لا تفتأ وسائل الإعلام العالمية، تمطرنا صباح مساء بأخبار عدوان ملالي إيران، وإرهابهم في المنطقة العربية بدءاً بالعراق وليس انتهاء باليمن. هذا العدوان الذي يحظى بصمت أوباما وساسة دول الغرب والمنظمات الدولية، يعني بلا أدنى شكّ أن ما يفعله الملالي أحد أمرين، إما استفزاز وإما ابتزاز لأولئك الصامتين المتواطئين والمرتجفين مما قد ينالهم من (نعيم) الملالي، وفي كلتا الحالتين، فالملالي هم الرابحون من إرهابهم ولن يكونوا خاسرين أبدًا في ظل منظومة التراخي الدولية.
ومن مؤشرات ابتزاز الملالي واستفزازهم كما ورد في وسائل الإعلام العالمية:
تصريح وزير الخارجية الأمريكي الذي نشرته مجلة " فورين أفيرز" الأمريكية من أن سياسات طهران في اليمن، ودعمها لرئيس النظام السوري وحزب الله،تعقّد الاتفاق النووي! وما لبثت أمريكا أن جاءها رد الملالي سريعًا على لسان مساعد وزير خارجيتها بقوله:"إن قضايا المنطقة لا علاقة لها بالاتفاق المبرم بين الدول الست الكبرى وطهران"! أما كبيرهم خامنئي الذي كان يتحدث أمام حشد من الناس فقد قال مخاطبًا وزير الخارجية الأمريكي دون ذكر اسمه: "هل يمكن التفاؤل بكم بعد هذه التصريحات؟". وهذان الردان يثبتان مخاوف كثيرين في أمريكا وفي دول العالم كلها، من أن باراك أوباما قدم للملالي امتيازات باتوا يستغلونها لمشاريعهم العدوانية والتوسعية في المنطقة العربية، بل إنهم أصبحوا أكثر وقاحة وجرأة في التباهي بسيطرتهم على عدد من العواصم العربية، وأن لهم ميليشيات في تلك الدول، وهم من يزود الأقزام الحوثيين بالصواريخ التي يطلقونها على حدودنا الجنوبية، كما تمادوا في الوقاحة حدّ مطالبتهم أمريكا وروسيا بنصيبهم من الكعكة السورية، أو نصيبهم من تركة الرجل المريض بشار، وذلك في حديث اللواء يحيى رحيم صفوي للقناة الخامسة للتلفزيون الرسمي الإيراني، الذي عبر فيه عن قلقه إزاء محاولات أمريكا خداع روسيا في الملف السوري، محذراً موسكو وواشنطن من أن تتجاهلا نصيب إيران في هذا الملف خلال تعاملاتهما الثنائية!
ومما يؤكد استخفاف الملالي بأوباما ودول الغرب الداعمة لهم في الاتفاق النووي، قول المستشار العسكري لخامنئي منذ أيام، إن حضور المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية والعراق، ودعم طهران للميليشيات الحوثية في اليمن، وحزب الله في لبنان يأتي تماشياً مع أهداف الثورة الإسلامية.. مضيفا أنه :"منذ اليوم الأول لانتصار الثورة، قال الإمام الخميني إننا سندافع عن المسلمين والمظلومين في العالم، وهذه هي خصوصية التفكير الثوري والديني والإنساني " حسب تعبيره .
وإمعاناً في الاستخفاف بالداعمين لعدوان الملالي، وجّه قائد الحرس الثوري الأسبق محسن رضائي، رسالة إلى زعيم ميليشيات الحوثيين في اليمن حثه فيها على الاستمرار في "المقاومة" ضد عمليات التحالف لإعادة الشرعية، واعدًا باستمرار الدعم الإيراني لهذه الميليشيات الموالية لطهران.
وحسب كثير من المتابعين لعدوان الملالي، فقد "ظهر تحوّل كبير في وسائل الإعلام الأمريكية تجاه الحوثيين وطهران؛ حيث حذروا من أن ضعف الردّ الأمريكي على الحوثيين بقصف راداراتهم سوف يشجع هذه الميليشيات المدعومة من طهران، على إعادة هجومها. كما استغل الجمهوريون هذه الهجمات، فاتهموا إدارة أوباما بمساعدة طهران على تمويل وكلائها الإرهابيين في المنطقة عبر شحنها أموالاً تقدّر بمئات الملايين من الدولارات".
لهذا تساءلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن سخاء إدارة وباما في تعاملها مع إيران، بمواصلة تخفيف العقوبات عليها في إطار الاتفاق النووي، وكيف أن طهران تردّ على هذا السخاء باستهداف القطع البحرية الأمريكية في الخليج العربي. وأضافت الصحيفة أن إيران تريد فكّ التحالف بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية، فتساءلت ثانية عن توقيت حادثة الصاروخين الذي جاء بعد يوم واحد مما أسمته (ضربة بالخطأ أدّت إلى مقتل مدنيين في صنعاء)، مؤكدة أن الهجوم الفاشل على المدمرة التي كان على متنها مئات البحارة الأمريكيين، تذكيرٌ آخر بأن الاتفاق النووي زاد من طموحات إيران بدل تحجيمها، على الرغم من التنازلات الهائلة من جانب الولايات المتحدة!!
وكان السيناتور جون ماكين وهو رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، قد قال في بيان يوم الجمعة الماضي: إن "النظام الإيراني هو من وفّر على الأرجح الصواريخ التي أطلقت على المدمرة الأمريكية "، مشيدًا بـالضربات الناجحة على رادارات في مناطق تخضع لسيطرة الميليشيات. ولم يفته أن يؤكد أن "تزايد السلوك العدواني الإيراني تجاه الولايات المتحدة، سببه تقديم تنازلات لا حصر لها من قبل إدارة أوباما التي دفعت فدية 1.7 مليار دولار، للدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم، وذلك من أجل إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، لذا فإنها تستخدم هذه الأموال لدعم مذابح بشار الأسد في سورية، وتمويل المتمردين الحوثيين في اليمن الذين يطلقون صواريخ على السفن الأمريكية ".
يتزامن هذا القول مع إعلان وكالات إيرانية إطلاق الميليشيات الحوثية وقوات المخلوع صالح، صواريخ ايرانية من نوع زلزال 3 على أهداف سعودية منذ أيام، كما يتزامن مع الكشف عن حركة تهريب نشطة لأسلحة إيرانية للحوثيين، عبر منطقة مجاورة للحدود اليمنية قال مسؤولون أمريكيون: إن إيران وظفت علاقتها الجيدة مع تلك المنطقة في زيادة كميات الأسلحة المهربة إلى الحوثيين، وإن بعض تلك الأسلحة قد يكون استخدم في مهاجمة سفن أمريكية وإماراتية في البحر الأحمر والبحر العربي..
وعن تصاعد النشاط الملالي الإرهابي وتوسعه خصوصاً في سورية واليمن - واستخفاف الملالي وأتباعهم برعاة الاتفاق النووي وابتزازهم – أكد الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي، تشارلز كراوثامر، في مقابلة على شبكة فوكس نيوز، أن سبب ذلك يرجع إلى أن الأطراف اللاعبة، وهي: روسيا وإيران وحزب الله وقوات النظام السوري، تدرك تماماً أن الرئيس الأمريكي أوباما، لن يحرك حتى إصبعه، لتغيير الواقع في الفترة المتبقية له في البيت الأبيض.
واستكمالًا لمشروع الملالي الإرهابي التوسعي، أسس المعممون بالتعاون مع القيادات العراقية، ميليشيات الحشد الشيعي، بذريعة محاربة داعش، لكن الأهداف غير المعلنة أبعد من ذلك بكثير، يأتي على رأسها التغيير الديموغرافي للمدن العراقية التي يشكل فيها السنة أغلبية سكانية، إضافة إلى إنشاء طريق إلى البحر المتوسط، لربط العاصمة الإيرانية ببوابة بحرية تطل عليه لتسقط الحواجز بينها وأوروبا، لهذا سيطرت الميليشيات الإيرانية والعراقية، على مناطق عراقية يسكنها عرب سنة جرت فيها عمليات قتل وتهجير يندى لها جبين الإنسانية التي فرغها الملالي وأتباعهم وكل المجتمع الدولي من معانيها. وفي هذا الصدد يذكر مراسل صحيفة الأوبزرفر في بيروت، أن مقابلات أجريت على مدار الأشهر الأربعة الماضية مع مسؤولين وعراقيين نافذين، ومواطنين في شمال سورية، أكدت تلك المقابلات أن معالم الطريق الإيراني نحو المتوسط بدت معروفة، ما يجعل من مهام ميليشيات الحشد الشعبي تحقيق طموحات طهران، بداية من محافظة ديالى العراقية نحو محافظة صلاح الدين حيث شهدت كلتاهما أسوأ حملات التطهير العرقي والطائفي لإفراغ المكون السني، قبل أن يصل الممر الإيراني إلى الموصل حيث تفتقر إيران للعناصر الموالية لها في هذه المنطقة، ولذا زرعت الحكومة العراقية وميليشيات الحشد عناصر طائفية غرب المدينة، بحجة منع مسلحي داعش من الفرار، بينما الواقع تأمين الممر الإيراني في المناطق الحدودية، إلى أن يشق طريقه نحو طرطوس.
ويعدّ تزويد إيران الميليشيات بالسلاح انتهاكاً للقوانين الدولية، وفق ما أكده المتحدث للشؤون السياسية في الأمم المتحدة. لكنها ما زالت تزود الميليشيات الشيعية في مختلف الدول بالسلاح، وبعشرات من صواريخ سكود والقذائف والراجمات.
لقد بات واضحاً لعقلاء العالم، أن الاتفاق النووي كان قرارًا خاطئاً، وأنه ساعد الملالي على الاستمرار في العدوان والاستخفاف بالدول الداعمة، بابتزازها تارة، واستفزازها تارة أخرى، يفعلون هذا في الوقت الذي يعلنون فيه براءتهم من زعزعة أمن المنطقة، متهمين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا بأن "التدخل اللامسؤول لهذه الدول في شؤون سائر الدول أدى إلى اتساع نطاق انعدام الأمن والحروب والإرهاب، وانتهاك سيادة الدول المجاورة لها.. وأن تردي الأوضاع في سورية واليمن والبحرين والعراق وليبيا جاء نتيجة تدخل أغلب الدول.. ولذلك فإن هذه الدول ليست في موقع يؤهلها لتنصح الآخرين بعدم التدخل في شؤون المنطقة" وذلك ردًا على انتقادهم تدخلات إيران في شؤون دول المنطقة!
ختاماً لن يغير إرهابيو إيران عداءهم لدول الخليج العربي، ولن يحول الاتفاق النووي دون أحلامهم التوسعية في المنطقة، ولن يكفوا عن إثارة النعرات المذهبية، وادعاء المظلومية للشيعة العرب، ولن يتوانوا عن تقويض الأمن القومي العربي، وزعزعة الاستقرار في الوطن العربي، مادام هناك من يتواطأ معهم مستفيدًا من أموالهم وتآمرهم، تتساوى في ذلك دول الغرب وبعض دول العرب.
تسلك روسيا في سورية سلوك "رجل أعمال" غِنم صفقة كبيرة، ولن يدعها تفلت من يده بأي ثمن، وسيحاول، ما وسعه الجهد، تعظيم هذه الصفقة التي تتمثل ببسط وجودٍ عسكريٍّ دائم في هذا البلد، والتمتع بحرية حركةٍ مطلقةٍ حاضراً ومستقبلا، والقيام بمناوراتٍ عسكريةٍ فعلية، وليس على سبيل المحاكاة، كما يتم في المناورات التقليدية، وذلك باستعراض أسلحته المتطورة وتجريبها، وتحقيق نتائج "فعالة"، مثل تهديم شرق حلب على رؤوس عشرات الآلاف من سكانها. وكانت حلب، منذ العام 2012، قد شهدت تدميراً واسعاً على يد النظام، باستخدام أسلحةٍ روسيةٍ، لا قيد على استخدامها داخل الحدود، ومنها طائرات ميغ وسوخوي، وصواريخ غراد وسام. هذا قبل أن يتدخّل الروس بصورة مباشرة في خريف العام 2015، ويستكملوا تهديم الحاضرة التاريخية التي زيّن لهم من زيّن أنها، في مكونها الديمغرافي وثقافة أهلها ومعتقداتهم، تشبه غروزني الشيشانية التي جرى تهديم 98% منها، وعدد سكانها نحو 300 ألف نسمة في نهاية القرن الماضي. والآن، يقول مسؤولون روس إن غروزني حديثة قد أنشأوها. وبمعنى أنه لا مشكلة في هدم مدينةٍ كاملةٍ تخص شعباً آخر، وبكل إرثها الإنساني والروحي، ما دام في الإمكان بناء مدينةٍ حديثة على أنقاضها، تتبع السلطة فيها لموسكو. وهذا هو المصير الذي يبّيتونه لحلب الشهباء التي تماثل في عظمتها القاهرة وبغداد والقيروان وفاس.
نقلت الأربعاء الماضي (19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) وكالة تاس الروسية عن أناتولي بونتشوك، وهو نائب مدير دائرة التعاون العسكري والتقني، قوله إن العملية الجارية في سورية أثبتت أن التجهيزات القتالية الروسية ذات خصائص تكتيكية وتقنية عالية في ميدان القتال، وإن نجاحاتنا في مكافحة الإرهاب (في سورية) زادت اهتمام الزبائن الأجانب بالأسلحة روسية الصنع، بما فيها العتاد البحري. ويعلم الجميع أن روسيا لا تكافح "داعش"، بل تكافح المدنيين بممارسة إرهاب الدولة الأجنبية عليهم. ومن الطبيعي أن تؤدي أية أسلحة تقليدية متطورة إلى الفتك بالمدنيين، وتقويض المنشآت المدنية، كالأسواق الشعبية والأحياء السكنية والمخابز والمشافي، وهي الأهداف المفضلة لـ "الأسلحة الروسية ذات التقنية العالية". ويتطلع الروس، في هذه الغضون، إلى سحق المعارضة السورية المسلحة، وأكبر قطاع ممكن من البيئة الديمغرافية للمعارضة خلال الشهور الثلاثة المقبلة، قبل أن يصل رئيسٌ جديدٌ إلى البيت الأبيض، مستغلين ولع الرئيس أوباما في عقد الاجتماعات، وتأمل الوضع في سورية عن بُعد، والامتناع عن الإتيان بأي فعل "حتى لا تسوء الأوضاع أكثر"، علماً أن العزوف الدولي عن اتخاذ أية مبادرة على الأرض وفي الجو هو بالذات ما جعل الوضع يسوء أكثر، وبالذات منذ عامٍ مضى.
يُسهم ترويج الأسلحة الروسية في منح هيبةٍ للدولة الروسية في نزوعها القيصري، ومنافسة الصناعات العسكرية الغربية، وتكريس الاعتماد على السلاح الروسي، كما يُسهم في رفد الخزينة، في ظل انخفاض أسعار البترول، والعقوبات المفروضة أوروبياً وأميركياً، على خلفية التدخل الروسي في أوكرانيا. وقبل أيام، كان أناتالي بونتشوك قد أعلن، في تصريحاتٍ بثتها قناة روسيا اليوم، أن صادرات الأسلحة الروسية بلغت ثمانية مليارات دولار، حتى أغسطس/ آب الماضي، وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أعلن، في وقت سابق، أن روسيا باعت، في العام 2015، أسلحة بمبلغ 14.5 مليار دولار إلى 58 دولة، في حين يبلغ مجموع الطلبات للسنوات المقبلة حوالي 50 مليار دولار. ويفاخر الروس بأن صادراتهم من الأسلحة تمثل ما نسبته 25% من مجمل صادرات السلاح في العالم، ولا تتقدم، حتى الآن، على روسيا سوى الولايات المتحدة التي تحتل 33% من سوق السلاح العالمي.
وتقدّم موسكو تسهيلاتٍ للتزود بأسلحتها، فقبل أيام، جرى الإعلان في موسكو أن الأخيرة عرضت على الأردن اتفاقاً ملزماً بشراء أسلحة وتجهيزات تقنية بمبلغ 387 مليون دولار، وذلك لسداد قرض للقوات المسلحة الأردنية بقيمة 350 مليون دولار (مع فوائد هذا المبلغ)، وقد تم منح القرض في العام 2006 لشراء تجهيزاتٍ عسكريةٍ روسية، وجرى شراؤها بالفعل كما تقول موسكو. وقد جاء العرض الروسي الذي وافق عليه مجلس الدوما (البرلمان) رداً على طلب الأردن منذ العام 2012 إلغاء الديون الروسية عليه. وبهذه الطريقة، تضمن موسكو التزود بمزيد من أسلحتها، مع تقديم تسهيلات كبيرة.
على هذا النحو، تتم المراهنة اقتصادياً في موسكو على بيع الأسلحة، وربما بأكثر من المراهنة على صادرات الحبوب والنفط والغاز. وتشجّع موسكو، كما واشنطن، السباق بين دول العالم قاطبةً على التسلح، وذلك لضمان ازدهار صناعة الأسلحة الروسية، كما الأميركية.
ولهذا، فإن التدخل الروسي المباشر في سورية، قبل أزيد من عام، قد استهدف، في المقام الأول، الإجهاز على الحل السياسي، المتمثل بمفاوضات جنيف، والاستعاضة عن الحل التفاوضي بلقاءاتٍ يجريها وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في عواصم أوروبية، مع اعتماد الحل العسكري على أوسع نطاق (أو بالأحرى تكريس الحل العسكري الذي اعتمده النظام وتوسيعه)، وهو ما يتوافق مع المصلحة الروسية، بصرف النظر عن رأي السوريين، وكذلك بصرف النظر عن أن المدنيين المنكوبين هم من يتم تجريب الأسلحة المتطورة على أبدانهم.
ولهذا، فإن ما يتواضع العالم والضمير البشري على تسميتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على يد القوات الروسية في حلب وإدلب، وغيرهما من مدن منكوبة، فإنه، في نظر أصحاب هذا "الإنجاز"، لا يعدو أن يكون فرصةً ثمينةً سانحةً، لاستعراض الأسلحة في عرضٍ حيٍّ أمام زبائن مستهدفين في الخارج.
ومنذ أيام، يجري الحديث عن تحضيرات روسية لـ "حلّ نهائي" في حلب، تتهيأ له سفن حربية في المتوسط، تحمل قاذفات مقاتلة. وبما أن أجزاء واسعة من الشهباء قد جرى تهديمها من قبل بأسلحة روسية استخدمها النظام، أو استخدمها الروس أنفسهم، فإن مهمة تحويل الأجزاء الكبرى من حلب إلى غروزني أخرى تبدو سهلة التحقيق في أنظار الخبراء العسكريين الروس. ولا يؤدي تباطؤ المجتمع الدولي في فرض عقوباتٍ على موسكو سوى لتشجيعها على ارتكاب مزيدٍ من جرائم الحرب، فيما ينشط الوزير لافروف في عقد لقاءاتٍ مع وزراء أوروبيين وسواهم، لإثارة انطباعاتٍ زائفة بالبحث عن حلول مزعومة، فيما الهدف الوحيد روسياً لهذه اللقاءات هو كسب الوقت، وصرف الأنظار عما تفعله القوات الروسية بأسلحتها المتطورة ضد ما تبقى من حلب ومن حلبيين، إضافة إلى أدلب وريف دمشق.
يدلي بشار الأسد بتصريحاتٍ عنترية، يريد بها إظهاره بمظهر رئيس مستقل، وإنكار حقيقة أنه صار "دميةً" بيد موسكو وطهران، منذ استدعى جيشي الدولتين لاستعمار سورية، ووافق على أن يكون لهما وجود عسكري وسياسي غير محدود زمنيا فيها.
عندما يدعو حاكمٌ على وشك السقوط قوىً استعمارية لاحتلال بلاده، يتحوّل إلى دميةٍ يتلاعب بها، ويحرّكها سادتها الذين يحمونها؟ وبما أن بشار الأسد غدا دميةً في أيدي غزاة استعماريين يحتلون بلاده، فإنه لم يعد رجل خيار وقرار، للسبب السابق، ولأن الحرب السورية تتحوّل إلى حرب إقليمية كونية الأبعاد، لا علاقة له برسمها وتقريرها، ولا سيطرة له على قواتها. لذلك، يضحك السوريون، عندما يعلن تصميمه على استعادة كل شبر من بلادٍ غدا دميةً بيد محتليها الذين ربط مصيره الشخصي بمرتزقتهم، ويتساءلون: بأي قواتٍ ستستعيد "الدمية" أكثر من 70% من الأرض السورية، إذا كان ما بقي من عسكره عاجزين عن صد أي هجوم على مواقعهم، كما حدث، أخيراً، في ريف حماة، حيث نشرت صور الفرار الجماعي لمئات من ضباطه وجنوده الذين كان قد أخبرهم، مراتٍ عديدة، في عامي الثورة الأولين بأنها "خلصت"، وها هو يحتمي بجيش الاحتلال الروسي، بعد مرور نحو من ستة أعوام على حربه ضد شعب يدّعي أنه موال له، بدلالة ما يلقيه عليه، هو والروس، من براميل متفجرة وقنابل ارتجاجية وفراغية وفسفورية، من طائرات جيشه الذي فرّ ثلاث مراتٍ خلال أقل من خمسة عشر عاماً أمام الجيش الإسرائيلي، بعد أن سلمه الجولان، وسوّغ فراره بافتقاره إلى أسلحة وذخائر، ثم تبين بعد الثورة أن لديه من الأسلحة والذخائر ما مكّنه من شن الحرب ضد شعب سورية الأعزل طوال ستة أعوام، لم يستخدم خلالها معظم الذخائر التي تزوّده روسيا بها يومياً.
قال حسن نصر الله عام 2013 إنه أرسل مرتزقته إلى سورية لإنقاذ بشار الأسد الذي كان على وشك السقوط. وفي نهاية عام 2015، قال بوتين لجنرالاته إنه تدخل في سورية لإنقاذ بشار الأسد من السقوط. لكن من كان على وشك السقوط طوال ثلاثة أعوام يستمتع بدور المهرّج، ويتعنتر على السوريين، مؤكّدا اقتناعهم بأنه يستقوي عليهم بمن يحرسونه منهم، من دون أن يدرك أن تدخلهم جعله من مخلفاتٍ ماضٍ ثاروا عليه، نصّب هلفوتاً مثله رئيساً عليهم، لن يذكر التاريخ من "إنجازاته الوطنية"، غير استدعاء غزاة أجانب، وقطاع طرق، وأفاقين، ومرتزقة من حثالات البشر، لشن الحرب عليهم.
إذا كانت إيران وروسيا قد أنقذتا رجلاً متهالكاً، تسبب في حربٍ يرجّح أن تتسع لتصير إقليمية في الأشهر المقبلة، هل يكون من المقبول التمسك به، بحجة تحقيق حل سياسي، هو الجهة الرئيسة التي تحبطه؟ أم يجب التخلي عنه، وردع منقذه وحاميه: فلاديمير بوتين الذي غزا سورية، ودمر ما كان سليماً من عمرانها وقتل شعبها، وها هو ينقل حربها إلى المجال الدولي، بسياسات حافة الهاوية التي تثير توتراً خطيرا مع أميركا، يرتبط منع انفجاره باتفاق موسكو مع واشنطن على تسوية خلافاتٍ ليس لسورية علاقة بها، وحلول لها تلبي مصالح الكرملين، صار من المؤكد أن الحل السياسي السوري لن يتحقق قبل بلوغها، بعد أن كان اتفاق واشنطن وموسكو على أولويته سبيلهما إليها؟
من دون ردع بوتين، سياسياً وعسكرياً، لن يحول شيء دون انتقال الحرب على سورية إلى المجال الإقليمي، أو تتوقف حرب روسيا ضد سورية. والآن: هل تخطط واشنطن لردع روسيا، أم إنها تخطط لحربٍ إقليمية تمعن في تمزيق دول المنطقة، وتغرق روسيا في لجاجها، كانت دوماً هدف البيت الأبيض وقصده الخفي الذي ساق سورية، ويسوق اليوم الدول الإقليمية، وبوتين الأحمق، إليه؟
طالت، في سورية، الأزمة، الحرب، الثورة، الانتفاضة، المذبحة... إلخ، سمّها ما شئت. طالت أكثر مما قدّرت أكثر التوقعات تشاؤماً، وتوغلت في الدم والحاجة إلى حدودٍ فاقت كل توقع. نعم، تُخرج الأزمات، الحروب، الثورات أجمل ما في الإنسان من تضامناتٍ، فهي لحظة تاريخيةٍ فارقةٍ وتحولية، يسعى أجملنا إلى المساهمة في دفع هذه التحولات إلى المواقع المرغوبة، من خلال دعم الساعين إلى التغيير بالوسائل المالية، أو بدعم الفئات الأكثر حاجةً بين كتلة العائلة القريبة أو الأصدقاء الأقرب لاستمرارهم بالعيش بكرامة. يستحق المستقبل هذه الوقفة وهذا الانحياز، ويستحقّ، كحد أدنى، دعم هذه المتغيرات، هذا مما لا شك فيه، فالحلم بسورية أخرى بات في متناول اليد. كل من يعرف سورية، يعرف قصصاً من تضامن العائلات والأصدقاء لا تصدّق، قصص فيها من الإيثار ما يجعلها نموذجاً استثنائياً في الوفاء، ففي مواجهة الموت والحاجة، هناك دائما ما هو استثنائي في العلاقات بين البشر.
الامتداد الزمني الطويل للحدث السوري، قلب المعادلة أكثر من مرة بين من يدعم، وبين من يحتاج إلى الدعم، هناك مقتدرون كثيرون قدموا الكثير، ليجدوا أنفسهم، في سياق عملية الطحن المستمرة، غير قادرين على إعالة أنفسهم، ما حوّلهم من داعمين إلى محتاجين إلى الدعم. هناك كثيرون ممن عاشوا بنفسٍ عزيزة طوال حياتهم، وكانوا نسيج وحدهم، عصاميين حتى العظم، لم يطلبوا من أحدٍ يوماً أي شيء، كسرتهم الأحداث، وأجبرتهم على طلب حاجتهم من آخرين، ولم يكن الآخرون قادرين على ردهم في أحلك الظروف. هناك عاملون في الخليج تعهدوا حماية عائلاتهم من الحاجة، بعد سنواتٍ وجدوا أنفسهم يفقدون عملهم، لم يعودوا قادرين على إعالة أنفسهم، وانضموا إلى المحتاجين الذين كانوا يعيلونهم. يقول صديقي المقتدر الذي ينحدر من منطقةٍ منكوبةٍ إنه أخذ على عاتقه إعالة كل إخوته وعائلاتهم الذين يعدّون خمساً وأربعين شخصاً، موزعين على ثماني عائلات، الذين فقدوا أعمالهم جميعا، وهو يعتقد أنه سيحتاج أن يصرف عليهم عشر سنوات مقبلة على الأقل. ويقول: لا أعرف إذا كنت أستطيع الاستمرار كل هذه المدة، لكني متأكّد، أنهم سيحتاجون إلى المساعدة سنوات طويلة، وفي هذه السنوات سيزداد عددهم، وهذا من سنّة الحياة، على الرغم من كل الأوضاع الصعبة التي ستعيشها سورية.
إذا كان هذا المثال قريباً إلى تقدير الواقع المقبل، بصرف النظر عن نتائج الصراع على الأرض، حتى لو سقط النظام اليوم، أو تم التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، تحتاج إلى أكثر من عشرين عاما لتقف على قدميها، فكيف في حال استمرار التدمير الذي نراه، والذي لا يعرف أحدٌ متى يمكن أن يتوقف؟
هناك آخرون ممن تعهدوا أسرهم في الدعم، وجدوا أن القصة طويلة، وأن لا مجد لهم فيها، بعد أن استطالت كل هذا الوقت، وأخذوا ينسحبون من الوقوف إلى جانب عائلاتهم لأسبابٍ واهية، في وقتٍ يزداد وضع هؤلاء تدهورا.
يبدو أن الاستثمار الأفضل، في ظل الأوضاع اليائسة التي تعيشها سورية اليوم، هو هجرة العائلة، أو أفراد منها على الأقل، وعلى هؤلاء الناجين من "المحرقة السورية" تقع مسؤولية إعالة عائلاتهم التي ستبقى في سورية زمناً طويلاً. في تقديري، أن الأغلبية الساحقة من السوريين الذين سيبقون في سورية، أكانوا يعملون أم عاطلين عن العمل، سيبقون بحاجةٍ إلى مساعدة دائمة ومستمرة ودورية، سنوات طويلة ما بعد توقف التدمير في سورية.
كما أن الأزمات تخرج أجمل ما في الإنسان، ففي المقابل، تخرج أسوأ ما عند الآخرين، ولأن السوريين ليسوا شعباً من الملائكة، فإن حجم الصراع على الفتات بين المحتاجين صورة أخرى لاستطالة الأزمة السورية. أصدقاء وأقارب كثيرون عاشوا علاقاتٍ اجتماعيةً جميلة في ما بينهم قبل انطلاق الاحتجاجات في سورية، وجدوا أنفسهم، بسبب التهجير، يعيشون مجتمعين في أماكن صغيرة ضيقة، استمرار ضيق الحال بين الجميع جعلهم يصطدمون مع بعضهم على تفاصيل تافهة، والعلاقات القوية التي بين أشخاصٍ كثيرين عملت الأزمة وضيق الحال على تدميرها، وكانت هذه العلاقات أجمل ما في حياتهم. تقول ابنة أحد الأصدقاء، إنهم كانوا مجموعةً جميلة ومترابطة من الأصدقاء والأقارب قبل الاحتجاجات، أجبرتهم الأزمة على العيش المشترك في منزل واحد في جرمانا قرب دمشق، خرجوا جميعاً من تجربة العيش المشترك مختلفين ومتخاصمين، تحولت الصداقات القوية عداوة، ونميمة تجاه بعضهم البعض مستمرة.
الأزمة الطويلة، والتهجير والاقتلاع الجماعي، والإفقار المستمر، والقهر الواقع على الجميع، كل ذلك وغيره، دفع إلى متغيراتٍ هائلةٍ داخل المجتمع السوري، وداخل العائلة الواحدة في السنوات التي تلت انطلاقة الاحتجاجات، والتي خلفت آثاراً اجتماعية وصحية ونفسيةً، من الصعب الخلاص القريب منها. ليس كل السوريين اليوم أنفسهم الذين كانوا مطلع العام 2011، لم يتغيروا بفعل الزمن فحسب، بل تغيروا، بفعل هول الحدث العاصف والصادم الذي شهده بلدهم، والجريمة الكبرى التي ارتكبها النظام بحق شعبه، والجروح العميقة التي أوقعها في كل بيت سوري. لا يشبه السوريون اليوم السوريين الذين عاشوا في البلاد قبل الانتفاضة. تغير السوريون كما تغيرت معالم كثيرة في بلدهم، وكذا كثير من تكويناتهم وعلاقاتهم الاجتماعية. اختفى الشعب السوري الذي عاش في "مملكة الصمت" الرهيبة للنظام الأسدي. ولكن، لم يولد بعد شعب "جمهورية الحرية". تبدو كل العوامل تلعب دوراً سلبياً في ولادة هذه الجمهورية، وفي الطريق الطويل المليء بالمآسي والصعاب، للوصول إلى هذا الهدف، كل شيء يتغير في سورية، بما فيها التضامنات الاجتماعية الجميلة التي أخذت في الانهيار، تحت الضغوط الهائلة للأزمة السورية. إنها التراجيديا السورية، تراجيديا إنسانية معممة، غير قابلة للرواية والتوثيق، بحكم اتساعها الهائل والمذهل.
سؤالٌ يبدو أبدياً، يُطرح على كل مثقف سوري يكتب مقالات ينتقد فيها النظام، وخصوصاً ممارسات الأجهزة الأمنية وسلطة الأمن، أو يتحدّث عن معتقلي الرأي، والسؤال الأبدي هو: هل ستجرؤ على العودة إلى سورية بعد كتابتك هذه؟.
أسافر كثيراً خارج وطني سورية، لكنني أعود إليه دوماً، لأنه انتمائي، ولأني أؤمن أن لي كل الحق أن أعيش فيه، وأن أتكلم بنزاهة ومصداقية، والأهم بحرية. ولست وحدي من يتلقى تحذيرات وتخويفا من الأصدقاء، بعد أن نكتب مقالات عن انتهاكات الأجهزة الأمنية وعن المعتقلين، وتحديداً مُعتقلي الرأي، وعن عنف السلطة من استعمال البراميل المتفجرة والدبابات لمحاربة ما تسميها جماعات إرهابية مسلحة.
ما الذي يعنيه في علم النفس أن يُسأل الشعب السوري (23 مليونا قبل الثورة، ونزح حوالي نصفه بعد العنف الفظيع): هل تجرؤ، أيها المثقف الذي تنتقد النظام وأجهزته الأمنية القمعية، على العودة إلى سورية؟ سؤال يعني أن كل الشعب السوري مُروّع من الأمن، وأن ثمة حالة من الرُهاب النفسي التي تقارب الذعر من مجرّد انتقاد النظام والمخابرات، حتى أن العملية التربوية في سورية (بشكل عام وواسع) تعتمد على استمرار تحذير الأولاد من التحدّث بالسياسة، أو الانتماء إلى أحزابٍ معادية للنظام، والذاكرة الجمعية للشعب السوري لا تنسى المعتقلين الإسلاميين، والمنتمين لرابطة العمل الشيوعي، وحتى المدافعين عن حقوق الإنسان، أفواجاً بالآلاف، غُيبوا في السجون، بعضهم عشرين سنة.
أصابت تلك الاعتقالات الناس بحالةٍ من الذعر الأخرس، بل أصبحت لدى بعضهم حالة رهيبة من العُصاب النفسي، تُسمى التماهي مع المُعتدي. وقد أبدع مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور" في تحليلها، وهي أن هول الذعر ممن يمثلون الأجهزة الأمنية يجعل المواطن يبرّر لها استبدادها، ويلوم كل من تجرأ مُعترضاً أو مُخالفاً الرأي الوحيد السائد في سورية. بل يتعمد بعض هؤلاء من ضحايا حالة التماهي هذه أن يجهروا بأن الأجهزة الأمنية على حقّ في اعتقال الشبان الذين سيخرّبون الوطن بأفكارهم المُعادية لسياسة الممانعة والمقاومة التي تمثلها سورية وحدها! ومفهوم المؤامرة أحد ركائز الأجهزة الأمنية في سورية، فكل رأي مُخالف للرأي الأوحد مؤامرة، وصاحبه مدفوع من الخارج، وربما يقبض أموالاً لتخريب البلد، حتى أن مئات الشبان، ومعظمهم دون الثامنة عشرة، اعتقلوا بسبب جرأتهم على تصوير المُظاهرات السلمية بالموبايل، والأكثر إيلاماً الحالة النفسية التي يشعر بها معظم السوريين بأنهم متهمون حتى يثبت العكس، كما لو أن السوري مُضطر لتقديم براءة ذمةٍ يوميةٍ للأجهزة الأمنية، ولأن يسلمها، بكل رضى، عنقه، لكي لا تعتقله ويعدها ألا يفكّر، وبأن لا يتكلم إلا عن نظرية المؤامرة، ولا يؤمن إلا بالله عز وجل، وبأن سورية دولة الممانعة والمقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
هذا هو النمط الذي تم فبركة السوري على أساسه عقوداً. لكن، بعد أن انتفض السوريون مطالبين بالحرية، لم يعد هذا السؤال مقبولاً لدى الكتاب الذين ينتقدون النظام وأجهزته الأمنيه: هل ستجرؤ وتعود إلى سورية. وكم أحزنني حين راهن أصدقاء ومعارف على عودتي إلى سورية بعد نشر مقالي "مؤامرة بندر بن سلطان" (العربي الجديد، 23/12/2014)، عن المسرحية الهزلية، حرق المسؤولين في المشفى الوطني في اللاذقية هضبةً من حبوب الهلوسة (كما ادّعوا)، أرسلتها إليهم قناة الجزيرة. ثم مقالات أخرى، وصفت في أحدها شاحنةً محملة بأكوام جثثٍ مشوهة لشبان قُتلوا بالبساطة التي تُقتل فيها الحشرات، مرّت تستعرض بضاعتها في شوارع اللاذقية، ليرى الناس مصير الإرهابيين(!). بعد كل مقال لأصدقائي الكتاب الذين أصرّوا على البقاء في سورية، والتحدّث بحرية، مستعدين لدفع ثمن كلمة الحق، يتساءل السوريون: هل ستجرؤون على العودة إلى سورية، في كل مرة تغادرونها وتكتبون بجرأة؟ وقاطع سوريون مذعورون هؤلاء الكتاب الشجعان، وحذفوهم من صداقاتهم في "فيسبوك"، أو تعمّدوا أن يسخروا من أفكارهم، لإرضاء الأجهزة الأمنية، وإرضاء عنصر المخابرات الصغير المزروع في دماغ كل سوري؟ المنطق الغريب الذي تستعمله معظم أجهزة المخابرات في سورية حين يستدعون كاتباً، بسبب مقالٍ لم يعجبهم: لا يجوز نشر الغسيل الوسخ أمام العالم. .. ما مهمة الكتابة إن لم تنشر الغسيل الوسخ، وتحك عن الفساد والسلبيات في مؤسسات الدولة؟.
سأعود إلى سورية، مع أصدقائي الكتاب الذين يعتبرون الكتابة شرفاً، وكلمة حق، ودفاعاً عن حقوق الإنسان بالحرية والعيش الكريم. وسنستمر بنشر الغسيل الوسخ أمام عيون العالم كله.
من الموصل، حيث تقود الولايات المتحدة، بأركانها وطيرانها وسلاحها الحديث (وإن بأيدي العراقيين)، الحرب على «داعش» لطردها من المدينة العراقية، الى حلب في سورية، حيث تقوم روسيا بعملية لا تختلف عن ذلك كثيراً لتفريغ المدينة من سكانها، يقول المشهد السياسي في المنطقة عبارة واحدة: لا دولة في كل من العراق وسورية، على رغم جعجعة النظامين فيهما عن السيادة الوطنية والاستقلال والقرار الحر. بل وأكثر، على رغم الاسطوانة الفارغة والمكررة، لدى ولي أمر النظامين في طهران، عن «المقاومة والممانعة» ضد ما يطلق عليه تمويهاً اسم «الاستكبار العالمي».
واذا كان لـ «الاستكبار» هذا، كما قد يقال، عنوان آخر غير عنوان الدولتين العظميين اللتين تحاربان جنباً الى جنب مع «الولي الفقيه» تحت شعار الدفاع عن تابعيه في العراق وسورية، فهل من معنى بعد ذلك لـ «المقاومة والممانعة»، أو حتى لوجود دولتين مستقلتين ونظامي حكم في بغداد ودمشق؟
لكن السؤال الحقيقي في النهاية ليس هنا. انه عما بعد حرب الموصل وحلب، الذي لن يبقى كما كان قبلها في أي حال... وليس بالنسبة للبلدين المعنيين فقط، انما أساساً بالنسبة الى المنطقة كلها فضلاً عن صورتها في العالم وعلاقات القوى السياسية والاجتماعية والطائفية والعرقية فيها.
فقد يستمرّ، وإن بصورة موقتة، نظام حزب «الدعوة» بحكومة حيدر العبادي في العراق ونظام «البعث» برئاسة بشار الأسد في سورية، لكن عراقاً آخر وسورية أخرى هما حتماً ما سيجد «القائدان المظفران» (ليس مستبعداً أن يعلن العبادي والأسد بطلي تحرير) نفسيهما فيهما بعد انتهاء هذه الحرب.
أي عراق، وأية سورية، بل أية منطقة مختلفة كلياً، سيجد العالم نفسه أمامها بعد حرب تدمير كل من الموصل وحلب، ثاني أكبر مدينتين في البلدين من ناحية، وأكثرها كثافة سكانية من طائفة معينة هي الطائفة الاسلامية السنّية من ناحية ثانية؟
في تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، بعد لقاء فيينا في شأن الحرب في حلب (للمناسبة، لم يدع اليه النظام السوري) أن تدمير المدينة في شكل كامل، على طريقة غروزني، لن ينهي الحرب لا في سورية ولا في حلب نفسها. في المقابل، قال بيان مشابه لوزارة الخارجية الروسية، بعد بدء العملية الحربية في الموصل، أن هذه المدينة مهددة بكارثة إنسانية. هل ما سبق مجرد اتهامات متبادلة بين الدولتين اللتين تخوضان الحرب هنا وهناك، أم أنه يلمح الى أمر آخر سيبرز الى العلن في المستقبل القريب أو حتى المتوسط والبعيد؟
لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة وروسيا لا تريدان التورط في حرب ساخنة بينهما، على رغم تحريك الصواريخ والأساطيل (معظم الأسطول الروسي بات في بحار المنطقة)، لكنهما لم تسلما بعد بما يبدو تعديلاً لميزان القوى الدولي والاقليمي فيها. هل هي الحرب الباردة مجدداً، انطلاقاً من الشرق الأوسط وليس أوروبا هذه المرة، بخاصة أن المنطقة مهيأة لمختلف أنواع الحروب بالوكالة، أم أن الأمر ليس سوى مرحلة البحث بتقاسم النفوذ؟
في الوقت ذاته، لا شك في أن موسكو فلاديمير بوتين تريد، من خلال حربها في حلب، فرض «حسم عسكري» للأزمة في سورية، خصوصاً بعدما أقامت فيها ما وصف بقاعدتين «الى أجل غير مسمى»، عبر معاهدة مكتوبة مع الأسد في جانب، وبموافقة كاملة من حاميه الايراني في جانب آخر. ولهذا، فليست حرب حلب، من وجهة نظرها، إلا معركة في حرب أوسع تشمل الأراضي السورية كلها، ولو أنها تتم سياسياً وإعلامياً، كما كانت منذ بدء التدخل الروسي قبل عام، باسم الحرب على الإرهاب.
لكن أية سورية بعد سقوط حلب، كما أي عراق بعد تحرير الصومال، هما ما قد يشكلان ساحة هذه الحرب؟
لن ينتهي «داعش» في العراق، ولا طبعاً «جبهة فتح الشام» في سورية، لأن مقاتليهما (عشرات الآلاف، وفق كل التقديرات) لا بد سينتشرون في مدن وبلدات وقرى البلدين، فضلاً عن الصحارى الشاسعة فيهما وعبر الحدود الواسعة في ما بينهما، ليشكلوا ما يمكن وصفه بـ «جيوش نائمة» لن تلبث أن تعود الى القتال ضد النظامين اللذين لم يوفرا أداة للقتل والقمع والتدمير والتجويع والتهجير الا واستخدماها بحق شعبي البلدين، كما ضد من يدافع عن هذين النظامين أو يحميهما... من القوات الأميركية، الى الروسية، الى الإيرانية والميليشيات التابعة لها تحت أسماء مختلفة.
ولأنه لا همّ للولايات المتحدة وزميلاتها الأوروبيات سوى منع المقاتلين هؤلاء من الانتقال الى الغرب، كما لا همّ لتركيا سوى إقفال حدودها في وجوههم، فضلاً عن هواجس روسيا وإيران بدورهما من أمر مماثل، فليس مبالغاً فيه القول ان سورية الأخرى (بعد حرب حلب) والعراق الآخر (بعد حرب الموصل) سيكونان الساحة المفتوحة على مصراعيها للحروب المقبلة.
وعملياً، فاذا لم يكن ذلك كله كافياً ستكون ممارسات «الحشد الشعبي» وأشباهه في العراق والميليشيات الايرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية في سورية جاهزة لصب المزيد من الزيت على النار.
قبل 5 أعوام، انقسمت دول المنطقة بين مناصر للربيع العربي، وخصوم له متوجسين منه. انغمس الفريقان في تحولات المنطقة غير المسبوقة، كل تبعاً لاجتهاده، من دون اتفاق بينهما بل مع قدر كبير من التنافس، والنتيجة هي ما نعيشه جميعاً الآن، وأستعير جملة رائعة صاغها الزميل الكبير حازم صاغية في مقالته الأسبوعية بهذه الصفحة قبل أيام تصف واقع الحال الذي نعيشه بأنه «انهيارنا العظيم المتمادي»، فما السبيل لوقف هذا «الانهيار العظيم المتمادي» العابر للحدود والذي كلما توقعنا أننا رأينا أسوأه، يسفر عمّا هو أسوأ؟
لا وقت للتلاوم، ونحن ننتظر صور أحدث هجرة من هجرات أبناء المنطقة، والتي اتسمت بأنها هجرات للسنّة الذين شكلوا تاريخ المشرق العربي، بكل امتداداته التاريخية لزمن الحضارة والازدهار ومقاومة الغزاة. نعم جميعنا ينتظر صور الهجرة الكبرى لسنّة الموصل، تلك المدينة العظيمة التي عقدت فيها يوماً نية الجهاد وتحرير الأقصى من الصليبيين، وشهدت مع حلب، رفيقتها في التاريخ والشهادة، أهم حركة إحياء سنّي قبل ألف عام. على رغم حلكة الليل، ثمة أمل، بأن «الإخوة الكبار» بصدد إعادة ترتيب علاقاتهم والانتقال من التنافس إلى التنسيق، ولكنهم في حاجة إلى إعادة رسم خطوط التماس التي فرقتهم. قبل خمسة أعوام كان الموقف من الربيع العربي والثورات وما تبع ذلك من مواقف حيال الإسلاميين الذين تصدروا المشهد، هو ما حدد المواقع والتمترس خلفها. اليوم اختلط المشهد، وتداخلت التحالفات وتبدلت. ظهر ذلك في الخلاف السعودي - المصري اثر قصة التصويت الشهيرة بمجلس الأمن، إذ بدت مصر وكأنها في المعسكر الآخر الذي يواجه السعودية، حليفها المفترض، ثم أصرت على إظهار «استقلالها» باستقبالها رئيس الاستخبارات السورية علي مملوك بغرض «تنسيق المواقف سياسياً بين سورية ومصر وكذلك تعزيز التنسيق في مكافحة الإرهاب الذي يتعرض له البلدان»، كما ذكرت «وكالة الأنباء السورية»، بعد أن صرخت قائلة: «لن نركع لغير الله» (عبارة خارج السياق والزمان).
في المقابل، وقبل ذلك بأيام يجتمع في الرياض وزراء خارجية دول مجلس التعاون وتركيا في ورشة عمل جادة، يتباحثون وينسقون المواقف ويضعون الخطط لمعالجة قضايا المنطقة الجارية والدامية والمهددة للأمن القومي العربي، أو بالأحرى «أمن المنطقة القومي»، فالأتراك باتوا شركاء مع السعوديين والخليجيين على أرض العرب من الموصل شمالاً حتى اليمن جنوباً، وللأسف غابت عن الاجتماع مصر، على رغم أنها معنية به وبكل تفاصيله.
إذا رسمنا دوائر المتغيرات الحاصلة، وفق معطيات التحالفات القديمة سنجد تداخلاً كبيراً بمن حضر ومن غاب، ما يعطي الأمل بتغير مهم في خطوط الانقسام من ضفتي الموقف من الربيع العربي إلى ضفتي الاستقرار ضد الفوضى، وهو ما ينبغي أن يكون لوقف حال الانهيار العظيم، الذي يراه حازم صاغية «مدهشاً ويستعصي على التفسير وهو يحصل بهذا الحجم الجيولوجي» وهذا التوصيف البليغ للأستاذ صاغية، وهو من عاش تاريخ كوارث العرب في هذا القرن والذي قبله وسجلها بأكثر من كتاب ومقالة، فيتساءل «كيف يمكن أن يجتمع في منطقة واحدة، وفي المرحلة الزمنيّة عينها، انهيار دول بأمّها وأبيها، وانهيار شعوب تغادر بلدانها بالآلاف المؤلّفة؟ وكيف يمكن أن يتزامن انهيار الأفكار والطوائف والإثنيّات والأحزاب والأيديولوجيّات كأنّها أبراج من قشّ؟»
حال الانهيار المتمادي هذه هي ما يجب أن تشكل تحالفات المنطقة، من هو معها أو جاهل بخطرها ومن هو مدرك كارثيتها على الجميع، بناء على ذلك يجب أن تتشكل التحالفات.
الأسابيع الأخيرة شهدت أقبح صور الانهيار في حلب، ثم تتبعها الموصل، ولكنها أيضاً شهدت تحركات تشير إلى تغيير مهم في المسار، ابتدأها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، إذ زار أنقرة، ومن هناك أطلق جملته الشهيرة التي تم تناقلها على نطاق واسع لترسم طبيعة المرحلة إذ قال: «نحن وتركيا مستهدفان، والبلدان بحاجة الى بعضهما البعض»، ما يعني أن الذي يجمع المملكة وتركيا هو إدراكهما الاستهداف والتحديات الممثلة في الفوضى واختراق أمن المنطقة، وبالتالي يجب أن يعملا معاً. هذا يفسر طبيعة اجتماع الرياض بين الخليجيين والأتراك، فالتحديات التي أدركوها مجتمعين جعلتهم ينحون تلك الاختلافات بينهم التي شكلت منحنى سلبياً خلال سنوات الربيع العربي الأولى، الى مرحلة تعاون يجب أن يكون عنوانها «وقف الانهيار العظيم والمتمادي».
يصب هذا في زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد الى تركيا، ولقائه المسؤولين هناك بما في ذلك الرئيس رجب طيب أردوغان، وترافقت الزيارة مع تصريحات دافئة متبادلة بين الطرفين، ما شجع على التفاؤل بأنها إيذان بطي فترة توتر بين البلدين، وما كان لها أن تتم من دون الرغبة والنصح السعوديَين، وإدراك الإمارات وتركيا ضرورة فتح صفحة جديدة للتعامل مع أزمات المنطقة.
ما يجرى في ليبيا اليوم من أحداث يكشف كيف أن الاختلافات الأيديولوجية التي حكمت علاقات «الإخوة الكبار» في المنطقة كانت عبثية، فرئيس وزراء حكومة الإنقاذ خليفة الغويل والذي قاد انقلاباً على حكومة الوفاق المدعومة من المجتمع الدولي كان وحكومته شركاء مع الإسلاميين و «الإخوان»، ولا تزال مجموعة من الميليشيات الإسلامية بشرق ليبيا تدين له بالولاء، في الوقت نفسه مد يده للتصالح مع القائد العسكري خليفة حفتر المعادي بشدة للإسلاميين و «الإخوان»، والمدعوم مصرياً، ويجمعهما اليوم العداء مع حكومة الوفاق التي يقودها السراج المدعوم من السعودية وتونس والجزائر والمغرب، إضافة الى المجتمع الدولي، فمن مع من في ليبيا؟ وأين الأيديولوجيا؟ إنها الفوضى التي غلبت الجميع، فتجلى ذلك في ليبيا، والتي تشكل خريطة «انهيارنا العظيم المتمادي» وهي التي ينبغي أن تتفرغ القوى للقضاء عليها.
كان ينبغي للأخ الأكبر أو «الإخوة الكبار» أن يدعموا عملية التغيير التاريخية في الجمهوريات العربية بترشيدها وتسهيل الخلافات الطبيعية التي ستطرأ بين قوى سياسية عاشت عقوداً تحت حكم قمعي ماتت فيه السياسة وافتقد الجميع مهارات التوافق والديموقراطية. للأسف اختار كل «أخ كبير» مجتمعاً أو متضامناً مع إخوة كبار آخرين يوافقونه الرأي فريقاً في تلك الجمهوريات البائسة، لم ينتصر أحد، وكانت النتيجة التي نراها اليوم، وتجسدها الحال الليبية بتشظياتها التي تولد منها تشظيات أخرى كل بضعة أشهر.
الآن وقد سادت روح التعاون بين «الإخوة الكبار» فالفرصة مواتية لتعديل مسار التاريخ، لترسم خطوط الاتفاق والانقسام الحالية حول من مع «التوافق» ومن هو ضده؟ من يشارك في خطة لإحلال سلام مجتمعي يجمع كل الفرقاء في اليمن وسورية وليبيا ومن يريد نصرة فريق على آخر؟ ويشمل ذلك الأخذ على يد من يعطل اتفاقاً توافقياً، فطرف واحد يمكن أن يخرب عمل جماعة.
ولكن سيبقى «فريق الإخوة الكبار» في المنطقة، مفتقداً لمصر، بحجمها وثقلها الاستراتيجي، ولا بد أن الرياض تشعر بالضيق لأن الحليف الذي تمنت لم يكن معها في الاجتماع الخليجي - التركي، إذ كيف تمكن مناقشة إنقاذ الموصل من إيران، وسورية من الفوضى واليمن من الانقسام، في غياب القاهرة وهي صاحبة علاقة بكل «الأقاليم» العربية الثلاثة. الجيد أنها لم تيأس بعد، لا تزال تأمل بعودة الغائب، وعسى أن يكون ذلك قريباً.
دحر تنظيم «داعش» في الموصل سيكون لمصلحة السُنَّة العرب عموماً بقدر ما هو في مصلحة إيران والشيعة في العراق، لأن ضحايا هذا التنظيم الإرهابي هم السُنَّة بالدرجة الأولى، شعباً وحكومات. القضاء على «داعش» بات مطلباً عالمياً وموضع وفاق بين الغرب والشرق، فلا خلاف على ضرورة الحسم العسكري ضده، بل هناك إيكال لمهمة الإشراف على القضاء عليه للولايات المتحدة في العراق ولروسيا في سورية. كل المؤشرات تفيد بأن المعركة العسكرية، وإن طالت، ستنتهي بتحرير الموصل من «داعش»، وأن سحق «داعش» في العراق سيجعله تنظيماً ضعيفاً في سورية. تداخل الساحتين العراقية والسورية سيؤدي إلى ترابط ما بينهما، بما يعني أن لا حل للأمن العراقي بلا حل للأمن السوري، والعكس بالعكس، لا سيما أن كبار اللاعبين الإقليميين كتركيا وإيران، متمسكون بأدوات نفوذهم في الدولتين العربيتين المهمتين، وأن بينهم عنصر الكرد وكل ما يحيط به من وئام وخصام وتلاقي مصالح وتنافسها. معركة الموصل قد تُحسَم عسكرياً خلال أسابيع، كما يقال، لكن تزاحم الأجندات المتعارضة ما بعد المعركة ينذر بتعقيدات وقد يؤدي إلى إلغاء تمرد وولادة تمرد آخر في آن. لذلك، فإن التحذيرات حول الأداء السياسي للحكومة العراقية ترتبط بأدائها في الميدان ومدى سماحها لما يسمى «الحشد الشعبي» الشيعي – الذي تدرب إيران ميليشياته – بالمشاركة في معركة الموصل، ثم استخدام الانتصار لهدف إخضاع السُنَّة في المدينة السنّية الكبرى بالعراق. أما المدينة السنّية الكبرى في سورية، حلب، فإنها قد تكون مرشحة لوقف النزيف، إذا صدقت التعهدات التي توصلت إليها الأطراف المؤثرة التي التقت الأسبوع الماضي في لوزان.
لوزان، أولاً، طبقاً لمصدر قريب من المفاوضات الوزارية التي شملت الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسعودية وقطر وإيران – أضيف إليها العراق ومصر بطلب من طهران واستبعدت منها بريطانيا وفرنسا بموافقة أميركية على مطلب روسي. يقول المصدر أن ما قاله السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، لجهة موافقة تركيا والسعودية وقطر على إقناع أطراف المعارضة السورية بالانفصال عن «جبهة النصرة» كلام صحيح، لكنه ناقص. السفير تشوركين نفى أن يكون هناك مقابل روسي للاستعداد الثلاثي المتعلق بالفصل، وقال علناً أن لا مقابل في المعادلة.
المصدر القريب من المفاوضات أكد أن ما تم التوصل إليه في نهاية المفاوضات هو أن الثلاثي التركي – السعودي – القطري أعرب عن «استعداده للتجاوب مع روسيا عبر النفوذ مع المعارضة السورية المسلحة للانفصال عن جبهة النصرة، إنما، على روسيا مسؤولية موازية وهي أن تتواصل مع النظام في دمشق وتضمن أن يقوم بتجميد عملياته العسكرية في حلب، ووقف القتل الممنهج للمدنيين، وفك الحصار».
«وافق الروس»، يقول المصدر، وبالتالي، ليس صحيحاً أنه لم يكن هناك «مقابل» كما قال تشوركين. اتفق الوزراء على الاستمرار في النقاش وعقد الاجتماعات على مستوى العسكريين على أساس التفاهم «بالاتجاهين».
حديث لوزان انصبّ على حلب قطعاً مع تركيز الروس على إخراج «جبهة النصرة» من حلب وعمل إجراءات انفصال المعارضة السورية عن الجبهة. كانت مقترحات المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في صلب النقاش رغم اقتناع البعض بأنها ساذجة في جزء منها وبهلوانية، لا سيما عندما تطوّع لمرافقة 900 عنصر من «جبهة النصرة» لمغادرة المدينة.
المصدر أكد أن البحث لم يتطرق إلى مصير الرئيس السوري بشار الأسد لأنه ركّز قطعاً على حلب وعلى المقايضة بين الطرفين الأساسيين وهما: تركيا والسعودية وقطر من جهة، وروسيا وإيران من جهة أخرى. لوحظ على دي ميستورا أنه كان أقرب إلى الموقف الروسي ونقل المصدر عنه أنه تحدث عن «صعوبة كبيرة» في تنفيذ ما طُلِب من روسيا وأنه عبّر عن رأيه أنه «أسهل» على الدول الثلاث أن تنفِّذ ما تطلبه منها روسيا وإيران.
الإيرانيون كانوا مترددين في حضور اجتماع لوزان، ثم اشترطوا وجود مصر والعراق. الإصرار الإيراني على وجود مصر في خضمّ التقارب الروسي – المصري واهتزاز العلاقات الخليجية – المصرية أثارا الكثير من التساؤلات والاستغراب. أما الانزعاج الخليجي فقد كان نتيجة قرار استبعاد فرنسا وبريطانيا من الاجتماع.
أثناء الاجتماع، ووفق المصدر، كان وزير الخارجية الإيراني مدافعاً قوياً عن النظام السوري وكان «صوت النظام في الاجتماع». عندما وافق الروس على «المقابل»، لم يكن الإيرانيون طرفاً موافقاً أو معارضاً.
أما الأتراك فإنهم توجهوا بصورة مباشرة إلى الإيرانيين في الاجتماع ليقولوا «عليكم واجبات أيضاً» بالذات لوقف عمليات «حزب الله» والميليشيات في سورية. وأتى الرد الإيراني بتجاهل المطروح والتركيز بدلاً من ذلك على خروج «النصرة» من حلب والقضاء على الإرهاب.
قد تحوّل معركة الموصل الأنظار العالمية عن معركة حلب التي فضحت روسيا بالذات مما سيريح موسكو من الأضواء والانتقادات وسيبعد من دمشق المحاسبة. لكن تدفق تنظيم «داعش» من العراق إلى سورية قد يصعِّب أكثر وأكثر الانتصار الذي يصبو إليه محور روسيا – إيران – النظام والميليشيات الشيعية التابعة لطهران، بل قد يعزز احتمالات سقوطه في مستنقع.
كلام «حزب الله» عن «تكديس» عناصر «داعش» في سورية كإفراز لمعركة الموصل، سوية مع تهديد دمشق بإجراءات غير معروفة لمنع هجرة «داعش» من العراق إلى سورية، إنما يشير إلى القلق من عواقب معركة الموصل على الرقة وعلى معركة حلب. ثم إن «الحرس الثوري» الإيراني – الذي سيكون على الأرجح في معركة الموصل عبر قاسم سليماني – قد يجد نفسه ممزّقاً بين المعركتين على أكبر مدينتين عربيتين سنيتين.
مهما كان، فإن الانتصار في الموصل، بالنسبة لإيران، هو ضرورة قاطعة. كذلك، فإن توحد القوى الشيعية العراقية في الفترة الأخيرة يشير إلى قرار استراتيجي بأن لا مناص من الحكم الشيعي في مناطق السنّة. «فإما على السنّة التعايش مع هذا الواقع مع الشكر، وإما المذبحة التي سترتد عليهم» وفق ما قال مراقب قريب من التفكير الشيعي، اعتبر أن معركة الموصل ستؤدي بالضرورة إلى إخضاع السُنّة.
وهذا تماماً ما يثير مخاوف سنّة العراق وسنّة منطقة الخليج الذين ينظرون إلى رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي أنه «الوجه المعتدل للنيات الإيرانية» وفق مصدر خليجي مطّلع أشار إلى أن العبادي أضاف «تجميليات» إلى «الحشد الشيعي» بتحميله العلم العراقي واعتباره مشاركاً في المعركة، إنما ليس في الخط الأمامي منها. وفق هذا المصدر فإن الخليج يعتبر العبادي «رجلاً ضعيفاً غير قادر» على منع «الحشد الشعبي» الذي تديره جماعة نوري المالكي، رئيس الحكومة السابق، ووراءه إيران، وبالذات «الحرس الثوري».
مشاركة دول الخليج في التحالف الدولي والإقليمي حول الموصل ليست مشاركة عسكرية، إنما قد تكون سياسية ومالية. هناك حوالى 60 ألفاً من الجيش العراقي ومعه «البيشمركة» الكردية وكذلك «الحشد الشعبي» في معركة ضد 4 آلاف من عناصر «داعش» تمد فيها الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا المعونة الجوية وتشارك إيران في إدارتها على الأرض عبر «الحرس الثوري». أمام هذه المعادلة العسكرية، بالتأكيد ستكون هذه نهاية «داعش» في العراق حتى وإن كان بعد فترة طويلة وبكلفة إنسانية باهظة. هذا في العراق، وليس في سورية.
لعل الهدف من إخراج عناصر «داعش» إلى سورية هو تطهير العراق وتلويث سورية، ولعله يكون فخَّاً للالتفاف عليهم وملاحقتهم هناك بعد إنهاكهم عسكرياً.
التصور الأميركي حول الموصل هو أن على الحكومة العراقية أن تمنع «الحشد الشعبي» في الموصل كي لا تثير حفيظة الخليج. وأن على الكرد منع «حزب العمال الكردستاني» من المشاركة في المعركة كي لا يثير ذلك حفيظة الأتراك. ففي العراق، إن مسعود بارزاني وكرد العراق شبه حليف للأتراك، ما يشير إلى أن الأتراك «أصبحت لهم سياسة أكثر تعقيداً وذكاءً من السابق» عبر تمييزهم بين هذه الصداقة وذلك العداء مع «حزب العمال الكردستاني»، يقول المصدر الكردي.
أما إذا أصرت إيران وحلفاؤها في العراق على إدخال «الحشد الشعبي» الشيعي إلى داخل الموصل، فإن «داعش» سيزداد شراسة، والبيئة ستزداد شكوى، ما قد يحملها على أن تفضّل بطش «داعش» على بطش ميليشيات «الحشد» الشيعي.
تحرير الموصل يمكن أن يشكّل عودة عربية مهمة للتأثير في العراق إذا لعبت دول الخليج دوراً مهماً في استئصال الضمانات من الولايات المتحدة ومن الحكومة العراقية لجهة أمان السنَّة وحقوقهم في العراق، بعيداً من نبرة الإذلال وأهداف الإخضاع.
بعد سقوط الهدنة في حلب، بدا سريعًا أن كل ما قيل في واشنطن عن بدائل من الدبلوماسية بعد توقف المحادثات بين جون كيري وسيرغي لافروف، وعن إمكان توجيه ضربات جوية أميركية إلى النظام السوري، لم يكن أكثر من بيانات إنشائية لمجرد الاستهلاك الذي تستدعيه ضرورات الحملة الانتخابية لصالح هيلاري كلينتون.
الدليل الحسي على هذا لم يتأخر، أولاً عندما سارع البيت الأبيض إلى التوضيح أن لا أوباما ولا الكونغرس في وارد توسيع الانخراط العسكري في سوريا، وثانيًا عندما لحس البيت الأبيض سريعًا إعلانه عن وقف التفاوض مع روسيا، فقد سارع كيري إلى الركض وراء لافروف في لوزان يوم السبت الماضي، حيث لم تسجل المحادثات أي تقدم، رغم حرص واشنطن على إشراك الدول الإقليمية الست؛ السعودية وتركيا ومصر وإيران والأردن وقطر، ولو بهدف محاصرة الموقف الروسي الذي يصر على الحسم العسكري في حلب.
اجتماع الأحد الماضي في لندن بين كيري و«أصدقاء سوريا» الأوروبيين؛ بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، الذي بدأ بتحريك عملية العقوبات على موسكو والنظام السوري، جعل روسيا تسارع إلى مناورة مكشوفة تمامًا، وهي عرض وقف النار في حلب لمدة ثماني ساعات، مما أثار الاستهجان في الأمم المتحدة على الأقل، لأن هذه المدة ليست كافية لدفن القتلى، فكيف بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين؟ على خطٍ موازٍ كان من المثير جدًا أن يسارع فلاديمير بوتين إلى إظهار أنه هو أيضًا يملك بدائل من الدبلوماسية مع واشنطن، ويستطيع أن يحرّكها فورًا وبطريقة ترضي الإيرانيين حلفاءه في القتال لدعم النظام السوري، وهكذا برز في الأسبوع الماضي أن هذه البدائل ليست سوى الحوثيين وصواريخهم الإيرانية، التي أطلقت فجأة وتباعًا على السفن الأميركية عند الشواطئ اليمنية عند باب المندب.
كان الأمر واضحًا تمامًا: مرتزقة طهران في خدمة موسكو، ففي حين كانت الأنباء تتحدث عن بدائل أوباما من الدبلوماسية وعن بنك من الأهداف السورية رفعت إلى البيت الأبيض، تعرّضت المدمرة «يو إس إس ميسون» لصاروخ أطلق من مواقع الحوثيين في اليمن، فيما بدا أنه رسالة مشتركة روسية - إيرانية على التهديدات الأميركية، وتأكيد على جدية تحذير موسكو السابق، بأن أي عدوان على مواقع النظام السوري يمكن أن يصيب الجنود الروس وسيؤدي إلى زلزلة المنطقة.
رغم إعلان المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جيف ديفيس أن واشنطن لن تدع الهجوم الصاروخي الذي انطلق من أراضٍ يسيطر عليها الحوثيون، والذي استهدف بارجة حربية أميركية قبالة ساحل اليمن، يمر دون عقاب، وعلى الذين أطلقوا الصاروخ تحمل العواقب، وتأكيد السفير الأميركي لدى اليمن ماثيو تولر أن بلاده تأخذ على محمل الجد الاعتداء على السفينة من قبل الحوثيين، وأن واشنطن والمجتمع الدولي ملتزمان بحماية الملاحة البحرية في المضيق، ولا يجوز السكوت عن زعزعة الاستقرار في المنطقة، استمر إطلاق الصواريخ.
بعدما تعرضت المدمرة «ميسون» مرة ثانية لصاروخين من مراكز الحوثيين، أطلقت البحرية الأميركية خمسة صواريخ «توماهوك» من المدمرة «يو إس إس نيتز» على ثلاثة مواقع لرادارات متنقلة يديرها الحوثيون، لكن واشنطن حرصت فورًا على أن تصدر بيانات تطمينية، أولاً عندما قال إيريك شولتز المتحدث باسم البيت الأبيض، إن القصف الأميركي ليس تمهيدًا لحملة جديدة، وليس مشاركة بأي شكل في النزاع الطائفي في اليمن، وثانيًا عندما أعلن بيتر كوك المتحدث باسم البنتاغون أن القصف هدفه فقط حماية قواتنا، ونحن لا نسعى إلى دور أكبر في النزاع.. ولست أدري لماذا لم يقل البيان للحوثيين: «سامحونا وعدم المؤاخذة»!
رسالة الرد المخملي الأميركي وصلت طبعًا إلى موسكو وطهران والحوثيين، لكنها كانت بلا هيبة أو مفعول، ولهذا تعرضت ثلاث سفن أميركية مساء يوم السبت الماضي، وهي «ميسون» و«نيتز» و«بوتس» إلى هجمات صاروخية من مراكز الحوثيين، فيما بدا أنه رسالة أكثر سخونة وتحديًا لتأكيد أن البدائل الروسية والإيرانية جاهزة لمواجهة أي عمل عسكري أميركي في سوريا!
في موازاة إطلاق صواريخ الحوثيين كانت حاملة الطائرات الروسية «كوزنتسوف» قد وصلت إلى الشاطئ السوري في سياق تحرك قالت موسكو إنه للرد على أي شكل من أشكال التهديدات، وبينما كانت الصواريخ الإيرانية تنطلق من المواقع الحوثية في اتجاه المدمرات الأميركية، أعلنت طهران عن إرسال سفينتين حربيتين قبالة سواحل عدن وباب المندب، وقياسًا بالموقف الأميركي المهادن لم تكن هناك من حاجة إلى حاملة الطائرات، فقد وصلت المهزلة إلى حد مطاردة عبد الملك الحوثي لأوباما ومدمراته بالصواريخ الإيرانية!
الرياض دانت بشدة الهجوم الصاروخي على المدمرات الأميركية، معتبرة أن هذا عمل إرهابي يعرض الملاحة الدولية للخطر، واستهداف ممنهج من قبل ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران لحركة الملاحة التجارية في باب المندب، خصوصًا أن هذا يأتي بعد هجوم الحوثيين على سفينة للإغاثة الإماراتية بداية الشهر، وبعد إطلاقهم للصواريخ البالستية تجاه الأراضي السعودية، وآخرها تجاه منطقة مكة المكرمة في التاسع من هذا الشهر!
حرص إدارة أوباما على تجاوز الاعتداءات والاكتفاء بالرد المحدود، لا يتلاءم مع أصوات غاضبة ارتفعت في واشنطن، حيث قال رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس السيناتور جون ماكين، إن إيران تدعم الحوثيين في اليمن الذين يطلقون الصواريخ الإيرانية على السفن الأميركية، وذلك بالأموال المُفرج عنها وفق الاتفاق النووي.
ماكين علّق أيضًا على بث إيران فيديو يظهر اعتقال سبانك نمازي رجل الأعمال الإيراني الأميركي في طهران بتهمة التجسس، وكذلك اعتقال البحارة الأميركيين في مياه الخليج من قبل الحرس الثوري بداية السنة، واعتبر الأمر بمثابة «مسلسل لإرعاب أميركا من قبل النظام الإيراني الذي صار أكثر وقاحة بفضل الدولارات المفرج عنها، وللأسف تنفق إيران هذه الدولارات على دعم الأسد والحوثيين الذين يقصفون سفننا بالصواريخ».
ويعتبر ماكين أن سلوك إيران العدواني تجاه أميركا يتزايد، نظرًا لتقديم تنازلات لا حصر لها من قبل إدارة أوباما عبر الصفقة النووية التي يعتبرها خطرة جدًا، لأنه «منذ دخولها حيّز التنفيذ علمنا أن الإدارة الأميركية دفعت فدية بقيمة 1.7 مليار دولار للدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم، وذلك من أجل إطلاق سراح الأسرى الأميركيين.. إن صفقة أوباما لن تغير العداء الإيراني تجاه الغرب، ولن توقف طموحاتها لتقويض مصالحنا وأمننا القومي كما ستساهم في زيادة زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط»!
السيناتور ليندسي غراهام يدعو إلى رد حاسم على الحوثيين وإلى التوضيح للإيرانيين أنهم يتحملون مسؤولية ارتكاب المجموعات التي يدعمونها كالحوثيين عن أي أعمال عدائية ضد أميركا، ويعتبر أن قيام إدارة أوباما برفع العقوبات تسبب بإثراء آيات الله، وجعل من إيران كابوسًا ثقيلاً في المنطقة، لكن كل هذه التعليقات لن تغير شيئًا من سياسة أوباما الذي يحزم حقائبه و«لن يحرك حتى إصبعه»، كما كتب المحلل الأميركي المعروف تشارلز كراوثامر!
نعم.. أنا مع نظرية المؤامرة.
منذ بداية القرن الواحد والعشرين والمؤامرة العالمية مستمرة على العراق والشام بشكل خاص، والحديث في هذا يطول..
والموصل هي فصل من فصول حكاية هذه المؤامرة، ومثلها الرمادي والفلوجة وحلب والقصير وداريا وتدمر.
لنقل إن الحكاية بدأت من هروب أو تهريب 500 سجين من عناصر القاعدة في العراق في تموز من عام 2013. في عهد نوري المالكي الميمون.!!.
ما غاية هذا الهروب أو التهريب، لاسيما إذا ما علمنا أن احتجاجات أهل الأنبار السلمية في ذلك الوقت بدأت تفرض حضورها على الساحة السياسية والاجتماعية، وتترك صدى مسموعاً على المستوى العربي والدولي.!!؟.
وزير العدل العراقي السابق حسن الشمري يقول: إن تهريب السجناء كان بهدف تعظيم دور تنظيم القاعدة.
ويقال إن بعض العناصر السابقين في تنظيم القاعدة وافقت على التعامل مع الاستخبارات الإيرانية وانضمت إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية المشكل حديثاً.
ثم استفحل التنظيم إلى أن استولى على الموصل في حزيران عام 2014 بدون أي قتال يُذكر.
كان عدد أفراد الجيش العراقي في الموصل يزيد عن ثلاثين ألفاً هربوا كلهم بالقمصان الداخلية أو بالثياب المدنية أمام سطوة ألفين أو ثلاثة آلاف عنصر من تنظيم الدولة، وهكذا استولى التنظيم على كامل أسلحة الجيش من دبابات ومدافع وأسلحة متطورة، إضافة إلى أكثر من نصف مليار دولار لطشها التنظيم من البنك الحكومي.
كيف حدث هذا.!؟. الجواب عند من يرفضون نظرية المؤامرة.!!.
بعد هيمنة التنظيم على الموصل روّجت إيران لوعدٍ إلهي باستعادة المدينة من خلال عرض إعلامي لصور قاسم سليماني القائد الأسطوري الإيراني الذي لا يقهر.!!، وهو محاط بعساكره، ويتعهد بتحرير الموصل قريباً.
لكن تنظيم الدولة بقي وتمدد في العراق ثم الشام، وفي مناطق العرب السنة حصراً، وأعلن أبو بكر البغدادي الخلافة الإسلامية أمام تهليل وتكبير المريدين، وكيف لا يكون كذلك، والبغدادي القرشي الحسيني، كما يُطلق عليه تفخيماً وتعظيماً، سوف يطبق الشريعة الإسلامية.!!؟. في أراضي دولة الخلافة، وهكذا بدأ يقطع يد السارق ويرجم الزانية ويقتل المرتد ويفرض الجزية على أهل الذمة.!!.
وهذا هو التدمير الثاني للمدن السنية في العراق بعد تدميرها الأول على يد الاحتلال الأميركي، وبعد تدمير المدن السنية في سورية على يد سلطة الأسد والمتعاونين معه من ميليشيا إيران وحزب الله اللبناني، وفيما بعد على يد القيصر الروسي بوتين الذي عاث في الأرض إجراماً.
أمام هذا الخطر الداهم.!! أمر العبادي بتشكيل ميليشيا الحشد الشعبي الطائفي تلبية لنداء السيستاني بالجهاد الكفائي، ثم كانت استراتيجية القرار الإيراني بأن يصبح الحشد الشعبي سلطة موازية أو أقوى من سلطة الجيش العراقي، كما هو الحال مع الحرس الثوري الإيراني.
وهكذا تغولت هذه الميليشيا حتى أصبحت دولة ضمن دولة، فهي لا تتلقى أوامرها من رئيس الوزراء ولا من الجيش العراقي، فقط هي تلتزم بأوامر وتوجيهات مكتب الولي الفقيه في إيران، تماماً كما هو الحال مع ميليشيا حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.
واليوم تتألف فصائل الحشد الشعبي من 67 فصيلاً، وهي تموَّل من خزينة العراق وتتحلى بشرعية الوجود، تماماً كما هو حال أي دار بغاء مرخصة بشكل رسمي.
والحكومة العراقية المرخِّصة لهذا الحشد رصدت له هذا العام مبلغ مليار دولار وفتحت له مخازن الجيش العراقي وصار قادراً على صنع صواريخ وعربات عسكرية، جعلت قادته يعلنون صراحة أن الحشد صار أقوى من الجيش العراقي.
ومنذ بداية تشكيل هذا الحشد كان يعتمد على الحقد المذهبي لمحاربة العرب السنة بحجة محاربة داعش.
ولكي تتوالى فصول الحكاية ذبحت داعش رهينة أميركية في أيلول 2014، ثم رهينة ثانية في تشرين الثاني، وهكذا أصبح داعش والإرهاب الإسلامي مشهوراً بذبح الناس الأبرياء، وأمسى الإعلام العالمي والعربي التابع له يشتغل على هذه اللعبة ليلاً نهاراً.
وانتقاماً للذبيحتين أمرت أميركا بتجييش الجيوش وأعلنت عن قيام تحالف من عشرات الدول لمحاربة داعش، وكانت أولى ضرباته الجوية في 19 أيلول 2014.
ويقال إن أول من طالب بإنشاء هذا التحالف هو الملك عبدالله بن عبدالعزيز حيث حذّر الغرب من داعش وألحّ على التدخل لمحاربته.
واستمرت المطمطة بمحاربة داعش إلى أن أُنهكت المنطقة العربية السنية في العراق والشام، وأخيراً لابد للثمرة من أن تنضج ويحين قطافها.
وهكذا بدأ التحول الكبير، واتُخذ القرار بالقضاء على داعش.
وفي البدء كان العراق، فقد انطلق التدمير الثالث والأخير بحق أهل السنة، فبعده لن يكون هناك شيء قابل للتدمير، وإن حدث فهو تدمير المدمَّر، ويكون حلم نوري المالكي قد تحقق، فهو القائل: سنجعل العرب السنة ثلاثة أقسام، قسم تحت التراب وقسم في بلاد الشتات وقسم يصبحون عبيداً عندنا ".. هذا ما قاله نوري المالكي، كما روي عنه، والله أعلم.
في أقل من عام تم تدمير تكريت والرمادي، والتدمير الأكبر جرى في مدينة الفلوجة، وكان الدور الأكبر للحشد الطائفي في ارتكاب المجاز ضد أهل هذه المدن بحجة انتمائهم لداعش.
والآن جاء دور الموصل، فقبل أيام قليلة بدأت حرب عالمية ضد هذه المدينة، وهي الآن تنتظر مصيرها الأسود، فالتحالف يضم 86 دولة، وهم يواجهون خمسة آلاف أو أكثر قليلاً من داعش. وهناك أكثر من مليون ونصف إنسان محصورون بين المطرقة والسندان.
إذن لن يكون حال الموصل أقل سوءاً من حال الفلوجة.
حيدر العبادي يدّعي أن الحشد الشعبي لن يشارك في تحرير الموصل، لكن ميليشيا القوات العراقية والحشد الشعبي يرفعون الرايات الطائفية ويهتفون بعبارات مذهبية تحريضية، وهم في الطريق الى الموصل، وأحد عوامِّهم يقول: سندخل الموصل والمدينة المنورة ونقيم مجالس حسينية في الكعبة.
أما قيس الخزعلي الامين العام لـ عصائب أهل الحق، والمتخم بالحقد التاريخي، فيقول بالصوت والصورة: تحرير الموصل هو تمهيد لدولة العدل الإلهي وثأر وانتقام من قتلة الحسين لأن هؤلاء الأحفاد ( أهل الموصل ) من أولئك الأجداد ( بني أمية ).
من هنا فإن أميركا تعلم ما سوف يجري في الموصل، ولذلك فإن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي وجه رسالة إلى حيدر العبادي حذر فيها من تكرار سيناريو الفلوجة.
هذه الرسالة أشبه بفقاعة صابون كاذبة، فقبل أن يجف حبر رسالة المسؤول الأميركي، بدأت الأعمال الإجرامية تُرتكب، فعند نزوح المئات من الموصل خوفاً من وقوعهم بين نارين، استقبلتهم ميليشيات الحشد الطائفي، فعبر شريط فيديو ظهر على صفحات التواصل الاجتماعي بدأ أحد عناصر الميليشيات، وهو يهوي بمطرقة حديدية على بعض الفارين من الموصل في عملية تكسير العظام البشرية من المدنيين.
فإذا كانت البداية هكذا، فكيف يكون الحال بعد دخول الميليشيات الطائفية إلى الموصل، والصحف الإيرانية توحي بأن المعركة هي بين الفرس والعرب السنة..!!؟.
في الموصل نحو مليون ونصف إنسان، وكلهم معرضون لمصير مخيف، ولا سيما إذا ما علمنا أن إيران وعبر ميليشياتها سيصبون أحقادهم على أهل الموصل، فالموصل بحسب محلل عسكري عراقي كان برتبة لواء يقول: إن ما يميز الموصل هو أنها كانت تضم عدداً كبيراً من قادة الجيش العراقي، والإيرانيون الآن يريدون الانتقام من هزائمهم على يد العراقيين في حرب الثماني سنوات ".
وذكر المحلل العسكري أن 80 % من عناصر مكافحة الإرهاب في الجيش العراقي هم من المليشيات الإيرانية، فيما ينتسب عناصر الشرطة الاتحادية إلى مليشيا عصائب الحق"، كما أن 95 فصيلاً من الميليشيات الطائفية سيشاركون في المعركة بإدارة مباشرة من المخابرات الإيرانية المعروفة باسم " اطلاعات " وهذا يعني دمار الموصل.
ولا أظن أن اشتراك تركيا في حرب الموصل سيغير كثيراً من معادلة الدمار المتوقع.
من هنا أستعير أخيراً فقرتين من مقالي " الفلوجة وقطع الرؤوس " الذي نشر قبيل سقوط الفلوجة:
إن الفلوجة ( الموصل ) ستسقط، عاجلاً أو آجلاً، وستُرتكب العديد من المجازر بحق الأهالي، ويُشرّد الباقون، ويهيمون تائهين في الآفاق، وتصبح الفلوجة ( الموصل ) قاعاً صفصفاً وأطلالاً دارسة، كما حدث مع مدينة تكريت والرمادي.
أما عناصر تنظيم الدولة، فربما يجري بينهم وبين الميليشيات الإيرانية والعراقية اتفاق باطني..!!. بحيث يتسللون من الفلوجة ( الموصل )، ويتوجهون إلى أماكن أخرى متفق عليها لاستكمال عملية خراب المدن والعمران وإبادة العرب السنة، سواء في العراق أم سورية أم غيرها من البلدان العربية ".
ومن أجل كل ما تقدم أنا أؤمن بنظرية المؤامرة.
لا شك أن تنظيم داعش أصبح بالنسبة للعالم الحديث حصان طروادة الذي تلتف حوله كل المصالح و الاتفاقيات الدولية و الذي مهّد لظهوره و انتشاره و تضخم الأنا المتطرف لديه تخاذل المجتمع الدولي عن واجباته تجاه شعوب الشرق الأوسط و جعل جغرافيتها البشرية و الطبيعية بؤرة لصراع القوى الكبرى في تصفية حساباتهم المؤجلة منذ أيام الحرب الباردة و توسع قطبي الثروة و النفوذ المتمثل بأمريكا و روسيا في إعادة الاعتبار لرسم خارطة فكرية قديمة متجددة من خلال فرض سياساتهم و نفوذهم الاستعماري بعد إحياء النزاعات الطائفية في منطقة تعاني من تظلم قومي و تناحر طائفي و استبداد أنظمة عسكرية بمصائر العباد .
و يمكننا أن نعزو البدء بمعركة الموصل لطرد التنظيم المتطرف منها و تأجيل معركة الرقة و عدم موازاة المعركتين في وقت واحد إلى التعقيد في الأزمة السورية و الصراع الروسي الأمريكي على سوريا و عدم بلوغهما إلى اتفاق حول القوى المشاركة في عملية استعادة الرقة مع عدم وجود جيش موحد للتوغل الميداني و المشاكل التنظيمية و الفكرية التي تعتبر السمة الرئيسة للقوى التي يتم إعدادها لمعركة الرقة سواء الفصائل التابعة للجيش الحر المدعومة من تركيا أو قوات سوريا الديمقراطية التي تعول عليها أمريكا , خاصة أن هاتين القوتين بينهما خلافات جسيمة و اشتباكات مستمرة في نقاط التلاقي فضلاً عن اعتراض كل من وحدات حماية الشعب القوة الرئيسة في قوات سوريا الديمقراطية و تركيا على مشاركة الآخر في المعركة .
بينما حظيت الاستعدادت لمعركة الموصل رغم تأخرها بالجاهزية التامة و توافق قوات الحكومة العراقية المشتركة مع بيشمركة إقليم كوردستان في حصار الموصل و الهجوم عليها مع اتفاق شبه مبدئي على مرحلة ما بعد استعادتها , إضافة إلى رغبة الإدارة الأمريكية بتحقيق انجاز و لو كان جزئياً على الإرهاب المتمثل بداعش قبل نهاية الفترة الرئاسية لأوباما نظراً للانتقادات الكثيرة الموجهة للإدارة الحالية بسبب اللين الذي أظهرته أمام روسيا في إطلاق يدها و قوتها العسكرية في سوريا ناهيك عن عدم وجود جدية لديها في ايجاد حلول سياسية يتوقف بموجبه الحرب الدائرة في سورية منذ خمس سنوات و تميز موقفها بضبط النفس و إنهاك المعسكر الروسي الإيراني من خلال إطالة أمد الأزمة .
و تعتبر الموصل المعقل الأخير لتنظيم داعش في العراق و باستعادتها قد يكون النهاية الحتمية له و يتقلص نفوذه إلى الرقة السورية إلا أن معركة الموصل ستكون شديدة التعقيد بسبب اعتماد التنظيم الإرهابي على المفخخات و العمليات الانتحارية و استخدام المدنيين دروعاً بشرية لتفادي الضربات الجوية و سيحاول الاستماتة ما أمكنه ذلك كونه يدرك أن طول خط الدفاع يكسبه قوة و قدرة أكبر على التصدي و يشتت القوى المهاجمة فضلاً عن انهيار معنويات جنوده حال طردهم من الموصل .
عندما نستقرىء ناحية ما من معضلتنا التي باتت مصدر در المكاسب والغايات لكثير من الجهات ، نضطر إلى ذكر من تسبب بإيجاد هذا الإرهاب المنظّم وذلك بآيادِ هي من بيئتنا في الأغلب , فمما داعش وغيره من ( روبوتات ) إلا صناعة خارقة في الدقة ، وحدها الشعوب المغلوبة على أمرها تكون عرضة لهجماتها وذلك بإيعاز وسيطرة مباشرة من صانعها الذي فاق بحدة تخطيطه كل تخطيط آخر ؟!
لا أعلم إن كانت هذه الحملة العسكرية أو غيرها ستفيد في القضاء على داعش ، وهناك في المقابل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن النزاعات والطائفية التي وفرت لكل ذلك أرضية خصبة ، وخلقت لهم حواضن متعددة , لا ننس أن نذكّر مرة أخرى أن محاربة داعش في بقعة دون أخرى قد ترجعنا لنقطة البداية. إذن والحال هذا لا بد من قطع دابر هذه الآفة التي أتت على الأخضر واليابس ,ولا خلاص دون تلافي تلك الأزمات الآنفة الذكر ومن ثمَّ تجفيف المنابع ؛ وهذه الأخيرة لن تجيء دون عقل رشيد وحكمة وتكاتف وإخلاص ...
في اللقاء الأول الذي جمعني، كرئيس للمجلس الوطني السوري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خرجت، بعد أقل من ساعتين بقليل، باستنتاج واحدٍ لم يتغير حتى الآن، هو أنه ليس لموقف روسيا في النزاع السوري الراهن هدفٌ أكبر من الانتقام من الغرب الذي قوّض مواقع موسكو في العراق وليبيا، ومن قبل في أفغانستان وأوروبا الشرقية، وأن موسكو مصمّمة على أن تحوّل الأزمة السورية إلى مدخلٍ لقلب الطاولة على الغرب، وإحباط خططه ومعاقبته على سياسات العزل والتهميش والاستخاف التي عاملها بها خلال عقودٍ ثلاثة، بعد زوال الاتحاد السوفييتي. ولهذا، كان ردّي على تساؤل الوزراء الغربيين الذين كنت ألتقيهم في إطار تجمع أصدقاء الشعب السوري، بشأن ما يريده الروس، وفي ما إذا حققت زيارتي أي نتائج، أن موسكو ليست معنيةً بسورية، إلا بمقدار ما تشكّل بالنسبة لها مناسبةً لإعلان تمرّدها على الغرب، وإظهار قدرتها منذ الآن على مقاومة مخططاته، والضغط عليه، لتأكيد وجودها قوّة عظمى، واستعادة مركزها الدولي، واستعادة الاعتراف بمكانتها العالمية.
جميع هذه المطالب ليست بيدنا، وإنما بيد الغرب. لذلك أيضاً لا يستطيع الروس أن يروا فينا محاورين جديين، ولا مفاوضين، إنما رسل لنقل رسائلهم إلى الغرب، ولا تعنيهم حججنا ولا قضيتنا، ولا يهمهم مصير سورية، ولا مصير الشعب السوري. وهذا يعني أن على أصدقائنا الغربيين، إذا أرادوا أن يساعدونا ويدعموا قضيتنا، ألا يكتفوا بالضغوط والعقوبات على موسكو، وإنما عليهم أن يسعوا إلى فتح حوارٍ مع روسيا، ليس من أجل تقديم تنازلاتٍ مجانية لها في القضايا العالقة التي تهمها في أوكرانيا والقرم ودول البلطيق والدرع الصاروخي وغيرها. ولكن، من أجل إعادة الاعتبار الدولي لها، وحفظ كرامتها وكبح جماح روح الانتقام التي تحرّك سياستها، والتي برزت في مسألة أوكرانيا، وانتهت بإلحاق القرم، وها هي تقود إلى تدمير سورية. وكنت أعتقد، بالفعل، أنه من دون تخلي الغرب عن سياسة عزل موسكو وتهميشها، والسعي، بالعكس، إلى استيعابها، لن يكون من الممكن دفعها إلى تعديل سياستها، وتبني موقف إيجابي لصالح التعاون من أجل السلام والأمن والاستقرار الدولي. لكنني، عندما كنت أتساءل، أمام زملائي الغربيين، عمّا إذا كان حوارهم مع موسكو ممكناً، كان الجواب أنه مستحيل: الغرب لن يفاوض روسيا على أي موضوع من هذه الموضوعات.
لم يتغيّر هذا الوضع حتى الآن، على الرغم من المظاهر. ليس لدى الغرب أي استعداد لفتح مفاوضات من أي نوعٍ مع موسكو، في كل ما يتعلق بالمصالح الغربية في أوروبا بشكل خاص، فهو هنا متشبثٌ إلى أبعد الحدود بعنفوانه وعنجهيته. لكن، بعد سنواتٍ من الصراع المرير في سورية، نجد اليوم وزراء خارجية الغرب، وفي مقدمتهم الوزير جون كيري، يجرون وراء سيرغي لافروف، من عاصمةٍ إلى عاصمة، على أمل أن يحصلوا منه على تنازلٍ، مهما كان جزئياً، يفتح ثغرةً في الوضع المأساوي المعدوم الأفق القائم في سورية، والذي أغلقه الفيتو الروسي بشكلٍ لا سابق له، ضارباً عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف الدولية القانونية والأخلاقية، في وقتٍ يفرض فيه الوزير الروسي كل يوم، وفي كل جلسةٍ، شروطه المذلة بحق واشنظن التي كانت تدّعي، وتتصرّف بالفعل حتى مجيء باراك أوباما، كقائدة للعالم.
كيف وصل الوضع إلى هذه الحال، وأصبحت الولايات المتحدة التي لا تزال، على الرغم من كل ما أصابها من عناء، تمثل أعظم قوة عسكرية واقتصادية وسياسية وتقنية وعلمية في التاريخ، تتسوّل حلاً للأزمة السورية لدى دولةٍ لم تكن تعيرها، منذ سنوات قليلة، أي اعتبار، وترفض حتى محاورتها؟ وكيف وجدت الولايات المتحدة نفسها تقف مكتوفة اليدين، وعاجزةً عن القيام بأي فعل أو رد فعل، وهي القوة الأعظم، أمام ما يجري من حرب إبادةٍ يوميةٍ بحق مدنيين، ليس لهم من ذنب سوى انتمائهم إلى شعبٍ تجرأ على المطالبة بحكومةٍ تمثله، وبالحرية التي بنت عليها الولايات المتحدة شرعية نفوذها العالمي، وتدخلاتها التي لم تتوقف في مصائر الشعوب ومستقبلها؟
ليس في هذا أي سر. إنه يعبر ببساطةٍ عن الإخفاق العميق الذي منيت به السياسة الغربية، منذ بداية الأزمة السورية. لا ينجم هذا الإخفاق عن انتزاع روسيا مكاسب استثنائية في سورية، ولا عن فشل الغرب في تحقيق أهدافه فيها، فروسيا والغرب يشتركان في موقفٍ واحدٍ، هو أن كليهما لا يعنيهما أمر سورية والسوريين. لكن، بينما تسعى روسيا، بإغلاق فرص السلام في سورية، إلى إحراج الغرب وتركيعه، وإجباره على فتح مفاوضاتٍ حول ملفاتها الرئيسية المعلقة معه، يحاول الغرب أن ينأى بنفسه بأي ثمن عن الصراع، وهو مستعدٌّ، في سبيل ذلك، لتوكيل موسكو بمهمة التوصل إلى حلٍّ في سورية، لكنه غير مستعد، مهما كان الثمن، خصوصاً عندما يكون من دم السوريين، لتقديم أي تنازلٍ يمسّ بمصالحه وهيمنته العالمية. وبينما ينتظر الغرب للتهرّب من المفاوضات مع موسكو غرق روسيا في ما يسميه المستنقع السوري، تراهن موسكو على التقويض المستمر لصدقية الغرب الاستراتيجية والسياسية والأخلاقية الذي يتفاقم كل يوم مع تجلي عجز الغرب عن القيام بأي فعل، وفقدانه أي خياراتٍ في سورية. وما من شكٍّ في أن روسيا لا تزال الرابحة في هذه المناورة الكبرى، بمقدار ما نجحت في تجنيب نفسها، بنجاحها في إخضاع إيران وحشودها لجدول أعمالها، الانخراط برياً، وبشكل واسع، في الحرب، بينما يكاد الغرب يفقد عناصر قوته، وتسيده السياسية والرمزية، فالعجز عن استخدام القوة مع توفرها يلحق الضرر بصدقية الدول أكثر بكثير من الضرر الناجم عن الافتقار إليها.
أخطأ الغرب في تهميشه روسيا، وإغلاق الباب في وجهها، والسعي إلى ضرب الحصار من حولها عندما كان ينبغي فتح حوار إيجابي لضمها إلى المنظومة الدولية، وتشجيعها على لعب دور إيجابي فيها، بعد زوال الاتحاد السوفييتي. والآن، يخطئ بشكل أكبر، عندما يركع تحت أقدامها، ويقبل التفاوض معها في شروطٍ مذلةٍ حول سورية التي لم تعد أزمةً محليةً، وإنما أصبحت محكّاً للصراع على الهيمنة والمبادئ الدولية. وكان الأولى به أن يرفض أي حوارٍ ما لم تلتزم روسيا وحليفتها الإيرانية بالمواثيق والاتفاقات الدولية، وتتوقف عن القصف الأعمى للمدنيين، وتجويع المدن وحصارها، وترويع سكانها وتهجيرهم.
يحاول الغرب أن يمتصّ نقمة الروس على سياساته الرامية إلى عزلهم، وتهميشهم بتعويضهم في سورية، حيث لا يعتقد أن له مصالح استراتيجية مهمة. وهذا ما فعله أيضاً مع إيران التي فاوض معها على الملف النووي الذي يهمه، لكنه أطلق يدها في الإقليم، وتركها تذرع الخراب والدمار، من دون أن يرميها بحجر، وهو ما فعله كذلك مع نظام الأسد نفسه، حين أباح له القتل بالجملة، ومن دون رادعٍ ولا خوف من عقاب، لمجرد قبوله بتسليم أسلحته الكيماوية. باختصار، لا يقبل الغرب التفاوض على مصالح تخصه، لكنه مستعد للتنازل بأريحيةٍ بالغةٍ في كل ما يتعلق بحيوات الآخرين ومصالحهم ومستقبل أبنائهم، فسواء ذهبت سورية، أم بقيت على قيد الحياة، لن يضير ذلك الغرب في شيء. سوف يتعامل على كل الأحوال مع من يرثها، وفي أسوأ الحالات يمكنه أن يمحوها ببساطةٍ من الذاكرة.
لكن الحقيقة أن الغرب هو اليوم الخاسر الأكبر من فشله في الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الدولية التي انتزعها بالقوة والسياسة والقدرة على تحمل المسؤولية. وخسارة الغرب الأطلسي السياسية والمعنوية أكبر أثراً من أي خسارةٍ عسكرية، وهي ستتفاقم باضطراد. والسبب أن الغرب الذي دفع نحو الاندماج العالمي جعل مصائر الدول والمجتمعات أكثر ترابطاً اليوم من أي وقت مضى. وكما لم يعد من الممكن حصر عواقب اختلال الأمن وزعزعة الاستقرار في منطقة، ومنعه من الانتشار في بقية أجزاء العالم، لم يعد ممكناً حصر هزيمة الغرب في سورية في النطاق السوري، ولا المشرقي. بمقتل هذا البلد العربي الذي لم يكن أبداً حصناً من حصون الغرب، سقطت الهيمنة الغربية العالمية، ومعها كل شاراتها الرمزية، من دون أن يعني ذلك انتزاع روسيا، أو أي قوةٍ أخرى، مكانة الغرب الريادية. لم يحصل ذلك بسبب هزيمةٍ عسكريةٍ ولا أزمة داخلية اقتصادية أو سياسية، وإنما لتخلي واشنطن، عاصمة الغرب، عن التزاماتها الدولية، وتهرّبها من مسؤولياتها القانونية والأخلاقية التي أقامت على أساسها صرح نفوذها وتفوقها المعنوي وقيادتها العالمية منذ أكثر من قرن.