إنهم يخدعون الجميع، ولا يبحثون عن تهدئة أو مصالحة وطنية أو حل سياسي. إنهم يعبدون السلطة ولا إله لهم إلا مَن يساعدهم على مصادرتها واحتكارها، بالمال أو بالسلاح أو بأي وسيلة. إنهم يتلاعبون بالوسطاء الدوليين وبما يُطرح عليهم من حلول يعرفون مسبقاً أنهم سيرفضونها، فلا يرضيهم سوى الاعتراف بسيطرتهم والتعامل مع انقلابهم على أنه «الشرعية»، ولا يقبلون حتى بتقاسم السلطة! استباحوا الدولة وجيشها ومؤسساتها، ورموا تاريخها ومستقبلها تحت أقدامهم، وأكثر ما يثير سخريتهم أن يُدعَوا إلى هدنة إنسانية فمعاناة الناس آخر ما يهمهم ولكنهم يوافقون أحياناً على هدنة ليستولوا على المساعدات ويعيدوا طرحها في السوق السوداء ليموّلوا حربهم... هؤلاء هم الحوثيّون الذين لم يتردّدوا في استهداف مكّة المكرّمة بالقصف كاشفين آخر أوراقهم وهي كانت أولاها بالأحرى، لأن مغامرتهم السقيمة في اليمن كانت ترمي إلى تهديد المملكة العربية السعودية ومقدّسات المسلمين.
لا يمكن التعامل مع هذا النموذج من المؤدلجين بمعايير الأمم المتحدة والقانون الدولي، ولا بمنطق الدولة والشرعية، إذ أنهم ألغوا الدولة ويرون في دعوتهم إلى التفاوض تقديراً لقوّتهم التي تدفع سفراء الدول إلى محاورتهم وتقديم العروض إليهم، وهذا يدفعهم إلى عدم التنازل عما سلبوه ونهبوه من أجل أي اتفاق مع الطرف الآخر، لأنهم أصلاً يرفضونه ولا يعترفون بشرعيته، بدليل أنهم وضعوا الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء في إقامة جبرية تحوّلت إلى اعتقال، ثم لاحقوا الرئيس لقتله والتخلّص مما يمثّله من شرعية. وحين يبدي الحوثي شيئاً من المرونة، وهذا نادراً ما حصل، فإن حليفه المخلوع يذكّره بما اتفقا عليه، أي لا حل على أساس القرارات الدولية ولا عودة إلى المبادرة الخليجية ولا قيمة لمخرجات الحوار الوطني ولا التزام إلا بما يؤخذ بالتفاوض على أساس ميزان القوى. وبما أنهم اختبروا قبل «عاصفة الحزم» وبعدها أن القوى الكبرى تسايرهم ولا رغبة أو قدرة لديها للضغط عليهم بالسياسة أو بالعقوبات، فإنهم يتشبثون بشروطهم ليواصلوا التفاوض على التفاوض أو من أجل التفاوض.
لم يكن إطلاق الحوثيين صاروخاً باتجاه منطقة مكة المكرمة مجرّد تفصيل في مجريات الحرب الدائرة منذ ثمانية عشر شهراً، ولم يكن فقط ردّاً على المساعي المتجدّدة لطرح صيغة تسوية سياسية وإفشالاً للدعوات إلى هدنة، بل كان خصوصاً رسالة إيرانية مفادها أنه لا حلّ في اليمن، وأن ما رسمته طهران لليمن لم تعطّله الحرب بدليل أن الحوثيين يقومون بالمهمة الموكلة إليهم بالتعرّض للسعودية. وعبثاً القول بأن إيران أو الحوثيين يستفزّون مشاعر المسلمين باستهدافهم المقدّسات الإسلامية وحرمتها، فهم يعرفون ما يفعلون بل مهّدوا له في الأيام السابقة بصاروخ أول، وعلى مدى الشهور الماضية بالقول إن مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة «مهدّدتان»، لكنهم نسبوا التهديد إلى «داعش».
يُذكر أن الأمين العام لما يُسمّى «حزب الله» كان أشار في إحدى خطبه (16 فبراير 2015) إلى أن مكّة والمدينة هما «الهدف الرئيسي لداعش»، ثم كرّر في خطاب آخر (17 أبريل 2015) أن «مكة في خطر لكن من جانب تنظيم داعش الذي يريد هدم الكعبة، باعتبار أن الناس يطوفون بها وهي عندهم أحجار صماء سوداء، ما يتنافى مع عقيدة التوحيد كما يفهمونها». في الآونة الأخيرة، وفي إطار تهجّمه على السعودية، كثّف حسن نصرالله أحاديثه عن حلب كمعركة مصيرية سترسم ملامح المنطقة، وبسبب الأزمة التي افتعلتها إيران هذه السنة لمنع مواطنيها من المشاركة في الحج فإن نصرالله والعديد من أبواق إيران الآخرين راحوا يربطون معركة حلب بما يسمّونه معركة «تدويل مكّة». إذاً فهي استراتيجية إيرانية قبل أن تكون أهدافاً «داعشية»، وفي أي حال صار التمييز بينهما ضرباً من العبث.
كل الأدوات الإيرانية، من النظامين العراقي والسوري إلى «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» العراقي وحوثيي اليمن والميليشيات المستوردة، بالإضافة إلى «داعش»، هي «ذيول للأفعى» تعمل في خدمة التخريب الإيراني للمنطقة العربية. لم يعد الأمر مجرّد «تدخلات» بل تخطّى كل الحدود الدينية والأخلاقية والإنسانية للاعتداء على الحرمات الإسلامية. ولم تعد تكفي التحذيرات والإدانات بل يتطلّب الخطر الداهم وقفة جدّية عربية وإسلامية لوضع حدٍّ لهذا التمادي. وبطبيعة الحال لا أحد يدعو إلى إشعال حرب أخرى في المنطقة، فهذا ما تسعى إليه «رأس الأفعى»، ظنّاً منها أنها يمكن أن تنتصر فيها، بل إن المطلوب اتخاذ كل الخطوات للتضامن الفعلي في الدفاع عن السعودية واستقرارها وعن المقدّسات وحرمتها.
أبى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلا أن يختتم عهده في الهيئة الأممية بخطوة تكرس سنوات أدائه المتعثر فيها، تمثلت في تكريم سفير سورية الدائم بشار الجعفري ومنحه وساماً تقديرياً الى جانب 10 سفراء آخرين قضوا أكثر من 10 سنوات في مناصبهم.
وإذ تزامن ذلك الاحتفال مع واحدة من أشرس حملات القصف والتجويع التي ينفذها النظام السوري وحليفه الروسي على مناطق واسعة من سورية، في حق المدنيين تحديداً، تبين أن بان كي مون لم يخصّ سفير نظام الأسد بأي معاملة تفضيلية بين زملائه. فبان معجب على ما يبدو أيما إعجاب بنهج سياسي متكامل ينتمي إليه الجعفري، ويتخطاه كشخصية جدلية. إنه نهج ينسحب على محور دولي، يمثله إلى جانب الجعفري، كل من السفيرين المكرّمين أيضاً الروسي والفنزويلي. وربما، لو أن السفير الإيراني أمضى فترة كافية في منصبه، لكان الأمين العام ضمه أيضاً إلى تلك النخبة من الديبلوماسيين.
فبالنظر إلى أداء الحكومات أو بالأحرى الأنظمة التي يمثلها هؤلاء السفراء، أي روسيا، وسورية وفنزويلا سواء على صعيد السياسة الداخلية أو الخارجية، لا يمكن تفسير التكريم إلا بصفته تكريماً لمنظومة قيم في الحكم والإدارة والسياسة الخارجية، يفترض أن الأمم المتحدة قامت أصلاً لردعها والتصدي لها.
بالحد الأدنى من الجهد، يمكن رصد حال تلك البلدان وما آلت إليه في العقدين الماضيين وليس العشرية الأخيرة فقط، لتلمّس حجم الكوارث التي ألمّت بشعوب روسيا وسورية وفنزويلا، وبعدد من البلدان المجاورة المتأثرة بسياساتها الخارجية السافرة.
داخلياً، تشترك تلك الأنظمة بأنها كرست مبدأ التوريث السياسي أو العائلي، موصدة الباب أمام أي احتمال لمداورة السلطة وضاربة عرض الحائط بمبدأ أممي أساسي يصون (أو يفترض أن يصون) حق الشعوب في تقرير مصيرها. وسخّرت تلك الأنظمة مقدرات بلدانها البشرية والطبيعية، وأفرغت خزائن المال العام ومخزونها من النفط والمعادن والثروات لخدمة حلقات فساد ضيقة تمثلها السلطة والمقربون منها.
وإلى ذلك، قمعت الحريات العامة والخاصة، وأسكتت الصحافة والإعلام، ومارست انتهاكات فاضحة بحق المواطنين من إفقار وتجويع وتهجير لم تسثن معها الاغتيالات والاختفاءات القسرية. وذلك ليس سوى غيض من فيض ما وثقته ولا تزال توثقه منظمات حقوقية دولية.
وخارجياً، يكفي استعراض سريع لما ألمّ بالمحيط المباشر وغير المباشر لتلك الدول من تعثر سياسي واقتصادي وحروب وانقسامات وقيام شبكات تهريب ومافيا سلاح ومخدرات، وغير ذلك لنتلمس حجم كارثة أكبر. فمن القرم وأوكرانيا مروراً بالعراق ولبنان، وصولاً إلى كولومبيا وكوبا، لم تفعل تلك الأنظمة إلا أن فككت بلداناً أضعف منها أو استثمرت في أزماتها فغذتها بالمال والسلاح والإرهاب (العلماني أو الديني)، ثم جعلتها ورقة تفاوض «إقليمي» بيدها، معززة بالتالي دورها كـ «محاور دولي» و «شريك لا يمكن الاستغناء عنه في فض النزاعات».
وأكثر من ذلك، ما يجمع فعلياً تلك البلدان، أعمق وأبعد من فساد سياسي وحب سيطرة على الجوار وسوق سلاح مربح. إنه إرث أيديولوجي راسخ من العداء لـ «النظام العالمي» ومؤسساته وقوانينه ومعايير الحكم فيه، لا بل احتقار قيمه في الديموقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة إلخ...
إنه ببساطة ما يسمى محلياً وشعبياً «محور الممانعة» الذي انضم إليه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، ومده بالسلاح والمال وضمن له طرق التهريب، ثم أودع أمانته في يد وريثه الحالي نيكولاس مادورو. فما عاد سراً حجم التبادل وخدمات تبييض الأموال بين فنزويلا وإيران والتي تمر عبر مطارات الوسطاء الإقليميين.
ذاك هو النهج الذي سلّمه بان كي مون ثلاثة أوسمة، لا وساماً واحداً قبل مغادرة منصبه. نهج ما عاد يكفي اليوم تشريحه وتفسيره من منظور انهيار نظام القطبين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ذاك أن الزلزال الذي أحدثه هذا التفكك ولا تزال ارتداداته مستمرة حتى اليوم، عمقته وزادت أضراره منظمة أممية نخرها الفساد وأصابها الترهل.
وليس التعبير الدائم عن القلق الذي طبع عهد بان كي مون إلى حد السخرية والسأم، إلا وجهاً ملموساً من سياسة الحياد والنأي بالنفس التي اعتمدتها المنظمة حيال أكبر استحقاق يواجه المجتمع الدولي وهو الحرب السورية. اعتمد بان كي مون سياسة القلق إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لإعلانه موقفه الرسمي الذي ينقلب على أبسط المبادئ المؤسسة للأمم المتحدة في 1945.
الآمال التي تعقد اليوم على الأمين العام الجديد، أنطونيو غوتيريس، تأتي تحديداً من خبرته الطويلة في ملف إنساني شائك، سمي «أكبر كارثة تواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية»، ألا وهو ملف اللجوء. ويترتب على غوتيريس، المقبل من حقل النشاط المدني والحقوقي، والذي شغل منصب رئيس الهيئة العليا للاجئين لعشر سنوات، أن يبدد قلق سلفه علماً أن روسيا حاولت عرقلة وصوله وأوشكت أن تصوت ضده، روسيا نفسها التي ساهمت آلتها العسكرية في خلق تلك الأزمة ومفاقمتها. ولا يبدو أن ثمة ما سيمنعها وحلفاءها من مواصلة نهج استحقت عليه وسام شرف أممياً.
يدلّ الهجوم المضاد الذي يشنّه الثوار في حلب من أجل فكّ الحصار الروسي – الإيراني – الأسدي على مدينتهم إلى أن المدينة لن ترضخ. أكثر من ذلك، يؤكّد هذا الهجوم أنّ روسيا وإيران لا تعرفان سوريا والسوريين، اللهمّ إلاّ إذا كان هدفهما في نهاية المطاف تفتيت البلد في غياب القدرة على التحكّم به. وهذا ما نشهد حاليا فصلا من فصوله. لم يعد من خيار آخر غير خيار التفتيت يواجه سوريا التي عرفناها، والتي حاول شعبها التخلّص من نظام أقلّوي قضى عليه، كما قضى على البلد، شيئا فشيئا، خصوصا بعد تحولّه إلى نظام حكم العائلة إثر حلول بشّار الأسد مكان والده.
كان متوقّعا، في الحسابات الروسية والإيرانية استسلام حلب وذلك بعد تدمير القسم الأكبر من المدينة. لم يحصل الاستسلام على الرغم من الزج بالآلاف من العناصر التابعة لميليشيات مذهبية لبنانية وعراقية في المعركة. استطاعت المدينة الصمود في وجه الغارات التي يشنها سلاح الجوّ الروسي وطائرات مازال النظام قادرا على تحريكها لقصف المدارس والمستشفيات. استطاعت المدينة تأكيد أنّ المدافعين عنها، ومعظمهم من أهلها، لن يستسلموا مهما بلغت الوحشية الروسية، ومهما كانت درجة التواطؤ بين واشنطن وموسكو في عهد رئيس أميركي اسمه باراك أوباما يعتبر أن حماية الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني أهمّ بكثير من حماية الشعب السوري.
هناك عبرة واحدة يمكن استخلاصها من التطورات الأخيرة في حلب. تتمثل هذه العبرة في أنّ الرهان على أن النظام الذي يقف على رأسه بشّار الأسد سيحكم كلّ سوريا يوما، لم يعد واردا في أيّ شكل. هذا نظام انتهى. لن يستطيع هذا النظام العودة إلى حكم سوريا وذلك على الرغم من امتلاكه قدرة كبيرة على التكيّف مع التغييرات الإقليمية والتعايش مع الاستعماريْن الإيراني والروسي، وخلق شبكات تستفيد من كلّ أنواع عمليات التهريب ومن المساعدات الدولية.
يظلّ الرهان على النظام رهانا خاسرا سلفا، حتّى لو كان الهدف النهائي لإيران وروسيا الوصول إلى “سوريا المفيدة” التي عاصمتها دمشق. يفترض بـ”سوريا المفيدة” أن تمتلك امتدادا في اتجاه مناطق لبنانية يسيطر عليها “حزب الله” من جهة، وأخرى على طول الساحل السوري من جهة أخرى. وهذا يعني، في طبيعة الحال، تغيير جذري لطبيعة دمشق والمناطق المحيطة بها مباشرة، وإقامة منطقة عازلة على طول الحدود اللبنانية ـ السورية، وتأمين ممرّ آمن لمقاتلي “حزب الله” إلى “سوريا المفيدة” التي ستحتاج دائما إلى من يقاتل من أجل حمايتها.
ثمّة حاجة إلى من يقاتل في “سوريا المفيدة” من منطلق مذهبي قبل أيّ شيء آخر نظرا إلى أنّ المطلوب أن تكون سوريا هذه ملجأ للعلويين الذين سيتذرعون بالحاجة إلى حماية أنفسهم من انتقام أهل السنّة منهم بعدما حكموا البلد بالحديد والنار منذ العام 1966 عندما انقلب العسكر على “البعث المدني” بقيادة ضباط علويين على رأسهم حافظ الأسد وصلاح جديد.
مهّد ذلك الانقلاب لوصول حافظ الأسد إلى السلطة في خريف العام 1970 وتفرّده بها بعد زجّ برفاقه في السجن. بقي صلاح جديد في السجن طويلا، إلى أن تمكّن منه المرض. أمّا محمد عمران، الضابط العلوي الآخر الذي بدأ يواجه مشاكل مع رفاقه منذ العام 1964، فقد لحقت به امرأة إلى طرابلس، عاصمة شمال لبنان، لتغتاله في آذار – مارس من العام 1972. لم يكن حافظ الأسد يستطيع تحمّل أي وجود لمعارض له حتّى لو كان هذا المعارض في المنفى. تلك هي فلسفة تلك العائلة للسلطة… ولكيفية التعاطي مع الآخر.
بعدما كشفت حلب حدود ما تستطيع أن تفعله روسيا، فضلا عن حدود ما تستطيع أن تفعله إيران، صار مشروع “سوريا المفيدة” قادرا على شق طريقه بقوّة أكبر، خصوصا بعد فقدان أي أمل في إعادة تأهيل بشّار الأسد خارج هذا الإطار.
بكلام أوضح، دخلت عملية تقسيم سوريا وتفتيتها مرحلة جديدة. لا يمكن تجاهل أن تركيا نفذت عمليات عسكرية في الداخل السوري تصب في حماية ما تعتبره مصلحة حيوية لها. استطاعت تركيا منع الأكراد السوريين من الربط بين مناطقهم. ستُقْدمُ على خطوات أخرى في المستقبل القريب مستفيدة من التفهم الروسي للمصلحة التركية ومن أن شهر العسل، بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، قد لا يستمرّ طويلا.
في ضوء انعدام أي خيار آخر، غير خيار “سوريا المفيدة”، أمام روسيا وإيران، ثمة أسئلة كثيرة ستطرح نفسها في المستقبل القريب. من بين هذه الأسئلة ما الذي سيفعله رجب طيب أردوغان الذي يعتبر بلده الموصل وحلب مدينتين تركيتين؟ إلى متى يستمر شهر العسل التركي – الروسي والتفاهمات القائمة بين أنقرة وطهران؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ما مستقبل العلاقات التركية ـ الأميركية، خصوصا بعد أن يغادر باراك أوباما البيت الأبيض في كانون الثاني ـ يناير المقبل؟
هناك دول أخرى معنية بالخوف من تفتيت سوريا. من بين هذه الدول يأتي الأردن الذي لديه مصلحة كبيرة في عودة السوريين اللاجئين إليه إلى بلدهم. كذلك، لا يمكن تجاهل التداخل والصلات بين العشائر والعائلات الأردنية والسورية على طول الحدود بين البلدين.
من المفيد، في طبيعة الحال، التساؤل ما الذي تريده إسرائيل؟ كيف ستضمن تكريسها لاحتلال الجولان وإقامة منطقة عازلة تمكنها من التفرّج على مشهد تفكيك سوريا على يد الروسي والإيراني والميليشيات المذهبية التي أتت بها طهران إلى مناطق عدّة، خصوصا إلى محيط دمشق؟
لا شكّ أن التنسيق الروسي – الإسرائيلي، الذي جعل بوتين يستقوي على الإدارة الأميركية وسيرجي لافروف يتعاطى بفوقية مع جون كيري، يخفي أمورا كثيرة من بينها الضمانات التي ستحصل عليها إسرائيل في سوريا، وما يتجاوز سوريا، أي في لبنان حيث القرار 1701 الصادر في العام 2006 صامد إلى حد كبير. ليس مستبعدا أن يكون ثمن “سوريا المفيدة” وقبول إسرائيل بها، تطويرا للقرار 1701، بما يغلق نهائيا ملفّ المتاجرة بجنوب لبنان…
يشقّ مشروع “سوريا المفيدة” طريقه فيما تزداد الأسئلة المطروحة، على رأسها كيف ربط سوريا هذه بالعراق الذي وقع تحت السيطرة الإيرانية؟
إنّها بالفعل أيّام مثيرة يعيشها الشرق الأوسط الذي عاش قرنا كاملا على إيقاعات سايكس- بيكو. كان اجتياح العراق في العام 2003، وهو اجتياح أميركي بالتنسيق الكامل مع إيران نقطة الانطلاق لـ”إعادة تشكيل المنطقة”. هذه العبارة استخدمها كولن باول وزير الخارجية الأميركي في سياق التمهيد للعملية العسكرية التي قررت إدارة جورج بوش الابن السير فيها إلى النهاية. صدق كولن باول، علما أنّه لم يدرك أن عملية “إعادة تشكيل المنطقة” ستجري في غياب الولايات المتحدة. لم يحسب أن باراك أوباما سيخلف بوش الابن، وأن سياسته تقوم أساسا على فكرة واحدة هي الانقلاب على كل ما فعله سلفه ولا شيء آخر غير ذلك!
ثلاث مدن عربية لها مكانة في التاريخ العربي والإسلامي، تتعرض كل واحدة منهن لمحنة خاصة بها. مدينة حلب التاريخية هذه الأيام تتعرض لتدمير شامل يشترك في عملية التدمير النظام الحاكم في دمشق (بشار الأسد) يعينه في ذلك جيش روسيا الاتحادية، برا وبحرا وجوا، إلى جانب تلك القوة، جحافل من المرتزقة الذين جندتهم وسلحتهم ودربتهم ومولتهم إيران، وكل تلك الجحافل ينتمون إلى المذهب الشيعي جيء بهم من كل مكان استجابة لدعوة الولي الفقيه. جرائم حرب ترتكب تحت سمع وبصر العالم ولا معين لهذا الشعب الذي تصدى للحروب الصليبية ودحرهم دفاعا عن الأمة العربية الإسلامية. حكام بلاد الشام تحولوا من مشروع وطني قومي عربي إلى عمل طوائف يسحقون الشعب ويدمرن الممتلكات.
روسيا وإيران وجحافل الميليشيات الإرهابية الشيعية تحارب في حلب تحت شعار تحريرها من الإرهابيين وهم بحكم الأهداف والممارسة يشكلون جوهر الإرهاب ومادته، هجّروا أكثر من 8 ملايين إنسان من أراضيهم، وقتلوا ما يزيد على 500 ألف من البشر، أشلاء الأطفال السوريين أمام أعين العالم ينتزعون من تحت الأنقاض أو من شواطئ بحار العالم، ولا مغيث ولا معين لهم ومن المؤسف أن بعض الدول العربية راحت تقوي علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا الباغية على الشعب السوري العظيم.
(2)
الموصل، أم الربيعين، شقيقة حلب عبر التاريخ، هي الأخرى تتعرض لهجمة عاتية، فإذا كانت روسيا تقود تدمير وإفناء حلب وسوريا، كما أشرنا أعلاه، فإن أمريكا تقود تدمير وإفناء الموصل بمساعدة جحافل إيرانية موغلة في الحقد والكراهية على أهل الموصل، لأنها معقل أهل السنة والجماعة كما هي حلب. لماذا لا يتحدث الغرب وأمريكا عن الإرهاب الإيراني الطائفي، وهم يعلمون بأنه يوجد أكثر من 54 منظمة شيعية إرهابية تمارس القتل والاختطاف في كل من سوريا والعراق، ماذا فعلت جحافل الحشد الشعبي الشيعي الإيراني في الأنبار، ألم تمارس الإرهاب بكل أصنافه وأسلحته بمساعدة أمريكية ولا أحد يثير تلك المجازر التي ارتكبت في الفلوجة وغيرها من مدن وقرى الأنبار؟ ألم يشاهد العالم على شاشات التلفزة العراقية والجيش الشعبي الشيعي يسوم الشبان والشيوخ سوء العذاب جلدا بأسلاك كهربائية وضربا على الرؤوس بالشواكيش حتى يغمى عليهم من شدة الضرب (المطرقة/ المطارق)، ولا أحد يحرك ساكنا من دول العالم الحر التي تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان.
الموصل تعرضت عبر التاريخ لتدمير شامل عام 615 ق. م. على يدي الميديون والكلدانيون، وقتل من أهلها الكثير وشرد من بقي حيا، وعاد أهلها فيما بعد ليعيدوا بناءها ويشيدوا حضارة على ترابها، ودمرت مرة أخرى على يد المغول تدميرا شاملا، ويدور الفلك دورته وتواجه الموصل اليوم التدمير الشامل على يدي جحافل حزب الدعوة الطائفي الحاقد الحاكم من بغداد يناصره الروس والفرس والأمريكان، لكن الموصل ستولد من جديد كما ولدت بعد دمارها كما أسلفنا.
(3)
صعدة المدينة العربية الثالثة التي تتعرض للتدمير، لكن هذه المرة على يدي أبنائها، أي الحوثيين الذين جروا هذه المنطقة في العصر الحاضر إلى حروب ست من أجل إرضاء شهوة الحكم والتسلط عند زعيم الطائفة الحوثية عبد الملك الحوثي والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، ليعيد بلاد اليمن إلى حقبة الإمامة تحت ادعاء أن اليمن لا يحكم إلا على يدي الأئمة الزيدية التي انشق عنها الحوثي ليتبنى المذهب الشيعي الاثنى عشري.
يشترط الحوثي وحلفاؤه -لأن الحرب في اليمن اليوم- إلى الخضوع الكامل لإرادته وميليشياته المسلحة والمدربة والممولة إيرانيا، بمعنى تشكيل حكومة يكون له الغلبة فيها لأن بيده السلاح، ومن حقه تعيين نائب رئيس الجمهورية، وأن تنتهي أعمال عاصفة الحزم، أي إنهاء دور التحالف العربي في الشأن اليمني، وأن يكون الرئيس عبد ربه منصور رئيس بلا صلاحيات، ومعنى ذلك تعزيز السلطة الانقلابية، وإلغاء ما سبق من معاهدات وحوارات واتفاقات يمنية- يمنية، ويمنية- عربية.
(4)
لقد أحسنت القيادة الشرعية اليمنية صنعا عندما رفضت استلام مبادرة ولد الشيخ الأخيرة، لأن استلامها بعد أن أعلنت نصوصها قبل التسليم يعني القبول بها، وتُخطئ قيادة التحالف إن هي أيضًا قبلت بها، لأن ذلك يعني في الواقع العملي إلغاء الشرعية الدولية المتمثلة في القرار الأممي 2216، ومبادرات مجلس التعاون، ومخرجات الحوار الوطني اليمني والقبول بكيان حزبي مسلح سلاحا عسكريا وعقيدة الولي الفقيه، أي القبول بسلطة إيرانية في خاصرة دول مجلس التعاون الجنوبية. إن محاولة إضعاف القيادة الشرعية اليمنية بقبول الضغوط الأجنبية هو في حد ذاته إضعاف لقيادة دول التحالف العربي، والخروج من هذه المواجهة بخسارة عسكرية وسياسية لمشروع دول التحالف الوطني وستكون العواقب وخيمة.
(5)
أنتقل إلى نقطة البدء، الموصل وحلب وصعدة، الغرب المسيحي والروس وبعض الدول العربية والإسلامية، يصنفون جبهة النصرة وجيش الشام والإخوان المسلمين وغير ذلك من المنظمات المعارضة لنظام بشار الأسد ونظام حزب الدعوة في بغداد، بأنها منظمات إرهابية ويحاربونها بكل أنواع السلاح، ولكنهم لا يصنفون حزب الله اللبناني، وحزب أنصار الله اليمني، ولا يصنفون عصائب أهل الحق وكتائب بدر وجيش المهدي، وكل هذه منظمات شيعية تمارس أعلى مراحل الإرهاب ضد المدنيين ومؤسسات عبادتهم كما تبين ذلك وسائل الإعلام المرئية، وقامت هذه الأحزاب الطائفية الشيعية الحاقدة بتهجير أهل السنة من ديارهم من العراق وسوريا، وقتل من تبقى منهم ومطاردته. إنها حرب صريحة على أهل السنة في المنطقة العربية بلا هوادة.
آخر القول: لابد من تحقيق انتصار مادي في اليمن، ذلك يتحقق بتسليح الجيش الموالي للشرعية والمقاومة الوطنية الشعبية. إن الصواريخ حول مكة من الطائف إلى جدة تستهدف مكة بعينها، ولن يوقفها إلا انتصار حقيقي على هؤلاء البغاة في صنعاء وصعدة.
يُعتقد أن أول وصف للروس في التاريخ المكتوب هو الوصف الذي دوّنه الرحالة العربي أحمد بن فضلان، في رسالته عن رحلته بين ٩٢١ و٩٢٣ للميلاد، مع سفارة الخليفة المقتدر بالله إلى ملك بلغار ال فولغا الذين كانوا قد أسلموا حديثاً. وهو يقدم مشاهداته المباشرة عن هؤلاء «الروس» الذين ربما كانوا من ال فايكنج الذين استوطنوا نهر ال فولغا بمزيج من الإعجاب والاستغراب والتقزز لعاداتهم التي لا تتفق إطلاقاً مع تقاليده الإسلامية. فهو لم ير «أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر حمر، مع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه». لكنهم «أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط أو بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بآتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب».
هؤلاء المحاربون الأشداء والأجلاف لن يلبثوا أن يعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية بعد رحلة ابن فضلان بقليل تأثراً ببيزنطة، ويؤسسوا لأنفسهم دولة توسعية على ضفاف ال فولغا مع عاصمتها كيي ف، التي سيدمرها مغول جنكيزخان في القرن الثالث عشر، ويستتبعوا أقوام ال فولغا جميعاً لحكمهم قبل أن تقوم دوقية موسكو بالتوسع على حساب أسيادها المغول من القبيلة الذهبية لكي تنتهي بدحرهم والسيطرة على كامل أراضي الروس الشمالية والوسطى حول نهر ال فولغا في القرن الخامس عشر. هذه الدولة الروسية التي اتخذ ملوكها لقب قيصر في منتصف القرن السادس عشر تيمناً بملوك روما، استمرت بالتوسع على حساب جيرانها في الشمال والشرق، وابتلعت ما تبقى من خانات التتر في قازان واستراخان وسيبيريا بعد زوال دولة القبيلة الذهبية لكي تضاعف مساحتها أضعافاً مضاعفة وتمد سيطرتها على أجزاء كبيرة من آسيا وصولاً إلى حدود منغوليا مع نهاية القرن السادس عشر.
لم تتوقف روسيا القيصرية عن التوسع على حساب جيرانها، على رغم بعض الانكسارات التي عانت منها في شرق أوروبا وفي القوقاز. بل كانت سياستها الإمبراطورية قائمة أساساً على التوسع عبر قضم الأراضي المتاخمة لأراضيها وضمها لإمبراطوريتها حتى وصلت إلى المحيط الهادئ، ولم تعد ثمة أرض تستعمرها سوى بالعبور عبر مضيق بهرنغ واستعمار ألاسكا في القرن الثامن عشر، لكنها ما لبثت أن باعتها للولايات المتحدة (لحسن حظ ألاسكا) عام ١٨٦٧. في الوقت نفسه، كانت روسيا تتمدد على حساب جيرانها المسلمين في القوقاز وفي وسط آسيا، وفي شكل خاص على حساب السلطنة العثمانية. وقد تمكنت من إتمام السيطرة على كامل القوقاز تقريباً وعلى خانات بخارى وخي فا مع نهاية القرن التاسع عشر لكي تصبح أكبر دولة في العالم مساحة تغطي أرجاء واسعة من شرق أوروبا ومن آسيا. ذلك كله، وروسيا وبعدها الاتحاد السوفياتي لم تعترف يوماً بأنها دولة استعمارية. فسياستها القائمة عل القضم والاحتلال والضم والتوطين وإعادة التوطين والترويس، أي نشر اللغة والثقافة الروسية غصباً عن سكان المناطق المضمومة وأحياناً كثيرة نشر المسيحية الأرثوذكسية أيضاً، تختلف عن السياسة الاستعمارية المعتادة بالاحتلال وتطويع الاقتصاد من دون ضم الأرض (إلا في حالة فرنسا في الجزائر التي فشلت، وحالة إسرائيل في فلسطين التي لها قصة مأسوية أخرى).
ربما لهذا السبب لم تنهر الإمبراطورية الروسية الاستعمارية مع انهيار إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا والبرتغال بعد الحرب العالمية الثانية. فالاتحاد السوفياتي، وريث روسيا القيصرية، لم يتعامل مع مستعمراته على أنها أراض مغايرة يسيطر عليها وإنما على أنها أجزاء أصيلة منه ستتروس عاجلاً أم آجلاً، وهو ما حصل فعلاً في العديد من المناطق التي كان فيها سكان أصليون مختلفون لهم لغاتهم وعاداتهم وثقافتهم المختلفة، والذين انتهوا بأن ارتضوا التروس. حتى عندما حاولت الإمبراطورية السوفياية التوسع في ثمانينات القرن العشرين قبل انهيارها الأخير، فقد احتلت أفغانستان الملاصقة لجمهورياتها الإسلامية متبعة في ذلك الاستراتيجية نفسها في قضم الأراضي ثم محاولة ضمها، وإن كانت عملية ابتلاع أفغانستان فاشلة. عندما انهار الاتحاد السوفياتي وانفكت عنه خمس عشرة دولة مستقلة إضافة الى خسارته الدول الأوروبية الست التابعة له عبر حلف وارسو، فقد حافظت روسيا الاتحادية على سيطرتها على أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا مما كانت قد روسته بنجاح خلال قرون من الضم. وهكذا بقيت روسيا بعد الاتحاد السوفياتي الدولة الاستعمارية ما قبل الحداثية الناجحة في استعمارها من دون الاعتراف به، اللهم ما عدا في قمعها الشديد لثورة الشيشان (١٩٩٤ - ٢٠٠٠) وفي تلاعبها ببعض مناطق القوقاز بخاصة بعد حربها القصيرة والعاصفة مع جورجيا عام ٢٠٠٨.
من هذا المنطلق، تبدو سياسة القيصر الروسي الجديد في سورية مغايرة تماماً لقرون من السياسة الروسية الاستعمارية التي لم تحاول يوماً التوسع في أراض منفصلة عنها براً. فهي على ما يبدو تتهيأ لوجود متطاول من طريق إقامة قواعد عسكرية في أكثر من مكان في الأراضي السورية محظورة على غير الروس وفي السيطرة فعلياً على الأجواء والمياه السورية وعلى القرار العسكري في سورية. بل ويبدو أن الروس في سورية اليوم يسيطرون على أكثر من الأرض والقرار العسكري بما أن القيادة السياسية السورية وعلى رأسها بشار الأسد، قد قبلت بالانصياع لتعليماتهم وتنفيذها، حتى تلك منها التي تنتقص من كرامتهم الوطنية، ما يذكرنا بحال زعماء الدول المُستعمرة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما كان ملوكها وأمراؤها وقوادها يأتمرون بأمر باريس أو لندن. ولعل روسيا أيضاً قد تغلغلت في إدارة الوضع الاقتصادي السوري من طريق ضخ المعونات لنظام الأسد المتهالك مقابل رهونات وديون مستقبلية لا نعلم عنها الشيء الكثير.
روسيا اليوم تستعمر سورية، أو أنها في طريقها لاستعمارها بالمعنى الحقيقي للكلمة. تاريخياً، هذه خطوة طمحت إليها روسيا لقرون ولم تستطع الوصول إليها حتى الآن، أي أن يكون لها وجود دائم في المياه الدافئة. حتى المحاولات المتسرعة لإغاظة العدو الأميركي خلال فترة الحرب الباردة عبر وضع صواريخ باليستية في كوبا الحليفة عام ١٩٦١ أو الخبراء الروس الكثر في سورية ومصر والعديد من دول أفريقيا السوداء، لم تصل يوماً إلى ما يبدو أن الوجود الروسي اليوم في سورية واصله.
ربما كان هذا من دواعي فخر فلاديمير بوتين واتساع شعبيته بين جنرالاته ومواطنيه الذين ازدادت شوفينيتهم زيادة كبيرة في العقدين الماضيين. وربما كان في هذا ذر للرماد في العيون لكي تتمكن روسيا من ابتلاع القرم وشرق أوكرانيا على طريقتها المعتادة في القضم والضم تحت أعين الغرب المذهول. لكن الواضح أن روسيا قد تخرجت اليوم من مدرسة الإمبراطوريات القديمة التي تتوسع براً إلى مدرسة الاستعمار الحديث الذي يتوسع من طريق إقامة مناطق سيطرة بعيدة من مركزه. أي أن روسيا قد دخلت أخيراً القرن التاسع عشر في سياستها الإمبريالية.
لكن المؤلم أنها لكي تمارس حداثتها الاستعمارية، يبدو أن روسيا في حاجة الى تدمير سورية وإعادتها إلى العصر الحجري.
وضع الروس خطة للتعامل مع المناطق الثائرة في سورية تقوم على ركيزتين، جهد عسكري مفتوح ولا قيد عليه، يستند إلى تفوق سلاحي ساحق، يمارس أقصى قدر ممكن من الضغط على شعب هذه المناطق ومقاتليها من جهة، ويد ممدودة بحلولٍ احتوائيةٍ هدفها المعلن إخراجها من حال الحصار والقصف والتجويع، المفروضة أسدياً عليها منذ سنوات، وعانى منها المدنيون الأمرّين، وخصوصاً منها الجهات الأكثر ضعفاً كالأطفال، أما هدفها الحقيقي فهو إجبارها، بمختلف الوسائل والضغوط، على قبول هدن يقال إنها ستجنبها ويلات استخدام السلاح: سلاح من يدافعون عنها من مواطنيها، وليس سلاح النظام.
استناداً إلى هاتين الركيزتين المتكاملتين، يتم، من جهةٍ، التلويح بما تفتقر هذه المناطق إليه من مواد غذائية وأدوية وأمن. ومن جهةٍ أخرى، العمل لإحداث أجواء ترغم سكانها على الركوع أمام شروط مجحفة جداً، تمليها عليهم القوة التي تعصف بهم ليل نهار. أما آلية بلوغ الهدن فهي تبدأ بشق صفوف المدنيين، وإحداث هوة بينهم وبين من يدافعون عنهم، باستثمار عذابات الأولين التي يفرضها النظام عليهم، وما قد يوجد داخل كل منطقة من تناقضاتٍ أو خلافاتٍ تستغلها غالباً "خلايا نائمة"، تضم موالين للنظام وممثلي فئاتٍ معادية للثورة، تحرّض الحاضنة الاجتماعية ضد المقاتلين، وتحملهم المسؤولية عن رفض هدنةٍ تنهي تجويع قراها وبلداتها ومدنها ومحاصرتها وقصفها، هي مصالحةٌ مع نظام يستطيع سحقهم واستعادة مناطقهم بالقوة، لكنه يقدّم لهم عرضاً كريماً، يضع حدا لمآسيهم، ويخرج بناتهم وأبناءهم من السجون، ويعيدهم إلى أوضاع آمنة وطبيعية، بمجرد أن يتخلصوا من مقاتليهم: العقبة التي تحول بينهم وبين بلوغها، علماً أنها تنازلاتٌ يقدمها النظام لهم للي ذراع السكان. تلازم هذه اللغة المطمئنة أعمال عسكرية مكثفة ضد المدنيين بصورة خاصة، يتصاعد معها الضغط على مفاوضي المناطق، وخصوصاً أصحاب المواقف الرخوة منهم، لإقناعهم بعدم جدوى المقاومة، في ظل تفوق الجيش الأسدي عليهم، وما هم عليه من عزلة وضعف، ولاستحالة تحقيق ما يطالبون به، وخصوصاً إسقاط النظام وترحيل رئيسه.
كرّر الروس، وتابعهم الأسدي، هذا السيناريو في كل مكان، لكي يلغوا موافقتهم على هدن دولية، تلزمهم بفك الحصار، ووقف القصف العشوائي والقصف بالأسلحة الممنوعة، كالبراميل والقنابل الفسفورية والفراغية، وبالإفراج عن المعتقلين، والسماح للمواطنين بالدخول والخروج الحر إلى مناطقهم ... إلخ، ويلغوا معها الحل السياسي الدولي الذي يستبدلونه بهدن محلية وتقطيعية، يعني تعميمها نهاية هذا الحل، والالتفاف الناجح على وثيقة جنيف والقرارات الدولية ذات الصلة بها.
لا بد من أن تجابه هذه الخطة الخطيرة بخطةٍ وطنيةٍ معاكسة، تعتمدها المقاومة العسكرية والسياسية، تحول دون تفعيل أي خلية محلية لصالح السطلة وهدنها، ومن دون تولي العناصر الرخوة أي دور تفاوضي، بالنيابة عن المقاتلين والسكان، على أن تقوم "لجان محلية"، تشكلها قطاعات الثورة العسكرية والمدنية بهذا العمل، وتمارس سياسات تحبط رهانات الروس والأسد، هي تطبيق ميداني لاستراتيجية وطنية شاملة، يجب أن تضعها "هيئة وطنية عليا"، تدير معركة فك الحصار عن المناطق المستهدفة، ودعم صمودها باعتبارها ساحة معركةٍ وطنيةٍ شاملة، ولم تعد بقعاً متناثرة ينفرد النظام بها، على أن تتوسط بين الهيئة العليا واللجان المحلية "لجان مناطقية"، تشرف مكانياً على إقامة شبكة صلات وحصانات بينها، تحميها وتوحد مواقفها ضد هدن الاستسلام، ولا تسمح بعزل أي منطقةٍ أو بلدة أو قرية، أو تترك مقاتليها وساستها وحيدين في مواجهة المخاطر المحدقة بهم، وبالقضية الوطنية والثورية السورية.
تبذل اليوم جهودٌ لبلورة هذا الرد الوطني الشامل على هدن الروس والأسد، والذي يجب أن ينجز بمعونة من رحلوهم عن ديارهم، ويقوم على نشر مقاتليهم في مناطق ذات حساسية خاصة بالنسبة للنظام، كالساحل وحماة وريف حمص الشمالي وحلب، حيث سيضعون خبرتهم ووزنهم النوعي تحت تصرف ثورة انتموا إليها، بوصفهم وطنيين سوريين يدافعون عن شعبهم، وسيشاركون مقاتلي هذه المناطق في التصدّي للعصابات الأسدية والروس، وسيجعلونها تدفع ثمن إخراجهم من مناطقهم، وتندم عليه بل وتفكر في التخلي عن نهج الهدن والترحيل، ليس لأنه يصير بلا جدوى وحسب، وإنما لأنه كذلك يلحق بها ضرراً بالغاً في مناطق مهمة من سورية، ويفوّت عليها فرصة تجميع مقاتلي هذه المناطق في إدلب، حيث ستسدد لهم ضربة ساحقة، بمجرد أن تتوفر شروطها. بالتلازم مع إعادة انتشار المقاتلين، ستمارس أسرهم أنشطة تعبر من خلالها عن حقها في المطالبة بالعودة إلى ديارها، وستنظم مظاهرات، وتعقد لقاءات مع مؤسسات إعلامية وجهات سياسية محلية ودولية، تشرح خلالها ما كابدته من عذابات خلال الحصار، وفقدته من بناتها وأبنائها، وما فات أطفالها من تعليم وصحة وحياة طبيعية، وعاناه هؤلاء من أمراض جسدية ونفسية، وتعرضت هي له من تمزيق وترحيل وقتل... إلخ.
أكرّر: تمثل الخطة الروسية/ الأسدية خطراً جدياً على الثورة، لا بد من مواجهته بعمل وطني شامل، تتولاه هيئة وطنية ذات تمثيل وحضور مناطقي ومحلي، تنفذ سياساتٍ يلتزم بها كل مدافع عن شعبه. لذلك، لا تكتفي بالإدانات اللفظية، بل تقيم جميع التشابكات والشروط الضرورية للدفاع عن المناطق المحاصرة أو المهددة بالحصار، ولتوحيد مواقفها، وحل ما بين سكانها ومقاتليها من إشكالات، وتمدّها بعون إغاثي وإعلامي وسياسي وعسكري، وتحصنها ضد محاولات اختراقها والالتفاف عليها، لتجعلها حصناً منيعاً للثورة، بدل أن تكون ما هي عليه اليوم: نقاط رخوة يتسبب سقوطها في تفكّك الثورة، وانحسارها عن أرض الوطن.
تواصل تركيا التصعيد ضد السياسة الأميركية في شمال سورية التي ما زالت تحمي وجود مجموعاتٍ لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ووحدات الحماية الشعبية في مدينة منبج غرب الفرات، وتعلن (تركيا) أن "شراكتنا ستنتهي". وسخِر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أميركا التي طالبت بلاده بعدم الدخول إلى العراق، من دون إذن من الحكومة العراقية، قائلاً: قبل 14 سنة، هل قال لكم صدام حسين تعالوا حتى دخلتم العراق؟
وأعلنت تركيا، من دون تردّد، أن قانون "جاستا" الأميركي يستهدف السعودية، ويعمل على الابتزاز السياسي والاقتصادي ضدّها، لكنّه أيضاً يستهدف المنطقة بكاملها، إلى جانب دول الخليج، هذه المرة، في مواجهة التصعيد الإيراني والسلوك الأميركي، وتفعيل خطط تحقيق رغبات شعوب المنطقة، وتطلّعاتها في رفض سياسات التفريق والشرذمة، كما قال وزير خارجيتها، مولود شاووش أوغلو.
استقبلت أنقرة، قبل أيام، ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، ووزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، وشاركت في القمة التركية الخليجية في الرياض بجدول أعمال ثنائي إقليمي موسع، وكانت جنباً إلى جنب مع السعودية وقطر في تنسيق المواقف حيال تطورات الملف السوري في اجتماع لوزان. وقال ولي العهد السعودي "الاستهداف واضح، ولا يختلف عليه اثنان". وأكد الوزير الإماراتي على أهمية التنسيق مع تركيا لحل أزمات المنطقة، خصوصاً في سورية والعراق واليمن وليبيا، شاكراً لتركيا وقوفها مع حق الإمارات في إعادة الجزر التي تحتلها إيران، متجاوزاً التوتر في العلاقات بعد الانقلاب في مصر، وصرح إن هناك حاجة وسبباً قوياً لتطوير العلاقات الخليجية التركية.
كانت تركيا، حتى الأمس القريب، ترى في منطقة الخليج جدول أعمال شامل وموسّع، يتضمن عشرات الفرص السياسية والأمنية والمشاريع الاقتصادية والإنمائية، وهي لم تتنبه إلا أخيراً إلى موقع الخليج وأهميته مركزاً استراتيجياً يفتح لها أبواب العبور إلى أكثر من مكان، لكنها، في لقاء القمة التركية الخليجية في 13 سبتمبر/ أيلول 2008 في الرياض، رأيناها توجه رسائل علنية واضحة، مخاطبها هو إيران، بقدر ما هي موجهة إلى أميركا وإسرائيل، لمراجعة سياساتها الإقليمية، خصوصاً في الخليج، لناحية التمدّد والتمسّك بالمشروع النووي والأزمة المستمرة مع الإمارات. كان الأهم قرار إنشاء المنظومة المشتركة التي تساهم في تأطير هذه العلاقات وتعزيزها عبر آليةٍ للحوار السياسي المنظم، وتطوير العلاقات الاستراتيجية بين تركيا ودول الخليج، وتوقيع وثيقةٍ وضعت في مقدمة أهدافها طرح بناء صرح أمني سياسي إنمائي إقليمي، منفتح على كل الراغبين في تبني لغة الحوار حلاً للمشكلات والنزاعات.
وقيل، في قمة شهر يوليو/ تموز 2009 في إسطنبول، إن تركيا تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره، وستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر، مباشرةً، من أي تدهور أمني هناك، لكننا رأينا أن التصعيد والانتشار الإيراني لم يتوقف، وتمدّد أكثر فأكثر نحو التصعيد مع الإمارات، ومحاولة تهديد أمن البحرين مباشرة، واختراق بنية اليمن السياسية والاجتماعية، وإيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، مستفيدة أكثر فأكثر من التجاهل الأميركي المقصود لسياساتها الخليجية.
مع وصوله إلى السلطة في بداية العام 2002، أطلق حزب العدالة والتنمية استراتيجية إعادة هيكلة السياسة التركية مع دول الخليج العربي، والرغبة في توسيع رقعة التعاون والانفتاح لدفع العلاقات نحو الأفضل، وقد ترجمت هذه سياسات الانفتاح اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً في الجانبين. وبدأت أنقرة تكرّر موقفها في أنها لن تسمح بمثل هذه السهولة لأيٍّ كان أن يهدّد مشروعها الانفتاحي التقاربي على دول الخليج الذي يضع أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقرارها في مقدمة تطلعاته.
وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة، قادت التطورات الإقليمية، وتحديداً ثورات الربيع العربي والمستجدات المتلاحقة على الساحة السياسية والأمنية في مصر والمواقف التركية حيال ذلك، إلى توتر سياسي انعكس سلباً على العلاقات التركية مع معظم دول الخليج في ملفاتٍ سياسيةٍ واقتصادية وأمنية.
المستجدات المتلاحقة في سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان هي التي استدعت مزيداً من التعاون بين تركيا من جهة، والمملكة العربية السعودية وقطر تحديداً من جهة ثانية، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، فتركت الكثير من نقاط التباعد والخلاف جانباً، وتم توقيع عشرات من العقود والاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والأمنية المشتركة، وتأكدت ضرورة وضع خطط تحرك شمولي باتجاه سياسات واقعية عملية، تهدف إلى الرد على محاولات قلب التوازنات على حساب هذه الدول، وتكون مقدمة صلبة باتجاه قمة الرياض التركية الخليجية.
عكس البيان المشترك لقمة الرياض التركية الخليجية، أخيراً، حقيقة تجاوز المشهد المصري، وعبر عن القلق من التصعيد العسكري الإيراني في المنطقة، واستمرار إطلاق إيران صواريخ بالستية قادرة على حمل سلاح نووي، والدعوة المشتركة للمضي في الحوار الهادف والمستمر بشأن مختلف قضايا المنطقة، بما يتلاءم مع متطلبات العمل الاستراتيجي. وكانت المصالحة التركية الروسية وانعكاساتها الإقليمية حاضرة في جدول الأعمال الموسع حتماً، وربما هذا التقارب التركي الروسي هو الذي شجع أنقرة على الإسراع في التقدم العسكري في شمال سورية، باتجاه تطهير مزيد من المناطق هناك من تنظيم داعش، والتركيز في المرحلة المقبلة على إبعاد الوحدات الكردية تماماً إلى شرق الفرات، تمهيداً لإعادة منبج إلى سكانها الأصليين، تماماً كما جرى في جرابلس، حيث تتقدم خطة المنطقة الآمنة التركية خطوةً خطوةً، وحيث تراهن تركيا على دعم خليجي، لبناء هذه المنطقة للاجئين السوريين لإبقائهم داخل أراضيهم.
المخاطر والتهديدات الإقليمية، وفي مقدمتها التوسع والانتشار الإيراني أخيراً، بعد التفاهم مع الغرب على قوة إيران النووية، وما يقال عن أدوار جديدة كلفت طهران القيام بها إقليمياً بالوكالة عن قوى دولية أخرى، بين الأسباب التي دفعت تركيا ودول الخليج إلى إعادة النظر في حسابات مواقفهم وسياساتهم وخياراتهم الاستراتيجية والتحول نحو قراءةٍ جديدةٍ لمسار العلاقات ومستقبلها.
باتت دول الخليج ترى في تركيا اليوم القوة العسكرية الإقليمية القادرة على أن تأخذ مكانها في خطط التصدّي للتهديدات والاستفزازات الإيرانية، والقوة القادرة على توفير الخبرات الواسعة في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية المتقدمة، وتنويع مصادر التسليح وسط قناعةٍ خليجيةٍ بشأن وجود فرص تنسيق مشتركة كثيرة إزاء القضايا والنزاعات الإقليمية. ويرى الخليج في تركيا أيضاً فرصة صناعية زراعية مائية استثمارية، وترى تركيا في الخليج وسيلة تعزيز موقفها على طريق العضوية الأوروبية، بكل ما يحمل لها من حظوظ تجارية واقتصادية ومالية وإمدادات نفطية. ويكفي التوقف، مثلاً، عند حجم التبادل التجاري الذي تضاعف أربع مرات في السنوات السبع الأخيرة، لنكتشف أبعاد قرار تركيا ودول الخليج في توسيع تعاونهما هذا، وتحويله إلى تحالف استراتيجي متعدّد الجوانب.
تتقدّم العلاقات التركية الخليجية نحو مزيد من التنسيق والتعاون، تفرضه متطلبات المخاطر الإقليمية المحدقة والمهددة، وضرورة مواجهة خطط الاستهداف الإيراني والتخبط الأميركي واللامبالاة الروسية. وكانت قمة الرياض أخيراً اللقاء التنسيقي التركي الخليجي قبيل قمة لوزان، ونقاشات الملفين السوري والعراقي، وتحديداً خريطة العمليات السياسية والعسكرية في الموصل، والمخاطر المحدقة بها عند أية محاولة للمساس ببنية المدينة وديمغرافيتها. والواضح أن العلاقات التركية -الخليجية ستلزم عواصم غربية عديدة، وفي مقدمتها واشنطن، بمراجعة مواقفها، من خلال قراءة هذا التقارب الذي يجاهر في رفض مواقف إقليمية أميركية وإيرانية عديدة. لكن الواضح أيضاً أن التعاون التركي الخليجي الاستراتيجي لا بد أن يتضمن نقاشاً حقيقياً أيضاً في تفعيل أدوار مؤسسات المجتمع المدني وحوار النخب ورجال الفكر وإطلاق يد المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، يتمم جهود التنسيق البنيوي المنظم والشامل في المجالات السياسية والإنمائية والأمنية والدفاعية، لنقل التعاون والتنسيق من مستوى القيادات السياسية إلى بقية شرائح المجتمعات في الجانبين. المؤكد كذلك أن تركيا والخليج سيحتاجان حتماً إلى مصر، بطاقاتها وقدراتها، لتكون لاعباً أساسياً في هذا التحرّك الاستراتيجي، كون الجميع يسلم بالدور والموقع المصري في بناء المعادلات الإقليمية.
كان المشهد الثقافي في دمشق، مطلع العام 2013 قد انهار تماماً، من حيث إيمان المشتغلين بعدم جدوى الفعاليات الثقافية، والدم لا يغادر عناوين النظام ومؤسساته، بعد مرور أشهر قليلة على مجزرة داريا في أغسطس/ آب 2012، وتصفية "خلية الأزمة" بتفجير "الأمن القومي" وسط العاصمة. الرعب يجتاح الشوارع، الحواجز الأمنية بدأت تتناسل، وشاشة إعلام النظام تدخل في شحّ قناعة لتبرير جرائم سلطات الأسد وأحزابه الرديفة. لا ضيوف يقتربون من مبنى التلفزيون، خوفاً من ردة فعل الشارع. أوراق الاتهام مختلطة، ولا صوت سوى للترقب: ماذا سيحدث؟
هنا، ذهب مثقفون سوريون، لم يتبنوا خطاباً واضحاً بشأن الثورة السورية، سعى معظمهم إلى تلميع صورته "دفاعاً عن الحياة" حسب وصف أحد هؤلاء، ذهبوا ليبتكروا منابر ثقافية أهلية "معقمة"، حاولت أن تهرب "تاريخياً" من لعنة تحوّل العمل الثقافي إلى دائرةٍ حكوميةٍ مشروطةٍ بقوانين وأنظمة تراهن على التحشيد، بدل تنوع الفكر والمعتقد والانتماء الليبرالي. قامت منابر في مقاهٍ وسط دمشق، يعزفون فيها الموسيقى، ويقرأون الشعر ويوقعون الكتب الجديدة، من دون أن يكون هناك رعاية لأي هيئة "رسمية" للنظام. انتشر هذا التقليد أسابيع، من دون انتباه وزير الثقافة، حتى أن أحد معاونيه الذي يشغل الآن منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق قال لي شخصياً: "لو كان الأمر قراراً خاصاً بي لدعمت ملتقى أضواء المدينة الثقافي مالياً، ولمنحت المشاركين فيه مكافآت... واقترحتُ ذلك... ولكن.... آه آه"، ها هو اليوم في منصبٍ يمكن أن يدعم الشباب والملتقيات، ولكن على طريقة السلطة، و"محاشي" شعاراتها التي حولت المؤسسات الثقافية إلى جمعيات خيريةٍ، تجند أمناء الفرق الحزبية وسائقي سيارات الأفرع الأمنية للتناوب على حضور أمسيات الشعر الخارجة عن المألوف تلك، ونقل الصورة وتسجيل ما يقرأ لتبقى "تحت السيطرة".
مثلاً، اختارت أجهزة الرقابة الناعمة، حزباً "معارضاً" من أحزاب النظام، لتوكل له مهمة دعم أحد تلك الملتقيات، مالياً وإعلامياً، فاخترع هذا الحزب مهرجاناً وجوائز، تغيب عنها صورة بشار الأسد، ويحضر علم الجيش السوري وشعراؤه ومطربوه. ملتقى وسط دمشق يسمح فيه للشباب من قوات "الدفاع الوطني" الموالية للأسد، بالحضور مع المسدسات النارية وأحيانا الثياب العسكرية، فيتحوّل الملتقى إلى ساحة لتبادل التحيات بين "الدفاع الوطني لحي الدويلعة" مع "كتائب البعث لحي جرمانا". وعلى هواء القصائد وتصفيق الحضور الذي انقسم إلى شعراء لم يجدوا من يسمعهم في وزارة الثقافة وكتّاب لم تسدّ رمقهم صفحات جريدة "الأسبوع الأدبي" لامتلائها بترّهات "النصر".
ربما نجا ملتقى أو اثنان من سيطرة تلك الأجواء. كانت اللقاءات نصف شهرية أو غير معلنة، فوجد النظام حلاً لدحر المسؤولين عنها بملاحقتهم من أجل الالتحاق الإجباري بجيشه، أو إيصال رسائل تهديد مباشرة باعتقالهم تحت بند "تجمع سري مشبوه"، ولك أن تضع تهمة من قبيل "قراءة قصائد تدعم حراك الإرهابيين معنوياً"، أو "هذا الملتقى يقرأ لشاعر معارض أو يتذكر قصص كاتب كان سجيناً سياسياً" (!)، فيقوم المشرفون، مثلاً، بدعوة معاون مدير التلفزيون الذي يعمل "شاعراً" في أوقات الفراغ ليقيم أمسية شعرية، مزيلاً "شبهة" هذا الملتقى عن وجه الإعلام الرسمي، وذلك بعد تسجيل ساعة الملتقى وبثها على التلفزيون، لـ "هضم" هذه المحاولات الأهلية التي سعى إليها بعض الشباب السوري في دمشق، فلم تكن مستقلةً عن خطاب النظام الذي أرادها خطوة "إصلاحية ثقافية"، كما يصفها أحد المشرفين على تلك الملتقيات، حيث تورّط بالظهور على شاشة التلفزيون الرسمية، وعليه أن يتحدث ثلاثين دقيقة عن نشاط الملتقيات، وفي اعتباره أن ثمة عشرات المخبرين ينتظرون إشارته غير المباشرة عن "ثقافة" جديدة، نجحت بالوصول إلى الناس، من دون فضل أجهزة السلطة الثقافية وقادتها.
تضاءلت أحلامنا قبل عامين، بالانزواء بعيداً عن خطوط التماس، نرثي خيبات الثقافة التي أنتجت صمتاً مخيفاً، وسط أدلجة الثقافة مديح "البوط العسكري" الذي يدوس على المبادرات الأهلية، لأنه على "حق"، حين يدافع عن وجود الطغاة فوق صدور المنابر الهاربة من نعوش ثقافة النظام السوري، و"منتفعاتها". هناك اغتيلت أية مبادرة لا تدبغها "الوطنية"، ولا تفوح منها رائحة "الشعب الذي يشرب دماً"، كما كان يردد الموالون للأسد في ساحة السبع بحرات في دمشق الحواجز.
في تعليق له على أن القصف الأخير الذي تعرضت له مدرسة في إدلب وأودى بحياة اثنين وعشرين طفلا وستة معلمين، قال المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعليم العالمي السيد غوردن براون، إن ذلك يعد تدنيا في الأعمال الهمجية، ويضيف أنه الأسوأ من بين 98 هجوما سابقا على المدارس السورية حصل خلال العامين الماضيين، ويضيف أدعو مجلس الأمن إلى الموافقة فورا على أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق فيما أعتقد أنه جريمة حرب، مع نية ملاحقة الجناة ومحاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية إذا ثبت تورطهم.
ينص البند "2 ب" من المادة الثامنة لنظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، أن جرائم الحرب وما يسمونها الانتهاكات الخطيرة تشمل تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للتعليم".
للعام الخامس على التوالي لايزال النظام الوحشي في سوريا وبمظلة الدعم الروسي والإيراني، يعطي للعالم درسا جديدا ويفتح فصلا جديدا في حقل العلاقات الدوليه، في درس مفاده بأن التسبب في الظلم والعدوان واستهداف وقتل المدنيين والأبرياء وتهجيرهم واستخدام الأسلحة الكيمياوية والمحرمة دوليا وتجاهل العهود والمواثيق الدولية والقرارات الصادرة من المنظمات الدولية لا تعد كافية لأن تتحرك القوى العظمى والمنظمات الدولية المعنية بفرض السلم ولإيقاف هذا النزيف، وأن العالم لن يتحرك لصدها.
وذلك بالإضافة إلى جعل الغايات النبيلة التي انطلقت منها الثورة السورية لتتحول سوريا إلى مستنقع للجماعات الإرهابية، وذلك من خلال فتح أبواب البلاد لتدفق المتطرفين وعصابات التطرف والإرهاب، هذا فضلا عن إطلاق المحتجزين من المجرمين وغيرهم من السجون لتتغذى من الفوضى وليقلب الطاولة على المجتمع الدولي لتغييب القضية الأساسية والجوهرية التي اندلعت لأجلها الثورة السورية، وهي إزالة هذا الدكتاتور ليظهر للقوى الدولية كطرف في محاربة الجماعات الإرهابية والمتطرفة.
منذ اندلاع الثورة السورية، أفلت الرئيس السوري من ضربة عسكرية دولية لجريمته الأولى بعد استخدامه غاز السارين في هجوم على الغوطة الشرقية بريف دمشق في أغسطس من العام 2013 سقط بها مئات القتلى، وأوقع حوالي 1400 قتيل، وذلك عندما انضمت سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية في أكتوبر من نفس العام، في إطار اتفاق روسي أميركي أتاح تجنب ضربة عسكرية أميركية. (تلك الضربة العكسرية التي كانت في يوم ما خيارا مطروحا دائما على طاولة الرئيس الأميركي، ولم تعد كذلك منذ ذلك الحين)، وانتهت قضية السلاح الكيمياوي مع تقدم دمشق بطلب للانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيمياوية، ابرا كادابرا.
كان بالون اختبار أطلقه ليقيس رد الفعل على الفضائع التي ارتكبها وكما يبدو فقد نجح هذا الاختبار، منذ ذلك الحين استمر الرئيس السوري وبشكل متعمد وممنهج ومتواصل بارتكاب فضائع بحق شعبه، متجاهلاً القوى الدولية، والآن بمساعدة روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها والجماعات الإرهابية المقاتلة وما ترتكبه من فضائع كلها هي المسؤولة عن تلك الانتهاكات المنتظمة.
ووفقا للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، فإن جرائم الحرب في سوريا تشمل انتهاكا لاتفاقية جنيف ونظام روما الأساسي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والاتفاقيات المصادق عليها والمعترف بها دوليا، فضلا عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تضع قيودا على الأطراف المتحاربة، بما في ذلك إعدام أسرى الحرب والاغتيالات، والعمليات الواسعة لقتل المدنيين، والاختطاف واستخدام المدنيين كدروع بشرية، وقطع الرؤوس، وعشوائية التفجير، والتعذيب، وجرائم العدوان، وتشريد السكان المدنيين، والتي شددت على أهمية إيقاف مثل هذه الممارسات والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته وسلامته.
يجب أن يحمل الرئيس بشار الأسد والفصائل التابعة له والجماعات الإرهابية المسؤولية أمام المحكمة الجنائية الدولية عن الفظائع التي ارتكبوها ضد المدنيين السوريين الأبرياء. وعلى الرغم من النظام الذي مازال ينفي ارتكاب أي من تلك الجرائم إلا أن الأدلة كثيرة ومستمرة حول مسؤوليته عن موت مئات الآلاف من المدنيين والكثير من عمليات الترحيل القسري والتشريد، كما أن هناك أدلة تربط بين استخدام القوات السورية الحكومية للأسلحة الكيمياوية المحظورة والتي من ضمنها استخدام البراميل المتفجرة، والذخائر العنقودية، والأسلحة الحارقة، وتسببت في أضرار أو تدمير 5 مستشفيات جزئيا على الأقل، وذلك بحسب أبحاث أجرتها منظمة هيومان رايتس واتش، ما يعني ضمناً أن الأسد وشركاءه يجب أن يتحملوا مسؤولية تلك الأفعال.
كانت وماتزال المملكة العربية السعودية من بين أبرز الدعاة لأن يتحرك المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات صارمة وملموسة على أرض الواقع ضد الرئيس الأسد وحكومته، حيث تدعم المملكة المعارضة المعتدلة من خلال توفير وسائل "غير قاتلة"، ومن خلال دعمها للحل السياسي في سوريا وفقا لبيان جنيف 1. بالإضافة إلى وقوفها الإنساني بجانب أشقائها السوريين، كما بين صاحب السمو الملكي ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء أمام مؤتمر اللاجئين المنعقد على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام بأن المملكة تعمل بصمت من أجل أشقائها السوريين بأن المملكة استقبلت 2.5 مليون سوري على أراضيها، يتمتعون بحق الرعاية الصحية والتعليم. وأن المساعدات السعودية للاجئين السوريين بلغت 800 مليون دولار، بالإضافة إلى مساعدات لحكومات دول الجوار ومنظمات الإغاثة العالمية.
وبالعودة إلى المجتمع الدولي الذي يقف حائراً في مواجهة هذه الجرائم بمواقفه المتباينة، لا يمر يوم دون أن نسمع تلك المصطلحات تتردد على في اجتماعات القادة من شجب واستنكار وإصدار بيانات وإقامة مؤتمرات دعم ومؤتمرات أصدقاء وتعيين وسطاء مبعوثين وغيرها بدون أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، بالإضافة إلى استخدام حق النقض (الفيتو) من جانب روسيا وصل إلى خمس مرات. إن من غير المفهوم ألا تعطي المحكمة الجنائية الدولية الأولوية القضائية إزاء الوضع السوري على الرغم من الأدلة الواضحة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والموثقة من شهود العيان والمنظمات الدولية. وتحقيقا لهذه الغاية، من الضروري أن يتدخل المجتمع الدولي باستخدام الوسائل القانونية لضمان الحصول على العدالة للشعب السوري كل في نطاق اختصاصه، لضمان أن مثل هذه الفظائع سوف لن تجد لها مكانا في العالم مستقبلاً.
إذا كنت ممن يتابعون الإعلام الإيراني الذي يسيطر المحافظون على غالبيته الساحقة، ويمكنك أن تضم إليه إعلام التابعية الإيرانية في الدول التي يسيطر عليها الأتباع، كما هو حال العراق ولبنان وسوريا وجزء من اليمن، فضلا عن خطاب الشبيحة المنبثين في الإعلام ومواقع التواصل.. إذا كنت ممن يتابعون ذلك كله (نفعل بحكم المهنة طبعا)، فستلاحظ أن المصطلح الأكثر ترددا في ذلك الإعلام هو مصطلح «الوهابية»، حتى لكأن معركة إيران الراهنة في المنطقة هي مع «الوهابية» دون غيرهم، ولا وجود لمعركة مع البقية الباقية من الأمة.
وإذا جئنا نحرر المصطلح بحسب السائد، فإن من يدخلون تحت مظلته هم أقلية في الأمة، أعني التيار السلفي بتجلياته المختلفة (التقليدي، والجهادي والإصلاحي)، مع العلم أن غالبية الأمة باتت تخلط في بنيانها الفقهي والاعتقادي، ولم يعد سوى القليل منها يتبع مذهبا واحدا، بما في ذلك التيارات الإسلامية المسيّسة، إذ تجد مثلا في صفوف الإخوان المسلمين، سلفيين وأشاعرة، في حين تجد أكثر الناس يتبعون رأي من يفتيهم، أو من يرتاحون إليه من العلماء والدعاة، وكثير منهم يدخل إلى «جوجل» ليسأله عن الرأي في هذه المسألة أو تلك ويختار من بين الأقوال التي يجدها ما يرتاح إليه.
لم يسبق للأمة أن حُشرت في مذهب معين، لا في الفقه ولا في الاعتقاد، بخاصة أهل السنّة الذين يمثلون غالبية الأمة، والإقصاء مشكلة وقع فيها الكثير من المذاهب في لحظات قوتها، أو انحياز السلطة السياسية إليها.
حتى في السعودية التي تحتضن المذهب السلفي الذي يسميه إعلام إيران الوهابية، يمكن العثور على طيف واسع من الآراء الفقهية والاعتقادية أيضا، وإن بدا الخط السلفي هو الأكثر حضورا.
الحقيقة أن هذا الخطاب الإيراني هو خطاب سياسي يُستخدم للتضليل ليس إلا، فمعركة إيران هي مع الغالبية الساحقة من أهل السنّة، الذي يشكلون بدورهم الغالبية الساحقة من المسلمين، وليست مع الوهابية، ولا مع السعودية، وهذه المحاولة السخيفة لحشر المعركة في فئة معينة هي محاولة مفضوحة بامتياز، ولا تمر حتى على عقول الأطفال. هل الأتراك مثلا وهابية؟ وهل أهل سوريا الذين تقتلهم إيران وهابيون؟ أم أن أهل اليمن الذين يواجهون العدوان الحوثي وهابيون؟!
إنها معركة سياسية بامتياز تنخرط فيها غالبية تعتقد أن هناك عدوانا إيرانيا يريد تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا في المنطقة، وهي غالبية لم تكن طائفية في يوم من الأيام، والسنّة أصلا لم ينظروا إلى أنفسهم يوما كطائفة، بل اعتبروا أنفسهم الأمة التي تحتضن جميع الأقليات الأخرى.
أهل السنّة وقفوا مع الثورة الإيرانية حين واجهت الشاه، وساندوا قتال حزب الله ضد العدو الصهيوني، لكنهم غيروا موقفهم حين أسفر المشروع الإيراني عن وجهه الطائفي البشع، وهو وجه تفضحه وسائل الإعلام والتصريحات اليومية التي تنقصها الدبلوماسية، ولا يغيره بعض الكلام الدبلوماسي من هذا السياسي أو ذاك.
غالبية الأمة ترفض العدوان، ولا شأن لها بالمذهب، وإذا ما توقف العدوان، فليتبع كل أحد المذهب الذي يريد، وأي حوار ديني يكون بالحسنى، وليس بالقتل والعدوان، والسنّة لا يخشون على مذهبهم، لأنه لم يتسيّد مشهد الأمة بسطوة السلطة كما يشاع، بل بقوة الحضور والإقناع.
الخلاصة أن استخدام حكاية الوهابية من قبل إعلام التابعية الإيرانية لا يمر على عقول الناس بحال، ويجب أن يدرك حكام إيران أنهم استعْدوا الغالبية الساحقة من أهل السنّة، ولن يربحوا هذه المعركة، لأن لهذه الغالبية تراثها الطويل في صدِّ الغزوات، وهذه الغزوة لن تكون استثناءً بحال.
ليس شخص الجنرال ميشيل عون أهم ما في المسألة اللبنانية، فالجنرال ليس ذلك العسكري المحنك أو السياسي البارع، بل هو قامة عادية من قامات عسكر الهزائم الذي أنتجته هزيمة العرب في فلسطين، المعروف بولهه بالسلطة وتفرّغه للصراع عليها، ولا برنامج له غير السعي إليها، وإقصاء غيره عنها بجميع الوسائل، مهما كانت مخالفةً للقوانين والأخلاق، وعنيفة.
وليس شخص الجنرال ما يدّعيه أنصاره: مساوياً للمسألة اللبنانية، وما يكتنفها من تحدياتٍ داخليةٍ وخارجية، كما أنه ليس الرجل القادر على التصدي لما يحيق بها من مخاطر محلية وعربية وإقليمية، بل هو اليوم تفصيلٌ صغيرٌ من تفاصيل معركةٍ كبرى، تدور في كل مكان من المنطقة، لم تبلغ بعد ذروتها، لكنه تفصيل مهم، ولكن ليس بالمعنى الايجابي للكلمة، بل بمعناها السلبي الذي يترتب على انحناء سعد الحريري أمام حزب الله، بما فيه من دلالاتٍ من الصعب القول إنها حمّالة تهدئةٍ وتطبيع لعلاقات القوى السياسية اللبنانية، وضامنة لمصالح لبنان العليا التي صارت، بقرار الشيخ سعد، مصالح تتجه نحو التطابق مع خيارات (وارتباطات) حزب الاحتلال الإيراني الذي يكتم أنفاس لبنان بالسلاح، ويثبت اليوم أن إيصال عون إلى سدة الرئاسة يعني أنه بدأ يحتل إرادة زعمائه الذين يستسلمون له، وأنه سيستطيع، من الآن فصاعداً، تحديد خياراتهم، وتقليص قدرتهم على مقاومته، والإفلات من بنية أقامها، ما يسعون للخروج منها، خشية ما يرتبه سعيهم عليهم من عقابيل وخيمة، ينتجها ارتطامهم بسلاح الحزب، ويعتقدون أن في وسعهم تفاديها.
ولجنوحهم إلى مواقف سياسية النتائج نفسها التي ينتجها السلاح، وعبر عنها قبول رئاسة الجنرال عون، بعد "صمود" دام عامين ونصف العام قبل أن ينهار، تردّى وضع لبنان السياسي خلالها، وتراجعت قدرات تيار "14 آذار" بدل أن تتحسن. لذلك، من الصعب اعتبار الرضوخ لإرادة السلاح وخياراته التي ليست لبنانية الأولويات، محاولة تريد استباق عاصفة قادمة على بلاده، ويحتم الوضعان الإقليمي والدولي أن نرى فيها العكس: وضع لبنان في عين العاصفة، وإسقاط سياسات عدم الانخراط في الحرب التي يشنها الحزب على الشعب السوري، وتوسعة للغطاء السياسي لجريمته، ستنضم إليه من الآن فصاعداً أطرافٌ ناهضت سياساته السورية، واستفزازاً لقوى سورية، اتخذت مواقف غلب عليها ضبط النفس، لكنها لن تتمكّن من مواصلتها، في حال أفاد الحزب من أجواء لبنان الجديدة، لتوسيع جرائمه ضد السوريين إلى لبنان، بغطاءٍ من رئيسٍ لا يتوقف يوماً عن تحريض اللبنانيين ضد اللاجئين، وعن توجية إهاناتٍ لا تحتمل إليهم، إذا لم يحفظ لسانه من رئاسته، فصاعدا لن يسهم موقفه في حماية لبنان، ولن يتمكّن الشيخ سعد، في حال صار رئيساً للحكومة، من كبح التصعيد المؤكد لاعتداءات حزب إيران على اللاجئين، وما قد يترتب على ذلك من تعقيداتٍ لا يحتاج أحدٌ إليها غير إيران وحزبها، واللذان يعتقدان أن غلبة الروس والإيرانيين الظاهرة في سورية لا بد أن تترجم إلى غلبة داخلية في لبنان. ربما كان الشيخ سعد يعتقد أن ملاقاة الحزب في ثمانين بالمائة من الطريق سيجّنب لبنان عقابيلها، لكن جميع الدلائل تشير إلى أن نهج إيران سيكون تصعيدياً وتركيعياً في لبنان، سواء انتصرت في سورية أو فشلت.
لذلك، كان من الضروري ربط مقاومة خطط حزب الله السورية بتوحيد اللبنانيين على برامج يمكن، بمساعدتها، احتواء تفوق الحزب العسكري سياسيا، لكن من قرّر القبول بعون رئيساً غفل عن هذا، واتخذ قراراً أدى إلى إضعاف الصف القريب منه، بما لا يبشر بخير أو يسهم في منع الصراع على سورية والمنطقة من أن يصير مفتوحاً وعنيفاً على لبنان أيضاً.
سيضيف الجنرال عون بعض الشرر إلى نيران الحرب الشرق أوسطية، أضرع إلى الله أن يجنب لبنان لهيبها الذي لن يزيده رئيسٌ بمواصفاته غير استعار وضراوة.
تصاعد الاهتمام بقضية التغيير الديموغرافي في سوريا في الفترة الأخيرة في المستويين السوري والدولي، خصوصًا في ظل عمليات التهجير القسري الذي يواصله نظام الأسد وحلفاؤه في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وترحيلهم إلى مناطق أخرى، وهي سياسة تكمل عمليات التهجير الواسعة، التي دفعت ملايين السوريين للخروج من مدنهم وقراهم، والانتقال إلى مناطق أخرى، فيما غادر سوريا أكثر من خمسة ملايين نسمة إلى الخارج، الأمر الذي يعني تغييرات عميقة في البنية السكانية لسوريا، ليس لناحية عدد السكان فقط، وإنما لهوياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، ومما يزيد الأمر خطورة، أنه في الوقت الذي يتم فيه إجبار سوريين على الخروج من سوريا، أو الانتقال من موطن مولدهم وإقامتهم، يتم استقدام آخرين إلى مناطق الإخلاء، وإسكانهم فيها في إطار عملية التغيير الديموغرافي الحالية.
وبالعودة إلى عملية التغيير الديموغرافي، يمكن القول إنها ليست جديدة. وقد بدأت مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، والأهم فيها قيام الإيرانيين بشراء أراضٍ وعقارات واستئجار أخرى بالقرب مما يصفونه بـ«المزارات الشيعية» المعروفة، مثل مقام السيدة زينب جنوب دمشق، أو تلك التي «اكتشفوها» في مناطق متعددة من الأراضي السورية، ومنها مقام السيدة رقية بنت الحسين في دمشق القديمة، ومقام أويس القرني في الرقة، ومقام النبي هابيل في ريف دمشق الغربي على طريق دمشق/ الزبداني. وعبر بوابة المزارات، أخذت تظهر ملامح شيعية إيرانية في مناطق سورية عدة عبر ثلاثة من المظاهر؛ أولها توسيع تلك المزارات وإعطاؤها طابعًا معماريًا ومذهبيًا خاصًا، والثاني افتتاح مكاتب وحوزات دينية للشيعية الإيرانية ومن يدور في فلكها، والثالث إقامة وتطوير بنية سكانية وأنشطة اقتصادية، ترتبط بتلك المزارات والقادمين إليها، وكان المثال الأوضح في دمشق، حيث تحولت مدينة السيدة زينب بأغلبيتها السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية، وصار الوجود الشيعي ظاهرًا في محيط مقام السيدة رقية في منطقة العمارة بوسط دمشق القديمة.
ورغم استمرار هذا الخط بشكله الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي، وبالتالي السياسي من عملية التغيير الديموغرافي، فقد خلق الصراع المسلح في سوريا خطًا آخر موازيًا من طبيعة أمنية عسكرية، والإشارة تتصل غالبًا، بما قام به «حزب الله» والنظام في الخط الممتد على الحدود السورية - اللبنانية في محافظتي حمص وريف دمشق الغربي. ومنذ بداية الصراع المسلح، عمل «حزب الله» والنظام على تدمير مدن وقرى هذا الخط بالهجوم على قصير حمص، وتهجير سكانها، واستيطان «حزب الله» بمسلحيه وعائلاتهم فيها، وبناء معسكر لتدريب الأطفال على القتال، وضمهم إلى قواته، وجرى اتباع المسار نفسه تقريبًا في التعامل مع مدينة يبرود، التي تحولت إلى قاعدة عسكرية وسكنية لـ«حزب الله» في القلمون الغربي، فيما كانت ميليشياته بمشاركة قوات النظام، توسع نشاطها غرب دمشق، وتحاصر مدنًا وقرى، منها الزبداني ومضايا، التي جرى في العام الماضي ترحيل أغلب سكانها قسريًا، مما مهد فعليًا لإحلال مستوطنين مكانهم باستقدام سكان من بطانة «حزب الله» ومؤيديه، وهو الأمر المنتظر في داريا، التي تم ترحيل من تبقى من سكانها أخيرًا.
ورغم أن لهذا الخط نفس هدف الخط السابق من تأمين وجود اجتماعي - اقتصادي وثقافي وبالتالي سياسي، فإنه يزيد عليه هدفًا في غاية الأهمية، وهو هدف أمني - عسكري، أساسه سيطرة شيعية مؤيدة لنظام الأسد وإيران على جانبي الحدود السورية - اللبنانية، وتأمين طريق دمشق - شتورا وصولاً إلى بيروت.
وإذا كانت عملية التغيير الديموغرافي، قد أظهرت استهداف المسلمين السنة، باعتبارهم أكثرية سكان المدن والقرى، التي كانت موضع تهجير قسري، فإن الأمر لم يقتصر على هؤلاء وحدهم، كما تدلل الوقائع. ففي القصير ويبرود، كما في الزبداني ومضايا وداريا سكان من المسيحيين السوريين، جرى ترحيلهم قسريًا أيضًا في إطار السيطرة الأمنية - العسكرية على المناطق الحساسة، وهذا ما جرى ويجري العمل عليه في قلب العاصمة دمشق، إذ تتواصل ضغوطات على المسيحيين في أحياء القيمرية وباب توما المجاورين لحي الأمين الذي تعيش فيه أغلبية شيعة دمشق لبيع بيوتهم والخروج من المنطقة، كما يجري الاستيلاء على البيوت، التي خرج منها سكانها لسبب أو لآخر، وإحلال آخرين مكانهم في إطار تشييع المنطقة كلها، وقد تعرضت مدينة السويداء، التي تسكنها أغلبية من الدروز السوريين في العامين الأخيرين إلى حملة تغيير سكاني، عبر سعي لشراء بيوت وعقارات فيها بأسعار خيالية، بهدف خلق نواة لاستيطان «شيعي» موالٍ لنظام الأسد وإيران، لكن انتباه أهالي السويداء، حد من تحقيق هذا الهدف، وتتكرر بعض تفاصيل هذه الظاهرة في كثير من المدن الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق وطرطوس واللاذقية.
وكما يتنوع السكان الذين يستهدفهم التغيير الديموغرافي، فإن الذين يحلون مكانهم متنوعون أيضًا، فإضافة إلى عناصر الميليشيات الطائفية من «حزب الله» اللبناني إلى حركة النجباء والفاطميين وغيرها من العراقيين والميليشيات الأفغانية والإيرانية وعائلاتهم الذين يحلون مكان السكان المرحلين قسريًا، فإن السلطات السورية فتحت الأبواب لمؤيديها من الجنسيات العربية والأجنبية للحصول على الجنسية السورية، لتمكينهم من شراء الأراضي والعقارات، والانخراط في الأعمال الاستثمارية، الأمر الذي يجعلهم جزءًا من التغييرات الديموغرافية الحالية.
إن عملية التغيير الديموغرافي بما تمثله من مسارات أغلبها دموي وله طابع الإكراه، ومن أهداف أبرزها دعم نظام الأسد وحليفه الإيراني وميليشياته، تمثل واحدة من أخطر جرائم الصراع السوري، بل إنها فتحت الباب واسعًا أمام قوى التطرف، وفي مقدمتها «داعش»، لممارسة هذه السياسة وتعميمها في أنحاء مختلفة من البلاد، مما جعل سوريا ميدانًا لتغيير ديموغرافي متسارع، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وتواصل الصراع المسلح لفترة أطول، الأمر الذي يتطلب تحركًا دوليًا لوقف عمليات التغيير الديموغرافي ومحاسبة المجرمين القائمين عليه وفق مضامين القانون الدولي والإنساني.