسات مفارقةً ترتبط بإدارة التوازن، هي أن كسره لصالح المقاومة يفضي إلى الحل السياسي الدولي الذي يطبق وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، بينما يعني كسره لصالح النظام إسقاط هذا الحل، وفرض حل عسكري لطالما ألزم الأسد نفسه به، ولم يتخلّ عنه في أي وقت. بذلك، عطل تمسك أميركا بالتوازن تحقيق الحل السياسي الدولي، المستحيل بلوغه من دون تفوق المعارضة عسكرياً على النظام في مرحلة أولى، وصمودها في مواجهة حلفائه العسكريين الذين سيسارعون إلى نجدته، في طور تال. في المقابل، لم يحل التوازن دون جهود الأسد وحلفائه لكسره عسكرياً لصالحهم. وبالفعل، مكّنه الروس والإيرانيون والمرتزقة الذين جلبهم إلى سورية من تقويض التوازن، بما لدى جيشي البلدين من قوةٍ حربيةٍ متفوقةٍ تستطيع تقويض ما هو قائم من توازن لمصلحتهما، بما تمتلكانه من تفوقٍ نوعي بالسلاح، ومن طيران وذخائر متقدمة وأعداد مقاتلين. ومن قدرةٍ على شن حرب تغطي كامل الرقعة السورية، ليس لدى قوى المقاومة قدرات كافية للقيام بما يماثلها.
بدخول جيشَي روسيا وإيران المتزامن إلى سورية كُسر توازن القوى إلى حدّ يجعل من المحال استعادته من دون أسلحة نوعية مضادة للطائرات، تزود بها المقاومة، أو تدخل عسكري أميركي مباشر، لكن أياً من هذين الشرطين لم يتحقق، وبينما ظلت المقاومة تحت صبيب ناريٍّ لا يتوقف من الجو، زاد من اختلال التوازن العسكري الميداني ضدها، ركّزت أميركا جهودها على الحرب ضد الإرهاب. على الرغم من أن علاقتي أميركا وروسيا بالنظام والمقاومة تتفرّعان عن علاقاتهما الدولية المعقدة والعدائية، فإن واشنطن لم تتخلّ عن آليةٍ في حفظ التوازن، اتسمت بالتقطع والتدابير اللحاقية، أملاها موقفها من الصراع وعزوفها عن حسمه. لذلك، مثّل دخول جيش بوتين إلى سورية مصحوباً بجيش إيران تطوراً مفصلياً، تحدّى قدرات المقاومة، وزاد الطين بلةً تمسّك واشنطن بخطوطها الحمراء التي منع أحدها إمدادها بالأسلحة النوعية المطلوبة. ومثله رد المقاومة على التحدّي الذي جاء ناقصاً ومتعثراً وعازفاً عن تطويرها، بحيث تحتوي التحدّي بمعونة أنماط متطوّرة وموحّدة من التنظيم. لا عجب أن أسقطت هذه التطورات الحل السياسي الدولي وفرصه، وجعلت الحل العسكري، الروسي/ الإيراني/ الأسدي خياراً وحيداً.
هل غفلت واشنطن عن نتائج تمسّكها بسياساتٍ توازنيةٍ رجراجة وهشّة إلى أبعد حد، حالت دون غلبة المقاومة على النظام الأسدي، وفرضت عليها توازناً مرّ بفتراتٍ طويلة من عدم التكافو، شجّع الأسد على قتل وتدمير وتجويع وحصار وترويع حامل الثورة الاجتماعي/ الوطني، ولم يبق في ساحة السياسة غير حله العسكري الذي أيدته إيران بكل صراحة، وروسيا من دون إعلانات طنانة، ونرى اليوم مرتسماته في حلب؟.
أتساءل، في مقابل موقف واشنطن: هل سيستمر إخوتنا العرب في احترام خطها الأحمر، وتجاهل مخرجاته التي تحتم تصدّيهم للتحالف الروسي/ الإيراني/ الأسدي، وإمداد الثورة بسلاحٍ مضاد للطائرات، تكسر بمعونته خطوط أميركا الحمراء، وتثبت أن ما تقرّره واشنطن ليس قدراً يستحيل تحدّيه، وتسقط الحل العسكري من خلال علاقات قوى جديدة تحول أيضاً دون انكشاف العرب، في حال تخلى البيت الأبيض عنهم، كما تخلى عن شعب سورية طوال قرابة ستة أعوام، وقف خلالها مكتوف الأيدي، وهو يتفرّج مستمتعاً على مأساته؟