خلال السنوات الخمس من الحرب السورية، مرت ظروف كثيرة بدت وكأنها ستكون محورية، لكن في الواقع كانت فرصها المحورية قليلة. للمراقب من الخارج، كانت الحرب السورية مستنقعًا سوريًا، من يدخل إليه يتورط.
في الأشهر الماضية جرى تحول كبير في الساحة العسكرية السورية، ويبدو أن اللحظة الحاسمة تقترب. هذا لا يعني أن الحرب تشارف على نهايتها، إنما معركة كبرى تلوح في الأفق. معركة حلب سوف تكون محورية. منذ منتصف الشهر الماضي، يركز كل الذين استثمروا في هذه الحرب على هذه المدينة، التي أصبحت رمزًا لكل طرف. ففي 18 أكتوبر (تشرين الأول) تعرضت روسيا وحلفاؤها السوريون لضغوط من أجل التوقف عن الضربات الجوية على حلب، حيث قالت الحكومات الغربية إن تلك الغارات تقتل أعدادًا كبيرة من المدنيين، وهذا ما نفته موسكو رغم كثرة الضحايا.
لكن وقف الغارات الجوية لم يمنع الروس من توسيع وجودهم العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فدفعوا بالسفن الحربية نحو سوريا، للروس الآن نحو 10 سفن بحرية قبالة الساحل السوري، وخلال الأسابيع الماضية أبحرت 8 سفن بحرية بقيادة حاملة الطائرات الروسية الوحيدة «الأدميرال كوزينتسوف». تدخل «كوزينتسوف» منطقة الشرق الأوسط وعلى متنها 15 طائرة مقاتلة، و10 طائرات هليكوبتر هجومية، وهذه إشارات لافتة للخطوات الروسية في «الحملة السورية».
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من محاولات الفصائل المسلحة تحقيق تقدم على الأرض، فإن هناك احتمالاً كبيرًا بأن الروس وحلفاءهم السوريين سيؤمنون السيطرة الكاملة على حلب، قبل تنصيب الرئيس الأميركي الجديد. ومن المرجح أن ترفض موسكو أي محاولات من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أو من غيرها من اللاعبين الدوليين «المذعورين»، مثل الاتحاد الأوروبي، للتخفيف من حدة الأزمة. من هنا، فإن مستقبل سوريا سيكون مشكلة ستواجهها من اليوم الأول رئاسة دونالد ترامب.
يتمتع النظام السوري بميزة عسكرية مكَّنته من تحقيق إنجازات في الأسابيع الأخيرة. ومن الواضح أن روسيا وإيران وجميع حلفاء نظام بشار الأسد يستعدون لتكثيف الضغط على المعارضة المسلحة، لذلك، وفي ظل المناخ الحالي، تكتسب معركة حلب أهمية خاصة بالنسبة إلى النظام وحلفائه، لأنهم يدركون أن هزيمة تلك المعارضة ستحقق لهم مكتسبات تكتيكية واستراتيجية. إن السيطرة على حلب (في حين لا يزال يسيطر على دمشق ويتقدم في ضواحيها) تعني أن نظام الأسد حصّن قبضته مرة أخرى على المناطق الأساسية في غرب سوريا، بحيث يحصر المعارضين في إدلب فيحقق منطقة متلاصقة ومترابطة تحت سيطرته.
بقدر ما تعني هذه الإنجازات من الناحية المادية بالنسبة إلى سيطرة النظام، فإن هناك أيضًا تأثيرًا نفسيًا إن كان بالنسبة إلى المعارضة أو إلى النظام ومن يدعمه، وأيضًا بالنسبة إلى المجموعة الدولية التي عليها في نهاية المطاف أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القوى على أرض المعركة السياسية السورية، ومع ذلك كله لن يستطيع النظام التغلب على المعارضة في هذه المناطق، وسوف يحتاج إلى استثمار كثير من الموارد للحفاظ على هذه الإنجازات والاستفادة منها، وستكون قدرته على بسط سيطرته على مناطق أخرى محدودة بسبب القيود على الأرض.
معسكر المعارضة في حلب يقاتل، ويحاول الاستيلاء على غرب حلب، لكن ليس هناك أي احتمال حقيقي بأن الذين يقاتلون النظام قادرون على التمسك بحلب على المدى الطويل. بالنسبة إليهم، الحد الأقصى الذي يتطلعون إليه في هذه المعركة هو إنهاك النظام وشده مع حلفائه إلى معارك طويلة ودموية مع حماية أحيائهم المحاصرة. هذه الاستراتيجية تحقق لهم كسبًا، وتقوي موقفهم في المفاوضات النهائية حول مستقبل سوريا. هذا هو الهدف في أذهانهم، كما يتم لعب هذه اللعبة على المستوى الدولي.
فعلى الصعيد الدولي، واجه الأسطول الروسي عرقلة أوروبية عندما منعت الحكومة الإسبانية السفن المتوجهة إلى سوريا من الرسو في موانئها على البحر المتوسط للتزود بالوقود أو بالإمدادات الأخرى. وقال سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي، الأسبوع الماضي، إن هذا الرفض لم يؤثر على المهمة البحرية، لكن هذا يعكس وبلا شك التوتر الحالي بين القوى العظمى، فمنذ انهيار وقف إطلاق النار القصير الأمد، فشلت تلك القوى في إعادة إحيائه، ويتضاءل احتمال التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإلى استئناف العملية السياسية في سوريا، وتقول القوى العظمى إنها «تكافح» من أجل استئناف المفاوضات. وبدا شويغو مصابًا بخيبة عندما قال في الأول من هذا الشهر: «إن احتمالات البدء في عملية تفاوض والعودة إلى الحياة السلمية في سوريا تأجلت إلى أجل غير مسمى».
قد يكون بشار الأسد الوحيد غير المهتم بالحل السياسي، كما قال لصحيفة «صنداي تايمز»، يوم الأحد الماضي، إلا أن معظم اللاعبين الخارجيين لا يزالون مهتمين بالتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا، لكن الحوار المتعلق بالحل يواجه طريقًا مسدودًا لأن مستقبل الأسد وراء ذلك. وفي حين يستمر هذا الجمود، وتركز الأطراف جهودها على القتال، فإن التعاون الوثيق بين الأطراف المؤيدة للنظام مثل روسيا وإيران سيتكثف، كون الأهداف مشتركة.
ومع ذلك، وعلى المدى البعيد، إذا ما عادت المفاوضات السياسية وتم إحراز تقدم كبير، فمن المرجح أن تتعمق الخلافات في الرأي لدى الأطراف الموالية للنظام. وفي حين أنه ليس لدى النظام السوري أي استعداد للمساومة على مستقبل بشار الأسد، فإن هذا لا يعني أن موسكو وطهران تشعران بالالتزام نفسه. وتذكر تحليلات أمنية أنه في حين أن العاصمتين تدعمان حاليًا نظام الأسد، فإن هذا الدعم لا يعني أنهما تريان أن استمرار سيطرته أمر لا مفر منه، بل إنهما ترغبان في الحفاظ على نظام سيخدم مصالحهما في سوريا، وبالتالي من المرجح أن توافقا على التخلي عنه في حال التسوية السياسية المناسبة التي تسمح لهما بمعبر للخروج من الأزمة الراهنة.
عودة إلى معركة حلب، تُظهِر أنها ستشكل تحديًا للشاغل الجديد للبيت الأبيض، فإذا قرر أنه لا خيار أمامه سوى البحث عن حل دبلوماسي في سوريا وفقًا للشروط الروسية، فإنه سيلحق ضررًا كبيرًا، في وقت مبكر جدًا، بمصداقية إدارته على الصعيد العالمي. أيضًا، إذا اختار الرد بكل قوة فقد تكون النتائج مزيدًا من الموت في سوريا، وخلافًا عميقًا مع موسكو قد يثقل على الدبلوماسية الأميركية لسنوات مقبلة.
بعض المعلقين يخشون من أن النزاع الدبلوماسي الحالي مع روسيا يخرج عن السيطرة. الأسبوع الماضي قال الجنرال البريطاني المتقاعد ديفيد ريتشاردز: «إن السبيل الوحيد لتخفيف الأزمة الإنسانية في حلب هو السماح للأسد بأن يكسب ويكسب بسرعة، ثم العمل مع روسيا للقضاء على ما يسمى (الدولة الإسلامية) في أماكن أخرى من سوريا».
دونالد ترامب اعتبر، الشهر الماضي، أن حلب سقطت، وهذا يعني أنه لن يلتفت إلى المعارضة، وربما قد يساعد على تجنب كارثة هناك بإقناع روسيا بالدفع إلى حل سلمي. على كل، فإن الإدارة الجديدة ستتجنب مواجهة مفتوحة مع روسيا في سوريا كي لا تقع في مستنقع شبيه بالمستنقع العراقي، وقد تعتمد توجه إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بالنسبة إلى فيتنام، بأن تهدد علنيًا بعمل عسكري في سوريا ضد روسيا، في حين ترسل سرًا إلى موسكو ودمشق بأنها على استعداد للتوصل إلى صفقة، إنما بعد أن تستعرض أمام العالم قوتها العسكرية.
إدارة أميركية برئاسة ترامب قد تحسب أنه يمكن لها أن تعتمد خدعة نيكسون في سوريا: على المدى القصير استعراض قوة عسكرية قبل السماح لدمشق بدعم روسي بأن تجنح إلى مفاوضات سلمية مع كل أطراف المعارضة السورية. وقد تعمد إلى ذلك من دون تردد، لأن الرأي العام الأميركي لا يمكن أن يكون انتخبها من أجل إيجاد حل سلمي في سوريا، أو من أجل التدخل عسكريًا هناك.
في أعقاب اللقاء المطول الذي جمع، في أنقرة، رئيس هيئة الأركان التركي، خلوصي أكار، ونظيره الأميركي، جوزيف دانفورد، وهو الاجتماع الثاني بينهما في أقل من شهر، اكتفت القيادات السياسة التركية بإعلان إبلاغها الضيف الأميركي بخطورة التنسيق الحاصل بين إدارته وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) المصنّف إرهابياً في تركيا. لكن التفاصيل حول طبيعة التفاهم الثنائي بعد أربع ساعات ونصف من المفاوضات، كشف عنها دانفورد، وأوجزها بما يلي:
تعزيز التنسيق القائم بين تركيا والتحالف الدولي على المدى الطويل، بهدف القضاء على تنظيم داعش في مدينة الرقة. تأكيد أن قوات تحرير الرقة يجب أن تكون من العرب السنّة، وليس من الأكراد، وأن الطرفين توصلا إلى قناعةٍ بشأن العمل المتواصل باتجاه إيجاد المكون الصحيح من القوات لعملية عملية تحرير الرقة. الاتفاق على أن لا تكون قوات سورية الديمقراطية التي تشكل الوحدات الكردية غالبيتها هي التي تدخل مدينة الرقة في الهجوم النهائي، وأن "قوات سورية الديمقراطية" لن تتدخل في إدارة شؤون المدينة.
وقال دانفورد إنّ زيارته أنقرة كانت مثمرة وبنّاءة، وأنه اتفق مع الأتراك على كيفية تخليص الرقة من داعش، وطريقة إدارة هذه المحافظة، على المدى البعيد، عقب تحريرها، لكن الجانب التركي يتعامل بحذر في الحديث عن التفاهم الذي تم، تحسباً لارتكاب أي خطأ، قد يحسب عليه في موقفه حيال حزب الاتحاد الديمقراطي، وسياسته السورية، خصوصاً وهو يستمع إلى الناطق باسم "قوات سورية الديموقراطية"، طلال سلو، يقول إنهم اتفقوا، بشكل نهائي، مع التحالف الدولي، على عدم وجود أي دور لتركيا، أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها، في عملية تحرير الرقة.
الواضح، على ضوء المواقف الأميركية أخيراً، أن تركيا حصلت على ما تريد من ضماناتٍ أميركية، تطلق يدها في شمال سورية، لإكمال عملية درع الفرات، وقطع الطريق على محاولة الربط بين جرابلس وعفرين، في اتجاه دمج الكانتونات الكردية ببعضها. كما أنها (تركيا) حسمت، كما تشاء، مسألة دخول الجيش السوري الحر إلى منبج، وإعادة مقاتلي الحزب الديموقراطي الكردي إلى شرق نهر الفرات. وحصلت على الضوء الأخضر الأميركي، لتسريع عملية إخراج قوات "داعش" من مدينة الباب. والمضي في خطة وضع أسس المنطقة الآمنة، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم.
ويقول وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إن إرسال قوات حزب الاتحاد الديمقراطي إلى الرقة، وهي التي لا تستمع إلى ما تقوله واشنطن في موضوع انسحابها من منبج، يفتح الطريق أمام أزمة أكبر في العلاقات التركية الأميركية، إذ لا تلتزم الوحدات الكردية، شريكة واشنطن وحليفتها، لا تلتزم بتعهداتها أمام الإدارة الأميركية نفسها، عندما ترى أنقرة أن ما تقوله الولايات المتحدة يعرقل مشروعها وخططها في شمال سورية. فأي نوع من التفاهمات هو؟ هل هو اتفاق خطي، أم شفهي محمي بوعود شخصية متبادلة بين القيادات العسكرية، ولا يلزم القيادات السياسية في البلدين، خصوصاً وأن أميركا تناقش المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية الجديدة، ولا يمكن لإدارة أوباما أن تدخل في اتفاقية من هذا النوع قبيل المغادرة.
حلم أنصار المشروع الكردي في شمال سورية ممن ما زالوا يصفون أنفسهم بأنهم قوميون عرب دفعهم إلى الوقوف بارتباك أمام اللقاء العسكري التركي ـ الأميركي المطول الذي "أثار الفضول"، حول ما إذا كان الأميركيون يُخطّطون لصفقةٍ، بخصوص تسهيل الوصول التركي إلى مدينة الباب، في مقابل "تمهيد الطريق أمام الوحدات الكردية للوصول إلى الرقة"، مراهنين على أن من غير المستبعد أن يأتي دور الجيش السوري في إحدى هاتين المرحلتين، لدخول الرقة. فجاءهم الجواب من قائد الأركان الأميركي الذي قال إن تركيا عند موقفها في رفض أي دور لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وتعترض على المشاركة في أية عملية يكون الحزب جزءاً منها. وإن أنقرة التي تحولت، مع انطلاق عمليتها العسكرية في شمال سورية، إلى مناور أساسي هناك، لم تقدم لحليفها الأميركي أية ضمانات يريدها، في إطار تنسيق ثنائي، تنضم إليه القوات الكردية لإطلاق عملية طرد داعش من الرقة.
يبدو أن التفاهم التركي الأميركي الأهم كان حول موضوع البحث عن قيادة قوات عربية سنية، تقود معركة الدخول إلى الرقة، تطرح معها سيناريو قديماً جديداً، وهو فتح الطريق أمام قوات "الجيش السوري الحر" للدخول إلى المدينة، بدعم ورعاية أميركيتين، ما يعني تضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم (زعيم الاتحاد الديمقراطي)، ومحاصرته سياسياً وجغرافياً، أكثر فأكثر عبر الجنوب هذه المرّة، فهل تَستسلم الإدارة الأميركية لسيناريو تدمير حليفها المحلي الوحيد في سورية الذي جهّزته لدورٍ كبير هناك؟
لا يمكن تجاهل بعض الحقائق على هامش الاتفاق بين أكار ودانفورد أيضاً: مسألة إطلاق يد الجيش السوري الحرّ في الرقة، وإيصاله إليها بعد معركة الباب تحتاج إلى اصطفاف واسع للمعارضة السورية في الداخل والخارج وراءه، واللاعب الأول المعني هو الجيش الحر نفسه، المطالب بالتحرّك نحو صناعة المشهد السياسي والعسكري الجديد في سورية. كشف نجاح عملية درع الفرات وتقدمها اليومي نحو الباب عن فشل الطرح الأميركي أنّ قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل "داعش"، وأنها بمفردها القادرة على دحره. و"داعش" ستقاتل في الرقة (إذا ما قرّرت القتال)، ليس من أجل الانتصار والبقاء في المدينة، بل من أجل تأجيج الخلافات بين القوى والأطراف المحلية والإقليمية.
ويقول وزير الدفاع التركي، فكري إيشيق، إنّ جيش بلاده سيتقدم إلى كلّ مكان ضروري لحماية الأمن التركي. تركيا تواصل حشد مئات من القطع الحربية الثقيلة على حدودها مع سورية والعراق، لأنها تعرف أن الحرب المعلنة ضد داعش قد تتحوّل إلى مواجهات عرقية دينية، تهدد الديمغرافيا والجغرافيا، ليس في البلدين فقط، بل داخل تركيا نفسها التي تقول إنّها أفشلت مشروع صالح مسلم في شمال سورية، لكنه لا يزال يساوم بعضهم على دمج نفط شمال سورية بشمال العراق، بعد توجيه الضربة القاضية لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، والعمل على حماية مشروع الفدراليات، ليكون لأكراد المنطقة حصتهم فيها.
ستبقى مشكلة تركيا الأهم في محاولة مفاوضة واشنطن وموسكو في الوقت نفسه على ملفات إقليمية كثيرة، قد تنعكس عليها، وتتركها خارج المعادلات، إذا ما أخطأت في التقدير والمخاطرة. لكن، يبدو أن الرئيس التركي قبل المغامرة والتحدي والإصغاء إلى ما تقوله موسكو أيضاً التي قدمت أكثر من خدمة للأتراك في الآونة الأخيرة. وكان رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، قد دعا إلى عدم الاستغراب إن حصلت تطوّرات مهمة في الأزمة السورية في الأشهر الستة المقبلة.
وكان كلام يلدريم قبل زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، روسيا ولقائه نظيره فلاديمير بوتين، ومناقشة الأزمة السورية معه. وفيما تحدث يلدريم عن مفاجأة محتمَلة في سورية، فإن القوات الكردية تواصل، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، السيطرة على مزيد من الأراضي شرقاً وشمالاً، فأيّ مشروعٍ سيفوز، بعدما تعثّر التفاهم الأميركي الروسي في سورية؟
فاز مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وجاء فوزه تاريخياً، ومخالفاً لمعظم التوقعات واستطلاعات الرأي، ومسجلاً سابقةً، تتمثل في وصول شخص من خارج المؤسسة الحزبية الأميركية، لأول مرّة، إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، بعد سباق انتخابي محموم، حظي باهتمام ومتابعة الملايين، حتى كاد مشهد الانتخابات الأميركية يحتكر المتابعة الإعلامية، وخصوصاً في منطقتنا العربية، نظراً لأن نتيجتها ستترك آثاراً على مسار الأوضاع فيها، وعلى ملفاتها الساخنة الكثيرة التي يتوقف مآلها، إلى حدّ بعيد، وخلال السنوات المقبلة، على طريقة تعامل الإدارة الجديدة معها.
ويأتي فوز ترامب بعد حملة انتخابية، تميزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من هيلاري كلينتون التي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدة في منصب الرئاسة، في وجه دونالد ترامب القادم من عالم المال والأعمال، والبعيد عن مزاولة السياسة بالشكل الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الأميركية، فيما بدت العملية الانتخابية وكأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعل كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن، من خلال النيل من الخصم، بدءاً من تناول تاريخه الشخصي، وتناول سيرته، وصولاً إلى نبش أسراره والحفر في ماضيه.
ويجسّد وصول ترامب إلى البيت الأبيض ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات، وسيكون له أثره الواسع على مناطق كثيرة من العالم، وخصوصاً منطقتنا العربية وملفاتها الساخنة، وعلى العلاقات الأميركية الروسية وسياسات واشنطن في العالم، حيث بنى ترامب ملامح سياساته على انتقاد سياسات هيلاري كلينتون ورفضها، بوصفها استمراراً لعهد الرئيس باراك أوباما الذي لم يسلم من انتقادات ترامب الكثيرة له، في مقابل الإشادة بمواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والإعجاب بها، غير أن أي رئيس أميركي لم يكن صاحب صلاحيات مطلقة، إذ على الرغم من أهمية دوره كفرد، إلا أن المؤسسات التقليدية الحاكمة، ومراكز رسم الاستراتيجيات والسياسات وصنعها، ستلتف عليه وتقيده بجملةٍ من الضوابط والمحدّدات، كونها تمثل قوىً مدنية وعسكرية واستخباراتية مؤثرة داخل الإدارة وخارجها.
وليس مبالغاً فيه القول إن فوز ترامب قد يغيّر المستقبل السياسي للولايات المتحدة وتوازناتها الاجتماعية، نظراً لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعية مهمة، بنيت على نزعات عنصرية وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيّراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية. لكن السؤال في هذا المجال: كيف سيتعامل السيد ترامب وإدارته مع ملفات منطقتنا الملتهبة في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن وسواها، حيث ستكون هذه الملفات من أهم القضايا والتحدّيات التي ستواجه الإدارة الأميركية الجديدة، مع أن من المبكّر التكهن بكيفية التعامل مع ملفات المنطقة، وعلينا الانتظار لأشهر، إلا أن هذه الكيفية ستكون، على الأغلب، مختلفة كلياً عن تعامل الإدارة الأميركية السابقة، على الرغم من الضبابية التي تميزت بها مواقف ترامب في حملته الانتخابية، وهي مواقف وصفت بالاعتباطية، إلى جانب بهلوانية الأداء، لكنها بنيت على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والملوَنين الأفارقة والأميركيين اللاتينيين والآسيويين الذين هدّد بطرد عشرة ملايين مهاجر غير قانوني منهم، وحرمانهم من العيش في الولايات المتحدة.
وإذا كانت هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية قد كشفت انقساماً كبيراً في المجتمع الأميركي، امتد إلى مختلف تفاصيل هذا المجتمع، ونسيجه الاجتماعي، وبدا في صورة خلافات وصراعات، إلا أن ذلك يشير إلى تغير شعبي عميق حدث في المجتمع الأميركي، وبشكل لم تتمكّن معه هيلاري كلينتون من أن تصبح الرئيسة التي يلتئم حولها الأميركيون، كونها افتقدت الجاذبية والشعبية، إضافة إلى أن قسماً كبيراً منهم لم يثق بها، واعتبرها صناعة المؤسسة الحاكمة، وخصوصاً الشركات الكبرى المدنية والعسكرية، وبالتالي، فإن أميركا المنقسمة على نفسها ستزداد عداءً في ما بينها، مع فوز دونالد ترامب، المرشح الجمهوري رغم أنف الجمهوريين.
غير أن ترامب يمثل ظاهرةً نامية جديدة، تمثل الرجل الأميركي الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر، والاحتجاج على وضع الولايات المتحدة الراهن، ويمكن تسمية هذه الظاهرة الجديدة، الترامبية (نسبة إلى ترامب)، وهي ليست وحيدة في العالم، إنما تحاكي ظاهرة صعود النزعات اليمينية المتطرّفة في أوروبا، والتي تجسّد إيديولوجيتها أحزاب اليمين وتياراته في بلدان أوروبية عديدة، لكن الظاهرة الترامبية هي الأكثر وضوحاً وصفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي التي أضحت فيها أحزاب اليمين تنمو وتعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصاً العربي الإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي خلال حملته الانتخابية.
وإذا كانت الظاهرة الترامبية ستلقي بأثرها العميق على الديمقراطية التمثيلية الأميركية، إلا أن هناك مخاوف وتوجسات من إرهاصاتها وتأثيراتها، على الرغم من أن دونالد ترامب لجأ في خطاب الفوز (أو الانتصار) إلى لهجةٍ تصالحية، ربما بناءً على نصائح مساعديه، لكي يخفي هوسه بعداء الآخر، وإلى القول إنه سيسعى إلى "تحقيق شراكاتٍ، وليس صراعات، مع دول العالم"، كي يخفف من المخاوف حيال مواقفه من المسائل الدولية، والتي بناها على مبدأ تصنيفٍ، يرجعها إلى ثنائية الأبيض والأسود، وما يستتبع ذلك من تفكيك ما هو قائم في النظام الدولي الراهن، وإعادة صياغتها وفق رؤيةٍ شعبويةٍ، بدءاً من العلاقة مع الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعلاقة مع الأمم المتحدة، بذريعة التخفف من الأعباء المالية، وصولاً إلى علاقاته مع دول الخليج العربي ودول أميركا اللاتينية وغيرها، ولعل إعجابه بشخصية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يرجع بالأساس إلى القاسم الشعبوي بينهما، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات خطيرة من خلال إطلاق يد بوتين في الملف السوري، وزيادة التغول الروسي في الدم السوري. لكن في المقابل، لم يكن النهج الذي اتبعه باراك أوباما حيال الكارثة السورية في صالح الشعب السوري وثورته، وخصوصاً بعد أن ارتكب النظام مجزرة الكيماوي، حيث عملت إدارة أوباما على إدارة الصراع في سورية وعليها، بما يطيل أمده، مع العمل على إطالة أمد حكم الأسد وبقائه في السلطة، في تركيزها على أولوية محاربة الإرهاب، متمثلاً بإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، غاضّة النظر على إرهاب النظام ومليشيات ملالي إيران وروسيا، إضافة إلى عدم سماحها لأي قوة إقليمية بتزويد مسلحي المعارضة السورية بأي سلاحٍ نوعي، وخصوصاً مضادات الطيران. والأدهى من ذلك أن إدارة أوباما حاولت تحويل وجهة صراع السوريين مع النظام، وإلحاقه في الحرب الدولية التي تخوضها ضد ما تسميه "الإرهاب"، الأمر الذي أفضى إلى تعاميها وعدم اكتراثها بالقتل والتدمير، وبطموحات ثورة السوريين في الخلاص من الظلم الاستبداد.
قد يكون من المبكّر استشراف النهج الذي سيتبعه دونالد ترامب حيال الصراع في سورية وسواها، لأن الأمر لا يتعلق بالمواقف خلال الحملة الانتخابية التي عادة ما تتغيّر، بعد وصول المرشح إلى منصب الرئاسة، بل يتعلق بالإدارة التي سيختار الرئيس الجديد أعضاءها في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية ومختلف الإدارات. ولكن، هناك توجس من أن ندخل مرحلة جديدة في الشكل، لكنها، من حيث المضمون، مشابهة سابقتها، خصوصاً أن ترامب وعد بأن تكون أولويته هي "التخلص من داعش"، قبل الحديث عن سورية، واعتبر مصير الأسد ثانوياً.
فاز "ترامب"، وأذهل المحللين، وفاجئ استطلاعات الرأي، وراحت الأقلام تعتصر المداد لتفسر هذه النتيجة غير المتوقعة، وتوالت ردود الأفعال ما بين مندّد ومرحّب، لكن على كل الأحوال فقد أضحت رئاسته للولايات المتحدة أمراً واقعاً، ولذا فلا عجب ان اهتمت كثير من الحكومات والشعوب بهذا الحدث، نظراً لما قد يترتب عليه من تغير في سياسة أكبر وأقوى دولة في العالم، بالموازين الدولية.
ما يهمنا في الموضوع هو تخوّف كثير من الشعوب، ومنها الشعب السوري، من تصريحات "ترامب" التي رافقت حملته الانتخابية، والتي حفلت بالتهديد والوعيد بتغيير السياسات الأمريكية تجاه الحلفاء، وإلغاء الاتفاقيات، والتخلي عن الالتزامات.
ونحن هنا لسنا في صدد قراءة تفاؤلية مثالية لوصول "ترامب" للحكم، فهذا مستبعد وغير واقعي، لكننا أيضاً لسنا في طور الاستسلام للقراءة اليائسة البائسة التي صدّقت كل ما تم ترويجه خلال الحملة الانتخابية، عن مشاريع "ترامب" لما بعد الفوز، مما يمكن أن يقضي على ثورتنا، ويهدم آمال شعوبنا العربية والإسلامية.
المتابع للحملات الانتخابية عادة، يرى الفارق الشاسع بين ما يتم إطلاقه من وعود، وبين ما يتم تحقيقه من إنجازات، وكثيراً ما تغنى المرشحون بمشاريع وإنجازات تبهر الناخبين، تبين فيما بعد أنها أحلام سيقت لكسب الأصوات.
لكن اللافت هذه المرة في تصريحات "ترامب" أنه أضاف للوعود التقليدية التي تتحدث عن تحسين ظروف العمل، وخفض نسبة البطالة، وتحسين صورة البلاد، وزيادة الدخل وغيرها، تصريحات أثارت الجدل والتخوف عند كثير من الدول والشعوب، منها داخلية تتعلق بمنع دخول المسلمين إلى بلاده، وبناء جدار عازل على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، لمنع وصول أي مهاجر إلى الولايات المتحدة، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ومنها ما يتعلق بالسياسة الخارجية كجعل دول الخليج العربي تدفع أموالا مقابل تقديم الحماية الأمريكية لها، والقضاء على حزب الله اللبناني، والتهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وغير ذلك.
وبالنظر إلى ما تتطلبه هذه التصريحات كي تصبح واقعاً ملموساً، فإن المنطق يرى فيها تصادماً وتناقضاً واضحاً، فلا يمكن لأي دولة أن تحسّن صورتها في العالم عن طريق إذلال الدول الأخرى والانتقاص منها والتعالي عليها، كما لا يمكن التخلي عن التحالفات والشراكات التي هي سمة الدول المتطورة ورأسمال دخلها القومي، ولا يمكن الدخول في صراع مع إيران دون التحالف مع الدول العربية، والخليجية منها خاصة، التي يتم تهديدها بدفع أموال لحمايتها، كما أن أعادة عظمة أمريكا لا يكون بترك المجال لروسيا كي تعيد أمجادها في العالم على حساب نفوذ أمريكا.
كما أن هذه السياسات المفصلية لا يمكن أن تكون متروكة لأي رئيس منتخب في دولة مؤسسات، إنما تساهم في صناعتها مؤسسات وهيئات مهمةٌ مثل: مجلس العلاقات الخارجية ومجلس الأمن القومي والبنتاغون والمخابرات ومجموعات الضغط وغيرها..
وعليه فيمكن لنا قراءة هذه التصريحات على أنها استعراضات انتخابية، سرعان ما ستصطدم بالواقع، لتبدأ بالتلاشي والتغير، ولا يبقى منها إلا ما هو مقرر في ثوابت السياسة الأمريكية المعروفة، مع بعض التعديلات المتضمنة لقرارات قد تكون مؤجلة لم يمتلك سلفه القوة لإنجازها في آخر ولايته.
وقد بدأت بوادر هذا التغير عقب فوزه مباشرة، فقد ظهر في خطاب الفوز مختلفاً عن الخطابات السابقة، حيث خلا خطابه من العنصرية والتهديدات، كما تم مسح كلامه الخاص بمنع المسلمين من دخول أمريكا، فيما برر مستشاره "وليد فارس" تلك التصريحات السابقة، بأنها قد فُهمت بشكل خاطئ، فهو قد قصد منع دخول الجهاديين والتكفيريين.
ولن يكون الملف السوري مختلفاً عن الملفات الأخرى، فالمتابع للتصريحات التي أطلقها بشأن الملف السوري، يرى فيها تطميناً للأسد بأنه لن يشن حرباً عليه، وأنه سيركز جهوده على محاربة تنظيم الدولة، كما أنه قدم انفتاحاً ملحوظاً تجاه روسيا حليفة الأسد، والتي تقدم له دعماً كبيراً عبر غطائها الجوي الذي يتركز على قصف الفصائل الثورية.
لكن في ذات الوقت يرى فيها تهديداً لإيران، وحزب الله اللبناني حلفاء الأسد أيضاً، والذين يقدمون له الدعم الكبير بالميليشيات الطائفية التي تقاتل على الأرض ضد الثوار.
فيما يضيف موافقته ودعمه لإنشاء منطقة آمنة في سورية، تتحمل الدول الخليجية وألمانيا تكلفتها، لحماية اللاجئين.
لكن من المرجح أن يكون "ترامب" منشغلاً في المراحل الأولى من توليه الرئاسة للملفات الداخلية، وألا يحدث فارقاً كبيراً في إدارة الملفات الخارجية، التي تتحكم فيها وزارة الدفاع والأمن القومي.
ويمكن لنا أن نقرأ ذلك في تصريحات وليد فارس مستشار "ترامب" التي قال فيها: "إن موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من حزب الله لن يختلف عن موقف الإدارة الحالية، وأضاف :"لنكن واقعيين، ترامب لن يعمل من يومه الأول من عهده على الملف اللبناني، ولكن سيعمل على تسليط الضوء على الشرق الأوسط وعلى لبنان وسورية".
لكن هذا الانشغال هو غاية ما يطمح إليه "بوتين" من أجل المضي في تصعيده تجاه فصائل الثورة السورية، خاصة في مدينة حلب، مستغلاً انصراف الإعلام والرأي العام الدولي، لمتابعة نتائج ما أفرزه فوز "ترامب" في الانتخابات، ومستفيداً من وعود تحسين العلاقات مع أمريكا التي كان يرى في إدارتها السابقة شريكاً غير متعاون في القضاء على الإرهاب الذي يشمل فصائل الثورة في نظره.
يرى بعض السوريين أن فوز "كلينتون" ربما يكون الأفضل، نظراً لتصريحاتها ضد الأسد، وانتقادها لتعاطي "أوباما" اللين معه، لكن في ذات الوقت تصطدم أمنياتهم بواقع مغاير، حيث لم تقدم هذه الإدارة عبر "أوباما" و "كلينتون" أي دعم حقيقي لصالح الثورة، فهي من منعت إقامة المنطقة العازلة، وحالت دون تزويد الثوار بالأسلحة النوعية المضادة للطائرات، وعلى الرغم من تصريحاتها المتكررة عن فقدان الأسد للشرعية، والخطوط الحمراء المتكررة له، فإنها لم تطبق على الأرض سوى إعطائه المهلة تلو الأخرى للتمادي في قتل السوريين، رغم تجاوزه كل تلك الخطوط الحمراء بما فيها استخدام الكيماوي.
مما يجعل غالبية السوريين غير مهتمين لفوز "ترامب" أو "كلينتون" فهم يرون فيهما السيء والأسوأ، ولعل عبارة: "فاز أبو لهب وخسرت حمالة الحطب" هي أكثر ما يعبر عن إحباط الشعب من نتائج هذه الانتخابات على كلا الحالتين.
الخلاصة: من المبكر الحديث عن تغير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه سورية، بعد فوز "ترامب"، لأن تصريحاته التي أطلقها ضمن حملته الانتخابية تفتقد إلى الواقعية، وليس بمقدوره أن يتجاوز فيها ما يتعارض مع السياسات العامة لأمريكا، وما يقرره الكونغرس ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي وغيرهم من صانعي القرار الأمريكي وراسمي سياساته الخارجية، لذا فإن هذه التصريحات ستكون عرضة لكثير من التغيير والتعديل والتصويب، كما أنه إن نفذها كاملة فإنها ستكون مضرّة بالثورة من وجه إطلاق يد روسيا بشكل أكبر في سورية، ومفيدة من وجه آخر بكفّ يد إيران وحزب الله عن مؤازرة النظام.
يبقى أن نذكّر أن هذا الشعب السوري، قد وطّن نفسه منذ بداية الثورة، على كل الاحتمالات، وعاين الخذلان الدولي والتآمر عليه بأبشع صوره، لذا فلن تضيف له هذه الحادثة "فوز ترامب" كثير قلق، لكن التحدي هو أن تنجح القيادات العسكرية والنخب السياسية بالوصول إلى الجسم الثوري المنشود، الذي يضم القيادة العسكرية والسياسية الواحدة، التي يمكن من خلالها مخاطبة العالم بشكل يليق بتضحيات هذا الشعب الثائر، وأن تنجح الفصائل بتغيير الواقع الميداني بشكل عاجل بما يغير طريقة التعاطي الدولي معها، وفي هذا الإطار لا بد لها من توثيق التعاون مع الدول الداعمة للثورة وعلى رأسها تركيا وقطر والسعودية، حيث لن يمكن لأي إدارة أمريكية أن تفرّط بعلاقتها بهذه الدول التي تشكل ثقلاً لا يمكن تجاوزه في أي قرار يتعلق بسورية.
بعد بدء الحملة العراقية الكبيرة لإعادة السيطرة على مدينة الموصل، أعلنت قوات «سوريا الديمقراطية» (وهي جهة مؤلفة بشكل رئيسي من أكراد موالين لحزب «الاتحاد الديمقراطي» ومدعومة من أمريكا) أنها بدأت قبل أيام حملة موازية في سوريا للسيطرة على مدينة الرقّة، المدينة الكبرى الثانية الخاضعة لحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» منذ نيسان (ابريل) 2013، وهي خطوة تعلن القوى المشاركة فيها أن هدفها هو القضاء على التنظيم المتطرف في معقليه الأساسيين.
وخلال هذا الوقت الذي تنشغل فيه قوّات التحالف الغربيّ بالتعامل مع ما تعتبره الخطر الأساسي عليها تتحضّر قوّات روسيّة كبيرة جوّية وبرّية تمّ تدعيمها بقوّة ناريّة بحرية، مع حشود كبيرة من حلفائها في النظام السوري والميليشيات الشيعية التابعة لإيران، لهجوم فاصل للسيطرة على مدينة حلب وقد أعطت يوم الجمعة المقبل كموعد نهائي لخروج عناصر المعارضة السورية قبل بدء هجومها الأخير المذكور بينما تنخرط قوات النظام وحلفاؤه عملياً في صراع لانتزاع الأراضي التي حررتها المعارضة مؤخرا.
بين هذه المعارك الثلاث قواسم مشتركة، ومنها أن هذه القوى الكبرى التي تقود هذه المعارك تسعى لتقرير مصير المنطقة العربية بمعزل عن مصالح شعوبها (وبالأحرى بالضد من مصالح شعوبها)، وأنها تستخدم القوى المتنازعة الموجودة على الأرض لتنفيذ أجنداتها أوّلاً.
على اختلافها الظاهري، فإن هذه القوى العالمية متفقة على بقاء الأنظمة العربية التي كانت سبباً في كل هذه الكوارث الحاصلة حاليّاً، والخلاف، في الوضع السوري تحديداً، صار يدور حول فترة بقاء بشار الأسد، حيث تريد روسيا ان تثبّته في موقعه رغم مسؤوليته عن الدمار الهائل الذي تعرض له البلد، بينما تريد الادارة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية أن يخرج من السلطة بعد فترة معينة يتّفق عليها، ومن المتوقع أن يزول هذا الخلاف وأن يتجه بقوة لصالح وجهة النظر الروسية في حال فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية اليوم.
يتعلق الخلاف المعلن بين موسكو وواشنطن حول التعاطي مع حلب بمفاعيل أسلوب روسيا ـ النظام السوري والحلفاء المحسوبين على إيران في تدمير المدينة على رؤوس ساكنيها على طريقة غروزني الشيشانية.
تتوقع واشنطن أن يؤدي عدد القتلى والنازحين الكبير لغضب حلفائها من الدول العربية والإسلامية، وخصوصا منها تلك التي انعكس عليها الاستعصاء السوري بعبء اللاجئين الكبير واحساس شعوبها كافة بالمظلومية، ومخاطر تصاعد التطرف، وتضاف إلى كل ذلك الكلفة السياسية العالمية للتخلّي النهائي عن السوريين (وقبلهم العراقيين) ومشروعهم السياسي للخلاص من الطغيان الذي دفعوا ثمنه مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين وعشرات المدن التي تحوّلت إلى أنقاض، وهي كلفة ستكون باهظة على العالم أجمع لأنها ستعني انتهاء الأمل بالتغيير في العالم العربي واستتباب الأمور لإسرائيل التي ستستفرد بالفلسطينيين، ولإيران التي ستفرض نفوذها الطائفيّ على المشرق، وللطغاة الذين سيعتبرون الاتفاق الروسي ـ الأمريكي رخصة بالاستفحال في حكم الشعوب بالنار والحديد.
إضافة إلى كل ذلك، فليس من المستبعد، على ضوء الخطّ الذي تنتهجه أمريكا في العراق وسوريا أن يتم تأسيس دويلة كرديّة جديدة بين سوريا والعراق يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني من جبال قنديل العراقية أو من داخل تركيا، كقاعدة خلفية للضغط على تركيا، كما للتأثير على دول المنطقة وتشكيل جسر آخر يربط شرق آسيا بالبحر المتوسط عبر إسرائيل، وحصول تغييرات ديمغرافية كبيرة نتيجة لجوء ونزوح ملايين العرب السنّة من مدنهم ومناطقهم، وهو أمر يتشكل بوضوح في كل المدن والقرى المغلوبة على امرها والمهجر سكانها في العراق وسوريا.
في مناسبات عديدة سابقة، وبصيغ كثيرة ذات معنى واحد، أفصح قادة إيران، على مختلف مراتبهم السياسية والعسكرية، عن أطماعهم التوسعية في المشرق العربي، وأعربوا مراراً عن أشواقهم الإمبراطورية، باستعادة ممتلكات فارس، العقارية منها والتاريخية، في الديار العربية المستباحة، ناهيك عن تحقيق زعامتهم العالم الإسلامي، ضمن خطة عمل متدرجة، تبلغ حداً جنونياً بالسيطرة على أقدس المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتحويلها إلى مزارات شيعية.
ولا يعوز الباحث بذل جهد كبير، ليقف بنفسه على جوهر النوايا الإيرانية التي دخلت في طور التحقق العملي، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما أسفر عنه من خلل فادح في ميزان القوى الإقليمية، ومن ثم تسليم العراق على طبقٍ من فضةٍ لدولة الولي الفقيه الذي صار رب البيت في بلاد الرافدين، على الرغم من بعض الحضور الأميركي الموظف في خدمة المدّ الإيراني، بمنطق المجريات السياسية والعسكرية القائمة على الأرض.
وفيما كان آيات الله يملون أنفسهم، جهاراً نهاراً، على مفاصل الدولة في العراق، ويحوّلونها إلى مجرد دولةٍ على الورق، جاءت التطورات السورية المتفاقمة منذ أزيد من خمس سنوات، لتعطي المد الإيراني قوة زخم جديدة، وتمنح مشروع بعث الإمبراطورية البائدة فرصة أخرى متاحة، كي تبسط طهران يدها على ثاني أهم دولة عربية في الجناح الآسيوي، وتعطي لصلة قرابتها الملتبسة مع حاكم دمشق مضموناً مذهبياً على رؤوس الأشهاد.
ولعل آخر تجليات هذا المشروع التوسعي الذي يسابق نفسه بنفسه، خشية وقوع متغيراتٍ ليست في الحسبان، هو السعي إلى فتح ممر جغرافي عريض (خط حرير معاصر) يصل بين شمالي غربي العراق وشمال شرق سورية، ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، على نحو يُحدث ترابطاً أرضياً ممتداً من طهران وقم إلى بغداد ودمشق، ومنها إلى بيروت، وربما غزة فيما بعد، بكل ما يعنيه هذا الامتداد من عبثٍ بالخرائط والديمغرافيا والتوازنات التي تواصل انهياراتها المدوية.
على خلفية هذه النوايا الإيرانية التي لم تعد مضمرة، سارع قادة الحشد الشعبي الشيعي العراقي، وهم في طريقهم إلى مدينة تلعفر المحاددة بادية الشام، إلى الإعلان عن عزمهم التوجه من هناك إلى الرقة وحلب بعد الانتهاء من حرب الموصل، ترجمة لنداء رجل إيران الأول في العراق، نوري المالكي: قادمون يا موصل، ويا حلب، ويا يمن، في إشارةٍ، لا تنقصها الصراحة الفظة، إلى خطة إيران التوسعية، وأهدافها في السيطرة على البر والممرات البحرية، وإجراء ما يلزم من هندسةٍ سكانيةٍ بأبعاد مذهبيةٍ بحتة.
بكلام آخر، يقول لسان حال إيران، يقول بلغة غير أعجمية: العراق وسورية جبهة واحدة، وبعد أن دخل العراق في معدة الولي الفقيه الواسعة، جاء دور سورية، وآن أوان ابتلاعها كلقمة واحدة، ما إن يتم التخلص من بعض أشواكها الصلدة، أي حسم المعركة في حلب، مقدمةً لا بد منها لكسب الحرب في سورية كلها، ومن ثم حمل روسيا على مغادرة بلاد الشام، عندما تضع الحرب أوزارها، وتفقد موسكو كل مبرّرات وجودها الجوي في جغرافيا تمسك الأيدي الإيرانية فيها بالزمام، وتقبض على قيادتها السياسية بإحكام.
ومع أن هناك تحدّياتٍ موضوعية، يصعب على إيران جبهها في المدى المنظور، فإن نظام الملالي يملك، من دون ريب، نفساً طويلاً، طول نفس حائكي السجاد التبريزي، فلا يبدو في عجلةٍ من أمره، لتحقيق مشروعه بعيد المدى، طالما أنه يستميل، بسهولةٍ مفرطةٍ، أفئدة قادة الأقليات الشيعية المنتشرة في أغلبية بلدان المشرق العربي، ويدفع بالرعاع أمامه، وينجح في تقويض الدول من داخلها، ويستنزفها من الداخل، من دون أن يطلق عليها بنفسه طلقة واحدة، تماماً على نحو ما يجري في اليمن منذ نحو عشرين شهراً.
ومن مفارقاتٍ فارقة في هذه المرحلة، لا يعتمد المشروع التوسعي الإيراني فقط على الأقليات المذهبية المنتشرة في العالم العربي، للتحقق تدريجياً، وإنما يعتمد أيضاَ على مصادفاتٍ تاريخية نادرة، لتسريع إنفاذ السهام الإيرانية المسمومة في الجسد العربي المثخن بالجراح، في مقدمتها تكالب الغرب والشرق ضد شعوب هذه المنطقة على خلفية الحرب ضد الإرهاب الذي بات المبرّر الموضوعي لكل هذه التدخلات والاجتياحات والحروب، الجارية حصراً في المدن والمناطق السنية.
وفي التحليل الأخير، كل غارةٍ جويةٍ، أو طلقة مدفعية، تقصف بها أميركا تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل أو الرقة أو الأنبار، وكل صاروخ غير ذكي تستهدف به روسيا قوى المعارضة السورية المسلحة في حلب وإدلب وحمص، يصبان معاً لصالح مشروع إيران، المتربصة كالضبع، بما يتبقى من أطراف فريسة شبعت منها الكواسر، وعافتها نفوس الضواري الجائعة، وذلك على نحو ما ينطق به الحال في سورية والعراق، اللذين تراهما طهران امتداداً طبيعياً لها، أو قل مجرد جبهةٍ واحدةٍ بقوة الأمر الواقع.
غير أنه إذا كان صحيحاً أن الرياح لا تزال تهب بصورة مواتيةٍ لأشرعة السفينة الإيرانية حتى هذه اللحظة، فمن الصحيح أيضاً أن البحار في هذه المنطقة عميقة جداً، ومليئة بالحوّامات المائية المستترة، أي أن على إيران أن تفرغ، وحلفاؤها الموضوعيون، تماماً من مهمة القضاء على تنظيم الدولة، الذي سيظلّ كالذئب متربصاً على طريق حريرها إلى البحر المتوسط، وأن تقهر الثورة السورية التي لا سبيل إلى القضاء عليها في المدى المنظور، وأن تأمن جانب تركيا المتحفزة لاقتطاع حصتها على التخوم، بما يقطع صلة الوصل الإيرانية المشتهاة هذه، ناهيك عن ضرورة تفريغ خزان العراق من عنفه الدهري الفائض عن حدوده الجغرافية.
منذ أكثر من عام والأطراف الراعية والداعمة للنظام السوري تعتبر معركة حلب معركتها الحاسمة. هذا ما أكدّه الروس والإيرانيون وأتباعهم بأقوالهم وأفعالهم التي ترجمت واقعاً على الأرض عبر قصف المستشفيات والمدارس والأحياء السكنية. وهدف هؤلاء من معركة حلب فرض الاستسلام على المدافعين عن المدينة، وعلى السوريين جميعاً.
ومع أن الحجة الروسية في هذا المجال تقوم على زعم مفاده صعوبة التمييز بين الإرهابيين والمعتدلين من المقاتلين، تؤكد الوقائع والقرائن أن تلامذة حلب ومرضاها وأطفالها ونساءها كلهم ارهابيون في المنظور الروسي، طالما أنهم يعارضون حكم بشار الأسد. فالهدف هو ارغام السوريين على القبول بالحل الروسي الذي ينص صراحة على إبقاء نظام بشار، وتحميل الشعب السوري مسؤولية كل القتل والتدمير الذي ساد في سورية على مدى نحو ستة أعوام.
ولعله من نافل القول أن نذكر هنا أن ما تتعرض له حلب من تدمير لعمرانها، وقتل وتهجير لناسها، ما كان له أن يكون لولا الموقف الأميركي الانسحابي السلبي، الذي اكتفى بالهرولة وراء سراب الحل السياسي مع الروس، الذين كانوا قد حزموا أمرهم إلى جانب النظام مع اللحظة الأولى لانطلاقة الثورة، بل حتى في المرحلة التي سبقتها.
فقد أثّر الموقف الأميركي هذا في الموقف التركي، حتى وجد صنّاعه أنفسهم من دون أي دعم أو سند من جانب حلفائهم الأطلسيين في مواجهة الروس الذين وجدوا طرق المنطقة سالكة أمامهم، فاستغلّوا الفرصة لعرض قدراتهم العسكرية، وذلك بهدف اثبات الوجود كقوة دولية عظمى، والدخول مع دول المنطقة في صفقات تجارية تعقدها معهم هذه الأخيرة من باب دفع الشر، والاستعداد للتحدّيات الجديدة.
والأمر الذي يستوقف أكثر من غيره في الموضوع السوري هو التوافق الأميركي - الروسي على أمور ثلاثة محورية هي:
أولاً - غض النظر عن الوجود الإيراني والميليشيات المسلحة المرتبطة به في سورية.
ثانياً- اعتبار محاربة الإرهاب أولوية من دون البحث عن المقدمات التي مهّدت لهذا الإرهاب، وسوّقته، وبنت عليه.
ثالثاً- اعتماد الموقف الضبابي من موضوع مستقبل بشار الأسد السياسي.
هذا على رغم صدور جملة تصريحات أميركية تحاول إظهار التمايز عن الموقف الروسي، ولكنها هي الأخرى عائمة، هلامية، لا تشكّل أرضية لموقف صلب واضح المعالم، يمكن أن يؤخذ في الحسبان.
ومع الإعلان عن التوافق الروسي - الأميركي بعد اللقاء الماراتوني بين كيري ولافروف في 9 أيلول (سبتمبر) المنصرم بخصوص إعلان الهدنة في حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية، كان من الواضح وجود نَفَس ارتيابي لدى العسكريين والأمنيين الأميركيين في شأن حدود صدقية الروس، وإمكانية التعاون الاستخباراتي والعسكري معهم. وقد ثبتت مشروعية تلك الهواجس بعد إقدام الروس على قصف المستشفيات وقوافل المساعدات والأحياء السكنية بعنف وحقد لافتين.
حلب ليست مدينة عادية تدخل دائرة النسيان بعد تدميرها وتجاوزها. فقد امتلكت عبر مختلف العصور التاريخية القديمة منها والوسيطة والحديثة دوراً محورياً في التحالفات والحروب والانتصارات. كما كانت مدينة التجارة والصناعة. وهي العاصمة الاقتصادية لسورية كلها، والعاصمة الفعلية للشمال السوري.
ويخطئ كثيراً كل من يتجاهل دور حلب في تاريخ المشرق، ورمزيتها الاستثنائية لدى شعوب المنطقة بعامة، والشعب السوري على وجه التخصيص. وأي تغيير فعلي لوضعية المدينة وهويتها عبر السيطرة العسكرية عليها، يُفهم منه وجود إرادة دولية - إقليمية بإحداث تغييرات كبرى في المنطقة.
النظام الإيراني يريد حسم الأمور سريعاً، لأنه يعتبر أن لحظته التاريخية قد حلت، وعليه استغلالها قبل فوات الأوان. ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الروس. فهم، على رغم اندفاعهم الصلف، يدركون أن إسقاط حلب بقوة القصف الإستراتيجي سيضعهم أمام مأزق كبير يتمثّل في الخيارين الصعبين:
هل سيتولون بأنفسهم إدارة المدينة؟ وهذا ما سيكلّفهم الكثير، ويستنزف طاقاتهم بمستويات لا يتحملونها.
أم سيسلّمون المدينة إلى الإيرانيين تحت يافطة النظام السوري المعترف به دولياً؟ وحيئذٍ يكونون قد أسسوا لشرخ إقليمي غير مسبوق في تاريخ المنطقة الحديث، شرخ ستكون له تداعيات كبرى على المستويين الإقليمي والدولي.
فتركيا لا يمكن لها في ظل أي ظرف، وتحت وطأة أي ضغط أن تقبل بحزام إيراني قد يمتد من الموصل إلى حلب، ويكون حاجزاً بينها وبين العالم العربي، وباعثاً على زعزعة استقرارها الداخلي عبر استغلال الورقة المذهبية التي أثبتت قوتها في العديد من دول المنطقة.
والسعودية، ومعها الدول الخليجية والأردن، ستجد نفسها قد طُوقت بحزام إيراني من كل الجهات، الأمر الذي ستكون له انعكاسات مهدّدة على دواخلها. كما أن الولايات المتحدة ستكون في موقع المجرَّد من كل أوراقه الإقليمية، إذ سيصبح مفتاح المنطقة الأساس بيد النظام الإيراني، صاحب المشروع الإمبراطوري الحالم.
أما أوروبا، فسيكون عليها الاستعداد لسيل جديد من اللاجئين، وربما عمليات إرهابية جديدة. هذا إلى جانب مواجهة مقبلة لمآلات تعاظم الدور الروسي، وقدرته على فرض المشاريع التوسعية، سواء بالقوة المباشرة أو عبر التهديد باستخدامها.
أما على الصعيد السوري، فلن تكون معركة حلب الكبرى، بصرف النظر عن نتائجها، المعركة الأخيرة. وإنما ستكون مدخلاً لصراع طويل بين أصحاب الأرض والحق من جهة، وروّاد مشاريع بعث العظمة المندثرة من جهة ثانية. ونظراً إلى تعارض توجهات وأهداف هذه المشاريع، وتباين خلفياتها، فإن المنطقة مقبلة على مرحلة عصيبة من الصراعات الداخلية والإقليمية التي ستكلّف شعوب المنطقة المزيد من الضحايا والموارد.
المستقبل سوداوي، ولا توجد في الأفق بوادر مشجعة توحي بإمكانية الوصول إلى نهاية النفق المظلم. وما يضفي المزيد من القتامة على المشهد بأسره، غياب الموقف الأميركي الحازم الذي يظل هو المقرر في نهاية المطاف. والخشية من استمرارية هذا الموقف في عهد الإدراة المقبلة خشية واقعية، الأمر الذي سيكون في مصلحة الاندفاع الروسي، مقابل تجميد الموقف الأوروبي الذي من الواضح أنه ليس في مقدوره بلوغ مرحلة الفعل المؤثر بمعزل عن قيادة أميركية.
ونعود إلى حلب مرة أخرى، لنؤكد الأهمية البالغة لمعركتها المقبلة. هذا مع إقرارنا بأهمية معركة الموصل أيضاً. لكن معركة حلب تظل الأهم من جهة رسم معالم الإستراتيجيات، وربما الحدود.
تأبط الجميع شراً ، مع صبيحة هذا اليوم ، و جعلوها مجرد بداية لمرحلة طويلة من العذاب المفضي إلى الإنهاء، مع نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية في نسختها الـ ٤٥، على اعتبار أن مجنوناً سيحكم العالم و سينفذ وعوده الجنونية.
لاشك أن الاستنتاجات السلبية من نتيجة الانتخابات الأمريكية، هي المسيطرة على أجواء المحليين و الفاعلين على المستوى الشعبي، باعتبار أن ترامب هو الوحش المكشر عن أنيابه ، و المتوعد بالابادة للجميع ، وعنصر “المؤامراتية” يفضي بأن المستقبل سيكون قاتماً على الجميع و لا سيما السوريين.
و لعل الارتكاز في التوقع على الخطابات الملقاة خلال الحملة الانتخابية، هو ضرب من ضروب الجنون ، اذ المفروض الانتظار ريثما يتم الاعلان عن قائمة المستشارين أو ما يعرف فريق العمل الذي سيكون هو الحاكم الفعلي في البيت الأبيض الذي يمثله ترامب، و لعل نجاح وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إلى رئاسة الدبلوماسية في بلاده ، بعد سنوات من الحرب إلى جانب الأسد و حلفاءه و دفاعه الأكثر من مستميت عنهم، سرعان ما انقلب كل شيء وتحول إلى معاد للأسد و روسيا، فهنا لا يحكم الأشخاص بذاوتهم و أهوائهم، و إنما بما يخطط و يقدم لهم.
و بالعودة إلى على من نرتكز في توقعاتنا ، فيقول وليد فارس ، وهو لبناني الأصل و يشغل منصب المستشار السياسي لترامب، أن “إشكالية ترامب في خطاباته أنه غير خبير في العلوم السياسية، لكنه شعبوي وعلاقته مباشرة مع الجمهور، مضيفاً أيضاً “ليس محامياً وغير مدرب سياسياً وهو بطبيعته عفوي ويقول ما يتبادر له دون أي تحفظ، لكن خصومه يستغلون أسلوبه هذا في مهاجمته للنيل منه وهو ليست لديه القدرة على الدفاع عن نفسه، خصوصاً أن الإعلام في شكل عام ضده لكنه سيعدل من طريقته وسيلتزم بقراءة نصوص مكتوبة في خطاباته المستقبلية”.
فارس ، المعروف عنه خبرته الطويلة ، قلل، في لقاء مطول مع صحيفة “الحياة”، كشف عن وجود نية لدى ترامب بعقد اتفاق روسي أميركي من أجل حل الأزمة السورية وعلى رأس أولويتها القضاء على تنظيم الدولة، مردفاً أنه “دائماً هناك نظرة مؤامراتية في العالم العربي وهذا غير صحيح. أميركا براغماتية وتقوم بردود أفعال، مثلاً ليس هناك مشروع أميركي يدعو إلى تقسيم سورية ولكن هناك قرار يدعو إلى التهدئة والاستقرار وأن تستمر كل قوة في موقعها وأن تضمن سلامتها، يجب طمأنة الجميع العلويين والأكراد والعرب السنة وكل القوى أنها ستشارك في المفاوضات دون إقصاء لأي طرف لأنهم هم أصحاب القرار في تقرير مصيرهم (ونحن سنساعد في المفاوضات). إذا نتج من التفاوض فيديرالية وإذا أثمرت المفاوضات عن الانفصال فليكن، لأننا لا يمكن أن نسير ضد إرادة الشعوب. الشرق الأوسط الذي نسعى له هو شرق أوسط مستقر وخال من الإرهاب” كما جاء في تصريحه للصحيفة.
اذاً لا يمكن الحكم على سلبية القادم الجديد إلى البيت الأبيض ، و في الوقت ذاته لا يجب التعويل على أنه المنقذ، وفي هذه الحالة نضمن استمرارية العمل دون التوقف و انتظار المجهول في حين أن الموت يواصل الفتك و القتل المستعر.
منذ كتابة وثيقة حقوق الإنسان، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والدول الغربية تتغنى بحقوق الإنسان وبدفاعها عنها، بوصفها حقوقاً طبيعية للبشر، يجب الحصول عليها في كل مكان. لكن عند كل اختبار حقيقي لهذه السردية الغربية الكبرى، وادعاءاتها في حماية حقوق الإنسان على مستوى العالم غير الغربي، نصطدم بحقيقة جزئية هذه السردية، وانطباقها على بشر أكثر من بشر، ما جعل التجارب الكثيرة التي مر بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية تضع هذه القضية في دائرة الشك في عموميتها على مستوى العالم، ما يجعل حقوق الإنسان مسألةً فيها نظر، بعد كل الحبر الذي سال، والخطابات التي دبجت للدفاع عن هذه القضية.
تشكل سورية اليوم اختباراً جديداً لأخلاقيات هذا العالم، ولسردية حقوق الإنسان تحديداً، التي سقطت في الاختبار السوري حتى اليوم. وكان هذا السقوط على مستويين، ما زالا يفقآن عين المجتمع الدولي، والدول الغربية ومقولاتها الكبرى عن حقوق الإنسان. الأول، الحماية المباشرة وغير المباشرة للنظام الذي ارتكب جرائم حربٍ معلنة ضد شعبه، ما زالت مستمرة في عامها السادس. الثاني، العلاج الأوروبي لتدفق اللاجئين على الدول الأوروبية، والتي كان ذروتها في العام 2015 كأثر ارتدادي للوحشية التي تعيشها سورية منذ سنوات.
في المستوى الأول: المذبحة السورية مستمرة، على الرغم من كل الإدانات التي تعرّض لها سلوك النظام، إلا أنه عملياً لم يتعرّض لأية مساءلة، يشعر بها بأي تهديد جدّي من المجتمع الدولي، بشأن عقابه على جرائم الحرب التي يرتكبها بحق شعبه. فعدا كلام الإدانة، كل شيء يسير بالنسبة للنظام السوري، كأن شيئاً لم يكن، ماضٍ في تدمير المدن السورية، وماضٍ في قتل السوريين في السجون خارج القانون، وماضٍ في اقتلاعهم من بلداتهم، بشكل كامل على النموذج الذي كرّسه في داريا في الغوطة الشرقية، والتي لم يبقِ أي شخص من سكانها، لا رجل ولا امرأة ولا طفل. ليس صحيحاً أن العالم لا يستطيع إيجاد حل للصراع الدموي في سورية، بل لا أحد يرغب في إيجاد مثل هذا الحل.
على العكس، من الواضح أن جزءاً من العالم المتحضر الذي يدّعي حقوق الإنسان يتلاعب بالصراع الدموي في سورية، لأسبابٍ تتعلق بمصالحه في المنطقة. وبالتالي، يبدو الصراع الدموي في سورية أنه سيستمر طويلاً، والسبب أن لا أحد من الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لها مصلحة في حل هذا الصراع، وبالتالي، تتراجع مسألة حقوق الإنسان أمام المصالح من جهة، وأمام الرغبات بعدم دفع أي ثمنٍ مهما كان، لوضع حد لهذا الصراع من جهة أخرى. وبذلك، تتم استعادة كل مفاهيم المركزية الأوروبية، والتي تتضمن معايير عنصرية، تحاول أن تتخفى في كلام حداثي، للدفاع عن سياسات العار التي تديرها هذه الدول، للحفاظ على مصالحها. ففي ظل انخراط روسيا مباشرةً في المجزرة الدموية في سورية، زاد الشلل الغربي تجاه النظام السوري خصوصاً، وتجاه الصراع عموماً، وبقيت المحرقة السورية تحصد السوريين، والعالم يتفرّج، وهو يحمل على أكتافه ترسانة حقوق الإنسان الكاذبة، والتي هي سرديةٌ خاصةٌ في نطاق جغرافي معين، وليست شاملةً كل العالم.
المستوى الثاني، كان الهجرة الكثيفة التي توجهت إلى أوروبا، في النصف الثاني من عام 2015، بعد سياسة الباب المفتوح التي أطلقتها المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل. اُعتبر ذلك نوعاً من التعويض عن تقصير الدول الأوروبية في سياستها تجاه المذبحة السورية. لكن الأعداد التي وصلت، اعتبرتها هذه الدول بمثابة طوفانٍ بشريٍّ يهدّد رفاهية هذه البلدان وأمنها. سرعان ما اعتمدت سياساتٍ عنصرية، من أجل كسر هذا الطوفان، ولوقف هذه الموجة من اللاجئين، و"العنصرية" أقل ما يقال في سياسات الدول الأوروبية تجاه الهجرة، فلم تتورّع هذه الدول من توقيع اتفاق العار مع تركيا، وأن تكون واحدةً من أكثر تعبيراته عنصريةً، هي إعادة كل لاجئ يحاول الفرار من المذبحة السورية، ويفكر في الوصول إلى أوروبا إلى المكان الذي جاء منه، أي إعادته من اليونان، المعبر الرئيسي لحركة اللجوء، من حيث أتى، إلى تركيا، مقابل مساعدات مالية كبيرة وتسهيلاتٍ لدخول الأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ولم تكتفِ هذه الدول بهذا الاتفاق، بل صمتت عن جدار الصد العنصري الذي بنته دول شرق أوروبا ووسطها في وجه اللاجئين (في السابق، اعتبرت هذه الدول جدار برلين أيام الحرب البادرة مخالفاً لحقوق الإنسان، ودعت إلى إزالته، اليوم الجدار العنصري وسط أوروبا، ليس كذلك من وجهة نظر المصالح الأوروبية). بعد هذه الإجراءات، بات الوصول إلى الدول الأوروبية المستهدفة باللجوء شبه مستحيل، حيث تراجعت أعداد اللاجئين الواصلين إلى أوروبا، بحيث أن أعداد الواصلين هذا العام، لم تتجاوز العشرة بالمئة من الأعداد التي وصلت في 2015. من الواضح أن الدول التي طالما تسامحت في موضوع الهجرة غير الشرعية، لأنها تجدّد شباب هذه المجتمعات التي تعاني شيخوخة، أظهرت الوجه الآخر، عندما اعتبرت أن هذه الهجرة تشكّل تهديداً أمنياً وتهديداً لنوعية الحياة في هذه البلدان، ولأنها غير قادرة على دمج هذه الأعداد الكبيرة بالسرعة المطلوبة، فكان أن عملت هذه الحكومات، وبسرعة على وقف تعاظم هذه الموجة، مهما كان الثمن، فكانت أن عملت هذه الدول برقابةٍ شديدةٍ على حدودها، ولم يكن غريباً أن تكون أقسى هذه الإجراءات الرقابية، هي التي فرضتها السويد، الأكثر حساسية لحقوق الإنسان، على الداخلين إلى أراضيها. وفي هذه المسألة، كانت حقوق الإنسان منطلقةً من اعتبارات المركزية الأوروبية وحاجاتها. عندما كان هؤلاء اللاجئون الفارون من الحروب مصلحةً أوروبية، كان مرحباً بحمايتهم، وعندما باتوا تهديداً، لم تعد مسألة حمايتهم تعني الدول الأوروبية، حتى لو كانوا قادمين من الحروب، يجب صدّهم. إنها حقوق الإنسان المجبولة بالمصالح، وليس بالمبادئ.
بالتأكيد، ليست سورية دولة مركزية في هذا العالم، لكن هذه الدولة التي تعيش على هامش العالم تختبر سقوط السرديات الكبرى، والأكثر مركزيةً، في أوروبا والعالم، حقوق الإنسان، والتي فشلت في حماية هذا الشعب من المذبحة العلنية التي يتعرّض لها. وفشلت حتى في معالجة الآثار الارتدادية لهذه المدبحة، بتكريس سياسات عنصريةٍ معلنةٍ في مواجهة أي موجة لجوءٍ كثيفةٍ جديدة.
لا يستطيع المرء أن يهرب من التشابه الثقيل بين الهدنة الروسية التي فشلت في حلب ونوع آخر من الهدن السورية التي درج النظام الأسدي على ممارستها. تتوجه الهدنة الروسية إلى مئات آلاف المحاصرين في شرق حلب، للخروج عبر "ممرّات إنسانية"، أو البقاء تحت الحصار واستئناف القصف، "الباص الأخضر أو الموت الشنيع"، بحسب مناشير النظام السوري المصورة، ففي وقت "الهدنة الإنسانية" التي أعلنتها موسكو من جانب واحد في حلب، كانت حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا تقود قافلةً من سبع سفن باتجاه الساحل السوري، لرفع منسوب القوة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإنجاح فكرة الممرّات. أما الهدن السورية فكانت تتوجه إلى سجناء سياسيين مغلوبين، للخروج من السجن عبر التوقيع على شروطٍ تنتقص من كرامتهم الشخصية، دع عنك جانبها السياسي. في الحالين، مطلوب منك أن تترجم ضعفك المادي إلى ضعف معنوي وسياسي وأخلاقي أيضاً. مطلوب منك ليس فقط أن تتخلى عما تريد تحت ضغط القوة، مطلوب منك أن تنكسر، لكي تستمر مكسوراً. في الحالين، هناك ثابتٌ لا تطاوله فكرة التغيير، هو النظام السياسي الذي عليك أن تخضع له، أو تواجه المشقات والخسارات الشخصية اللامحدودة، وصولاً إلى الموت.
الحق أن النظام السياسي الذي لا يقوم على أساس شرعيةٍ مستقرة لا يعنيه كثيراً أن سجين الرأي قد تعب ويئس واقتنع بالانكفاء على ذاته، أو أنه غيّر قناعته السياسية، وبات على قناعاتٍ أخرى، قد تكون قريبةً من المجال الفكري السياسي للنظام. هذا يسعد النظام الأمني بلا شك، لكنه جانبٌ ثانويٌّ في منطق هذه الأنظمة، لأنها أنظمة لا تقوم على القناعة، بل على الخضوع. المهم أن تخضع، الخضوع أهم من الاقتناع. الاقتناع فعلٌ حر غير مستحب، ولا يعول عليه كثيراً، وذلك لأنه قابل للتبدّل بتبدل المعطيات، أما الخضوع، فإنه يدخل القناعات والآراء، ويجعلها موحدة أو متشابهة، والأهم أنه يجعلها مضمونة الثبات، وغير عرضة للتبدل الحر.
والحال هو كذلك في "الممرّات الإنسانية" الروسية. ليس الغرض من هذه الممرّات أن تكون إنسانيةً، كما سُميت. ليس المقصود منها إنقاذ أرواح مدنيين، احتراماً للحياة، باعتبارها قيمة عليا، المرجو منها أن تكون ممرات إخضاع، يدخل عبرها السوريون "الذين هناك" إلى حظيرة السوريين "الذين هنا"، بعد أن أدركوا، بجوعهم وموتهم، أن النظام لا يتغير، أو أن لتغييره ثمناً ليسوا جاهزين لدفعه..إلخ. هكذا هي بالضبط هذه "الممرّات الآمنة" في عين النظام السوري. أما كلام المتحدثة باسم مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا "إن المنظمة ضد إجلاء المدنيين ما لم يكن ذلك طوعاً"، فليس سوى هراء. هل من طواعيةٍ في ظل حرب؟ وكيف يترك مدنيون بيوتهم وممتلكاتهم وأحياءهم طوعاً؟
قد تحمل هذه الممرّات في العين الروسية معنىً إضافياً، يفرضه البعد العالمي للموضوع السوري، الذي يدفع روسيا إلى الاهتمام بالحد من النقد الدولي، فضلاً عن تفاديها القوة الحالية للإعلام التي جعلت فلاديمير بوتين ينفعل في مؤتمر فلدائي في 27 أكتوبر/ تشرين الأول: "أسمع دائماً حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟"، بعد أن أشاد بالتجربة الإسرائيلية في مكافحة الإرهاب الفلسطيني (!).
لا يتوقف التشابه عند هذا الحد، بين ممر السجناء السياسيين في سورية إلى "الحرية"، وممر المحاصرين في حلب إلى مناطق النظام، فالتشابه يطاول استجابة المغلوبين أو الضعفاء أيضاً. هنا وهناك، تجد نسبة عالية من الرفض وعدم الاستجابة، مع ما يحمله هذا من قبول الرافضين بنهاية تعيسة، من دون القبول بكسر النفس.
يمكن تلمس عناصر عديدة لتفسير إحجام المدنيين المحاصرين في حلب عن الخروج عبر الممرّات الروسية. هناك خوف المدنيين من سطوة الفصائل المسلحة التي رفضت، في مجملها، الخروج، وخوف المدنيين من غدر النظام بهم، فهم يعرفون ما حصل في حمص من قبل، حين أُهين عديدون، واعتقل عديدون من الخارجين على الحواجز. ومن دلالات الغدر المبيت رفض روسيا تسليم المعابر إلى الأمم المتحدة، وقد ذكرت تقارير صحافية أجنبية، وجود "قضاة"، كما يسميهم تقرير مراسل "نيويورك تايمز"، على الممرات لفرز المطلوبين للنظام من بين الخارجين. ولكن، إضافة إلى هذه الأسباب السياسية، لا بد أن هناك دوافع إنسانية عميقة لعدم الخروج. هناك من رفض الخروج، حتى لو كان مقتنعاً به، لأنه لا يقبل أن ينجو فيما يبقى الآخرون الذين يشاركونه الظروف نفسها، عرضةً للموت. وهناك أيضاً من يرفضون الخروج نوعاً من الانتصار لأنفسهم ضد جبروت القوة المحضة. هناك من يرفض الخضوع، مهما كانت العواقب. لا شك أن في النفس البشرية ما يبقى عصياً على الكسر، وما يمكن أن يجعل المرء يقبل الموت لقاء موقف. ويبقى ثمة نسبة من الناس، تقلّ أو تكثر، أمينة لهذا السر البشري الرائع. المدني الذي رفض الخروج لا يعني أنه يفضل الفصائل المسلحة، إلا بقدر ما يعني أن السجين الذي يرفض قبول شروط النظام للإفراج عنه يفضل حياة السجن.
الكلام عن ممرات الإخضاع ونقدها وإدانة دوافعها الحقيقية بوصفها دوافع تسلط وقهر وليست دوافع إنسانية وتصالحية حقيقية، لا يتضمن أي إغفالٍ للطبيعة التسلطية للفصائل الإسلامية التي تقاتل النظام هناك. ولا يتضمن أي قبولٍ بفكرها أو سلوكها الطائفي الشبيه بسلوك النظام وحلفائه، لكنه يتضمن القول إن الحل العنيف القائم على القوة المحض يعزّز الفصائل الإسلامية، بدلاً من عزلها، وإن فشل تجربة هذه الممرات نموذج مصغر عن الفشل العام الذي يحكم مقاربة النظام وحلفائه للخروج من الكارثة السورية.
كتبت صحيفة الفاينانشال تايمز، في السابع من أبريل/ نيسان الماضي، أن طموحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تعيد تشكيل النظام العالمي. لا مبالغة كبيرة في استنتاج الجريدة، اعترف به الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ضمنياً، عندما قال "نحن نقوم بالاستثمار الضروري لقدراتنا العسكرية، لردع العدوان والدفاع عن أمننا وأمن حلفائنا. وهذا يشمل توسيع خططنا في أوروبا، لدعم حلفائنا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ضوء الإجراءات العدوانية التي تقوم بها روسيا". كان هذا الإعلان قبل يومين من ظهور عدد "فاينانشال تايمز"، أما التهديدات التي قصدها أوباما، فقد عبر عنها مسؤول رفيع في "الناتو"، قائلاً "في السنوات الخمس الأخيرة، قام بوتين بالاستثمار بشكل كبير في القوات، وأنشأ قوات برية جيدة. وقد رأيتم قواته الجوية في سورية، حيث اجتازت اختبارها هناك. وقد أنشأ صواريخ بعيدة المدى ذات توجيه دقيق، والتي تم إطلاقها من السفن، وأيضاً من الغواصات. فهو أوجد الفرصة لإظهار القوة، وقام باستغلالها". الأمر الذي يجب التوقف عنده أن تصاعد القدرة العسكرية الروسية، وعرضها علناً على شكل صواريخ قادرة على الوصول وطائرات متفوقة مترافق مع أداء اقتصادي ضعيف جداً.
كان هم كرادلة الكرملين، في أثناء الحقبة الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأميركا، تحقيق تفوق عسكري، وكانت أيديولوجيا ماركس ولينين تتحول إلى وقودٍ سائل وجاف للصواريخ عابرة القارات، وأسلحة نووية ذات قدرة تدميرية مروعة، واستطاع بالفعل ذلك الكيان القائم على لاهوت سياسي، يتم فيه تسويق الفقر على أنه ديمقراطية شعبية، أن يحافظ على توازنٍ عسكريٍّ مثير للدهشة، على الرغم من الاقتصاد المزري الذي كان يقف عند حافة الانهيار.
تتعدّى طموحات بوتين إقليمه الضيق، ولا ترضى بدور محدود، يقتصر على دول الجوار، فهو صاحب رؤية "سوفياتية" ذات مدى عالمي، ولا يرى نفسه أقل من "كاردينال" شيوعي، وهو يؤمن بأنه قادر على الوصول إلى حدودٍ بعيدة، بغض النظر عن مستوى روسيا الاقتصادي، ويمكن لطموحه أن يبقى في أوج زهوه السياسي، مثلما حافظ الاتحاد السوفييتي على مستوى قوته عالمياً، بعيداً عن ظروف الاقتصاد.
هناك فرق مهم بين الاتحاد السوفييتي الذي كان يدير اقتصاديات الفقر بشكل مركزي، بمساعدة المخابرات (كي جي بي) أحياناً، والنظام الروسي الحالي الذي خصخص جزئياً بعض قطاعاته الاقتصادية، وأصبح يضبط أداءه التجاري على إيقاعات السوق. وكان قد استفاد من الطفرة الاقتصادية في السنوات العشر الأولى للقرن الحالي، فضاعف، وفق الطموح البوتيني، الإنفاق العسكري بشكل كبير. ولمواجهة أي هجوم اقتصادي غربي، بدأ بوتين فترة رئاسته عام 2012 بمجموعة مراسيم اقتصادية، سميت "مراسيم مايو"، قرّر فيها رفع الإنتاجية بمقدار كبير وزيادة الأجور، وركّز على قطاعات اقتصادية محدّدة، ووضع هدفاً لتطبيقها عام 2018، وهو تاريخ نهاية فترته الانتخابية. ولكن، بعد عام واحد، بدأت النتائج السيئة بالظهور، فأعيد طرح خطط اقتصادية. لكن، هذه المرة، من الوزارات المختصة، وليس بطريقة مراسيم بوتين الرئاسية.
يواجه الغرب طموحات بوتين بتدابير اقتصادية وعقوبات مباشرة، وأحياناً بإغراق الخصم بمشكلات استنزافية، من دون التورّط بأي شكل من المواجهات العسكرية المباشرة، أو غير المباشرة. ويتَّبِع أوباما سياسة دع المحموم يموت وحده، فهو يعتقد أن أزمة أوكرانيا، ومزيداً من التورط في سورية، سيجبران بوتين على الانكفاء. ولكن، في ظل تدابير بوتين الاقتصادية المستمرة، والتي تشحذ حلولاً، وإن مؤقتة، وضعف المجتمع المدني الروسي، وفقر الحياة السياسية، وهي ميزة أصلية في المجتمع الروسي، ربما من الإرث السوفييتي القديم، قد يضطر الغرب أن ينتظر طويلاً قبل أن يشاهد بوتين في مرحلة الاحتضار. وبنظرةٍ زمنيةٍ، نرى أنه لم تظهر على المجتمع السوفييتي علائم الانحلال، إلا في عهد غورباتشوف، وبين بداية عهد غورباتشوف وانتهاء الحرب العالمية الثانية، مرَّ أربعون عاماً، أما بوتين فلم يُمض بعد أكثر من ستة عشر عاماً، وانتظار الحمى تستلزم وقتاً طويلاً، لا تحتمله الشعوب.
بإعلان نتائج الانتخابات الأميركية في الساعات الأولى من صباح 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، ستطوى صفحة رئاسة باراك أوباما وتبدأ مرحلة الانتقال إلى الرئيس – أو الرئيسة – الـ45 للولايات المتحدة. ومع تعنت الكونغرس الأميركي، ودخول الولايات المتحدة معركة الانتخابات الرئاسية منذ أكثر من عام، جسد أوباما رئاسة «البطة العرجاء»، مكتفيًا بإجراء المقابلات الصحافية، وإلقاء الخطابات تأييدًا للحزب الديمقراطي استعدادًا للانتخابات.
وبينما إرث أوباما الداخلي – من فرض إصلاح برنامج الرعاية الصحية إلى التوترات العرقية في البلاد – يعني الشعب الأميركي، نرى إرثه في العالم العربي معكرًا بنهج «اللافعل» الذي بات غطاء لسياسات تترك تساؤلات عن حقيقة دوافع أوباما الخارجية.
لا شك أن أوباما أراد أن يفتح صفحة جديدة مع إيران، جزء منها ليقدم «نجاحًا» دبلوماسيًا بعد فشل جهود السلام العربي – الإسرائيلي، وجزء لمنع حرب مع إيران كانت إسرائيل قد هددت تكرارًا بإمكانية إطلاق الشرارة الأولى فيها.
كما أن أوباما أراد أن يثبت أنه عارض حرب العراق، وعليه اندفع لإبعاد بلاده عن الساحة العراقية، وتجسد ذلك بتسليم نائبه جو بايدن الملف العراقي بنتائج كارثية. وأما الثورات العربية لعام 2011، فأظهرت انعدام خبرة فريق البيت الأبيض في التعامل مع أزمات المنطقة، وعدم اكتراثه بالقيام بدور فعال وملموس في أحرج وقت للمنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى لواشنطن.
والتخبط الأميركي في معالجة الملف السوري ساهم بأسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم هذا القرن. وفي مقابلة مع مجلة «فانيتي فير» نشرت الأسبوع الماضي، قال أوباما إن قضية سوريا هي أكثر قضية يعود ويفكر فيها، ويتساءل: «هل كان هناك خيار لم نفكر فيه؟»، إذ هو مقتنع بأن من بين جميع الخيارات التي طرحت أمامه للتصرف في سوريا، بما في ذلك فرض منطقة حظر جوي والتحرك ضد الرئيس السوري بشار الأسد بعد تخطي «خط السلاح الكيماوي الأحمر»، لم يكن هناك خيار يمكن اتباعه.
فاختار «اللافعل»، بانتظار أن تتغير التطورات في سوريا لما يناسبه، وعندما لم يحدث ذلك، بإمكانه التحجج بأنه غير مسؤول لأنه لم يقم بفعل ما. وهذا العذر امتداد لنهج أوباما المبني على عدم القيام بسياسات يندم عليها لاحقًا؛ إذ عبارة «لا تفعل أفعالاً حمقاء» باتت تعرف بمبدأ أوباما في الحكم، وخصوصا في انتهاج السياسات الأميركية. وكان هذا تفسير أوباما الذي يكرره المقربون منه في شرح سياساته في المنطقة.
كما أراد أوباما أن يوزع مسؤولية سياسات بلاده في المنطقة من خلال «القيادة من الخلف»، وهي المقولة التي اشتهرت خلال فترة العمليات العسكرية للإطاحة بالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي 2011، فلم يشأ أوباما أن تكون أميركا في الواجهة في تلك العمليات، فاكتفى بـ«القيادة من الخلف»، أي أن تكون واشنطن قائدة غير رسمية للعمليات العسكرية، من دون أن تعطي القيادة السياسية المتطلبة لفترة ما بعد القذافي. ونرى نتائج ذلك على ليبيا اليوم.
وهذه العبارة كررت مرات عدة في وصف منهج أوباما. فعلى سبيل المثال، فاو طهران سرًا لأكثر من 18 شهرًا، ثم جعل الاتفاق النووي في إطار «الدول الخمس زائد واحد»، علما بأنه كلما استعصت المفاوضات عادت لتكون بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الإيراني جواد ظريف. كما أن «الحرب على (داعش)» بقيادة أميركية لتحالف من «62 دولة»، لكن جميع العمليات تخاض من خلال القيادة المركزية الأميركية من مقرها في الدوحة. إلا أن الحالتين – وحالات أخرى في سوريا ومصر وليبيا وغيرها – تظهر أن التدخل الأميركي كان موجودًا ولم ينقطع مع أوباما، بل كان مغلفًا بـ«عدم الفعل»، لتكون «أنصاف الحلول» حجة لعدم تحمل المسؤولية. فالولايات المتحدة تقول إنها لم تتدخل في سوريا، ولكن من إعلان «فقدان الأسد الشرعية» إلى تسليح جزئي للمعارضة أعطى عنها رسائل خاطئة، تدخلت. كما جاء أوباما للرئاسة بوعد «إنهاء الحرب في العراق»، وفي آخر أسبوع قبل أن تختار الولايات المتحدة رئيسها الجديد، هناك 5500 جندي أميركي في العراق، وسيبقون هناك إلى أجل غير مسمى.
وعلى الرغم من إصرار أوباما على أنه يريد تقليص عمليات بلاده العسكرية- الرئيس الحاصل على جائزة «نوبل للسلام» عام 2009- قد وافق على أكثر من 500 ضربة جوية عبر الطائرات من دون طيار منذ 2009، وذلك بالإضافة إلى قصف جوي شبه يومي في أجزاء من العراق وسوريا خلال العامين الماضيين.
وفي يوليو (تموز) الماضي، قررت إدارة أوباما الانصياع لمطالب الحقوقيين والمنظمات الدولية، وأعلنت عن عدد الضربات الجوية خلال عهد الرئيس الأميركي. وجاء في تقرير رسمي أن أوباما صادق على 473 ضربة جوية، غالبها عبر الطائرات من دون طيار، قتلت بين 2372 و2581 «مقاتلاً إرهابيًا». كما جاء في التقرير أن 116 مدنيًا قتلوا باعتراف أميركي رسمي.
وخلال ولاية أوباما كانت هناك عمليات قصف بين تارة وأخرى على العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وأفغانستان وباكستان. ومن المرجح أن يواصل الرئيس الجديد هذه العمليات العسكرية، ولكن المطلوب أن تكون الجهود الدبلوماسية كثر فاعلية من القنابل التي لم نعد نعلم يقينًا عدد ضحاياها، أو آثارها البعيدة المدى. الاعتماد على عمليات عسكرية محدودة من دون استراتيجية أوضح من واشنطن خلال عهد أوباما وعدم قبوله بتحمل واشنطن مسؤولياتها كـ«دولة عظمى» والاعتماد على «القيادة من الخلف»، زاد تأزم الأوضاع في منطقة لم تعد تتحمل المزيد من التخبط.