سألت صحافية روسية بشار الأسد: آلاف الشباب في سن القتال يملأون المقاهي وصالات التدريب الرياضية والمسابح والمراقص والملاهي الليلية، لماذا لا ترسلونهم إلى الجبهة، أليست هذه حربكم المصيرية وقضيتكم الوطنية، ألا ينبغي أن يكون جميع الرجال السوريين على الجبهات؟
شخصياً، لا أتخيّل أن هذا السؤال كان مفاجئاً لبشار الأسد، فلم يعتد هذا، ولا والده، ولا جميع الحكام الشموليين إجراء لقاءاتٍ صحافية مع صحافيين انتقوهم لإجراء اللقاء (مقابل أجر) من دون أن يطلبوا الأسئلة مسبقاً، بل وقد يضع بعض مساعديهم أسئلة محدّدة، يرغبون هم بالإجابة عنها لتوجيه رسائل محددة لجهاتٍ يقصدونها (لذلك وقع الاختيار على الروسية داريا أصلاموفا بالذات).
اشتملت المقابلة مع الصحافية الروسية على أسئلة كثيرة، كان واضحاً أن بثينة شعبان أو لونا الشبل، مستشارتي بشار، أو أحد جهابذة الإعلام من جوقة حزب البعث، قد وضعها، لكي يجيب عنها بأجوبة كان مستشاروه قد صاغوها له، ليقولها لصحافيةٍ مهمتها، كما معظم صحافيي السلطان في الدول الشمولية، تأييد ما يقوله الطاغية، بل والمبالغة في استحسان وجهة نظره وتأييدها.
تسأل أصلاموفا عن سبب وجود شباب سوريين في المقاهي والساحات، في حين أن الحرب تشتعل في كل أنحاء سورية، والانفجارات تُسمع في كل مكان، ولماذا لا يتم تجنيدهم للدفاع عن دولتهم في معركتها المصيرية، فيجيب بشار أن نظامه لم يعلن التعبئة العامة، بل هي تعبئة من الدرجة الثانية. يريد أن يوحي بأن الأمر ليس خطيراً إلى درجة أن يعلن التعبئة العامة، وأن وضع نظامه ليس بهذه الخطورة، ما يتيح له أن يستثني شباباً وطلاباً وعاملين مدنيين كثيرين من عملية التعبئة والتجنيد.
لو كان المحاور غير السيدة التي اختارها مستشارو الديكتاتور، ولو كانت هذه تعمل في صحافة دولة اعتادت احترام المهنية في العمل الصحافي، لكان سؤالها: إذا كان الوضع لا يستدعي تعبئة عامة، كما يحصل في جميع الحروب المصيرية التي تخوضها الدول ذات الحكومات التي تحترم نفسها، وتصون كرامتها واستقلال أوطانها، فما هو سبب جلب عشرات آلاف المقاتلين الطائفيين الذين جندتهم إيران في مليشيات مسلحة من لبنان والعراق وأفغانستان، ويرتكبون جرائم حرب ضد السوريين بخلفية طائفية، ما يعمق الانقسام المجتمعي في سورية، ويساعد التنظيمات التكفيرية الطائفية في الطرف الآخر على استقدام متطرفين وتكفيريين من خارج سورية، وإيجاد تربة خصبة لأفكارها في المجتمع السوري المعروف باعتداله وتنوعه؟ وما هي الحاجة إلى عشرات آلاف الجنود الإيرانيين، وآلاف الجنود الروس وأساطيلهم الجوية والبحرية وقنابلهم العنقودية والارتجاجية التي أحرقت مدن سورية وقراها؟ وإذا كانت هذه الحرب التي تخوضونها دفاعا عن سورية وشعبها ضد أعداء وطنكم وشعبكم، فلماذا هرب الملايين من السوريين، وبينهم مئات آلاف من الشباب، ولم يبقوا هنا لدعمكم، وصد ما تقولون إنه عدوان على وطنهم وشعبهم، بل فضلوا الموت غرقاً واجتياز البحار هرباً من حربكم هذه.
يحاول طاغية دمشق مدعوماً من الصحافة الروسية، وجوقة إيران الإعلامية، تغطية الشمس بغربال، لكن القاصي والداني على يقين أنه أصبح بلا جيش ولا مواطنين. لا أحد لديه الرغبة في الدفاع عن فساده وفساد المافيا العائلية التي يقودها، ولولا عصا الإرهاب والتنظيمات التكفيرية التي أشهرها في وجه شريحةٍ كبيرة من الشعب السوري، تلك التنظيمات الإرهابية التي اختلقها وسهَّل نموها، بالتعاون مع كل من أراد أن يجعل من الشعب السوري مثلاً سيئاً للشعوب التي تثور على طغاتها، لتخلى عنه، حتى أقرب المقربين إليه من غير أعضاء المافيا المستفيدة مباشرةً من ريوع الفساد، أو الخائفين على رؤوسهم من أي محاسبةٍ أو محاكمةٍ، قد يتعرّضون لها بعد ما ارتكبوه من موبقاتٍ وجرائم ومجازر.
لم تعد حقيقة وضع بشار الأسد وهشاشة نظامه واعتماده الكلي على قوى ومليشيات أجنبية للحفاظ على بقائه خافية على أحد، وخصوصاً على السوريين الذين أصبح صغيرهم، قبل كبيرهم ومواليهم، يعلم أنه لم يعد أكثر من عبد مأمور لسيدين، كل منهما قادر على ضربه على قفاه متى شاء. ولا يكترث خامنئي وبوتين كثيرا لما يقول، فهما قادران على ركله خارج سورية متى أحسوا أنه لم يعد قادراً على خدمة استراتيجيتهم في المنطقة، كما تستطيع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تقويض نظامه، متى أحسا أنهما استنفدا أغراضهما من الحرب التي يشنها على شعبه ووطنه.
هل تدخلت القوى الكبرى في بلد إلا وتفتت أو بقي في حالة صراع داخلي مرير لسنوات وربما عقود؟ لا شك أن الصراعات والحروب الأهلية تترك البلدان التي تحدث فيها في حالة خراب ودمار وفوضى لردح طويل من الزمن. لكن تلك الصراعات تصبح أسوأ بكثير عندما تتدخل فيها قوى خارجية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
وعلى ضوء تجارب العراق وأفغانستان والصومال واليمن ويوغسلافيا نستطيع أن نؤكد أن التدخل الأجنبي لا يهدف بأي حال من الأحوال لحل كوارث تلك البلاد بقدر ما يكون عاملاً مساعداً على تفاقم الأزمات وإطالة أمدها أو تقسيم البلاد كما حدث في يوغسلافيا، وكلما أرى دولة عظمى تتدخل هنا وهناك بحجة إحلال السلام أو وقف القتال أضع يدي على قلبي، لأن النتيجة تكون في غالب الأحيان ليست في صالح تلك البلاد ولا شعوبها، بل تزيد الطين بلة، وتصب الزيت على نار الحروب الأهلية.
ماذا فعل التدخل الخارجي في أفغانستان؟ لقد تدخل السوفيات في بادئ الأمر لصالح الرئيس الشيوعي نجيب الله لتثبيت حكمه دون أن يدروا أنهم بذلك سيستثيرون قسماً كبيراً من الشعب على بعضه البعض وعلى الغازي الخارجي طبعاً. وكانت نتيجة الغزو السوفياتي لأفغانستان قيام ثورة داخلية على النظام الذي جاء السوفيات لدعمه.
وبسبب التنافس بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وقتها على مراكز النفوذ في العالم، راحت أمريكا تدعم المجاهدين الأفغان بالمال والسلاح لطرد السوفيات وتثبيت جماعتها هناك. وقد نجح المجاهدون في طرد الغازي السوفياتي. لكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد حدث صراع مرير بين المجاهدين أنفسهم أدى إلى تدمير البلاد حتى تمكنت حركة طالبان من القضاء على كل منافسيها من الفصائل الأخرى، واستفردت بحكم أفغانستان. لكن الأمور لم تستتب لطالبان لفترة طويلة، فقد تعرضت أفغانستان لغزو جديد هذه المرة من القوة التي ساعدت الأفغان في طرد السوفيات.
لقد تحججت أمريكا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزت أفغانستان، وقضت مبدئياً على حكم حركة طالبان، ونصبت محلها نظاماً عميلاً لها لا يختلف عن نظام نجيب الله الشيوعي الذي كان عميلاً للسوفيات. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحولت طالبان إلى حركة مقاومة ضد عملاء أمريكا وتوابعها في أفغانستان، مما أدخل البلاد في حال انقسام وحرب أهلية جديدة لم تنته حتى الآن. وسيظل الصراع قائماً بين طالبان والحكومة المدعومة أمريكياً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
طبعاً لم يتعلم الأمريكيون من التدخل في أفغانستان، فعادوا الكرة في العراق لاحقاً وبنفس اللعبة والطريقة، فأسقطوا نظام الرئيس صدام حسين، وعينوا محله عملاءهم من شراذم المعارضة العراقية. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحول أنصار صدام وكل المتضررين من الغزو الأمريكي للعراق إلى حركات مقاومة لم تطرد الأمريكيين من العراق فحسب، بل جعلت من العراق ساحة حرب أهلية ممتدة منذ دخول الأمريكيين إلى العراق عام 2003. ولو نظرنا إلى العراق الآن لوجدنا أنه أصبح مضرباً للمثل في الخراب والدمار والفوضى والفشل.
وكما أن الأمريكيين لم يتعلموا من خطيئة السوفيات في أفغانستان، فإن الروس لم يتعلموا بدورهم من خطيئة أمريكا في العراق.
ها هي روسيا الآن تتدخل في سوريا لصالح طرف ضد الأكثرية في سوريا، فبدل أن تساعد الأكثرية التي ثارت على نظام طائفي أقلوي حقير، راحت تدعم النظام الفاشي ضد إرادة غالبية الشعب السوري الذي عاني الويلات منذ خمس سنوات. وكما تحججت أمريكا بإزالة النظام الديكتاتوري في العراق، تحاول روسيا تغطية غزوها السافر لسوريا بحجة محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الفصائل. ولتجميل تدخلها الفاشي في سوريا، تزعم روسيا أنها تبحث عن حل يجمع السوريين، مع العلم أنها تأخذ موقفاً صارخاً لصالح طرف ضد بقية الأطراف السورية كما فعلت من قبل في أفغانستان، وكما فعلت أمريكا في العراق. صحيح أن الوضع في سوريا مختلف عن الوضع في أفغانستان أيام الغزو السوفياتي. وصحيح ايضاً أن أمريكا وروسيا حليفتان في سوريا ضد الجماعات الجهادية. لكن ذلك لن ينجح أبداً في إيجاد حل للسوريين، لا بل سيعمق الأزمة، وسيزيد من التخندق الطائفي والمناطقي.
لا نعتقد أبداً أن القوى الكبرى تتدخل في البلدان المضطربة من أجل الحل، بل بالتأكيد من أجل مصالحها الحقيرة أولاً وأخيراً. وقد شاهدنا كيف أدى التدخل الروسي الأخير في أوكرانيا إلى تقسيمها وقبلها جورجيا. ولو صدقنا جدلاً أن روسيا تريد فعلاً أن تجد حلاً للكارثة السورية، فعليها أن تنسى الأمر، وأن تخرج من سوريا تاركة السوريين يتوافقون على حل فيما بينهم بأنفسهم دون وساطة أو تدخل خارجي مسموم كالتدخل الروسي الآن. إن التغيير الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، ويمكن أن يحقق نتائج إيجابية مستدامة في أي مكان هو التغيير من الداخل. أما التغيير المفروض من الخارج فسيفشل، وسيؤدي إلى خراب البلدان حتى لو دعمته كل قوى الأرض. هل نجح التدخل الأمريكي في العراق في تشكيل نظام أفضل يقبله كل العراقيين؟ بالطبع لا.
لقد أدى إلى تفتيت العراق والعراقيين على أسس طائفية ومذهبية وعرقية مقيتة. لماذا؟ لأنه لم يأت بمباركة كل العراقيين، بل حاول أن يفرض الشيعة على السنة. لهذا كانت نتائجه كارثية. وإذا فشلت أمريكا سيدة العالم في فرض نظام على العراقيين بكل جبروتها العسكري والاقتصادي والسياسي، فإن روسيا الضعيفة لن تستطيع أن تفرض على السوريين نظاماً لا يقبل به كل السوريين.
لم تحسم الإدارة الأميركية خياراتها تجاه القضية السورية، والتي لا زالت تتراوح بين تدخّل دبلوماسي والحؤول دون امتلاك المعارضة أسلحة فعالة ودعوة الأطراف المتصارعة إلى تقديم تنازلات بالجملة، وصولاً إلى احتمال القيام بتدخّل عسكري محدود يسمح للصراع بالاستمرار، ولا يتيح لأي طرف تحقيق الغلبة على الآخر، لا النظام ولا المعارضة، وذلك بدعم المعارضة بأسلحة دفاعية غير قادرة على صناعة نهاية حاسمة لأي معركة.
بين كل من هذه الخيارات تأتي عملية «لوزان ١» إلى الحضور الدولي، وكأنها عملية إنعاش صعبة لميّت اسمه هدنة حلب، أو الاتفاق الأميركي- الروسي الذي ولد معوقاً أو غير قادر على النمو. يعود الحديث عن لوزان جديدة إذاً على رغم أن «لوزان ١»، التي تم تدشينها في منتصف هذا الشهر بحضور الولايات المتحدة وروسيا وكل من إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن والعراق ومصر، لم تأخذ إعلامياً أي صدى حقيقي لما تم داخل أروقتها، إذ لم يصدر إعلان عن مجريات نقاشاتها التي توحي بأنها كانت أكثر من صريحة بين الأطراف الفاعلة على أرض سورية. فليس مصادفة أن الأطراف المشاركة هي الأطراف المنخرطة مباشرة في الصراع على الأرض (باستثناء مصر والأردن)، طبعا عبر أدواتها أو استطالاتها المحلية، من طرفي النظام أو المعارضة، مع ملاحظتنا تغييب الدول الأوروبية عن هذا الاجتماع، المتحمسة للحسم السياسي، الأمر الذي يؤكد الأهمية العملية لهذا الاجتماع وطابعها الميداني.
ما الذي طرحته «لوزان 1» (15/10) أو ما الذي يفترض أن تحسمه كي يعود الحديث من جديد عن «لوزان ٢»؟
لعل هذا هو السؤال الذي تدارسته الأطراف جميعها خلال الفترة الماضية ويفترض أن تقدم الإجابة عنه في الجلسة المزعم عقدها قريباً حسب التسريبات الصحافية، والتي تفيد بأن الأمر لا يتعلق هذه المرة فقط بهدنة تبدأ من حلب، ولكن أيضاً بمنفذ سياسي يقود إلى إحياء مفاوضات قد لا تتجاهل مصير الأسد، وهو عقدة الاستعصاء في الصراع السوري، بحسب التسريبات الموثوقة، وذلك من خلال تظهير، بدل تجهيل هذا المصير باستفتاء شعبي، يتاح فيه لكل السوريين، أينما كانوا، التعبير عن رأيهم، ولعلّ هذه المسألة تحديداً هي التي تقف وراء تغيب مجريات النقاش التي جرت في «لوزان 1» عن وسائل الإعلام، بحيث لم يصدر أي بيان عما توافقت عليه الأطراف المجتمعة أو ما لم تتوافق عليه.
أيضاً، كان الحراك الديبلوماسي اللاحق لاجتماع «لوزان١»، والطلب المتلاحق من كل الأطراف سواء التي اجتمعت أو التي غُيبّت، يوحي بأن عودة الاتفاق الأميركي الروسي (9/9) بات ممكناً، بل وفي طريقه للتنفيذ، وفي مقدمة ذلك يأتي فصل قوات المعارضة المسلحة عن قوات جبهة «فتح الشام» (النصرة). الدليل على ذلك أن بعض الدول المتّهمة بدعمها غير المعلن لـ «جبهة النصرة» صرحت علناً بضرورة خروج هذه الجبهة من حلب، وإعادة تصدير تصنيفها كمنظمة إرهابية وخفوت الأضواء عن حراكها العسكري داخل سورية، بعد أن حظي بتغطية إعلامية أوحت وكأن « النصرة» هي صاحبة الباع الكبير في عملية الحسم العسكري في مواجهة النظام، ليتبين لاحقاً أن عدد عناصرها في حلب المستهدفة لا يتجاوز مئتي مقاتل على الأرض.
كل ما تقدم أيضاً يطرح تساؤلاً ملحاً بشأن ما إذا كانت الدول الفاعلة في الصراع السوري وجدت أخيراً طريقاً إلى تفاهمات تفضي إلى وضع حد لهذا الصراع؟ وأنه إذا كانت وصلت إلى ذلك فما الذي يؤخّر تنفيذها له ووقف هذا العدوان المستمر من النظام وحلفائه على حلب؟ وعلى ضوء ذلك فهل نحن بانتظار انتظام خطوط الفصل بين الطرفين حسب خريطة محددة لا تسمح للمعارضة وبالتالي لتركيا بكسب كل شرق حلب، كما لا تسمح بتوغل النظام على كامل حلب غربها وشرقها؟
على ذلك يبدو أن الحديث عن «لوزان ٢» يتضمن شبه إجابة عن هذه التساؤلات لا سيما أن الدعوة ستقتصر على الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية وقطر، أي القوى التي تملك أدواتها العسكرية ومساحاتها الجغرافية على الأرض كما تملك جهاز التحكم السياسي والدعم المالي أيضاً لمختلف الأطراف.
الآن، وبعيداً عن النظام والمعارضة، تحصل التوافقات في الملف السوري، لكن السوريين هم من يدفع ثمن الاختلافات في الرأي والخطط المؤجلة ومحددات خطوط الفصل المطلوبة بين الطرفين المتقاتلين، وإلى أن تستقر الأطراف الفاعلة، سيما الولايات المتحدة وروسيا، على الصورة النهائية للاتفاق المأمول ضماناً لمصالحها. ومعنى ذلك استمرار النزيف السوري ومواصلة تقديم التنازلات من ثورة تطالب بالحرية والكرامة وإسقاط نظام الاستبداد وإقامة دولة ديموقراطية تعددية، تحفظ حقوق المواطنين والجماعات القومية والإثنية، إلى تفاهمات محدودة على حكومة تشاركية تجمع بين النظام والمعارضة، يفوّضها رئيس النظام بصلاحيات تنفيذية لا ترقى إلى صلاحيات سيادية، ورغم هذه التنازلات لا يزال النظام حتى الآن يناقش في حقه برفضها بناء على وهم انتصاراته العسكرية التي تقودها روسيا في السماء وإيران على الأرض.
اجتماعات «لوزان ٢» إذا تم تسهيل انعقادها، بأطرافها روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة مع السعودية وقطر من جهة ثانية، وتركيا الطرف الثالث في المعادلة التي تتقاطع مع روسيا بعلاقات متجددة ومصالح كبرى، ومع الولايات المتحدة بتحالف دولي يصعب الانسحاب منه، وإزاء سورية بعلاقة متداخلة يصعب الفصل بينها مع فصائل المعارضة المسلحة والسياسية ويصعب حل مشكلاتها مع قوات سورية الديموقراطية، «لوزان ٢» هذه ستأتي لتكون المرجعية الدولية للقضية السورية بدلاً من «جنيف ١» وكل ما تم التوافق عليه في «جنيف ٢» و «جنيف ٣».
إذاً نحن في «لوزان 2» سنكون، على الأرجح، في مواجهة استحقاقين: الأول يتعلق بتثبيت خطوط الاشتباك بين المتقاتلين. والثاني يتعلق بتحديد مصير الأسد في العملية الانتقالية، وهذا سيتوقف على نتائج التجاذبات الأميركية- الروسية.
على قدر ما تحمل الحالة السورية من ألم وحزن وقتل، فإنها تجعل الأسئلة تأخذ مداها لتصل إلى هذا الترابط فـي عالم اليـوم، حيـث تـتـداخل المصالح وتتفاعل في الساحة السورية إلى درجـة تبدو سورية في حالتها الراهنة كأنها تلخيص لحالة عالمية.
السياسيون السوريون (وبمعنى ما كل سوري له رأي سياسي)، ينتظرون نتائج انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، بينما يدوس الدب العسكري الروسي على مجمل القيم الإنسانية في سورية عسكرياً وسياسياً. النظام الإيراني الشمولي يرى عودة إمبراطوريته الفارسية ممكنة مع التراخي الأميركي المستمر معه حتى اللحظة، بينما يعتقد تابعه «حزب الله» اللبناني أن ساعة قطف ثمار معركة سورية قد حان لبنانياً، وذلك من خلال قضية الرئاسة اللبنانية.
بشار الأسد يشعر بأنه سيبقى طويلاً في الحكم بعد كل هاتف بوتيني له، ويرجو من الله أن ينصر ترامب لا كلينتون.
ومعارضات سورية متنوعة الشكل واللون والهدف، صار بعضها عبارة عن عارضات أزياء سياسية أمام كل الدول المتدخلة عسكرياً في الشأن السوري، وكل معارض سوري يرى أن تأخر النصر سببه أن العالم لم ينتبه لمقدرته في التحليل السياسي.
على الأرض السورية الآن، أكثر من نصف مليون مقاتل يتعاركون عسكرياً وسياسياً وثقافياً أيضاً، بينما تئنّ الناس تحت وطأة وضع معيشي اقتصادي هو الأسوأ والأعنف، إلى درجة صار معها الحفاظ على العيش بيولوجياً يُعتبر مطلباً سياسياً عاجلاً أيضاً.
تمزق وتشتت سوري - سوري، تشتت وتمزق عالمي في الساحة السورية، أمم متحدة هي محضُ عدّاد أرقام غير دقيق تجاه الحالة السورية.
وميشال عون سيصل إلى سدة الرئاسة محمولاً على أسوأ لحظة يعيشها لبنان، مُذ خرجت قوات الاحتلال الأسدية من لبنان عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري.
ويطل السؤال الصعب «ما العمل»؟ وألف إشارة استفهام معه حول الجدوى من أي عمل سياسي سوري في ظل أسوأ إدارة أميركية عاشتها الكرة الأرضية ومعها الثورة السورية اليتيمة.
ما العمل؟ وكيف نوقف هذا الانهيار السوري؟ وكيف نوقف هذا الانهيار في الشرق كله؟
مع كل ما يحمل المشهد السوري من تعقيدات، ثمة بارقة أمل يمكن أن تحمل معها جواب عن سؤال «ما العمل؟». بارقة الأمل يمكن أن تكون فعلاً سياسياً حقيقياً إذا قيّض لكل أشكال المعارضات السياسية السورية الآن أن تتفق في ما بينها على برنامج عمل آني واستراتيجي. والحامل الأساسي لهذا البرنامج السياسي هو السوريون أنفسهم.
من هنا يصبح مطلب إيقاف الحرب أهم مطلب سياسي آني.
خلال الأسبوع المنصرم، وحده، الذي شهد كثافة عالية لعمليات الطيران الحربي الروسي ومروحيات النظام السوري ضدّ مناطق في إدلب وريفها؛ ارتفع عدد الشهداء السوريين المدنيين إلى 90، بينهم 22 طفلاً و20 امرأة، فضلاً عن عشرات الجرحى. ذروة هذه الوحشية وقعت قبل يومين، حين قُصف تجمّع للمدارس في بلدة حاس، القريبة من كفرنبل، فبلغ عدد الشهداء ـ حتى ساعة كتابة هذه السطور، بالطبع ـ 35 مدنياً، بينهم 11 طفلاً و7 نساء. قبل مجزرة حاس، كانت أعمال القصف قد استهدفت مدن وبلدات وقرى جسر الشغور ومعرة النعمان والبارة والشيخ مصطفى والنقير، ومعرشمارين وبابولين…
في وسائل الإعلام الروسية، حتى تلك التي تُلصق صفة «المعارضة»، أو الليبرالية، أو النأي عن سياسات الكرملين، أو تعكس وجهة نظر رجال الأعمال الأقرب إلى الغرب (والمرء يضع جانباً إعلام المافيا الروسية، لأنه مرآة بالغة الإخلاص للنظام)… ثمة تطبيل وتزمير لتصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حول توقف المقاتلات الروسية عن قصف حلب خلال الأيام الماضية/ وثمة، في السياقات ذاتها، ولع بحديثه عن «الممرات الآمنة» لتأمين خروج المدنيين من حلب؛ ومباركته لمقترحات المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، حول ممرات أخرى موازية لانسحاب مقاتلي جبهة النصرة (الإعلام الروسي، في غالبيته، لا يعترف بالتسمية الجديدة: «جبهة فتح الشام»!).
ماذا عن إدلب؟ ماذا عن مدارس حاس؟ ماذا عن تلامذة المدارس؟ لا شيء، تقريباً؛ أو لا وقائع خارج تلك التي يتحدث عنها الوزير شويغو.
ولا غرابة، أيضاً، في واقع الأمر. هذه قوة عظمى تمارس جرائم الحرب في سوريا، بصفة يومية؛ فلا تستثني مستشفى، أو مدرسة، أو مخبزاً، أو سوقاً شعبية، أو مسجداً. وهي تستخدم كلّ صنوف الأسلحة، خاصة المحرّمة منها دولياً، وبالأخصّ تلك الصنوف التي عفا عليها الزمان، ومن الأجدى إسقاطها على مدن وبلدات وقرى سوريا، بدل تلويث أراضي روسيا الأمّ عن طريق إتلافها أو طمرها (كما يتفاخر فلاديمير جرينوفسكي، زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي»!). وهي قوة عظمى لا تجد رادعاً يردعها، ضمن صفوف ما يُسمّى «المجتمع الدولي»؛ وتجد أكثر بكثير مما تحتاج من خنوع وتبعية بشار الأسد، وشهيته لتحليق القاذفات الروسية في أربع رياح سوريا، وإفناء البشر والشجر والحجر…
فماذا، في المقابل، عن القوة العظمى الأولى: الولايات المتحدة الأمريكية؟ وماذا عنها، ليس على صعيد السياسات الرسمية لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فهذه باتت كلاسيكة؛ بل على صعيد الإعلام الأمريكي المستقل، أو الذي يزعم استقلالية أوسع بكثير من تلك التي تُنسب إلى الإعلام الروسي؟ ثمة مقالات الاحتجاج على خيارات البيت الأبيض، التي مكّنت موسكو من هذه الحال في سوريا؛ ولا يخلو المشهد من كتابات الإشفاق على الضحية السورية، وتقارير التعاطف مع الأطفال بصفة خاصة، واستهجان السلوك الروسي، وتقريع سيد الكرملين فلاديمير بوتين نفسه. وبين هذه وتلك، ثمة أولئك الغيارى على انحسار السطوة الأمريكية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً؛ وأولئك الذين يعلقون الآمال على احتمال استئناف نفوذ واشنطن الكوني، على يد إدارة هيلاري كلنتون إنْ فازت، أو حتى دونالد ترامب!
وإذا كان في الوسع تفهم انشغال أمريكا بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، فإنّ مقدار الانهماك بغارات بوتين الدموية يبدو مكمّلاً ـ من حيث معدّل النفاق الأخلاقي، بادئ ذي بدء ـ لانهماك أمريكا بتعقّب افتضاح الأسرار حول مغامرات ترامب الجنسية: غارة لا تجبّ مغامرة، ولكنّ المغامرة تفعل… فلا تجبّ فقط، أو تُلهي وتُنسي وتحرف الانتباه فحسب، بل تحثّ أيضاً على مزيد من النفاق! فإذا جرى ربط ما، وهذا إجراء نادر تماماً، بين الغارة والمغامرة؛ فإنّ الغائب الأكبر ـ أو بالأحرى: المغيّب، عن سابق قصد وتصميم ـ سوف يكون مقدار التنافر بين التباكي على الأخلاق الجنسية للمرشح ترامب، والتباكي على الأخلاق العسكرية للرئيس بوتين! وفي كلّ حال، شائع أيضاً ذلك المقدار من التعامي عن مستويات التورط الأمريكي الفعلي على الأرض السورية، مقابل الزعم بعدم الرغبة في التورط!
والحال أنّ عناصر كثيرة في المشهد الأمريكي الراهن تعيد التذكير بمغامرات جنسية أخرى، لرئيس أمريكي هذه المرة، وليس مجرد مرشح للرئاسة: بيل كلنتون، ومونيكا لوينسكي، وغراميات المكتب البيضاوي، ودراما التحقيقات، ودراما المحاكمة، ودراما التبرئة… وبذلك فإنّ المرء لا يلوم الأمريكيين هذه الأيام، إذا ما استعاد مناخات تلك الأزمنة المشحونة بالمسرح السياسي والجنائي والبوليسي والقضائي. وبعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية جورج أورويل «1984»، ولكن على نحو كان سيقشعرّ له بدن «الأخ الكبير» نفسه، كان الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة أورويلية كاملة الشفافية، حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية كانت تستهويه أكثر، وأيّ شعر إيروسي ألهب مخيّلته، وأيّ الأماكن كانت الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب…
آنذاك تحدّث البعض ــ بهمس خافت، سرعان ما تعالى تدريجياً ــ عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، الذي يزعم أبناؤه أنه بلد هو العالم بأسره. يومئذ، بالفعل، حلّ زمان أمريكي عجيب أتاح لنا أن نقرأ كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية هي مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!). «لماذا يجد الأمريكيون كلّ هذه المتعة في هتك الأعراض»، سأل أنتوني لويس، قبل أن يجيب بأسى عميق: «ألأننا فقدنا الإحساس بقيمة الحرّية الشخصية في المجتمع الأمريكي»؟ ولكن ماذا عن حرّية ترامب، اليوم؟ وأيّ نفاق يسحب هذه «الحرّية» من تلك؟ وهل هذه المغامرات الجنسية هي، حقاً، أمّ القضايا التي تشغل الناخبين قبل أسابيع قليلة تسبق التصويت؟
في غمرة هذا الاقتران بين المغامرة الجنسية والغارة الدموية، بين أمريكا وروسيا؛ تظلّ على الألسن، وطيّ المقالات والتقارير والتحليلات، عبارة «محاربة الإرهاب»، بوصفها مقتصرة على جهاديي سوريا والعراق، من السنّة حصرياً. الميليشيات ذات التمذهب الشيعي، القادمة من أصقاع شتى؛ و»حزب الله» اللبناني، الذي صار في سوريا جيشاً كامل العديد والعدّة؛ وضباط وعناصر «الحرس الثوري» الإيراني، وغيرهم وسواهم… ليسوا، البتة في عداد الإرهاب. ومثلهم، بل قبلهم، ليس إرهابياً أبداً العدوان العسكري الروسي، الذي أتمّ سنة أولى ونيف؛ وليست إرهابية أعمال القصف الوحشي التي لا تُبقي ولا تذر…
صحيح أننا نقرأ، في الصحافة الأمريكية، نقداً شديداً للتدخل العسكري الروسي؛ ونقرأ، في الصحافة الروسية، نقداً لا يقلّ شدّة لاحتضان البنتاغون بعض الفصائل العسكرية «المعتدلة» في صفوف المعارضة السورية؛ ولكن هيهات أن نعثر، هنا أو هناك، على ما يوحي بصفة «الإرهاب» لدى أيّ من الفريقين. وبذلك فإنّ انشغال واشنطن وموسكو بالملفّ السوري له حيثيات متنافرة غالباً، أو متناقضة أحياناً؛ ولكنّ المآلات، بصدد توصيف فعل القوتين العظميين، سياسياً وعسكرياً ـ ثمّ أخلاقياً، لمن يشاء! ـ ليست على درجة مماثلة من التنافر أو التناقض. وليست هذه خلاصة جديدة، في أية حال، ما خلا أنها تتجدد تلقائياً؛ كلما أريق ماء الحياء في فضيحة جنسية عند ترامب، أو أريقت دماء سورية، في قصف وحشي يأتمر بأمر بوتين.
تكاملٌ بين الحياء والدماء، ليس أقلّ!
استنزفت أميركا طاقات حلفائها، وهي تتحدّث عن نيتها تصنيع خياراتٍ بديلة في سورية، بل وضعت الثورة السورية نفسها في سلسلةٍ من المخاطر غير المسبوقة، والأخطر أن سياستها هذه جعلت من روسيا شريكاً واقعياً في إدارة السياسات الدولية، على الرغم من أنها طرف غير مؤهل لهذه الأدوار، نظراً لضعف خبراتها في الإدارة السلمية للأزمات.
ماذا فعل أوباما؟ استنفر وكالاته وأجهزته، وطلب منها اقتراح خيارات وبدائل للتعاطي مع الحالة السورية، شرط أن تكون تلك الخيارات عملية، ويمكن تنفيذها، بهدف تعديل موازين القوى، أو تصحيح الخلل الذي أحدثته روسيا وحلفاؤها في حلب، وذلك لانعكاس هذا الخلل على مصداقية أميركا ومصالحها. والمعلوم أن لدى الأجهزة الأميركية تقديرات وقوائم خيارات كانت قد أعدتها في مناسبات سابقة، سواء بقصد الوقوف الدائم على تطورات الأزمة وتداعياتها المنفلتة، أو حتى تلبيةً لطلب من الإدارة نفسها التي طالما وقفت على عتبة الأزمة، متأبطة ملفها بين جنيف وموسكو، وكانت هذه الخيارات على الدوام تحتاج إلى تحديث وتعديلاتٍ، نظرا للمتغيّرات السريعة الحاصلة في مواقع الأطراف وظروف الحرب.
من الواضح اليوم، ومن الاجتماعات الكثيفة وطول مدة التشاور أن واضعي الخيارات للرئيس أوباما يعملون ضمن مناخاتٍ صعبة، فالرجل يطلب منهم المشورة، نتيجة ما يتعرّض له من ضغوط. وفي الوقت نفسه، يقيدهم بمحاذير كثيرة، تكاد تكبّل قدرتهم على الحركة والفعل، حيث يقع هامش البدائل المقبولة من أوباما بين حدي انعدام المخاطر وعدم تورّط أميركا بإرسال قواتٍ إلى سورية.
وتكشف تصريحات أوباما المتواترة أنه يجري، على الدوام، موازنةً بين المخاطر والفرص في القرارات التي سيتخذها، من دون أن يلتفت إلى أن التغيرات جارية بشكل متدفق، وما قد يكون اليوم فرصةً يصبح غداً، وفي حال التلكؤ في التنفيذ، خطراً أو أقله فرصةً قليلة الجدوى والفعالية، فماذا سيعني السماح بتسليم مضادات للمروحيات، في وقت تكون روسيا قد استعادت حلب، وهدّدت الفصائل في مناطق أخرى. حينها لن تكون ثمة حاجة لسلاح المروحيات. أو ماذا يعني احتمال قصف مطارات محدّدة، فيما تتولى روسيا القوة النارية الجوية من مطار حميميم؟
الأهم أن الخيارات التي تسعى أميركا إلى اجتراحها لن تترجم على شكل التزامات دائمة، ولا أعمال مستدامة، إلى حين تغيير موازين القوى على الأرض، لن تكون أكثر من ضربة واحدة إن حصلت، أو دفعة محدّدة من الأسلحة. وهنا، على القيادة الأميركية أن تتنبه بالفعل للمخاطر التي ستجلبها مثل هذه السياسات، حيث إنها ما لم تردع روسيا وتجبرها على التراجع عن أساليبها، فإنها ستدفعها إلى استعمال أقصى أنواع العنف تجاه الشعب السوري، وستفعل ذلك بذريعة أنها تخوض حرباً مقدّسةً ضد أميركا والغرب، كما أن نظام الأسد سيزاود على السوريين بأنه يواجه مؤامرةً كبرى لإسقاطه وإسقاط الدولة السورية. أليس من الأفضل لخياراتٍ على هذه الشاكلة أن لا ترى النور؟
لم تفعل دراسة الخيارات الأميركية سوى تحفيز روسيا على توسيع انتشارها في سورية، وإرسال مختلف صنوف الأسلحة. وهنا أيضاً مكمن خطورة آخر، ذلك أن عدم اتخاذ واشنطن إجراءاتٍ رادعة ضد روسيا سيعني أنها لم تفعل شيئاً آخر، سوى تغيير ديناميكية الصراع لصالح روسيا في سورية. وهي وضعيةٌ لن يستطيع الرئيس القادم أن يفعل تجاهها شيئاً له قيمة.
أسقطت أميركا، بتردّدها وسلوكها المتهاون، عدة خيارات، كانت، حتى وقتٍ قريبٍ، ممكنة التحقق: خيار تشكّل ائتلاف إقليمي، تقوده تركيا والسعودية، يسقط نظام الأسد، وخيار إمكانية إسقاطه من الثوار، وخيار إنشاء منطقة آمنة، حتى وإن كانت هناك مصاعب عملية تقف في وجه تنفيذ هذه الخيارات، فإنه مع الاستعدادات الروسية وطبيعة الانتشار وحجم الأسلحة صارت كلها في حكم الماضي.
ويمكن للمراقب لصيرورة الإجراءات الروسية في سورية ملاحظة بعدٍ تقنيٍّ خطير فيها، ذلك أن تلك الإجراءات كانت، في الغالب، ذات طابع تكتيكي اختباري (أوراق ضغط تكتيكية)، طبيعة الاستعدادات ومستوى التحضير وحجم الموارد والأصول كانت مؤشرات واضحةً على ذلك، لكن الرد الضعيف من أميركا حوّلها إلى إجراءات مستدامة واستراتيجية، ولم تأخذ الإجراءات الروسية وقتاً طويلاً، في طور الاختبار، قبل أن تتحول من مجال المناورة المتحرّك إلى الواقع الاستراتيجي الصلب. لذا من المقدّر أن يحصل تمدّد وانتشار روسي في الأشهر القليلة الباقية من حكم أوباما، بما يوازي أضعاف ما جرى حتى اللحظة، وليس في سورية وحدها، وإنما على مستوى العالم.
لم تكن أميركا بحاجةٍ إلى دراسة مديدة لخياراتها، لقد وفّرت لها ظروف الحرب السورية وتطوراتها الفرصة تلو الأخرى، للقيام بعملٍ يؤيده المجتمع الدولي كله. كان يمكن إنزال الإمدادات الإنسانية فوق حلب، وغيرها من المناطق المحاصرة، بطائرات نقل أميركية من مسؤولي الأمم المتحدة. وكان يمكن أن يكون ذلك بدايةً لتأسيس آلية تدخلية خالية من المخاطر، لو أن إدارة أوباما التقطتها وطوّرتها.
غالباً ما تنتهي الخيارات الأميركية بفرض عقوباتٍ من نمط منع بعض ضباط الأسد وقادة نظامه من السفر إلى أميركا، والذين في الواقع لا يفكرون أصلاً بزيارة أميركا، ولن يكون لديهم وقت لزيارتها، في ظل انشغالهم في الحرب. وعند انتهاء الأزمة، سيكون القسم الأكبر منهم قد غادر الحياة، أو عقوبات اقتصادية تطاول بعض رجال الأعمال القريبين من بشار الأسد، وهم من المفترض أن يكونوا، بدون هذه الواسطة، مطلوبين للانتربول الدولي، نتيجة فسادهم وجرائمهم الاقتصادية.
عاد الحديث عن حرب باردة بين روسيا والغرب. ففي سوريا أصبحت روسيا الدولة التي من المستحيل حل النزاع من دونها. موسكو تريد حوارًا مع واشنطن يهدف إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى. ولهذا تلعب لعبة دبلوماسية متطورة جدًا، فالقوة وسوريا مجرد أدوات لاستعادة المكانة العظمى.
الرئيس باراك أوباما اتهم روسيا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنها تبحث عن استعادة مجد ضائع. الآن هو على وشك المغادرة، وتتجه الأنظار إلى من ستختاره أميركا رئيسًا مقبلاً لها. ذلك أن تعاطي الرئيس الأميركي المقبل مع سوريا سيعتمد أولاً على روسيا ونياتها. قد تكتفي الإدارة الأميركية الجديدة بالتركيز على محاربة «داعش» ومقاتليه، لكنّ لروسيا أهدافًا أبعد من محاربة «داعش» وبقية الإسلاميين المتطرفين. ذلك أن تدخلها بالحرب في سوريا، برًا وجوًا وبحرًا، كان لإظهار رغبة الكرملين بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي الوقت نفسه للدلالة على التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران، إلى درجة أنه جرى حديث عن تحالف شيعي بقيادة طهران تدعمه موسكو، لتحدي الكتلة السنية المدعومة من واشنطن.
لكن، مع هذا تبقى روسيا وإيران أبعد من تشكيل تحالف كامل. في 16 أغسطس (آب) الماضي سمحت إيران لقاذفات القنابل الروسية باستخدام قواعدها الجوية لضرب مواقع الثوار السوريين، بعد أقل من أسبوع تراجعت إيران عن قرارها. صحيح أن لروسيا وإيران كثيرًا من المصالح الإقليمية المشتركة وبالذات في سوريا، لكن تبقى هناك توترات موروثة من حروب سابقة. كما أن موسكو لا تريد أن تستحوذ إيران على السلاح النووي، وتتخوف من أن أي اتفاق نووي شامل وبعيد المدى قد يدفع إلى تقارب بين واشنطن وطهران، فيقلص هذا من النفوذ الروسي أكثر فأكثر.
في سوريا تريد روسيا إظهار أنها بالفعل تقدم الحماية لحلفائها، وترى في الوقت نفسه أن إلحاق الهزيمة بالمتطرفين السنّة هو الطريق لاحتواء النفوذ الأميركي في المنطقة، كما أنها تريد أن تحمي حليفها السوري. والمغامرة الروسية ترغب في المحافظة على حكومة صديقة لها في دمشق، وقواعد بحرية على الأبيض المتوسط، وتأكيد مكانتها كقوة عظمى. ترفض روسيا تغييرًا في النظام السوري يؤدي إلى قيام حكومة في دمشق موالية للغرب. هذا ما تريد منعه، لكن هذا لا يعني الدفاع عن قيادة بشار الأسد مهما كان الثمن.
ثم إن روسيا ترتبط بعلاقات براغماتية في الشرق الأوسط. ويقول أحد المحللين الروس إنه إذا كان هناك من شك بالنسبة إلى جدول موسكو المستقل في سوريا بالنسبة إلى إيران، فليس علينا التفتيش كثيرًا، بل أن نأخذ إسرائيل التي تقول إيران إنها العدو الرئيسي، إذ ترتبط موسكو بعلاقات وثيقة مع تل أبيب، وتضاعفت هذه العلاقات في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. الدولتان مستمرتان بحوار سياسي، وهناك تبادل وفود بينهما على كل المستويات، ويوم الجمعة الماضي أجرى بوتين اتصالاً هاتفيًا مع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهنئه بعيد ميلاده، والأعياد اليهودية، كما تبادلا التهاني لمرور 25 سنة (18 أكتوبر/ تشرين الأول)، على إعادة العلاقات بين الدولتين (كانت روسيا قطعت العلاقات مع إسرائيل بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، وأعادتها على مستوى قنصليات عام 1987، لتُستأنف كاملة عام 1991)، كما تعهد الطرفان بتطوير العلاقات والتعاون بينهما. ناهيك بأن عددًا كبيرًا من المواطنين الإسرائيليين ولدوا في الاتحاد السوفياتي. إضافة إلى إسرائيل، تحتفظ موسكو بعلاقات جيدة مع مصر وتركيا والدول السنّية العربية التي ليست إيران على علاقات جيدة معها. ويوم الاثنين الماضي قال ألكسندر نوفاك وزير الطاقة الروسي: «بلغنا مستوى غير مسبوق في علاقاتنا مع السعودية». كما تتنافس روسيا وإيران في مجالي النفط والغاز، والدولتان تدعيان ملكية مناطق في بحر قزوين.
يقول المحلل الروسي إنه لا يزال الروس يشعرون بطعم الذل الذي لاقوه من الغرب بعد موجة الديمقراطية التي دمرت الجدار الحديدي 1989 - 1990، وتفكك الاتحاد السوفياتي. يعرف بوتين هذا، ولذلك من أجل سلطته وأيضًا بسبب غريزة وطنية حقيقية تضاعفت بسبب أيامه في استخبارات الـ«كي جي بي»، يلعب الآن بالورقة الوطنية، ولأنه يريد استعادة هيبة روسيا الدولية، كما يريد غالبية الروس، فإنه يريد فتح أسواق أوسع أمام الأسلحة الروسية. يقول محدثي: «هذا يعود إلى براغماتية بوتين. وفّرت سوريا له مسرحًا لاستعراض طائراته وصواريخه». ويضيف: موسكو تصعّد من حملتها العسكرية في سوريا الآن لأنها لا تزال تعتقد أنها قادرة على إقناع الأميركيين بقبول موقفها والتخلي عن مطلبهم برحيل الأسد. ويعتقد بوتين أنه يستطيع عندها الاستمرار بمحاربة الإسلاميين مع الولايات المتحدة، وهو يرغب في التوصل إلى اتفاق ما مع إدارة أوباما، لأن الروس مقتنعون بأن هيلاري كلينتون، كرئيسة محتملة، ستكون أكثر تشددًا مما عليه أوباما.
لكن، لا يجد بوتين ثغرة ضد المصالح الأميركية إلا ويحاول سدها بموقف روسي معادٍ، إذ، وفي مجال أوسع من منطقة الشرق الأوسط، دعمت موسكو مطالب الصين بجزر بحر الصين الجنوبي، وتصالحت مع تركيا مستغلة غضب أنقرة من الغرب بعد المحاولة الانقلابية على الرئيس رجب طيب إردوغان. يقول المحلل الروسي: قد تكون روسيا طموحة جدًا بمحاولتها سحب تركيا من الحلف الأطلسي نفسه. هي ترى أن تركيا لم تعد مهتمة الآن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لذلك يستغل بوتين ردود فعل إردوغان على محاولة الانقلاب، لشد تركيا أكثر إلى آسيا ودفعها إلى تحالفات تجارية ودبلوماسية مثل منظمة شانغهاي للتعاون.
وكانت الغارات الجوية التركية يوم الخميس الماضي على قوات وحدات حماية الشعب الكردية لمنعها من الوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية شمال غربي سوريا، أثارت كثيرًا من الأسئلة حول علاقة أنقرة بموسكو والنظام السوري، إذ ما كان يمكن للطائرات التركية الإغارة من دون إبلاغ روسيا التي تسيطر على الأجواء في تلك المنطقة.
لكن في الوقت نفسه لن تسمح روسيا للمعارضة السورية المدعومة من تركيا باحتلال الباب، لأن هذا قد يهدد خطط الحكومة السورية باسترجاع حلب. وكان إردوغان تحدث هاتفيًا مع بوتين في 19 من الشهر الحالي، حيث أكد له مساعدة تركيا في طرد «جبهة فتح الشام» (النصرة) من حلب.
وكان لوحظ أنه مع بدء المعارك لاسترجاع الموصل لم تطلب أي دولة من دول التحالف استعمال القواعد الجوية التركية لشن غاراتها الجوية. وهذا ما أثار سخط أنقرة ويدفع موسكو إلى فتح أذرعها لتركيا أوسع فأوسع.
الأوراق الروسية كثيرة، تختصر برغبة الكرملين في استعادة الوضع السابق ليصبح على قدم المساواة مع البيت الأبيض، لكن في ظل إدارة أوباما التي انكفأت عن كثير من الصراعات كان تدخل بوتين. في سوريا، يشعر كثيرون بأن واشنطن لعبت دورًا رئيسيًا في تفاقم الحرب، بسبب ترددها وعدم حسمها، وتفضيلها التوصل إلى اتفاق مع إيران على حساب مصير الشعب السوري. أما في العراق، فإن معركة الموصل رغم أهدافها لا تزال في البداية. عبر هذه الفوضى الدموية تستغل موسكو الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي؛ بأن تزيد من الشرخ بين تركيا والحلف، في حين أن إيران تراقب وقد استدعت السفير التركي في طهران للاحتجاج على طلب تركيا التدخل في معركة الموصل. تعرف إيران أن هناك خطوط أنابيب للنفط والغاز تنطلق من منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين إلى البحر المتوسط، وأن سوريا وتركيا من المواقع المهمة للتصدير إلى أوروبا. وتقف روسيا لها بالمرصاد.
اللعبة لن تنتهي في الشرق الأوسط.
تتنافس حلب والموصل هذه الأيام على إيلامنا وجلد وجداننا، وعلى تقريعنا لتقصيرنا وإهمالنا. قبلهما اغتيلت حمص وهانت علينا، اغتيلت بيروت، واستُبيحت القدس والخليل وغزّة، وغيرها وغيرها، وهانت علينا كلّها. أصبحت المقارنة، وربما المفاضلة، بين احتلال يشير اليه العالم على أنه احتلال لا تستطيع اسرائيل أن تتخلّص من آثامه مهما عربدت في إجرامها، واحتلال لا أحد سوى المعانين منه يسمّيه باسمه رغم أن إيران فَجَرَت وتمادت، واحتلال روسي لا يشبهه سوى احتلال أميركي وقد برع كلاهما في الاستهتار بالأرض ومَن عليها وما عليها، وبالتاريخ والحاضر والمستقبل وما تعنيه لا للسوريين والعراقيين أو العرب، ولا لسنّة وشيعة ومسيحيين، وحدهم، بل للعالم ولما تسمّى «حضارة انسانية» فشل العرب، قبل سواهم، في الاهتداء الى سبل حمايتها من صولات الوحوش المسعورة.
هناك طعَم نهايات مريرة وبدايات أكثر مرارة في ما تشهده حلب والموصل. لا، ليس التراث الانساني الذي هشّمه المدعو «أبو بكر البغدادي» أو يدمّره المدعو فلاديمير بوتين أو يطرحه سماسرة الحروب في مزادات التهريب هو ما سيفتقد فقط، بل انه الانسان نفسه الذي صبر على الطغاة القدامى والجدد، بمن فيهم صدّام حسين وجورج بوش ونوري المالكي وبشّار الأسد وقاسم سليماني و «داعش»، وصنع تجربة العيش بهذا المزيج من الأقوام والأديان. هذا الانسان تحطّم بدوره وتدمّر، فقد الثقة والأمل، فلا الدولة/ النظام تحميه ولا هو يعني شيئاً لها، ولا القوى الخارجية ترحمه بل تمعن في تقطيع أوصاله. وفي السياق الحضاري التاريخي سيكون واضحاً أن روسيا دمّرت حلب وأميركا دمّرت الموصل وإيران صنّعت «داعش» لاستدراجهما كي يلعبا لعبتها القذرة فتحصد المكاسب. وعلى رغم أن الوحشية لا تُعرف إلا باسمها ولا مجال فيها للمقارنات إلا أن «داعش» المنشغل بالنحر والحرق والنهب والسبي قد يبقي في الموصل مستشفيات ومدارس ومخابز وأسواقاً، خلافاً لما ارتكبه بوتين لتوّه في حلب وهو منشغل بتدمير سورية لتأمين قضمه أوكرانيا أو لتقاسمها بصفقة مع أميركا.
«ممرات آمنة» غير آمنة هي كل ما تبقّى من المدينتين لأهلهما. حُوصرت الموصل ويراد لأهلها أن يغادروا كي يسهل تحريرهم من تنظيم «داعش»، وبعضٌ ممن يحاصرونها أو جلّ من يريدون «تحريرها» ساهم في صنع «داعش» وتسعير توحّشه. هناك أكثر من معركة في الموصل، واحدة لأهل الموصل وخمسة لأميركا وإيران وتركيا وحكومة بغداد والأكراد، وكلٌّ منهم يخوضها وفقاً لأجندته. صحيح أن الهدف طرد «داعش» لكنه يختلف بالنسبة الى الإيرانيين والأتراك بين تمكين و/ أو عدم تمكين «دواعش الحشد الشعبي/ الشيعي» من دخول المدينة. لا شك في أن «داعش» سيُهزم، لكن هذه معركة يراقبها العالم موقناً بأن النصر فيها يعادل الهزيمة اذا أفسدها صبية قاسم سليماني و «حشده». شيء من هذا يشوب أيضاً معركة حلب، حيث لا وجود لـ «داعش» بل إن «فتح الشام/ النصرة/ القاعدة» يحاول الذوبان في نسيج الفصائل، فيما ينتظر «دواعش» الأسد وسليماني والحشد العراقي و «حزب الله» اللبناني وأقرانهم متعدّدو الجنسية أن لا يبقي الروس حجراً على حجر فيها ليعلنوا الانتصار على ركام المدينة. يُذكر أن الروس والإيرانيين يتغطّون بـ «شرعية» نظام مجرم تعاقد معهم على قتل الشعب السوري وتدمير حواضره، لكن حكومة بغداد لم تعلن أن الأسد تعاقد معها لاستيراد «دواعش الحشد» الذين جعلهم حيدر العبادي جزءاً من الجيش العراقي.
لا خلاف على إرهابية «داعش»، لكن كمَّ الإجرام الذي مورس في سورية والعراق وعدد المشاركين فيه يبرز إرهابية الآخرين ويحمّلهم مسؤولية مضاعفة في ترك ظاهرة «داعش» تكبر وفي استغلالهم لها، بل في استنساخ «منطقـ»ـها السياسي الذي ربط بين البلدين، حتى قيل إن هذا التنظيم هو الذي جهر بإعادة النظر في ترتيبات معاهدات «سايكس – بيكو» و «سيفر - لوزان»، فيما تطرح الأطراف الأخرى إعادة النظر هذه سرّاً. وعلى رغم مساهمة الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية بالجهد الأكبر في تحرير الموصل، إلا أن سنّة نينوى لجأوا الى تركيا وإلى تذكيرها بصلتها التاريخية بالموصل طلباً للحماية منذ الآن تحسّباً لمرحلة «ما بعد داعش»، وثمة مؤشّرات الى أن المحافظات السنّية الأخرى تشاركهم هذا الالتماس، فهي تعاني من تداعيات الغزو الإيراني المتنكّر بـ «دواعش الحشد الشعبي» بعد تحريرها من «داعش». وتستند مخاوف الموصل وبالأخصّ تلعفر الى أن هذه الأخيرة بمقدار ما تشكّل معبراً لـ «الدواعش» الهاربين الى الشطر الآخر من «دولة الخلافة» بمقدار ما يحتاج اليها الإيرانيون كممرٍّ لا بد منه للاتصال جغرافياً بسورية، كما أنهم يحتاجون الى حلب لتأمين تواصل سورية - العراق - إيران.
يدور السيناريو حالياً كما يفترض له بدءاً من 1916، كما لو أن المئة عام لم تكن أو كأنها محكومة بأن تعود الى الفراغ الذي بدأت به، لا دول لا مؤسسات لا فكر لا نُخَب. هناك أمة قذفها الفرس الهائج من على متنه فارتمت أرضاً ليكثر ذبّاحوها. قبل مئة عام توافقت مصالح «الحلفاء» المنتصرين في الحرب العالمية الأولى على تقسيم التركة العثمانية بإرضاء العرب كقومية، وبعدها التقت مصالح الأطلسيين والسوفيات على مباركة سرقة الاسرائيليين أرض فلسطين التاريخية، بل التقت أيضاً على منع العرب من أن يتصرّفوا كقومية يلتقي أبناؤها على أهداف مشتركة، وقد سهّل العرب للقوى الخارجية الاستهانة بمصالحهم وطموحاتهم.
رغم كل ما بذله العرب (بالأحرى ما بذلته الأنظمة) من أخضاع لمصالحهم في ما ظنّوه مصادقات وتحالفات مع العالم، فإنهم اتّهموا أولاً بقوميتهم ويتّهمون اليوم بإسلامهم، كمصدري خطر إقليمي وعالمي، ولم يعد يُرى منهم سوى «إرهابهم»، بل إنهم يُحاسبون ويُعاقَبون على هذه كلّها. وها هم يقفون اليوم على قارعة التاريخ فلا يجدون صديقاً أو حليفاً، وتكاد العودة الى كنف الدولة العثمانية تشكّل ذروة طموحاتهم، ولن ينالوها. أما الكبار، وهم الأميركيون والروس هذه المرّة، فيستخلصون من تجربة الـ 100 عام ضرورة «شرعنة» تطلّعات القوميّتين اليهودية والكردية بما تتطلّبه من تقسيم وتغيير خرائط، ويتوافقون على تنصيب الفرس والاسرائيليين أوصياء على العرب، كمكافأة على ما ارتكبوه في حق العرب. وربما يراد، بشيء من التردّد، إشراك الأترك لكن كأوصياء من الدرجة الثانية.
بعد كل المقدّمات التي تفاعلت سورياً وعراقياً واقليمياً ودولياً تؤشر الى نهاية مرحلة، ولم يعد حديث التقسيم مجرّد تكهّنات واحتمالات، بل توغّل أكثر في التداول. ليس هناك أبسط من القول، مثلاً، أن تعايش السنّة مع بغداد بات استحالة من دون أن يقال لماذا وكيف صار كذلك ومَن المسؤول، بل من دون النظر الى الفارق بين تعايشهم الممكن مع الشيعة وبين إجبارهم على الخروج من عراقيتهم والخضوع للاحتلال الإيراني. ولو أن أتباع ولي الفقيه بنوا تجربة راقية تحترم خصوصيات العراق لما كان «داعش» ظهر أصلاً، لكن الحاصل هو أنهم منعوا قيام دولة وهمشوا الجيش وأرهبوه بـ «دواعش الحشد» وهتكوا كل ما تبقّى من روابط أهلية غير متأثرة بالشحن الطائفي وساهموا في مأسسة الفساد. فهل أن هذه مقوّمات «تفاهم» أميركا وإيران على العراق؟ واقعياً، لم يثبت أنها عكس ذلك ولم يتبرّأ الأميركيون مما حصل بعد انسحابهم.
لكن هل هناك أي مبرر، طائفي أو سياسي، يبرّر مدّ هذا «التفاهم» الى سورية والاعتراف بالدور الإيراني كجزء من «التفاهمات» الأميركية - الروسية ومن دون أي اعتبار لخصوصيات سورية إنْ لم يكن لحقائق مجتمعها؟ لا مجال لإخراج السوريين من سوريتهم وإخضاعهم لاحتلال إيراني جنباً الى جنب مع احتلال روسي، لذلك صمتت أميركا عن اقتلاعهم من مدنهم وبيوتهم، وهي وروسيا تغضّان النظر عن تغيير ديموغرافي تعمل إيران على هندسته لإدامة احتلالها. فإذا لم يكن هذا من ارهاصات التقسيم، كما تتمنّاه واشنطن وموسكو، فما عساه يكون؟
في لقاء صحافي نشرته إحدى الصحف العربية قبل أيام، تحدث المسؤول الأميركي السابق المعروف ريتشارد ميرفي، الذي عمل سفيرًا لبلاده (الولايات المتحدة) في كل من دمشق والرياض، عن مسألة غدت مطروحة ويكثر الحديث عنها بكل جدية هنا في هذه المنطقة وأيضًا في أوروبا وأميركا، وهي أنه لا حل لمشكلة بشار الأسد إلا «الحل الأفغاني»، وأنه لإنهاء هذه الأزمة السورية التي باتت معقدة وشائكة لا بد من «سيناريو» كـ«السيناريو» الذي تم تطبيقه في أفغانستان.
وحقيقة، فإن هذا الذي قاله ريتشارد ميرفي كمبادرة كان قد اقترحها، كما يتردد وكما يقال، على بعض كبار المسؤولين في بعض دول الخليج العربي كان قد طُرِحَ وجرى الحديث عنه مبكرًا عندما كان نظام بشار الأسد قد أصبح آيلاً للسقوط قبل أن تنتقل روسيا بتدخلها في الشؤون السورية الداخلية من مجرد المساندة السياسية والدبلوماسية والدعم الأمني إلى التدخل العسكري السافر الذي كان بدأ في نهايات سبتمبر (أيلول) عام 2015 ثم ما لبث أن تحول إلى احتلال فعلي غاشم وبأبشع أشكال الاحتلال.
لكن كل الذين تحدثوا عن هذا الحل وعن هذا «الخيار» وعن هذا الـ«سيناريو»، ومن بينهم ريتشارد ميرفي نفسه، هذا الذي يُعتبر أحد كبار الخبراء الأميركيين في الشؤون العربية وشؤون هذه المنطقة، لم يحددوا بالضبط ما الذي يريدونه وهل أنهم يقصدون إيجاد مخرج لرئيس النظام السوري بشار الأسد بالتنحي على غرار ما حصل عندما تنحى الرئيس الأفغاني الأسبق بابراك كارمال وحل محله مدير المخابرات الإيرانية السابق محمد نجيب الله الذي كانت نهايته مأساوية بالفعل عندما جرى إعدامه، بعدما وصل الحكم في أفغانستان إلى حركة طالبان، بالتعليق على أحد أعمدة الكهرباء في كابل وحيث بقي معلقًا لنحو أسبوع بأكمله؟!
وحقيقة فإنَّ المشكلة الأفغانية، التي كانت بدأت بذلك الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال محمد داود خان ضد ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه في عام 1975، قد ازدادت تفاقمًا أولاً بانقلاب حفيظ الله أمين على رفيقه في حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني محمد نور طرقي في عام 1979 الذي كان بدوره قد انقلب عليه رفاقه، وثانيًا بذلك التدخل السوفياتي الذي كان احتلالاً عسكريًا بكل معنى الكلمة، والذي جاء لسوريا كنسخة شبيهة له في وجوه متعددة وكثيرة، وثالثًا عندما تحولت أفغانستان، خلال حكم حركة طالبان المتطرفة، إلى معسكر كبير لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ورابعًا عندما ارتكب هذا التنظيم الإرهابي، أي «القاعدة»، تلك الجريمة التاريخية البشعة في نيويورك وواشنطن في سبتمبر عام 2001، أمّا خامسًا فعندما ردت الولايات المتحدة على هذه الجريمة بتحشيد عسكري دولي واحتلال هذا البلد كله وإنهاء نظام هذه الحركة وفرض نظام جديد لم يستقر سياسيًا ولا أمنيًا حتى الآن رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.
وهكذا وعندما يجري الحديث عن الخيار الأفغاني لحل الأزمة السورية، التي قد ازدادت استعصاءً وازدادت مأساوية بعد التدخل العسكري الروسي الآنف الذكر، الذي تحول بعد عام واحد إلى احتلال يوصَف بأنه دائم، فإنه لا بد أن تخطر على البال هذه الـ«سيناريوهات» الأفغانية كلها وآخرها الغزو العسكري الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، بعد كارثة برجي التجارة العالمي في نيويورك و«البنتاغون» في واشنطن في عام 2001، لإسقاط نظام حركة طالبان وإقامة نظام انتهى إلى الانتخابات الديمقراطية «المعقولة والمقبولة»، لكن ورغم مرور كل هذه الفترة الطويلة فإن هذا البلد لم ينعم بالاستقرار حتى الآن وهو لا يزال بحاجة إلى الحماية العسكرية الخارجية.. الأميركية بالدرجة الأولى.
فهل يا ترى أن هذا هو المطلوب بالنسبة لسوريا التي أصبح حالها، بعد نحو ستة أعوام من عدم الاستقرار، وفي جوانب كثيرة كحال أفغانستان قبل وبعد التدخل العسكري السوفياتي في عام 1979 ولكن دون انقلابات عسكرية كتلك الانقلابات الأفغانية التي تلاحقت بعد انقلاب الجنرال محمد داود خان في عام 1975، والتي لم تتوقف عمليًا، إلا بذلك الغزو الدولي الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001، وأسقطت حكم حركة طالبان، لكنها في حقيقة الأمر لم تنهِ هذه الحركة التي بقيت حاضنة فعلية وحقيقية لـ«القاعدة»، وأصبحت أيضًا حاضنة لكل الحركات الإرهابية في تلك المنطقة الاستراتيجية الخطيرة؟ وحقيقة أنه بالإمكان الاتفاق ومرة أخرى على أن هناك صفات كثيرة بين أوضاع أفغانستان خلال فترة حكم حركة طالبان وقبل ذلك، ووضع سوريا تحت حكم بشار الأسد، فهناك الاحتلال السوفياتي وإلى جانبه «القاعدة» سابقًا ولاحقًا، وهنا الاحتلال الروسي ووجود «النصرة» و«داعش»، وأيضًا التدخلات الخارجية التي يقابلها تدخلات أخطر وأكثر من تلك التدخلات التي شهدتها ولا تزال تشهدها التجربة الأفغانية، ثم وإذا كان نظام بابراك كارمال ولاحقًا نظام محمد نجيب الله لم تكن لأي منهما أي سيطرة فعلية إلا على جزء محدود من البلاد، فإن المعروف أنَّ هذا النظام السوري لا يسيطر عمليًا وفي حقيقة الأمر إلا على «نُتفٍ» صغيرة حتى في دمشق نفسها، وكل هذا وإذا كان القرار هناك في كابل عند القيادة السوفياتية، فإنه ما بات مؤكدًا أن القرار هنا في دمشق إنْ لم يكن في قاعدة «حميميم»، فإنه عند فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية.
وهنا، وبينما أن البعض يرى أن الحل الأفغاني المقصود الذي يُطرح كنهاية للأسد ونظامه هو ليس أيًا من كل هذه الحلول والـ«سيناريوهات» المشار إليها آنفًا، وإنما ذلك الحل الذي كان بدأه محمد نجيب الله بعد تسلمه الحكم، قبل أن ينتهي إلى تلك النهاية المأساوية المعروفة، فإن السؤال هو: ألمْ يكن بإمكان الرئيس السوري يا ترى أن يأخذ بهذا في بدايات انفجار ثورة عام 2011، وعندما كان حل تلك العقدة بالأصابع ممكنًا قبل أن تتطور الأمور وأصبح من غير الممكن حلها حتى بالأسنان؟!
وهكذا فالمهم أنه بينما لجأ بشار الأسد لمواجهة مطالب الشعب السوري بالحديد والنار ودفع سوريا دفعًا إلى كل هذه المآسي التي تواجهها الآن، فإن نجيب الله بمجرد وصوله إلى سدة الرئاسة قد رفع راية المصالح الوطنية وأعلن أنه عفا الله عما مضى، وبادر إلى إجراء تعديلات دستورية نصت على أن يكون النظام السياسي تعدديًا، وعلى حرية الرأي ووضع قانون إسلامي لمجلس حاكم على رأسه سلطة قضائية مستقلة، وهذا بالإضافة إلى الإعلان رسميًا عن ضرورة انسحاب القوات السوفياتية من بلاده، وإلى الانفتاح على المعارضة (المعتدلة) ممثلة بالقائد الكبير المعروف أحمد شاه مسعود، والاتفاق معه على تسوية شاملة لإنهاء الحرب الأهلية.. لكن ما لبث أنْ انهار كل شيء بسبب تعنت «المجاهدين» وتشددهم، وبسبب التدخلات الخارجية فكان أنْ سيطرت حركة «طالبان» على الحكم فتم إعدامه، أي نجيب الله، دون أي محاكمة بطريقة بشعة ومرعبة، وبذلك تكون قد انطوت صفحة واعدة في التجربة الأفغانية.. وهذه مسألة من المفترض، بل يجب، أن يتعلم منها بشار الأسد الشيء الكثير، وذلك مع أن أغلب الظن أن مصيره سيكون هو هذا المصير.
اياً تكن قصيدة الزجل التي سينظمها أنصار ميشال عون للتغني بـ «قدراته» الرئاسية، ومهما تضمنت من مواصفات «استقلالية» فضفاضة تتناسب وعنترياته المعتادة، فإن الرجل لا يعدو كونه «انتقالياً» جاء في مرحلة انتقالية يُرسم خلالها مصير سورية ولبنان معاً بأيدي قوى خارجية، تتقدمها إيران وروسيا، ولن يملك إلا أن ينضوي في المسار الذي ستحدده هذه الأيدي، ويذعن لإرادتها، وينفذ الجزء البسيط المتعلق به في عملية إعادة ترتيب الهلال الشرق أوسطي الجارية بالطائرات والمدافع.
فإيران التي تعتبر نفسها الوصي على النظامين السوري واللبناني، وتشعر بأنها تملك حرية تصرف شبه مطلقة في البلدين، ترى تكاملاً بين العلويين والشيعة، يمتد أيضاً إلى العراق، لا يمكن أن تسمح بفك عراه، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سورية. وهي لا تنظر إلى لبنان سوى باعتباره «ضلعاً» في «محور المقاومة» يخدم هدف توسيع نفوذها الإقليمي وتكريسه. ويلعب المسيحيون السوريون واللبنانيون في هذا المحور دوراً «فولكلورياً» على غرار النواب الأرمن واليهود في مجلس الشورى الإيراني. ولا يخرج منصب الرئيس اللبناني المسيحي بالنسبة إليها عن هذا الإطار، بما لا يشكل تهديداً للنسيج العابر للحدود، وهي حدود لم تعد قائمة عملياً سوى في الخرائط الرسمية، بعدما خرقتها دمشق أكثر من مرة في اتجاه، وبادلها «حزب الله» خرقها في الاتجاه الآخر.
ولأن سورية أهم بالنسبة إلى طهران التي تؤكد أن نتائج الحرب فيها قد تحدد مصير النظام الإيراني نفسه، فإن عون لن يكون في أفضل الأحوال أكثر من «نائب» لبشار الأسد، معيّن على «ولاية لبنان» التي يديرها من الخلف وكيل «الولي الفقيه» في الضاحية الجنوبية، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الرئيس الإيراني الذي تخضع صلاحياته وسياساته لرقابة المرشد خامنئي.
ولا بد أن سعد الحريري يدرك هذا الواقع أو بعضه، لكنه على رغم ذلك أقدم على ترشيح عون وقرر دعمه في تحقيق هدفه الدائم بالوصول إلى الرئاسة. وربما هناك من نصحه بالانحناء أمام العاصفة الإيرانية ريثما تخف قوتها وتتغير بعض المعطيات، كي لا يبقى هو ومن يمثل خارج المعادلة الجديدة. أو ربما خشي من أن يكون مصير السنّة في لبنان مماثلاً لمصير نظرائهم في العراق وسورية، حيث القتل والتهجير، واعتقد أنه بتنازله قد يحميهم من اجتياح الحلف غير المقدس القائم بين الخبث الإيراني والبطش الأسدي.
لكن أياً تكن نتائج خطوته «الوقائية»، فإن ما تخطط له إيران أسوأ بكثير مما يظن، ويقوم على استبدال المرجعية العربية في اتفاق الطائف بمرجعيتها هي في «اتفاق» جديد، مكتوب أو غير مكتوب، يطبق تدريجاً ويُحكم قبضتها على لبنان. ولن يكون أمامه بعد اليوم سوى أن يقدم المزيد من التنازلات بعدما مشى الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، وهو ما ستثبته مشاورات تأليف الحكومة العتيدة، سواء كلف تشكيلها هو أو غيره، والتي ستكون وظيفتها في أفضل الأحوال تغطية ما تحيكه طهران، وما «يتفاهم» عليه الثنائي نصرالله وعون في شأن أدوار مكوناته.
وإذا اجتاز الحريري «قطوع» تشكيل الحكومة، فستكون يداه مكبلتين بمطالبات عون باستعادة صلاحيات رئاسية منحها اتفاق الطائف إلى رئيس الوزراء السنّي، فيما الشيعة الذين يملكون القدرة على تعطيل دور كل منهما يتفرجون على الكباش، ويلعبون دور الحكم المقرِر. أما الكلام عن «المشاركة» و «التوافق» و «الميثاقية» فسيصبح مجرد ذكرى من الماضي.
تصر “أم محمد” أن الانسان خطّاء حتى لو كان امام المسجد، تركض في شوارع القرية المعدودة ، تطرق الأبواب التي تعرف ساكينها أو تلك الغريبة عنها، سؤال واحد على شفتيها “محمد عندكم ؟؟” ، و المأذنة تواصل التكرار “ يلي مضيع ابنه وكان بالمدرسة يروح ع الجامع، يدور عليه بين الجثث”.
أصابها الكلل ، وقررت كسر “قاعدة الخطّائين” و ذهبت للمشفى تتفحص أكياس الجثامين الغضة، التي لاتزال تنزف ما بقي منها من دم، و نداؤها المتواصل لابن رحمها “محمد” ، ومع صمتها أيقن الجميع أنها اجتمعت مع من تنشد، بقميصه و بنطاله و بقايا جسد مفتت .
ليس ببعيد ، كان الدكتور خالد الضعيف يعيد في كل محاضرة له أو لقاء بتلاميذه ، أن “المرأة عماد المجتمع” ، واعداً بأن يصرف كل ما يملك لتدريس ابنته، ابنته التي وقف بالأمس فوق الكيس الذي جُمعت أشلاؤها فيه، يلقي نظرة قد تكون الأخيرة و لكنها الصورة الدائمة التي ستحفر في روحه.
“هدى” تلك الطفلة التي كانت سعيدة بنهاية يومها الدراسي، و تهم بوداع رفاق المقاعد، تركض مبتعدة عنهم بهلع، همها الأوحد أن يأتي شيء غريب يمسح من ذاكرتها ما رأته، هذا الشيء لا يعبر عنه إلا بكلمة “بدي أمي”.
اليوم بلدة “حاس” الصغيرة مساحة، و البعيدة عن الأذهان أو حواف الذاكرة ، تقف صامتة فلا صوت للحياة فيها ، و صفير للرياح في مكان خاو، بل هي أشبه بمدينة مقفرة روحاً و قائمة جسداً.
في حاس تلك تم توديع ٢٢ طفلاً و ٦ من مدرسيهم ، دفعة واحدة، قيل أنها “الأكثر دموية” تبعاً لمنظمة الطفولة ، أمر “فظيع” بفعل السفاح مرتكب الفعلة، و لكن في نظر الخاسرين هي “نهاية الحياة” و ابادة حرفية لها ، وإن كان هناك ناجين.
إذا أردنا أن نفهم الحرب في الموصل، علينا أن نفهم الحرب في حلب وتلك الحرب في صنعاء. وإذا شئنا الدقّة علينا أن نتجاوز سطح الأحداث وغُبارها إلى ما هو تحت. وهذا مهم في ثقافة مُصابة بالتسطيح وبثنائية الأسود والأبيض و «معي» و «ضدي». فقد رأيت شيوعيين يهتفون لانتصارات الحشد الشعبي في الموصل وحلب. ورأيت قوميين يفعلون الأمر ذاته كأن المعارك معاركهم هم وكأن لا فرق بين شيوعي أو شيعي أو أصولي إلا بالاسم! ورأيت قوماً يُسقطون على هذه وتلك من حروب عقائدهم المندثرة وعُقَدِهم وأمانيهم وإرهاصاتهم وعجزهم. وهو عجز عام تجسّد في هذه الحروب وفي التعاطي معها.
في الموصل - وبحجة وجود «داعش» - وهي حجة - يتمّ إخضاع سُنّة العِراق لشيعته وتصفية نزعة ظاهرة إلى استعادة السنة زمام الأمور على الأقل في جزء من العراق الذي عرفناه. أما الوجود الأميركي أو غيره فهو هناك لالتقاء مصالح مع القوى المسيطرة راهناً في هذا البلد الذي تزيد موارده عن طاقته وعن قُدرته على استثمارها. أما الوجود التركي فهو يعكس، أيضاً، نوعاً آخر من المصالح وفي مقدمها إجهاض مشروع الدولة الكردية المستقلّة أو المستقلّة على نحو ما في شمال العراق تكون متواصلة جغرافياً وبشرياً بالتجمع الكردي في جنوب تركيا وشرقها. وهي تسعى في الوقت ذاته لضمان حصّة في موارد العراق بالضغط العسكري والحضور الفعلي لتعطيل المشاريع الأخرى أو التهديد بنسفها في حال لم تتمّ مراعاة المصالح التُركية. أما إيران - فمهما يكن - ستظلّ صاحبة الحظ المضمون في نسبة عالية للاستفادة من أي تطور ينشأ هناك. ففي كل الأحوال، ستظلّ إيران فاعلة بقوة على أرض العراق وبأدوار متعدّدة في رأسها ضمان حيز جغرافي وسياسي وبشري حليف أو متفاهم يوصلها كدولة ونفوذ وحُلم بأرض سورية ولبنان.
في حلب - يتمّ أمر مشابه مع خصوصيات تتصل بالحالة السورية. هناك، أيضاً، نشهد الجهود الجبارة لقمع ثورة الشعب السوري - وغالبيته سنّية - ضد نظام حكم أقلّوي. وهي ثورة بدأت مدنية سلمية وتحوّلت في مظاهرها وقواها وخطابها، لكنها ظلّت رغم كل شيء تجسّد الرغبة في تبديل نظام أمني قمعي جثم على صدور السوريين والسوريات عقوداً طويلة أطول مما ينبغي. ظلّت تجسّد رغبة في إقامة دولة أكثر عدلاً ومجتمع أكثر مدنيّة ونظام أقلّ شمولية. ولا ضير أن تكون غالبية المنتفضين في 2011 من السنّة. فهذه نتيجة حتمية لعقود من نظام امتيازات الطائفة العلوية وسؤددها. أما حديث العروبة والأمة والبعث فهو غبار قُصد به لسنوات طويلة التستّر على انحياز الدولة لمصالح أقلية - أقليات في فلكها - توجّست من أن تفقد السيطرة. وهنا يحضر «داعش» كفزّاعة وحجّة وأداة.
يتمّ تصوير الفصائل المسلّحة الإسلاموية الخطاب كخطر على العالم بأسره، فنراه يتجنّد بقواه المتنفّذة مع النظام وحلفائه في قصقصة أجنحة المعارضة على فصائلها كافة - السياسية والعسكرية والمدنية والعلمانية والمتدينة. إما بالخذلان أو بالقوة المباشرة أو بحرمانها من منظومات سلاح ودعم عسكري وسواه كان يُمكن أن يحسم الحرب هناك من مدة. وإلا كيف ينتقل النظام من الدفاع إلى الهجوم ومن الانزواء إلى محاصرة الشعب وقواه في أقلّ من سنتين؟ وكيف يكون حرّاً في التجويع والتهجير والتدمير وارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية؟ أما تركيا فتتدخل هنا أيضاً لضمان مصالحها التكتيكية والاستراتيجية - ضد الثورة أو فصائل فيها أو معها وضد الأكراد أو في اتفاق معهم!
أما صنعاء التي انقلب فيها رأس النظام هناك - علي صالح - على الثورة الشعبية التي أطاحت به بالتحالف مع إيران ووكلائها هناك، أعدائه الطيبين الذين استعملهم سنوات طوال في تأخير الثورة وتطوير النظام والمؤسسات وتوزيع الموارد؟ وهو علي صالح - لمن نسي - الذي قاد حرباً ضد اليمن الجنوبي وصفّاه تماماً باسم فرض الوحدة بين اليمنين ابتداء من العام 1994. وهو - لمن نسي - اليمن ذو الحلم الاشتراكي التقدمي! وعبدالله صالح هذا فتح مناطقه لإيران وللحوثيين الذين شكّلوا قوة ضاربة ضد الثورة المدنية التي فازت بتأييد عربي واسع. بل رأتها إيران فرصة لتحقيق مصالح متعددة ومنها إجهاض الإمكانية ليمن أكثر ديموقراطية أو استقراراً، تعزيز قدرات الحلفاء على شاطئ البحر الأحمر ممثلين بحوثيين وصالح نفسه، والأهم - مشاغلة السعودية في حدودها الجنوبية وإقلاق راحتها وهي الداعمة للثورة الشعبية في سورية.
الحروب إذاً حروب مصالح ومشاريع سياسية إقليمية. لكن علينا أن نتبيّن تلك القوى التي تقف ضد ثورات الشعوب في هذه المناطق وتلك التي دعمتها. صحيح أن للدول الداعمة مصالحها في هذه الثورات أو هذه القوى التي خرجت ضد أنظمة ومشاريع تظلمها، لكن للدول الداعمة للأنظمة الدموية وللاستبداد مصالحها. وهي لا تقف ضد المشاريع الأميركية أو الاستعمارية بل مع هذه المشاريع وتلتقي معها. فالنظام في العراق الآن ليس نظاماً صدّامياً ولا هو نظام سنّي أقلويّ بل هو نظام شيعي بامتياز صنعته أميركا وتحميه وتربّيه على أكفّها كزغاليل الحمام. ليس لأنها تحبّ الشيعة أو إيران فجأة، بل لأنها تريد أن تضمن مصالحها بخاصة تلك التي يحددها مجمع الصناعات النفطية الأميركي - الكوني! وهي موجودة في خليج عدن لتضمن مصالحها هي - ولن يهمها كثيراً إذا كانت هذه المصالح ستُضمن من الرئيس هادي منصور أو علي عبدالله! فالمصلحة الكونية - نظام العولمة - تقتضي أن يبقى مدخل البحر الأحمر الجنوبي مفتوحاً لحركة الملاحة العالمية.
وعليه، إذا شئنا أن نقرأ خارطة الحروب فلنقرأها بعيون الشعوب التي أرادت التغيير والديموقراطية والكرامة ودولة المؤسسات لكنها خُذلت كلياً أو جزئياً بأيدي قوى إقليمية وكونية تريد تثبيت مصالحها التكتيكية والاستراتيجية. علينا أن نكون جريئين ونفكّر خارج النسق المعهود لنعطي الشعوب حقوقها ولو في لغتنا وحساباتنا. أما أن نذهب نحن أيضاً في قراءة الشعوب ومصالحها وفقاً لتوازنات القوى وخارطة المصالح المعادية للشعوب، فهذا يعني أننا سنخطئ بالضرورة وسنظلم. ومن أوجه الظلم الآن مثلاً أن ينشر الناشطون في الميديا أخبار الموصل كأنها انتصارات بينما المجازر على أبواب المدينة و «داعش» حجّتها لا الفاعل بدلالة أن 95 في المئة من التقتيل في سورية - مثلاً - حصلت وتحصل بأيدي النظام والطاغية وحلفائه لا بأيدي «داعش». وهكذا في الموصل - إن قوة التدمير التي يمتلكها مهاجمو المدينة تفوق مليون مرة القوة التي يمتلكها المتمترسون داخل المدينة وفي الخلفية مدّ شيعي مسكون بالتاريخ المفخّخ. فإذا كانت هناك من مؤامرات فهي ضد الشعوب والفئات المستضعفة فيها، أما النظام في سورية وعبدالله صالح والحوثيون والعراق في الراهن وفي هذه اللحظات الدموية فهم رأس الحربة في المؤامرة!