مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٢ أكتوبر ٢٠١٦
أسئلة عن الائتلاف والمعارضة السوريين...

كتبت سميرة المسالمة (إحدى ثلاثة نواب لرئيس الائتلاف السوري المعارض) مؤخراً مقالات عدة في الحياة»، تمحورت كلها حول فكرة «نقد المعارضة السياسية»، وآخرها (30 أيلول - سبتمبر الماضي) كان بعنوان «إصلاح الائتلاف الوطني وخياراته».
فهل فعلاً تحاول السيدة المسالمة أن توصل أفكارها للائتلاف عبر المقالات، أم انها تساؤلاتها التي شاركت فيها الائتلاف وكانت الصحافة الخيار لإظهارها للعلن، أم أنها تتوجه إلى الشعب السوري الغائب عن سياسات وإستراتيجيات ونشاطات وأفكار الائتلاف لخمس سنين هي عمر هذا الكيان «المعارض»؟
من الجيد أن تعترف المسالمة بأنه «علينا الاعتراف بأن هذا الكيان لم ينجح في المهمات التي قام من أجلها... إذ لم يستطع ترسيخ مكانته في أوساط السوريين في الداخل أو الخارج»، فهل لنا أن نسألها: كيف ومتى توصلت إلى نتيجة خطيرة كهذه، وإن كانت اقتنعت كنائب لرئيس الائتلاف بأن هذا الكيان لم يرسخ مكانته لدى السوريين، فهل يأتي التصرف الطبيعي أو المنطقي على شكل مقال صحافي (على رغم أهميته)؟ ألم يستحق السوريون «بعد كل ذلك الموت» وقفة كهذه في وقت أبكر، أم أن الوقت اليوم مناسب لكل الاعترافات لأن الدول العظمى والصديقة سحبت اعترافها بهذا الائتلاف الذي تشغل فيه المسالمة منصب نائب رئيسه، وأصبح اسماً لبناء سقطت أعمدته منذ وقت طويل وبقي الهيكل الخارجي فقط؟
كصحافية سورية علي أن أحترم قول المسالمة إنها تعلم بتأخر الدعوات إلى الإصلاح، وأن تنبيهها إلى أن «تشكيلة الائتلاف الحالية أكبر عائق أمام تطوّره أو إصلاحه، لأن الأشخاص المنوط بهم الإصلاح بعضهم مسؤول عن تردّي واقعه وتآكل مكانته وضعف فاعليته، خصوصاً أن بعضهم يستغل هذه الدعوات لطرح صيغ جديدة للائتلاف تتناسب مع مقاساته الشخصية»، وإن كنت آخذ الكلام السابق بكثير من الجدية كصحافية، فإنني كمواطنة سورية لا أنتظر من الائتلاف بأعضائه وتشكيلاته أفضل مما تكلمت عنه المسالمة، وإن كان الائتلاف عائقاً أمام الائتلاف فهل من مبرر لوجوده؟.
لا نية لدي بأن أنتقص من أهمية كلام المسالمة حول مشاكل الائتلاف والمعارضة، لكنني في الوقت ذاته أتساءل عن نتيجة المقالات الثلاثة السابقة للمقال الأخير، والذي تحدثت في أوله (الحياة 27 حزيران - يونيو)، وكان بعنوان «عن أخطاء المعارضة السورية»، عن «علاقات التبعية أو الارتهان لهذا النظام او ذاك».
وسؤالي: ألا يجدر بالمسالمة أو بالائتلاف أن يخرجا علينا بعد مقال كذاك ببعض النتائج، هل من المعقول أن لا يتم أي نقاش حول ما جاء فيه. وإن كنا كصحافيين سوريين اعتدنا على تجاهل الائتلاف لكل ما نكتبه من انتقاد أو تساؤلات حول أخطائه، فإنني توقعت أو ربما «أملت» بأن يؤخذ كلام نائب الائتلاف على محمل الجد، وأن نعرف كسوريين، ما رأي أعضاء الائتلاف بالمقال. أما مع حالة تجاهله، فإنني أستغرب أن لا تتجاوز رد فعلها كتابة مقال تلو المقال.
في مادتها الثانية (الحياة، 22 تموز - يوليو) بعنوان «المعارضة السورية في حاجة إلى علاج نقاط ضعفها»، وصلت المسالمة إلى الخلاصة التي «بُح» صوت السوريين وهم يصرخون بها في الصحافة وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، فكتبت: «يأتي هذا الحديث بعد أكثر من خمسة أعوام على نشوء هيئات المعارضة ... كان يفترض أنها أتاحت للمعارضة مراجعة طريقها ومفاهيمها، وليس البقاء عليها، وإعادة إنتاج أخطائها وقصورها...».
وثمة أمر آخر في غاية الأهمية تكلمت عنه المسالمة يومها وهو تصريحها بأن الائتلاف لم يكن منفتحاً على مجمل القوى والشخصيات الوطنية الفاعلة في المجتمع السوري في الداخل والخارج، وأشارت إلى «مئات من الناشطين الذين يمتلكون خبرات حزبية معارضة سابقة، ومعارف سياسية، ولديهم تاريخ نضالي مشرف، ما زالوا لا يجدون طريقاً، أو إطاراً، تفرزه المعارضة كي يعبروا من خلاله عن أنفسهم». ولعله كان من الأجدر أن تتكلم عن سبب غياب أولئك، وعن الوساطات في الائتلاف والتحزبات، وأن تذكرهم بالاسم، إذ جميعنا يعرف أن الائتلاف تحول، بعد تكوينه بفترة بسيطة، ليصبح كانتوناً يضم مافيات تتعاون مع بعضها، وتتآمر على بعضها بعضاً.
كصحافية سورية ربما يحق لي أن أسأل نائب رئيس الائتلاف، وليس الصحافية سميرة المسالمة: لماذا بقيتِ في الائتلاف كل ذلك الوقت، ولماذا لم نسمع منها كسوريين مكاشفة حقيقية عما حدث ويحدث في الائتلاف، وماذا عن «مظاهر الانفلاش والمزاجية والفردية وغياب روح الفريق وتفشي العلاقات الكيدية» التي ذكرتها، أم أن الموضوع انتهى مع وضع النقطة الأخيرة في الجملة الأخيرة من كل مقال صحافي؟
إن الثورة تفترض اتفاق الملايين على المطالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية، والاختلاف في كل التفاصيل الأخرى، وهنا تبرز الحاجة لمن ينظم هذه التحركات ويركز جهودها، ولكن ما حدث في سورية لم يسر بهذا الشكل، إذ تشكلت هيئات معارضة تحت اسماء بدأت بالمجلس الوطني ثم الائتلاف بالإضافة إلى هيئة التفاوض، وكلها تعاملت مع السوريين على طريقة النظام: تجاهل الناس، الإصرار على الخطأ، غياب الاعتراف والنقد، التعامي عما يحدث على الأرض...، ما جعل الشارع يسبق المعارضة السياسية، وبالتالي يقود المعارضة وليس العكس.
لا أوافق سميرة المسالمة الرأي بأن الأخطاء التي حدثت وتحدث باسم السوريين ضمن الائتلاف عبارة عن أخطاء فردية، ولكن بالتأكيد سأشكرها لأنها خرقـت قـاعدة «اعميل حالك ميت» التي ينتهجها الائتلاف وبقية كيانات المعارضة في ما يخص النقد الذاتي، وما أتمناه فعلاً أن تكون مقالات المسالمة بداية للمكاشفة السورية السورية، ولنقاش جدي على أمل بإحداث تغييرات في سلوك المعارضة وطريقة تفكيرها، والذي يبدو أنه حتى اليوم لا يزال قيد التمني.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
لماذا تحدث بوتين عن "الدمار الاقتصادي"؟

منذ الرابع من تشرين الأول ٢٠١١ الى اليوم استعملت روسيا الفيتو في مجلس الأمن خمس مرات لحماية بشار الأسد، المرة الأخيرة حملت مدلولاً خطيراً، اولاً لأنها أكّدت التمسك بالمضي في تدمير حلب ولهذا أسقطت موسكو بحق النقض مشروع القرار الفرنسي الإسباني، الذي يدعو الى وقف الغارات، وثانياً لأنها كشفت ان فلاديمير بوتين متمسك بالحل العسكري منذ البداية، يوم أرسل قواته الى سوريا معلناً ان كل معارض للأسد هو إرهابي!

سيرغي لافروف يبالغ كثيراً عندما يتّهم اميركا بالوقوع في هوس الخوف العدواني من روسيا، لأن التهديد الأميركي بالذهاب الى بدائل من الديبلوماسية في سوريا، لا يعني ان صواريخ كروز ستتساقط غداً على النظام السوري، على الأقل لأن مركزية القرار في واشنطن مكبلة تماماً وهي الآن في مرحلة السبات الإنتخابي قبل شهر من موعد الإنتخابات في الثامن من الشهر المقبل!

ولأن لافروف يعرف كل هذا فإنه يتعمّد التضخيم، لكي يُظِهر في النهاية ان التهديد الأميركي مجرد فقاعات كلامية لا معنى لها، وهو طبعاً ما سينعكس سلباً على صورة أميركا وصدقيتها المتراجعة على صعيد السياسة الخارجية، وخصوصاً لدى حلفائها الخليجيين وفي المنطقة العربية.

يصف لافروف الموقف الأميركي بأنه "ليس هوساً بلاغياً تجاه روسيا وإنما خطوات عدوانية تضر فعلاً بمصالحنا القومية وتمثل تهديداً لأمننا". لكن التدقيق في خلفيات البيانات الأميركية منذ انهيار هدنة حلب وإنخراط روسيا والنظام في عملية تدمير منهجية للمدينة ستجعلها في النهاية ستالينغراد العصر، لا يمكن ان يجد هوساً في كل الإنشائيات الأميركية.

ثم لست أدري اين وجد لافروف تلك الخطوات العدوانية الأميركية، التي تضرّ بمصالح روسيا القومية وتمثّل تهديداً لأمنها، خصوصاً انه في نهاية حديثه يقول إنه مقتنع بأن باراك اوباما لن يوافق على السيناريو العسكري! هل كان كلام لافروف الذي أدلى به الى وكالة الإعلام الروسية، موجهاً الى الداخل لتبرير التصاعد المستمر في الأزمة الإقتصادية المتنامية، خصوصاً ان بوتين أصدر الاسبوع الماضي مرسوماً بتعليق الإتفاق مع أميركا على تقليل إنتاج البلوتونيوم بكميات عسكرية الى ان "حتى توقف واشنطن العقوبات الاقتصادية وتعوّض الدمار الإقتصادي"؟

"الصنداي تايمس" تنقل عن المستشار السابق للكرملين غليب بافلوفسكي أن مطالب بوتين تمثل إشارة الى الضعف ومحاولة لإلقاء كل اللوم على أميركا في مشاكل روسيا الاقتصادية، والحديث عن "الدمار الإقتصادي" يؤكد ان أميركا لن تنجرّ الى عمل عسكري في سوريا، لكنها كما ينخرط بوتين مع الاسد في تدمير مدينة حلب والإصرار على الحل العسكري ويُفشل مشروع القرار الفرنسي لوقف النار في مجلس الأمن، يمكنها ان توسّع مروحة عقوباتها، وسط تصاعد ملامح حرب باردة جديدة يريدها بوتين غطاءً يبرر مصاعبه الاقتصادية!

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
لماذا تعثّر البديل السوري روسياً؟

في واحدة من زيارات المعارضة السورية إلى موسكو، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يسأل من يقابلهم: هل لديكم علاقة مع الجيش والأمن تمكّنكم من ضمان ولائهما لكم؟ وهل يمكنكم إدارة البلاد بطرق منظمة وشرعية، إذا قرّرنا التخلي عن الأسد؟ هل لديكم، في المقابل، "مونة" على الجيش الحر ومقاتلي التنظيمات المتطرّفة تمكّنكم من إقناعهم بِ، أو إرغامهم على، احترام نظامكم الجديد، واستعادة الأوضاع الطبيعية في البلاد، وحماية جميع مكونات شعبكم، وصيانة مؤسسات الدولة ورعاية المجتمع، وحماية جيرانكم والعالم من فلتان القوى المسلحة المتناقضة والمتصارعة التي، إن تصارعت على السلطة، انخرطت في صراعٍ سينتج حالات عنفٍ قد تجدّد الحرب في سورية، وتفجّرها في البلدان المجاورة ثم في العالم، إذا ما رجحت كفة التنظيمات المتطرّفة، ووجد الجوار السوري نفسه مجبراً على العودة من جديد إلى سورية، وتسبّب في مشكلاتٍ يصعب حلها، ستكونون أول من يدفع ثمنها الفادح الذي ستنتجه مصالحها المتناقضة وخلافاتها؟

لم يتوقف لافروف عند الجانب الحقوقي من الحدث السوري، الخاص بشرعية ثورة الحرية وحق الشعب السوري في تقرير نمط نظامه، ولم يكترث لضياع شرعية النظام، ورأى الوضع السوري بعين بلاده وبدلالة مصالحها. لذلك، وبدل أن ينطلق في موقفه من الإقرار بحقوق السوريين، وشرعية ثورتهم، نظر إلى النظام البديل الذي يطالبون به بمنظارٍ يرى مصالح (وصراعات) الدول الكبرى وحدها. لذلك أخبر محادثيه أنهم لن يحافظوا على مؤسسات النظام، في حال وقع التغيير الذي يطلبونه، الأمر الذي ستترتب عليه مشكلاتٌ خطيرة بالنسبة لمن يحتاج إليها، وخصوصاً روسيا التي تواجه تحدياتٍ خطيرة، بينما تمر بمرحلة تحولاتٍ هيكليةٍ تتحدّى استقرارها، وتنقلها من نظام اقتصادي/اجتماعي/سياسي إلى نقيضه، في ظروفٍ تتعثر فيها بناها الجديدة، وتواجه ظروفاً دولية غير ملائمة، ذات نتائج بعيدة المدى، وغير مسيطر عليها، بالنسبة إلى أوضاعها، بما أن من يصنعها هم خصومها الغربيون.

بميلنا إلى رؤية الخارج، بدلالة الطابع الشرعي لثورتنا ووضعنا الذاتي، وميل لافروف إلى رؤية أوضاعنا بدلالة تناقضات وتشابكات تمسّ، في رأيه، بمصالح الخارج عموماً، وروسيا خصوصاً، تحول كل حديث مع لافروف إلى حوار طرشان. يتحدّث عن موضوعين مختلفين أشد الاختلاف. ومع أن بعض المعارضة عرض عليه تعاوناً مفتوحاً يعطي روسيا الحق في استخدام الموانئ السورية، وفي بناء جيشها الوطني الجديد، وإعادة إعمارها، فإن عروضه لم تلق آذاناً صاغية لدى وزير الكرملين الذي كرر دوماً أن مشكلات سورية ستستمر وتتصاعد، في حال انتصرت الثورة، وستمثل تهديداً للوضع الدولي، ولعلاقات بلاده بالدول الغربية، وستنزل بها قدراً كبيراً من الضرر، وستضرّ بقدراتها وعلاقاتها الخارجية، وما تنتهجه من سياسات. كان لافروف يخشى أن تضعف أية خطوةٍ يقوم بها لصالح الثورة مكانة روسيا في سورية، المضمونة بنظام أسدي يخدم مصالحها القومية، عبر محافظته على مؤسساتٍ لعبت دوراً مهماً في بنائها، تخشى موسكو أن يقوّض غيابها قدرتها على استعادة الموقع الذي ستخسره بتخليها عن الأسد، في ظل منافسةٍ شرسةٍ مع أميركا والدول الغربية التي يرجّح أن تحتل مكانتها في دمشق، فليس في وسعها التخلي عن نظامٍ قاتل، لكنه يخدمها، في وضع دوليٍّ ليست موسكو الطرف الذي يضبط توازناته، ويوجه تطوراته، ويرجّح أن تزيده خسارة سورية ضعفاً على ضعف. من جانبها، تقاسمت واشنطن الهموم الروسية، في ما يتصل بقدرة الثورة على تقديم بديل فاعل للأسدية، وبالموقف منها جهةً تضمن مصالح دولية، يرجّح أن تضيع، في حال تسرّع العالم في التخلي عن الأسد، أو مكّن الثورة من إسقاطه.

والنتيجة، وازنت روسيا بين مصالحها وحقوق الشعب السوري، فتمسّكت بالنظام الأسدي، وزاد من دعمها له أن المعارضة لم تقم بأي جهدٍ لكسب جيش النظام وأمنه، أو لاختراقهما، وبناء بديل لهما، إلى جانب إلزام الجيش الحر بخياراتها وقبوله بقيادتها، وإضعافها التنظيمات المتطرّفة وتهميشها، ووضع حد للخلافات التي استهلكت قواها، ودار معظمها حول محاصصاتٍ تتصل بتياراتٍ متناقضةٍ أرادت السيطرة على مؤسستها الرسمية، المعترف دوليا به، مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية التي لعبت انقساماتها وصراعاتها دوراً خطيراً في ما أصابها من شلل وعطالة، وعزلةٍ عن الشعب. بسلبيتها حيال مشكلات الثورة، تعزّزت الهوة بين المعارضة والداخل، وتفاقمت مشكلاتها مع الخارج، وزاد طينها بلةً اعتقادها أن القبول بالحل السياسي ومفاوضات جنيف هما كل المطلوب منها ، وأن القرارات الدولية الخاصة بالحل تعطيها السلطة، وإن كان العالم غير مقتنع بأهليتها، ومؤمناً بعجزها عن نقل سورية إلى نظام بديل، وبأن أي حل سياسي سينقلب إلى مشكلة دولية، وسيطلق صراعاتٍ لا مصلحة لأحد فيها. لذلك ابلغ المعارضين مرات عديدة أن بلاده قرّرت عدم الموافقة عليه، ولتذهب حقوق السوريين وثورتهم إلى الجحيم.

لم تقبل روسيا إغراءات المعارضة الوهمية، وفضّلت التعامل مع النظام، باعتباره حليفاً يجب دعمه ضد معارضيه الذين فشلوا في تحويل أنفسهم إلى بديل له، وانحازوا إلى خصمها الأميركي، وعجزوا عن توحيد الجيش الحر والفصائل العسكرية، وعن إخضاعهما لقيادة سياسية/ ميدانية مشتركة، فلا عجب أن موسكو لم تجد نفسها مجبرةً على تغيير مواقفها وخياراتها منا، وعلى أخذنا بجديةٍ وقبول مطالبنا، وبالتالي، تغيير موقفها من النظام الأسدي، تحت ضغط خطواتٍ تستكمل من خلالها شرعية الثورة الوطنية والديمقراطية القانونية التي سيكون من الصعب عليها تجاهلها، وإلا خسرت مكانتها في بلادنا ومصالحها فيها، بانتقالنا من سياسةٍ تستند على فكرة الحق إلى واقعٍ نتحكّم بمفاصله، ونسيطر عليه، يقنع العالم بقدرتنا على تحقيق مطالبنا، وبأننا الطرف الذي يضمن مصالحه.

بالقطع مع طريقةٍ ألفنا النظر إلى أمورنا من خلالها، غربتنا عن واقعنا، وحالت بيننا وبين القيام بأفعال منسقة ومنظمة، قادرة على ردم الهوة بيننا وبين مجتمعنا، وتصحيح أولوياتنا، فلا يأخذنا تفكيرنا الحقوقي إلى خارج السياسات الدولية وواقعنا في آنٍ معا، ونخرج مما نحن فيه كشكّائين شكاكين، يكتفون بمواقف تنوس بين إدانة العالم وتجريمه وبين شتمه بأشنع الألفاظ، كما نفعل كل يوم.

أدرك الروس عجزنا، فتجاهلوا حقوقنا. وكنا نتوهم أن معسول وعودنا سيقنعهم بتأييدنا، وحين بانت عبثية سلوكنا التي أقنعتنا أننا ما زلنا نتعامل مع الاتحاد السوفييتي، أو مع شيوعيين يؤمنون بحق الشعوب في اختيار نظامها السياسي/ الاجتماعي، وتقرير مصيرها بنفسها، لم نراجع أنفسنا، ربما لأننا لم نفهم أن الدول تسيرها السياسات التي تعود بأقل ضرر على مصالحها، وفاتنا أن العالم أدار ظهره قرناً وربع القرن لحقوق الفلسطينيين ولقراراته الدولية بشأنها، وتوهمنا أن روسيا التي قطعت علاقاتها بالشيوعية صارت حقاً نصيراً للديمقراطية، سيضع حريتنا فوق مصالحه. وحين تبين لنا أنها لن تفعل، قاطعناها وأعلنا العداء لها، بدل أن نرسي حقوقنا على أرضيةٍ ثوريةٍ، لا تترك لها خياراً غير مراجعة موقفها بما يخدم أهدافنا، لأن تحقيقها يخدم مصالحها، بعد أن صار لها أنياب توجع من يتجاهلها.

بدل أن نصحح، نحن في المعارضة السورية، أخطاءنا التي انتقدتها أميركا مراراً وتكراراً، طالبنا الروس بالتخلي عن مصالحهم وتبني مواقف من النظام مطابقة لموقفنا، وحين رفضوها، توطّدت ورطتنا التي لم نخرج منها إلى اليوم.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
يبعد حلب... الكلام بربرية

لم تتوقَّف صحيفة عربية، موقع، تلفزة، دائرة حكومية، هيئة أهلية، صمتاً على تدمير حلب، واحتجاجاً على حقول القتل المفتوحة فيها. فعلت هذا مجلة ألمانية. مثلما فعلت مستشارتها ما لم يفعله العرب والمسلمون، الذين يتشدَّقون بمكارم الأخلاق والعرى الوثقى. لا مديح هنا ولا هجاء. لقد تجاوزنا أغراض الشعر العربي الطنّانة، الهازجة. تجاوزنا المفرقعات الكلامية. صرنا في موقعٍ آخر، ووقت آخر. فحيال هذا القتل الجماعي، مطلق السراح، يحق لنا قول ما قاله مفكر ألماني: بعد أوشفتز، الشعر بربرية. الكلام بربرية. ماذا ينفع الكلام حيال غبار الموت الأبيض الذي يتصاعد من زوايا مدينة الحب والطرب والطعام الشهي والعبقرية الفنية والتجارية، والصمود الطويل، الطويل، أمام محاولات محوها من الوجود؟ لا مديح ولا هجاء ولا رثاء، فقد صرنا وراء الكلام، ووراء الشعر، ووراء عورات العرب التي لا تسترها أية بلاغةٍ في الكون. تقول المجلة الألمانية (راجع "العربي الجديد"، 8 أكتوبر/ تشرين الأول) ما لا تقوله صحيفة عربية. تقول ما جدوى الكلام. والنقرات على الموقع. وعدّادات قراءات "فسيبوك"، أمام العجز التام للكلام والصور عن التعبير عمّا يجري هناك.

قلت شيئاً كهذا في هذا المنبر مراراً. قلت لنفسي: سأصمت. لن أستخدم هذه اللغة المراوغة التي تعطي مائة اسم للجربوع، ولكنها غير قادرة على تحريك شعرةٍ في مفرق أمةٍ تموت من الكسل والنفاق والجهل والتديّن الكاذب. هذا ما قاله عنهم القرآن. لست أنا من اخترع المنافقين، ولست أنا من هجا الأعراب. ولست أنا من عرف أن هؤلاء كاذبون. وأنهم متصنّعون. وأنهم أبعدُ الناس عن مكارم الأخلاق الحقيقية. تتوقف مجلة ألمانية عن الكلام، لأنه عاجز. تصمت، لأنها غير قادرة على إنقاذ طفل من تحت الردم، فيما نستمر نحن في الثرثرة. أين تجمّهر عشرة أشخاص في أيّ عاصمةٍ عربية احتجاجاً على قتل هؤلاء من دون سببٍ سوى أنهم محاصرون في المدينة، التي قرّر الطاغية بوتين وتابعه ماتي أن يجعلها نقطة تحوّل في صراعات القوة؟ لا تهمنا صراعات القوة. إلى الجحيم بمجلس الأمن والقوى العظمى غير القادرة على إرسال شحنة أغذية، أو أدوية، إلى مدينةٍ تموت. يفعلون أم لا يفعلون ليس مهماً. يجبرون روسيا على وقف بلطجتها التي صارت سورية ساحتها المفتوحة، أم ينحنون أمام العاصفة السلافية، هذا شأنهم. هذه صراعات القوة والمصالح بينهم.

لا شأن لنا في ذلك، على الرغم من أننا مسرح هذه الصراعات. وقودها وحطبها. ما يهمُّ هو نحن. أيننا؟ بل هل ظل معنى لضمير الرفع المنفصل المبني على الضمّ هذا؟ من يستخدمه؟ على ماذا يدلُّ؟ أين هو خارج درس النحو؟ خسرت المستشارة الألمانية شعبيةً وحضوراً سياسياً بسبب سياسة الباب المفتوح. دخل بلادها، في أقل من عام، أكثر من مليون لاجئ، معظمهم من سورية، ولم تغلق الباب، كما تفعل دول استعمرت المنطقة ونهبتها بعدما قسَّمتها قطعاً، تكبر أو تصغر، حسب مواردها. أيّة دولة عربية، غير الأردن ولبنان، وإقليمية غير تركيا، فتحت حدودها لنحو خمسة ملايين سوري، شرَّدتهم زرافةٌ تريد أن تفاوض العالم على عرشٍ من الجماجم؟ لِمَ لا تحلّ دول الخليج كارثة اختلالها السكاني بمن يتحدَّث لغتهم ويكتب مثلها من اليمين إلى اليسار؟ يقرّر منبر صحافي ألماني ذائع الصيت أن يصمت، لأنه غير قادر على شحن اللغة بما هو أكثر من الوصف. "يقول لِمَ لا يهزّنا سقوط المزيد من القتلى في سورية؟ هل لأنَّ ما يحدث بعيدٌ عنا؟ أم لأننا تبلَّدنا من كثرة الصور المروّعة والأخبار؟ أم لأننا لا نهتم بتلك الصور، بقصد أو من دون قصد، حمايةً لأنفسنا؟ أم لأنَّ سورية، ببساطة لا تعنينا بما يكفي؟". ماذا لو قرَّرنا أن نسوّد صفحات صحفنا. أن نوقف بثَّ الثرثرة ومسابقات الأزياء والطبخ، والغناء والرقص، وأخبار الهزل الغنائي؟ هل يمكن أن نفعل ذلك يوماً، نصف يوم؟ ساعة؟

أراهنكم: هذا لن يحدث. ليس لأن الحياة "لازم تستمر"، بل لأنَّ النار لم تمتد إلينا.. مؤقتاً.. فقط.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
سورية، أيضاً وأيضاً

ما الذي يمكننا الكتابة عنه، وحلب قد حدثت، وحلب ما زالت ما هي عليه، وحلب تملأ العين وتفيض عنها بما يُغرق الروح ويُميتها. بل ما الذي يمكن الحديث عنه بعد، ولا تكون سورية وحلب موضوعه؟

تسألني كلود، بعد مضي دقائق من موعد لقائنا في المقهى، وبعد يوم من وصولي إلى باريس: أخبريني، ما الذي يحدث في سورية الآن، فأنا لم أعد أفقه شيئاً.

وكلود التي تقترب من سبعينياتها هي من الناشطين والمهتمّين بأحداث العالم، ومن الذين ينظمون مظاهراتٍ، ويسيرون في مسيراتٍ، ويعتبرون أنهم يقفون دوماً إلى جانب الضعيف والمظلوم، وتحديداً العرب والفلسطينيين، في كفاحهم ضد إسرائيل، وذلك منذ عام 1968 وحتى مقتلة مجلة تشارلي التي جعلتها تتراجع عن حماستها تلك، وإنْ بضع خطوات. فحرية التعبير لدى كلود أمر مقدّس، بقدر ما هي العلمانية، يليها توازنها النفسي والجسدي الذي تعالجه بكل أنواع الأعشاب والوصفات والرياضات الروحية، وبكل ما يُعنى بمسائل الطاقة من قريب أو بعيد. حين تكرّرت الأعمال الإرهابية في باريس، قفزت كلود قفزةً مهمةً إلى الوراء، إذ ما الذي ينبغي توقعه منها، هي التي خسرت صديقاً عزيزاً في الهجمة على صالة باتاكلان، ولم تكد تنساه حتى جاءتها مقتلة نيس.

إذاً، تسألني كلود، من باب الاهتمام والتضامن، عن أحوالنا، نحن الذين نحيا dans la région، (في المنطقة) كما تقول، فأتردّد في الإجابة قبل أن أنزلق ببطء، لأنتهي مستميتةً في الشرح ومحاولة الإقناع، فيما تقذفني هي باستفساراتٍ مشكّكةً عمّا قد يكونه الحلّ السوريّ في غياب بديل. وحين أفتح باب تلكؤ الغرب في أخذ موقفٍ، وتركه سورية وحلب لقمةً سائغةً في فم الغيلان، تقاطعني قائلة: أليس كل شيء أفضل من إرهابيي الإسلام؟ أتريديننا أن ندعم إرهابيين؟

أصمت وأنظر في وجه كلود، فيشتعل بياضه بالحمرة. "الأمر معقد جداً، تعرفين"، تقول متلعثمةً، وقد ضبطت نفسها تحكي بلغة حكّامها. أشعر وكأنها قد عزمت، في قرارة نفسها، ألا تراني بعد الآن، هي التي تريد الابتعاد عن مواضيعنا المشؤومة، المسيئة لاتّزانها النفسي. لا حاجة للمواصلة، أفكّر. لقد ضاعت منّا كلود. لم يعد رأسها يفرز. إنها كمن هو مصابٌ بعمى الألوان، فكيف بها حين تكون الألوان على هذه الدرجة من التشظّي والتضارب والكثرة.

والحال، لمَ قد يضطر أي رأسٍ أن يفرز إلى هذه الدرجة عندما يحيا في ظروفٍ سوية؟ أجل. في بلاد كلود، الأشياء سوية بمعنى ما. في بلادها الأشياء واضحةٌ، موضبة، ومنطقية. في بلادها لا التباس "وإلا ففي حد أدنى لا يعكّر كرامة العيش"، لا اقتراب من النار، ولا زلازل يومية، ولا براكين.

تقول كلود، وأنا أصدّقها: "قلبي لم يعد يحتمل كل هذا العنف يا صديقتي"، ثم تضع عينيها في الزجاج. وقلبي أنا؟ ماذا عن قلبي أنا، أفكّر في قرارة نفسي، أتظنينه يحتمل كل هذا؟ لقد قتل لكم عشراتٌ بطريقةٍ وحشية، وهذا أمر فظيع، وربما حتى المئات. لكن، ها هو يُقتل لنا هذي الأعداد كل يوم، قصفاً وغرقاً وتعذيباً وحصاراً وتجويعا، فلمَ تراني أشعر بالذنب تجاه قتلاكِ أنت، وأنا في الحقيقة لا ذنب لي؟ ما الذي يجعل قتلاك، يا كلود، أكثر موتاً من قتلاي؟ ما الذي يجعلهم أكثر براءةً وأكثر
حياة؟ ألأنهم لم يولدوا dans la région (في المنطقة) حيث يجاور الموت أطفالاً رضّعاً بعمر أيام؟
أفكّر للحظة، لو أنني كنت مكان كلود، فهل كنت سأكون أفضل موقفاً منها؟
يميل عليّ رجل سبعيني من الطاولة المجاورة، ويسألني هامساً وابتسامة رؤوفة تعلو محيّاه:
- أنت من سورية، أليس كذلك؟
- أجل، يا سيدي. أجيبه، اليوم، أنا من سورية.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
خطورة المرحلة في ثنايا الاقتتال الداخلي

مما لاشك فيه أن الثورة السورية التي خرجت ضد الظلم والاستبداد في 2011 تسير بمشيئة الله  وبمعجزة إلهية كبيرة، حيث انها صمدت رغم كل الخطوب والمؤامرات والتحالفات التي حيكت ضدها طوال السنوات الستة الماضية، قدم فيها الشعب السوري الألاف من الشهداء والملايين من المشردين، وسط استمرار القتل وشلالات الدماء على كامل تراب المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.

بدأت الثورة كحراك سلمي تطور سريعاً للمسلح بهدف وقف تسلط القبضة الأمنية على الشعب والدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة، فكانت البذور الأولى للحراك بتشكيل حركة الضباط الأحرار والجيش السوري الحر، تلاها ظهور تشكيلات وحركات متعددة الأسماء والرايات والأهداف، رفعت شعارات مختلفة، وكلها تهدف لإسقاط نظام الأسد، على تنوع منهاجها.

ومع تطور الحراك المسلح وتوسع الحركات لفصائل تضم ألوية وجيوش وجبهات وفيالق، بدأت الأمور تأخذ منحى جديد في الثورة وتزداد تعقيداً مع تنوع الأفكار وبدأ التعصب للفصيل وللجماعة على حساب الثورة والشعب، فكل يدعي أحقيته في الوجود والسيطرة، وصحة منهجه، تلتها موجات الطعن بالمناهج الأخرى وبدأت فتاوى التكفير والردة تتردد، فنشبت الحرب بين هذه المكونات والفصائل وبات الأسد يتفرج.

فكانت أولى الحروب بين الجيش الحر وتنظيم الدولة وبين التنظيم والفصائل الإسلامية في ريفي دير الزور والحسكة والرقة وامتدت إلى حلب وإدلب وحماة واللاذقية وريف دمشق ودرعا، فانحسر التنظيم من عدة محافظات بينما سيطر بشكل كامل على محافظات الرقة والحسكة وامتد إلى حلب وريف حماة الشرقي وريف دمشق ودرعا.

وعلى الرغم من تشارك الجميع في قتال التنظيم واتفاقهم على ردته إلا أن الشقاق والاقتتال بين الفصائل لم يتوقف فعاد في أواخر عام 2014 بين جبهة النصرة والجيش الحر، وتمكنت النصرة بمساعدة علنية لجند الأقصى وسرية من عدة فصائل من انهاء جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وعدة مكونات في الشمال، تلاه انتهاء عدة مكونات حوربت بتهم جديدة غير الغلو والردة، كالعمالة والتخطيط لضرب الفصائل الإسلامية وغرها، فحوربت الفرقة 13 في إدلب وشبت حرب بين الفصائل في الغوطة الشرقية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن، أيضاً في درعا والاقتتال المستمر بين الثوار ولواء شهداء اليرموك وحركة المثنى.

ولو خضنا في نتائج الاقتتال في كل مرة لوجدنا خسائر باهظة للثوار في كل مرة دون أن تعوض حتى اليوم، فدرعا جمدت جبهاتها مع نظام الأسد وباتت تحارب الغلو، وريف دمشق خسرت أرضها الزراعية والمئات من الدنمات والمناطق والقرى، كما استفرد نظام الأسد بداريا وحلب وريف اللاذقية، وعشرات المناطق في ريف دمشق الغربي وحمص، وأخيراً في حماة، وبدأت مرحلة التهجير للشمال تتسارع مفرغاً جميع المناطق التي يخشى على سلطته فيها من أي سلاح أو ثوار، كما فرغت داريا رأس الحربة في خاصرة النظام بدمشق، ويتم العمل على حصار باقي المناطق وإجبارها على التسليم أو الاستمرار بالتجويع والحصار.

هذه النتائج السلبية للاقتتال الداخلي تحت أي بند كان تتطلب وعي عميق بخطورة المرحلة الراهنة، مع تكاتف واتفاق الجميع من قوى القتل ضد الشعب السوري، ما يوجب على الجميع إيجاد مظلة قضائية متفق عليها، تتولى فض النزاعات ومحاسبة المعتدين بأقل الخسائر الممكنة، لتجنب الساحة المزيد من الدماء والخسائر على الأرض من جميع النواحي.

كما يتطلب على الفصائل جميعاً توحيد صفوفها ضمن قيادة موحدة تعي خطورة المرحلة، وتغلب مصلحة الشعب الثائر على مصلحة فصائلها ومناهجها ورايتها بفصيل موحد قادر على قيادة المرحلة، وتسيير الدفة بالاتجاه الصحيح والتغلب على جميع العقبات التي تعترض طريق اسقاط نظام الأسد وكل من يقصف في وجه نيل الشعب السوري حريته وكرامته التي بذل لأجلها الدماء والتضحيات ومازال يقدم.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٦
فيه من العجائب الكثير .. المتصيد الماهر في شذرات الأعين وخوالج الأنفس


يبهرك باتقانه اللامحدود في تصيّد أخطاء الجميع ، يرى الشذر في أعين الجميع أكثر من أحدث المجاهر  ،  يحلل الخطأ و أسبابه، يبرع في اختراع و اختيار الأوصاف و التعابير .

يحمل هموم الأمة في كل مكان يحل به ، في البيت أو في تناقلاته في أرجاء الطبيعة ، لا هدف له إلا القضية و نصرة للدين و حماية للشرع ، فهو المنظر الذي لا يشق غباره و لاتفند فتاويه.

يملك حقوق يمكن القول أنها ذات حصرية بشخصه و تمتد لمن يسير على نهجه ، يفرّق جيداً بين خبثاء البشر و أشرارهم ، و يميّز المجاهد عن المقاتل ، وكذلك الشهيد عن القتيل و ذات الأمر ينسحب على الورع المؤمن عن المنافق المرتد.

لا يهمه في قول الحق لومة لائم ، ولايهم من ينتقد بشر أم وزير أو حتى رئيس جمهورية ، فالناس سواسية أمامه إلا من رحم ربي من الأولين و ثلة من الآخرين ، و الأخيرين هو من يعرفهم عزّ المعرفة.

عندما يخطئ أياً كان و تحت أي مبرر ، فيسارع للتصويب و التهديف ، يطلق العنان لخياله الخصب بالتوصيف، فمثلاً و ليس حصراً فبعد أن صحح خطأ معرفات قناة “ت ر ت “ التركية في نقل الآية القرآنية التي قالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، قبل يومين ، عاد اليوم المتمتع بـ”الصحو” ليكشف عن الخطة التركية بشأن سوريا ، بالاعتماد على صفحة فيسبوكية تحمل اسم “أخبار تركيا”، و أحاط بحنكة و ذكاء النقاط السلبية كاشفاً عن حبث الجميع ، مستبقاً الصورة بتعليق مهذب قائلاً:”هديةإلى لاعقي الأحذية والمطبلين لهم:إستمروا باللعق”، و لكن التهذيب بالتهذيب يذكر فقد نبه على أن “ لا نتعاطى السب والشتم؛لعق الأحذية افتخر به المعنيون أنفسهم”.

أبو محمد المقدسي ، المتواجد في الأردن مستعد أن يشتم باراك أوباما و حتى أصغر طفل في غزة أو في حلب ، دون أن يشعر بأي امتعاض ، و كذلك يشتم كل الفصائل السورية من أحرار  الشام و حتى أصغر كتيبة ،  و يقسمهم بحنكة عالية بين مفحوصين و مرتدين و تابعين لأمريكا أو مدعومين من التحالف أو متشاركين مع تركيا ، و أعمالهم جميعاً حتماً “الهباء المنثور”، و الثبور في الدنيا و الخسارة أمام سيوف الحق ، ولايفوته مناسبة و محفل سلبي كان أم ايجابي إلا و يتصدر له بالفتوى الجازمة ، يتقن تمام الاتقان غربلة المندسين و المرجفين و المرتدين و أولئك المنافقين ، ويصطفى الجند الميامين ، أنصار الحق و الدين ، حتى يغير بالتسميات فيصف “الصقور” بـ”الحمائم” لأنهم اقتربوا من “الناجين المنجين”.



و لكن لايوجد شيء بلا حدود :
حدود الشيخ ، الجالس خلف الحدود ، تقف عند أي راية ترفع شعار يناصره ، سواء أكانت داعش أم النصرة و كذلك جند الأقصى ، فهنا لامكان للكلام ، و كل حرامهم حلال زلال ، و “جل ّ من لايخطئ”، فهم من بُشرنا بهم ، وهم من لا يذرون للأعداء أي أثر ، ويبيدون من يشاؤون ، و لكنهم يعانون من غيظ المرتدين و كثرة الصليبيين ، وتعدد الرايات و الدول التي تواجههم ، و الحدود و بالحدود تذكر ، يجلس “المقدسي” لاهمام في منزله في “عمان” آمناً سالماً مع عائلته ، يتصفح جهاز “الكفرة” على مواقع “الكفرة” ليظهر الحق لـ”الكفرة” .

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٦
لإيران حصتها في الموصل وحلب فماذا عن تركيا؟

لن يتوقف الصخب المرافق الاستعدادات لمعركة الموصل. والأرجح أنه لن يتوقف أثناء المعركة التي باتت قريبة ولا بعد انتهائها. ومرد هذا الصخب إلى تنوع الأطراف الطامحة إلى المشاركة في تحرير المدينة. وإلى اختلاف أجندات هذه الأطراف. والأهم أنها تاريخياً شكلت عقدة وصل بين بلاد الرافدين وإيران وتركيا. لذا، سيؤشر مستقبلها بعد التحرير إلى مآل محافظة نينوى ومستقبل العراق برمته وأهل السنّة خصوصاً وسائر القوى المنخرطة تحت شعار محاربة «داعش». فالذين سيمسكون بها أو يتقاسمونها ستكون لهم كلمة وازنة في تقاسم السلطة في كل البلاد. لهذا السبب، ربما تتأخر ساعة الصفر لانطلاق الحرب من أجل تحريرها. وقد تتأخر الساعة بانتظار ما سيؤول إليه مصير مدينة حلب. فالأميركيون الذين يديرون عملياً معركة ثاني أكبر مدن العراق، وهم من يرسم حدود الأدوار فيها يعنيهم مصير الإرهابيين بعد تحريرها. ومما لا شك فيه أن «تنظيم الدولة» لن يجد مفراً من التوجه نحو الرقة، ملجأه الأخير. وهو ما قد يبدل في مجريات الحرب في سورية برمته. وربما أعاق خطط النظام في دمشق وحلفائه الروس والإيرانيين الذين يرفعون شعار الحسم العسكري أساساً لأي تسوية لأزمة بلاد الشام.

اختار الأميركيون الجيش العراقي و «البيشمركة» قوة أساسية في معركة الموصل. وعززوا حضور قواتهم بمزيد من الجنود، بناء على طلب الحكومة. اطمأنوا منذ أن تدخل الروس في سورية وأقاموا وحدة تنسيق أمنية مع بغداد ودمشق وطهران في العراق، إلى أن موسكو لن تُستدعى إلى بلاد الرافدين كما هي الحال في بلاد الشام. كأن ثمة تفاهماً بين الدولتين الكبريين على تقاسم النفوذ: لنا هنا ولكم هناك. وهذا ما تشي به الحملة الروسية على حلب من جهة والحملة الأميركية القريبة على الموصل. والقاسم المشترك هنا وهناك إيران وتركيا. وهذا مرد الصخب المرتفع بين الأطراف الإقليمية والمحلية المنخرطة في الحرب على «تنظيم الدولة»، والمصاحب الحملتين على المدينتين الرئيسيتين. وواضح أن ثمة صراعاً علنياً بين طهران وأنقرة على وراثة «داعش» في محافظة نينوى كلها، فضلاً عن شهية الكرد الذين لا يخفون أن تضحياتهم في مكافحة الإرهاب لن تكون مجانية. الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته يحذران منذ أيام من خطر مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في معركة استعادة الموصل. ولا تقيم وزناً لاعتراضات حكومة بغداد التي نقلت الأزمة بينهما إلى مجلس الأمن الذي يقلل هو الآخر من شأن الشكوى التي رفعها وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، على حد ما صرح به الوزير نفسه. وحكومة بن علي يلدريم ليست وحدها في معارضة اشتراك الميليشيات الشيعية. واشنطن تعترض أيضاً. فضلاً عن قادة «الحشد العشائري» السنّي. بينما يصر «الحشد» على دوره في تحرير المدينة.

الأكثر خطراً في هذا الصخب المواكب حملةَ استعادة الموصل هو الصراعات في صفوف القوى السياسية العراقية كافة بلا استثناء. ولم تعد هذه الصراعات بين المكونات والطوائف والعرقيات. نخرت صفوف الجميع. تحالف القوى الشيعية يقيم على جمر هدأت طهران من لهيبه أخيراً. أعادت التيار الصدري إلى قلب التحالف. وقدمت لرئاسة التحالف عمار الحكيم زعيم المجلس الأعلى الإسلامي. وخففت من حملة نوري المالكي على خصومه. وأرجأت سعيه إلى إطاحة الوزير الجعفري الذي كان عراب إخراجه من رئاسة الحكومة. وكبحت حملته على رئيس الوزراء حيدر العبادي. واضح أنها لا ترغب في ضعضعة صفوف القوى الشيعية على أبواب تغيير كبير سيخلفه تحرير الموصل. وليس وضع الجبهة السنّية بأفضل حال بعد إطاحة وزير الدفاع من منصبه. حتى العشائر تخوض صراعاتها لتحجز لها حصة من ميراث «أبي بكر البغدادي». أما الكرد فواضح تماماً أن إطاحة وزير المال هوشيار زيباري وجهت ضربة قاسية إلى تحالفهم مع القوى الشيعية، مثلما عمقت الخلافات بينهم، بين الحزب الديموقراطي الذي يتزعمه رئيس كردستان مسعود بارزاني من جهة والاتحاد الوطني وحركة «التغيير» من جهة ثانية. وقد اتهم زيباري زعيم «دولة القانون» بأنه وراء إقالته خطوة على طريق إزاحة رئيس الوزراء. وقد ساهمت أصوات الكرد المناوئة لبارزاني في توفير الأصوات المطلوبة لإطاحة وزير المال. لذلك، لم يتأخر رئيس الإقليم الكردي في التوجه إلى بغداد سعياً لإقامة تحالف جديد مع القوى الشيعية وعلى رأسها رئيس الحكومة والتيار الصدري والحكيم... على رغم أن الخلافات بين بغداد وأربيل عميقة إلى درجة يستحيل معها التفاهم على اتفاق ينهي خلافات على تقاسم الأرض والثروة النفطية، لم تجد لها تسوية على رغم التفاهم المتين الذي نشأ بين المكونين الكردي والشيعي منذ الغزو الأميركي بلادَ الرافدين. علماً أن الجمهورية الإسلامية كانت ولا تزال عاملاً مساهماً في الخلافات الكردية، مثلما هي ضابطٌ حدودَ الخلافات بين القوى الشيعية... ولو إلى حين.

تسعى الميليشيات الشيعية من وراء مشاركتها في تحرير الموصل إلى مد نفوذها، ومن ورائه نفوذ إيران إلى مناطق الأكثرية السنّية لترسيخ حضورها في العراق وإبعاد أي تهديد محتمل لهذا الحضور. كما تسعى إلى الحد من التمدد الكردي في مزيد من الأراضي، فيما لم تهضم بعد تغلغله في كركوك. بل لن تسكت على خروج المدينة عن السلطة. وتدرك أن مساهمة «البيشمركة» في تحرير الموصل يرسخ حضور حكومة أربيل في محيط المدينة. ويسهل عليها الدفاع عن انتشارها في الأراضي المتنازع عليها. مثلما يسهل عليها التواصل التجاري والاقتصادي مع تركيا. وتعي ميليشيات «الحشد» أن عودة القوى السنّية إلى إدارة محافظة نينوى وحدها يعزز موقع هؤلاء الذين حاولت حكومة المالكي مواجهتهم في السنوات الأخيرة وساهمت في قيام «دولة البغدادي». ولا تخفي طهران رغبتها في إبعاد النفوذ التركي عن العراق وكردستان، كما هي سياستها في سورية. قد تكتفي بترك الأرياف المحاذية لتركيا، والتي تعتبرها هذه جزءاً من فضائها الأمني ومصالحها السياسية والاقتصادية. لذلك، لم تتوانَ عن تعزيز الشقاق داخل صفوف الكرد والسنّة العرب أيضاً. وإن راج أنها على دراية بالتفاهم بين أنقرة وموسكو في شأن مستقبل حلب، وتعي ما يربط بين أنقرة وواشنطن على رغم ما يشوب العلاقة بين العاصمتين هذه الأيام. فما لا يغيب عن حساباتها أن هناك أكثر من مطرقة تضرب على أوتارها. من المرجعية في النجف إلى تشظي القوى الشيعية وتنافسها على السلطة وما تدر من مكاسب ومصالح. ومن العودة الأميركية وما قد تخلف من مكاسب للكرد والسنّة العرب... إلى مشهد التظاهرات الشعبية في الساحات التي كانت تنادي قبل أشهر بأعلى الصوت برفع يد طهران عن بغداد!

أما حكومة بن علي يلدريم فتصر على دورها في تحرير الموصل، كما الرقة. لم تلتفت إلى اعتراض بغداد ودمشق قبلها على تدخلها الميداني. ولم تستدعِ موافقة من المنظمة الدولية. حجتها كما الآخرون أنها جزء من التحالف الدولي لمحاربة «دولة الخلافة» و «دولة الكردستاني». لكن هدفها الأول ضمان قدرتها على إحباط تمدد حزب العمال الكردستاني في كلتا المدينتين والبلدين أيضاً. وبعد ذلك عدم ترك الجمهورية الإسلامية لاعباً وحيداً في الإقليم. أما الميليشيات السنّية من «حشد» وطني أو عشائري فتستقوي بالموقفين الأميركي والتركي لاستعادة حكم المدينة. لأنها تدرك أن خسارتها ثاني أكبر مدن البلاد يعني سقوط آخر قلاعها في مواجهة تفرد السلطة المركزية في إدارة العراق وثروته، وتعريض محافظة نينوى للتقسيم. وهذا ما يقود إلى تقويض طموحها إلى إقامة إقليم لأهل السنّة على غرار كردستان.

إذا كان مصير حلب سيقرر مستقبل سورية، فإن مصير الموصل سيقرر أيضاً مستقبل العراق. ستحصد إيران الكثير من استعادة دمشق للعاصمة الشمالية. وسيكون لها نصيبها من استعادة المدينة الثانية في العراق الذي قد ينزلق إلى حروب أهلية. يبقى السؤال عن حصة تركيا، وعن دور الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتحملان العبء الأكبر في إدارة الحملتين هنا وهناك. هل تبقى لديهما القدرة على التحكم برسم المشهد الإقليمي أم يسلمان للقوى الإقليمية بحصاد ما يزرعان؟

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا وأميركا تضعان العالم في مسارات غير آمنة

منذ انتهاء الحرب الباردة في يوم ما من سيرورة تداعي المنظومة السوفياتية، والعالم يبحث عن نقطة توازن جديدة تتأسّس عليها العلاقات بين الدول وآليات تصريف الاختلاف وتسوية الصراعات. كانت البداية في إيكال مهمات جديدة لهيئة الأمم المتحدة التي بدت وكأنها دائرة صنع السياسة العالمية، إذا صحّ التعبير. بدلالة أن الولايات المتحدة والدائرين في فلكها استطاعوا إدارة مجلس الأمن من دون كبير عناء بما يخدم انتصار الرأسمالية التاريخي على الاشتراكية السوفياتية. أما روسيا الخارجة من انهيار الاتحاد السوفياتي فبدت مُنهكة تماماً وغير قادرة على وقف الإنزلاق نحو تسيّد أميركا ونظام عالمي يقوم على قطب واحد مركزي ومراكز أقلّ شأناً.

أسوق هذا الكلام في ضوء ما نراه من تسخين لمحركات المواجهة الروسية - الأميركية التي لم تعد الديبلوماسية قادرة على إخفائها. قد تكون نقطة الاشتعال سورية المأزومة لكن التوتّر متنقل من موقع لآخر عبر العالم. فالولايات المتحدة التي اعتمدت مؤخراً التصعيد في التصريحات ضد روسيا انطلاقاً من الشأن السوري، كانت صعّدت في بولندا ودول البلطيق وفنلندا وأوكراينا ورومانيا وتشيخيا من خلال سلسلة من المعاهدات ذات الطابع العسكري مع نصب بطاريات صواريخ مضادة في المناطق الشرقية والجنوبية المحاذية لروسيا. أما الروس الذين ما زالت عقيدتهم العسكرية الموروثة عن النظام السوفياتي تقول إنهم قد يتعرّضون لهجوم أميركي غربي في كل لحظة، فبدوا في السنوات الأخيرة عصبيين مستعدين للمواجهة. وهم يفعلون ذلك الآن بخطوات عملية على الأرض. فليس أنهم أنقذوا نظام الأسد من السقوط بل نراهم مصرين على التمسك بمحور يمتد من طهران (الحدود الجنوبية لموسكو) إلى سورية مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان (على الشاطئ الشرقي للمتوسط). وقد رأينا في تصريحاتهم الأخيرة أنهم (وللآن في إطار حرب كلامية في بدايتها) مستعدون لإحياء شبكة قواعدهم العسكرية في مواقع استراتيجية من العالم. وقد ذكروا فيتنام وكوبا مثلاً كمواقع يدرسون إعادة بناء قواعدهم العسكرية فيها على غرار ما كان في الزمن السوفياتي.

شيء ما يحصل على هذه الجبهة يُنذر بتصعيد ليس في التصريحات فقط بل في الأعمال على الأرض. وقد رأينا التعزيزات العسكرية الروسية على الجبهة السورية وإرسال المزيد من منظومات السلاح ربما لحسم معركة حلب. وعادة ما يدفع ثمن مثل هذه المواجهات تلك الدول الضعيفة أو أهالي المناطق التي تُعتبر استراتيجية. يتواجه العملاقان الأميركي والروسي في الراهن من خلال أجساد شعوب أخرى ومقدراتها وأوطانها. في هذا، لن يحصل أي تغيير في مواجهة هذه الأيام عن تلك، أيام الحرب الباردة. حروب بالوكالة، قتال بشعوب مستضعفة وأبنائها وبناتها، بينما تسلم تماماً أراضي البلدين وحاضرتيهما. قد تُباد حلب ولا يلحق الأذى زورقاً واحداً على شاطئ الولايات المتحدة.

أي تصعيد في سورية مثلاً قد يبدأ من إيعاز أميركي بتسليح المعارضة ومدّها بأسلحة نوعية دفاعية وهجومية، وقد ينتهي بتدخّل أميركي عبر وكلاء أو مباشرة في سورية ضد النظام وروسيا، وليس بالضرورة مع المعارضة. ومن شأن تصعيد كهذا أن يستقدم ردّاً روسياً واسعاً يخرج من نطاق حدود سورية إلى لبنان والدول المجاورة الأخرى بقصد ضعضعة الأوضاع في دول لا تزال واقفة على رجليها ضمن شبكة المصالح الأميركية أو الغربية. من شأن لحظة كهذه، إذا أتت، أن تؤسس لشرق أوسط جديد بمفهوم تفكيكه بالكامل قبل إعادة بنائه، إذا حصل البناء مجدداً! نقول هذا في ضوء ما يتكشّف في السنوات الأخيرة من أننا حيال عالم جديد في تعقيداته وأعرافه وانهيارات نُظُمه المعهودة. فليس مصادفة أن تعود للواجهة اقتراحات لإعادة بناء نظام مجلس الأمن بحيث تُضاف إلى عضويته الدائمة دول جديدة أو يتمّ تعديل نظام حق الفيتو فيه. فالمنظومة الدولية كما تأسست عليه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تعد قادرة على العمل والتأثير بخاصة في ما يتصل بوقف جرائم الحرب المتنقلة من مكان إلى مكان لا سيما سورية. أو قد نقول هذا في شكل مغاير. لم تعد قادرة على تحقيق المصالح في شبكة من العلاقات المعقّدة، لا لتلك الدول العظمى ولا لتلك المرتبطة بها.

إذا كنّا شهدنا تفكك دول وأقاليم وانفجار العنف المدمر فيها فإن هذا الانفجار مرشح للتوسّع في ظل ما استشعره من نزعة عالمية نحو تعديل «النظام» المعمول به وتعديل خرائط المصالح وتوازنات القوى. لقد اختلطت خريطة الأشياء عالمياً على نحوٍ يدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة. ولأن الديبلوماسية فشلت في كثير من المواقع فقد نرى القوى العالمية تجرّب غيرها. عضّ الأصابع أولاً ومن ثم كسرها، تسخين الأجواء ورفع حدة السجال الكلامي تمهيداً لحروب أو تفجير موجات من عنف محسوب قد يتطور إلى ما هو غير محسوب. ومَن يعتقد أن العالم بخير وأن هناك قوى ضابطة له كفيلة بمنع ما أشرنا إليه يكون واهماً حتماً في ظلّ التجربة الإنسانية في المئة سنة الأخيرة على الأقلّ. بينما الكواكب والأجرام خاضعة لقانون التجاذب والتنافر فإن الإنسان يختار مصائره ومسالكه ـ وهي ليست آمنة دائماً ولا هي محكومة لمنطق اللاحرب!

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٦
دمشقنا بين “عُهْرين”

يكفي الصور و الفيديوهات التي تأتي تباعاً ، و بشكل متصاعد،  إلى أن عصر عاصمة الأمويين قد ولّى إلى غير رجعة قريبة ، و باتت محصورة بين فكيين من “العهر” (الشيعي - الشاذ) ، بشكل لم تعهده العاصمة الأقدم عبر التاريخ ، و كمركز ثقل المسلمين لمئات السنين.

بين مشاهد حفل الألوان و اللطميات بمناسبة عاشوراء ، يضيع بريق “دمشقنا” بكل ما تحمله الكلمة من معان و من دلائل ، الأمر المتزامن مع إفراغ أي جيب هنا أو هناك يمكن أن يعكر صفو سير منهج التمييع و إلغاء صورة “دمشقنا” التي ربّت العلماء و المهنيين ، و كانت قبلة الجميع ، و احتضنت كل ما يمكن أن يتخيله عقل من ملل و شعوب و ديانات ، دون أن تفقد أيٍ من ألقِها الآخاذ.

بعيداً عن انشائيات الكلام، المعبق بريح ياسمينها المميز ، تسير الأمور في “دمشقنا” على نحو مريع ، وفق مخطط أقل ما يوصف بإنه “شيطاني” ، إذ يجمع بين الاحتلال بالقوة النارية و القوة الناعمة ، بحيث يتم التغيير ليس لفترة منظورة ، قد تمتد لعقود و أجيال، وأخشى أن نقول أن ليس باليد حيلة للوقوف في وجه هذا المد المرعب.

تضع اليوم “ملالي ايران” سكان  “دمشقنا” بين خيارين لاثالث لهما ، إما التفلت و نشر الشذوذ بحيث تنتهك المبادئ بشكل كامل و يتحول الزاحفين في هذا الخيار إلى سراديب لايعرف أين ستصل ، أو التشييع على المذهب الشيعي الاثني عشري ، الذي يمنح آياته العظمى قدرات “إلهية” ، من خلال السيطرة على العقول و الأفكار و يتحولوا لرعاع بصدق الكلمة الفعلي و ليس كمجاز.

ومهما حاول موالو الأسد و إيران إخفاء ما يحدث بإلباسه لبوس غريبة، لايمكن أن يغير من واقعية مايحدث ، فإخلاء داريا لأجل المقام المزعوم “سكينة” ، وضرب طوق رهيب حول “السيدة زينب” و التوسع به بدوائر متتابعة ، و حلقات قد تصل للقصر الجمهوري، و الزج بآلاف المقاتلين بحجة الحماية ، يرافقهم آلاف مخترقي العقول لتحقيق الغزوين الفعلي و الروحي، كل ذلك لتدمير بنية المجتمع السوري.

تركز عدسات الوكالات الإيرانية الفاعلة في دمشق أكثر من وسائل اعلام الأسد ، على الفئات العمرية الصغيرة في تغطيتها لفعاليات ما يقال عنها “بالحسينيات” لترسيخ فكرة هامة ألا وهو أن دمشق هي شيعية و ليست سنية ، ولاحتى مسيحية ،إذ أن فحوى خبر أوردته “فارس” يتحدث عن حي باب توما بأن فيه من الشيعة الكثر ، وقدموا أكثر من ١٥٠ قتيل، أي كل ما هو موجود في “دمشقنا” هو عبارة عن وهم ، و همُ الحق و الحقيقة.

في تسارع الخطط و سرعة ظهور النتائج ، يبقى حال الثوار على ماهو عليه ، راكداً خانعاً و منشغلاً بمن "يخالفني"في التوجه و الرؤية ، والتفسير الشرعي حول هل نحن مجاهدين أم مقاتلين ، هل قضيتنا هي صراع بين الحق و الباطل الظاهر ، و بين صراعات الحق النسبي فينا بيننا ، و في ظل هذه “المعمة” تضيع دمشق بين “عهرين”.

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٦
عن موت الجيش والسياسة في البلاد العربية

حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تنظيمه مؤتمراً عن دور الجيش في السياسة في البلاد العربية، فالواقع أن تاريخ هذه السياسة في جميع الأقطار لا ينفصل عن تاريخ الجيوش وتكوينها، ومنذ القرن التاسع عشر بالنسبة لبعض الأقطار. ومن الصعب فهم كثير من مسائل السياسة العربية بمعزل عن فهم هذا الدور وأسبابه ومآلاته، بل أصبح هذا الدور يتجاوز اليوم، مع تفاقم أزمة الدولة العربية، مسألة تفرّد القادة العسكريين بالسلطة، كما حصل حتى الخمسينيات من القرن الماضي، وينزع إلى ما أطلق عليه مدير عام المركز العربي، الدكتور عزمي بشارة، في محاضرته الافتتاحية الغنية، عسكرة الدولة والمجتمع، ما يعني تلويث النظام الاجتماعي بأكمله، وتفريغ المجتمع من دينامياته المختلفة لصالح ضبطه عسكرياً وأمنيا من الداخل. وفي اعتقادي، أن الأمر يتجه، اليوم، إلى أبعد من ذلك، ويجنح إلى ترسيخ عقيدة التمييز شبه العنصري ضد المجتمع، وتفقد الدولة طابعها الوطني، وتتحوّل إلى أداة للسيطرة في يد أليغارشية واحدة، تجمع بين جميع أصحاب المصالح والنفوذ من النخب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتتخلى عملياً عن مفهوم الدولة الوطنية لصالح دولة النخبة الخاصة. ولا يمكن ضمان ذلك، من دون تقديم الخيار العسكري، أي الأمني والمخابراتي، لتنظيم المجتمع، على أي خيار آخر. وهذا ما كنت قد أثرته وحذرت منه، في كتاب "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة" التي نشر في أول التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى سبيل المساهمة في هذه النقاشات المهمة التي لن نتوقف بالتاكيد عن تناولها في السنوات المقبلة، رأيت من المفيد الإشارة إلى ملاحظاتٍ متعلقة بتناول هذه الإشكالية الكبرى.
الأولى، أن من غير الممكن فهم الموقع الذي يحتله الجيش، من دون وضعه في سياق العلاقات مع المؤسسات الأخرى، السياسية والاجتماعية. بمعنى آخر، المؤسسة العسكرية جزء من بنية

 الدولة ومن منظومتها، ولا تتشكل وتتحرّك في الفراغ. ولا يستقيم فهم الدور الذي وقع على كاهل النخبة العسكرية، من دون فهم تطور الدولة نفسها وإعاقة تكوينها، في المشرق العربي خصوصاً، فهي، في نظري، لا تزال نموذجاً للدولة غير المنجزة. وبالتالي، لا تزال مؤسساتها، بما فيها العسكرية، غير ناجزة، كما لا تزال الاختصاصات والوظائف التي ترتبط بها غير محدّدة وغير مميزة أيضا. وعلى الرغم من تعدّد مؤسساتها، تفتقر دولنا لنخب متعدّدة سياسية واقتصادية وعسكرية متميزة ومدركة حدود صلاحياتها وأصول عملها، والمهام الخاصة المكلفة بها. وتكاد تختصر بنخبةٍ هلاميةٍ واحدة، تفتقر للتكوين والتأهيل الجدّي، وعلى استعداد لشغر أي منصبٍ في إطار نزاعٍ على السلطة والنفوذ، لا تحكمه قواعد ولا معايير ولا أصول ثابتة، فليس من المؤكد أن العسكري يدرك معنى كونه عسكرياً، ولا السياسي يعرف غاية عمله في السياسة، ولا يقبل أيضا المفكّر أو رجل الدين حدود صلاحياته ومهامه. كلٌّ يسعى، في إطار الصراع غير المقنن على النفوذ والمواقع والمنافع، أن يثمر رصيده، مهما كان نوعه، من أجل التقرّب من السلطة والمشاركة في ملكية دولةٍ تحولت هي نفسها إلى بضاعة، وشيء، ومصدر موارد، وفقدت فكرتها الأساسية كإطار شرعي وقانوني لتنظيم حياة الناس، وترتيب شؤونهم وخياراتهم العامة. ولذلك، تماهت جميع النخب في بنيةٍ واحدةٍ، تشبه الكائن وحيد الخلية، تختلط داخلها، وفي ذهنها الصلاحيات، وتضيع المسؤوليات، ولا يميز عملها سوى السعي الدائب إلى توسيع دائرة المنافع الشخصية والنفوذ. وهذا هو أيضاً السبب الكامن وراء انقساماتها وتعدّدها الشكلي وعداواتها الدائمة ونزاعاتها، واحتقار بعضها العميق بعضها الآخر.
والملاحظة الثانية أن الجيش لم يكن مؤسسةً مستقلةً بذاتها ولو نسبياً. وبالتالي، ليس هناك مؤسسة عسكرية حية مدركة وظيفتها، وصاحبة مبادرة في ما يتعلق بها. جميع مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، أجسام جامدة، تفتقر لوعي خاص بمهامها وأصول عملها، وإلى نخبٍ مؤمنةٍ بها وبغاياتها، وإلى حيز من الاستقلال داخل الدولة، يطوّر هويتها، وينمّي لديها القدرة على بلورة أجندتها الخاصة، لتشارك بإيجابية مع غيرها من مؤسسات الدولة في صياغة القرار العمومي. ولأنها كذلك، فهي تبقى جثةً هامدةً، أو قوالب فارغة من المشروع والرسالة. وبالتالي، عرضة للاستباحة والاحتواء من جميع المبادرين والمغامرين من الجماعات الطموحة للاستيلاء عليها، وتسييرها لصالحها، مهما كانت منابتهم ووظائفهم الأصلية أو الشكلية، وسواء أكانوا مدنيين أو عسكريين. ودور الجيش يختلف باختلاف القوى الداخلية أو الخارجية التي تسطو على مؤسستها، وتضعها في خدمة مشاريع سلطتها السياسية، أو الاقتصادية، أو الأيديولوجية.
الملاحظة الثالثة أنه، مع تدهور وضع الدولة القانونية، وسيطرة النزاعات المتعدّدة بين النخب على النفوذ والسلطة، بدل تمايزها وتقاسمها الصلاحيات والمسؤوليات في إطار الوحدة، لم تعد هناك دولة مؤسسية مستقلة عن النظام، وتتحكّم في سير السلطة، أو تحكم ممارستها حسب أصول وقوانين مرعية، وتضبط حسب الدستور علاقات مؤسساتها ونخبه المتميزة في ما بينها. أصبح النظام هو الدولة الحقيقية التي تخترق الدولة وتوجهها، وتشترط قواعد عملها، وصارت إرادة السيد الأوحد الذي يتحكّم بالنظام هي القانون الذي يحكم الدولة نفسها، وصار الرئيس أو الأمير سيد الوطن، أي صاحبه ومالكه والمتصرّف به. وهذا ما يفسّر سبب تراجع نموذج الدولة في البلاد العربية مع مرور الوقت، بدل أن يتطوّر نحو دولةٍ مكتملة الوظائف والأوصاف والمهام، فالدولة لم تعد سوى أداة من أدوات الصراع على السلطة بين أجنحة النخبة المتنافسة، كالحزب والطائفة والقبيلة والأجهزة الأمنية، ومزرعة لشراء الأنصار والمحاسيب، وليست مؤسسةً لتحقيق برنامج بناء أمة وضمان مصالح المجتمعات، وتمكينها من الاندراج في حضارة عصرها، ومشاركتها في صوغ السياسات العالمية. بمعنى آخر، ليست المشكلة في الجيش. ولكن، في الدولة التي لا تملك وسائل الحيلولة دون سقوط ما يمثله الجيش من قوةٍ منظمةٍ عنفيةٍ في يد "عصابةٍ"، أو طغمةٍ تتحكّم بالمجتمع وتخضعه لإرادتها ومصالحها.
والملاحظة الرابعة أنه لا يمكن إصلاح الجيش، وتقنين دوره في المجتمع، من دون إصلاح الدولة، أو بالأحرى إعادة بنائها على أسسٍ قانونيةٍ، تضمن فصل السلطات الدافع إلى إنتاج نخبٍ اجتماعيةٍ متميزة ومتكاملةٍ لا متنازعة. كما لا يمكن تطوير ثقافة التخصص والاحتراف في السياسة والإدارة والحرب والاقتصاد، من دون تطوير نموذج الدولة نفسها، وتحويلها من دولةٍ رافعةٍ لنخبة متميزة إلى دولةٍ لجميع مواطنيها، وفي خدمتهم والارتقاء بشروط حياتهم المادية واللامادية. وهذا هو المقصود من الدعوة الديمقراطية، فالصراع من أجل الديمقراطية هو صراع على تملك الدولة: دولة عامة الناس وعمومهم، أم دولة الخاصة، وأداة تمايزهم وتخصيصهم.
والنتيجة ربما كان ما يميز الأوضاع العربية اليوم، في أغلب أقطارنا، ليس تغوّل الجيش على الدولة أو المجتمع، وإنما تغول أوليغارشية جامعة لكل أصحاب النفوذ والسلطة والمال، والتأييد الخارجي على الدولة والمجتمع والجيش معاً، وجميع المؤسسات الأخرى وتحييدها، لصالح مؤسسةٍ خفيةٍ وغير منظورة، تخترق المؤسسات جميعاً وتستعمرها وتحركّها من الداخل، هي الدولة الموازية التي لا تختلف عن العصابة الخاصة، والتي يشكّل تعطيل الدستور والقانون وإلغاء السياسة والمجتمع المدني وآليات التضامن الاجتماعي على تعدّدها وتنوعها، شرط وجودها واستمرارها، كما تشكل الأجهزة الأمنية سداها ولحمتها.
أردت من ذلك أن أقول إن الدور الذي احتله الجيش في الحياة السياسية العربية لا يُفهم إلا من خلال علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسات الدولة الأخرى، وعلاقة الدولة نفسها بالنخبة الحاكمة والطبقة التي تستند إليها. فالانحراف الذي شهدته الجيوش العربية، أو أغلبها، عن مهامها الدفاعية لا ينبع من تاريخه الخاص وبنيته، وإنما هو جزء من إشكالية أوسع، هي أزمة علاقات السلطة داخل الدولة العربية نفسها، سواء بسبب نقائص هذه الدولة، وانعدام أفق تحولها إلى دولةٍ مكتملة، تعمل لصالح سكانها لا نخبها، أو بسبب النزاعات التي لا حل لها بين النخب المتنافسة على السيطرة الشاملة، أو في هشاشة مؤسسات الدولة وافتقادها الحياة، وانعدام روح المسؤولية العامة لدى النخب التي تحرّكها. تغوّل الجيش هو التعبير الأمثل عن تهلهل الدولة، وفشلها في أداء مهامها الأساسية، وافتقادها إلى التماسك والنضج السياسي والتنظيمي معاً، لا عن تكوّن نخبة عسكرية حقيقية.
وترجع أزمة علاقات السلطة التي تفضي إلى تضارب الصلاحيات والمسؤوليات، وتحول دون نضوج المؤسسات وامتلاكها هويتها الخاصة واستقلالها الذاتي، وفاعليتها، إلى مشكلةٍ أكبر، تتعلق بانسداد طريق تطور الدولة نفسها، وتحولها من مؤسسةٍ خاصةٍ لخدمة مصالح مالكيها، من نخبة الجيش والأمن والمال والاعلام المتحدة والمحاربة، إلى مؤسسةٍ عمومية، ملك مواطنيها، أي، بمصطلح الأدبيات السياسية الحديثة، إلى دولة أمة. وهذا ما أدى إلى أن تنحط الدولة إلى مستوى أداة استيلاء واحتلال، وحوّل الجيش، بما يمثله من رصيد القوة والعنف، إلى مليشيات خاصة، كما هو واضح اليوم في سورية والعراق، بمقدار ما رد "الشعوب" المجرّدة من السلاح إلى حال الأقنان التابعين والعبيد. وما نشهده، في هذه الحقبة، هو بالأحرى زوال دور الجيش، وصعود نجم المليشيات الأهلية، بموازاة تفكّك الدولة وموت السياسة.
أما تحليل أسباب هذا الانسداد فهو موضوع نقاش آخر.

اقرأ المزيد
٩ أكتوبر ٢٠١٦
الحرب العالمية الروسية

لم يعد أحد يجادل في أن معادلات القوة في العالم تغيرت خلال السنوات الخمس الماضية. الحديث ليس فقط عن مسارات النفوذ العالمي، والذي كانت تحتكره الولايات المتحدة الأميركية عقدين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بل أيضاً في مجال استعراض القوة العسكرية الذي لم يكن أحد يقارع فيه الولايات المتحدة. لكن، من الواضح أن الأمور متغيرة بشكل كبير في المرحلة الحالية، خصوصاً بعد اتخاذ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خيار الانكفاء عن الملفات العالمية، والانكفاء إلى الداخل الأميركي، ما أفسح المجال أمام القوة الروسية بالصعود.

استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا المجال أحسن استغلال، فمن التدخل المباشر في الحرب السورية، وما تلا ذلك من مجازر وتدمير، إلى مناكفة أوروبا على الساحة الأوكرانية، غير آبه بكم العقوبات التي فرضت على بلاده، والتي يبدو أنها جاءت بمفعول عكسي، إذ زادته غطرسةً، وهو ما يمارسه فعلياً على الأرض سياسياً وعسكرياً، وأمام أنظار الغرب بأسره الذي بات واضحاً توجهه إلى استرضاء الروس في كل صغيرة وكبيرة عالمياً، وليس فقط في الساحة السورية.

استرضاء جعل روسيا قطباً سياسياً أساسياً في العالم، وربما أصبحت متقدمةً على الولايات المتحدة في هذا المجال، بفعل أوراق القوة التي تمتلكها على أكثر من ساحة. لكن، يبدو أن هذا لم يشبع بوتين بعد، وربما يرى فيه تحولاً مؤقتاً لا بد من تكريسه عملياً وبشكل دائم.

تكريس بحاجة، بحسب ما يعتقد بوتين، إلى حدث ضخم وأساسي يقلب الموازين فعلياً في العالم، تماماً كما كان الأمر في أعقاب الحربين العالميتين، الأولى والثانية، واللتين ساهمتا عملياً في أفول إمبراطوريات وظهور أخرى على الساحة العالمية. ففي الحرب العالمية الأولى، كانت النهاية الفعلية للإمبراطورية العثمانية، والتي تقاسمت تركتها الدول الحليفة، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا. ثم جاءت الثانية لتعلن نهاية هاتين القوتين الأساسيتين في ذلك الحين، على الرغم من انتصارهما عملياً في الحرب، بعدما باتتا مدينتين للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً. وبالتالي، كانت الحرب الثانية بداية صعود القوة الأميركية التي استمرت قرابة سبعة عقود.

مثل هذه القراءة التاريخية هي التي تدور في ذهن بوتين اليوم، وإنهاء عصر الإمبراطورية الأميركية، وبروز الروسية على أنقاضها بحاجة إلى حدثٍ ضخم على غرار الحربين العالميتين السابقتين، وهو عملياً ما يحضر له سيد الكرملين الذي يقرأ ملامح الضعف الواضحة في المعسكر الآخر. من الواضح أن بوتين يحضر فعلياً لمثل هذه الحرب، سواءً عبر استفزاز الأطراف الأخرى، ولا سيما الولايات المتحدة، أو من خلال الحشد العسكري واستعراض العضلات الذي يقوم به على الساحة السورية، والتي يرى أن منها، أو على أرضها، ستكون المواجهة الأساسية. وعلى هذا الأساس، كان إرسال مزيد من البوارج الحربية والمقاتلات النفاثة، ونشر منظومة "أس 300" المضادة للصواريخ، والتي بالتأكيد لم تأت لمواجهة صواريخ غراد التي حصلت عليها المعارضة المسلحة أخيراً. أضف إلى ذلك التهديدات المباشرة التي بات يطلقها الجنرالات الروس للولايات المتحدة، والتي لم يسبق أن سمعها المسؤولون الأميركيون، إلا في إطار الحرب الدعائية التي تشنها كوريا الشمالية على سبيل المثال، والتي لم تكن تؤخذ على محمل الجد. أما اليوم، فها هم المسؤولون العسكريون الروس يهدّدون باستهداف أي تحرك عسكري أميركي على الأرض السورية، والذي من شأنه أن يزلزل المنطقة.

بناء عليه، كل معطيات الحرب العالمية التي تريدها روسيا باتت جاهزة، باستثناء عنصر واحد، وهو الطرف الآخر المحارب. فمن الواضح أن: لا الولايات المتحدة، ولا أي من حلفائها، في وارد الدخول في مثل هذه الحرب حالياً. وهذا ربما ما يثير جنون بوتين الذي يريد حربه العالمية الخاصة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)