اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي متوجس، فهو حذّر بصراحة مطلقة روسيا والولايات المتحدة من تجاهل «حصة إيران في سوريا» وقال إنه يتخوف من أن تؤدي الاتصالات السرية بين البلدين إلى «حصة أقل لإيران».
لكن ما نوع الحصة التي تريدها إيران، وهل روسيا معنية كثيرًا بأهداف إيران؟ الطرفان يختلفان حول مصير الأسد وكل لأسبابه الخاصة. فبسبب موقع سوريا الاستراتيجي، تنظر إيران إلى التسوية السلمية وسيلة للحفاظ على نفوذها، وفي جهدها لتحقيق هيمنة إقليمية فإنها ترى سوريا أفضل ممر لإمداداتها لـ«حزب الله» في لبنان. تدرك أن أي اتفاق سلام لإيقاف الحرب سيؤدي إلى تقاسم السلطة على أساس عرقي - مذهبي سيكون بالطبع عرضة لشلل سياسي، لذلك فإنها تفضل ألا تكون هناك سلطة مركزية، لأنها تريد المحافظة على الأرض السورية جسرا لجماعاتها في لبنان. وبالتحديد فإن الأسد ودائرته الضيقة هما الحلقة الرئيسية والأساسية لإبقاء النفوذ الإيراني.
على الرغم من أن الطائفة العلوية تشكل 13 في المائة من مجموع السوريين، فإن هناك كثيرا من العائلات العلوية القوية التي تخاصم الأسد وترفض إيران.
الاعتقاد السائد هو أن طهران تدعم النظام السوري لأن الطرفين من الطائفة الشيعية التي هي أقلية في عالم سني. لكن كما يقول الباحثون إن الاستراتيجية الإيرانية تعتمد على عوامل جيوسياسية، وليس على عوامل مذهبية، خصوصًا بين شيعة إيران والعلويين في سوريا. إيران تقولب كل الحقائق لتحمي مصالحها الإقليمية. عام 1960 عندما وصل ضباط علويون إلى الحكم، لم يقيموا علاقات وثيقة مع طهران، لكن الحرب العراقية - الإيرانية حققت نقطة التحول. كانت طهران مع ثورتها الخمينية مرفوضة من الغرب، ومتخوفة من الاتحاد السوفياتي، كانت تبحث عن حلفاء. من ناحيته كان حافظ الأسد الرئيس السوري آنذاك يعادي البعث العراقي، فالعالم العربي بنظره لم يكن يتسع لـ«بعثين»، فرأى في الحرب فرصته لإضعاف بغداد. اشترت إيران موقفه إلى جانبها بتوفير النفط المجاني لسوريا عام 1982، لكن العلاقات «الدينية» بين شيعة إيران وعلويي سوريا ظلت متوترة كالعادة. وفي عام 1985 كشفت برقية دبلوماسية أميركية عن أن شيعة إيران يرون العلويين «هراطقة»، ووصل الأمر عام 1996 إلى أن أرسلت إيران مرشدين إلى أوساط العلويين في سوريا فألقى النظام القبض عليهم.
أيضا عام 1987. عندما استمد «حزب الله» قوة من إيران لاعتقاده أنها تحقق مكاسب في الحرب ضد العراق، قاتلت القوات السورية في لبنان «حزب الله»، لأن مكاسبه على الأرض هددت التوازن الهش بين الطوائف فيه. ثم إن سوريا لم تشعر براحة عندما بدأ «حزب الله»، بناء على أوامر الحرس الثوري الإيراني، بخطف الغربيين في لبنان. وكانت دمشق هي من كشفت عن مبيعات الأسلحة الأميركية لإيران أثناء الحرب ضد العراق، فيما عرف بقضية «إيران كونترا».
بنت إيران وسوريا تحالفًا دفاعيًا يقوم على الخصوم والمخاوف المشتركة بينهما، من هنا، فإن العلويين في سوريا كلهم يتعاونون مع إيران إذا ما شعروا بتهديد وجودي، وفي حال تم التوصل إلى اتفاقية سلام تضمن أمن العلويين فالأغلب أن تنأى الطائفة العلوية بنفسها عن إيران.
أيضا، لا تستطيع إيران من أجل تثبيت نفوذها في سوريا الاعتماد على الشيعة السوريين، إذ إنهم يمثلون اثنين في المائة، وكون الحجم الديموغرافي يحدد الثقل السياسي فلن يكون للشيعة السوريين الوزارات أو الوظائف الإدارية الأهم في نظام تقاسم السلطة في سوريا ما بعد الحرب، وبالتالي لا يمكن لأي كتلة شيعية أن تمنع أي تشريع تتبناه الأغلبية السنية، وهذا يعني الحد من نفوذ إيران في سوريا. من هنا، فإن بقاء الأسد هو خيار إيران الأفضل للحفاظ على نفوذها بعد أي تسوية.
فوق كل هذا مع إطالة الحرب في سوريا، تحول بشار الأسد من حليف إلى ورقة بيد إيران نتيجة اعتماده عليها للإبقاء على نظامه. هذا الواقع لم يغب عن العائلات العلوية المتناحرة التي ترفض تبعية الأسد لطهران. لذلك، فإن الأسد المتخوف من أن يطاح به من قبل الدائرة العلوية، مستعد أن يقدم ضمانات للمصالح الإيرانية في سوريا طالما أنها من أجل هذه المصالح تحميه من أي انقلاب داخلي محتمل.
اليوم تتخوف إيران من أن يؤدي سقوط الحكم العلوي إلى حكومة سنية يمكن أن تتحالف مع المملكة العربية السعودية، التي تعتبرها إيران السد الواقف في وجه تحقيق سيطرتها المطلقة على المنطقة. وتتخوف كذلك من العزلة الإقليمية التي ستلي ذلك. يقلقها أيضا أن سوريا السنية ستمنعها من إيصال الأسلحة إلى «حزب الله» في لبنان.
وهكذا، من شأن سقوط نظام بشار الأسد أن يمحو كل المكاسب الإقليمية التي تعبت لتحقيقها، عبر الإرهاب ونشر عدم الاستقرار طوال 37 سنة من عمر الثورة الإيرانية.
إن طهران لا تستطيع تحمل فقدان العلويين السلطة في سوريا، ولهذا السبب فإنها سوف تتشبث بقوة للإبقاء على الوضع الراهن؛ إذ طالما بقي هناك حجر واقف، تفضل إيران استمرار الحرب.
إنه الخوف من وصول السنة إلى الحكم في سوريا الذي يجمع إيران والنظام السوري. إنه حلف دفاعي مبني على المصالح، وتأكيد الجذور الشيعية، هو خدعة لتأليب ضعيفي النفوس ودفعهم إلى أن يكونوا وقودًا لنيران حرب تشد إليها كل القتلة. واعتقاد بعض الدول بأن إيران جزء من الحل، ولا بد من دور لها، إنما يقوي أمثال «داعش» و«النصرة» ويطيل أمد الحرب.
لهذا تطرح إيران تسوية سلمية تبقي الأسد على رأس السلطة في مرحلة ما بعد الحرب. لكن أحلامها هذه قد تبددها روسيا التي لها جدول طموحات خاص بها. في سوريا لن تكتفي روسيا بقاعدة حميميم الجوية، إذ بدأ الحديث في موسكو عن الحاجة إلى قاعدة جوية ثانية «لأن الحملة الروسية على (داعش)، مستمرة، ولأن القوات الجوية الروسية تحتاج إلى قاعدة انطلاق من أجل تعزيز فعالية المهمات القتالية وتقليل الإنفاق من الموارد».
من المؤكد أن كل هذا يسحب البساط السوري من تحت أقدام الإيرانيين، ويجعلهم يصرون على إطالة الحرب.
المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لها أطرها وقواعدها، ولن تصل إلى صراع عسكري بين الطرفين. وكان واضحا أبعاد تسريب محادثة جون كيري وزير الخارجية الأميركي مع مجموعة من المعارضة السورية، إذ أبلغها بشكل غير مباشر بأن الولايات المتحدة لن تتخلص من الأسد تحت أي ظرف، قال للسوريين: «قاتلوا (داعش) و(النصرة) عنا»، كما أنها لن تصعد عسكريًا مع سوريا. قال كيري أيضا إن «(حزب الله)، لا يهدد أميركا مباشرة».
من هنا، ولأن روسيا صارت المحاور الرئيسي للنظام السوري، نظرًا لحجم نفوذها العسكري والدبلوماسي، فهي عضو في مجلس الأمن وليس إيران. تبقى إيران، رغم كل جهودها في سوريا واستثماراتها الشريك الأصغر، لذلك تشعر، كما عبر اللواء صفوي، بالقلق. هي لا ترتاح لأميركا، ثم إن عدم الثقة بينها وبين روسيا يتقلص ما دامت الحرب مستعرة في سوريا وستقاوم كل مبادرة للسلام من ناحيتها، ومع اشتداد التجاذبات مع واشنطن لا ترى موسكو جدوى من التخلص من الأسد، إذا لم تكن قادرة على استخدامه ورقة مساومة، وما لم تكن مبادرة للسلام في الأفق. من هنا، سيبقى الدور الإيراني إشعال الحرب أكثر في سوريا، لأن المواجهة بينها وبين روسيا ستشتعل إذا ما خمد القتال في سوريا وبُذلت جهود لوضع نهاية للحرب. صدق صفوي عندما أصر على «حصة إيران في سوريا»!
لم يكن غريبا أو مفاجئا أن تنهار الاتصالات الأميركية - الروسية بشأن الأزمة السورية، وأن يعود الطرفان إلى لغة التلاوم وتبادل الاتهامات. فالكلام عن الهدنة وعن تفاهم بين واشنطن وموسكو للتنسيق في جهود تثبيت وقف النار وتهيئة ظروف تحقيق التسوية، كان محكوما بالفشل منذ البداية، والشواهد كانت ماثلة أمام كل من كان يقرأ الصورة على حقيقتها البشعة والمؤلمة.
ليس هناك استراتيجية واضحة، ولا أرضية واحدة أو رؤية مشتركة حول الهدف النهائي. الحسابات متباينة، بل ومتعارضة، وسوريا تدفع ثمن الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، في ظل عودة أجواء الحرب الباردة والواقع الدولي الراهن الذي تراجع فيه أميركا حساباتها، وتتحسس خطواتها، مع بروز أقطاب جدد ينافسونها ويتحدون هيمنتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا. منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات، كانت أميركا في حالة تراجع على الصعيد الخارجي بعد أن شعرت بضغط الكلفة الباهظة لحربي أفغانستان والعراق. باراك أوباما دخل أصلا إلى البيت الأبيض وفي مقدمة أولوياته إعادة القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وضمن استراتيجيته عدم قيام أميركا بدور شرطي العالم. لذلك لم يكن واردا في حساباته منذ البداية التدخل عسكريا في سوريا، رغم ضغوط الحلفاء والأصدقاء. روسيا فلاديمير بوتين كانت تعرف ذلك، وكانت في الوقت ذاته تبحث عن استعادة مكانتها بعد التقزيم الذي أصابها مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وتريد فرد عضلاتها في مواجهة الغرب الذي تمدد إلى حدودها وضم تحت أجنحته دول فلكها الأوروبي القديم. لذلك شكلت سوريا ساحة مناسبة لبوتين للرد وإظهار قدرة موسكو على التحرك بعيدا عن حدودها لمشاكسة الغرب، أو لمنع سقوط نظام حليف، أو لفرض وجودها على الساحة الدولية.
في ظل هذه الأجواء لم يكن متوقعا أن يصمد «التفاهم» الأميركي - الروسي، ولا اتفاق الهدنة الأخيرة، ناهيك عن أن يصدق أحد التصريحات عن توفير أجواء مؤاتية لتسوية الأزمة. فروسيا تعرف، كما يعرف النظام السوري وحلفاؤه، أن أميركا تعيش حالة «بيات انتخابي»، وأن إدارة أوباما التي لم يتبق لها في البيت الأبيض سوى مائة وستة أيام، لن تقدم على أي تصعيد ولن تبدل فجأة في استراتيجية «الانكفاء» التي انتهجتها حتى الآن، كما أن أي إدارة جديدة سوف تستغرق وقتا قبل أن تلتفت جديا إلى الأزمة السورية. من هنا فإن روسيا ونظام الأسد ينظران إلى هذه الفترة كفرصة مواتية للتصعيد لا للتهدئة.
بعض الدوائر الأميركية ترى أن سياسة «القفاز الناعم» والنفس الطويل التي انتهجها وزير الخارجية جون كيري مع موسكو لم تحقق أي نتائج، بل وفرت غطاء لموسكو للمماطلة الدبلوماسية وكسب الوقت لتعزيز الدعم لنظام الأسد وحلفائه لانتزاع المزيد من المواقع من المعارضة. الواقع أن كيري لم يكن يملك غير الدبلوماسية المكوكية، في ظل موقف رئيسه الرافض «للدبلوماسية العسكرية».
وبعد فشل الجهد الأخير، تعالت بعض الأصوات التي تطالب إدارة أوباما بالنظر في خيارات أخرى وتوفير أسلحة متطورة للمعارضة، بينما يرى آخرون مثل الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية أن واشنطن يجب أن تكون مستعدة لتوجيه رسائل قوية لموسكو، وأن تتحرك في هذا الإطار لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا.
هذه الأصوات تبدو مجرد تعبير عن الإحباط إزاء سياسة العجز والتخبط التي ميزت تعامل إدارة أوباما مع أزمة خلفت واحدة من بين أكبر الماسي الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فليس هناك من يتوقع انقلابا في نهج واستراتيجية إدارة أوباما في هذا الوقت المتأخر من عمرها، أو اتخاذ خطوات مثل فرض الحظر الجوي من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة غير مضمونة العواقب مع القوات الروسية في سوريا. فأوباما رفض هذه الخيارات مرارا قبل ذلك ومن الصعب رؤية تزحزحه في أواخر أيامه بالبيت الأبيض عن عقيدته التي تحدث عنها بإسهاب في مقابلته الشهيرة مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية العام الماضي، وأكد فيها اعتزازه بأنه لم يستجب لأصوات التدخل العسكري في سوريا، معلنا أن الشرق الأوسط لا يمكن علاجه من مشاكله.
العودة إلى تفعيل دور «المجموعة الدولية لدعم سوريا» هي الخيار المطروح الآن من قبل واشنطن أو موسكو، لكن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد شراء للوقت، ومحاولة إظهار أن العالم يفعل شيئا من أجل السوريين. فالظروف والملابسات التي أفشلت كل مساع للحل في السابق، ما تزال ماثلة، بل تزداد تعقيدا في ظل أجواء الحرب الباردة دوليا، والساخنة إقليميا. الانتخابات الأميركية لن تعني تغييرا سريعا، خصوصا إذا انتخبت هيلاري كلينتون. أما إذا حدث زلزال سياسي يدفع بالغوغائي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن كل شيء يصبح واردا بما في ذلك إزاء الأزمة السورية.
وليد أبو مرشد – الشرق الأوسط
هل تكفي تسوية مدينة حلب بالأرض وتفريغها من سكانها، لإنهاء النزاع السوري وإعادة سوريا إلى خريطة دول الشرق الأوسط؟
الجواب لا يزال في ملعب أوباما، وملعبه يشهد اليوم تباينات بين رؤيته للحالة السورية ورؤية رئيس دبلوماسيته، جون كيري، قد تعكس، كما يبدو، اختلافًا في تقييم «الديمقراطيين» لموقع أميركا على الساحة الدولية بعد التحدي الروسي لها في سوريا.
بعد أكثر من خمس سنوات على الانتفاضة الشعبية في سوريا، تشعر واشنطن أن استمرار التزامها بدبلوماسية «لا في العير ولا في النفير» بدأ يمس بهيبتها كدولة عظمى، واستطرادًا مصداقيتها في أوساط الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم والأعداء.
أن تأتي تلاوة «فعل الندامة» على فرص الإدارة الأميركية المفَوَّتة في سوريا من رأس هرم الدبلوماسية الأميركية ومهندسها، أي وزير الخارجية جون كيري، حدث قلّ نظيره في سجلات الدبلوماسية الغربية، والأميركية تحديدا. ولكن العبرة السياسية لهذا الندم، التي يصعب تجاهلها، أنها جاءت في سياق «تحصيل الحاصل» هذه الأيام، أي تحميل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مسؤولية إحباط كل اقتراحات ومبادرات التدخل المباشر في سوريا.
ندم وزير الخارجية الأميركي، إن كَشف عن أمر ما، فهو صعوبة - وربما استحالة -التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في سوريا، بعد اعتماد آلة الحرب الروسية سياسة «الأرض المحروقة»، ومؤازرة سلاحها الجوي جيش النظام في مهمته الناجحة لتدمير مدينة حلب على رؤوس أبنائها.
إعراب وزير الخارجية الأميركي (أمام وفد من المعارضة السورية) عن «إحباطه» من موقف رئيسه، باراك أوباما، مؤشر كافٍ للاستنتاج بأن ما لم يقدم عليه الرئيس أوباما، أي التدخل العسكري، بات المدخل الوحيد للحل.
ولكن السؤال يبقى: أما زال هذا الحل في يد الولايات المتحدة؟ محوران إقليميان ما زالا يسمحان بأمل تعديل الوضع الميداني لصالح المعارضة:
المحور الأول - والأكثر منطقية - هو «الجيش السوري الحر»، والثاني هو تركيا.
بالنسبة لـ«الجيش السوري الحر» ما زالت الفرصة سانحة لتجميع صفوفه وتزويده بالعتاد المناسب لتعديل الوضع الميداني الراهن، إذا عادت إدارة أوباما إلى التعامل مع قضيته بجد ومصداقية.
لو تم هذا الأمر قبل خمس سنوات، أي يوم كان «الجيش السوري الحر» رأس حربة الانتفاضة السورية، لربما كان تزويده، آنذاك، بخمسين صاروخ «ستينغر» أرض -جو كافيًا لتحييد سلاح الجو السوري وقلب موازين المواجهة العسكرية لصالح المعارضة تمهيدًا للعودة إلى طاولة المفاوضات.
واليوم، وبعد أن زجت روسيا بسلاحها الجوي في النزاع السوري، قد يتسبب اتخاذ واشنطن لهذا القرار بتعريضها لمواجهة مباشرة مع موسكو، خصوصا أن القوات الروسية «ذاقت مُرّ» هذه الصواريخ في حرب أفغانستان (1979 – 1989). رغم قناعة العديد من المراقبين السياسيين بأن موسكو، كما واشنطن، لا ترغب في التسبب بحرب عالمية ثالثة بسبب سوريا، فإنه ما زال بإمكان واشنطن الالتفاف حول «العامل الروسي» باتخاذها قرارًا جريئًا يرفع «الفيتو» الذي تفرضه على تزويد حلفائها في المنطقة المعارضة السورية بهذه الصواريخ والأسلحة النوعية التي تفتقدها في مواجهاتها غير المتكافئة مع قوات التحالف الروسي - السوري - الإيراني.
على صعيد المحور التركي، قد تبدأ مسيرة تعديل الوضع الميداني بتخلي واشنطن عن معارضتها اقتراح أنقرة فرض منطقة آمنة على طول حدودها مع سوريا، وإعطاء «الضوء لأخضر» للجيش التركي لمواصلة عملياته العسكرية في سوريا، المباشرة وغير المباشرة.
رغم أن الجيش التركي فقد العديد من كوادره القيادية نتيجة حملة «التطهير»التي نفذها الرئيس رجب طيب إردوغان، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، فهو لا يزال ثاني أكبر جيوش دول حلف شمال الأطلسي. وبالنسبة لإردوغان قد تشكل عملياته في سوريا فرصة سانحة لتأكيد قدراته القتالية.
سجلّ الرئيس أوباما في البيت الأبيض لا يوحي باحتمال تغيير موقفه من سوريا في آخر أيام عهده. ولكن الأمل في التغيير يبقى قائمًا في حال احتفظ الديمقراطيون بالرئاسة الأميركية، وعادوا إلى مقاربة الدولة العظمى في دبلوماسيتهم الدولية.
كانت لديفيد سانغر، من «نيويورك تايمز» ملاحظة مثيرة للاهتمام جاءت في أحدث مقالاته عن السياسة الخارجية الغريبة لفلاديمير بوتين. وكتب سانغر، أن روسيا «اقتصاد ينهار مع إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا». كيف لها إذن أن تتسلط على الولايات المتحدة الأميركية، الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم، و«أكبر جيش على وجه الأرض؟» وكما قال الرئيس أوباما خلال الأسبوع الماضي؛ ذلك لأن رئيس الولايات المتحدة حذر إلى درجة التردد، وهو حريص إلى درجة يبدو معها جبانًا.
الأزمة في الوقت الراهن هي سوريا وحصار حلب. لقد تم قصف مستشفيات المدينة بما يطلق عليه «القذائف المخترقة للتحصينات»، وتم استهداف مواقع مدنية أخرى. ووصف ستيفن أوبراين، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية: «القصف العشوائي» بأنه «مستوى من الوحشية لا ينبغي لأحد من البشر تحملها». قوات النظام السوري، بمساعدة «حزب الله» وإيران على الأرض، ومساعدة روسيا من الجو، مستعدة لإنهاء المسألة وإنجاز المهمة.
نهاية الشهر الماضي، قصف السوريون، والروس، أو السوريون بمساعدة روسيا قافلة مساعدات إنسانية نظمتها الأمم المتحدة. وردت الولايات المتحدة الأميركية على هذا الاعتداء الشنيع بالاحتجاج، وبتعليق المحادثات مع موسكو يوم الاثنين الماضي.
أربك رفض أوباما لدعم المطالبات بوقف إطلاق النار بالتهديد باستخدام القوة جون كيري، وزير الخارجية، الذي اعترف لبعض رفاقه من الدبلوماسيين بإصابته بالإحباط؛ وسرعان ما تم تسريب كلماته. ويتخذ كيري حاليًا موقفًا معارضا لسياسات الرئيس، وهو الأمر الذي كان مشكوكًا فيه من قبل. مع ذلك ما حدث لكيري كان أمرًا بسيط، مقارنة بما حدث لأوباما نفسه. فقد دفعه الوضع إلى تقديم تفسيرات لقراراته تصل إلى حد الهذيان. لقد دمّر الحقائق، وجعل الترتيب الزمني مشوشًا، وأظهر نفسه بلا ذنب أو مسؤولية عن مقتل نحو 500 ألف شخص في سوريا، ونزوح 8 ملايين شخص في الداخل، والموجة الكاسحة من المهاجرين التي عصفت باستقرار أوروبا.
وتساءل الرئيس الأسبوع الماضي خلال اللقاء العام في المجلس المحلي، الذي استضافته محطة الـ«سي إن إن»، في فورت لي: «هل هذا وضع يؤدي فيه استخدام قوات أميركية كبيرة العدد إلى نتيجة أفضل؟». إنه سؤال لا بأس به، إلا أن هناك سؤالا أفضل: من اقترح مثل هذا التصرف؟ لا أحد له مكانة وأهمية. لقد أوصى فريق الأمن القومي لأوباما ذات مرة بتمويل، وتدريب المتمردين، الذين نبذهم أوباما في السابق ناعتًا إياهم بـ«المزارعين أو المعلمين أو الصيادلة السابقين الذين يتخذون الآن موقفًا معارضا من نظام يتمتع بالخبرة في الحرب».
لقد أنصت أوباما إلى مدير الاستخبارات الأميركية، ووزير خارجيته، ووزير دفاعه، والقادة العسكريين، لكنه قال لا في النهاية، وانتهى النقاش؛ ولم يتم التوصية بإرسال قوات على الأرض.
في فورت لي، حفز الرئيس التدخل الروسي والإيراني في سوريا بقوله: «يقول المنتقدون لي إنه لو كنت قد منحت الدعم الكافي في وقت مبكر للمعارضة المعتدلة، لتمكنت المعارضة من الإطاحة بنظام الأسد المجرم القاتل. المشكلة في هذا الطرح هو أننا رأينا أن نظام الأسد يحظى بدعم روسيا وإيران».
صحيح أن النظام السوري كان يحظى دومًا بدعم كل من إيران وروسيا، لكن تطلب الأمر وقتًا ليشارك كل من «حزب الله»، وروسيا في القتال بالفعل.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 كان أوباما قادرًا على القيام بفعل ما، وهو ما أشار ضمنًا إليه وقتها حين قال: «لقد آن الأوان لتنحي الرئيس الأسد». ولم يمتنع الأسد عن التنحي فحسب، بل لطخت قواته لاحقًا «الخط الأحمر» الشهير، الذي كان يتحدث عنه أوباما طوال الوقت، بإطلاق الغاز السام على مواقع مدنية.
رأى الأسد، وبوتين، والأشرار الآخرون على اختلافهم حينها، وتحديدًا عام 2013 أن أوباما رجل ضعيف.
أفهم جيدًا أن المرء لا يحب الاعتراف بفشله، خاصة إذا كان فشلا فقد الكثيرون أرواحهم بسببه. يقول بيل كلينتون إنه لن يسامح نفسه أبدا على عدم التدخل في إبادة رواندا. وبالمثل سوف يطارد هذا الأمر أوباما.
مع ذلك لا يزال في إمكان الرئيس اتخاذ موقف، حيث يمكنه دعم وزير خارجيته، وفرض ممر للمساعدات الإنسانية، أو على الأقل إلقاء المواد الطبية والطعام جوًا. لدى الولايات المتحدة بالفعل طائرات في المنطقة تستخدم في قتال تنظيم داعش. ولا يعد إلقاء المساعدات الإنسانية جوًا فعلا عدائيًا، ولا ينبغي لروسيا أن تراه كذلك. يمكن لأوباما القيام بذلك لأن أميركا تستطيع القيام بذلك، ولأنه لا ينبغي لها أن تقف وتشاهد ذبح الأبرياء دون أن تحرك ساكنًا، ولأنها تستطيع إخبار روسيا بأن عليهما التزاما أخلاقيا بإنقاذ الأرواح. ليس هذا خطا أحمر، بل هو الأمر الأهم.
يعتقد الموالون لنظام بشار الأسد، وأنصار «محور الممانعة» الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما، ومعهم عواصم عربية كالقاهرة والجزائر، أن استمرار النظام واستعادته السيطرة على كل المناطق هما دعامة الحفاظ على سورية «موحّدة». وعلى رغم تفاوت حجج هذه الأطراف وتمايز منطلقاتها، إلا أن مواقفها استندت عن قصد أو غير قصد الى منطق واحد ووقعت عملياً في الاصطفاف نفسه. وبما أن النظام انعطب منذ العام الثاني للأزمة وصار معتمداً كلّياً على الدعم الإيراني، فإن مواصلة الرهان عليه صارت واقعياً رهاناً على إيران، يتساوى في ذلك أن يكون المراهنون معنيين بالأجندة والمشروع الإيرانيين أم لا. وبعد التدخّل الروسي، بطلب إيراني كما حرصت طهران على التأكيد مراراً، انقسمت تلك الأطراف بين مَن يستمدّون من موسكو «مشروعيةً» لمواقفهم ورهاناتهم، ومَن ظلّوا على الولاء لإيران ونفوذها في سورية، معتبرين أن طهران هي التي تدير موسكو.
وفيما دأب إعلام «الممانعة» على اعتبار أن الأزمة تفاقمت بسبب قوى أخرى تدخلت و «دعمت الإرهاب»، كما كرّر رئيس النظام مشيراً الى تركيا والسعودية وقطر تحديداً، فإن ذلك الإعلام كان يتّهم الأطراف المتدخّلة بأنها تسعى الى إسقاط نظام الأسد لإحلال «نظام إسلامي متطرّف» محله، أو الى فرض التقسيم. وفي تبريرهم الحرب الهمجية التي تُشنّ على حلب، راح «الممانعيون» يقولون أن الدافع الرئيسي لـ «تحرير حلب» هو «إحباط مخطط تقسيم سورية». وطوال أعوام الأزمة، وصولاً الى عقدتها الراهنة، لم يبدِ أي ناطق روسي أو إيراني أو أسدي أي موقف يؤكّد الحرص على وحدة سورية، بل إن «سورية المفيدة» بات مصطلحاً يحدّد الإطار الجغرافي للمخطط الأسدي - الإيراني، وقد غدا منذ عام 2013 في مثابة مقترح أول في أي مساومات تقسيمية مقبلة. أما في الجهة المقابلة، سواء في المعارضة أو الدول الداعمة لها، فلم يُعرف أي مخطط أو مقترح مضاد، بل شدّدت كل المؤتمرات برعاية الجامعة العربية وغيرها على وحدة سورية، وكانت الخشية الدائمة من نيات تقسيمية قديمة ومبيّتة لدى الجانب العائلي - الطائفي المهيمن على النظام.
وما حصل خلال آب (أغسطس) الماضي، كان ذا دلالة، أولاً بالرعاية الروسية لوقف إطلاق النار بين القوات النظامية والكردية لمصلحة سيطرة الأكراد في الحسكة، ثم في عدم الاعتراض الروسي أو الإيراني - مع اعتراض شكلي من النظام - على التدخل التركي في عملية «درع الفرات» لطرد تنظيم «داعش» من جرابلس ومطالبة الأميركيين بسحب القوات الكردية من منبج وإبقائها شرق الفرات. إذ تشير الواقعتان الى أن مشروع «استعادة السيطرة عل كل المناطق»، وفقاً للأسد، ينطوي على استثناءات، وأن «سورية المفيدة» هي أقصى طموحه، أما الحروب المستمرّة فتهدف الى تحصين هذا الطموح بإحاطته بمناطق مدمّرة وأراضٍ محروقة لإضعاف مصادر الخطر عليه أو إزالتها كليّاً. ولعل «العملية الكاملة» التي يخوضها التحالف الثلاثي (روسيا وإيران والنظام) بدت ممكنة أخيراً في حلب كمقابل للقبول الصامت بدور تركي حدّدته موسكو جغرافياً وقصرته على محاربة «داعش» واحتواء من التوسّع الكردي الطموح.
مع انهيار الهدنة الأخيرة وبدء الهجوم على حلب، كان وزير الخارجية الفرنسي المسؤول الغربي الوحيد الذي حذّر من أن «النظام يلعب في حلب ورقة التقسيم». وكان سبقه نظيره الأميركي في شباط (فبراير) الماضي، الى القول بأن الفشل في فرض هدنة يعني استدراج الوضع السوري نحو التقسيم، وتبعه قبل أسابيع مدير الـ «سي آي إيه» في ترجيح هذا المسار. وباستثناء إشارة من نائب وزير الخارجية الروسي الى «الفيديرالية» (التي تعني استمرار وجود دولة مركزية قوية)، فإن الروس لم يفصحوا عن أي موقف في شأن مشاريع التقسيم، لكن إدارتهم للأزمة والحرب بقيت في الخطة التي رسمها الثنائي الأسدي - الإيراني منذ 2011، لذا جاء تدخّلهم وسيطرتهم على القرار العسكري ليساهما في مزيد من القتل والتدمير خدمةً لتلك الخطة التي أفضت عملياً الى وضع كل معالم التقسيم على الأرض.
ولم تكن طهران أكثر شفافيةً من موسكو في توضيح نياتهم، لكن المفاهيم التي ضخّها العديد من مسؤوليها وعسكرييها عن أهداف متصلة ومتماثلة لحروبهم في سورية والعراق واليمن، لم تخف عداءهم للشعوب واستخفافهم بمسائل كوحدة الأرض والدولة فضلاً عن سعيهم المؤكّد الى تفكيك الجيوش والمؤسسات كافةً وتمكين الميليشيات التي يؤسسونها على قاعة المذهبية، أو تلك التي يستتبعونها وأبرز مثل لها ميليشيات فرّخت في مناطق سيطرة نظام الأسد، لا سيما في الساحل. وعلى رغم إحجام الإيرانيين عن الإشارة الى التقسيم (يفضّلون مبدئياً السيطرة الكاملة)، إلا أن أحد أتباعهم اللبنانيين لم يتردد في القول أن «تقسيم سورية والعراق أمر وارد» (نعيم قاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، 04/08/2016). وليس أدلّ على ذلك من سياسة التهجير القسري التي انتهجها النظام بإخلاء المدن والبلدات والقرى منذ الشهور الأخيرة لعام 2011، ثم تولّى الإيرانيون استثمارها في الأعوام التالية لإحداث تغيير ديموغرافي مبرمج، خصوصاً في محيط دمشق وفي حمص، وقد ظهرت معالمها أخيراً في حصارات التجويع والقصف الوحشي في الزبداني والقلمون وداريّا وحي الوعر. ولا ترمي هذه السياسة إلا الى جعل أي حل سياسي مستحيلاً لاستحالة عودة النازحين واستعادتهم بيوتهم وأملاكهم أو الذين أحرقت محالهم التجارية وأُزيلت عقاراتهم، أو حتى عودة «الغائبين» الذين صودرت أملاكهم باعتبارهم «إرهابيين» (تطبيقاً للسيناريو الإسرائيلي بالتصرف بأملاك الفلسطينيين).
لكن إعلام «الممانعة» الإيراني يغطّي دناءة هذه الممارسات بشعارات خوض المعركة «الأخيرة» في حلب باعتبارها «هدية محور المقاومة لوحدة سورية»، ويواصل الادعاء بأن كل ما تفعله إيران ونظام الأسد يهدف الى مواجهة مخططات إسرائيل والولايات المتحدة. وقد اتهم الأسد أميركا بالعمل على تقسيم سورية لضمان أمن إسرائيل وتطويق النفوذ الإيراني، وحجّته في ذلك أن أميركا تدعم الجماعات الإرهابية والتنظيمات الكردية الانفصالية وتعطّل مساعي الحل السياسي. لا يمكن تبرئة الأميركيين من هذه الاتهامات، لكنها تنطبق أيضاً وحرفياً على نظام الأسد، بما فيها خدمة إسرائيل التي لم يكفّ عن مغازلتها. غير أن الواقع الذي أفضت إليه الأزمة يفيد بأن جميع المتدخلين في سورية (الروس والأميركيين، الإيرانيين والإسرائيليين والأتراك) باتوا أطرافاً متنافسة تتحيّن الظروف وصولاً الى محاصصات تضمن مصالحها، ويصعب تحصيل هذه المصالح في سورية واحدة. ولا يُستثنى من ذلك سوى الجانب العربي الذي لم تكن له في أي مرحلة نيات أو مخططات تقسيمية خدمةً لنفوذٍ أو مصالح. أما النظام نفسه فقد جعل من نفسه أحد هؤلاء المتدخّلين، لأن ممارساته لم تعبّر يوماً عن حرص على سورية وشعبها. وما دام الأميركيون يعملون للتقسيم، كما يقول الأسد، فهل أن رفضهم الدائم إطاحته جزءٌ من المخطط؟
كل ما فعله الأسد ونظامه وإيرانيّوه من تخريب اجتماعي وعمراني واقتصادي في سورية، كان بهدف التهرّب من أي مشاركة أو «إصلاح» سياسيَّين ينهيان عملياً حكم العائلة - الطائفة المتخفّي وراء غلاف واهٍ وفّره حزب البعث «العلماني» (؟). كان الأهم في دمشق وطهران أن يبقى نظام الأسد لا أن تبقى سورية، لذلك اختُرعت «المؤامرة الكونية» لتسويغ القمع الوحشي واستدراج البلد الى حرب أهلية، ولما لم تُهزم «المؤامرة» لجأ الأسد والإيرانيون الى حيلة الإرهاب للتشهير دولياً بالمعارضة سعياً الى سيناريو «حرب كونية» ظهر بعض معالمها منذ التدخّل الروسي، لكن بقي هدفها البحث عن تسويات دولية - إقليمية سعياً الى تقاسم سورية.
يعرف الروس والإيرانيون أن بقاء الأسد لم يعد عنواناً لبقاء الدولة بل بات مجرّد وسيلة لـ «تشريع» أدوارهم واحتلالاتهم، واستطراداً لم يعد نظامه قادراً على الحكم أو جديراً به إلا بوجودهم الدائم في سورية والحفاظ على الأسد صورةً وواجهةً لما يقررونه. لكن تحصين احتلالاتهم يحتاج الى بلورة التقسيم في تسوية دولية - إقليمية، وهم يستخدمون معركة حلب كبداية ضغط على الإدارة الأميركية المقبلة للتعجيل بتلك التسوية. وفي الانتظار، قد يعملون على «عملية سياسية» ولو ملفّقة بمشاركة بعض «المعارضات» الصُورية التي ساهموا في تصنيعها لإعادة إنتاج النظام السابق مع بعض التعديلات.
عندما يُبلغ وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعض قادة المعارضة السورية، وهو يكاد يجهش بالبكاء، أنه «محبط» لأن دعواته لاستخدام القوة ضد هذا النظام السوري لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط في الإدارة الأميركية يؤيدون هذا الخيار، فكأن هذه دعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمواصلة تحدي الولايات المتحدة، واستكمال السيطرة على سوريا كلها بعد القضاء على المعارضين السوريين، الذين نصحهم هذا المشرف على الملف السوري من الجانب الأميركي، بأن يقبلوا بالمشاركة في انتخابات رئاسية وتشريعية بوجود بشار الأسد!
وعندما ينصح مسؤولون كبار في «الكونغرس» الأميركي، من الحزب الجمهوري المعارض، بعض كبار رموز المعارضة السورية بأن يتجنبوا إبرام أي اتفاق حلٍّ لأزمة سوريا في هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنه سيكون بمثابة إملاءات روسية، نظرًا لأن موقف الرئيس باراك أوباما من هذه الأزمة سيزداد سوءًا، ولأن الروس قد كشفوا كل أوراقه، وأدركوا أنهم يستطيعون فعل ما يشاءون، ليس في هذا البلد وحده، وإنما في المنطقة كلها! وهنا، فإن المعروف أنه قد جرت العادة أن تصبح الإدارة الأميركية، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، بمثابة «بطة عرجاء»، لكن تجربة الأربع سنوات الأخيرة من عهد هذه الإدارة أثبتت أنَّ باراك أوباما أصبح هذه «البطة العرجاء» مبكرًا، عندما تراجع عن تلك الضربة العسكرية ضد نظام بشار الأسد بعد مشكلة الأسلحة الكيماوية والغازات السامة.
ما كان من الممكن أن تصل الجرأة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل في سوريا، لو لم يتأكد من أن الإدارة الأميركية قد أصبحت «بطة عرجاء» بالفعل، وأن رئيسها ليس صاحب أي قرار «استراتيجي»، وأنه بالإمكان أن يفعل الروس ما يشاءون في هذه المنطقة الحيوية، بالاعتماد على ميوعة الأميركيين في عهد هذه الإدارة التي اعترف قبطان سفينة سياساتها الخارجية بأنه أصبح «محبطًا»، لأن رغبته في استخدام القوة ضد نظام بشار الأسد أو التلويح بها لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط من بين رموز هذه الإدارة قد استجابوا لهذه الدعوة.
وهكذا فإن تعاطي إدارة أوباما «الانكفائي» مع الأزمة السورية قد أوجد فراغًا ملأته، على عجل ودون أي تأخير، روسيا الاتحادية، ثم إنه من المعروف أن «إسراع» هذا الرئيس الأميركي بسحب القوات الأميركية من العراق قد أوجد فراغًا مبكرًا بادر الإيرانيون إلى ملئه عسكريًا وسياسيًا وعلى كل المستويات، وذلك إلى حدِّ أنهم باتوا يحتلون هذه الدولة العربية الرئيسية احتلالاً كاملاً، وعلى ما هي الأمور عليه الآن، وحيث تواطأ «هؤلاء» مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لتسليم مدينة الموصل ومنطقة الأنبار كلها لتنظيم داعش الإرهابي، الذي تجري الآن كل هذه الاستعدادات التي يقودها ويشرف عليها الأميركيون للقضاء عليه واقتلاعه من كل مناطق بلاد الرافدين، وربما من سوريا في فترة لاحقة.
إن هذا كله ومعه رداءة وميوعة السياسة التي تعاطى بها باراك أوباما مع هذه الأزمة السورية التي غدت مستفحلة، ومعه أيضًا تردد بعض الداعمين في تقديم إسناد فعال، خصوصًا بالأسلحة المتطورة للمعارضة السورية التي كانت قد نبتت في الصخر، كما يقال، نظرًا لخضوع سوريا لنظام من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في العالم كله ولنحو أكثر من أربعين عامًا، قد شجع فلاديمير بوتين على المزيد من التمادي، وإلى حدِّ أن «الكرملين» قد هدّد بأنَّ استهداف الأميركيين لنظام بشار الأسد سيؤدي إلى زلازل مدمرة في هذه المنطقة «الشرق أوسطية» كلها.
وبالإضافة إلى أن سوريا قد أصبحت عمليًا ملحقة بروسيا الاتحادية، وأصبح قرارها في قاعدة «حميميم»، وليس في دمشق، فإنَّ ميوعة السياسة الأميركية قد شجعت «ستالين» الجديد، فلاديمير بوتين، على التمادي في استهداف تركيا وتنشيط إرهاب حزب العمال الكردستاني - التركي (p.k.k) ضدها، مما اضطر الرئيس رجب طيب إردوغان بعد ضربة مطار مصطفى كمال أتاتورك، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي يتهم فتح الله غولن بأنه هو الذي رتبها من مقره في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، إلى الاعتذار لموسكو عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة المعروفة وفتح صفحة جديدة مع موسكو، ولكن مع التأكيد مرارًا وتكرارًا وعلى لسان رئيس وزرائه بأن موقف بلاده من الأزمة السورية لا يزال على ما هو عليه ولم يتغير.
في كل الأحوال لقد اتضح أن فلاديمير بوتين، هذا «الستاليني» المغامر قد شجعه التردد الأميركي في سوريا، وشجعه تردد باراك أوباما بعد السيطرة على هذا البلد العربي المحوري والاستراتيجي، على التطلع بعيدًا، والسعي لاستعادة مكانة الاتحاد السوفياتي الإقليمية والدولية، عندما كان في ذروة قوته وتألقه بدءًا بتسوية الأوضاع في أوكرانيا وبالطبع في جزيرة القرم وبجمهوريات البلطيق، وكل هذا وبالطريقة السوفياتية المعروفة، حيث قد تم قمع الجيش الأحمر لانتفاضة المجر عام 1956، وكان ربيع براغ في عام 1968، وكان غزو أفغانستان غير الموفق في عهد حفيظ الله أمين في عام 1979.. وكان حضور موسكو المؤثر الدائم في كل الأزمات الدولية، ومن بينها أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، التي كادت تؤدي إلى حرب عالمية جديدة لولا تراجع نيكيتا خروتشوف وإدوارد كينيدي في اللحظة الأخيرة.
وهكذا.. ويقينًا أنه إذا نجح فلاديمير بوتين في سوريا كما نجح في غروزني وباتباع الأسلوب الوحشي - التدميري الذي اتبعه في الشيشان، وفي هذه الدولة العربية، فإنه سينتقل إلى أوكرانيا.. وبعدها إلى بعض دول أوروبا الشرقية التي أصبحت «مضيفةً» لصواريخ حلف شمال الأطلسي الموجهة إلى كل المواقع والمناطق الاستراتيجية الحساسة في روسيا الاتحادية، وهنا فإن المعروف أن زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، كان قد قال عندما أطلق المسيرة التاريخية: «إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة».. وهذا يعني أن نجاح بوتين في هذا البلد العربي قد يكون هو الخطوة التي ستأخذه إلى استعادة ما خسره الروس بعد فشل التجربة الماركسية - اللينينية وانهيار أول تجربة سوفياتية. لقد شجَّعَت مراهنة الأميركيين على الروس، الذين من المفترض أنهم منافسوهم وبالتالي أعداؤهم، أكثر من مراهنتهم على أصدقائهم وفي مقدمتهم تركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي، على سعي هؤلاء الأصدقاء إلى التقارب مع موسكو، وإلى غض النظر عن بعض نزوات فلاديمير بوتين العسكرية والسياسية، ولذلك فإنه غير مستبعد، إن لم تغير وتصحح الإدارة الأميركية الجديدة توجهات الولايات المتحدة الدولية، أن يأتي يوم قريب ليرى العالم الاتحاد السوفياتي في حلته الجديدة في صوفيا ووارسو وبلغراد وزغرب.. وأيضًا في بودابست.
في مطلع السبعينات، أعلن الرئيس الأميركي بوش انتهاء الحرب الباردة وزوال منطق القطبين العالميين، وبالتالي بداية النظام العالمي الجديد الأحادي القطب وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية. هذا «النصر الأميركي» رافقته مرارة روسية ناجمة عن تفكك دول المعسكر الاشتراكي وذهاب كل دولة من دوله نحو استقلاليتها، وخروج مهين ومذل من أفغانستان بعد أن تمكن الأميركيون من دعم مقاومة للوجود الروسي تسببت له بخسائر جسيمة وشكلت أحد عناصر انهيار المنظومة. أمعنت السياسة الأميركية في إذلال الروس عالمياً، وإظهار هشاشة موقع روسيا العالمي. ذلك كله أتى في سياق فوضى سياسية وشبه انهيار اقتصادي داخل روسيا، زاد من ضعف موقعها العالمي. هكذا بدت روسيا في موقع المنهزم سياسياً وعسكرياً ودولياً، وهو شعور كان من الطبيعي أن يولد مرارة للنخب الروسية التي كانت منتشية عظمة على امتداد نصف قرن من الزمان، كأن روسيا قد استنسخت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وتوقيعها صلح فرساي المذل آنذاك.
بعد استقرار نسبي داخلي وإعادة التماسك والحد من الفوضى، ومع بداية عهد فلاديمير بوتين المستمر منذ أكثر من عقدين، وقبل أن تتاح لروسيا فرصة اختبار قوتها في سورية، سعت القيادة الروسية الى استعادة الهيبة والنفوذ في العالم، من خلال الانخراط في تحالفات جديدة والانفتاح على قوى دولية خارج هيمنة الولايات المتحدة الأميركية. بدت القيادة الروسية كأنها محكومة بـ»عقدة نقص» تجاه موقع روسيا ودورها في العالم، كما اتسم سلوك القيادة بمنحى انتقامي مما أصاب الدولة العظمى، ومن هزيمة أفغانستان. افتعلت بعض المشاكل الدولية من قبيل إثبات الوجود والقول نحن هنا، وذلك في أوكرانيا عبر استعادة جزيرة القرم. يومها، لاح لكثيرين أن العالم على شفير حرب عالمية جديدة، لكن الخطوط الحمراء الأميركية وضعت حداً للاندفاعة الروسية. إلا أن بوتين ظل محكوماً بعقدة القيصر بطرس الأكبر، يريد استعادة الدور الروسي المؤثر بأي ثمن وفي أي مكان. وكان الشرق الأوسط فرصة مناسبة أدخلته مجدداً الى المنطقة ومنها الى العالم.
أدرك بوتين أن الولايات المتحدة تمارس سياسة انكفاء أو تردد في التدخل في شؤون الشرق الأوسط وفي الحروب الأهلية الدائرة فيه. كما كان متأكداً أن انغماس روسيا في هذه الحروب الأهلية، خصوصاً في سورية، لن يؤدي الى انزلاق نحو أخطار صدام روسي - أميركي كما لاح في أوكرانيا. ولأن روسيا لم تكن بعيدة من الشرق الأوسط تاريخياً، وفي سورية بخاصة، فإن الرئيس الروسي وجد التدخل في الحرب الأهلية السورية تحت عنوان القضاء على الإرهاب وعدم إسقاط الأسد، فرصة لإعادة إثبات الوجود والنفوذ السوريين. هكذا رأى بوتين أن الأوان قد حان لرسم معالم نظام دولي جديد تحتل فيه روسيا موقعاً موازياً لما تحتله الولايات المتحدة. وقد أظهرت الديبلوماسية الروسية كل الصلف والتعنت في مواجهة الرأي العام الدولي حماية للنظام السوري وإرهابه.
لكن هذا النظام الدولي الجديد الذي سهلته أميركا بتراجعها عن المنطقة، يرسمه بوتين بالدم والنار التي تلتهم جثث الشعب السوري. يريد نصراً سريعاً ومجانياً في سورية، ويدرك أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه تكون باستعادة أسلوب قمع انتفاضة الشيشان من خلال تدمير مدينة غروزني وتسويتها بالأرض. ولأنه لا يجد من يردعه، فهو ممعن في التدمير الممنهج لمدينة حلب وسائر المدن السورية، وقد يتحقق له ما يريد إذا لم تتدخل قوى، في شكل أو في آخر، تحد من اندفاعته الحالية. فهل يتحقق لبوتين حلمه في إيجاد هذا التوازن المرغوب مع الولايات المتحدة؟ سؤال تحوط به أكثر من علامة تشكيك، كلها برسم المستقبل.
أبلغنا الوزير سيرغي لافروف رأيه الثمين أنه من الأسهل الخروج من أزمة لبنان بعد التسوية في سورية. إذا كانت هذه هديته لضيفه اللبناني الرئيس سعد الحريري فنحن نشكره على هذه الهدية. فهي بالفعل توضح استراتيجية روسيا لكل من سورية ولبنان. وسط القصف الوحشي والعنيف الروسي لدعم قصف قوات بشار الأسد على الشعب السوري، السيد لافروف يتحدث عن تسوية في سورية.
أي تسوية هذه التي دمرت بلداً وقتلت مئات الألوف وشردت ملايين من هذا الشعب وهجرتهم وحولتهم الى اللجوء. إن لافروف ومعلمه بوتين يعولان على البقاء في سورية مع بشار الأسد خادماً لروسيا ولمصالحها في المنطقة. فلا يهم بوتين قصف المستشفيات وقتل الأطباء والجراحين والشعب الباسل لأن الوحش الروسي رأى طريقاً سريعاً مفتوحاً أمامه من إدارة أميركية متخاذلة وضعيفة قادها باراك أوباما الذي يعتز بأنه حاصل على نوبل للسلام، في حين أنه ساهم بموقفه المتراجع أمام روسيا بخراب ودمار سورية.
فاليوم سمع الرئيس الحريري الذي يزور روسيا من الثعلب الروسي أن الأزمة في لبنان أسهل حلها بعد التسوية في سورية. نجدد شكرنا لاستراتيجية روسية - إيرانية بالشراكة مع «حزب الله» لتكريس بقاء روسيا في سورية مع الأسد خادماً لمصالحها و «حزب الله» مهيمناً في لبنان عبر فرض مثالثة جديدة والتخلص من اتفاق الطائف. وهذه الاستراتيجية هي التي تبرر تعطيل «حزب الله» للانتخابات الرئاسية للمرشحين الأساسيين العماد ميشال عون والوزير سليمان فرنجية.
إن كل ما يجرى على الأرض في سورية - والأزمة السياسية في لبنان - ينبغي أن يمثل تنبيهاً للأفرقاء المسيحيين المرتبطين بحلف سياسي مع «حزب الله» من أن الأخير لا يريد رئيساً في لبنان إلا بعد الحصول على المثالثة. فالحزب يراهن على تحسين شروط موافقته على انتخاب رئيس مسيحي عندما تتم التسوية الروسية في سورية بالشروط الروسية.
لكن في الحروب ثمة مفاجآت وليست دائماً مراهنات الوحوش هي المنتصرة. فهل راهن يوماً «حزب الله» على أن يقتل عنصره العسكري الأساسي عماد مغنية. وأمثاله عديدون. فحزب الله يزداد يوماً بعد يوم غطرسة وجنوناً في سعيه الى الهيمنة ولكن قد تصبح الجبهة السورية مستنقعاً لشبابه إن لم يحصل ذلك بعد.
إن القيادات المسيحية في لبنان التي راهنت على الحلف السوري - الإيراني- «الحزب الإلهي» أخطأت في التحالف مع هذا الحزب الذي يقاتل شعباً شقيقاً ويساهم في قتل الأبرياء لإبقاء رئيس يقتل مدنييه بعد الاغتيالات التي نفذها وكلاؤه في لبنان. خصوصاً أنه حلف لم يوصل أحدهم الى الرئاسة. مسيحيو لبنان لم يتعلموا لسوء الحظ من تاريخ المنطقة. فما زالوا يراهنون على تحالف يودي بهم الى الهاوية كما حصل في عهد الأسد الأب واستمر مع الابن. فالأب كان قد دخل لبنان بادعاء إنقاذ المسيحيين، لكنه سرعان ما عمل على انقسامهم عبر المجازر والقتل.
والآن الابن منشغل بقتل أبناء بلده، فيتولى «حزب الله» العنصر القوي في لبنان العمل على تقسيمهم فيضع عون في وجه فرنجية. إنها لعبة سياسية شهدها تاريخ لبنان مراراً والمسيحيون لم يتعلموا الدرس لسوء حظ، البلد الذي لا خلاص له من دونهم لأن أساس انتعاش لبنان هو الوجود المسيحي فيه. إن الرهان الروسي على بقاء بشار الأسد، مع تسوية على هذا الأساس وخروج لبنان من أزمته في مثل هذه الحالة، قد يواجه عقبات وعراقيل لأن الشرق الأوسط معقد وكل الأمور لا تسير مثلما تريده القيادات الوحشية الفاسدة. والتسوية في سورية بالشروط الروسية قد تكون مستنقعاً كارثياً للقوات الروسية. والمضحك المبكي تصريحات الناطقة باسم الأسد بثينة شعبان التي تقول في مقابلة مع إحدى وسائل إعلام الغرب أن سورية لم تسمح يوماً لقوة خارجية بالتدخل في شؤونها!
... يقولها باراك أوباما بعدما نعَت واشنطن محاولات إحياء هدنة في المدينة المحاصرة بجهنّم الغارات الروسية، وصواريخ النظام السوري وبراميله... وأنياب الجوع والمرض.
يقول الرئيس الأميركي في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، وداعاً حلب، وداعاً لـ «إزعاجات» المفاوضات العسيرة مع «الشريك» الروسي الذي يطلب المستحيل: فصل مناطق «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً) عن خطوط المعارضة المعتدلة، يتيح للروس إبادة مسلّحي الجبهة، ويتفرّغ النظام السوري للاستفراد بمقاتلي المعارضة وسحقهم. هكذا، في السيناريو المفضّل لدى الكرملين «تعود الأوضاع إلى طبيعتها في سورية».
وأما الـ400 ألف قتيل، فهم لدى موسكو والنظام السوري مجرد فائض... دماء.
يظن القيصر فلاديمير بوتين أنه ردّ الصاع صاعين إلى البطة الكسيحة، أوباما الذي سيسجّل التاريخ أن أبرز إنجاز له حيال المذبحة السورية، هو تدريب بضع عشرات من المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، وتركهم بلا غطاء جوي، لتصطادهم طائرات السوخوي والبراميل المتفجّرة. وسيسجّل التاريخ أن إدارة أوباما منعت تزويد المعارضة السورية صواريخ مضادة للطائرات، كي تبقى للنظام حرية التحرُّك والتفوُّق جواً، وتبقى للروس حرية اختيار المناطق التي يختبرون فيها أسلحتهم، وبعضها يكرّس جرائم حرب يومياً، فيما الغرب يُصعِّد إلى أقصى «الممكن» مع الكرملين، فيندّد بالوحشية.
يظن بوتين أنه ردّ الصّاعَ صاعين إلى الإدارة الأميركية، واختار توقيت نعي التفاهم السياسي لإحياء الهدنة السورية، من أجل تجميد اتفاق أميركي- روسي لشطب فائض البلوتونيوم المستخدم في إنتاج أسلحة نووية، لدى روسيا والولايات المتحدة. استعار القيصر لغة واشنطن التي باتت «تهديداً استراتيجياً للاستقرار»، فحانت فرصة الانتقام من التشهير الأميركي بالأهداف الروسية في سورية، ومن العقوبات الأميركية- الغربية (الملف الأوكراني).
والوجه الآخر لقرار بوتين الذي يودّع به «شريكاً» مشاكساً في الحرب السورية، أنه يبرّئه من شبهات كثيرة بالتواطؤ مع موسكو، عبر إطلاق يدها مفوّضاً سامياً لإدارة الحرب. لكنه حتماً لن يبرّئه من دماء 400 ألف سوري، إذ سهّل عجز أوباما لأطراف معروفين الاستماتة لإنقاذ النظام في دمشق وتمديد عمر المذبحة، ومكّن الروس من إدارة جولات إبادة، تحت غطاء «قطع رأس الإرهاب».
البطة الكسيحة التي فضّلت «القوة الناعمة» نهجاً منذ سنوات، بدت أولاً متعفّفة عن متاعب الشرق الأوسط ومصائبه، لكنها، حتى النهاية، ما زالت أسداً مع أطراف عربية حاولت مرات إقناع الأميركيين بأن الوسيلة الوحيدة لإرغام النظام السوري على التفاوض مع معارضيه، هي تسليحهم لتعطيل قدرته على ارتكاب المجازر.
لا واشنطن ولا موسكو أصغتا للحرب، بل إن وقائع 12 شهراً من التدخُّل العسكري الروسي في سورية، سقط خلالها عشرة آلاف ضحية، تثبت تقاطع المصالح الأميركية- الروسية- الإسرائيلية عند منع إطاحة النظام.
وتُظهر وقائع سنة تلت توقيع القوى الكبرى الاتفاق النووي مع إيران، استعداد الغرب للاعتراف بدور لطهران في معالجة أزمات المنطقة العربية وحروبها، أو إدارتها. أي أن شروط المقايضة اكتملت، بين مصالح تجارية اقتصادية غربية، وأدوار إقليمية إيرانية، ستمنح الشرعية لأطماع «الحرس الثوري» على حساب أهل المنطقة المنكوبة بصراعاتها وطموحات «الكبار».
وإن بدا أنّ أسواق التجارة مع إيران «المنفتحة» على العالم، وخطط الإدارات الدولية لبقاع عربية، بذريعة إخماد براكينها، هي ثمن ناجز للصمت على المذبحة السورية، فمأزق انعدام الوزن في معالجة الأزمات الدولية، يثبت معضلتين: انعدام وزن الأمم المتحدة الراعية لحقوق الشعوب وسيادات الدول، وخطف «الفيتو» الروسي لمجلس الأمن.
وأما أنانية الغرب المتعولم، إن كانت تتعملق، فبغياب مفاهيم العدالة الإنسانية، الذي مكّن الجلاد من قتل الضحية مرات، بسيف حرب على الإرهاب، باتت أبدية، مثلما أصبحت دماء العرب تهرق بلا حساب، وأرضهم مباحة للشرق والغرب.
أصل المحنة في عالم القتل الرخيص ومخيمات التشرُّد والسكوت على ذبح الأطفال كل يوم، فراغ وحشي في غياب زعامات دولية عادلة. وأصل محنتنا أن الفكر العربي ما زال مدمناً على دور الرهينة للتاريخ ومذابحه... وعلى دور الضحية.
وداعاً حلب، يقول أوباما، ويودّعه بوتين بحفلة راقصة في قاعدة حميميم الروسية، على الأرض السورية، ترفيهاً للجنود الروس. أمام هؤلاء فصول أخرى من الحرب المجنونة.
تكتسب المحادثات التي أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف في تركيا أهمية مضاعفة، ليس لأنها تأتي على مفترقات حاسمة وتحولات ساخنة في المنطقة فحسب، بل لأنها شكّلت محطة مهمة في سلسلة من المحادثات المنهجية بين بلدين يلعبان دوراً عميقاً ومتماثلاً الى حد بعيد في الأزمة السورية المتفجرة والوضع في العراق، والأهم في محاربة الإرهاب.
ليس خافياً الدور الناجح الذي يلعبه ولي العهد السعودي في قيادته لحملة المناصحة واستئصال الشبكات الإرهابية، لهذا سبق لباراك أوباما أن قال إن وزارة الداخلية السعودية بقيادته نفذت أنجح حملة منهجية ضد "القاعدة" و"داعش" وعلى خلفية هذا الواقع وقياساً بالحرب على الإرهاب في سوريا والعراق، تشكل محادثات الأمير محمد مع رجب طيب اردوغان وبن علي يلديريم، محطة جديدة لرفع مستوى التنسيق بين الرياض وانقرة الى أعلى مراحل القوة، وخصوصاً بعد استدارة تركيا من التغاضي نسبياً عن "داعش" الى الحرب عليه.
ولي العهد أكّد أهمية عامل الأمن لضمان استقرار الدول وتطورها، وان التعاون الأمني بين السعودية وتركيا له أهمية قصوى، لا تصب في أمن وأمان البلدين فحسب، بل في أمن المنطقة واستقرارها واستطراداً في الأمن العالمي. بينما ركز الجانب التركي على ان العلاقات مع السعودية لها مكانتها الخاصة وتستمد قوتها من الروابط التاريخية الثقافية المشتركة، وان للبلدين آراء متطابقة في القضايا الإقليمية وفي مقدمها الأزمة السورية والعلاقات التركية - الخليجية عموماً.
واضح ان العلاقات بين البلدين تمر بمرحلة تراكمية دافئة، بدليل ان المحادثات في تركيا بين الأمير محمد وأردوغان، جاءت بعد أقل من عشرة أيام من لقائهما في الأمم المتحدة، ولأن المنطقة تمر في مرحلة عصيبة. وشدد ولي العهد على ان العلاقات مع أنقرة لها أهمية مفصلية عميقة وتتم على أسس من التعاون الاستراتيجي لمواجهة القضايا الاقليمية والإسلامية.
في ١٤ نيسان الماضي شكّلت زيارة الملك سلمان لتركيا منعطفاً مهماً بعد إنشاء "مجلس التنسيق السعودي - التركي"، وهو ما أدى الى زيادة تعاون البلدين على أكثر من صعيد، اذ أعلن منذ بداية السنة عن أربع مناورات عسكرية مشتركة بينهما. ثم ان زيارة ولي العهد تأتي في سياق ترسيخ التعاون ووضع الأسس لمواجهة التحديات المتصاعدة في دول المنطقة، التي تتعرض لتدخلات متصاعدة في شؤونها الداخلية حيث تعلن إيران صراحة انها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية!
الأمير محمد الذي تصفه شبكة "أم أس أن بي سي" بأنه "جنرال الحرب على الإرهاب"، اعتبر أن من المهم تعميق العلاقات وتقويتها على جميع الصعد، انطلاقاً من الرؤية التي وضعها خادم الحرمين الشريفين والرئيس التركي، وذلك في مواجهة كل التحديات المتصاعدة والسعي الى ترسيخ الأمن في الإقليم.
لا يمكن فصل التصعيد الاعلامي الغير اعتيادي حول سوريا ، بأنه عبارة عن كلام في الهواء اذ أنه يرتبط بتطورات على الأرض قد تمهد لحدوث أمر كبير، و في الوقت ذاته لا يمكن الاعتماد عليه كلياً في رسم خطوط الطريق الذي سيتم السير عليه فب المرحلة القادمة ، اذ أن الأمور تطبخ في مطابخ لا يعلم بها إلا القلة القليلة، بينم يتخذ البقية موضع المتابع أو المراقب و كتوصيف دقيق موثق لما يحدث.
النبرة اختلفت بشكل كبير منذ ١٩ الشهر الجاري ، وهو تاريخ انهيار الهدنة الشكلية أو هدنة حسن النوايا بين أمريكا و روسيا ، و كان هذا التاريخ نقطة تحول جعلت الجميع يلملم حوائجه “السياسية” و يبدء باستلال سيوف الحرب ، وظهور الأمور على الاعلام “العلني” و ليس “السري”، يشي بأن الأمور وصلت حد التمهيد الذي يسبق الاشباك، ووفقاً للعرف السائد في مثل هذه الأمور فإن مدة انطلاق الفعل ، تترواح بين الاسبوع على أقل تقدير و الشهر في أبعد توقع.
ما يميز النبرة المتصاعدة الممهدة لتغيير التوجيهات هو الصخب الاعلامي الذي يحمل عدة روايات و لكنها جميعها تصب باتجاه واحد ألا وهو ، الحاجة إلى “لي ذراع” الأسد كشخص و روسيا كمقصد ، من خلال سلسلة من “الأخطاء” المقصودة ، كما حدث في دير الزور الشهر الفائت ، تفضي إلى زعزعت التركيبة الغير متجانسة بالأصل على الأرض التي تعتبر سلاح روسيا البري ، والذي يضم بعض العصابات التي تتخذ اسم “جيش سوريا” و عشرات الميلشيات التي تختلف باللغة و التركيبة، صحيح أن مرجعيتها تعود لنبع واحد “المرشد ثورة ايران” إلا أن عقول المنفذين مختلفة ، و الأهم أن الروابط بين العصابات و المليشيات ليس بجيد و الخلافات بينهما عميقة، اضافة لعدم ثقة روسيا بالمقاتلين الذين يمهد لهم طيرانها على مدار الساعة، وفق ما كشفه محلل اسرائيلي بالأمس .
ووجدت المخابرات الأمريكية و قيادة الأركان المشتركة ، في استسلام أوباما و فريقه و اعتزالهما الملف السوري ، البوابة الأمثل لاعادة بسط سيطرة بلادهم على أكثر الملفات أهمية في العالم ، وتسريبات “واشنطن بوست” و إن كانت لاتؤخذ كتقرير صحفي ، و إنما هي الرسالة التي تمهد لما هو قادم ، رسالة تم تعزيزها من مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب الذي قال “ لا يحترمون قادة أميركا وقصفهم لسوريا يجب أن يتوقَّف”، و على الصعيد الدولي توقيت ظهور تقرير الأمم المتحدة حول استهداف قافلة المساعادت في ريف حلب في ١٩ من أيلول بأنه بقصف جوي ، هو جزء من الخطة التمهيدية.
ووفقاً للمجريات الآنفة الذكر فإن الرد سيكون في ذات السياق الروسي ، الذي أخذ منحى ضرب الفصائل المعتدلة و انهاكها لحد كبير ، الأمر الذي بات بحاجة لشيء مماثل للأسد و بعض حلفاءه ، من خلال ضربات مركزة على نقاط القوة بغية الوصول إلى انهاك نسبي يفضي لاضطرار الجميع الدخول في التسوية و التهدئة .
أثناء متابعتي لصفحات التواصل الاجتماعي بشكل يومي, أتفاجأ بأنه مازال هناك كلمات وقصائد وحتى أغاني تتكرر عن صمت العرب، كـ أغنية الضمير العربي التي تعود إلى أيام نكبة فلسطين, والشعارات التي يهتفون بها حتى اللحظة كـالشعب العربي وين, الدم العربي وين.
فعادت بي الذاكرة إلى بداية الثورة السورية عام 2011والتي بدأت شرارتها من محافظة درعا حين هب الشعب السوري بكافة أطيافه معلنين بدء ثورتهم ضد الدكتاتورية، ولكن لم يكن بالحسبان المواجهة المسلحة بالرصاص الحي، وضحى العديد من الشبان بأرواحهم لأجل نيل الحرية المطالبين بها، ومتأملين بأن الأمة العربية سوف تدعم ثورتهم. وبالفعل بدأ الدعم في بداية عام2012 ولكن دعمهم أقتصر فقط على الأسلحة، وحيث نزح الملايين من المدنيين العزل ولكن الدول التي دعمت الثورة السورية بالأسلحة فاجأتهم حين لم تستقبل مواطناً سوريا على أراضيها وهنا اقصد دول الخليج وعلى رأسها (السعودية، قطر)، والتزمت دول الجوار كـ (لبنان) ولكن بطريقة قذرة، فمنهم من حرم التعليم ومنهم من عاملهم كـ عبيد وصولاً إلى اغتصاب السوريات وإرغامهن على العبودية الجنسية على سبيل المثال لبنان.
اكتفى العرب بإرسال بطانيات وخيم وتصويرهن بأبشع الطرق والإذلال لكي تحصل الدول المضيفة للاجئين السوريين على بعض الدعم الزائد, وبعدما فقد الشعب السوري الثقة بالدول العربية بدأ يهتف كل جمعة في تظاهراته ياحيف ولله ياحيف على هالأمة العربية.
ومن هنا تشتت العرب السنة في سوريا وانقسموا إلى عدة فصائل معارضة، منها من بايع تنظيم الدولة داعش ومنهم من حمل سلاحه وانضم إلى جبهة النصرة ومنهم من تطوع في صفوف قوات النظام السوري وبقي القليل ضمن الفصيل المعتدل الجيش الحر، وبدأ الاقتتال الأخوي بينهم، والى اللحظة يقتلون بعضهم بالأسلحة التي دعمتهم الدول العربية بها, حيث تأكد أغلب السوريين بانه لا وجود لدولة عربية مساندة لشعب عربي في كل مناطق النزاع كـ فلسطين المحتلة وصولاً إلى العراق وسوريا.
أما الكرد رغم عدم وجود دولة لهم يساندون بعضهم في كل بقاع الأرض, كـ إقليم كوردستان العراق الذي استقبل اكثر من مليوني كردي سوري على أراضيه متمتعين بكافة حقوقهم رغم صغر مساحة أراضيها, وأيضاً دعمت وحدات حماية الشعب في معركة كوباني عام 2014 حين قام مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية داعش بشن هجوما واسعا على مدينة كوباني، حيث قام رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني بتقديم تنازلات لـ أنقرة للسماح بمرور شحنات مساعدات عبر الأراضي التركية إلى كوباني وإرسال عدداً من قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان العراق , ولم يقتصر الأمر على إقليم كوردستان وحسب، حيث هب الكرد من جميع المدن والبلدات في تركيا والعراق وسوريا وحتى إيران دعماً لمعركة كوباني, أما الدول العربية لم ترسل كيساً من مادة الطحين إلى الغوطة، وداريا, ومضايا, الذين مات العديد منهم جوعاً بسبب الحصار المفروض عليهم (فقط لانهم عرب سنة).
والطائفة المسيحية توحدت أيضاً في عهد النزاع في سوريا كما حصل بعام 2015 حين أختطف مسلحي تنظيم الدولة داعش 240 أشوريا من بلدة تل تمر غرب الحسكة شمال سوريا، لم يهدأ المسيحين حول العالم وكثفوا جهودهم لإطلاق سراح أخوتهم المختطفين وتكللت محاولاتهم بالنجاح بعد دفع الملايين كجزية عنهم، وهذا في حين لازال آلاف العرب السوريين محتجزين لدى النظام والتنظيم في سوريا ويمارس بهم اقسى وسائل التعذيب كـ الحرق, والغليان, والتفجير, والذبح, والجوع, ولم يتدخل أحد إلى الآن لإطلاق سراح المعتقلين العرب السنة.
وبعد 6سنوات من الثورة السورية لم يفلح العرب السوريين إلا بتقسيم أنفسهم إلى عدت فصائل متطرفة ومتشددة ومنها المعتدلة وهم قتلوا بعضهم البعض، ومازال العرب يعبدون شعار أمة عربية واحدة.