كيف سيكون تعاطي الرئيس الأميركي الجديد مع الحرب السورية وما هو مصير العلاقة الأميركية - الروسية إذا فازت هيلاري كلينتون أو إذا فاز دونالد ترامب؟
كان الرئيس باراك أوباما ضعيفاً مع روسيا وممتنعاً عن التدخل والضغط بقوة من أجل رحيل الرئيس السوري بشار الأسد. كما أنه أعطى روسيا الفرصة للتدخل العسكري في سورية لأنه اعتقد أن الصفقة مع روسيا لتدمير السلاح الكيماوي السوري كانت إنجازاً عظيماً وكافياً للسياسة الأميركية. واغتنم فلاديمير بوتين فرصة تراجع أوباما عن أي تدخل عسكري، أو على الأقل فرض حظر للطيران فوق سورية، للقيام بعملية عسكرية ضخمة لحماية نظام الأسد والحصول على قاعدة بحرية في المتوسط قرب أوروبا لنشر صواريخه للتصدي لأي عملية عسكرية لحلف شمال الأطلسي وللأوروبيين دفاعاً عن أوكرانيا. فهل نشهد السياسة نفسها إذا وصلت كلينتون إلى الرئاسة؟
هذا مستبعد. فمساعدو كلينتون من ميشيل فلورنوا (وزيرة دفاع محتملة) ووليام بيرنز (وزير خارجية محتمل) وجيك سوليفان (مستشار أمن قومي محتمل)، كلهم بحسب معلومات المسؤولين الفرنسيين كانوا يتمنون سياسة أكثر حزماً ومبادرة لإدارة أوباما في سورية. صحيح أن من المستبعد تدخل كلينتون عسكرياً في سورية، لكنها كررت مرات عدة أنها تؤيد إقامة مناطق حظر للطيران لإدخال المساعدات الإنسانية. وهي تؤيد، ومساعدوها الذين عملوا في إدارة أوباما، مزيداً من الضغط العسكري على بشار الأسد، وفي الوقت نفسه محاربة «داعش» كما يفعل أوباما. وليام بيرنز يعرف جيداً النظام السوري، فكثيراً ما كان يتفاوض معه في شأن لبنان. وهو ديبلوماسي محنك كان لاعباً أساسياً في التفاوض مع إيران على الملف النووي. وهناك أيضاً ديبلوماسيون محنكون سيلعبون أدواراً معه مثل السفير جيفري فيلتمان الذي يعمل الآن في الأمم المتحدة، والديبلوماسي الأميركي المسؤول عن تركيا الآن جوناثان كوهين، وهو من الجيل الصاعد في وزارة الخارجية.
كل هؤلاء لهم خبرة في المنطقة، وقد يكونون إلى جانب كلينتون في رسم سياستها في سورية ومواجهة روسيا. كما أن كلينتون أيدت من موقعها في وزارة الخارجية في العام 2012 الدعم الأميركي للثوار ضد الأسد. وأيدت موقفاً واضحاً من روسيا للقول إن الإدارة الأميركية تريد إقامة مناطق حظر طيران لتأمين المساعدات. ونقل عنها انتقاد لسياسة أوباما في سورية باعتبار أن «أحداً لم يقف بوجه الأسد للضغط عليه ودفعه إلى الرحيل، والنتيجة أن الكارثة الآن أكبر بكثير في سورية مما نشهده الآن في ليبيا».
في المقابل إذا فاز ترامب فستكون أولويته هي التخلص من «داعش». وهو قال إن «أول ما ينبغي أن نقوم به هو التخلص من داعش قبل الحديث عن سورية»، معتبراً أن مصير الأسد «ثانوي». كما أنه معروف بقربه من بوتين والأثرياء الروس المحيطين به. ومما لا شك فيه أن احتمال وصول ترامب إلى الرئاسة أمر يخيف كثيرين من مسؤولي العالم وشعوبه. فهذا الرجل الشعبوي الذي يشبه كثيراً زعيم «الجبهة الوطنية» الفرنسي السابق جان ماري لوبن مرعب في حدة مواقفه وجهله. واحتمال وصوله إلى سدة الرئاسة الأميركية سيكون بمثابة صدمة كبرى للعالم وكارثة للديبلوماسية الأميركية.
المرجو أن تقود نتيجة امتحان الديموقراطية الأميركية إلى تفاوض حقيقي لإنهاء مأساة سورية الكارثية المستمرة. والمطلوب إيقاف التنازل الأميركي الذي شهده عهد أوباما، وأن يُعيّن وزير جديد للخارجية أكثر حزماً وذكاء من جون كيري في مواجهة الثعلب الروسي سيرغي لافروف الذي تفوق بسهولة في التفاوض مع نظيره الأميركي.
قبل عشرة أيام أصدرت محكمة في بلجيكا حكماً بتغريم الحكومة 4000 يورو عن كل يوم تؤخر فيه إصدار تأشيرة دخول لأسرة سورية من مدينة حلب من أجل تقديم طلب للجوء، بواقع ألف يورو يومياً عن كل فرد من أفراد الأسرة الأربعة.
تقدِّم هذه القصة وجهاً مشرقاً لقضاء ينتصر للقواعد الإنسانية المحضة ويضعها فوق كل الاعتبارات، لكن هذا ليس كل شيء في الحقيقة، فبقية التفاصيل تنتمي إلى الواقع المر الذي يعطي وزناً أكبر لكثير من الاعتبارات الأخرى. فقد توعَّد وزير الهجرة البلجيكي بأنه سيسلك كل السبل من أجل الطعن في هذا الحكم «الجنوني»، وأنه لن يسمح بفوضى اللجوء التي ستترتب على هذا الحكم.
في تفاصيل القصة كذلك أن الحكم أصدرته محكمة ابتدائية، بمعنى أن هناك درجات أخرى للتقاضي ستلغي هذا الحكم غالباً، وستجعله مجرد تسجيل موقف شخصي لا قوة له على التطبيق، من جانب قاضٍ أراد تقديم لفتة رمزية يعلم أنها لن تتجاوز الورق الذي كتبت عليه.
في التفاصيل أيضاً أن قانون اللجوء البلجيكي يشترط أن يكون طالب اللجوء وصل بالفعل إلى الأراضي البلجيكية ليتقدم بطلبه، ويعني ذلك أن اللاجئ يجب أن يخوض رحلة الأهوال عبر البحر على سفينة متهالكة، وأن يسلم نفسه لسماسرة الهجرة غير القانونية وعصاباتها، وأن يقترب من الموت مرات مع أطفاله على النحو الذي صدم العالم حين تسربت صورة واحدة للطفل إيلان كردي.
هذا الوجه لقضية اللجوء، أو مأساة اللجوء بالأحرى، ليس إلا واحداً من وجوهها الكئيبة وتداعياتها المؤلمة التي ستمتد طويلاً. ولست ممن يميلون إلى المزايدة على الغرب أو اتهامه في كل شاردة وواردة، لكن هناك الكثير من علامات الاستفهام عن مواقف الغرب من قضية اللاجئين، لا سيما في حال المهاجرين بسبب الاضطرابات العربية التي تتفاقم منذ خمس سنوات تقريباً. وتزيد الحاجة إلى المساءلة مع ما تتبرع به الدول الغربية من دروس تحت مظلة «حقوق الإنسان» تُلقيها على دول الخليج العربي التي بذلت كل ما في وسعها من أجل ضمان درجة من الاستقرار في محيطها، وتكبدت من مقدَّراتها الاقتصادية وجهدها السياسي ومن أرواح أبنائها الكثير، لترتق الثغرات والشقوق التي يتدفق منها العنف والإرهاب والفوضى والكراهية، في ظل مواقف غربية مثيرة للشكوك، ومكافآت أوروبية وأميركية لقوى ودول وجماعات تحمل إلى المنطقة وصفة الخراب والفشل.
من الحقائق المهمة أيضاً في قضية اللاجئين على المستوى العالمي أن دول أوروبا جميعها استقبلت نحو 500 ألف لاجئ وفقاً لما أعلنته الحكومة السورية الموقتة على موقعها الإلكتروني في نهاية العام 2015، ونقلته عنها صحيفة «الحياة» في عدد 26 كانون الثاني (يناير) 2016، وذلك من مجموع خمسة ملايين لاجئ سوري. والدول التي استقبلت اللاجئين بالفعل هي دول الجوار، ومعظمها دول نامية تعاني مشكلات كبيرة، إذ استقبل الأردن نحو 660 ألف لاجئ، واستقبل لبنان نحو مليون و100 ألف لاجئ. وكلا البلدين يتسم بقلة عدد سكانه، ولذا فإن هناك لاجئاً مقابل كل خمسة لبنانيين تقريباً، ولاجئاً مقابل كل عشرة أردنيين. وتستقبل تركيا نحو مليونين ونصف المليون لاجئ، فيما تستقبل مصر نحو 125 ألف لاجئ. ويعني ذلك أن الدول الأوروبية الأكثر ثراءً تلقي العبء على دول عربية وإقليمية أصغر وأقل من جهة الإمكانات، فيما تتصدر الواجهة عالمياً في وسائل الإعلام، وتبدو وكأنها الجهة الوحيدة التي توفر للاجئين فرصة النجاة.
لقد واجهت دول الخليج العربية اتهامات وغمزاً من جهات عدة في ما يخص قضية اللاجئين السوريين، لكن كل من ينظر إلى القضية بعيداً من الأهواء سيجد أن نحو مليوني سوري في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وبقية دول الخليج يجدون البيئة الآمنة للإقامة والعمل المجزي، ومنهم مئات الآلاف الذين استقبلتهم دول الخليج بعد العام 2011، وأن ملايين آخرين من السوريين يعتمدون على ما يرسله إخوانهم العاملون في دول الخليج من تحويلات مالية ساعدتهم طوال السنوات الماضية على مواجهة الظروف القاسية، ولا تزال.
ووفق تحليل لـ «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» كتبته لوري بلوتكين بوغارت، ونُشر باللغة العربية على موقع المعهد في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، فإن «الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر هي من بين أكبر الجهات المانحة للمساعدات الإنسانية إلى السوريين حتى الآن». وعلى رغم أن التحليل المذكور لم يكن منصفاً بما يكفي، فإنه لم يستطع إهمال حقيقة دور المساعدات الخليجية التي لعبت دوراً أساسياً في تخفيف وطأة اللجوء ومشاكله.
وتمثلت الاستجابة الإماراتية في تشييد وإدارة مخيمي الأزرق والزعتري للاجئين السوريين في المملكة الأردنية الهاشمية، ومتابعة حاجاتهم من رعاية وتطبيب وتعليم، إضافة إلى الدعم المادي واللوجستي لمخيمات اللاجئين السوريين في لبنان، ولاقت هذه الجهود صدى طيباً في نفوس اللاجئين والمسؤولين المحليين والأمميين، ما حدا بالمسؤولين في اليونان إلى الطلب من الإمارات تقديم خبرتها في بناء وتنظيم مخيمات اللاجئين. وقام «الهلال الأحمر الإماراتي» فعلاً بتجهيز مخيم اللاجئين في مدينة لاريسا، ويعمل على تجهيز مخيم آخر في أثينا.
يتبقى أن اللاجئين السوريين في البلدان العربية ودول الجوار هم الأكثر فقراً والأقل تعليماً، وبعد عام أو عامين أو ثلاثة أعوام لا بد من أنهم عائدون إلى بلدانهم، وأن من نجحوا في بلوغ الأراضي الأوروبية هم من القادرين غالباً على تمويل هذا الوصول وتكبد آلاف الدولارات لتلبية متطلبات السفر، ومعظمهم من المهنيين المهرة، أطباءً ومهندسين وأساتذة جامعات ومحاسبين وقانونيين واختصاصيين في تكنولوجيا المعلومات، أو ممن كونوا ثروات صغيرة أو متوسطة سينقلونها معهم إلى أوروبا. وهؤلاء تلقوا تعليماً جيداً في بلادهم أو أنفقوا ليحصلوا على تعليم في بلدان غربية، بمعنى أنهم ثروة بشرية مؤهلة وجاهزة لإثراء الاقتصاد الغربي وضخ مزيد من الحيوية فيه، لا سيما مع النقص الكبير في عدد المواليد وزيادة عدد كبار السن الذين يمثلون عبئاً اقتصادياً على بلدانهم.
العائدون إلى سورية من مخيمات اللجوء في الدول المجاورة لن تنتهي مشكلاتهم مع العودة، وسيحتاج حلها إلى أكثر من جيل لتجاوز أزمات الحرمان من التعليم وتنامي الأمية وفقدان الموارد الاقتصادية وتدني مستوى المهارات، هذا إذا افترضنا أن الأمور في سورية ستكون في وضع يسمح لها بالتقدم. وبذلك تكون أوروبا نالت ربحاً صافياً من مأساة اللاجئين، وأتيحت لدولها فرصة انتقاء من تمنحه حقوق اللجوء والعمل على أرضها، أو الجنسية في ما بعد، وتركت خسارات صافية لدول المنطقة التي ستعاني تبعات اقتصادية وسياسية وأمنية لسنوات اللجوء، وتدفع فاتورة مرهقة لمواجهة التهديدات التي ستُفرض عليها.
أخيراً، فإن تنامي مشاعر كراهية الأجانب في أوروبا وعودة النزعات العنصرية لم تنتظر كثيراً لتُفصح عن نفسها بشراسة، ولن يكون مستغرباً أن يتسبب ذلك في إيجاد بيئة خصبة للتطرف واجتذاب بعض اللاجئين السابقين إلى جماعات التشدد والإرهاب، بما لها من تأثير عابر للحدود وللقارات، وبما سيؤدي أيضاً إلى فاتورة معنوية يتحملها العالم العربي، وفي القلب منه دول الخليج.
فجأة٬ تفجرت المعارك٬ وُبنيت التحالفات العسكرية٬ لقتال «داعش»٬ ومحق خلافتها٬ في الموصل العراقية٬ والآن الرقة السورية.
جيد٬ لكن من الصعب أن يستبعد المرء من ذهنه الغرض الدعائي الانتخابي للإدارة الأميركية الأوبامية٬ بتحقيق نصر «سريع» و«رمزي» حتى يقال للناخب الأميركي ٬ ها هي إدارته جلبت لهم رأس البغدادي٬ خليفة «داعش»٬ مثلما فعلت في مشهد سينمائي٬ مع مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن.
هناك «هرولة» أميركية بالأمتار الأخيرة من عهد أوباما٬ لحصد مكاسب سياسية وعسكرية سريعة٬ وجزء من «تسريع» الضغط الأممي في اليمن٬ لقبول خطة ولد الشيخ٬ يأتي بهذا السياق.
غير أن الأهم من هذه الهواجس٬ هو أن معركة عسكرية «جادة» تخاض لأول مرة ضد «داعش» بالعراق وسوريا٬ بدعم أميركي عبر الإسناد الجوي والتخطيط والتدريب والمعلومات الاستخبارية٬ ومشاركة ميدانية فعالة من الجيش العراقي٬ والبيشمركة الكردية «لّوثتها» مشاركة الحشد الشعبي الإرهابي٬ بلا مبالاة أميركية٬ وغطاء حكومي عراقي.
بعدت تركيا من معركة الموصل٬ وتُرك الأمر لإيران٬ وحسب حيدر العبادي الذي توعد الجيش التركي٬ فإن التدخل الإيراني «حلال»؛ لأنه بطلب الحكومة استُ «المستقلة» في بغداد!
الآن يتكرر السيناريو بـ«الرقة» السورية٬ من خلال تصريح وزير الدفاع الأميركي كارتر «السريع» عن قرب معركة الرقة٬ بينما قوات حماية الشعب «ميليشيات الكرد وبعض العرب» أعلنت أنها بالفعل بدأت المعركة. وحسب طلال سلو٬ المتحدث باسم هذه الميليشيات٬ فإن المشاركة «حصرية» لـ«وحدات حماية الشعب»٬ ونص ا»!
بصراحة على استبعاد تركيا٬ وموافقة أميركا على ذلك٬ مع أن كارتر قال في تصريح عجيب: «سنتشاور مع الأتراك لاحقً عملية الرقة سميت «غضب الفرات»٬ رًدا ربما على الاسم التركي لعملياتها شمال سوريا وغرب الفرات «درع الفرات». هدف تركيا كان٬ إضافة لمحاربة «داعش»٬ منع قيام كيان كردي٬ بقيادة ميليشيات صالح مسلم٬ التي لا تراها تركيا إلا نسخة سورية من حزب العمال الكردستاني.
ليست أميركا وحدها المتحمسة لمعركة الرقة٬ فرنسا وبريطانيا٬ وطبعا تركيا٬ الكل متفق على محاربة «داعش» وكسرها٬ لكن الخلاف هو حول من يدير المعركة٬ وما بعد المعركة.
بصياغة أخرى٬ صارت الحرب على «داعش» وهي حرب شرعية ضرورية مجمع عليها ذريعة لدى بعض الأطراف٬ طائفًيا أو قومًيا٬ أو مًعا٬ لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية.
هذه المكاسب الآن٬ سواء من قبل «الحشد الشعبي» في العراق٬ أو ميليشيات وحدات الحماية بسوريا٬ على حساب تركيا٬ هذا واضح.
ربما يدفع الأتراك ثمن تأخرهم في النزول للميدان السوري٬ ضد «داعش»٬ وغير «داعش»٬ ومن يأتي للحفلة متأخ ًرا٬ فمن الصعب عليه العثور على كرسي!
غداً يتبوأ قيادة أميركا والعالم رئيس جديد. وكان من عادة أهل الشرق الأوسط أن يترقبوا قيادة تنصفهم في قضيتهم المركزية. ظلوا عقوداً على هذه الحال. واليوم يترقبون وقد تبدلت أحوالهم وتعاظمت قضاياهم. وأياً كان الرئيس الجديد سيظلون إلى أجل مجهول نهباً لهذه الفوضى العارمة. فالإدارة الأميركية الآتية ستكون أمام امتحان صعب. فالصراع على الإقليم بلغ ذروة لم يشهدها في تاريخه الحديث. وهذا التزاحم على اقتسام جغرافيته، أو بالأحرى ديموغرافيته، صورة عما سيؤول إليه المشهد الاستراتيجي عاجلاً أم آجلاً. وقد يطول حلول اللحظة المناسبة أمام الساكن الجديد للبيت الأبيض للبدء برسم النظام الإقليمي على أشلاء ما خلفته وتخلفه الحروب الأهلية والمواجهة المفتوحة مع الإرهاب. وقد لا تصح القاعدة أن ثمة ثوابت في السياسة الأميركية، أياً كان الحاكم ديموقراطياً أم جمهورياً. وأن المواقف في حمأة السباق الرئاسي ليست معياراً دقيقاً أو ثابتاً أو تصلح لما بعد الانتخابات. بالتالي، ليس كل ما ألقاه المرشحان هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في السباق إلى البيت الأبيض قابلاً للتحقيق. أو أن أحدهما سيكون قادراً على التزام وعوده وشعاراته. نال الرئيس باراك أوباما جائزة نوبل للسلام... وأي سلام!
تبدلت الثوابت في السياسة الأميركية عموماً وحيال الشرق الأوسط خصوصاً لأسباب عدة. أبرزها ما طرأ على الاقتصاد العالمي وخلف آثاراً واسعة على مفهوم العولمة والتجارة الحرة. وما أصاب قطاع النفط دولياً وأدوات إنتاجه خلف متاعب واتجاهاً إلى تقليص الاعتماد على الزيت العربي تدريجاً. وبين الأسباب أن روسيا تنهض مجدداً لتقديم نفسها قطباً دولياً منافساً. فضلاً عن صعود الصين الذي أرغم إدارة الرئيس أوباما على نقل ثقل الاهتمام الاستراتيجي من الشرق القريب إلى البعيد، إلى المحيط الهادي وبحر الصين. وهناك تنامي الإرهاب وانتشاره ظاهرة تتجاوز كل الحدود. وكذلك نشوء قوى إقليمية ومحلية عصية على الانصياع لمفاهيم ومواثيق دولية ترعى العلاقات بين الأمم. ولعل أبرز هذه الأسباب انهيار المنظومة العربية على نحو لم يشهده التاريخ الحديث لدول المنطقة. والاتفاق النووي مع إيران وما جر من تبدل في خريطة العلاقات الغربية عموماً مع الشرق. فضلاً عن طموحات الجمهورية الإسلامية باستعادة عصر إمبراطوري غابر. تماماً كما تركيا الأردوغانية الطامحة هي الأخرى إلى بعث العثمانية مجدداً. تحولات استراتيجية جذرية بدلت في الثوابت التي درج الرؤساء الأميركيون لعقود الحفاظ عليها ورعايتها. وبدلت في صورة الإقليم وشبكة علاقاته ومصالحه، بعدما كسرت حدوداً محرمة وأحيت شياطين حروب لا أفق للخروج منها قريباً.
لن يكون بمقدور الرئيس الأميركي الجديد، أياً كانت هويته، أن يتعافى سريعاً من مخلفات إرث سلفه الحافل بالتعقيدات والملفات الشائكة. من تداعيات الحروب التي تنهش دولاً عربية وترهق اقتصادات دول أخرى، إلى المتاعب التي يعانيها الجناح الآخر من الحلف الأطلسي عموماً. سواء بمواجهة الصعود الروسي وهجومه من أوكرانيا إلى المشرق العرب وشمال أفريقيا، إلى مصاعب أوروبا واهتزاز اتحادها والمصاعب التي تواجهها من تداعيات «الربيع العربي»، وتحديات الإرهاب واللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. ما ستواجهه أي إدارة جديدة ليس أزمات تستلزم حلولاً، بل تداعيات ما خلفه القعود عن معالجة هذه الأزمات، سواء في ليبيا أو سورية والعراق واليمن. وهي تداعيات ولّدها انكفاء الرئيس أوباما و «وفاؤه» بشعارات عدم التدخل وتصفية مخلفات حروب سلفه، وميله إلى إشراك قوى عالمية أخرى في قيادة شؤون العالم. فانتهى الأمر بما عليه الحال في المشرق العربي، وحتى أفريقيا الميدان المقبل للحرب على الإرهاب.
كلينتون التي خبرت السياسة الخارجية وبنت علاقات مع معظم قادة العالم، ستعمل، إذا فازت، على الخروج الصعب من سياسة الانكفاء التي مارسها أوباما. ستواصل الحرب على «داعش» في سورية والعراق، هذا إذا لم يكن التنظيم قد تلقى، قبل تسلمها السلطة، هزيمة مدوية في كل من الموصل والرقة. وكانت من الداعين إلى مزيد من الانخراط في الأزمة السورية. وطالبت بالتدخل المباشر. وأيدت إنشاء مناطق آمنة، ومناطق حظر جوي، والمساعدة على إطاحة النظام. لكنها تدرك أن الرياح الروسية تجري بخلاف ما تشتهيه. تبدل المسرح في بلاد الشام ويتبدل كل يوم. ولن تبدد روسيا الفرصة المواتية من أجل تمكين النظام من استعادة حلب وغيرها من المناطق. ليصبح عندها من المستحيل على ساكن البيت الأبيض أن يبدل في الواقع الجديد. حتى وإن أعادت تصحيح العلاقات مع تركيا، فإن هذه لن تكون في موقع القادر على مواجهة الحضور الروسي والإيـــراني في سورية والعراق. بالكاد ستتمكن أنقرة مــــن الاحتفاظ بما اقتطعت لها من شريط في أراضي جارتها الجنوبية، ومن قاعدة ومواقع نفوذ في المحافظــــات العراقية السنّية الشمالية وكردستان. هاجـــسها أن تحجز لها كرسياً فلا تذهب حملاتها وجهـــودها هباء عند بدء رسم النظام الإقليمي. وأن تضمن مصالحها الأمنية أولاً والاقتصادية ثانياً، ودورها لاعباً في المنطقة. لكن ما تنبئ به معركة الموصل والرقة من تداعيات وصراعات بين المكونات الداخلية في كل من العراق وسورية وبين القوى الإقليمية لن يتيح لأي إدارة ترف الانتظار.
وقد لا تستطيع كلينتون رأب الصدع الذي أصاب العلاقة التاريخية مع أهل الخليج أو عرب الاعتدال عموماً. مصر يممت شطر روسيا، ومثلها دول أخرى تسعى إلى بدائل من غياب الأميركي. لن تكون مهمتها سهلة في إعادة العلاقات إلى ما كانت. هناك عوامل تحكم هذا الملف المعقد. صحيح أنها تؤيد الاتفاق النووي وتبدي في المقابل اهتماماً بترميم العلاقات مع أهل الخليج لمواصلة الحرب على الإرهاب. وأنها تبدي رغبة في الحد من تمدد إيران والتخفيف من وطأة نفوذها. لكن الصحيح أيضاً أن ما خلفته الحروب من تغييرات ديموغرافية في سورية والعراق وما أحدثه الانقلاب الحوثي في اليمن، لا يشيان بأن مواجهة هذا التمدد ستكون سهلة. فالصراع المذهبي في المنطقة يهدد بحروب متناسلة وبتفكيك كيانات. وقد سعت طهران لبناء توسعها إلى بناء جيوش محلية رديفة للجيوش النظامية في أكثر من بلد. ولم يعد بمقدور اللاعبين الكبار، مهما عظم شأنهم أن يملوا إرادتهم، كما كانت الحال أيام انقسام العالم بين قطبين. ثمة قوى محلية وإقليمية يصعب إخضاعها لركوب قطار تسويات لا تروق لها ولا تراعي مصالحها. لذا، لن يكون الأمر سهلاً. فالحروب دمرت العلاقات بين المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية في أكثر من بلد عربي وفتحت جروحاً لن يأتيها الترياق من العراق. والصراع المذهبي والإقليمي المتصاعد على حلب والموصل يوحي بأن القوتين الكبريين ليستا قادرتين على فرض رؤيتهما، إذا قدر لهما التفاهم. ولا شيء يشي أيضاً بأن اللاعبين الأصغر تعبوا أو أنهكهم الاستنزاف. يعني ذلك أن المشرق العربي سيظل في محطة انتظار قد تطول قبل أن يشهد حركة دولية لوقف الحروب والصراعات.
بالطبع لن تكون الصورة أفضل إذا فاز ترامب. فالرجل ساهم في تعزيز ظاهرة الإسلاموفوبيا. ولا حاجة إلى التذكير بمواقفه وتصريحاته العنصرية. سيؤدي وصوله إلى مفاقمة الفتور الذي يعتري علاقات كثير من البلدان العربية مع الولايات المتحدة. وإلى تعزيز ظاهرة الإرهاب تالياً. ولن تكون علاقاته بأوروبا، وحتى ببعض جيرانه في أميركا اللاتينية أفضل حالاً. سيوتر العلاقات مع إيران لمعارضته الاتفاق النووي معها، وقد لا يستطيع إلغاءه. لكن وعده بـ «وقف بناء الديموقراطيات في الدول الأجنبية، وإطاحة الأنظمة والتدخل في قضايا الآخرين» سيطلق يد طهران نحو الإقليم... ويتواصل الصراع المذهبي. مثلما سيطلق يد الرئيس بويتن في سورية وغيرها من المواقع.
وحدها إسرائيل لا يقلقها من سيسكن البيت الأبيض، سواء كان ترامب الذي فاق الصقور في تأكيد العلاقة الاستراتيجية معها، أو كلينتون التي تضع تفوق الدولة العبرية فوق أي اعتبار آخر. فهذه العلاقة ثابتة لا تتبدل أياً كان الحزب الحاكم في الولايات المتحدة. ولا شيء يمكن أن يرجوه الفلسطينيون أو العرب الذين لم تعد قضية فلسطين مركزية أو أولوية. فالرئيس أياً كان لا يمكنه تجاوز علاقات تاريخية راسخة يحرسها الحزبان المتنافسان ويحرصان عليها.
حسب مصادر إعلامية إيرانية وما تداوله موالون للنظام السوري على مواقع التواصل الاجتماعي فإن مجموعة من ضباط الجيش المصري زارت القاعدة العسكرية الروسية في محافظة طرطوس على الساحل السوري، وقالت هذه المصادر إن بعض الجنرالات المصريين قاموا بجولة عسكرية عبر طائرات النظام المروحية على عدة جبهات عسكرية تتبع للثوار في عدة مناطق لم تأت على ذكر أسمائها.
وزعمت هذه المصادر نفسها أن هؤلاء الجنرالات يتبعون للجيش المصري الميداني الثاني الذي يوجد مقرّه الرئيسي في الضفة الغربية من قناة السويس، وبأن هذه الزيارة تأتي بعد أيام من وصول عتاد عسكري وذخائر مصرية خلال الأسبوع الماضي.
يبين توقيت الزيارة إلى القاعدة الروسية الذي يجيء بعد شهر تقريبا من زيارة اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي السوري إلى القاهرة التي التقى فيها بقيادات سياسية وأمنية مصرية، كما يأتي بعد فترة غير طويلة من دعم مصر القرار الروسي حول سوريا في مجلس الأمن.
تواتر هذه الحوادث يكشف في الحقيقة ترابطاً واضحاً فيها ويبيّن أن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يفعل غير أن يكشف علاقته الوثيقة مع النظام السوري تحت رعاية وتشجيع روسي وإيراني أدّيا، بضغط من موسكو وطهران، لحضور مصر الاجتماع الدولي الشهر الماضي في لوزان حول سوريا.
تنتظم الحادثة الأخيرة إذن في نهج متكامل يتزايد حدّة يتمحور إقليميّاً ضد «التحالف العربي» الذي ينتظم دول الخليج العربي (باستثناء عُمان) في اليمن، ويضمّ السعودية وقطر وتركيا في الشأنين السوري والعراقي، والمغرب في الشأن المغاربي (استقبال وفد البوليساريو)، وقد أضافت القاهرة على هذه السلسلة رعايتها مع روسيا لمؤتمر في مدينة غروزني التي استباحتها القوّات الروسية بين 1994 و1999، حول الإسلام أخرجت بموجبه الوهابيين و«الإخوان المسلمين» من حظيرة الإسلام!
بالخطوة الأخيرة يكون النظام المصري قد جمع «المحاسن» وشكّل حلفا عقائدياً مع روسيا وإيران حول تعريف (من هم المسلمون؟) وسياسيا (عبر دعم القرار الروسي في مجلس الأمن واتخاذ خطوات استفزازية ضد السعودية وقطر وتركيا والمغرب) وانتهاء بالتدخّل العسكري في الشأن السوري وهي نقلة غير خطيرة بكل المقاييس، وتلمّح إلى إمكانيات تصعيد وانخراط أكبر في المحور الروسيّ ـ الإيرانيّ ضد بلدان عربية «شقيقة»!
التشجيع الإيراني والروسي لمصر السيسي يضرب عدة عصافير بحجر واحد، ولكنّ فائدته الكبرى تكمن في تغطية أهداف السيطرة الإيرانية (التي أججت أوار النزاع الشيعي ـ السني) والروسية (التي تعزز نفوذها وتنقل معركتها من أوكرانيا وأوروبا الشرقية إلى سوريا وليبيا وتفتح جغرافيتها على البحر المتوسط)، فبانضمام مصر يتوسع قوس الأزمة العربية لتصبح صراعا بين أغنى وأكبر دولتين «سنّيتين» (وبالتالي يخفّ الضغط على مشروع الهيمنة الطائفية الشيعية لإيران)، ويضمن الروس رواجاً لاستراتيجيتهم في المنطقة العربية.
يأتي هذا التصعيد المصريّ في مطلع أزمة اقتصادية ومعيشية مفتوحة المصاريع بعد «تعويم» الجنيه وبدء رفع الدعم عن السلع الأساسية والوقود، وقد يكون المرتجى منه تصدير مشاكل مصر الداخلية عبر افتعال أزمات خارجية، أو هو ببساطة مجرّد انسجام سياسي وعسكري مع النفس.
في كل الأحوال فإن هذا الاتجاه قد يثبت، وبسرعة، أنه خطأ كارثي فما هي الحكمة من ربط أكبر دولة عربيّة بنظام وحشيّ دمّر بلده وأصبح ألعوبة في يد دولتين أجنبيتين لا تكنّان، بالتأكيد، أي خير للعرب.
تسربت قبل مدة قصيرة معلومات تقول إن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، اتخذ قراراً باستعادة الموصل والرقة، قبل رحيله من البيت الأبيض. وكان التحضير لمعركة الموصل قد امتد طويلاً بعد استعادة الفلوجة، والإشارة الى "قرب" استعادة الموصل. كذلك كانت هناك إشارات أميركية بتحضير القوى لاستعادة الرقة.
بدأت الآن عملية استعادة الموصل، وهي تتقدم بشكل سريع كما يبدو. كما أشار وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، وكذلك وزراء دفاع التحالف الدولي (وهنا فرنسا خصوصاً) إلى ضرورة ربط استعادة الموصل باستعادة الرقة. وبالتالي، يمكن تأكيد أن القرار الأميركي بات يتمثل في حسم "المعركة"، وإنهاء سيطرة داعش على كل المنطقة الممتدة من الموصل إلى الرقة. ولا شك في أن تركيا، عبر دعم "الجيش الحر"، تقوم بإنهاء سيطرة التنظيم على مناطق شمال شرق حلب، وعلى الحدود التركية السورية بين جرابلس وبلدة الراعي. ومن ثم يبقى مصير دير الزور غير واضح، إلا إذا تقدمت قوات سورية الجديدة التي دربتها أميركا في الأردن من التنف نحو البوكمال إلى دير الزور، على الرغم من أن هذه المناطق إلى تدمر هي "في عهدة" روسيا، وتخضع لنشاط طيرانها، مع وجود قوات للنظام فيها.
لكن، يمكن لمس أن التركيز الأميركي الآن هو على "داعش العراق"، حيث يبدو أنه بات ضرورياً إنهاء وجودها في مختلف مناطق العراق، وفرض سيطرة الدولة عليها. وربما تبقى "داعش سورية" إلى مرحلة تالية، أي إلى مرحلة "الرئيس الجديد"، وتحديد أسباب ذلك يفرض الإجابة على السؤال: هل حققت أميركا ما تريد في العراق، لكي "تنتهي مهمة داعش"؟ وبالتالي، هل "مهمتها" ما زالت قائمة في سورية، لكي يجري تأجيلها إلى رئيس جديد، ربما يكون أشد في "مواجهة" العنجهية الروسية؟
في العراق، على الرغم من استمرار دور الحشد الشعبي، الحشد الطائفي، الذي يمارس المجازر في المناطق التي تحرَّر من داعش، انطلاقاً من أن كل ساكنيها هم دواعش، فإن ما يبدو واضحاً أنه بات لأميركا عدد كبير من القوات في العراق، ستبقى إلى أمد طويل، ربما كما كان مخططاً لذلك بعد احتلال العراق، حيث لا بد من وجود بين عشرة وخمسة عشر ألف جندي في القواعد الضخمة التي أشادتها. فهذا الوجود وحده هو الذي يضمن الهيمنة على القرار السياسي للدولة، واحتكار ثرواتها، ولا شك في أن تدخلها بذريعة داعش (كانت لعبة متعددة الأطراف، منها رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، وأميركا وبعض الدول الإقليمية) كان يهدف إلى ذلك بالضبط، فقد قرّرت العودة إلى السياسة التي كانت مرسومة منذ احتلال العراق، وأهملتها بعد الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008، وخصوصاً بعد شعور الإدارة الأميركية أن الأزمة مزمنة، ولا حل لها. فأميركا منذ عقود سابقة باتت معنيةً بوضع يدها على النفط في الخليج العربي، واستطاعت ذلك منذ الحرب الأولى سنة 1991، حيث أوجدت قواعد عسكرية في تلك الدول. وكان تدخلها في العراق لإكمال هذه السيطرة، فالخليج العربي (ومنه العراق) "جزء من الأمن القومي الأميركي".
السؤال هنا هو: هل حققت أميركا ما يسمح لها بإعادة السيطرة على العراق، وبالتالي، تحجيم سيطرة إيران؟ لا يعني حسم الصراع ضد داعش إلا ذلك، فقد أتت من أجل ذلك بالضبط. وعلى الرغم من الميل الأميركي للتفاهم مع إيران، إلا أن هذا التفاهم يخضع لمصالح أميركية في العراق، وليس من الممكن لأميركا أن تقبل أن تهيمن على النفط دولة غيرها، خصوصاً أن هيمنة إيران تعني التحكُّم بجزء مهم من النفط العالمي، ويجعل قدرتها على المناورة كبيرة. لكن هذه النتيجة تفرض التطرّق لوضع الحشد الشعبي، الخاضع لقيادة إيرانية وسياسة إيرانية، ولتعصب طائفي مستمد من أيديولوجية طائفية ضيقة، عممتها السلطة في إيران. فهل تعني نهاية داعش ميلاً أميركياً لتحجيم الحشد الشعبي، وتقزيم دوره؟
ربما كان غياب التوافق الدولي، خصوصاً الأميركي الروسي، هو الذي جعل أميركا تميل الى حسم الصراع في العراق، ولإبقائه مفتوحاً في سورية، فقد أربك التصميم الروسي على الحسم العسكري في سورية سياسة أميركا التي كانت تعمل على التوافق على حل سياسيٍّ، يبقي الهيمنة لروسيا بعد أن تكون قد استحوذت على العراق. لكن العنجهية الروسية، وتصعيدها الصراع إلى المدى الأعلى، واستخدام أسلحتها المتطورة، والتدمير الذي تحدثه صواريخها، والذي يقتل الأطفال والنساء والأطباء، جعل أميركا في وضع حرج، فهو يعني "ضعفها"، وهذا ما يتكرّر في ما يخص سياسة أوباما، ويطاول النقد الحزب الديمقراطي المشرف على انتخابات رئاسية حاسمة.
ولا شك في أن قرار أوباما حسم الحرب ضد داعش في العراق، في هذا الوقت بالذات، يرتبط بالانتخابات الأميركية، لأن هذا الحسم سوف يعزّز من حظوظ هيلاري كلينتون بالضرورة (على الرغم من أن الأمور تظهر بشكل واضح أنها محسومة)، ويُظهر أوباما رئيساً قوياً، وهو يغادر البيت الأبيض عكس ما قيل عنه. ولا شك كذلك في أن أميركا ستميل إلى حسم السيطرة على الرقة، قبل نهاية ولاية أوباما. لكن، كما يبدو ستبقى داعش لعبة أميركا في سورية في مواجهة العنجهية الروسية. ماذا يعني ذلك؟
اللعبة الممكنة لكبح العنجهية الروسية، التي لا تخصّ سورية فقط بل تخص منظور روسيا العالمي، التي تريد عبر وحشيتها في سورية أن تفرض سطوتها العالمية، وهذا ما يربك أميركا أكثر من تدمير سورية وقتل السوريين وتهجيرهم، وحتى سيطرة روسيا على سورية. اللعبة يمكن أن تكون الميل الأميركي بالتعاون مع تركيا، هذه المرة، للسيطرة على كل مناطق داعش في سورية، وبالتالي، السيطرة على الشمال والشرق السوريين. فعبر ذلك، يمكن كبح العنجهية الروسية، والتفاوض مع روسيا من موقع مختلف، يجعلها عاجزة عن الرد، لأن ذلك يعني الصدام مع أميركا.
ليس من الممكن أن تجري هذه اللعبة في نهاية عهد أوباما، لهذا ربما سيجري تصدير الدواعش من العراق إلى سورية، ومن ثم تعزيز الدور العسكري الأميركي في سورية. هذا ما يمكن أن يكون أولوية هيلاري، خصوصاً أن تميل إلى "دعم أكبر" للقوى التي تقاتل داعش، وحتى النظام.
تتمثل مشكلة أميركا في أن سورية هي لعبة روسيا للسيطرة على العالم، بعد أن باتت تفكر في تجاوز الثنائية القطبية لمصلحةٍ أحادية، هي زعيمتها. وهذا ربما هو ما يمكن أن يجعلها "تتشدّد" قليلاً في "مواجهة" روسيا في سورية بالتحديد، لكن الحل في سورية سياسي، وتحت الهيمنة الروسية، لا تغيير في ذلك. ما تريده أميركا من ذلك هو بالضبط "كبح عنجهية روسيا"، و"تعريفها حدودها". هل ينجح ذلك مع دولة "منفلتة الأعصاب"؟
في سورية يتمحور الصراع على العالم، هكذا بالضبط.
ليس هناك من شهادة على سوء حال عرب اليوم أشد صدقاً من موقف النخب المتحالفة مع الأمر القائم، الرافضة مقاصد الربيع العربي، وتعتقد أن الإنسان لا يكون حراً في دنياه إلا بقدر ما يكون عبداً لآخرته.
وليس هناك من دليل على إفلاس هذه النخب أشدّ نصاعةً من عجزها عن أن ترى في الانتفاضة الشعبية ضد الفساد الإنساني والخراب السياسي جهداً مفصلياً وإنقاذياً، ينهض به عوام الناس من أجل أوطانهم، دولاً ومجتمعات، قبيل سقوطها الوشيك أمام تحدياتٍ لن تقدر على مواجهتها في ظل أوضاعها الراهنة التي تبلورت في سياق هزائم أنزلها بها الخارج، وتهاوٍ داخلي أنزله بها الممسكون بمجتمعاتها، تواصلت أكثر من نصف قرن، لو وعت النخب المعنية مسؤولياتها حيالها، وأدركت حجم مخاطرها المحدقة بالمؤمنين، لبادرت إلى القيام، استباقياً أو منذ وقت طويل، بالتمهيد الروحي الضروري لتغيير أحوالها، ولدعمت الربيع العربي الذي استهدف إنجازه على مستوى الواقع، وما فيه من بنى سياسية واجتماعية وقانونية، إدراكاً منها لفرادة الربيع التاريخية، وللسياق الذي ينضوي فيه، بردوده على حقبة السقوط التي بدأت في عصرنا مع استيلاء الصهاينة على فلسطين، ومهد لها سقوط مقاومة النخب الإسلامية أمام الاستعمار خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وتعايش معظم قطاعاتها مع بنى متأخرة وتابعة، ومثله فشل نخبهم "الحديثة"، الاشتراكية منها والقومية والليبرالية والإسلامية في تحرير شعوبها من التأخر والجهل والفكر اللاعقلاني، وأمتها من انقساماتها وضعفها وتخلفها: على أكثر من صعيد، وفي كل مجال.
هذه النخب، بتأخرها وركود وعيها وانغلاقه، وغربتها عن المعرفة والواقع في آن معاً، وعن مجتمعاتها وأوطانها، لم تمتلك القدرة على إدراك محمولات الربيع التجديدية ومسائله التاريخية، المشحونة برهاناتٍ ومضامين في تحققها خروج العرب من فواتهم المادي والروحي: شرط خروجهم من الفوات الوطني والقومي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والإداري، الثقافي والمعرفي، وانخراطهم بإيجابية في تفاعل مبدع مع واقعهم هو ما رمى إليه الربيع، فلا عجب إن عادَتْه هذه النخب، ولعبت دوراً خطيراً في دعم كل من عمل لإجهاضه أو تطاول عليه من قوى جهل وظلامية، أو سعدت بدخوله في متاهات متنوعة، داخلية وخارجية، استهدف بها وسعت إلى إفشاله، بمساعدة قوى الاستبداد السياسي/ الشمولي التي انخرطت، بعد لحظاته الأولى، في إبادة حملته من بنات شعبه وأبنائه، بدل أن تمد لهم يد العون، وتعينهم على تخطي ما يواجههم من مخاطر جسيمة، وتنزل معهم إلى الشارع من أجل تحقيق مقاصدهم النبيلة: التغييرية والثورية.
بدل اغتنام فرصةٍ قد لا تتكرر خلال القرن الحالي، جسّدتها ثورة قطاعات هائلة من المواطنين التونسيين والمصريين واليمنيين والعراقيين والسوريين، من أجل إنجاز تغيير جذري طال انتظارها له، يبدل واقعها الفاسد المحتجز بالاستبداد، سارعت فئات أفرزت نخباً ما دون سياسية، وما تحت وطنية أو إنسانية، غارقة في الرثاثة، وجاهلة بنص الإسلام وروحه، إلى أدلجة ثورة الربيع العربي مذهبياً، بتعاونٍ صريح مع الاستبداد الأسدي، ما دون الدولوي وقبل المجتمعي، وزجّت الدين في صراع سعت إلى نزع رحمانيته وفصله عن بعده الإنساني الذي تجسّد في مطلب الحرية والكرامة الإنسانية، وقلبها إلى أداةٍ تخوض بواسطتها حربها الشعواء بين إيمانها المزعوم وكفر من عداها المُدَّعى، ونجحت فعلاً في إخراج أعداد غفيرة من الشعب المطالب بالحرية من الدنيا وإرسالها إلى جهنم، بسكاكينها الدباحة أو بتحريضها التهييجي، وسط صمت معظم "العلماء وأهل الذكر" الذين قد يكون أغراهم بالسكوت خطاب القتلة الأيديولوجي اللغة، المعادي للإنسان والحرية، الذي وعده بثورةٍ بديلةٍ ليست من الأرض، ولا من السماء، ليس للإنسان أي مكان فيها، بل هي ضد حقوقه جميعها، وخصوصاً منها حقه في أن يصير حرّاً.
لن تنجو النخب التي خانت الربيع العربي من بطش من يقتلون شعبهم منذ أكثر من خمسة أعوام. ولا نجاة لها بغير انضمامها، وإن المتأخر، إلى من يشقون درب وطنهم إلى مستقبله الحر ببحر من دمائهم. ولن يحتسب لها وقوفها جانباً، عند حكامٍ، كان معظم الذين قتلوهم ممن توهموا أن نجاتهم تكمن في وقوفهم جانباً، فكان فيه هلاكهم.
تبدو المبادرات الأوروبية تتحرك في مساحة ضيّقة، لكنها، في الوقت نفسه، المساحة المعنيّة باتخاذ قرار في الحرب السورية موقعاً، والمتعددة الجنسيات واقعاً، فحراك فيدريكا موغريني (منسّقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي)، أخيراً، باتجاه طهران ثم الرياض، قد ينمّ عن انفراجةٍ ما ربما تتوقّعها السيدة المنسّقة، بحيث تتمكّن من خلالها من العبور باتجاه حل سياسي، بتحويل الحديث عن مصير الأسد إلى حديثٍ آخر، يتعلق ربما بشكل النظام الجديد للدولة السورية.
البحث فيما وراء ما تطرحه المبادرة الأوروبية، بخصوص قابلية الحديث عن نظام جديد للحكم في سورية، والذي يبدأ من إيران، وهي الطرف المعني مباشرةً بتحديد مصير الرئيس السوري، والتعامل مع تحديد صلاحياته، وبعدها في عواصم دول مؤثّرة على الجانب الآخر من الحل، مثل الرياض، ولاحقاً أنقرة وربما الدوحة، تجري ضمن حلقة تواصل مع المبعوث الأممي، ستيفان ديميستورا، أيضاً، الذي لن يدخر جهداً في لقاءاته المتنوعة مع أطيافٍ معارضة وشبه معارضة وموالاة في استشراف رؤيتهم وقابليتهم للتفكير من جديد، بشكل عملي وبراغماتي، في خرق حالة المراوحة في المكان، والغرق باتجاه الاستعصاء الكلي الذي ظل يتمحور حول مصير الأسد.
وبعيدا عن حالة "الفوبيا" التي تراودنا، أو معظمنا، من كل طرحٍ جديد يخالف أو يختلف عن تصوراتنا للحل السياسي، لا بد من التمعّن بالأفكار أو الاقتراحات المطروحة، ومراجعة اختباراتها التاريخية، ما يفيد بعقد مقارناتٍ واقعيةٍ بين ما تطرحه المبادرة، بخصوص تحويل النظام السياسي في سورية إلى نوع من حكم برلماني أو رئاسي ـ برلماني، علماً أن سورية مرّت بفترة حكم مماثلة، بعد الاستقلال عام 1946 وقبل حكم حزب البعث في 1963.
اللافت أن رؤية المعارضة التي قدمت في مؤتمر لندن (يوليو/ تموز 2016) تتحدث عن نظام حكم رئاسي بكل معنى الكلمة، ما يفسّر تعاملها مع صلاحيات الرئاسة التي ترغب بانتقالها من يد الأسد إلى هيئة حكم انتقالية غير محددة الملامح، بعبارة "كاملة الصلاحيات"، من دون التفحص في معاني هاتين الكلمتين أو تداعياتهما.
بديهي أن الأمر يتطلب نزع صلاحيات الرئيس، والانتهاء من حكم الاستبداد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، أو الذي يطرح على المعارضة التي قدمت تلك الرؤية، ما هي ضمانة عدم إعادة إنتاج الاستبداد، مع رئيس آخر، أو مع طغمة حاكمة أخرى؟
الواقع أن الثورة السورية، وهذا ما يسهو عنه كثيرون، مطالبة ليس فقط بإنهاء حكم الاستبداد، وإنما بالتأسيس لنظام حكم آخر، يضمن عدم إعادة إنتاجه أيضا، وهذا لا يمكن حسمه، أو القطع معه، إلا بوضع دستور جديد لنظام حكم جديد، يؤسس لدولة المواطنين الأحرار المتساوين، دولة المؤسسات والقانون، وليست دولة الرئيس أو الحاكم. وبديهي أن ينصّ هذا الدستور على الفصل بين السلطات، التشريعية والقضائية والتنفيذية، والتسليم بأن السلطة والسيادة هي للشعب من خلال ممثليه المنتخبين، وفق قانون انتخابي جديد، يقوم على التمثيل النسبي الذي يتيح أوسع مشاركةٍ سياسيةٍ وأوسع تمثيل، ويضمن عدم هيمنة طرفٍ على طرف آخر، أغلبية أو أقلية، إضافة إلى التأكيد على مبدأ تداول السلطة، والحق في المشاركة السياسية، وضمنها حرية الأحزاب ووسائل الإعلام.
عدم إعادة إنتاج نظام الرئيس، أو الحاكم الفرد، يتطلب ـ أيضاً، ليس انتزاع الصلاحيات منه، وتكريس الفصل بين السلطات، فحسب، إذ يفترض أن يتم حسم ذلك عبر التخلّي عن النظام الرئاسي، والتحوّل نحو نظام برلماني، بحيث يصبح الرئيس في منصب بروتوكولي، ويقوم بتكليف الجهة (الحزب أو الائتلاف) الأكثر تمثيلاً في البرلمان برئاسة الحكومة، وتسيير دفة الحكم. يمكن أن يحصل الأمر نفسه، أيضا، مع وجود نظام رئاسي وبرلماني، بحيث يتم تقسيم الصلاحيات بين الرئيس المنتخب من الشعب، ورئيس الحكومة (المنتخب من البرلمان)، وقد يحصل أن الرئيسين من حزب واحد أو من حزبين مختلفين، على غرار ما يجري في الجمهورية الفرنسية. وطبعا، يمنع هذا النظام تمركز السلطة عند أيّ من الرئيسين، ويمكن أن يضفي نوعاً من الحيوية على النظام السياسي، ويعزّز من وضع السلطة في حقل التداول، كما يعزّز من شأن المشاركة السياسية.
من المفيد إدراك أنه لا يوجد نظام سياسي لا يوجد فيه عيوب، أو لا توجد فيه سلبيات، وهذا بديهي، لكننا هنا نتحدث عن النظام الأقل سوءا، أو الأقل سلبيةً، أو الأكثر تناسباً مع أوضاعنا على ضوء التجربة التي عشناها، واختبرناها وجرّت علينا كل هذه الكوارث.
ما أقصده أن على المعارضة السورية أن تتلقّف مثل هذه المبادرة، بل وعليها أن تتبناها، وهذا يجعلني أطرح سؤالاً عن أسباب عدم تفكير المعارضة من الأساس بهذا المخرج الذي يجنّب الصراع السوري عقدة كبيرة، تتمثل في موقع الرئاسة، ولا سيما أن الثورة السورية لم تستطع إسقاط النظام، وأن الوضع الدولي والإقليمي لا يسير وفقاً لأطروحاتها؟
المساعي الأوروبية بشأن فتح آفاق إيجاد شكل جديد لحكم سورية، والذي لا بد سيجد صداه عند المبعوث الأممي ديميستورا وفريقه، وبناءً على الملاحظات التي أبدتها بعض القوى السياسية على رؤية المعارضة للحل، وخصوصاً فيما يتعلق بشكل الحكم الرئاسي والصلاحيات الواسعة للهيئة الانتقالية التي من المفترض أن تحل مكان الرئيس، من دون رقيب عليها من أي جهة كانت، بما في ذلك المؤتمر الوطني، يضعنا، نحن المعارضة، أمام مسؤولياتنا في التعاطي الإيجابي مع فكرة عدم تركيز السلطات والصلاحيات بيد شخص، أو حتى جهة، لنستطيع تحقيق الغاية الأساسية للثورة، وهي إسقاط منظومة النظام الذهنية أولاً، كي لا يكون منتج الثورة مجرد تغيير أسدٍ لإنتاج غابة من الأسود التي تتأهّب للوثوب.
نعم نحن في مواجهة غير متكافئة، مواجهة بين عصابات تقودها وتمولها وتدربها وتزرعها إيران في المنطقة العربية لأهداف فاقت أهداف إسرائيل الاستعمارية لتتحول إلى هلال شيعي يبدأ في إيران ولا يبدو أنه يكتمل في لبنان!
هذا الهلال الشيعي الذي تربص بدولنا العربية، والمؤسسات التي حاولت في كل الأوقات أن تعمل بهدوء وتتعاطى مع الإرهاب الإيراني بالحكمة والدبلوماسية، بعيداً عن التشنجات الطائفية والكيدية، ما جعلنا فعلاً في مواجهة غير متكافئة، فهذه المواجهة بين جهات تسعى جاهدة إلى فرض الهدوء والأمن والاستقرار داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وبين جهة تسعى إلى إشعال نار الفتنة الطائفية والتقسيم!
لو افترضنا قيام السعودية بدعم التنظيمات الإرهابية كالقاعدة، وتبنيها ودعمها بالمال والسلاح، وتوجيهها لضرب الداخل الإيراني ومصالح طهران في العالم، فهل كانت إيران تجرؤ على التمادي في توسعها الطائفي في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين؟ لقد كان للمملكة العربية السعودية الدور الأبرز في محاربة الإرهاب ومنع انتشاره والقضاء على مخططاته في السعودية وعدد من الدول، ورفضت المملكة إعطاء الشرعية لأي فصيل إرهابي حتى من باب الكيدية مع إيران، فقابلتها إيران بمزيد من التعنت والتآمر والتمادي في دعم مجموعة إرهابية، كان أولها حزب الله، وتلاها الحشد الشعبي في العراق، ووصل هذا الدعم لمجموعات طائفية في البحرين، وبعدها الحوثي في اليمن، والذي نفذ انقلاباً على السلطة هناك تنفيذاً لأوامر إيرانية صريحة، ودعم عسكري إيراني غير محدود بالسلاح والمال والمستشارين العسكريين، ليعلن حيدر مصلحي وهو وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة أحمدي نجاد أن جمهوريته باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، هي بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق.
نعم يعود الفضل للسعودية ودبلوماسيتها التي احتوت تمادي إيران لسنوات، حتى وصلت هذه الأيادي الخبيثة إلى البحرين واليمن، فكان لا بد للمملكة من القيام بتحرك عسكري يذكر طهران وقادتها أن في السعودية قيادة بحجم حكمتها وصبرها، فهي مستعدة أيضاً للمواجهة والدفاع عن أرضها وأراضي العرب والمسلمين، وأن حلم الخميني باحتلال العواصم واحدة تلو الأخرى وتصدير ثورته الطائفية إليها لن يتم في عهد سلمان بن عبد العزيز والقيادة السعودية الحاكمة والمتزنة!
من هنا نجد أن الخطط الإيرانية لم تأخذ بعين الاعتبار هدوء السعودية في التعاطي معها، واعتبارها جمهورية إسلامية، يجب عدم إذكاء الفتنة الطائفية بيننا وبينها، بل اعتبرت أن هدوء وحكمة السعودية ضعف إلى أن أعلن خادم الحرمين الشريفين انطلاق عاصفة الحزم لاسترداد الشرعية في اليمن، وإنهاء حالة التمرد والانقلاب هناك، والتأكيد على أهمية استقرار أمن مملكة البحرين ومحاربة الإرهاب فيها، ومعاقبة حزب الله في لبنان عبر وقف كافة الدعم السعودي للجمهورية اللبنانية، عسكرياً بسبب سياسات الحكومة وتبعية حزب الله لمشروع إيران الطائفي، وسعيه إلى مساندة الحوثي في اليمن ونظام الأسد في قتل الشعب السوري وتحريضه الدائم على السعودية ودول الخليج العربي.
من يراقب الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط وكيفية إدارة السعودية لهذه الأزمات من مصر إلى البحرين مروراً بباقي الدول العربية، يدرك تماماً أنه لولا حكمة وهدوء القيادة السعودية، وسعيها لوأد الفتنة الطائفية لكانت المنطقة تشهد اليوم حرباً هي الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية تتسبب بقتل المسلمين لبعضهم بعضاً، وهذا ما تتجنبه المملكة وتعمل جاهدة على عدم الخوض به والقضاء على أي آمال بالوصول إلى هذه المرحلة!
هل كانت الثورات شعبية فعلاً، أم إن ضباع العالم استغلوا مظالم الشعوب ودفعوها للثورة، لكن ليس لإسقاط الطغاة وتحقيق أحلام الشعوب في الحرية والكرامة، بل لتحقيق مشاريع القوى الكبرى في بلادنا من تدمير وتخريب وتهجير وإعادة رسم الخرائط، كما فعل المستعمر الغربي بنا قبل حوالي مائة عام عندما حرضنا على ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، ووعدنا بالحرية والاستقلال، ثم تبين لنا لاحقاً أنه استخدم العرب كأدوات للتخلص من العثمانيين كي يحل محلهم في استعمار المنطقة وإعادة تقسيمها واستغلالها؟
ليس هناك شك بأن معظم بلادنا العربية تحتاج إلى ألف ثورة وثورة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ولا شك أن من حق الشعوب أن تطالب بحقوقها وبتحسين أوضاعها والتخلص من طغاتها. هذه بديهيات لا نجادل فيها أبداً، لكن السؤال الذي يجب أن نسأله الآن بعد أن بدأت تتضح نتائج ما أسماه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالربيع العربي: هل كان هذا الربيع يهدف فعلاً إلى مساعدة الشعوب للتخلص من الظلم والطغيان وبناء دولة الحداثة والديمقراطية والمدنية التي ضحكوا علينا، وأغروا الشعوب بها؟ الأمور دائماً بخواتيمها. والخواتيم أمامنا صادمة جداً، لا بل تفضح مخططات ومشاريع كل الجهات التي حرضت الشعوب على الثورات.
شتان بين أجندات الشعوب وقياداتها وطلائعها الثورية، وبين القوى الخارجية التي دخلت على خط الثورات، أو حرضت على اندلاعها. لا شك أن الذين ثاروا في سوريا ومصر وتونس وليبيا واليمن والعراق كانوا فعلاً يريدون أن يطالبوا بأبسط حقوقهم الإنسانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكونوا يطمحون إلى أكثر من قليل من أوكسجين الحرية ولقمة عيش نظيفة غير مغمسة بالذل والخنوع. لكن حتى هذه المطالب البسيطة والصغيرة التي شجعها ضباع العالم كانت لو تحققت يمكن أن تقض مضاجع هؤلاء الضباع الذين تخيفهم أي صرخة ألم تطلقها الشعوب المقهورة، فهم يعرفون تمام المعرفة أنه ما أن تبدأ الشعوب تتحرر شيئاً فشيئاً، فلا شك أنها ستبدأ بمراقبة ثرواتها الوطنية، وستبدأ بالمطالبة بتوزيع الثروة ومساءلة كل من يتلاعب بمصائر الأوطان لإرضاء أسياده ومشغليه في الخارج. لهذا، لم تكن القوى الخارجية التي بدت وكأنها مناصرة للثورات في البداية تريد بأي حال من الأحوال نجاح أي ثورة، بل كانت تدفع الشعوب إلى المحارق لأغراضها الخاصة، وليس أبداً من أجل انتشال الشعوب من براثن الاستبداد والطغيان. إن التشجيع الدولي للثورات في بداية الأمر كان الهدف منه ضبط حركة الثورات بما يتناسب مع مصالح وحوش العالم بالدرجة الأولى. وهل هناك طريقة لإعادة الشعوب إلى زريبة الطاعة أفضل من الظهور بمظهر الصديق لثورات الشعوب؟ بالطبع لا.
هنا بدأ يظهر من سموا أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري مثلاً. وعندما تسمع مثل هذا الاسم، لا شك أنك تستبشر خيراً، وتأخذ الانطباع أن هناك قوى حية في العالم تقف إلى جانب القضايا العادلة، وتناصر مطالب الشعوب المسحوقة. لكن هيهات، فالوحوش لا يمكن أبداً أن تكون رحيمة، بل عاشت وما زالت تعيش على اللحوم والدماء، وبالتالي لا يمكن أن يأتي منها سوى البلاء والخراب.
انظروا الآن إلى تلك القوى الشريرة التي ظهرت بمظهر المناصر للربيع العربي. ماذا قدمت للشعوب الثائرة؟ هل فعلاً ساندتها للتخلص من الطغاة والظالمين فعلاً، أم إنها كانت إما تريد أن تقضي على بعض الحكام كي تستولي على ثروات بلادهم كما هو الحال في ليبيا، أو أنها تريد أن تقضي عبى بعض البلدان والأوطان، وتترك الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب كمغناطيس لجذب كل الجماعات التي يمكن أن تساهم في تخريب البلدان وتدميرها، كما هو الحال في سوريا.
بعبارة أخرى، لم يكن الهدف أبداً مساعدة الشعوب وتخليصها من الطواغيت أبداً، بل لا نبالغ إذا قلنا إن ما يسمى بالربيع العربي الذي ضحك به علينا الرئيس الأمريكي المنصرف أوباما لم يكن سوى محاولة لإسقاط الأوطان لا الأنظمة، بدليل أن الذي سقط في سوريا فعلاً هو سوريا الوطن، والذي تشرد هو سوريا الشعب، بينما ما زال النظام جاثماً على صدور السوريين، ليس لأن ضباع العالم يحبونه، بل لأنهم يستخدمونه كأداة تدمير وتخريب.
ويجب ألا ننسى مشروع الفوضى الخلاقة أو بالأحرى الهلاكة الأمريكية الذي بشرتنا به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، والتي كانت تهدف أمريكا من خلاله إلى نشر الفوضى بهدف إعادة رسم الخرائط وإعادة توزيع المصالح وتدويرها. وقد وجدت أمريكا في بعض الطواغيت الطريقة الأمثل لتنفيذ الفوضى. باختصار، لقد أرادتها الشعوب ثورات لإسقاط الطغاة والطغيان، بينما أرادتها القوى الخارجية معولاً لإسقاط الأوطان.
شتان بين الثوار والداعمين، فبينما يسعى الثوار للتغيير والإصلاح فعلاً، فإن الداعمين للثورات ليسوا دائماً فاعلي خير، بل ربما في كثير من الأحيان يستخدمون مظالم الشعوب لتحقيق غاياتهم قبل غايات الشعوب الثائرة. وهذا ما حصل على ما يبدو حتى الآن للأسف.
هل نحن في الطريق إلى ما قبل أم ما بعد سايكس بيكو؟ عندما نتأمل تدخلات إيران الانقلابية التي تطاول مجمل دول المنطقة العربية، كيانات وبنى، ونتابع تفوهات أتباعها من إرهابيي الحشود الشيعية الموالية لها، والدوافع الحقيقية لقيامها، مجتمعة ومتفرقة، بغزو سورية، ونفكر بإصرار مليشيا حزب الله، مثلاً، على خوض معركته ضد شعبنا، حتى النهاية، كما تعهد قائدها حسن نصر الله، وحين نستمع إلى تصريحات نوري المالكي، رجل إيران الأبرز في العراق، حول معنى صيحة "لبيك يا حسين"، وقوله إنها لن تقف عند نينوى، بل ستشمل حلب واليمن أيضاً، ونستمع إلى ما كرّره وراءه قتلة الحشد الشيعي حول تصميمهم على نقل حربهم ضد أحفاد قتلة الحسين من العراق إلى سورية، وننتقل من قادة تنظيمات الإرهاب إلى الإرهابيين من قادة الدول، بدءاً ببشار الأسد في دمشق المحتلة، مروراً بقادة موسكو وضاحية بيروت الجنوبية وبغداد وطهران الذين يفاخرون بحربهم ضد الشعبين، السوري والعراقي، بحجة أنهما شعبان إرهابيان، وفي المقابل، ما أن نتأمل السياسات التركية التي تعلن تارة أن لديها خرائط تثبت تخليها في عشرينيات القرن الماضي عن أراض تركية في العراق وسورية، منها الموصل وحلب، وتقول، تارة أخرى، إنها لن تسمح لأحد بتقاسم المنطقة في غيابها أو على حسابها، فإننا نجد أنفسنا حيال سياسات متناقضة ظاهريا، لكنها تدور حول موضوع واحد، يضع تأمله يده على الخلفيات الحقيقية التي حالت دون إنهاء الصراع في سورية وعليها، وحوّلته أكثر فأكثر من صراع محلي إلى صراع عربي/ إقليمي/ دولي مفتوح بوسائله ورهاناته على حروبٍ تقف وراء انخراط إيران وموسكو المباشر فيه، وتعامل بلدان الخليج المتحفظ بصور شتى معه، بعد تباعده المتعاظم عن دعم مطالبة الشعب السوري السلمية بالحرية وتغيير النظام الأسدي.
تدور جميع الأفعال التي نراها اليوم، ومعظم تصريحات المشاركين في حروب منطقتنا، حول إعادة هيكلة مكونات ودول منطقتنا عامة، والمشرق العربي بصورة خاصة. هذه نتيجة دخول قوة جديدة إليها، تمثلها إيران، بما لها من توابع محلية، نظمتها عسكرياً وسياسياً، وفصلتها من مجتمعاتها ووضعتها في مواجهة مباشرة، ومتعدّدة الأنماط معها، وأوكلت إليها، منذ قرابة ثلاثين عاماً، مهام تناط عادة بكتائب عسكرية ترابط في أراض معادية خارج وطنها. ومثلما أعاد حزب الله إعادة هيكلة السلطة في لبنان، ووضعها تحت وصاية المرشد الإيراني خامنئي وإشرافه، وربطها بخطط ومصالح طهران المباشرة، تريد إيران تقاسم المنطقة، بحيث تتفق حصتها منها وحجم وزنها الخارجي واختراقاتها الداخلية للمجتمعات العربية، المشرقية اليوم والخليجية غدا، اعتمادا على نهجٍ يستخدم آليات سيطرة متراتبة ومتنوعة، نجحت في وضع يدها على العراق وسورية بفضلها، وشرعت تديرهما كولايتين إيرانيتين، كما صرح أكثر من مسؤول إيراني، فضلا عن السيطرة بالواسطة أو من الباطن، بمعونة ما لها في البلدان المعنية من مليشيات احتلالية، مثل مليشيا حزب الله والحوثيين. والحال، بقدر ما يحكم الملالي قبضتهم على المشرق وجنوب الجزيرة العربية، وينجحون في كسب أو تحييد مصر، وعزل السودان واختراقه، بقدر ما ستتعاطم فرص انتقالهم، من الحكم بالواسطة، إلى السيطرة المباشرة على البلدان الخاضعة اليوم لكتائبها، المرابطة في لبنان واليمن. ماذا يعني هذا؟ له معان متعددة، منها:
أولاً، ما يجري في سورية والعراق ليس غير مدخل إلى توطيد وجود إيران الاحتلالي في البلدين، وتحويله إلى احتلال شامل برضى حكامهما الذين صار وجودهم ومصيرهم مرتبطاً بطهران التي تعمل لشرعنة هذا الوضع، ولكسب الاعتراف الدولي به. بما أن حسم المعركة في البلدين وعليهما يحولهما، بقدر ما يكتمل، إلى قاعدتين لتدخلٍ أوسع في بلدان عربية أخرى، يجري اليوم استكمال مراحله النهائية، عبر إيصال ميشال عون إلى رئاسة لبنان، بما يرجح أن يترتب عليه من انتقال أوضاعه إلى حقبة مغايرة من نواحٍ عديدة، للحقب التي مر بها منذ استقلاله، بما في ذلك حقبة احتلاله أسدياً. ومثلما قفزت إيران من قاعدتها العراقية إلى منصتها السورية، ستقفز في فترة غير بعيدة من قاعدتها السورية إلى الأردن وفلسطين والخليج، ومن دمشق وبغداد إلى تركيا. عندئذ، ستجد شعوب المنطقة نفسها أمام عمليات اقتلاع وإبادة من النمط الذي جربه الملالي والأسد والروس ضد شعب سورية.
ثانياً، ستتبدل بنية المنطقة إلى الحد الذي يعيدها إلى فترة ما قبل سايكس/ بيكو التي قسمت المشرق العربي إلى دول حول حراك شعوبها بعضها إلى كياناتٍ وطنية، كالعراق وسورية، الدولتان المستهدفتان اليوم بتبدل يطاول بنيتهما السكانية والحكومية والعقائدية، والحجة: إحداث تغيير جذري فيهما يمنع دول الخليج من دعم الثورة السورية، "بؤرة الإرهاب ومنتجته" في لغة الملالي والأسد وبوتين، التي لا بد من كسرها، لأنها تقاتل، عن وعي أو غير وعي، لإحباط خطة اقتسام المشرق إيرانياً وأسدياً، وحماية وحدة دوله ومجتمعاته، وأخذها إلى الحرية والاستقلال، والكرامة والمساواة والعدالة. في فهم إيران، لن يكون هناك بالضرورة سورية مفيدة، لأن إيران ترفض أن تقتصر حصتها عليها، وتضع يدها اليوم على سلطتها، وتقاتل في معظم الأرض السورية، لتشطب وجود صاحبها، أي شعبها، وتقضي على ثورتها.
ثالثاً، ستلد الحرب المتعددة الأطراف على بلادنا، وفيها حروب متعاقبة ستنتشر إلى بلدان الخليج وتركيا، التي أعتقد أنها ستنخرط فيها، لأنها ستوضع أمام خيارين، أحلاهما مر، هما: استباق الحرب، كي لا تدخل إليها، أو اتخاذ موقف دفاعي، هدفه البقاء خارجها، لكن الخيار الثاني لا يضمن أن لا تنتقل الحرب إليها، من خلال اختراقات إيران أو سورية والعراق: قاعدتا طهران اللتان ستتوليان هذه المهمة أيضا.
رابعاً، علينا اليوم، كسوريين، مواجهة خطة التدمير والاحتلال التي تلعب إيران الدور الأكبر فيها، وتنفذها بتصميم واستماتة، ولن ننجو من نتاىجها الوخيمة دون إعادة نظر عميقة وعقلانية في رؤيتنا وممارستنا الصراع، محلياً، وضد طهران وموسكو، وفي بنى تنظيماتنا السياسية والعسكرية، لأن هذا شرط نجاحنا في حماية مجتمعنا ودولتنا، ولمنع إدماجها في الكيان الإيراني، وحكمها من الباطن بواسطة نظم مذهبية، أو يعاد إنتاجها مذهبياً، لتخضع مجتمعات أعيدت هيكلتها طائفياً، تأتمر سلطاتها بأمر المرشد، وتنفذ ما يطلبه منها، مثلما يفعل حزب الله في لبنان. تتخطى الصراعات الدائرة اليوم الصراع الداخلي بين النظام والشعب، الذي رسمنا مواقفنا انطلاقا منه، ويتخلق بديل خارج هذه الثنائية، تختلف النتائج التي ستترتب عليه أشد الاختلاف عن الثورة، لن يبقى في حال نجاحه شيء على ما هو عليه اليوم في بلادنا ومنطقتنا، سواء في ما يتصل بمجتمعاتها أم بدولها أم بعقائدها، بحيث نجد أنفسنا حيال انقلابٍ سيطوي، إذا ما نجح، تاريخنا. ومن يتابع ما عاشته الأسابيع القليلة الماضية من أفعال وأقوال، سيضع يده على دلائل تشير إلى أننا ذاهبون، في حال قرّرت إيران مصير التطورات، إلى ما بعد سايكس/ بيكو، وربما إلى ما قبل العرب (!).
مهما قيل عن وحشية الروس في محاربتهم المعارضة السورية، بالطبع عدا داعش التي مارس الروس وغيرهم جرائمهم في سورية تحت ظلالها، بوصفها تنظيماً إرهابياً، أجمع العالم عليه من خلال سلوكه على الأرض، ومهما قيل أيضاً فيما فعلته آلة الحرب الروسية بشأن المدنيين، وقتلها إياهم تحت أنقاض بيوتهم، بصواريخها الفراغية والارتجاجية التي تجرَّب لأول مرة، إذ لم تستثن، في حربها المجنونة هذه، المدارس والمشافي، بل تعمدتها دون غيرها، ما أدخلها في دائرة مجرمي الحرب.. ومهما فعلت كذلك بشأن مساندة النظام في دمشق اليوم ضماناً لوجودها الدائم في سورية، وتحقيقاً لحلمها التاريخي، في الوصول إلى المياه الدافئة، كما يجمع معظم المحللين السياسيين وقرَّاء التاريخ السياسي العالمي.. أقول مهما فعلت في هذا وذاك وذلك، فإنها تدرك تماماً، وربما أخذت تدرك، أخيراً، أن وجودها في سورية وعدمه غير مرتبط بهذا النظام المتهالك، وإن ارتبط، فسوف تزهق أرواح سوريين كثيرين، وتأخذ المزيد من الأحقاد، ويساهم في عزلها أكثر فأكثر، وهي الدولة التي خرجت من نظام قمعي شمولي، كما زعم قادتها الجدد من يلتسين إلى بوتين، ومعهما الغربُ كله، إلى نظام الحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان. وفي النهاية، لن يستمر النظام دونما آلتها العسكرية الوحشية التي تملكها وحدها من دون حلفاء النظام المعلنين..! لكن هذه الآلة الوحشية التي استخدمتها روسيا جعلتها في الفترة الأخيرة، فيما يبدو للجميع، وعبر تصريحات قادتها السياسيين، تعيد حساباتها على نحو أكثر دقة، وخصوصاً بعد مجزرة مدرسة حاس، في ريف إدلب التي فاق ضحاياها 22 تلميذاً ومعلماً، ما ألَّبَ العالم أجمع على هذه الوحشية غير المسبوقة التي منعتها أيضاً من كسب مقعد لها في المجلس الأممي لحقوق الإنسان.. ولعلها من جانب آخر تدرك أن الولايات المتحدة ليست الحليف الأقوى للمعارضة السورية، فالعلاقات الروسية السورية لم تبدأ بحزب البعث، ولا بعائلة الأسد، بل بدأت مع البرجوازية السورية في الخمسينيات، وروسيا الاتحاد السوفييتي هي التي وقفت إلى جانب استقلال سورية ولبنان، وهي التي استضافت شخصيات سورية كثيرة في خمسينيات القرن الماضي، منها مصطفى السباعي، الشخصية الإسلامية المتنورة، والمرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك الذي عاد من زيارته عام 1957 ليتحدث عن الاتحاد السوفييتي حديثاً طيباً، وليكتب كتابه الشهير اشتراكية الإسلام.. ثمَّ إنها، أي روسيا، تعرف حقيقة النظام، وغباء استبداده، وهي التي نصحته، في بداية الثورة السورية، وعبر دبلوماسيين كثيرين، منهم جنرال كبير بأن يقوم بإصلاحات سياسية واجتماعية، وأن يمد يد التلاقي لشعبه، لكنه أبى واستكبر (من مقابلة على قناة روسيا اليوم مع أحد الجنرالات الروس). ولعل الحرس القديم كما قال الجنرال الروسي: "رفض الإصلاحات"، والحقيقة أنه رفض أيَّ نوع من المهادنة مع المتظاهرين السلميين، ما يعنى أنه رفض التنازل عن أيٍّ من مغانمه، وما أعتقد به أنا: أنَّ الإيرانيين لعبوا دوراً في هذا المجال، فهم الأكثر خسارةً من نظام تعدّدي لا طائفي في سورية. ومن هنا، جاء فيما بعد حادث تفجير ما عرفت بخلية الأزمة في أكبر معقل للنظام، حيث لا يستطيع الذباب الأزرق أن يقترب من قيادة الأركان أمام ساحة الأمويين.
ولا يفوتنا، في هذا المجال، ذكر أن الروس حاولوا مراراً فتح أقنيةٍ مع المعارضة التي رفضت أي حلٍّ يبقي رأس هرم السلطة السورية في مكانه، حتى وإن كان في مرحلةٍ انتقالية، فالمعارضة كانت مستاءة من الموقف الروسي المنحاز منذ البداية، ومنذ الفيتو الأول الذي قاد، بالدرجة الأولى، البلاد السورية إلى أسوأ حال.
يضاف إلى ذلك، وهذا الأهم، خطورة معركة حلب، هذه الأيام، واحتمال تحوُّلِها إلى حرب شوارع، واستحالة استخدام الطيران، أو القصف عن بعد بالأسلحة الفتاكة المشار إليها، ما يدعو إلى غرق الروس أكثر فأكثر بالدماء السورية، وهم الذين قدموا بمهمةٍ مدتها ثلاثة أشهر فقط، وعلى الرغم من تضاعف هذه المدة إلى أربعة أمثال، إلا أنها لم تجلب للجيش الروسي، ولا لقيادته السياسية، غير الخزي والعار، وتسويد السمعة الدولية، وهم الذين حصدوا ما حصدوه من مكاسب، قبل هذا الوقت، إذ قاربوا حلولاً لقضايا كثيرة خاصة بهم، إن مع الأميركان أو مع الأوروبيين.
وهناك ناحية غاية في الأهمية، لا تتعلق بصمود الجيش الحر فحسب، بل بحاضنته الشعبية التي تقارب ثلاثمئة ألف إنسان، رفضوا العروض الروسية الأخيرة، في الخروج من وطنهم الصغير حلب، وأصرّوا على البقاء مع أبنائهم وإخوتهم أمواتاً أو منتصرين، ما قوى عزيمة الجيش الحر، وزاد من تصميمه، فوحد صفوفه، وخبرات فصائله، مستنداً إلى دعم أكبر مما كان، وإلى حاضنةٍ شعبيةٍ تشعل روح المقاومة في نفوس عناصره وقادته.