مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٤ نوفمبر ٢٠١٦
الصورة الفيسبوكية لليأس السوري

عند استعادة الحديث عن الأعوام الأولى للحراك السوري، يميل كثيرون إلى الحديث عن أن الشوارع "غصّت" بالشباب السوري، في المظاهرات والوقفات السلمية. لا شك أن الحراك كان موجوداً وفعالاً، خصوصاً في العام الأول، قبل التحول إلى خطاب تسليحي علني. ولكن جدلاً ليس قليلاً كان يتناول أعداد هؤلاء الشباب، ونسب المشاركة.

والحقيقة أن هذا الجدل غير منصف إطلاقاً، إذا اقتصر على "الشارع" بمعناه الحرفي، فلم يكتف الشباب الناشط السوري بالعمل على المظاهرات وحسب. كان عدد كبير منهم من الأوائل المشاركين في تخطيط الأنشطة المدنية، وإنجاز نشاطات فنية بصرية (غرافيتي مثلاً) أو موسيقية، فيما انهمك جزء كبير منهم في مساعدة الوافدين وتأمين احتياجاتهم والمناصرة عبر مجموعات وصفحات "فيسبوك" أطلقوها من باب "الفزعة" لمساعدة إخوتهم السوريين في المدارس والملاجئ، أو ممن لا مكان لهم. شهدت تلك الفترة الوسيطة حضوراً راسخاً لتشارك الهم السوري والمعاناة الإنسانية التي جمعت السوريين في مناطق مختلفة، وتجدر الإشارة إلى أن النظام الحاكم نفسه، في تلك المرحلة من الانفجار التاريخي، لم يملك إلا ترك هذه المجموعات تعمل على تنظيف الفوضى التي خلفتها سياساته العشوائية. وبذلك، كان في كل محافظة أو مدينة عشرات المجموعات التي تعمل في مبادراتها المستقلة قصيرة الأمد، من جمع بطانيات إلى تأمين ألبسة أو مساعدة في تحضير مراكز الإيواء. بدا وكأن هذا الحشد من الشباب السوري المنتشر كان الطرف الذي حال دون انهيار المجتمع فجأة ودونما إنذار، والأهم أنهم قدموا كل تلك الجهود من دون طلبٍ من أحد.

هناك سببان كبيران أديا إلى تراجع هذه الظاهرة، فمن جهة أولى، كان أغلب هؤلاء الشباب يتطوعون بجهودهم أو بأموالهم في محنةٍ سوريةٍ، افترضوا أنها ستدوم أسابيع أو ربما بضعة أشهر. ليس من المستغرب أن نسبة كبيرةً منهم قد استنفذت لاحقاً، وأعلنت عجزها عن الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة، خصوصاً مع تداخل أدوار "المساعدين" و"المحتاجين". تعرّض بعض هؤلاء، عاجلاً أم آجلاً، لخسارات متلاحقة، مادياً ومعنوياً ونفسياً، من دون تعويض أو مساعدة أو أمل بالحل.

من جهة ثانية، بعد انقشاع غبار الفوضى في عدة مناطق من سورية، عاود النظام السوري ترتيب أولوياته للتحكم بتفاصيل العمل المدني بالترغيب والترهيب، فشدد التضييق على أغلب ناشطي العمل المدني باتجاه العمل تحت "سقف الوطن"، أو الهروب خارج البلاد.

في العامين الأخيرين، اختفت تلك المجموعات التي كانت تعمل بجد في تأمين أوضاع النازحين في سورية، أو العمل على حمايتهم، وانتشر ناشطوها في أصقاع الأرض، متجهين نحو الخلاص الشخصي والهروب من الجحيم السوري إلى أبعد ما يمكن. لكن، حينما عبر كثيرون منهم هذه المرحلة، عاد ذلك النشاط بصورة أخرى، بل بهدف آخر تماماً: إخراج باقي السوريين من الجحيم ذاته، فظهرت من جديد المجموعات التي تنذر نفسها لمساعدة السوريين، إنما لتقدّم، هذه المرة، خدمات تبدأ من تأمين المنح الدراسية، إلى تأمين العمل للاجئين، وصولاً إلى تيسير خدمات تزوير الأوراق الرسمية للسوريين وتقديم المساعدة والإرشاد في دول اللجوء. وتخصصت عشرات المجموعات في "فيسبوك" في (لم شمل السوريين) و(تهريب السوريين)، فيما تخصصت صفحات أخرى في ملاحقة وعرض تفوق سوريين عديدين في بلاد اللجوء دراسياً أو أخلاقياً أو علمياً... وما تزال هذه المجموعات تتكاثر بالعشرات، بشكل تطوعي وغير مأجور في معظم الحالات.

إنه اليأس يعلن نفسه، اليأس من أن المأساة السورية قابلة للإصلاح. هو انتصار خيار "الوطن الكريم" على خيار "الوطن السوري"، مع محاولات جميع أطراف النزاع التأكيد على استحالة اجتماعهما.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٦
عزل تركيا عن شمال العراق وشرق سورية

ثمة مقاربة تحليلية تقول أن الهدوء الملتبس الذي تعيشه العلاقة التركية - الإيرانية، والمصالحة المُقيَّدة التي تمّتْ قبل أشهر بين أنقرة وموسكو، سيكون مصير كلٍّ منهما إلى التفكك والاضطراب في حال استمرت استراتيجية عزل تركيا عن التأثير في شمال العراق وشرق سورية.

مظاهر هذا العزل ومؤشراته قد تتمظهر في تحرك «الحشد الشعبي» صوب تلعفر التركمانية، وهو الذي يقول أن مسعاه سيكون الحيلولة دون هروب «داعش» من الموصل باتجاه سورية والرقة، فيما تذهب تكهنات بأن الهدف المستتر لـ»الحشد» هو تأمين طريق بين سورية وإيران عبر العراق. وإذا صحّت الأنباء عن أن الدعم الإيراني للميليشيات الموالية لطهران في تلعفر صار يشمل «حزب العمّال الكردستاني»، فإن هذا يغذي مقاربة عزل تركيا، التي أعلن وزير دفاعها، فكري إشيق، أن (بلاده ليست في وارد الانتظار وراء حدودها مع العراق، وستفعل كل ما هو ضروري إذا أصبح لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني» وجود في منطقة سنجار). وسيبقى السؤال حاضراً في الفترة المقبلة عن سلّة الخيارات المتاحة أمام تركيا لتأمين ما تراه «خطوطاً حُمراً» في العراق وسورية.

ومثلما يتمّ ابتزاز أميركا التي تقود عملية الموصل من خلال إقحام الميليشيات الشيعية في المعركة، وتجاوز ما اتفق عليه بالنسبة الى المحور الغربي للموصل الممتد باتجاه الرقة السورية، يتمّ ابتزاز تركيا بالميليشيات نفسها، إضافة إلى تقديم الدعم الإيراني لـ «وحدات الشعب الكردية» في أرياف حلب، لتكون أنقرة أمام معضلتين: احتمالات خسارة أو تهديد ما أنجزته عملية «درع الفرات»، وضياع قيمة التنازلات التي قدمتها أنقرة لموسكو في حلب حينما بدأت بتلك العملية، إثر الاعتذار الشهير الذي قدّمه الرئيس رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين.

سياسة العزل تقتضي تكرار الاتهام من جانب موسكو وطهران ودمشق بأن أميركا وتركيا تتلكآن في مواجهة الإرهاب حين تترددان في التعاون مع مطالب موسكو بفصل الفصائل المعتدلة عن الفصائل المتطرفة في حلب، ومن هنا مواصلة الابتزاز لتبرير العنف المفرط و»الأرض المحروقة» اللذين تقودهما موسكو وطهران والنظام السوري في حلب، ومواصلة استراتيجية إفراغ شرق حلب من السكان، وهو ما يصبّ في مصلحة الاستراتيجيتين الإيرانية والروسية اللتين تقاومان سياسة الاستنزاف الأميركية لهما بضرب منهج «إدارة التوازنات»، الذي تحاول واشنطن ممارسته في الموصل والرقة، وسيتحقق هذا الضرب في حال تبيّن من إدارة المعارك في الأيام المقبلة، أنّ ثمة قراراً روسياً - إيرانياً بالسيطرة على كامل حلب قبل مجيء إدارة أميركية جديدة.

وعلى رغم تحذيرات تركيا من محاولة عزل تأثيرها وتأمين مصالحها في شمال العراق وشرق سورية، فإن موسكو وطهران والميليشيات الشيعية لم تختبر بما فيه الكفاية جدية ميدانية عالية من جانب أنقرة في الإصرار على موقفها الهادف إلى منع العزل مهما كانت كلفة ذلك، ولا يبدو التحالف مع أثيل النجيفي وأسامة النجيفي مؤثراً وكافياً في هذا السياق، وهو ما قد يفتح المجال للتكهن بأن اختبارات من هذا النوع قد تشهدها المنطقة، إذا لم تتقدم «التسويات» و»حفظ ماء الوجه» على صوت الرصاص والمقاتلات وكسر العظم من الأطراف المتصارعة.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٦
الشرق الأوسط بين "تعهد" ترامب و"تخوف" كلينتون

الرئيس الذي اعتمد شعار «عدم الفعل» كسياسة عامة تقترب رئاسته من النهاية، وإذا تطلع الرئيس الأميركي باراك أوباما على المشهد الجيوسياسي العالمي، يجد أوروبا مرعوبة من الحزم الروسي، وبلاده تواجه المطحنة الصينية، ويرى موجة غير مسبوقة من الهجرة العالمية، فيها الأفارقة، والعرب والآسيويون، ويرى تغيرًا للمناخ، تم التوقيع على الحد منه، لكن لم يبدأ تطبيقه بعد، ويرى بالتحديد الشرق الأوسط كنقطة محورية لكثير من هذه التحديات. فالهجرة بالذات التي طالت الآن أبناء الدول الغارقة في الحروب قد تشمل لاحقًا أبناء دول غنية، بلغت درجة الحرارة فيها الصيف الماضي نقطة غير مسبوقة، مع ما سيليها من جفاف لأرضها ولمياهها.

من المؤكد أن إدارة الرئيس الأميركي المقبل ستواجه توترات كثيرة في الشرق الأوسط: حروبًا أهلية متعددة، انهيارًا للدولة وتشردًا للشعوب، وهذا يفرض على الإدارة المقبلة، أكانت من الجمهوريين أو من الديمقراطيين اتخاذ نهج استباقي قصير وبعيد الأمد، لذلك تعمل نخبة من مراقبي السياسة الخارجية في الحزبين على وضع الأساس للسياسة الخارجية الأميركية.

ليس من غير المألوف أن تنكب المؤسسات المتخصصة على وضع الدراسات المهمة في الأشهر الأخيرة من فترة أي رئيس أميركي لتصحيح أخطائه، والتأثير على من سيخلفه. مركز «التقدم الأميركي» وضع تقريره بعنوان: «الاستفادة من قوة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط – خطة لتعزيز الشراكات الإقليمية». أشرف على التقرير بريان كاتوليس، زميل متقدم في المركز، بمشاركة محللين وباحثين آخرين، أمضوا السنتين الأخيرتين في المنطقة. يرى التقرير أن أحداث المنطقة الأخيرة جعلت بعض الأميركيين يتساءل عن معنى التدخل الأميركي في المنطقة، لكن هذه الأحداث بالذات بدءًا من صعود «داعش»، إلى أزمة اللاجئين التي امتدت إلى أوروبا تثبت أن للولايات المتحدة مصالح مهمة على المحك إزاء ما يحدث في المنطقة.

يدعو التقرير الولايات المتحدة إلى الابتعاد عن دور إدارة الأزمات إلى مفهوم القيادة الأميركية المتجددة والمتفاعلة في المنطقة التي تصعّد التزاماتها العسكرية، إضافة إلى انخراط دبلوماسي واقتصادي.

هناك دعوة للرئيس المقبل إلى تنويع التعاون المتعدد الأطراف مع الشركاء الإقليميين، واتخاذ خطوات سريعة وحاسمة لوضع إطار أمني إقليمي، مع الإشارة إلى أن يكون مستعدًا لاستخدام القوة الجوية لحماية شركاء الولايات المتحدة والمدنيين في عدة مناطق في سوريا، مع التفكير بإقامة مناطق آمنة، وأيضًا حماية المعارضة السورية المعتدلة من هجمات النظام وغارات الروس.

ليس معروفًا ما إذا كان ممكنًا تطبيق هذه الاقتراحات من قبل الرئيس الأميركي المقبل. فالمرشح الجمهوري دونالد ترامب «قرر» أن يحتفظ بخطته العسكرية لهزيمة «داعش»، ولا يبدو أن هذه الخطة تشمل حماية المدنيين بل هو يرى أن النظام السوري يقوم بهذه المهمة، وكذلك القوات الروسية. أما المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون فقد قالت في تعليقات خاصة للمصرفيين، حسب تسريبات «ويكيليكس»: «إن إقامة ملاذات آمنة ستكون أمرًا صعبًا يتطلب تدمير الدفاعات الجوية السورية، وبالتالي لا يمكن الاعتقاد بأن خوض الحرب ضد الأسد ليس أيضًا ضد الروس».

من هنا، يقترح التقرير تكثيف التواصل الدبلوماسي مع الشركاء الإقليميين الذين يرتبطون بواشنطن بعلاقات قديمة، بهدف تنظيم مؤتمر إقليمي في أوائل عام 2018 يقوم على رؤية مشتركة طويلة الأجل للشرق الأوسط.

كما يدعو مركز «التقدم الأميركي» الإدارة الأميركية الجديدة إلى مواجهة النفوذ الإيراني السلبي، وضمان امتثالها لبنود الاتفاق النووي، وفي الوقت نفسه استخدام النفوذ مع الشركاء الإقليميين لنزع فتيل الصراعات الداخلية، والعمل مع الشركاء العالميين لخلق مواثيق دولية، تدعم فعالية ونمو الحكومات الشرعية والمجتمعات في المنطقة.

يجد التقرير إيجابية في الإدارة الثانية للرئيس أوباما، حيث ضاعفت من استثماراتها في الشراكات مع دول المنطقة، خصوصًا على الجبهة العسكرية، لكنه يجد أن هذا النهج غير مكتمل، لا بل يفتقر إلى إطار استراتيجي للمدى الطويل.

هناك عدم ثقة متبادل بين أميركا وحلفائها، وذلك لعدة أسباب؛ أبرزها حرب العراق عام 2003، وما أسفر عنها من زعزعة الاستقرار في المنطقة، والردود الأميركية على الانتفاضات العربية، والخلاف حول دور الإسلام السياسي، والموقف الأميركي من الحرب الأهلية في سوريا، والقلق من أن الاتفاق النووي مع إيران كان محاولة لبناء شراكة أميركية معها، يضاف إلى ذلك جهود إدارة أوباما لإعادة التركيز الأميركي على مناطق أخرى في آسيا، فخلقت انطباعًا خاطئًا في الشرق الأوسط بأن أميركا على وشك الانسحاب الكامل من المنطقة.

من ناحية عدم الثقة التي عاشتها أميركا، فإن السبب كان هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، إضافة إلى دعم بعض شركائها الإقليميين التفسيرات المتطرفة للإسلام. من هنا يدعو التقرير الأميركي الإدارة المقبلة إلى السعي لإعادة تقويم الارتباط الأميركي في المنطقة والتركيز على تعزيز التعاون «مع الشركاء المعروفين» والمزيد من التواصل مع جيل الشباب، وجهود أكثر لبناء حوافز إيجابية لدعم الشرعية السياسية والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.

لا يتردد التقرير في أن يطلب من الإدارة المقبلة أن تلتزم. فإذا كانت الخطوات التي دعا إليها لا يمكن تطبيقها دفعة واحدة، لكن قد تتحقق إذا نصّت الولايات المتحدة وبوضوح على التزاماتها وأهدافها بعيدة المدى في المنطقة، لأنه في وقت التجزئة الإقليمية تستطيع واشنطن أن تلعب دورًا مهمًا في بناء الشراكات على جبهات الأمن والدبلوماسية والاقتصاد، وتعمل بالذات على منع استمرار انهيار أنظمة دول الإقليم.

تقرير «الاستفادة من قوة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط» يعترف بأن العلاقات بين واشنطن والدول الأخرى تتغير، فالأطراف كلها يجب أن تحترم دورة التاريخ وحق الشعوب كلها بالتعبير عن رأيها في ظل قوانين تحفظ حقوقها. في صفحاته يدعو الإدارة الأميركية المقبلة إلى وجوب العمل مع شعوب المنطقة وشركائها الموثوقين الذين يُمكن الاعتماد عليهم من حكومات قادرة وقطاع خاص «لإبرام صفقة جديدة مع الشرق الأوسط».

هناك توافق في العالم على تدني الهالة الأميركية وتقلُّص دورها. هكذا أراد الرئيس الحالي باراك أوباما. والمقابلة التي أعطاها لمجلة «أتلانتيك» في الشهر الأول من العام الحالي، كانت بمثابة جرس إنذار لكثير من الدول العربية، فكان عليها أن تنوع في تطلعاتها وتكون حذرة. ورغم الاعتراف بأن أميركا تبقى القوة الأقوى في العالم اقتصاديًا وعسكريًا، فإن هذا لم يمنع الصين مثلاً من مواصلة استراتيجيتها، ولم يمنع روسيا - بوتين، رغم كل المشكلات الاقتصادية وأزمة أسعار النفط من التحدي.

تقرير مركز «التقدم الأميركي»، يؤكد أهمية الشرق الأوسط لأميركا. فموقع المنطقة الجغرافي حيوي للنقل البري والبحري والتجارة العالمية، وهي مستمرة حتى اليوم في دورها بربط آسيا وأفريقيا وأوروبا حتى مع مشكلاتها الحالية. يقول التقرير إن للمنطقة إمكانات كبيرة للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. ويشير إلى عدد من دول الخليج العربي الغنية، التي تتجه إلى تنويع اقتصادها، فهذا يمكن أن يخلق إمكانات جديدة للنمو الاقتصادي والاستثمار الأجنبي المباشر. ثم يقول: «في الشرق الأوسط هناك (طعن) للحريات الأساسية، وبالتالي ما سينتج عنه سيكون له التأثير المباشر على الأمن الأميركي»، ويعطي مثلاً: «شراسة نظام الأسد ضد شعبه في سوريا، والصراع ضد المجموعات المتطرفة التي تهدف إلى إقامة مجتمع اليوم كما تتخيل أنه كان قائمًا قبل ألف سنة».

وكنصيحة لدول المنطقة، يطرح التقرير ما أصبح واقعًا حتى لو حاول كثيرون قمعه، وهو بروز التعددية السياسية والدينية، والمزيد من الانفتاح، والمساواة للنساء واحترام حقوق الإنسان العالمية بغض النظر عن العرق أو الدين أو التوجه الجنسي.

إذا احترمت دول الشرق الأوسط هذه الحقائق، يقول التقرير إن ذلك سيكون من مصلحتها، لأن الولايات المتحدة يمكنها أن تشجع وتساعد الناس والبلدان في المنطقة على التوجه نحو طريق التقدم، لكن يبقى الأمر متروكًا لشعوب المنطقة للسير فعلاً في هذا الطريق.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٦
في تحويلنا نحن السوريين، كائنات بيولوجية

كي تكتمل مأساة السوريين، بات النقاش الدولي حولها شبه مقتصر على جلسات لمجلس الأمن، يُمنح فيه مندوبا روسيا والنظام حرية التحدث ببذاءة، كمقايضة مع إدانات غربية لا تتجاوز التنصل من المسؤولية الأخلاقية. هكذا، لا يكون من شأن لجثث أطفال مدرسة حاس في المجزرة الأخيرة سوى كونها مادة لتكرار الجدل الدولي الممجوج. لكن الأخير يبقى على رغم تكراره متحلياً بقدرته على التأثير، فتكرار الإهانة الجماعية المشتركة يجعلها موغلة في الأعماق، ويُرجّح أن يجعلها غير قابلة للشفاء.

قتل الأطفال على باب مدرستهم ليس جديداً، وفي ذمة النظام وحلفائه نحو 3500 مدرسة دُمّرت وهي فارغة أو أثناء وجود التلاميذ فيها، ولكن مثلما يزيد تكرار الإهانة الدولية (المتلطية وراء العجز) حجم الحقد، فتكرار المجازر يفاقم الألم والحقد. ليست مرات الاستهداف هي الكثيرة فقط، وإنما النقاش الدولي في ما هو مسموح من طرق القتل العشوائي وما هو ممنوع، ما يجعل المسألة برمتها تتعدى موضوع الحرب بكل ضوابطها وفق القانون الدولي. نحن، على نحو أكثر تحديداً، ضحايا حرب يلتبس فيها السلوك الدولي بسلوك القاتل في شكل يندر مثيله. حتى الصمت الدولي على جرائم إسرائيل لا يقدم معياراً لحالتنا، لأن القاتل الإسرائيلي لم يخرق قوانين الحرب إلى هذه الدرجة، كماً ونوعاً.

لم يحدث في التاريخ المعاصر أن عانى ملايين من التجويع، ولم يحدث هذا الإقرار الدولي بسلاح التجويع ومن ثم التفاوض حوله، بل حول تفاصيل ما يجب إدخاله لسد رمق المدنيين المحاصرين، ولوقت قصير في الحالات القليلة التي نجح فيها التفاوض. ولم يحدث في التاريخ المعاصر أن يُضطر مجلس الأمن إلى مناقشة الحد المسموح به من جرائم الحرب، واعتبار التقليل منها إنجازاً، مع أن التقليل منها في حالات الهدنة المحدودة كان يعِد بجرائم أفظع قبل الهدنة وبعدها. ولا ننسى أن الأمم المتحدة رعت عمليات تهجير مدنيين تحت طائلة التجويع، والإدارة الأميركية ذاتها ضغطت على المعارضة للتنازل سياسياً تحت طائلة سلاح القصف والحصار والتجويع من جانب النظام وحلفائه.

كل هذه السياسات يعني تحويل السوريين كائنات بيولوجيةً محضة، هدفها البقاء على قيد الحياة وسد الرمق، لا غير. وهذه هي سياسة النظام قبل الثورة، إذ كان يعتمد تصوير بقاء السوريين على قيد الحياة، بالحد الأدنى من الخدمات التي احتكرها، إنجازاً يقايض به على حرياتهم، وفي مقدمها الحريات السياسية وحرية الرأي. سياسة التجويع، عقاباً على العصيان، امتداد للمقايضة القسرية السابقة، فعندما قرر السوريون التحول إلى كائنات فوق بيولوجية، عمد النظام إلى محاولة إعادتهم إلى الحظيرة البيولوجية السابقة، وبالتأكيد إلى ما دونها بعمليات الإبادة.

في الجوهر، لا جديد في سلوك النظام سوى التحول في مستوى العنف والقسر. الجديد عند السوريين هو الخيبة المتكررة، فعملية التحول إلى الوجود السياسي رافقها أملٌ بأن يصبحوا جزءاً من العالم، ولم يتوقعوا في أكثر الاحتمالات بؤساً أن يتواطأ على محاولة إعادتهم إلى عهدهم السابق. المنهجية المعتمدة في «تخفيض مستوى العنف»، وإيصال مساعدات غذائية محدودة جداً إلى المحاصرين، لا تعني سوى التعامل مع السوريين في حد وجودهم الأدنى. يعزز صدقية هذا الاتهام مستوى التعامل الأممي مع نازحي المخيمات في بعض دول الجوار، حيث لا تقدّم المنظمات الدولية سوى ما يقارب حد الكفاف، مع حد أقل من الخدمات التعليمية والصحية. وإذا كان بعض العالم عاجزاً بحق عن وقف المقتلة السورية، وردع مرتكبيها، يصعب تصور العجز عن تقديم الحد اللائق إنسانياً للنازحين.

الأدهى أن يُعتبر النزوح نعمة ونجاة مما هو أسوأ في الداخل، وأن يُصوّر الوصول إلى الغرب كأنه وصول إلى النعيم، بصرف النظر عن الإجراءات المشددة الأخيرة لمنع تدفق اللاجئين. فاللاجئ المحظوظ، وفق هذا المعيار، حقق شرطه البيولوجي الكامل مع المساعدات التي توفر له شروطاً معيشية تعادل التي يحصل عليها العاطل من العمل في الغرب. في هذا «النعيم»، لا أسئلة عن الفضاء الاجتماعي والمجتمعي الذي خسره اللاجئ «المحظوظ»، ولا أسئلة عن تمزق العائلات بين عديد الدول، أو التمزق بين صغار الأسرة ذاتها وكبارها الذين سيتمثل كل جيل منهم ثقافة مختلفة يفرضها التفكير بلغتين، ما دام أفق العودة شبه منعدم.

بالطبع لا أسئلة عن الكائن الذي فقد فرصته في التحول إلى كائن اجتماعي- سياسي، وفق المفهوم الأشمل لشرط الوجود. فلاجئو الجيل الأول قلما يزاولون نشاطاً عاماً يتعلق ببلدانهم الجديدة بعد حرمانهم منه في بلدانهم الأم.

المقارنة بين السيء والأسوأ لا تتوقف عند حد، فوفقها يُحرم ضحايا الدرجة الثانية والثالثة من شرطهم الإنساني. فأولاً يُعتبر محظوظاً من نجا من الموت، وثانياً يُعتبر محظوظاً من لم يفقد عزيزاً من الدرجة الأولى، ولا حساب مطلقاً لتأثيرات العيش تحت الخطر، أو الخوف على مَن هم تحته، أو تلك التأثيرات المتأتية من سوريّة أصحابها واهتمامهم بقضيتهم الذي لم ينقطع على وجه العموم. مثل هذا «الترف» لا يبدو مباحاً، على رغم تأثيراته المستدامة في غياب العدالة، تلك التأثيرات التي تدلل على بديهية أن الإنسان ليس كائناً بيولوجياً فحسب، بما يتلوها من آثار قد يدفع العالم ثمنها وهو يعاند ما هو بديهي، وينكر من خلال ذلك أحقية السوريين بالثورة.

ظاهرياً، ربما يُسجّل بعض النجاح لهذا التواطؤ على تجريد السوريين، واختزالهم في الحد الأقصى إلى قضية شفقة خاسرة. إذ من المنطقي أيضاً أن تتضاءل آمال بعضهم وفق ظروفهم، بمن فيهم الخاضعون طوعاً أو قسراً لسيطرة النظام ويتمتعون بالأمان في مقابل التضحية بأبنائهم على الجبهات، وفي مقابل إفقارهم المستمر. غير أن النجاح الظاهري لا يعني اقتناع السوريين باستــحقاقهم أدنى شروط العيش، وإلا كانت سياسة النــــظام خلال أربعة عقود قد أثمرت ولم تحدث الثورة أساساً. ثمـــة تيــــار يتــــندر عليه السوريون يرفع أصحابه مقولة «كنا عايشين»، وهي مقولة تضمر لوم الثورة مع تواضع المتطلبات لدى بعضهم ووضـــاعتها لدى آخرين، غير أن ما فيها من تحسر على ذلك «الفردوس المفقود» يضمر استحالة عودته.

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٦
الانشغال بالموصل والرقة لتبرير التخلي عن حلب

ساقت الولايات المتحدة وحلفاؤها من «أصدقاء سورية» الغربيين خلال السنتين المنقضيتين على ظهور تنظيم «داعش»، مجموعة من الشعارات شكلت غطاء لتحركاتهم العسكرية والسياسية. وكان تعبير «ترتيب الأولويات» وتلويناته، الأكثر استخداماً من جانبهم كلما ارتفعت المطالبات لهم بالتحرك لتخفيف الضغط عن المعارضة السورية، أو دُعوا إلى اتخاذ موقف يردع الهجمات المستشرية عليها.

وهكذا ظهر شعار «أولوية الحرب على الإرهاب» ليغطي قراراً بغض الطرف عن التدخل العسكري والسياسي الإيراني في شؤون العراق وسورية، ثم قراراً آخر بإشراك موسكو في إدارة الملف السوري إلى جانب طهران وميليشياتها، قبل أن تنجح روسيا في التحول إلى طرف مقررٍ في هذا النزاع وتبدأ تدريجاً في رفع سقف شروطها ومطالبها.

واليوم، يترافق بدء معركة الموصل والانخراط الأميركي بقوة فيها، مع حملة تصريحات تدّعي أن الخطر الذي يمثله التنظيم الإرهابي على الغرب سيتقلص إلى حدود كبيرة في حال استعادة المدينة منه، علماً أن معظم الاعتداءات التي شنت في مدن أوروبية وأعلن «داعش» مسؤوليته عنها، نفذتها في الغالب خلايا محلية، ولو بتعليمات من قيادة التنظيم في سورية والعراق. والقضاء على هذه المجموعات المتطرفة المزروعة في أوروبا أو المتسللة إليها يتطلب جهوداً متشعبة من نوع آخر، بينها إنهاء أزمة اللاجئين بإزالة أسباب نزوحهم ووقف الحرب في بلادهم.

أما الحقيقة الأخطر، فهي عِلم الأميركيين المسبق بأن معركة الموصل ستكون صعبة وطويلة جداً، بسبب رفض «داعش» الانسحاب منها، وتحضيراته المكثفة لمواجهة شرسة عبر زرع الألغام وتفخيخ المباني، وحيازته ترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة التي تركها له الجيش العراقي بعد انسحابه، وقدرته على شن هجمات في مناطق عراقية أخرى لتخفيف الضغط عن مقاتليه. ويؤكد أكثر من مسؤول عسكري أميركي في تصريحات موثقة أن المدينة قد تشهد أطول حرب شوارع في التاريخ إذا ما نجح الجيش العراقي وميليشيات «الحشد الشعبي» وقوات «البيشمركة» الكردية في اختراقها، فضلاً عن التعقيدات التي ستولدها مشاركة الميليشيات الشيعية الممولة والمسلحة من إيران في المشهد الديموغرافي والسياسي اللاحق.

ومع ذلك، فإن واشنطن أخذت في حسابها كل الاعتبارات، لذا اقترح عسكريوها مباشرة معركة الرقة، عاصمة «الخلافة»، قبل الانتهاء من استعادة الموصل، في حال اختار «داعش» سحب قواته إليها عبر المنفذ الذي تُرك في غربها عمداً لهذا الغرض. لكن معركة الرقة في حال تقررت لن تشهد أي مشاركة للقوات النظامية السورية أو الروسية المشغولة بتعزيز مواقعها في «سورية المفيدة»، بل سيكون الجهد الأساس المبذول فيها من جانب المعارضة السورية والأكراد، وسيخرج هؤلاء منها منهكين.

واشنطن إذن مصرة على الاستغلال الأقصى لشعار «أولوية القضاء على داعش»، واعتبار كل ما عدا هذه المهمة التي رسمتها لنفسها، محاولة لتشتيت اهتمامها وتعديل حساباتها بما لا يتناسب مع مصالحها واستراتيجيتها، بما في ذلك التطورات السورية، خصوصاً في حلب التي تبدو كأنها غير معنية بوقف تدميرها وإنقاذ مدنييها.

أي أن الأميركيين، بكلام آخر، يمنحون روسيا وبشار الأسد الفرصة الزمنية اللازمة للاستيلاء على حلب بكاملها، بعد استقدام الروس تعزيزات بحرية وجوية وصاروخية ضخمة لهذا الغرض، تحت أنظار واشنطن وسائر الغربيين، وتأكيدهم أن المحاولات الديبلوماسية توقفت جميعها. ويبقى الأمل في أن تتمكن المعارضة السورية من الصمود مدة تكفي لكسر إرادة آلة القتل الروسية، ولو أنه أمل فيه الكثير من التفاؤل.

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٦
السوريون ونتائج الانتخابات الأميركيّة

تتباين مشاعر السوريين ومواقفهم من النتائج المرتقبة للانتخابات الرئاسية الأميركية، تبعاً لتباين رهاناتهم واصطفافاتهم السياسية ومرجعياتهم الفكرية.

والبداية من أوساط النظام السوري، التي لا تخفي عموماً رغبتها في نجاح دونالد ترامب وسقوط هيلاري كلينتون، إما لأن بعضهم يعتبر الأخيرة أخطر على الصراع الدموي المستعر في البلاد مستحضراً تصريحاتها عن تحميل النظام مسؤولية ما جرى وتكرار مطالبتها برحليه، وحماستها لدعم المعارضة وتمكينها، بينما تشي مواقف ترامب بتأييد السلطة القائمة والمساندة الروسية لها في التصدي لتنظيم «داعش» والإرهاب الجهادي، لتصل إلى اعتبار الرئيس بوتين صديقاً وفياً ومثالاً يحتذى! وإما لأن ثمة من يجد في ترامب، بتصريحاته العنصرية والاستفزازية وبعض مسلكياته غير القانونية وغير الأخلاقية، الشخص الذي يجب أن يفوز كي يظهر الوجه الحقيقي لأميركا البشع والأناني والجشع... (كذا)، والذي طالما أخفته، كما يعتقدون، تحت عناوين نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان! في حين يعول طرف ثالث على نجاح ترامب لما قد يسببه من احتقانات وتوترات في صفوف الأقليات الأميركية، تشغل واشنطن عن السياسة الخارجية، وتعزز اهتمامها بالبيت الداخلي، ما يعمق عزلتها وسلبيتها ويترك ساحات الصراع العالمية مفتوحة كي يستفردون بها، من دون رقيب أو حسيب!

في المقابل، تميل أوساط المعارضة السورية على اختلاف أطيافها إلى كلينتون في رهان ضمني أو معلن بأن يحمل نجاحها تغييراً في الموقف السلبي والمتردد لواشنطن من المأساة السورية نحو دور فاعل يمكنه تغيير موازين القوى على الأرض، والضغط على النظام السوري وحلفائه لوقف العنف والالتفات إلى المعالجة السياسية التي بات السوريون في أمسّ الحاجة إليها، وإذ ينضم الى هؤلاء معارضون إسلاميون يحبذون نجاح كلينتون رداً ورفضاً للتصريحات المسيئة للإسلام والمسلمين التي كررها ترامب في غير مناسبة، فإن بعضهم ينطلق من حسابات الحليف الإسلامي التركي ليميل بمشاعره نحو ترامب في رهان على أن يفضي نجاحه إلى إضعاف الولايات المتحدة وما تسببه من منغصات لحكومة أنقرة، ومثلهم من ينظر إلى الأمر من القناة الفلسطينية ويعتبر مجيء كلينتون أكثر ضرراً ما دام الحزب الديموقراطي هو الأقرب تاريخياً الى دولة إسرائيل من الحزب الجمهوري، حتى لو كان ترامب هو من يمثله اليوم! بينما يذهب معارضون آخرون إلى تأييد نجاح كلينتون حتى وإن لم تتخذ موقفاً جديداً من المحنة السورية، والدافع هو قطع الطريق على شخصية عبثية كترامب من قيادة أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، ما يطلق العنان لمزيد من الانفلات المجنون نحو التطرف والتعصب والعنف.

من جهة أخرى، يظهر الشارع السوري المنكوب عدم اكتراثه بالانتخابات الأميركية، ويبدو الأمر سيان عنده، سواء نجح ترامب أم كلينتون، ربما بسبب تلمّس غالبية السوريين عدم وجود فوارق جوهرية بين موقفي المرشحين من محنتنا، إن لجهة تشاركهما في منح الأولوية لأوضاعهما الداخلية، وإن لجهة سوق حجج وذرائع متشابهة في تبرير إهمال الوضع السوري وترك جرحه النازف مفتوحاً، وربما بسبب شيوع إحساس بأن البيت الأبيض الذي استمر في استرخائه المخزي وإحجامه لأكثر من خمسة أعوام ونصف العام عن حماية المدنيين السوريين، واستهتر بما يحلّ بهم من فظائع ودمار وخراب، لن يكون محرجاً سياسياً وأخلاقياً إن استمر في الإحجام عن اتخاذ أي موقف أو تدبير يساهم في تخفيف حدة مأساتنا الإنسانية.

لكن الغريب أن تحضر هذه المرة أسباب أخرى غير سياسية شجعت فئات من المجتمع السوري على متابعة العملية الانتخابية الأميركية، مرة أولى، بدافع الفضول لمتابعة جديد الفضائح التي تثار حول الحياة الشخصية لكل مرشح، ولمعرفة كيف سيتعاطيان في لحظة إعلان النصر أو الاعتراف بالهزيمة، بخاصة بعد أن جاهر ترامب بأنه لن يقبل النتيجة في حال لم يفز، وهل تترتب على ذلك ردود أفعال حادة من أنصاره في الشارع، وتشهد بعض المدن الأميركية تظاهرات وفوضى، أم يبقى تهديده مجرد كلمات دعائية يتم تناسيها بعد انتهاء العملية الانتخابية؟! ومرة ثانية، لحسابات تفرضها معاناة المهجرين واللاجئين السوريين، إن في مخيمات الشتات حيث يعولون على نجاح كلينتون في تخفيف حدة ما يكابدونه ربطاً بما أظهرته من تعاطف إنساني مع معاناتهم، ضد ترامب غير المهتم بأوضاع الضعفاء والمظلومين في بلاده، فكيف بأوضاعهم؟! وإن لدى طالبي اللجوء في البلدان الغربية نتيجة تحسبهم من أن يفضي نجاح ترامب إلى تشجيع قوى اليمين المتطرف في أوروبا وتمكينها من التقدم انتخابياً، وانعكاس ذلك تشدداً على شروط حياتهم وفرص قبولهم واستقرارهم.

وعلى رغم إدراك السوريين، أياً كانت مواقعهم، أن مواقف واشنطن تحددها مصالحها الخاصة وليس رغباتنا وحاجاتنا، وأن لا تعويل يذكر على الرئيس الجديد تجاه مأساتنا، لم تخدعهم اندفاعات روسيا ونجاحها في ملء الفراغ الذي خلفه انحسار سياسة واشنطن للتقليل من دور الأخيرة ووزنها، بل إن غالبيتهم تدرك حقيقة الدور الريادي للولايات المتحدة عالمياً، وخبرت كيف يهدأ التصعيد الروسي ويتراجع عندما تعترضه جدية المواجهة الأميركية، وتدرك أيضاً أن موقف واشنطن السلبي من محنتنا كان له تأثير كبير في ما وصلنا إليه، وأن ليس من تغيير نوعي في توازنات القوى القائمة ومسار الصراع الدموي إن لم تحدوه سياسة حاسمة للبيت الأبيض في إطفاء هذه البؤرة من التوتر، والأمر لا يرتبط فقط بما تحوزه الولايات المتحدة اليوم من قوة سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية، لا تضاهيها أية قوة، أو بدورها التاريخي الراهن بصفتها القاطرة التي لا تزال تجر الإنسانية وراءها، ثقافياً وحضارياً، وإنما أيضاً بنجاحها الملموس والموثق، في تقرير مصير الكثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية، بما يعني أن موقف واشنطن ودورها لا يزالان شرطين لازمين، يتعززان في الخصوصية السورية مع غلبة التدخلات الخارجية، لتحديد مسار الصراع القائم ورصد احتمالات تطوره.

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٦
حلب أولاً والموصل بعدها؟

قد تكون هدنة الساعات العشر التي حددها الجيش الروسي غداً الجمعة هي آخر الهدنات في حلب، والتي لم تنتج جميعها أي إجلاء للجرحى وإدخال للأغذية والأدوية وسماح للمدنيين بالمغادرة إذا أرادوا. تبدو الأمور سائرة إلى حسم عسكري يمهّد له الروس بحشد أسطولهم واستعدادات طيرانهم، كما تقدّم واشنطن، ومعها الأمم المتحدة، قدراً من الموافقة أو غضّ النظر، حين يركّز الإعلام الأميركي على «سيئات» المسلحين في حلب الشرقية الذين «يحتجزون المدنيين ويبتزّون بعضهم بدفع أموال لقاء المغادرة»، وحين يصدر المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا بيان إدانة للمسلحين في شرق حلب لقصفهم مدنيين في غربها، ويقول: «إن من يزعمون أن القصد هو تخفيف الحصار ينبغي أن يتذكّروا أنه لا مبرر لاستخدام عشوائي للسلاح باتجاه مناطق مدنية، فذلك يمكن أن يرقى إلى مستوى جرائم حرب».

فشل الاتفاق الأميركي - الروسي في حل مشكلة حلب، كما فشل اقتراح دي ميستورا بأن يغادر المدينة المسلحون المنتمون إلى «فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). فلم يبق سوى الأفق الأسود: الحرب التي يتوقّعها المراقبون نهاية هذا الأسبوع، ويذهب بعضهم إلى موعد ذي دلالة هو الثامن من الشهر الجاري، أي أن حفلة القتل في شرق حلب تتم فيما يقترع الأميركيون لانتخاب رئيس جديد وأعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وعدد من حكام الولايات. ولن تتحقق التوقُّعات بتزامن الهجومين على حلب والموصل، ذلك أن «داعش» أحرق مداخل المدينة العراقية، ويهدّد بإحراق منطقة نفطية داخلها بما يؤخر العمليات العسكرية لفترة غير محدودة. يبدو أن حلب ستسبق الموصل، ليس سقوط شرق المدينة فقط وإنما أيضاً موت آلاف الأبرياء الذين سيضافون إلى مئات الآلاف من ضحايا حرب سورية التي لا يأبه «أبطالها» بالمدنيين. أليس اللهاث للوصول إلى أوروبا هو استفتاء مدني أسقط النظام والمعارضة والمتدخّلين لمصلحة الطرفين من أجل سلطة لا تأبه بالمدنيين حرباً أو سلماً؟

نجاح المتحاربين في تهجير ملايين السوريين والعراقيين هو تعبير عن فشلهم في حفظ النظام أو انتصار المعارضة. كانت الهجرة الداخلية وتلك الخارجية إعلان سقوط الطرفين المتحاربين ومن يدعمهما، وقد تلطّخ هذا السقوط بدم الأبرياء وذلّ السبايا وحطام معالم تاريخية لمنطقة اختزنت حضارات أسست حضارتنا الحديثة.

وبين المعلوم الذي لا يصل والمجهول الذي يتصدّر المشهد الإعلامي، يفقد المشرق العربي مدينتين كبيرتين هما حلب والموصل، بل إن حلب تتعدّى سوريتها إلى كونها المدينة الحدودية لأوروبا الحديثة الواسعة، فهي، ومعها باكو الأذربيجانية، كانتا قبل الحرب العالمية الأولى أشبه بفيينا وبرلين وباريس في عمارتهما وتنوع سكانهما، وهما تستندان، في حالة حلب إلى التجارة العريقة المستمرة على طريق الحرير، وفي حالة باكو إلى اكتشافات النفط المبكرة.

لا بشار الأسد ولا فلاديمير بوتين ولا قادة المعارضة السورية المسلّحة وغير المسلّحة مؤهلون لرثاء حلب، فالمراثي لورثة أرميا من الشعراء والروائيين وأهل الحكمة، هؤلاء رثوها حين حكم العسكر سورية مجففين ثقافة المدينة ومحيلين تنوّعها إلى صوت واحد معصوم.

الذين يهدمون المدينة والذين مهّدوا بالتأييد أو بالاستفزاز، هم سادة الصوت الواحد، وحين يكثر القاتلون فهم سائرون إلى مصير محتوم: قاتل واحد وشركاؤه يلحقون بالضحايا ولو بعد حين.

قبل يومين، في الثانية بعد منتصف الليل، اصطحبت صديقاً إلى مطار بيروت لوداع أحد أنسبائه الآتي من حلب. هناك رأيت حوالى خمسين سورياً وسورية ينتظرون طائرة تقلّهم إلى كندا، أرضهم الجديدة، وكانت وجوههم أشبه بتماثيل حطمها «داعش» أو يكاد.

وقبل أسبوع اهتدى صديقي إلى الحلبي الدكتور محمد محفّل، أبرز المختصين باليونانية القديمة والحضارة الهيلينية، لمساعدته في بحث تاريخي، بعدما تخوّف من أن يكون محاصراً في حطام مدينته، وقد وجده ناجياً في مسكن متواضع في دمشق، بعيداً من بيت فسيح ومدينة لا تشبهها مدينة.

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٦
حواضرنا المدمرة في سِفر التمدد الإيراني

تتصرف إيران كأنها استثناء، تتسلح بماضيها العتيق المليء برغبات إمبراطورية باتت مصدر المآسي للشعوب المجاورة لها، فرغبة إيران بالخروج السريع من عزلتها، ولجوئها إلى خيار التوسع بدل الانفتاح وعدم الاكتفاء بالدور الإيجابي، والاندفاع نحو تحقيق النفوذ السلبي، تحول إلى تهديد للهويات الحضارية الأخرى، المقيمة منذ آلاف السنين في حيز جغرافيا معقد إثنيًا وديموغرافيًا، شكلت خصوصياته الثقافية والدينية عائقًا تاريخيًا بوجه عقيدة التمدد الفارسية ثم الإيرانية، فقد سيطرت هذه الخصوصيات على الحيز الأكبر من الذاكرة الإيرانية الورمة، المسكونة بهواجس القلق من محيطها، الذي تتهمه دائمًا بمحاولة إقصائها، معتمدًا على معضلتها الأبدية بأنها أقلية فارسية شيعية وسط أغلبية مطلقة من القبائل الهند أوروبية والشعوب العربية والتركية السنية، التي نجحت في التعامل مع التحولات السياسية والعقائدية، وعملت تدريجيًا على تعزيز هويتها القومية، مع الحفاظ على خصوصيتها المذهبية الجامعة في إطار الدولة الوطنية الحديثة، التي مرت كغيرها من دول العالم الثالث بإخفاقات ونجاحات، لكنها بقيت أقل توترًا في تشكيل هويتها الوطنية من إيران القلقة دائمًا على ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

وفي مخالفة لثوابت السياسة والجغرافيا في الشرق الأوسط الكبير، لم يخطر ببال أحد أن تتحول إيران في السنوات الأخيرة إلى لاعب صعب ومقلق، ففي لحظة استشعار بالغلبة أو القدرة على فرضها بهدف إخضاع الشعوب المجاورة لها، راهنت طهران في توسعها على منهجية طبّقها وزراء السلاجقة، قائمة على أن القوة تهزم الكثرة، إما بإخضاعها أو بتشتيتها. وتحاول الآن تطبيقها في أكثر من مدينة عربية تاريخية، فهي تهيمن على بغداد وتحاول بشتى السبل وضع يدها على النجف، وتشارك في تحويل الموصل إلى حطام، فثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة تدمر، وأهلها يواجهون عملية ترحيل جماعي تهدف إلى تغيير جذري في تركيبتها السكانية، مصيرها لن يكون مختلفًا عن مصير حواضر عربية أخرى، كحمص التي حولها الأسد بدعم من إيران إلى ركام، ونفذ فيها عملية تطهير عرقي ومذهبي، وأما حلب أقدم مدن التاريخ، فتواجه مصيرًا أسوأ من مصير حمص، حيث يواصل الطيران الروسي والمدفعية الإيرانية تسوية أبنيتها بالأرض في عملية مدروسة تهدف إلى طمس تاريخها وتهجير أهلها، وهي عملية استهداف واضحة للديموغرافيا العربية وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية، وما يجري لأشهر الحواضر العربية في الشام وبلاد ما بين النهرين وصولاً إلى دمشق التي يتم إفراغها.

ففي سفر الغلبة الإيرانية، يحاول نظام طهران تقديم بلاده كأنها الأمة الوحيدة في هذا الشرق، القادرة على استيعاب التعددية وحمايتها والحفاظ على الأقليات، مستعينة بمحطة من تاريخ فارس عندما احتل الملك الفارسي قورش بابل سنة 538 ق.م وأعطى اليهود الإذن بالعودة إلى أورشليم، وسمح لهم بإعادة بناء الهيكل، وكان الهدف من ذلك إعطاءهم حكمًا ذاتيًا يخفف من الأعباء على الإمبراطورية، وأملاً في أن تباركه آلهتهم وتعزز سلطانه، وهو النموذج الذي يحاول نظام طهران الاستعانة به من أجل الترويج لحلف الأقليات، الذي يوفر لها جغرافيا سياسية مفيدة ضمن خطة استراتيجية تقوم على تحقيق ربط ديموغرافي متجانس ضمن مساحة آمنة متفاهمة عقائديًا.

اعتاد العالم على إمكانية احتواء ردات فعل الأقليات عندما تشعر بالقهر أو بالتهديد، لكنه لم يحدث أن واجه انفعالات أغلبية باتت تشعر بتهديد وجودي، مما يضع كل الاحتمالات مفتوحة على عنف أكثر ودمار أوسع، ومهما حاولت إيران، فإن غلبتها تبقى مستحيلة، وستواجه بنفس إرادة المقدسي الذي يقاوم وحيدًا تهويد مدينته، فكما قال المفكر اللبناني د. رضوان السيد في مقاله «حلب.. يوم طويل في حياة قصيرة»: «كل هذه المدن غاصة بالغزاة الذين يريدون الحلول محل أهلها، الذين عاشوا فيها وعمروها وصنعوا حياتهم وهم يدافعون عنها ولا يقبلون موتها».

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٦
سورية من الديمقراطية إلى الاستبداد إلى عودة الاستعمار القديم

لو أردنا تحديد تطور الاستبداد وتغوّله، وعدنا إلى مرحلة نهوض الشعب العربي بعد الاستقلال في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وأخذنا سورية نموذجاً، لقلنا إن فترة الخمسينات كانت هي الفترة الذهبية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وعلى الرغم من أن ثلاثة انقلابات عسكرية جرت في تلك الفترة، إلا أن العودة إلى الديمقراطية كانت تتم سريعاً بعد كل انقلاب.

الحياة السياسية كانت تتم على أساس مبدأ التنافس الشريف لمصلحة الوطن، والحياة الاجتماعية كانت متماسكة وتطبق قول المثل الشعبي: كل من على دينه الله يعينه " بمعناه الاجتماعي والديني معاً.. كما سادت الحرية والديمقراطية بالمعنى الحقيقي، وليس الدعائي، ومن الطبيعي أن نقول إن نسبة الاستبداد كانت قريبة من الصفر أو 1% على أبعد تقدير.

أما الاقتصاد السوري في تلك المرحلة، فكان يعد من أوائل اقتصادات العالم، بدون مبالغة، وكان خالد العظم الذي استلم رئاسة الوزارة في سورية لأكثر من مرة، يُعدّ ربان السفينة الاقتصادية، فالشركات السورية الإنتاجية، ولا سيما النسيجية، كانت من أرقى الشركات وأكثرها إنتاجاً في العالم، وكان الجوخ السوري يضاهي وينافس الجوخ الإنكليزي المشهور على مستوى العالم، كما أن الليرة السورية كانت تعادل الدولار الأميركي تقريباً وتنافسه، بينما الدولار الآن يتأرجح بين 550 و600 ل.س، وفي غد لا ندري ماذا سيكون سعر الصرف.. ويكفي أن أذكر أن غرام الدهب كان يساوي نحو ليرتين سوريتين فقط في تلك الأيام.

هكذا كانت سورية زمن ما يطلق عليه " الرفاق التقدميون " زمنَ الرجعية والرأسمالية والانتهازية.

ويكفي أن نذكر هنا أن مهاتير محمد زار سورية في الخمسينات من القرن العشرين، وكان يحلم أن تصبح بلده ماليزيا كسورية من حيث النهوض الاجتماعي والاقتصادي، وحين أصبح رئيساً للوزراء استطاع أن يقود بلده نحو نهضة اقتصادية مذهلة في التسعينات من القرن الماضي.

في تلك المرحلة كان المد القومي يجتاح العديد من بقاع الأرض، وكان من الطبيعي أن يتأثر الشعب العربي بهذا المد، لاسيما وأنه كان خارجاً من عهد استعماري بغيض إلى عهد تحرري يطمح إلى استعادة المجد التاريخي وبناء دولة عربية حديثة.

من أجل ذلك قامت في عام 1958 دولة الوحدة بين مصر وسورية، باسم الجمهورية العربية المتحدة، وهي وحدة لا غبار عليها من حيث المبدأ، في زمن المد القومي، كما أسلفنا، والذي أرسى أركانه جمال عبد الناصر في مصر والحكومة السورية برئاسة شكري القوتلي، وبإلحاح من حزب البعث العربي الاشتراكي، بأركانه الثلاثة ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح البيطار.. وهكذا تنازل شكري القوتلي لعبد الناصر إكراماً للوحدة الوليدة.

ولكن الذي حدث أن الديمقراطية انهارت سريعاً، وحل مكانها حكم الفرد الواحد، وبدأت سورية تعاني من حكم المخابرات التي تمدد وتوسع في سورية على زمن عبد الحميد السراج رئيس المكتب الثاني في زمن الوحدة، وعلى زمن صلاح نصر رجل المخابرات الأول في مصر.. وهكذا بدأ الخط البياني لنسبة الاستبداد وتضييق الحريات بالتصاعد والنمو.

في عام 1961 جرى الانفصال كرد فعل طبيعي على التسلط الأمني وما استجره من ظلم واستبداد، وعاد الحكم في سورية إلى النمط الديمقراطي الذي كان سائداً في الخمسينات، وخلال أقل من عامين، أي في عهد الانفصال، هبطت كثيراً نسبةُ الاستبداد التي كانت سائدة في عهد الوحدة إلى أقل من واحد في المئة، ولكن انقلاب البعث عام 1963 قضى على الروح الديمقراطية التي كانت في طورها الأول، بحجة إعادة الوحدة بين مصر وسورية.

حين استلم حزب البعث الحكم بعد انقلاب 1963 دخلت سورية مرحلة جديدة، لم تعرفها من قبل، فالعسكر كانوا هم الحاكمين المتصرفين، ومع أنهم وأمثالهم في مصر كانوا يَعِدون " الأمة " بانتصارات كاسحة على مستوى الصراع العربي الصهيوني، وكذلك على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إلا أن زمنهم شهد أكبر هزيمة عسكرية في العصر الحديث، ففي الخامس من حزيران عام 1967 احتلت الدولة الصهيونية سيناء في مصر والجولان في سورية والضفة الغربية الفلسطينية التي كانت من ضمن الأراضي الأردنية.

وكان من الطبيعي بعد تلك الهزيمة المدوية أن يبدأ التخبط العسكري والسياسي والاجتماعي والفكري في عموم الوطن العربي، إلى أن بدأت مرحلة انهزامية جديدة في المشروع القومي، وحلت مكانه النزعة القطرية المنغلقة على ذاتها، مع ما رافقها من حكم شمولي وظهور الحاكم الفرد الواحد المطلق.

كانت الطائفية في السورية تتنامى وتستشري في أوصال المجتمع السوري، وتسلمت الطائفة العلوية الحكم من تحت الطاولة ومن فوقها، وكان من الطبيعي أن يتضخم الاستبداد وأن يرتفع خطه البياني بوتيرة متصاعدة، ولا سيما بعد حركة حافظ الأسد " التصحيحية " عام 1970، ثم وصل هذا الخط إلى نسبة عالية جداً في الثمانينات أيام الصراع مع حركة الإخوان المسلمين، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت سورية تعيش حالة سياسية واجتماعية واقتصادية لا تطاق.

وحين جاء الابن بشار عام 2000 وريثاً لأبيه أضاف إلى الحالة التي تركها أبوه حالة إضافية من الفوضى العارمة حتى كاد الفساد والاستبداد يصل إلى نسبة 100%.

وكان من الطبيعي أن ينفجر الشعب السوري عام 2011 ويطالب بحريته وكرامته، كما كان من الطبيعي أن يحاول المستبدون الفاسدون الإبقاء على مكاسبهم بشتى السبل حتى تم تدمير الوطن أو كاد، وأصبحت سورية رهينة بيد روسيا وإيران.. كل ذلك في سبيل أن يبقى الأسد متربعاً على عرش هزيل صنعه له الأب القائد.!!.

وأخيراً نقول: إن مراحل الاستبداد التي مرت بها باقي الدول العربية شبيهة بما مرت بها سورية مع تفاوت في النسب بين دولة وأخرى.

.. وهــذا حـالُـنـا، والـلـيـــلُ يبقـى        

يُـطـيـلُ مَقامَـه الشّـجَـنُ الـرَّتـيـبُ

وفي عُمــقِ الظــلامِ أَنيــنُ قـلــبٍ

يَـدور بأُفــقِــه الـوطـــنُ الكئيــبُ

اقرأ المزيد
٢ نوفمبر ٢٠١٦
"الحشد الشعبي" إلى حلب

يظن بعضهم أن تصريحات المتحدث باسم الحشد الشعبي في العراق، أحمد الأسدي، إن حشده سيدخل إلى سورية لمطاردة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، بعد خروجهم من العراق، هي للاستهلاك المحلي، لكن الأمر لا يبدو كذلك بعد نحو عامين من تأسيس هذا الحشد الطائفي الذي تم تأسيسه بناءً على فتوى المرجع الشيعي، علي السيستاني، عقب دخول تنظيم الدولة الإسلامية إلى الموصل في يونيو/ حزيران عام 2014.

تؤكد متابعة سير عمل هذا الحشد منذ تأسيسه أن هذا التشكيل العسكري الذي أسس من مليشيات شيعية، تابعة لأحزاب وكيانات شيعية، بات أقوى من الجيش العراقي، بل إن ما قدم لهذا الحشد، حتى من الحكومة العراقية، فاق ما قُدم للجيش العراقي، ناهيك عن مساعٍ حثيثةٍ، تقوم بها أطراف برلمانية شيعية من أجل استصدار قانون، يمنع مساءلة عناصر الحشد الشعبي عن أي انتهاكات قد يقوم بها الحشد خلال العمليات المسلحة.

ليس هذا فحسب، بل تحوّل الحشد الشعبي، وعبر منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين، إلى الجناح الضارب لإيران، حتى أن مجلة نيوزويك الأميركية اعتبرت أن لدى المرشد الإيراني، علي خامنئي، نحو 80 ألف مقاتل في العراق يمثلون الحشد الشعبي في دلالةٍ على ولاء هذه المليشيات لإيران ولولي الفقيه.

جاءت تصريحات قادة الحشد إنهم سيتوجهون إلى حلب بعد الموصل، بعد أيام من تصريح مثير لرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إن عملية "قادمون يا نينوى" تعني قادمون يا حلب وقادمون يا صنعاء، مبشراً بحربٍ إقليمية، كما أنها تصريحات تدل على حقيقة ما تريده إيران من حشدها في العراق. وأيضا على أن هناك تواطؤاً أميركياً واضحاً وفاضحاً مع هذه المليشيات، وكيف لا، وهي التي وفرت لهذا الحشد كل الدعم الجوي في معاركه ضد تنظيم الدولة، على الرغم من أنها تعلم جيداً أن هذا الحشد متهم بانتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، ناهيك عن مشاركة قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، المطلوب أميركيا والمتهم بالإرهاب، في قيادة هذه المليشيات.

ربما يعتقد بعضهم أن الولايات المتحدة قد لا تسمح لهذا الحشد الطائفي بالتقدم إلى حلب. ولكن، لا يبدو أن أميركا معنية بذلك، فقد قالت سابقا إنها لن تسمح للحشد بالمشاركة في معركة الفلوجة، ولن تقدم الدعم الجوي لها، إلا أن ذلك لم يحصل، على الرغم من كل الانتهاكات التي ارتكبها هذا الحشد، فكان أن دخلت المليشيات الفلوجة، وفعلت ما فعلت هناك.

تسمع الولايات المتحدة ليل نهار تصريحات قادة مليشيات الحشد الشعبي، وتهديداته تجاه الـخمسة آلاف مقاتل أميركي الموجودين في العراق، من دون أن تحرك ساكناً، فهذا قيس الخزعلي، زعيم " عصائب أهل الحق"، يصرح جهاراً نهاراً إن القوات الأميركية ستتحول إلى أهداف للحشد الشعبي، إذا ما فكرت في البقاء في العراق، عقب تحرير الموصل.

وكما فشلت الولايات المتحدة، أو هكذا حاولت أن تبين، في منع دخول الحشد إلى الفلوجة، فإنها فشلت في منع دخوله واشتراكه بمعركة الموصل، حيث فتحت تلك المليشيات السبت جبهة المحور الغربي، محور تلعفر، الأمر الذي سيؤدي، بالضرورة، إلى انتهاكاتٍ إجراميةٍ كبيرةٍ، تقوم بها تلك المليشيات، بالاستناد إلى تاريخها المشين في التعامل مع أهالي المناطق السنية.

وإذا كان اتفاق أربيل الذي سبق معركة الموصل قد وزع الأدوار، وقسّم المهام بين الفرقاء الذين تجمعوا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، قد نصّ على عدم دخول الحشد الشعبي مدينة الموصل، فإن كل الدلائل تفيد بأن هذا الحشد لن يرضى بهذه القسمة، وسيتجاوز الدور المرسوم له، وسيدخل المدينة، وعندها لن يسكت الأكراد ولا الأتراك.

تعرف إيران جيداً أن أميركا في موقف لا يسمح لها الآن بأي تدخل كبير، سواء في العراق أو سورية، مع دخول البيت الأبيض مرحلة الموت السريري، بانتظار ساكنه الجديد. لذا، فإنها ترى أن الفرصة مناسبة لحرق المراحل، والتفاوض لاحقاً من موقف قوة.

كما أن تركيا التي ارتفع صوتها كثيراً تدرك ذلك أيضاً. وبالتالي، فإنها لا تريد أن تترك الحبل على الغارب بالنسبة لإيران. ولكن كيف؟ ذلك ما لا تجد عليه تركيا جواباً بسبب تعقيدات المرحلة في العراق.

لن تمنع أميركا الحشد من التوجه إلى حلب، إذا طلبت منه إيران ذلك، وربما تطلب، لأنها ببساطة تسعى من أجل إقامة طريقها البري الذي يمر عبر تلعفر وسنجار ثم حلب، وصولا إلى السواحل السورية.

الحشد الشعبي العراقي اليوم هو فيلق القدس الإيراني بثياب ولغة عراقيتين، هذه الحقيقة التي يجب أن نتعامل معها. وبالتالي، لن تقف مهمة هذا الحشد الإجرامي عند الموصل، وإنما ستمتد إلى سورية، وربما سنسمع "قادمون يا رياض" و"قادمون يا منامة" و"قادمون يا كويت"، فهل سيعي ما تبقى من عرب حقيقة المرحلة وطبيعة الصراع؟

اقرأ المزيد
٢ نوفمبر ٢٠١٦
الباب مدينة النوافذ المغلقة

تعثرت معركة الموصل في انتظار شكل مشاركة تركيا الذي سيفرض مقابلاً مذهبياً لدخول إيران، على شكل حشد شعبي ومليشيات متنوعة، كما ستشكل تركيا معادلاً عرقياً وسياسياً للكرد المتوزعين قرب الموصل، لترسّخ نفسها أمام وجود كردي، اكتسب مقاتلوه تمرسّاً وتدريباً وخبرة مضافة في السنوات الأخيرة.

قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطابه يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إنه ينوي الذهاب عميقاً في الأراضي السورية حتى مدينة الباب الواقعة حالياً تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. وجاء هذا التصريح في ظل تعثر معركة الموصل، لاعتباراتٍ قد تكون مشتركة مع معركة الباب، وهي مشاركة الجانبين، التركي والكردي، في هذه المعركة. كانت القوات التركية قد صنعت رأس جسر لها داخل الأراضي العراقية في منطقة بعشيقة، وحوَّل التداخل التركي المباشر بين سورية والعراق خطط أردوغان من مجرد الدعم السياسي واللوجستي لحلفائه إلى الهجوم المباشر.

تعتبر الباب عاصمة الريف الشمالي لحلب، وهي آخر معقلٍ مهم لتنظيم الدولة الإسلامية في هذا الريف، وقد تجمَّع في الباب كل مقاتلي داعش المنسحبين من منبج ودابق، ويبدو التنظيم عازماً على الدفاع عن هذه المدينة، وليس في نيته الخروج منها بسرعة، لأنها أول خطوط دفاعاته عن الرقة، ويسبب فقدانها تهديداً لوجوده غرب النهر. ولـ "الباب" أيضاً أهمية كبرى لدى قوات الحماية الكردية، لأنها تقع على الطريق بين منبج وعفرين، ولا تخفي هذه القوات نياتها بالوصول إلى الطرف الكردي في أقصى الشمال الغربي لسورية، لكن خطاب أردوغان المذكور رفع سقف مطالباته إلى أقصى حدٍّ بجعل معركة منبج تالية لمعركة الباب، ما يعني رفضاً تاماً لأي وجود كردي في غرب النهر، وسبيلاً للحصول على منطقة الخمسة آلاف كيلومتر مربع، المحاذية للضفة الغربية لنهر الفرات والممتدة غرباً إلى أعزاز شاملة منبج والباب وتل رفعت. يمكن لمنطقةٍ من هذا النوع، لو تحقق لها الحياة، وهناك من يعتقد بأن ثمة اتفاقاً روسياً تركياً لتحقيق ذلك، أن تكون ملجأ انسانياً مهماً يسهل عمليات إدخال المساعدات والأغذية، قد يخفف من عبء اللاجئين المتدفقين إلى الجانب التركي، ومن ثم يخفف ضغط اللاجئين على أوروبا، ويمكن أن يتشكل فيها نواة لجيش معارض ذي طبيعة مدنية، بدون أي أجنداتٍ دينيةٍ أو مذهبية، تحت الرعاية التركية، وهذا ما يخشاه النظام، وقد يعمل على تقويضه، وربما يمكن تفسير رمايات جيش النظام على قوات التحالف التركي قبل أيام، وفقاً لذلك، فالنظام المشغول حتى أذنيه بمعركة حلب سيضع عينيه على منطقة الشمال مجدّداً، وقد كان مطمئناً لوجود قوات تنظيم الدولة فيها، وكان سيزداد اطمئناناً لو دخلتها قوات كردية، لكن وجود تحالف قوات معارضة معتدلة، تدعمها تركيا، جعل موقفه حرجاً حتى في حلب نفسها.

قد تكون معركة الباب مؤجلةً إلى ما بعد انتهاء معركة الموصل، فالاتفاق العراقي والتركي والكردي، والأميركي أيضاً، مطلوب بشدة لتنسيق عملية الموصل. وإذا قيّض لكل الأطراف الوصول إلى هذه النقطة، فإن خروج تنظيم الدولة سيصبح أكثر سهولة. ولكن، ما زال مثل هذا الاتفاق مستبعداً، بالإضافة إلى أن التنظيم لن يغادر الموصل، إلا بعد أن يتأكد أن طريق مواصلاته إلى سورية سيكون آمناً، أو متاحاً، الأمر الذي أكدت الخطة الأميركية أنه لن يمر. وعلى الرغم من أن العدو في المعركة، نظرياً، هو تنظيم الدولة فقط، لكن الوصول إلى كيفية التخلص منه يتطلب تنازلاتٍ مُرة، قد لا يقبل أحد من الأطراف بتقديمها. الوجود الكردي الكثيف قرب تجمعات حضرية عربية في الموصل ومنبج شمالي حلب، برَّره وجود تنظيم الدولة وإمكانات مواجهتها المتاحة، لكنه بدأ يُستغل لصالح أهداف إثنية ذات طابع تاريخي، تجد تركيا فيها تهديداً كبيراً. لذلك، يمكن أن تكون معركة الموصل اختباراً جدياً سيشكل "بروفا" مفيدة، قبل الشروع في معركة الباب.

اقرأ المزيد
٢ نوفمبر ٢٠١٦
الملحمة الكبرى وتحرير المدينة

شكّل الاتفاق على إخراج عناصر "فتح الشام" موضوعَ إجماعٍ تركي سعودي أميركي روسي، مقابل ذلك يتم إيقاف الدمار عن حلب، والاعتراف بوجود المعارضة، والبدء بإيصال المساعدات، وهو ما عادت روسيا عنه، وكان سبباً في إيقاف أميركا التنسيق معها؛ لكن النظام وإيران يريدان استعادة سورية بأكملها، وهذا ما ساهم بتعطيل الاتفاق المذكور. روسيا التي تعلم ضعف النظام وإيران وعدم قدرتهما، بل وهي ذاتها، على استعادة حلب وكل سورية، ما زالت وعلى الرغم من اقتراب منطقها من منطق النظام في أن كل الخارجين عنه إرهابيون، ما زالت تُعطي للحل السياسي دوراً أساسياً؛ فهي تعلم حجم التدخل الدولي والإقليمي في الحرب ضد الثورة السورية، وتخشى من تصاعد الخلافات الدولية مع أوروبا والتورّط المستنقعي في سورية. وبالتالي، لا بد أن تُؤخذ مصالح الدول المتدخلة في سورية بالاعتبار، عدا أن روسيا نفسها ليس من مصلحتها أن تعود سورية إلى ما قبل 2011، حيث كان دورها محدوداً قياساً بإيران، وكانت توجهات النظام نفسه نحو تعزيز العلاقات مع أميركا. في هذا نرفض رأياً شائعاً وكأنه مسلمة: إن علاقات روسيا بسورية كانت قويةً، وتضاعفت بعد 2011. وهذا خطأ! فسورية كانت منفتحة نحو تركيا، وتطلب من الأخيرة بناء علاقات لها مع إسرائيل وأميركا، ولا سيما بعد إخراج جيشها من لبنان 2005.

لم يكن أمام الفصائل في أحياء حلب الشرقية، وقد شعرت بأن إيران والنظام يُجهِّزان لمعركةٍ كبرى، إلا البدء بمعركة كبرى أيضاً سُميت "ملحمة حلب الكبرى"، وهم يحرزون انتصارات قوية على قوات النظام وإيران. روسيا تتمهل في الرد الجوي، ويبدو أنها تريد تلقين النظام وإيران الدرس نفسه مجدّداً، ألا وهو أنها هي بالذات من تضع خطط الحرب والسلم في سورية، وحالما تخسر قواتهما أكثر فأكثر سيذعنان مجدّداً ويطلبان النجدة، وسيكون هناك دمار كبير وخطير، ليس في أحياء حلب الشرقية، بل وكذلك الغربية. نقول الغربية هنا، لأن الفصائل المقاتلة هناك أصبحت بوضعية خطيرة، إما أن تفك الحصار عبر التقدّم نحو الغربية، وشلّ حركة الطيران الروسي خصوصاً، وإحداث أكبر ضرر فيها. وبالتالي، إجبار النظام وإيران وروسيا على البحث عن هدنةٍ حقيقية، وربما اعتراف جدي بوجود المعارضة، والإقلاع عن رؤية النظام بتحرير المدينة، كما قال وزير خارجيته، وليد المعلم، في الاجتماع الوزاري في روسيا قبل أيام، أي أن الفصائل تعي جيداً أن سحقاً قادماً سينالها لو بقيت صامتة.

لا شك أن معركة حلب الكبرى ليست من عمل الفصائل نفسها؛ هي مدعومة من تركيا والسعودية وربما أميركا، والقصد إنهاء أحلام النظام وإيران بالتحديد بتحرير المدينة، كما قال المعلم. إذاً هناك إجماع دولي وإقليمي أن حلب ستظل كما هي مع تغيّر طفيفٍ في الأماكن التي يسيطر عليها كل طرف. ولكن، لن يُسمح بانتصار أي طرف على الآخر. وبالتالي، سيكون هناك تصعيد كبير من الجانبين، وسيُفك الحصار جزيئاً، ولكن ستتوقف المعارك لاحقاً، وسيكون هناك اعتراف بالفصائل في الشرقية وبمجلسها المحلي، وربما هذا ما سيهيئ لهدنةٍ دائمة، وبداية مفاوضات جدية للحل السياسي. وما قاله الوزراء المجتمعون في روسيا، أي وزراء الخارجية، الروسي والإيراني والسوري، بخصوص الذهاب نحو المفاوضات، يأتي بهذا السياق.

ليس في التوازنات الدولية السابقة في سورية تغييرٌ كبير؛ فسيستمر التنسيق التركي الروسي بمحيط حلب خصوصاً، وسيكون للأتراك دورٌ أساسيٌ في معركة الرقة لاحقاً، وسيشعر زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، بالخذلان أكثر فأكثر، فقواته ستخرج من منبج، وسيحاول التمسك ببعض مما أحرزته قواته شرقي الفرات، وربما حتى هذه لن تظلّ تحت سيطرته، وغالباً لن يُسمح له بالمشاركة في معركة الرقة. وأما أميركا فسيظل تركيزها على داعش، وستتوضح سياساتها أكثر، بعد نتائج الانتخابات، وقد تدفع إلى حل سياسي جديّ حينها في سورية والعراق. وستشكل المعارك ضد داعش في الرقة مرحلة جديدة في التنسيق بين الأميركان والأتراك والروس، وهذا سيتطلب قوات عربية سورية، وتشير الاحتمالات إلى أن تكون قوات من الفصائل المقاتلة، وليست من قوات النظام. الجديد هذا، والذي يُعلن عنه تباعاً، أي معركة تحرير الرقة مع تحرير الموصل وبعده، وتطور الأوضاع في حلب، وشعور الروس بأنه يستحيل استعادة هذه المدينة، ونضيف هناك إرسال الأسطول البحري الروسي إلى سورية، كلها عناصر تدفع بالبحث عن حل سياسي. وستكون معادلة هذا الأمر ثلاث مسائل: إنهاء داعش، وتهميش حركة فتح الشام، وتحديد مصير الشخصيات الأساسية في النظام السوري.

وإذا كانت مسألة داعش لا نقاش فيها، ولا يلغي تأخر الحسم ضدها أنها قضية موضوعة على طاولة البحث في الأشهر المقبلة، فإن مسألة جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً، هي الأعقد من دون شك، وعلى الرغم من توفر معطيات أولية تقول إن شقاقاً سيتصاعد بينها وبين "أحرار الشام"، حيث تشارك الأخيرة في درع الفرات التي رفضتها جبهة الفتح، فإن تصاعد الضرب ضدها في إدلب في مرحلة لاحقة، سيضعها في "خانة اليك"، أي عليها أن تحل نفسها أو تسلم السيطرة إلى "أحرار الشام" وتنزوي، وهناك أيضاً السحق. يضاف إلى هذه القضية موضوع الشخصيات الأساسية، وأيضاً تشكل معركة حلب ضد النظام نقلةً نوعيةً في حسم قضية إقصائهم عن السلطة في إطار الحل السياسي.

تضخيم دور روسيا، وأنها تبتزُّ أميركا وتريد فرض هيمنتها دولياً عبر الصراع على سورية، كلام صحيح، لكنه يصبح خاطئاً، حينما يتم تصوير روسيا كأنها تفرض خياراتها على أميركا، أو أنها فعلاً قادرة على إملاء الفراغ الأميركي في منطقتنا. وبالتالي، لا يوجد خيار روسي متفرد في سورية، وهناك خيار أميركي داعم للروس فيها، وهو ما سيعيد الصلات بين روسيا وأميركا في مرحلة لاحقةٍ بخصوص سورية، وكذلك بخصوص كل المسائل الدولية، فالدولتان تحتاجان بعضهما في مواجهة الصين.

إذاً ليست معارك التحرير الكثيرة، وكذلك الملاحم، سورية، ويُمنع أن تكون مستقلة. هي معارك لتدوير الزوايا والضغط السياسي بين الدول نفسها، لإيصال الوضع السوري نحو حلٍّ، تتحكم فيه روسيا بالتوافق مع أميركا وإسرائيل. ولكن، تتهمش فيه كل الدول المُوغلة في سورية، بدايةً من إيران، وليس نهايةً بالمملكة العربية السعودية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان