مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢١ أكتوبر ٢٠١٦
وصية عبدالعزيز للسوريين

هذه الأيام كنت أطالع مجلدًا ممتعًا حوى كل أعداد جريدة سعودية قديمة، اسمها «أخبار الظهران» صدرت من ديسمبر (كانون الأول) 1954 حتى أبريل (نيسان) 1957. وكان سجلاً حافلاً ونادرًا للقضايا السعودية، الداخلية والخارجية.

للتذكير، فإن الملك المؤسس عبد العزيز تُوفي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1953، ما يعني قرب عهد جريدة «أخبار الظهران»، التي كان الأديب والصحافي السعودي، الرائد، عبد الكريم الجهيمان هو مدير تحريرها، من عهد النشأة السعودية الحديثة.

في العدد الأول من الجريدة، الصادر، لفتني هذا الخبر، وذلكم النص، عن الملك عبد العزيز، حيث يقول:

«عندما زار مصر في الحرب الأخيرة، استقبل وفدًا من الصحافيين السوريين وأسداهم نصحه الكريم بالدعوة إلى التضامن، وألا يأخذوا بدسائس الغير، ثم قال لهم: لقد كنت أسمع في أذني هذه، وأشار إليها، أن السوريين قوم يقولون كثيرًا، لكنهم لا يجمعون على رأي واحد، وكنت أتجاوز عن هذا القول، لأني مدرك أن دمشق هي مبعث الحركة العربية وصاحبة الفضل الكبير في التقريب بين البعيد والقريب، فعليكم أن تتماسكوا وتهجروا المنافع، فالوقت الآن وقت الملمّات».

ثم يضيف: «لقد عشت خمسًا وعشرين سنة في الفيافي والقفار، ولقيت من شظف العيش ومرارة الحياة شيئًا كثيرًا، ونالني من طعنات السيف والسنان ما جعل الحياة في نظري لا تساوي شيئا مذكورًا بالنسبة إلى إعلاء كلمة الحق ورفع راية الاستقلال (ثم أشار جلالته إلى أحد أصابعه المشوّهة في بعض المعارك وكشف عن ساعده الأيسر مشيرًا إلى طعنة فيه، وإلى طعنات سواها في جسمه)».

يخاطب السوريين آنذاك، بصراحة حول قضيتهم الوطنية: «أنا إن دعوتكم أيها السوريون إلى التضامن والعمل، فإنما أدعوكم من أجل بلادكم، من أجل سوريا (وبدا على جلالته التأثر، فضرب الأرض بعصاه ضربًا خفيفًا). وقال: ثقوا بأني لا أطمع في حكم سوريا، بل أريدها دولة مستقلة استقلالاً تامًا. إن وصيتي لكم أن تعملوا متضامين. إني للعرب عمومًا، ولسوريا خاصة». (جريدة «أخبار الظهران»، العدد الأول، 26 كانون الأول، 1954).

كان حديث سوريا حينها، عن الاستقلال، والاستعمار، والتقسيم، واختلاف الأحزاب والكتل السياسية، وكان حديث عبد العزيز متجهًا لصميم العلّة الشامية التي أضاعت الحق في غبار التنابذ.

الآن، تعاني القضية السورية الوطنية، مع وحشية النظام، وغزو الروس، وإجرام الإيرانيين وتوابعهم، ومصيبة «داعش»، وراديكالية «النصرة»، من التناحر على المناصب والتمثيل والنفوذ، وبعد جهد جهيد ظهر الجسم السياسي الممثل للشعب السوري الرافض لمشروع بشار ومن يدعمه.

ما صحّ بالأمس، يصح اليوم، والاتحاد قوة.

اقرأ المزيد
٢١ أكتوبر ٢٠١٦
مدينة حلب.. ويوم طويل في حياة قصيرة!

كنتُ أستمع إلى استغاثة الطبيب الجراح الوحيد الباقي في أحد أحياء شرق حلب، وهو يقول: «كل يومٍ في هذه المدينة المنكوبة هو في عُمُر دهرٍ بل دهور. وإذا كان طويلاً عليّ، فهو طويلٌ جدًا على أطفال حلب ونسائها وشيوخها، فليرحمنا الرحمن الرحيم». وما مضت ساعاتٌ على هذه الاستغاثة حتّى رأيتُ أحد المقاتلين الذين دخلوا إلى دابق وقُراها وهو يقول: صحيحٌ أننا ذاهبون إلى بلدة الباب لطرد «داعش» منها، لكنّ هدفنا التالي هو مدينة حلب لإنقاذها من الغُزاة! والمقاتل صادقٌ في طموحه، لكنّ الوقائع على الأرض تجعل من الـ35 كيلومترًا بين دابق وحلب، بمثابة مئات الأميال!

وليست هذه الأيام في عُمُر حلب ومآسيها بمبعدة عن وقائع نحو الألف عام في حياة هذه المدينة منذ فتحها على أيدي العرب، وإلى أن حسم العثمانيون مسألة السيطرة على محيطها ثم عليها عام 1516 - 1517م. بعد فتح حلب في عام 637م استطاع الروم (= البيزنطيون) دخول حلب اثنتي عشرة مرة عبر خمسمائة عام. وقد اتخذ العرب من دابق ونواحيها خطَّ الدفاع الأول عن حلب. ولأنّ دابقًا تقع وسط مروجٍ ممتدة، فقد ظلّت عُرضة لهجمات الروم في نهضات الدولة البيزنطية، ويقول المسعودي إنّ مرج دابق جرى تبادُلُهُ زُهاء العشرين مرة خلال ثلاثين عامًا، مما دفع العرب إلى بناء تحصينات هائلة في المرج خاصة، ولذلك تكثر في أنحاء المرج «الخرائب» المقترنة بأسماء القرى، التي هي في الأصل حصون، أو آثار لقرى ومزارع كانت عامرة. و«الحدث الحمراء» التي يذكرها المتنبي في قصيدته «على قدر أهل العزم» في امتداح سيف الدولة الحمداني، هي إحدى القلاع، التي كان القصدُ من بنائها الدفاع عن حلب، التي اتخذها سيف الدولة عاصمة لإمارته.

لقد كانت الصوائف والشواتي التي سميتْ بها الحملات العربية أيام الأُمويين والعباسيين، هدفها حفظ محيط حلب من أجل حفظ المدينة. ولأنّ المحيط شاسعٌ جدًا حتى بمقاييس مواصلات اليوم؛ فإنّ مقارّ المرابطين بالصيف والشتاء تحولت بدورها إلى إمارات تصغُر أو تكبُر تبعًا لقدرة مقاتليها على الصمود في وجه الهجمات، إلى أن انتصر السلاجقة في موقعة ملا زكرد عام 1071م وأسروا إمبراطور الروم آنذاك، وتغلغلوا في آسيا الصغرى، فابتعدت الجبهة عن حلب إلى وراء ما صار يُعرفُ اليوم بباب الهوا، الذي صار مركزًا حدوديًا بين تركيا وسوريا. ولذا فإنّ ملاحم الدفاع عن حلب، تُشبه في نظر المؤرّخ ابن الأثير، ملاحم الدفاع عن القدس وعن عسقلان والكرك أيام الحروب الصليبية.

لماذا نذكر هذا كلَّه اليوم؟ نذكره ليس لتعزية النفس فقط (والتعزّي مسوَّغ لسوء الحظ)؛ بل للقول إنّ حلب كانت دائمًا مدينة استراتيجية، لوقوعها على التخوم بين الدول والإمبراطوريات. وهي دُرّة في الموقع والوظائف بحيث كان الجميع حريصين على الاستيلاء عليها مهما بلغ الثمن. والطريف أنّ سليم الأول عندما اندفع للاستيلاء عليها وواجهه الجيش المملوكي بقيادة قنصوه الغوري ملك مصر والشام آنذاك بمرج دابق للدفاع عن حلب؛ إنما كان بين أسباب هجمة العثماني، اتهامه الغوري بالتآمُر مع إسماعيل شاه الصفوي الذي كان سليم قد هزمه في وقعة جالديران عام 1514م. وبالطبع ما كان الصفوي وقتها طامعًا ولا قادرًا على الاقتراب من حلب بعد هزيمته المدوّية. لكنّ الأمر اليوم الذي يستحق الذكر أنّ عشرات الألوف من الإيرانيين والمتأيرنين بحلب ومن حولها، يقاتلون ويموتون هناك، مرة للدفاع عن «العتبات»، ومرة للدفاع عن الأسد الممانع، وهذه المرة كما يقولون لأنهم يريدون استعادة شيعية حلب! وقد كانت حلب مدينة عالمية منذ قرونٍ وقرون وفيها العرب والتركمان والأكراد، وبين هؤلاء جميعًا السنة والشيعة. لكنّ ناصر الدولة ابن حمدان، وابن أخيه سيف الدولة، ويقال إنهما كانا شيعيين، عندما دعاهما الفاطميون للولاء لهم مقابل ترك المدينة بأيديهم، أَبَيا ذلك، وانصرفا للدفاع عن عروبة الدولة وعن بني العباس، باعتبار أنّ الأمر كما قال المتنبي: «لا يصلُحُ عُرْبٌ ملوكُها عَجَمُ».

إنّ التاريخ لا يعيد نفسه، أو أنه يقع التشابه بين البدء ووهم الإعادة، بين المأساة والملهاة. والكوميديا المأساوية اليوم في المدينة ومن حولها هو الصراعُ بين الإيرانيين والأتراك وعلى سوريا والعراق. حضر الإيرانيون إلى حلب بعد حمص بدعوة من الأسد الضرغام أو من دون دعوة، فكان لا بد أن يحضر الترك. في حمص كان همُّ الإيرانيين والمتأيرنين غير القتل والتهجير نبش قبر خالد بن الوليد لأنه كما قالوا كان خصمًا لعلي وفاطمة! ولا ندري في دمشق وحلب قبور من نبشوا وينبشون. بيد أنّ التاريخ لفظاعته يصبح بمثابة الأُسطورة، أو هو يرتقي إلى مصافّها(!). ما قال الأتراك إنهم دخلوا سوريا قاصدين حلب، بل قالوا إنهم يريدون الحيلولة دون قيام كيان كردي على حدودهم. ثم ها هم يقولون الآن إنهم يريدون إقامة المنطقة الآمنة بعد طول انتظار. لكنهم بعد دابق سيجدون أنفسهم في مواجهة الإيرانيين. ولن يقبل الروس والأميركيون ذلك، لكنّ أحدًا من السوريين لا يقبل أيضًا أن تكون حلب للإيرانيين الذين هبَّ الروس لنجدتهم ونجدة الأسد. وكان المتنبي يقول في القصيدة، إياها: «وكيف تُرجّي الروم والروس هَدْمها - وذا الطعنُ آساسٌ لها ودعائمُ»، الروس ما يزالون روسًا، فهل صار الإيرانيون رومًا؟! وبالمناسبة؛ فإنه في بحث حسن نصر الله الحثيث عن فضائل للهجمة الروسية، قال - لا فُضَّ فوه - إنهم منعوا تقسيم سوريا!

ليست حيوات المدن كحيوات الأفراد. إنما ما قيمة المدينة من دون ناسها؟ الجرّاح الحلبي يومُهُ طويل، وليلُهُ أطول، وكان المتنبي قد تساءل عن مشاعر سيف الدولة في ليل حلب المدلهمّ: «فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلب؟». نعم إنّ ليل المدن العربية المنكوبة طويلٌ كنهارها، ومن حلب إلى دمشق، إلى تعز وصنعاء وبيروت وبغداد. كلُّ هذه المدن غاصّة بالغُزاة، والذين يريدون الحلولَ محلَّ أهلها، الذين عاشوا فيها وعمروها وصنعوا حياتها وهم يدافعون عنها ولا يقبلون موتها.

في مرويات الآثار الملحمية أنّ دمشق، وأنّ حلب، تبقيان بعد خراب الأمصار. وفي المرويات أيضًا، بحسب الشيخ الطبّاخ، أنّ المُرابط بحلب له عشرة أضعاف أجور المرابطين بالثغور، فهل يكون الطبيب الحلبي منهم؟ إن لم يكن طبيب حلب وأطفالها ومقاتلوها من المرابطين، فمن يكون المرابطون إذن؟

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٦
هل انتهى «داعش» فعلا أم أنه باقٍ تحميه «الألاعيب» الروسية؟!

بداية لا بد من التأكيد على أنَّ معركة الموصل التي انطلقت فجر يوم الاثنين الماضي وكانت بدايتها بداية موفقة وناجحة، حيث أعرب وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر عن اعتقاده بأن حسمها يحتاج إلى أكثر من أربعة أسابيع، هي في جانب رئيسي منها معركة أميركية داخلية وأن الرئيس باراك أوباما أرادها إنجازًا يسبق الانتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تجري في الثامن من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، لتعزيز المكانة الانتخابية لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون التي كانت عملت إلى جانبه وزيرة للخارجية وإنْ فترة قصيرة.

والمعروف أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب قد دأب خلال هذه المعركة الانتخابية على الأخذ على الرئيس باراك أوباما الديمقراطي بأنه «قصَّر» في مواجهة «داعش» وأنه كان بإمكانه أن يقضي على هذا التنظيم الإرهابي قبل أن يصبح بكل هذه القوة وقبل أن يتجذر في العراق وسوريا وقبل أن ينتشر كل هذا الانتشار ويشكل هذا الخطر الحقيقي والفعلي على الولايات المتحدة وعلى الدول الأوروبية والعالم بأسره.

ولذلك فإن الرئيس باراك أوباما قد بادر لإسناد مرشحة حزبه، الحزب الديمقراطي، بشن أول حرب فعلية على «داعش» وخوض معركة الموصل التي كانت قد بدأت بداية ناجحة، بعد تطويق خلافات الأطراف المعنية بالتهدئة بين بغداد وأربيل وبالاتفاق على عدم دخول قوات الحشد الشعبي في عمق هذه المدينة السنية ومنع الأزمة المستجدة بين تركيا والحكومة العراقية من الانفجار وفوق هذا كله إسناد العمليات التي يقوم بها الجيش الحر بدعم تركي في المناطق الحدودية السورية - التركية.

إنه لم يكن بالإمكان الإقدام على مثل هذه المواجهة الصعبة مع هذا التنظيم الإرهابي بدءًا بإخراجه من مدينة الموصل، التي كان احتلاله لها بتواطؤ من رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ومعه عدد من كبار ضباط جيشه، قبل إخماد كل هذه البؤر المتأججة وقبل تهدئة كل هذه التوترات بين مَنْ مِن المفترض أنهم يشكلون ضد «داعش» جبهة واحدة، وهنا فإن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن الرئيس باراك أوباما كان قد حرص حرصًا شديدًا على تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع الروس وإنْ محدودة طالما أنه اتخذ قرار معركة الموصل كبداية لاقتلاع تنظيم ما يسمى: «الدولة الإسلامية» المزعومة من العراق وسوريا والمفترض أيضًا من الشرق الأوسط ومن العالم بأسره وهذا إنْ بقيت رياح مواصلة هذه المواجهة ناشطة وتهب في الاتجاه الصحيح.

والغريب فعلاً أنَّ الأميركيين، والمقصود هو هذه الإدارة التي على رأسها باراك أوباما، كانوا يقولون إن القضاء على هذا التنظيم الإرهابي، الذي لم يستهدف ولو بعملية واحدة لا روسيا الاتحادية ولا نظام بشار الأسد ولا إيران، يحتاج إلى خمسة عشر عامًا وهذا مع أنهم كانوا قد بادروا، للقضاء على «داعش»، إلى تشكيل تحالف دولي برئاسة الولايات المتحدة الأميركية ضم أكثر من ستين دولة، من بينها بعض الدول العربية، لكنه - أي هذا الحلف - بقي يتعامل مع وضع بكل هذه الخطورة بمجرد الطلعات الجوية الاستعراضية مِما عزز القناعة لدى كثيرين بأنه من المستحيل القضاء على هذه «الآفة» التي غدت كونية أو على الأقل إخراجها من بعض مواقعها الرئيسية.

ثم ولعل ما يجب تذكُّره ونحن بصدد الحديث عن هذا التنظيم، الذي لا شك في أن الهدف الرئيسي لتشكيله وإعطائه هذا الاسم: «الدولة الإسلامية» هو تشويه الدين الإسلامي، وبخاصة في الولايات المتحدة وفي الغرب الأوروبي، هو أن الروس بقوا يتمسكون ومعهم إيران بالطبع بمقولة إن الأولوية هي للقضاء على «داعش» وإن الجهة الوحيدة القادرة على القيام بهذه المهمة هي: «الجيش العربي السوري»، أي جيش بشار الأسد، الذي من المعروف أنه سلَّم مدينة الرقة تسليم اليد لهؤلاء الإرهابيين الذين أعلنوها عاصمة لهم دأبوا على الانطلاق منها إلى وجودهم العسكري في هذه المنطقة كلها.

وهنا ألا يعني استمرار هذه الحرب التدميرية، التي يشنها الروس بقصفاتهم الاستراتيجية وبكل ما يملكون من إمكانات عسكرية، ومعهم الإيرانيون ونظام بشار الأسد، على حلب حتى بعد بدء معركة تحرير الموصل أنهم يقفون حيث يقف
«داعش» وأنه غير مستغرب أن تصبح معادلة المواجهات في سوريا وفي العراق وفي المنطقة الشرق أوسطية كلها أكثر وضوحًا وأن تتكشف الأمور على حقيقتها وتصبح المواجهة بين هذه الأطراف الأربعة، أي روسيا وإيران ونظام بشار الأسد وهذا التنظيم الإرهابي، وبين الأميركيين وتحالفهم ومعهم من يؤيدهم من دول الغرب ومن الدول العربية!!

لقد ثبت الآن أن أولوية روسيا ومعها حلفها الشيطاني، الذي يضم إيران ونظام بشار الأسد وأكثر من أربعين تشكيلاً طائفيًا مرجعيتها الولي الفقيه في طهران، على رأسها «النجباء» و«عصائب أهل الحق» وحزب الله اللبناني، هي ليست القضاء لا على «داعش» ولا على «النصرة» التي اتخذت اسمًا لاحقًا هو: جيش فتح الشام «جفش»، وإنما القضاء على المعارضة السورية المعتدلة وعلى الجيش الحر الذي ثبت أنه الوحيد الذي قاتل ولا يزال يقاتل «داعش» على الأراضي السورية على الأقل.. وإلا فإنَّ المفترض أن يبادر فلاديمير بوتين بمجرد بدء معركة تحرير الموصل إلى وقف القتال في حلب وإعلان الانضمام إلى هذه المواجهة التي بدأت في ثاني أكبر مدينة عراقية فجر يوم الاثنين الماضي وعلى اعتبار أن الأولوية ي فعلاً للقضاء على ما يسمى زورًا وبهتانًا: «الدولة الإسلامية».

وحقيقة أن تجارب الأعوام الخمسة الماضية قد أثبتت أنه ضرب من الوهم وإلى حدِّ العمى السياسي أن تكون هناك مراهنة، حتى من قبل أصحاب النيات الحسنة والمعروفين بطيبة قلوبهم، على انضمام روسيا وحلفائها إلى هذه المعركة التي بدأت فجر الاثنين الماضي فقد ثبت أن الروس كانوا، مثلهم مثل إيران ومثل نظام بشار الأسد، وراء خلق «داعش» وحمايته والسعي على مدى كل هذه الفترة الدامية الطويلة إلى إبعاد الاستهداف عنه وتوجيه هذا الاستهداف إلى الجيش
الحر والمعارضة السورية المعتدلة.. وهكذا فإنه غير مستبعد، كما يقول البعض، ن تكون تلك العمليات الإرهابية التي كانت ضربت باريس وبروكسل.. والغرب كله في مقدمته الولايات المتحدة لها علاقة إنْ بصورة مباشرة أو غير مباشرة
بالمخابرات الإيرانية وربما أيضًا بالمخابرات الروسية.

في كل الأحوال، فإن السؤال الذي يتردد الآن في هذه المنطقة وفي الغرب كله وفي الولايات المتحدة هو: هل أن معركة الموصل يا ترى سوف تستمر وتتواصل وسوف تنتقل من العراق إلى سوريا وإلى كل مكان فيه لهذا التنظيم الإرهابي
ولو خلية سرطانية واحدة أم أن الأيام المقبلة ستثبت أن هذه المعركة هي مجرد معركة «توظيف» وأنها ستتوقف، حتى وإن أُخرج «داعش» من هذه المدينة العراقية، عند مجرد إسناد المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في معركة الانتخابات الرئاسية التي من المفترض أنْ تنتهي بإجراء انتخابات يوم الثامن من نوفمبر المقبل؟!

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٦
هل ركعت إيران؟!

بمجرد الإعلان عن طلب إيران الوساطة التركية بينها والسعودية، بدأت التحليلات لمعرفة أسباب رغبة طهران في إعادة العلاقات مع المملكة، وهي لا تزال تقتل وتجرم وتعربد في سورية والعراق واليمن ولبنان، وترسل الميليشيات والعصابات الإجرامية إلى دول الخليج للتفجير والتدمير. ولذلك لا بد من مقابلة تلك التساؤلات بتساؤلات لا تقل أهمية.

هل بالفعل، نجحت السعودية في نفض «هستيريا إيران»؟ وهل تمكنت من كبح جماح إيران ولجم تحركاتها في المنطقة على رغم كثرة ضجيجها وجرائم ميليشياتها؟ ألا يمكن اعتبار طلب إيران «الوساطة التركية» بروباغندا جديدة وتسويقاً لوجه آخر

والأهم، هل لاستعراض السعودية قوتها وعضلاتها واستعدادها للمواجهة، دور في ذلك بعد إقامة مناورات «رعد الشمال» (برية وجوية)، وهي الأضخم في المنطقة بمشاركة دول عدة، بينها دول عربية وإسلامية منها باكستان وتركيا ومصر والإمارات والسودان. وكذلك إقامة «درع الخليج» المناورات البحرية الأضخم في مياه الخليج ومضيق هرمز على مرأى ومسمع من الدولة الفارسية؟

ماذا يعني للخصم الإيراني اللدود أن تنجح المملكة في بناء تحالفين يعتبران الأهمين في تاريخ المنطقة من حيث الزمان، والمكان، والهدف، ورسالة «الردع»؟

أيضا، ماذا يعني قيادة السعودية لتحالفين مهمين، أحدهما عربي، لإعادة الشرعية في اليمن، والآخر إسلامي، يضم 40 دولة؟ وماذا يعني أن تستبعد إيران من التحالف الإسلامي وترفض وجودها رفضاً قاطعاً باعتبارها «رأس الشر» في المنطقة؟

ماذا يعني أن تواجه المملكة إيران في منطقة القرن الأفريقي، بل إن بعض تلك الدول الأفريقية قامت بقطع علاقاتها مع إيران تأييداً لقرار السعودية وتصعيداً معها، بعد حرق سفارتها في طهران، وممثليتها في مشهد؟

ماذا يعني أن يرفض السودان التعاون مع إيران ويغلق مكاتبها وممثلياتها، وينحاز للرياض، محذراً من الأهداف التخريبية الإيرانية؟

من اللافت، أن المرشد الإيراني خامنئي في أول شهر سبتمبر الماضي، أعلن أن تطوير القدرات «الدفاعية والهجومية» حق لبلاده لا يمكن التخلي عنه. أعتقد أنها المرة الأولى التي يستخدم فيها خامنئي لفظ «هجومية»، ما جعل واشنطن وحلفاءها الغربيين يشعرون بخيبة أمل بعد مضي عام على الاتفاق النووي مع إيران، وعدم تغير سلوكها ومزاجها التهديدي، وممارسات حرسها الثوري عبر الزج بالميليشيات الطائفية ووكلائه وواجهاته في عمليات إرهابية، مع استمرار التصعيد في مياه الخليج، عبر هجمات تشنها زوارق إيرانية صغيرة.

لا يزال «البنتاغون»، وعلى رغم تزايد الخشية الدولية من التحركات الإيرانية، يصنف قدراتها إجمالا بأنها «ضعيفة»، كونها لا تملك أنواع الأسلحة الملائمة لشن هجمات تدمر القدرات الحيوية العسكرية، أو البنية الأساسية لمن تعده خصما لها. وإذا شئنا الدقة فإن إيران لا تملك جيشاً قوياً كبقية الجيوش التي لديها أسلحة جوية وبحرية وبرية قادرة على تحقيق الأهداف الهجومية كما يمكن أن تفعل تركيا أو باكستان مثالاً.

ويُعزى ذلك إلى أن إيران تفتقر منذ العام 1979 إلى التكنولوجيا اللازمة، كما أنها أهملت جيش الشاه، وأنشأ الخميني موازيا له الحرس الثوري لحماية نظامه من السقوط في حال قيام ثورة شعبية ضده.

ويضاف لذلك أن إيران وضعت نصب عينيها بعد الثورة كيفية الرد على التهديد الأمريكي، ولأنها لا تستطيع بلوغ القدرات القتالية غير التقليدية التي تملكها أمريكا، فقد حرصت على بناء قوات عسكرية تمزج بين التقليدي وغير التقليدي، ليمكنها أن تهاجم أي نقاط ضعف في المنطقة لدى أمريكا وحلفائها. لكن إبرام الاتفاق الغربي مع إيران بشأن برنامجها النووي غيّر المعادلة، بإتاحته موارد مالية أكبر لطهران بعضها تسلمته (نقداً) من إدارة أوباما، مع تخفيف القيود على تصدير التكنولوجيا، وصادرات السلاح لإيران، وتضاؤل التهديدات الغربية للنظام الإيراني، وهو ما جعلها تتصرف كشرطي في المنطقة.

في المقابل، هناك خيبات ومرارة إيرانية، بعد ظهور ضعف قدرات الحرس الثوري في سورية والعراق ووكلائه (حزب الله، الحشد الشعبي وبقية خلاياها الإرهابية في المنطقة) وحتى استخدامها للصواريخ البالستية ليس كافياً حتى بعد سنوات قادمة، وليست قوة يعتمد عليها. والملاحظ أن إيران قامت أخيراً بتعزيز الحرس الثوري والجيش الذي ورثته من الشاه، في أول عملية إعادة بناء منذ حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق (1980 - 1988)، ما يشير إلى نياتها القيام بعمليات عسكرية مباشرة.

وإذا كان ذلك سيدفع خامنئي للاستثمار في تطوير القدرات «الهجومية» لبلاده، فماذا يمكننا أن نرى في القادم من الأيام؟ ستقوم إيران بالاعتماد على قوات مزودة بصواريخ دقيقة التصويب؟ (الصواريخ البالستية الإيرانية الحالية غير دقيقة ولا تخدم سوى الأغراض النفسية بحسب محللين عسكريين)، وتطوير قواتها الجوية، بعد أن أظهرت الحرب في سورية أنه من دون مساندة جوية قوية لن تكون هناك فاعلية للقوة الإيرانية، ولولا التدخل الروسي لغرقت إيران وميليشياتها في المستنقع السوري غرقاً تاماً وتكبدت خسائر تاريخية. لكن برنامج التطوير العسكري الإيراني، بحسب ما نشر في صحف أمريكية، يتطلب أموالاً طائلة، وهو ما تفتقر إليه حالياً. ولكنها لن تتراجع وستستمر في نهجها الراهن المعتمد في حروبها على وكلائها وميليشياتها وواجهاتها الإجرامية، في توظيف «الإرهاب غير التقليدي» لمهاجمة دول في المنطقة كما تفعل حالياً. ولن تتوقف إيران عن ممارساتها الخبيثة وخططها التوسعية بغية الهيمنة، طالما تشعر بأن الغرب يسايرها ويتجاهل أفعالها!

لا تزال دول مثل العراق ولبنان وسورية في عهدة الحرس الثوري الإيراني وقيادات تلك الدول ضعيفة أمام قاسم سليماني.

كما أن طهران تعتمد على تحريك طابورها وخلاياها في منطقة الخليج العربي، وفبركة الأحداث واختلاق الأكاذيب مثل كذبة قناة العالم الإيرانية بأن السعودية عرضت على الداعية التركي المقيم في بنسلفانيا فتح الله غولن اللجوء إلى المملكة بهدف توتير العلاقات السعودية - التركية، يسند خططها إعلام أصفر يجيد التضليل الإعلامي والحقن الطائفي والمذهبي.

الأكيد أن إيران دولة مارقة، لا حدود لها في الكذب والتضليل والإجرام، ولا تتوقف عن افتعال الأزمات، هرباً من واقعها، وتصديراً لمشكلاتها الداخلية بعد أن وصل عدد من هم تحت خط الفقر المدقع إلى 15 مليون نسمة، وقد فقدت من رصيدها الكثير في العالمين العربي والإسلامي، وإدارة أوباما أخفقت بمجاملتها، وستغادر البيت الأبيض غير مأسوف عليها.. بينما تمكنت السعودية من تكبيل بعض أحلام طهران في دول الجوار الجغرافي وأثبتت أنها لا تخشى المواجهة، والشواهد حاضرة ولافتة في سورية واليمن والبحرين.

إن طلب الوساطة عبر تركيا لا يعدو أن يكون جزءا أصيلاً من العبث والمراوغة، اللذين اعتادت طهران ممارستهما لكسب الوقت، ريثما تلتقط أنفاسها من النكسات المدوية التي تواجهها في أماكن عدة. وهي مراوغة جبانة، لأنها لا تواجه خصمها بنفسها، بل تعمد إلى استئجار الأذناب والتُّبَّع واجهاتٍ لينوبوا عنها، ولا يهم إيران وعملاءها أن يبيدوا شعباً، أو يغيروا جغرافية منطقة. يهمهم فقط تحقيق مرامي السياسة الإيرانية المتآمرة، المبنية على الاستعداء الطائفي، والتأجيج المذهبي، والإرهاب، وزعزعة استقرار الدول. وخير مثال على ذلك مشاركة طهران في اجتماع لوزان السبت الماضي لمحاولة إحياء الهدنة في سورية، فقد أرسلت وزير خارجيتها إلى سويسرا وهي تواصل إراقة دماء المدنيين في حلب ومدن وبلدات سورية لا حصر لها. وما أرسلته إلا لتبدو بمظهر الحريص على السلام، وهي الوالِغة في دماء السوريين والعراقيين واليمنيين وقبلهم اللبنانيين، ولن تشعر مطلقاً بالرَّوَاء إلا بكسر شوكتها باعتبارها مصنعاً مفرخاً للإرهاب تستضيف قادته وتمول عناصره وتفرز سمومه.

إيران لا تمل العبث بالحجارة، وكأنها لا تعلم أن بيتها من زجاج، والمهم في الأمر، أن السعودية قادرة على ذر الملح على جروح طهران وإعطاب صفحات تاريخها الأسود أكثر!.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٦
ادلب “المحشر” هل هي يثرب أم غزة .. !؟

تتضارب التسميات التي تلحق بمحافظة ادلب في شمال سوريا ، مع تواصل عمليات التوافد إليها من شتى المناطق السورية التي يتم افراغها من ثوارها، وتحولت خلال عام ، لأكبر تجمع للثوار من مختلف الأعراق و الايدلوجيات و كذلك الانتماءات التنظيمية و المناطقية، و باتت “المحشر” للثورة السورية بانتظار القيامة أو العودة للانطلاق من جديد.


من أرض الانتصارات إلى المحافظة الأولى المحررة بشكل شبه كامل ، لتصل إلى منبع الفتوحات ، ولتتحول رويداً رويداً مع توافد المهجرين من محيط دمشق القريب و البعيد ، إلى الثقب الأسود مع همسات متفاوتة بين التفاؤل بأن تكون “يثرب” التي لجئ إليها الرسول الكريم “صل الله عليه و سلم” ، أو مدينة “غزة” الفلسطينية التي تتراوح بين الموت و الحياة حسب ما يشتهي العدو الاسرائيلي أو يرغب الجار المصري.

لا يمكن قراءة الأوضاع في ادلب في من وجهة نظر تقوم على أن ما يجري، هو شيء مفروض و طبيعي في ظل تخلي العالم بعربه و عجمه عن الشعب السوري و ثورته، و بالتالي النجاة بأقل الخسائر الممكنة و النزوح داخل سوريا، كي لا نصاب بداء الجفاء الذي يقتل محاولات العودة من جديد للأرض التي انتزعنا منها، اذا ما اتجهنا لخارج الحدود.

قد لا يكون مفاجئٍ ما تعرض له أهالي المعضمية ، فجر اليوم ، عندما وصلوا لأرض الميعاد “ادلب” ، من استقبال باهت، وغياب أي تحضيرات أو مكان شبه مناسب للاقامة، فمع تزايد الوافدين و ضعف ذات البين لدى المستضيف، الذي يضيّف مئات الآلاف في حواضره و ريفه و جباله و هضابه، بات الوجه البارد ليس مذمة، و إنما البحث عن النتائج أو حلول جذرية، هو الكلام الأجدى نفعاً.

فمنذ أن احتضنت ادلب أهالي حماه الفارين من الانتكاسات هناك و كذلك أهالي دير الزور و الرقة و ريف اللاذقية وصولاً إلى أهالي حمص و اليوم دمشق و محيطها و لانعرف على من يأتي الدور ، كانت الأحاديث عن رغبة جمعية (الأسد و حلفاءه بمباركة شبه رسمية من دول العالم و منظماته)، بتحويل ادلب الخضراء لمكان تجميع كل الخارجين عن السيطرة ، تمهيداً لتحويلها لـ”غزة” جديدة محاصرة بقوات الأسد و المليشيات الايرانية و مرتبطة مع الحياة عبر “باب الهوا”.

في حين يعاند آخرون هذا الطرح، و يعتبره أن انهزامي و تشاؤمي، و يرى بادلب اليوم في حالة تشابه “يثرب” التي احتضنت الرسول الأكرم (عليه الصلاة و السلام)، تمهيداً لترتيب الأوراق و التوحد بغية الانطلاق من جديد باتجاه مكة أو كما نصبو دمشق لانهاء وجود “الكفرة” أو رأس نظام الأسد.

ويبقي الوضع الضبابي في ادلب يسيطر على المحللين و قارئي التطورات ، كما يبقى النزاع بين التمسيات قائماً إلى حين غلبة الصحيح ، فهل سنشهد قصفاً عاماً و شاملاً أم جنة رغداء و أرض التحضير .

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
من حلب إلى الموصل.. عودة الجدار العثماني

على أبواب الموصل، أطلق الأتراك والعرب صافرة الإنذار، وحذروا كل الأطراف المشاركة في تحريرها من مغبة اللعب بالتوازن السكاني للمدينة وما حولها.

فخديعة مشاركة بعض الأطراف في هذه المعركة تحت ذريعة محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، ما هي إلا غطاء من أجل فرض الهيمنة على هذه المنطقة. وفي قناعة الأتراك ودول الخليج أن هذه الجهات لن تتوانى، من أجل الوصول إلى أهدافها، عن دفع ميليشياتها الطائفية إلى تكرار ما فعلته في مناطق أخرى تم طرد التنظيم الإرهابي منها، والقيام بعملية تطهير عرقي تؤدي إلى تغيير ديموغرافي، مما سوف يخرج المعركة عن أهدافها، ويتحول الخلاص من «داعش» إلى كابوس، يؤدي إلى إخلاء الموصل من أهلها، في إطار سياسة تهجير منظم، تنفذها ميليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، الطامح إلى تأمين ممرات برية بين إيران وسوريا عبر شمال العراق، تؤمن لعدده وعتاده عبورًا آمنًا إلى الشمال السوري وصولاً إلى مدينة حلب، وهذا ما استفزّ أنقرة، ودفع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى رفع مستوى التحدي في تصريحاته، حيث أكد أول من أمس (الاثنين) أن قواته ستشارك في معركة تحرير الموصل «شاءوا أم أبوا».

تستحوذ الموصل وحلب على الحيز الأكبر من الذاكرة التركية العثمانية، خصوصًا بعد أن أعادت أحداث المنطقة المتسارعة الاعتبار لموقعهما الجغرافي، ضمن المجال الحيوي التركي، مما دفع أنقرة إلى المجاهرة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي في لحظة اضطراب جيو - سياسية تعصف بالمنطقة، دفاعًا عن فضائها الاستراتيجي في سوريا والعراق. هذا التحول في الموقف، يعتمد في جزء من حساباته على الذاكرة العربية - التركية في غلافها العثماني، وفي محاولة استرجاعها، لتوظيفها في إطار المصالح المشتركة بين الجانبين التركي والعربي، حيث يتوجب عليهما تنقية الذاكرة من رواسب تاريخية أليمة وضرورة تجاوزها.

ففي بداية القرن السادس عشر، لم تتأخر السلطنة العثمانية في الرد السريع والحاسم على تواطؤ الحاكم الجديد لإيران، شاه إسماعيل الصفوي، مع البرتغاليين والمماليك، ومحاولته المبكرة الالتفاف على الدولة العثمانية والاستعانة بالبرتغاليين من أجل الوصول إلى اليمن والحجاز، وبالمماليك بهدف الحصول على موطئ قدم في بلاد الشام، لكنه دفع الثمن سريعًا على جرائمه المذهبية في بغداد، التي احتلها سنة 1508، والتي فرضت عليه منازلة حاسمة مع العثمانيين في جالديران في عام 1514، وتلتها معركة مرج دابق سنة 1516 بين العثمانيين ومماليك مصر، الذين وقفوا إلى جانب الصفويين ضد العثمانيين، وقد شكل الانتصار العثماني في كلتا المعركتين نهاية للطموحات الصفوية في الولايات العربية، وإلى سيطرة السلطان سليم الأول على بلاد الشام ومصر، لتعيش إيران طوال قرون عقدة الجدار العثماني، الذي حاصرها داخل الهضبة الإيرانية وجعلها بين فكي كماشة تركي وعربي يشكلان الأغلبية الإسلامية.

وعليه، فقد شكل لقاء الرياض الذي جمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم التركي يوم الخميس الماضي، نقطة تحول بنّاءة تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، تفرض التوصل إلى حد أدنى من توافق المصالح،
الذي يعزز القدرة تدريجيًا على التوصل إلى تفاهمات استراتيجية طويلة الأمد، تهيئ لقيام رؤية مشتركة حول أغلب قضايا المنطقة، من خلال إعادة تجميع للمكونين الرئيسيين العربي والتركي، باعتبارهما يشكلان الجدار العثماني، الذي كان لقرون عدة السد المنيع بوجه أغلب الغزاة الذين حاولوا العبور باتجاه شرق المتوسط.

مرة جديدة تستغرق طهران في قراءة الأحجام والإمكانيات وفقًا لشروطها، وتراهن على الطائرات الروسية في حلب، والأميركية في الموصل، من أجل القفز فوق حدود سايكس – بيكو، وتجاوز ثوابت مائة عام من الموروث العثماني الذي تتشارك أنقرة والعواصم الخليجية في الحفاظ على حدوده التاريخية في العراق وسوريا، حماية التوازن السكاني الذي يتعرض لعملية تغيير مدروسة، مما يجعل احتمال الرد التركي السعودي الخليجي على العبث الإيراني والغطرسة الروسية أمرًا غير مستبعد، خصوصًا بعد التصريح الأخير لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي قال إن بلاده ستقدم المزيد من السلاح للمعارضة السورية، الذي لن يتم دون المشاركة التركية، التي ستجد نفسها قريبًا مضطرة للتوازن في علاقتها مع موسكو وطهران، حيث لن تقف مصالحها الاقتصادية معهما عائقًا أمام الدفاع عن حلب والموصل، بعدما أصبحت عملية درع الفرات والانتشار في قاعدة بعشيقة تحظيان بغطاء إقليمي.

دون أوهام أو رهانات مصيرية، حسم الأتراك وعرب الخليج أمرهم وأصبحوا أكثر استعدادًا لإنجاز تقاربات تحفظ لكل طرف خصوصياته، وما التحية التي ألقاها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد على قبر مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك إلا المؤشر الصريح للمكان الذي تنطلق منه ورشة إعادة التأسيس للعلاقات التركية – الخليجية.

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
الولايات المتحدة الأمريكية مخطئة في تجاهل وجود حزب الله في سوريا

تسربت مؤخراً إلى العلن تسجيلات كان من المفترض أن تبقى قيد السرية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ما ورد في هذه التسجيلات من كلام كيري عندما خاطب مجموعة من المعارضين والناشطين السوريين، ربما تعكس الأسباب الحقيقية وراء عدم استهداف الولايات المتحدة لعناصر حزب الله العاملة في سوريا.

فبحسب وزير الخارجية كيري، فإن حزب الله "لا يتآمر ضد" مصالح الولايات المتحدة، واستناداً لهذه الحقيقة قررت الإدارة الأمريكية غض الطرف عن أنشطة الحزب في سوريا. قد لا يظهر الخطر من التغاضي عن نشاطات حزب الله في سوريا مباشرة على المصالح الأمريكية، لكن المشكلة في أن التغاضي عن نشاطات حزب الله في سوريا لها آثار بعيدة المدى، فالرؤى والمصالح المختلفة التي لدى الطرفين فكونه لا يستهدف حالياً المصالح الأمريكية لا يعني ذلك أن هناك توافقا في الرؤى لدى الطرفين ولا يعني أيضاً أن الحزب لا يتآمر بشكل مباشر أو غير مباشر ضد المصالح الأمريكية.

بعض الخبراء والمحللين السياسيين الغربيين يعتقدون بأن ظاهرة الميليشيات الشيعية المتطرفة ليس لديها ذلك الصدى والتأثير على المصالح الغربية في المنطقة مقارنة بنظيرتها السنية مثل داعش والقاعدة، من المرجح اليوم أن نشهد عودة قوية لظهور ما يسمى بالهلال الشيعي في المنطقة سببه الدفع لفرض واقع جديد بالقوة المسلحة من خلال الدعم الإيراني لميليشيات مسلحة كحزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية المتطرفة في سوريا والعراق واليمن ولبنان والبحرين، إضافة إلى تجنيد عناصر مدفوعة طائفياً من أفغانستان وباكستان. هذا التحول سوف يؤجج حالة عدم الاستقرار في حال ترك الأمر على ما هو عليه وسيؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة بغض النظر عن من يتآمر بشكل مباشر أو غير مباشر على المصالح الأمريكية بل سيرسل المنطقة كلها إلى الجحيم.

الفيلسوف الألماني هيجل يقول إن التاريخ يعيد نفسه كما تعيد الشمس دورتها من نقطة الانقلاب، مقولة هيجل تلك وباستعراض تاريخي سريع يتبين أن الدول الراعية والداعمة للجماعات الفاعلة غير الحكومية بهدف التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، هو عبارة عن عامل زعزعة للاستقرار ككل، فقد عانت مثلا دول الخليج السنية، حلفاء الغرب والولايات المتحدة ولفترة طويلة من أطماع إيران الجيوسياسية لفرض هيمنتها على المنطقة.

نصّبت طهران نفسها من خلال ولاية الفقيه، المدرسة التي استحضرها وبلورها مؤسس جمهورية إيران الإسلامية آية الله الخميني، كممثل عن المسلمين الشيعة في العالم. تبدو الاختلافات بين إيران وباقي المجتمعات الشيعية في العالم العربي في المعتقدات واللغة والثقافة غير مهمة وليست ذات علاقة طالما أن حزب الله يلمع في هذه المجتمعات كعلامة تجارية لشرعنة أسباب وجوده مدعوما من إيران في المنطقة.

خلق هذا الرابط الخاطئ بين إيران والمجتمعات الشيعية من خلال حزب الله هو بمثابة حجر أساس لاستيراد فكر الفكر الثوري الإيراني والتفسير المتشدد للدين الإسلامي. إذا كانت سياسة "الاحتواء" هي سياسة أمريكا تجاه إيران، فإن رسالة كيري تعتبر غير منطقية بعض الشيء. إنه من مصلحة الجميع وليس فقط أمريكا كبح جناح نشاطات حزب الله وتحجيمه.

تاريخياً ظهر حزب الله في لبنان مدعوماً من إيران عام ١٩٨٢، ومنذ تأسيسه، أعلنت هذه الميليشيا الشيعية هدفها الرئيسي وهو تدمير والقضاء على إسرائيل، حليف أمريكا الأساسي في الشرق الأوسط. اعتنق حزب الله الفكر الإيديولوجي المتطرف لإيران والذي ينادي بإقامة جمهورية إسلامية بناء على تفسير متعصب ومتشدد للقرآن. عقيدة حزب الله وداعش قد تكون تختلف ولكنهما يلتقيان في التطرف بغض النظر عن المسميات.

لقد عمل حزب الله على تثبيت أقدامه من خلال تكتيكات حرب العصابات والتي كانت واضحة بشكل جلي وحتى قبل ظهور القاعدة أو أي حركة إسلامية سنية متشددة للقتال في العراق أو سوريا. يملك حزب الله تاريخا في الهجوم على أهداف أمريكية وإسرائيلية حول العالم. فتفجيرات بيروت عام ١٩٨٣ والتي نتج عنها خسارة ٢٤١ من الأمريكيين العاملين في الحكومة الأمريكية خير دليل، وقد قادت التحقيقات إلى ضلوع حزب الله في العملية. إن سجل حزب الله حافل ويعبر عن الكثير من النوايا الانتقامية تجاه أمريكا وحلفائها.

تجاهلت الاستراتيجية الأمريكية الحالية وبشكل فاضح قلق حلفائها في المنطقة. فبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، عبرت كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية عن حالة عدم الثقة تجاه إيران وعدم الرضا من العلاقة الجديدة التي نشأت بينهما. أفضى توقيع المعاهدة إلى رفع العقوبات عن إيران، وبالتالي أعطى هذا الأمر للحرس الثوري الإيراني- فرع من الجيش الايراني- مساحة جديدة للعمل بشكل حر وبدون قيود في المنطقة وبالأخص في سوريا والعراق من خلال استخدام الأموال التي تم تحريرها لدعم جماعاته المسلحة في المنطقة كحزب الله. نتيجة لذلك، لم تعد تستطيع الولايات المتحدة الضغط على إيران لتغيير موقفها في سوريا مما أدى إلى ارتفاع حدة التوتر بين الطرفين الأمريكي والإيراني.

الأمر هو مسألة وقت ليس أكثر قبل أن يقوم "محور المقاومة" بتفعيل سلسلة من العمليات المباشرة والكاملة لاستهداف ليس فقط المصالح الأمريكية في المنطقة بل أيضا مصالح حلفائها. هذا إذا افترضنا جدلا أن القائمين على وضع السياسات الأمريكية على علم كامل بتبعات ونتائج الفكر الإيديولوجي القائم على بناء جمهورية إسلامية مشابهة للخلافة الإسلامية بفكر داعش من خلال تفسير متشدد للقرآن واستخدام القوة العسكرية لتطبيقه وإرهاب الآخرين. تماما بشكل مماثل للفكر السلفي الجهادي لجماعات مثل داعش والقاعدة، فإن ولاية الفقيه تؤمن بأهمية تقديم الأسباب الدينية لتبرير وشرعنة تجنيد المقاتلين ودفعهم للموت تحت غطاء الشهادة من خلال استهداف "الشيطان الأكبر" الغرب وحلفائه.

هناك توافق دولي على أن الأمل الوحيد في سوريا لوضع حد للحرب هو العمل على تسوية سياسية تقبل بها جميع الأطراف المتناحرة. يتم من خلال هذه التسوية السياسية وضع حل لمشكلة الأسد والجماعات المسلحة الشيعية التابعة له، وروسيا من جهة، والجماعات المتطرفة الأخرى كداعش وجبهة فتح الشام من جهة أخرى. كل هذه الأطراف يجب أن تتحمل المسؤولية وتبعات الموقف في سوريا>

ومع هذا، على الغرب أن يفهم أن الأسد هو السبب الرئيسي لاستمرار دوامة العنف في سوريا. ولا يمكن للأسد أن يكون جزءا من الحل، ولكن على الأرجح ووفق ما تفيد به وقائع الديموغرافيا والنماذج الموجودة لهياكل أنظمة الحكم في المنطقة، قد يكون من الأفضل استبدال شخصية الأسد بشخصية سنية لتقود مجلسا وطنيا مكونا من ممثلين عن كافة الأطراف المتنازعة بما فيها المعارضة المسلحة المعتدلة وممثلون عن النظام. بالإضافة إلى وضع دستور وعقد اجتماعي جديد يحمي حقوق الأقليات الدينية والعرقية في سوريا. يمكن لهكذا مقترح أن يلقى أذنا صاغية لدى روسيا و بالأخص أن ميدفيديف سابقا عبر أن مصلحة روسيا تكمن في إبقاء سوريا حليفا لروسيا وليس في شخص الأسد.

المهمة القادمة التي ستضطلع بها الإدارة الأمريكية الجديدة وحلفائها في الغرب هي العمل على إعادة بناء الثقة مع حلفائهم التقليديين في المنطقة كتركيا، والأردن، ودول الخليج. هذا يعني إشراك الأوربيين في محادثات ثنائية وجماعية مع باقي الأطراف لبحث تسويات مختلفة يمكن أن تتوافق عليها هذه الأطراف. من الممكن أن الوزير كيري ينظر إلى أن القضاء على المتطرفين السنة كأولوية في الصراع، لكن لا يمكنه أن يشيح بنظره عن قوة طائفية متطرفة أخرى في المنطقة كحزب الله. في وضع فوضوي كما هو حال المنطقة الآن، الموضوع ليس سوى مسألة وقت قبل أن تصبح الميليشيات الشيعية المتطرفة خطرا مباشرا جديا على الولايات المتحدة الأمريكية.

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
إرث أوباما عربياً

مع بلوغ إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نهاية الشوط، أخذ الحديث عن إرثه يتسع، والجدل بشأنه يتعمق. يجد أنصار الرئيس ومحازبوه الكثير لقوله في إنجازاته الداخلية، بدءاً بمشروع الضمان الصحي الذي انتشل نحو 46 مليون أميركي من براثن الموت والإهمال، وصولاً إلى إنقاذ الاقتصاد من أزمة الرهن العقاري، وانتهاء بتخفيض البطالة من نحو 9%، عشية توليه الحكم، إلى أقل من 6% اليوم. أما عندما يصل التقييم إلى السياسة الخارجية، وتحديداً ما يتصل منها بالمنطقة العربية، هنا تبدأ عملية التبرير، من ذلك القول إن الرجل بدأ "كارتر وانتهى نيكسون"، وهو زعمٌ يراد منه أن أوباما بدأ عهده رافعاً لواء نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، لكن ظروف المنطقة وفشل الثورات العربية في بلوغ نهاياتها المأمولة، انتهت به (واقعياً) مكيافيلياً، كما ريتشارد نيكسون الذي قدّم مصالح أميركا الأمنية والاستراتيجية على ما سواها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالديمقراطية ودعم الانقلابات العسكرية، كما حصل في تشيلي، عندما رعت المخابرات الأميركية إطاحة الحكم المنتخب لسيلفادور الليندي، والمجيء بديكتاتورية أوغستو بينوشيه.

مشكلة هذا التشبيه ليست فقط أنه لا يصلح تبريراً لاختلاف الظروف وانعدام أوجه المقارنة، بل لأن فيه كثيرا من عدم الدقة والمراهنة على قصر الذاكرة أيضاً. فمنذ أيام حكمه الأولى، اختط أوباما لنفسه منهجاً في السياسة الخارجية، لا يراعي فيه إلا المصالح الأميركية، كما رأتها إدارته. وعليه، لم يتردّد أوباما يوماً في دفن كل الطموحات الديمقراطية لأبناء المنطقة، وفي تسفيه أحلامهم في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ، عندما اقتضت المصلحة ذلك، وهو أمرٌ، حصل، بالمناسبة، قبل وقت طويل من اندلاع ثورات الربيع العربي. ولأنه كان يطمح إلى تعاون إيران في تحقيق استقرار نسبي في العراق، يسمح له بإنجاز وعده الانتخابي بسحب قواته من هناك، بحلول نهاية عام 2011، رفض أوباما دعم الثورة الخضراء التي اندلعت في يونيو/ حزيران 2009، احتجاجاً على مزاعم بتزوير الانتخابات لصالح الرئيس محمود أحمدي نجاد. وقد راقب أوباما حينها، بصمتٍ ملفتٍ، كيف سحق الباسيج والباسدران الحركة الاحتجاجية، وزجّوا رموزها في السجون، بمن فيهم مير حسن موسوي ومهدي كروبي اللذين مازالا قيد الإقامة الجبرية.

للسبب نفسه، ضحّى أوباما، في السنة التالية، بنتائج "العملية الديمقراطية" في العراق، وساند المسعى الإيراني إلى إعادة نوري المالكي إلى الحكم، على الرغم من أن ائتلاف دولة القانون الذي يقوده خسر انتخابات مارس/ آذار 2010 أمام القائمة العراقية التي كان يتزعمها إياد علاوي. ولم يكتف أوباما بمحاولة استرضاء إيران بدعمه بقاء المالكي، بل جعل يضغط على الأطراف الإقليمية المعارضة لهذا الخيار لتغيير موقفها، ولم يوافق على إعادة السفير الأميركي إلى دمشق، إلا بعد أن وافق النظام السوري على إسقاط معارضته المالكي الذي كان اتهم دمشق بالمسؤولية عن تفجيرات "الأربعاء الدامي" في 19 أغسطس/ آب 2009، وطالب حينها مجلس الأمن بتشكيل محكمةٍ خاصة لمحاكمة المسؤولين عن "الجريمة".

في هذا السياق، جاء الربيع العربي بمثابة مفاجأة غير سارة لإدارة الرئيس أوباما. ليس فقط لأنه هدّد الهدوء الذي حاولت فرضه في المنطقة، تمهيداً للانسحاب منها، بل لأنه كاد أن "يلخبط" لها ترتيباتها الإقليمية الأخرى، فالرئيس أوباما كان مطالباً بموقفٍ واضح من الثورات العربية، وهو أمر أخذ يتدرّج في الصعوبة، كلما انتقل الربيع العربي إلى محطة جديدة. كانت تونس أسهل المحطات، فهي صغيرة وليس فيها مصالح كبيرة، ازداد الأمر صعوبةً في مصر. مع ذلك، لم تشكل إزاحة حسني مبارك مغامرة كبرى، لأن الجيش كان ممسكاً بزمام الأمور. وفي ليبيا، لم يكن هناك، ربما باستثناء الروس، من ذرف دموعاً على رحيل معمر القذافي. كان التحدّي الحقيقي في سورية، حيث اتضح الموقف الفعلي للرئيس أوباما من مجمل مسيرة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. هنا، بدا أوباما شديد الحرص على عدم إزعاج إيران، ولو أدى ذلك إلى إزالة سورية عن الخريطة، حتى بعد إتمام مسيرة الانسحاب من العراق، لأن طبخة الاتفاق على حل قضية البرنامج النووي الإيراني كانت قد وضعت على نار هادئة في عُمان.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا والفخ السوري

قبل ما يقرب من عام، قال باراك أوباما "إن المجموعات المتقاتلة في سورية يجب أن تجد لنفسها طريقة للتعايش السلمي، وإلا لن نجد مناصاً من التدخل العسكري". ربما كان يشير إلى أن الخيار العسكري هو آخر أساليب العلاج، ولم يخفِ ألمه من تدخلٍ من هذا النوع، فتابع "وتدخلنا حالياً لن يفيد إلا قليلاً، فسندخل في صدامٍ محليٍّ قد يصعب الخروج منه. بدلاً من ذلك، سيدخل الروس والإيرانيون، ولن ينجح تدخلهم، وسرعان ما سيجدون أنفسهم عالقين في مستنقع". تنبأ أوباما بذلك، وهو يستعيد الدروس الأميركية السابقة في فيتنام والعراق، وعوّل عليه رداً نهائياً واستراتيجياً لمواجهة الروس، وليس لإنهاء الكارثة السورية، فقد كانت الحسابات الأميركية مع روسيا تتعدّى سورية، وصولاً إلى أوكرانيا، وتهديدات تعاظم القوة الروسية وطموحات فلاديمير بوتين الكبيرة.

تعلم بوتين دروساً من التدخل السابق في أفغانستان، فجعل قوته الضاربة في سورية، بحشد أسطول من الطائرات الحديثة. وكانت الطائرات ذات الذراع البعيدة طريقة أوباما في مواجهة التنظيمات الإرهابية. وحالياً، حقّق سلاح الجو الروسي لجيش الأسد تقدّماً مهماً، وقدّم له دعاية عالمية، حين سانده في استرجاع تدمر من يد تنظيم الدولة الإسلامية، وترك مهمة الإمساك بالأرض لجيش النظام، مدعوماً بحزب الله، مع مليشياتٍ ذات طبيعة مذهبية. وأتقن بوتين اللعبة بإعلانه، في وقت سابق، عن سحب جزء كبير من سلاحه الاستراتيجي، حين قال إن العملية قد حققت أهدافها، ولم يعد من داعٍ لوجود هذا العدد من الطائرات. وقد تلقت تلك الشائعة تصديقاً فعلياً من جهات مختلفة في العالم، قبل أن يُكتشف أن روسيا تستخدم مطاراتٍ إيرانيةً لانطلاق طائراتها نحو سورية. والآن، بعد عام على التدخل الروسي، ما زال بوتين يحافظ على السياسة العسكرية نفسها، وهي استخدام جوي مكثف، مع دعم سياسي غير محدود.

حققت روسيا هدفاً بمنع سقوط الأسد، ومنحته تفوقاً عسكرياً في مناطق كثيرة، وأصبح مصير الأسد رهن إشارة بوتين، وليس النظام القائم هو خيار الشعب السوري، كما يدّعي الروس.

وكسرت روسيا، بتدخلها في سورية، عزلةً كانت مفروضة عليها، بعد أحداث أوكرانيا، فقد صار الغرب مجبراً على التفاوض معها، بشأن دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة في سورية، والضغط على الأسد، كما زاد بوتين من حجم وجوده الدولي بتسيير أساطيله نحو المتوسط، ونصب صواريخه الاستراتيجية على حدود منطقة الأطلسي، وذلك بعد أن وطّد علاقاته مع إسرائيل وتركيا، كما حقق هدفاً تجارياً بتسويق أسلحته إلى دول عديدة. وأصبحت الهند والصين على قائمة الزبائن التي تطلب صواريخ "إس 400"، ومجموعة من الدول الأخرى مرشحة لدخول القائمة. تحقق لبوتين ذلك كله على حساب المناطق التي تحوّلت إلى عصفٍ مأكول في إدلب وحلب، وقد أعطب، أخيراً، قراراً دولياً بشأن وقف القصف على حلب والشروع في إدخال المساعدات.

كان جنون موسكو في حلب أكثر وضوحاً من تمسّكها باتفاقيةٍ ولدت ميتةً مع الولايات المتحدة، ولم تثمر المحاولات الدبلوماسية في لوزان، أخيراً، عن أكثر من اتفاق لمواصلة الجهود. أما أوباما فغارق في تقليب خططه البديلة، ويبدو الروس في منأى عن المستنقع الذي تنبأ به، فتكلفة الهجمات بالطائرات ما زالت مقبولة، وما زال النظام في إيران قادراً على دفع فواتيرها، والخسائر البشرية الروسية أيضاً ما زالت بحدود المقبول لدى الشعب الروسي. ومن المفروض حالياً جر الروس إلى المستنقع الذي لم يعثروا عليه بعد، فقد يصدر أوباما أوامره للتوماهوك بالتحرّك، وهو غاية ما يستطيع أن يفعله الآن. وعندها قد يسدّ الروس طرق المساعدات الإنسانية بشكل كامل، وكانوا قد وجّهوا رسالة بهذا الخصوص، عندما قصفوا قافلة المساعدات الحلبية، وفي وضعٍ مثل هذا، سيكبر مستنقع أوباما ليشمل كامل الأراضي السورية، ويصبح قادراً على ابتلاع الجميع.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
نهج الإنكار الروسي

يثير نهج الإنكار الذي يتّبعه المسؤولون الروس، في التغطية على ما ترتكبه قواتهم من جرائم في سورية بحق المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة، استهجان معظم المتابعين للوضع السوري وساسة بعض الدول المعنية به واستغرابهم، حيث ينكر المسؤولون الروس، باستمرار، استخدام مقاتلاتهم وقاذفاتهم القنابل العنقودية والفوسفورية والارتجاجية وسواها في قصف المرافق المدنية، من مستشفياتٍ ومدارس وأسواق في مختلف المدن والقرى السورية، وخصوصاً في المناطق الشرقية من مدينة حلب، على الرغم من مئات الصور والفيديوهات التي تظهر استخدامها هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية والمحرّمة دولياً.

ووصل الإنكار الروسي الرسمي لما يرتكبونه من فظائع إلى حدّ إنكار وزير الخارجية الروسي استهداف المقاتلات الروسية قافلة المساعدات الإنسانية في قرية أورم الكبرى في سورية، مدعياً أن المعارضة قصفتها، أو أنها تعرّضت لحريق، واتهم الطرف الأميركي بفشل الهدنة، الأمر الذي دعا إلى وصف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، نظيره الروسي، سيرغي لافروف، بأنه "كاذب"، و"يعيش في عالمٍ مواز"، أي أنه منفصل عن الواقع، الأمر الذي يذكّر بنهج الإنكار الذي يتبعه رأس النظام السوري، المنفصل بدوره عن الواقع، مع أن تقارير مصورة وموثوقة عديدة تظهر بشكلٍ، لا لبس فيه، ارتكابهم جرائم حرب في سورية.

ولا يصمد الإنكار الروسي أمام الوقائع على الأرض، حيث أظهر أحد التقارير المصوّرة التي بثتها قناة روسيا اليوم الرسمية، عملية "تذخير" طائرة سوخوي 34 روسية بقنابل "RBK-500" العنقودية والمحرّمة دولياً، لكن التقرير، حين أعيد بثه مرة ثانية، كان ناقصاً، وتمت إعادة "المونتاج" حذفت خلالها اللقطة التي تظهر فيها القنابل. وكانت مناسبة بث التقرير، في نسخته الأولى، زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، قاعدة حميميم في ريف اللاذقية، وظهر، في سياق التقرير، جندي روسي قرب طائرة سوخوي 35، وهي تحمل قنابل عنقودية، ثم تمّت عملية إعادة بث التقرير بعد حذف اللقطة التي تظهر فيها القنابل.

ومع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، أنكر الروس تدخلهم، وادّعوا أن مقاتلاتهم تقوم بعمليات "محدودة" فقط، وتستهدف ضرب مواقع تنظيم داعش، في حين أن عشرات التقارير الدولية أظهرت أن 80% أو أكثر من غارات المقاتلات الروسية تستهدف مواقع الجيش السوري الحر، أو ما تعرف بالمعارضة المعتدلة، مقابل أقل من 20% من الغارات الروسية التي تستهدف مناطق وجود عناصر داعش، وهي تصيب المدنيين في تلك المناطق، وليس مواقع عناصر التنظيم. وعلى الرغم من كل الأدلة، تصرّ روسيا على المضي في الإنكار في كل وسائل إعلامها.

وأظهرت صور ومقاطع فيديو للعالم أجمع استهداف المقاتلات الروسية المدنيين السوريين، واستشهاد مئات الأطفال والنساء بسبب الصواريخ الروسية، إلا أن المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تدّعي، على الدوام، أن كل التقارير عن قتلى بين المدنيين السوريين منحازة وملفقة وخاطئة، ولا أساس لها من الصحة، في حين أن المسؤولين الآخرين، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، يصرّان على أن معلومات تلك التقارير مغلوطة، وتستند إلى معطياتٍ كاذبة، وأن مقاتلاتهم لا ترش سوى الأرز والورود على المناطق التي تقصفها.

وتوظف روسيا آلة دعايتها الكاذبة، لتدعيم نهج الإنكار لما تقوم به في سورية، مثلما استخدمتها في الحرب على أوكرانيا، حسبما تملي عليها مصالح الإدارة الروسية، وتسيّرها امتداداً للاتحاد السوفييتي السابق، وعلى المنوال نفسه، من دون أي تغيير في نهجه الإعلامي.

وتثير تصريحات المسؤولين الروس بشأن دور مقاتلات بلادهم في سورية سخرية المتابعين للوضع في سورية، لأن أكاذيبهم باتت تحتاج إلى موسوعة غينيس خاصة بحكام روسيا الذين اعتمدوا نهج الإنكار، منذ نجاح الثورة التونسية في إسقاط رأس النظام الاستبدادي في بلادها، حين لجأوا إلى إنكار وجود حالات التشابه بين الأنظمة السياسية العربية والنظام التونسي، وسارع الساسة الروس إلى القول إن تونس ليست مصر وليست ليبيا وليست سورية، وحاولوا إنكار وجود مظاهر الاستبداد والطغيان والفساد ومواطنها في هذه البلدان، على الرغم من أنها تشكّل في كل هذه البلدان، ومن لفّ لفها، القاسم المشترك الأعظم بينها.

وبعد هروب زين العابدين بن علي، وتنحّي حسني مبارك، بقيت الآلة الإعلامية الروسية متمسكةً بالنظام الليبي حتى مقتل العقيد معمر القذافي، بل وشعر الساسة الروس أن الغرب خدعهم في ليبيا. أما حين وصلت الثورة إلى سورية فقد كان الإنكار، سياسة ونهجاً، العنوان الرئيس لخطاب جميع المسؤولين الروس ومسؤولي النظام السوري، وتوحّدت أجهزة ووسائل الإعلام في البلدين في التمسّك بنهج الإنكار، بل وحاولت، تسويق مقولة فارغة، مفادها بأن الثورات التي أطاحت نظامي بن علي وحسني مبارك لأنهما من نظم الاعتدال، وعقاباً على سياسات الإذعان والسير في ركب المخطّطات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة. وبالتالي، فإن نظم الممانعة والمقاومة عصية على الثورات الشعبية، لأنها نظم شعبية، وتقف في وجه الهجمات والمشاريع الأميركية والصهيونية.

واتخذ الإنكار أشكالاً متنوعة، منذ بداية الحراك الاحتجاجي السوري، جسّدتها ممارسات وسياسات تنفي وجود احتجاجاتٍ شعبيةٍ، سلمية الطابع، تطالب بالحرية والكرامة، وبتغيير النظام نحو دولة مدنيةٍ تعدديةٍ وديمقراطية. وتنفي كذلك حالات القتل والقمع والاعتقال والملاحقة. وراح ساسة النظامين، الروسي والسوري، يروّجون نظرية المؤامرة، بتصوير النظام هدفاً لمؤامرةٍ خارجية، واستتبع ذلك تصوير المحتجين بصورة المغرّر بهم، وتتلاعب بهم أيد خارجية، وعملاء لقوى لا تريد الخير لسورية، وأطلقوا عليهم تسميات مندسين ومهلوسين ومخدرين وصياصنة وعرعوريين وسلفيين وعصابات إجرامية وإرهابيين، وسوى ذلك.

وكان الميل إلى إنكار وجود أزمة سياسية في سورية واضحاً وعاماً، وسياسةً رسمية، بل طاول الإنكار وجود معارضة وطنية للنظام، ورميها بتهم الإرهاب والعمالة والخيانة والارتهان للخارج.

ويشير نهج الإنكار ليس إلى حالة متعددة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، واغتيال صوت العقل لصالح الجنوح إلى نهج الحسم العسكري الذي لا يعرف سوى التوغل في استخدام العنف المنفلت من عقاله، والذي حصد، ومازال يحصد، أرواح مئات آلاف السوريين، إلى جانب ملايين الجرحى والمفقودين، فضلاً عمّا يزيد عن تشريد وتهجير أكثر من نصف سكان سورية.

ويصدر نهج الإنكار عن عقلٍ جامد، شعبوي التفكير والأيديولوجيا، يسكنه هوس المؤامرة، ويرمي كل المشكلات والأزمات على الآخر، ممثلاً بالغرب الاستعماري، ودول النفط، ومعها القنوات الفضائية المغرضة التي تفبرك الأحداث في سورية، وتهوّل من حجم الكارثة. وهو عقل تآمري، يقسم الناس إلى قسمين، فسطاط معنا، وآخر ضدنا، ويبيح فعل أي شيء لإسكات الفسطاط الآخر وقمعه وتصفيته.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
تغريبة الثقافة السوريّة زمن الحرب

السؤال الثاني الذي طرحته أحداث الثورة السورية عام 2011 – بعد السؤال الأول المتعلق بالموقف من «سورية الأسد» – كان عن دور المثقفين ومكانهم في خارطة الحراك.

بدا السؤال آنذاك في غاية التعقيد، مضمخاً بآثار تسطيح الثقافة وتسييس مفرزاتها على مدى عقود أربعة. ارتكز الموقف الشعبي المبدئي على مطالبة المثقفين بمناصرة الحراك انتصاراً لقيم الحرية والعدالة، والذي ما لبث أن وقع ضحية الخلط مع موقف مزاود يطالبهم بمناصرة «شعبوية الحراك» ككل، من دون التطرق إلى إشكالية التمييز بين بعد شعبوي اجتماعي وآخر ثقافي.

أدى القمع الهائل الذي مارسه النظام بحق الثورة، إلى راديكالية مفرطة في مواقفها التي عبرت عنها، بما في ذلك قوائم سوداء طويلة بحق كثر ممن عبروا عن «مخاوف»، وقوائم شرف أخرى تحفل بأسماء من أطلقوا البطاقات البيضاء للحراك ككل، وانغمسوا في تقريع الذات وضرب المقارنة المكرورة بين حذاء أصغر المتظاهرين وأكبر منجز ثقافي. ساهم هذا الخلط الباكر الذي نفذ من مسام الحراك، في تحويل بوصلة الثورة من «الديموقراطية» إلى «ديكتاتورية الأكثرية»، وهو ما ساهم في شكل واضح في تحويل «المظلومية الثورية» لاحقاً إلى «مظلومية سنية».

آنذاك، لم يكن من السهل إعادة نبش التاريخ السوري الحديث لتحديد مفهوم الثقافة المعني بهذا الخطاب، أو هوية المثقفين الذين يطلب منهم دور «رائد». هل تقتصر هذه الشريحة على المزودين بوثائق رسمية تثبت أن ثقافتهم صدرت عن اتحاد الكتاب العرب أو نقابة الفنانين أو المسرح القومي أو المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية؟ أم تمتد إلى كل شخص مارس أي نشاط ثقافي في أي ناد أو صحيفة أو صفحة من صفحات الشبكات الاجتماعية؟

اجتهد كل على هواه، فلم يتح المجال واسعاً لهذا النوع من النقاش الاستطرادي. اختارت غالبية الشخصيات التي تتداول الشأن الفني أو الإعلامي، تنميط دور «المثقف» في قالب الاستعراض ضمن تظاهرات ووقفات احتجاجية في الداخل أو الخارج تنزّه الحراك عن أي نقيصة بوصفه حراك الشعب كل الشعب، وتحصد كمية ضخمة من التبريكات والمدائح و «اللايكات» جزاء انخراطها في صفوف «الثائرين» وانصهارها في بوتقتهم بإيمان مطلق.

بذلك، أصبح معيار «الوطنية» و «الثورة» مرتبطاً بمدى السباب والشتم الموجّهين إلى البعث ودولته، وانساقت هذه الفئة طوعاً أو كرهاً في وضع الحراك السوري موضع الدفاع منافحة ومدافعة عنه في كل محفل، من يساريين منافحين عن النفس الإسلامي للحراك (الذي بدوره لم يبخل عليهم بكل ذم وتقريع) إلى شخصيات تؤكد مراراً وتكراراً لا طائفية الحراك مستشهدة بتجاربها ومشاركاتها (وهي شهادات سوقت إعلامياً لا لشيء إلا لكون أصحابها منتمين إلى أقلية طائفية بعينها)، إلى وجوه سورية معروفة جرت لاهثة خلف الظهور السياسي، فخلعت عباءة الثقافة والتنوير والرؤية السياسية التي كانت تمارسها في زمن القمع والحصار الفكري، وارتدت بدلاً منها عباءة الائتلاف في «تمثيله الشرعي والوحيد للشعب السوري»، ممارسة دورها المهم في إصدار البيانات والمطالبات والإدانات والتقريع على الشاشات. وإن لم ينفع تقريع النظام والمجتمع الدولي، فإن البعض وجد في تقريع الذات خطاباً آمناً، فاندفعوا يلومون أنفسهم بوصفهم «عاجزين» و «لا يرتقون إلى تضحيات الشعب السوري العظيم».

في ظل هذه الفوضى العارمة التي ساهم النظام في تأسيس أصولها وصيانة محفزاتها، انغمس أصحاب الشأن المدني في مشاريع لا تحصى تنحصر في «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» على مستوى شديد الراهنية مقيدين بشروط تمويلية وإدارية شتى. ولم يظهر على السطح مشروع ثقافي سوري بالمعنى العريض، أي بالمعنى غير الشخصي وغير الراهن. تبدد أصحاب الفكر والقلم والإبداع في شرق الأرض ومغربها في صحف ومجلات وشبكات تلفزيونية غير سورية، وانشغل كثير من الروائيين والكتاب في ما يمكن تقديمه عن سورية «لغير السوريين». الروائيون والشعراء في المهجر يسعون إلى ترجمة أعمالهم وكسب جولات متعددة المحطات في أوروبا والعالم، فيما تتجلى غاية كل إعلامي وصحافي في الداخل في عرض مادته أو تقريره على إحدى الشبكات العالمية.

الثقافة السورية تعاني تغريبتها الحقيقية عن السوريين أنفسهم، وتنحاز عما يحتاج السوريون إلى قوله إلى ما يستحب سماعه عند الجمهور «العالمي». إنها وصفة انهيار الثقافة السورية إلى مجرد ثقافة حرب، وهي ثقافة زائلة يمحوها المنتصر لاحقاً.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
«شرق أوسط» أوباما بين التكبيل والتواطؤ

أن يتمتع باراك أوباما، قبل أسابيع من نهاية فترة رئاسته الثانية، بنحو 55 في المائة من رضا الناخبين الأميركيين، وفق أحدث استطلاعات الرأي، لأمر جدير بالاهتمام. إنه كذلك، خصوصًا، مع تراجع سمعة أميركا في الخارج، وتدني وقارها.. لدرجة تجرؤ ميليشيا يمنية تابعة لإيران على استهداف إحدى سفنها الحربية ثلاث مرات خلال بضعة أيام!

نهاية الفترات الرئاسية، الثانية بصفة خاصة، في الولايات المتحدة تشير إلى «تعب» الناخب من سيد البيت الأبيض. وحتى الرؤساء «الكاريزميون»، مثل رونالد ريغان وبيل كلينتون، لم يحظوا بالشعبية التي ما زال يحظى بها أوباما، إذا كنا نصدق الاستطلاع الأخير. وبالأخص، أن نسبة 55 في المائة أعلى بكثير من أعلى رقم تقديري حصل عليه حتى الآن أي من المرشحين الحاليين للرئاسة؛ الديمقراطية هيلاري كلينتون والجمهوري دونالد ترامب. فما السرّ في شعبية أوباما داخل أميركا، وهو الذي فقد كثيرًا من وهجه خارجها، بل بلغ الحضيض في بعض مناطق العالم، لا سيما الشرق الأوسط؟

الأرجح أن ثمة سببين مهمين جدًا:
السبب الأول، هو الاستقرار الداخلي الذي حققه أوباما على صعيد شبكة الأمان الاجتماعية، سواء بالنسبة للرعاية الصحية، وتدني معدلات البطالة، وتحسّن أوضاع الاقتصاد ومستوى معيشة المواطن العادي الذي هزّته الأزمة المالية الكبرى عامي 2008 و2009 وتداعياتها. ومعلوم أنه في الدول الديمقراطية يحكم المواطن على أداء حاكمه في ضوء مصالحه المباشرة، قبل أي اعتبار آخر. ولهذا السبب، كسب بيل كلينتون معركته الانتخابية مع جورج بوش الأب عام 1992، تحت شعار: «إنه الاقتصاد، يا غبي».. بينما كان الرئيس الجمهوري وقادة حزبه مستغرقين بنشوة إنجازهم تحرير الكويت عام 1991. ثم فاز باراك أوباما بالرئاسة عام 2008، تحت شعار «التغيير» السحري الذي شكل الرفض الفعلي للغزو والاحتلال الكارثيين للعراق والأزمة المالية الخانقة التي اضطرت معها سلطة تبشّر بقدسية «اقتصاد السوق» عمليًا لـ«تأميم» مؤقت لبنوك وشركات صناعية وصناديق إقراض عقاري.

والسبب الثاني، المرتبط بسابقه، هو قنوط الأميركيين من المغامرات العسكرية والسياسية الخارجية، وميلهم إلى الانكفاء للاعتناء بأولوياتهم المعيشية. ومن ثم، فإن ما يعتبره كثيرون - وبالذات في منطقة الشرق الأوسط - تخاذلاً، بل خيانة من واشنطن لحلفائها على امتداد العالم، يراه المواطن والناخب العادي الذي لا يفهم لماذا على أولاده أن يموتوا في أصقاع بعيدة، سياسة حكيمة وحصيفة.

إضافة إلى هذين السببين، من الواضح أن الحزب الجمهوري، المُفترض فيه أن يشكل البديل الآيديولوجي للديمقراطيين، ذهب بعيدًا في استسلامه لغلاة اليمين، سواء من داخل أجنحته الحزبية أو اليمينيين المتطرفين الهامشيين من خارج المؤسسة الحزبية. هؤلاء - ومنهم جماعة «حفلة الشاي» وزمر الإنجيليين الأصوليين والعنصريين البيض المسيحيين - اخترقوا الحزب، وتغلغلوا في بنيته خلال العقود الأخيرة، واستولوا على شبكة تنظيماته، وفرضوا جدول أعمالهم عليه. ومن الثابت أن الحزب الجمهوري اليوم يمكن أن يكون أي شيء إلا الحزب الذي رشح أبراهام لنكولن للرئاسة، وسلّمه لواءه.

مجرّد عبارة «حزب لنكولن»، التي يحلو للجمهوريين تردادها كالببغاوات خلال المؤتمرات الوطنية لحزبهم، إهانة حقيقية للرئيس العظيم، الذي خلّد اسمه بالمحافظة على وحدة أميركا، وأسهم بتحرير العبيد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وليس أدل على ذلك من أن الأصوات الإنجيلية والعنصرية المتزمتة في ولايات الجنوب حوّلت هذه الولايات معاقل حصينة للحزب الجمهوري، بعدما كانت الحرب الأهلية (1861 - 1865) التي انتصر فيها لنكولن (الجمهوري) على انفصاليي الجنوب قد أنهت عمليًا وجود الجمهوريين السياسي فيها حتى الحرب العالمية الثانية. وفعلاً، لم يبدأ الحزب الجمهوري مسيرة العودة إلى الجنوب إلا بعدما صار حزب «اليمين المحافظ» في وجه الديمقراطيين المتجهين يسارًا.. نحو الليبرالية.

يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يختار الأميركيون رئيسًا جديدًا (أو رئيسة جديدة) يبدأ (أو تبدأ) عهدًا جديدًا في البيت الأبيض يوم 20 يناير (كانون الثاني) 2017. والمرجح أن يكون العهد الجديد مختلفًا عن عهد باراك أوباما، بصرف النظر عمن سيفوز، المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون أم منافسها الجمهوري دونالد ترامب؛ ذلك أن أيًا من المرشحين الاثنين يختلف جوهريًا عن الرئيس الحالي.

وبجانب الاختلاف البديهي في أن كلينتون - إذا فازت - ستكون أول امرأة تتولى الرئاسة، وأن ترامب سيكون أول «طارئ» لم يسبق له تولي أي مسؤولية سياسية يدير المكتب البيضاوي، فإن شخصيتي كلينتون وترامب وثقافتيهما السياسيتين (على تنافرهما) ونظرتيهما إلى الولايات المتحدة ودورها في العالم تختلفان عن شخصية أوباما وثقافته ونظرته. فكلينتون وترامب لا يؤمنان، مثلاً، بأن أميركا بالضرورة قوة متغطرسة ومتجبرة وعدوانية عليها الاعتذار من خصومها والانقلاب على حلفائها.

أيضًا كلينتون وترامب - رغم الفوارق بينهما - أقل اعتمادًا على «مافيا» صغيرة من المقرّبين، وأكثر التزاما بالتوافقات العريضة.. كلينتون مع كتل الكونغرس و«اللوبيات» الليبرالية والمطلبية، وترامب مع «اللوبيات» المالية والصناعية والدينية المحافظة.

ربما من السذاجة، أو التفاؤل المفرط، أن يتوقع المتابع انقلابًا في سياسة «الرئيسة» هيلاري كلينتون إزاء الشرق الأوسط، مثلاً. لكنها تظل غير مكبّلة بالاتفاق النووي الإيراني، ولا متواطئة مع طهران ضد حلفاء واشنطن التقليديين في العالم العربي وغرب آسيا، كحال أوباما. وطبعًا «الرئيس» ترامب، على الرغم من مواقفه المثيرة للجدل - وبالأخص إزاء روسيا - ستكون لديه مقاربات مختلفة عن مقاربات أوباما و«مطبخه السياسي» تجاه قضايا العالم والشرق الأوسط والإسلام والإرهاب وعلاقات واشنطن مع خصومها.. وما تبقى لها من أصدقاء.

يوم 8 نوفمبر، ستطوى في واشنطن صفحة مؤلمة بالنسبة للعالم العربي، بقدر ما هي طيبة لـ55 في المائة من الأميركيين. ولكن مع أن القرار أميركي والمصلحة أميركية، من حقنا مصارحة الناخب الأميركي بأن السياسة الخارجية بذر وحصاد، وما بذره أوباما من سلبية لن تظهر سنابله إلا بعد حين.

وحينئذٍ، طال الزمن أو قصر، سيكون تقييم التاريخ لرئاسته وتركته السياسية أصدق وأكثر موضوعية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان