يحتفل العالم في الرابع عشر من أكتوبر من كل عام بما يسمى بيوم الأمم المتحدة. بهذه المناسبة يتبارى القادة وممثلو الدول من مختلف الاتجاهات، حتى الذين يصرحون من حين لآخر بأن المنظمة الأممية ليست سوى أداة بيد الدول الكبرى، في كيل المدح والثناء على جهودها مجددين التزامهم بالمواثيق والمعاهدات والواجبات الدولية التي تهدف لتحقيق التنمية وتعزيز الاستقرار والأمن العالمي.
المفارقة هي أن معظم أولئك يعلمون أن هذه المنظمة، التي جاءت على أنقاض فكرة «عصبة الأمم» التي أنتجتها كذلك التوافقات الدولية السابقة للحرب العالمية الثانية، يعلمون أنها لم تقدم الكثير في مجالها الرئيس وهو الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين، حيث تبدو تجاربها بهذا الصدد في معظمها فاشلة. الكثيرون، من جانب آخر، وصلوا إلى قناعة مفادها أن ما تسميه المنظمة بالقيم الدولية أو المعايير الإنسانية هو ليس دائماً كذلك، وإنما هي قيم غربية يراد تعميمها و»عولمتها»، وخير مثال لذلك النقاشات الحالية الخاصة بالدعوة لاحترام «التنوع في الميول الجنسية» الذي يهدف إلى إلغاء مفردة الشذوذ الجنسي، بل التصالح مع ذلك الشذوذ، على أساس أنه مجرد تنوع مقبول في الخيارات العاطفية.
رغم الاختلافات يتعامل الجميع مع هذه المؤسسة الدولية كقدر لا مفر منه ولا بديل سواه، باعتبار أن غيابها أو تقويضها قد يؤدي لانفراد الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بالقرار العالمي بشكل مباشر، وهو ما ستكون له تداعيات أكبر وأخطر من تداعيات الوضع الحالي. الكثير من الدراسات والرسائل الجامعية والاجتماعات ظلت تناقش، منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ما بات يعرف بـ»إصلاح الأمم المتحدة» وهو مفهوم يبدو أكثر اعتدالاً من الفكرة التي وجدت رواجاً كبيراً في وقت من الأوقات عند بعض المنظرين الثوريين، تلك التي كانت تدعو لتقويض هذا البناء والاتيان بفكرة لهيئة جديدة أكثر قدرة وفعالية وحياداً في معالجة الأزمات. لكن هذه الأفكار الإصلاحية جميعها ظلت مجرد وسيلة للتسلية والنقاش الفلسفي. لم يحدث أي تقدم يذكر في هذا المجال، رغم أنه تم تبنيه من شخصيات وهيئات ومنظمات اقليمية ودولية كبرى. الدعوة إلى ضرورة الإصلاح استندت إلى تبريرات واقعية أهمها انعدام روح العدالة المتمثل في احتكار خمس دول لحق الفيتو ولمصير العالم، لمجرد أنها كانت دولاً منتصرة في معارك جرت قبل أكثر من ستين عاماً.
لقد جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقات الدولية، لم تعد الدول المهمة هي فقط تلك التي خاضت ضد بعضها صراعات وحروباً دامية، ولم تعد معادلة ألمانيا المهزومة أمام الروس، واليابان المهزومة أمام الولايات المتحدة فاعلة، ناهيك عن الدول والتكتلات القوية اقتصادياً وسياسياً اليوم والتي لم تكن شيئاً مذكوراً قبل بضعة عقود. معضلة المنظمة الدولية لا تتعلق فقط بالظلم الذي يفرضه الانصياع لحكم الفيتو، وإن كان فيه أكبر دليل على العبثية وافتقاد المنطق، بل بفعالية المنظمة ومنهجها في إدارة وتسوية النزاعات. ولقد كان اكتفاء أمينها العام الحالي بالتعبير عن «قلقه» إزاء كوارث وأزمات كبيرة حاقت بالعالم، مثار استياء وسخرية واتهامات مبطنة للمنظمة بالتواطؤ وعدم الرغبة في التدخل في معظم النزاعات ما لم تكن هناك فائدة ومصلحة مباشرة لدول المركز.
الانتقادات التي تواجهها المنظمة لا تأتي من دول العالم الثالث المستضعفة فقط، بل من أصحاب الضمائر الحية من الذين خبروا عمل لجان وهيئات الأمم المتحدة من قرب، وقد كتب الكثير في هذا الباب وعرضت الكثير من الوثائق الخطيرة التي حاولت أن تجيب بوضوح على السؤال الذي يحير الملايين وهو: لماذا تبدو الأمم المتحدة عاجزة عن تقديم أي حل لمآسي العالم الكبرى؟ وإذا كانت فعلاً عاجزة أو غير راغبة فما هي فائدتها؟
في كتاب صدر قبل أيام في باريس قدمت سيليا دو لافارين المسؤولة السابقة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة شهادتها عن تجربتها الخاصة ومعاناتها بين ما هو صحيح إنسانياً وغير لائق إجرائياً. تتوقع الكاتبة أن شهادتها لن تعجب «قيادة» الأمم المتحدة، لأنها تتحدث عن المنظمة بشكل مختلف وتقدم صورة مغايرة غير تلك الصورة البراقة التي تصعد إلى ذهننا عادة عندما نتحدث عن الموظفين الأمميين. يسلط الكتاب الضوء على تجربة صاحبته التي عملت في عدة بقاع غير مستقرة حول العالم. ستحدثنا عن أنها كانت تأخذ أجراً كبيراً نظير عدم القيام بشيء وستحكي باستفاضة عن جنود حفظ السلام الذين ستتحول أعداد كبيرة منهم من مساهمين في منع الانتهاكات إلى جزء أصيل من تلك الانتهاكات والاعتداءات على النساء والأطفال.
قيمة هذه الشهادة كونها أتت من داخل البيت الأممي، وهي تقدم حقائق كان من الصعب على باحث من الخارج أن يتوصل إليها كتستر المنظمة على المتورطين من أبنائها في حالات اغتصاب أو سرقة أو حتى قتل ضمن قانون داخلي يسمى بقانون الصمت. أيضاً تؤكد الدبلوماسية الأممية التي كانت قريبة بشكل خاص من رأس المنظمة وبشكل خاص كوفي عنان وبان كي مون حقيقة أن الولايات المتحدة هي من اختار أمين المنظمة العام الحالي وأنها، أي أمريكا، راضية بشكل عام عن أدائه، حيث أنه حقق لها ما تريد بالتحديد، وإن كان معظم العالم يظن أن بان كي مون لم يحقق شيئاً.
بمطالعة مثل هذه الشهادات يتبين لنا أن المشكلة بنيوية وليست، كما يحاول البعض تصويرها، متعلقة بإصلاح هنا أو هناك. المشكلة تبدو متجذرة بشكل عظيم في نظام المنظمة الدولية نفسه. هذه رسالة مهمة لمن يشغلون أنفسهم بانتقاد المبعوث الدولي إلى سوريا دي ميستورا أو زميله الآخر ولد الشيخ المبعوث إلى اليمن. الرجلان لا يملكان واقعياً سوى خيار التحرك في داخل الإطار المرسوم لهما. على سبيل المثال فإن دي ميستورا حينما بدأ عمله كانت قناعة الأمم المتحدة هي أن بشار الأسد وأركان نظامه هم من يمثل، بشكل شرعي، الدولة السورية حتى إشعار آخر، ومع استمرار الصراع في سوريا على مدى كل هذه السنوات وظهور متغيرات جديدة كالتنظيمات الفوضوية ترسخت هذه القناعة أكثر ليظل مندوب النظام محتفظاً بمقعده كممثل شرعي وحيد لسوريا في منظور الأمم المتحدة، بل إن بان كي مون لم يكتف فقط بهذا، بل كرمه بشكل جماهيري لأدائه المتميز وخدمته الطويلة. في ظل هذا المعطى لا يصبح ذلك الاستياء من زيارة دي ميستورا ومقابلاته مع حاكم دمشق مبرراً، كما تصبح كل تلك المقترحات التي تصب في صالح النظام الأسدي متفهمة، كاقتراحات التهجير أو كمبادرة إفراغ حلب من مقاتليها وتسليمها للنظام، أو كذلك المقترح المضحك الذي تقدم به دي ميستورا قبل أشهر والذي يهدف لتطعيم التفاوض بشخصيات نسائية محايدة وهي الشخصيات التي سنعلم لاحقاً أنها ليست محايدة في معظمها، بل إن النظام قد رشّح بعضها. من جانب آخر فإن الوضع الأممي الرمادي وعلاقة المنظمة بدول الفيتو وبمصالح الدول الممولة، كل ذلك بإمكانه أن يمنحنا بعض التفاسير لحالة التخبط الذي تعيش فيه الوساطة الأممية التي يمثلها ولد الشيخ أحمد في اليمن. الوساطة التي أفضت إلى مبادرة بائسة تتلخص في تغيير معادلات الوضع وسحب الشرعية التدريجي عن الرئيس هادي ومعسكره مقابل انسحاب المسلحين الحوثيين من صنعاء.
المبادرة التي رفضها الجانبان رحب بها للمفارقة طرف ثالث وهو الولايات المتحدة، التي أعلنت دعمها لها وضرورة إلزام الطرفين بها. هذا يوضح لماذا بدت تصريحات ولد الشيخ حازمة بهذا الاتجاه حينما قال إنه يجب القبول بالخطة كما هي وإنها غير قابلة للتعديل أو النسخ. لا شك أن الذين استبشروا بوجود مبعوث دولي عربي لليمن أصابهم الاحباط. لكنني أقول مرة أخرى إن شخص الموظف وخلفيته ليست الشيء الأهم، وليست العامل الذي يحدث فرقاً أكبر. النظام الأممي معد بحيث يترك لموظفيه مساحات صغيرة جداً للمحاورة والمناورة ووضع لمساتهم الشخصية على خرائط طريق مرسومة سلفاً.
أكبر الأدلة على هذا هو أننا جربنا عدة مبعوثيين دوليين من المنطقة العربية والإسلامية، بل سبق وجربنا أن يكون عربي عروبي على رأس المنظمة الدولية، فماذا كانت النتيجة؟
في مقال نشرته صحيفة «فاينانشيال تايمز»، حذر المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما من أن فترة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب «ستؤذن بانتهاء العهد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تشكل رمزًا للديمقراطية نفسها في أعين الشعوب التي ترزح تحت حكم الأنظمة السلطوية في مختلف أرجاء العالم»، ولم يستبعد فوكوياما أن يكون ترامب قد وقع تحت تأثير بوتين، وهذا ما يفسر محاولاته الانتقال من معسكر الليبرالية العالمية إلى معسكر القومية الشعوبية. وهو ما تصفه النخبة الغربية حاليًا بانقلاب كامل على المعايير الأخلاقية التي نظمت علاقة الولايات المتحدة بحلفائها الغربيين.
ولهذا لم تتأخر لندن في الرد غير المباشر على ما قاله الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لصحيفة «وول ستريت جورنال» عن احتمال تفاهم إدارته الكامل مع روسيا حول سوريا، وإمكانية تراجع واشنطن عن دعم المعارضة السورية المعتدلة، حيث لمّحت جهات حكومية بريطانية إلى أن لندن باتت على عتبة أزمة دبلوماسية مع واشنطن على خلفية خطط ترامب الرامية إلى التحالف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دعم النظام السوري، وقد نقلت صحيفة «تليغراف» عن مصادر في الخارجية البريطانية «أن الدبلوماسيين البريطانيين سوف يطلقون مفاوضات معقدة للغاية، وصعبة إلى حد اللامعقول مع ترامب في الفترة المقبلة ول موقفه تجاه روسيا، وأن لندن لا تعتزم تغيير نهجها على هذا الصعيد». من جهتها، دعت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون در لاين، الرئيس الأميركي المنتخب، إلى الاستمرار في ممارسة سياسة التشدد مع موسكو، وقالت إن «ترامب يجب أن يحدد بوضوح، مع أي جانب هو: مع العدالة، السلام والديمقراطية – أم مع صداقته الرجالية؟».
مما لا شك فيه أن دول أوروبا الثلاث العملاقة؛ ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، تستعد إلى مرحلة يسودها عدم التوازن في العلاقة مع واشنطن تحت إدارة دونالد ترامب، الذي يخطط إلى التراجع عن المسلمات التي حكمت العلاقات بين ضفتي الأطلسي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، على كل الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، فتلويح ترامب بالتخلي عن الـ«ناتو»، هو بمثابة تراجع عن التزام واشنطن بحماية حلفائها التاريخيين من التهديدات الروسية الدائمة والداهمة على حدودهم، خصوصًا أن فلاديمير بوتين يعتمد في سياسته التوسعية الجديدة على نشر عدم الاستقرار في الدول الصغيرة والضعيفة الواقعة
ضمن مجاله الاستراتيجي، وعلى دعم الجماعات الانفصالية من أجل إضعاف الحكومات المركزية، بانتظار الفرصة التي تمكنه من استتباعها على غرار ما جرى للقرم. وإذا كانت بريطانيا قد أرسلت قبل أيام من انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة ألف جندي بكامل عتادهم إلى البلطيق، كرسالة تحدٍ لمشاريع فلاديمير بوتين التوسعية، فإن ألمانيا المعنية مباشرة بمواجهة التمدد الروسي باتجاه شرق ووسط القارة الأوروبية، تمتلك قدرات عسكرية متدنية جدًا لمواجهة الآلة العسكرية الروسية، ففي تعليق له على تحليق القاذفات الاستراتيجية الروسية فوق بحر البلطيق، كشف الجنرال السابق في الجيش الألماني، هارلد كويات، أن كل قدرات بلاده العسكرية تكفي للصمود لمدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع فقط، في حال قررت موسكو اجتياح أوروبا الشرقية، ويكمن التخوف الأوروبي من نجاح ترامب في تقليص دور واشنطن في الـ«ناتو»، مما يجعل القارة الأوروبية في مواجهة خطرين؛ الأول استراتيجي يتمثل في إطلاق يد روسيا في مناطق شرق أوروبا حتى وسطها، والثاني خطر استمرار تدفق اللاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط وخصوصًا سوريا، حيث بات من المحتمل أن تلقى وأوكرانيا مصيرًا مجهولاً إذا قرر ترامب تسليمهما إلى روسيا.
بالنسبة للأوروبيين، تسليم أوكرانيا وسوريا لموسكو هو بمثابة إعادة اعتبار لها غير مبرر، وإعطائها دورًا لا تستحقه على الساحة الدولية، سيتسبب في انعكاسات سلبية على المستوى الأوروبي الداخلي، مما سيعزز دور اليمين المتطرف، وسيرفع من حدة التباين في المواقف داخل الاتحاد، مما سوف يشجع بعض الدول على طرح فكرة الانفصال على غرار ما جرى مع بريطانيا. فأوروبا المحاطة بجوارٍ جغرافي مشتعل، تسوده الحروب العرقية والدينية، تمزق وحدة دوله وتعيدها قرونًا إلى الوراء، مما يهدد مصالح الأوروبيين التاريخية في الشرق الأوسط خاصة، حيث تصبح الدعوة إلى مواجهة روسيا في سوريا ضرورة للدفاع عما تبقى لهم من دور ونفوذ، وحماية لاتفاق «سايكس - بيكو»، باعتباره الخيار الأكثر واقعية للمنطقة في مواجهة محاولات روسية لإسقاطه سياسيًا وديموغرافيًا، ودعوات أميركية تطلقها شخصيات مرشحة، لأن تكون في صلب صناعة القرار الأميركي في عهد ترامب، تدعو إلى إعادة رسم خرائط المنطقة وفقًا لشروط اللاعبين الجدد على الساحة الدولية، دون الأخذ بعين الاعتبار الحسابات الإقليمية وتقسيم سوريا والعراق على أساس إثني ومذهبي.
كثيرة هي المعلومات، والمعطيات، والتحليلات عن "سيناريوهات" لإقامة كيانات سورية متعدّدة، والسؤال الذي يوجّه إلينا، بوصفنا معارضين سوريين: ما هو موقفكم من تقسيم سورية؟ وماذا أعددتم لمواجهة هذا المخطط؟
طرح "تقرير راند" الذي أعدته مجموعة من العاملين السابقين في الخارجية الأميركية، أفكاراً تتمحور على إقامة أربعة كيانات، أو مناطق نفوذ، هي: النظام، والمعارضة، والأكراد، ومناطق سيطرة داعش التي رجّح خضوعها للنفوذ الأميركي.
يشير المتواتر في هذه الفترة، وبعض المرتسمات على الأرض، إلى نوعٍ من تفاهمات مباشرة، أو بالنتيجة، بين عدد من القوى والجهات الإقليمية والدولية، فهناك منطقة النفوذ الروسي – الإيراني، وهي التي يقال إنها كيان، أو دولة النظام، أو ما تعرف بـ "سورية المفيدة"، وتمتد من الساحل السوري، مروراً بحمص، إلى جنوب دمشق "قليلاً أو كثيراً". ويرتبط هذا القليل والكثير بمصير كلٍّ من حوران والجولان وجبل العرب، حيث تتفاوت التقديرات بين أن تكون جزءاً من سورية المفيدة تلك، وإيجاد صيغ من المصالحات الداخلية لنوع من إدارات ذاتية.
أما منطقة النفوذ التركي، أو مناطق سيطرة المعارضة فتمتد من شمال حماة، وربما حماة ضمنها، إلى إدلب، وأجزاء كبيرة من حلب. وهناك خلاف واسع بشأن مصير حلب. هل ستتبع كلها للمعارضة؟ أم ستشهد تقسيماً أشبه بتقسيم بيروت إبّان الحرب الأهلية، أي حلب الغربية وحلب الشرقية، مع امتدادات هنا وهناك للجهتين؟
منطقة النفوذ الأميركي هي التي سترث المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وخصوصاً الرقة، وصولاً إلى دير الزور. وما يقال إن التفاهم عليها ليس تامّاً، بل وقابلاً للمساومة، وينتظر بدء ما يعلن عنه بـ "تحرير الرقة"، وأدوار الأطراف التي ستشارك.
تبقى المناطق التي يوجد فيها الأكراد بكثافة، وهي خاضعة لنوعٍ من الحكم الذاتي الذي تشرف عليه التنظيمات الكردية، خصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومليشياته، مع إشراك بعض العرب والتركمان والآشوريين.
هذه الحالة المنافية لجميع القرارات الدولية، خصوصاً بيان جنيف 1، وتطوراته، بما في ذلك لقاءات فيينا 1، وفيينا 2، وقرار مجلس الأمن 2254، وما تلاه من لقاءات ومشاريع، نصّت جميعها على وحدة سورية، كياناً سياسياً ومجتمعياً، بغض النظر عن الانزياحات التي حصلت بشأن موقع الهيئة الحاكمة الانتقالية وصلاحياتها، وجوهر العملية السياسية، والموقف من رأس النظام ومدة بقائه، وصلاحياته. وتطرح هذه الحالة أسئلة خطيرة عن مآل المسألة السورية، وما يمكن أن تشهده من تطوراتٍ مخالفةٍ لطموحات السوريين بأغلبيتهم الساحقة، وعلى اختلاف مواقفهم، إذ أن الخوف كبير من قيام حالات الأمر الواقع، من دون حاجةٍ لترسيم معلن.
علينا الاعتراف بأن المسألة السورية التي دُوّلت، ودخلت على خطها مجموعة أطراف متنازعةٍ بمشاريعها، مع قابليةٍ على التفاهم والمساومة، تتجاوز اليوم قصة الثورة ومصيرها، والحلول السياسية بشتى ألوانها التي تعمل على تحويلها إلى مسألة نزاعاتٍ بين أطرافٍ كبيرة، ودول عظمى مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وتوزع النفوذ بين دول إقليمية وخارجية، بواقع غياب دور السوريين، معارضة ونظاماً في التأثير، والقرار، والمصير.
السؤال الكبير الآن: هل يمكن للسوريين أن يذعنوا للمفروض عليهم، والذي قد يتجلى بإعادة إنتاج اتفاقية سايكس بيكو بطريقة أكثر تهشيماً، وتفتيتاً؟ أم أن لديهم ما يقولونه ويفعلونه؟ ولئن كان نظام الأسد المسؤول الرئيس عن هذا المسار، وما يمكن أن يسفر عنه من مآلاتٍ، قد فقد قراره الخاص، وهو يستنجد بإيران، وعشرات المليشيات الطائفية، وهو يستقدم روسيا قوة احتلال، وهو الموعود ببقائه، بشكلٍ ما، على جزء مهمٍ من بلادنا، فماذا سيكون موقف (ودور) قوى المعارضة السورية، السياسية منها والمسلحة؟ هل تملك قوى المعارضة أوراقاً وقدرة على تغيير المعادلة، وفرض نفسها لاعباً مهماً فيها؟ أم ستبقى تدفن رأسها في رمال المعهود، والاكتفاء بدورٍ محدود، عاجز عن فعل المطلوب، والحيوي؟
أرى أنه، وعلى الرغم من عوامل الضعف والسلب، والتشتت وعدم وحدة الفصائل المسلحة المنتسبة إلى الجيش الحر، وعدم الوحدة بين السياسي والعسكري، فإن لدى الثورة السورية إمكانات كثيرة يمكن تنظيمها وتوظيفها في معركة الوجود، خصوصاً حين تعود إلى حواضنها الطبيعية: الشعب الذي يقدّم أغلى التضحيات، والمستعد للذهاب في المقاومة والصمود والتحمّل، حتى تحقيق الأهداف التي ثار لأجلها. وحدة فصائل الجيش الحر اليوم مهمة ملحّة، يجب إنجازها، كما أن تناغم السياسي والعسكري، وفق برنامج عمل موحد، أساس لمواجهة التحديات، والإسهام باعتباره شريكاً فاعلاً في الحل السياسي، أو سواه.
ماذا يمكن أن ينسب دون تجنٍ إلى حافظ الأسد بعد تمام 46 عاماً من حكم سلالته؟ ماذا كان مشروع الرجل الذي حكم سورية ثلاثين عاماً قبل أن يسلمها لابنه بشار؟
يمكن المجادلة قليلاً أو كثيراً في سيرة الرجل السياسية وسنوات حكمه الطويلة، لكن ما لا يمكن المجادلة فيه، في تصوري، هو أنه عمل بوعي وتصميم على بقاء الحكم في أسرته وأعد ابنه الأول، باسل، ليخلفه، قبل أن يعد ابنه الثاني بشار بعد وفاة باسل. لا يتحتم أن يكون هذا في باله منذ انقلابه في مثل هذا اليوم من عام 1970، لكن قلبَ سورية إلى مملكة أسدية مكتوبٌ في إرادة حفظ السلطة طوال الوقت، وحافظ أظهر منذ وقت مبكر جداً أنه مستعد لفعل كل شيء من أجل ذلك. وعليه فإن جوهر المشروع الذي يمكن نسبته إلى الرجل هو امتلاك كل السلطة على الكل في سورية، وحيث أمكن حولها، كل الوقت، أو «إلى الأبد» على نحو ما صار يقال في ثمانينيات القرن العشرين. معلوم أن هذا العقد الأخير شهد، فضلاً عن مذبحة حماه الكبرى، واعتقال عشرات الألوف، دخول تعابير مثل «البيعة» و»تجديد البيعة» و»المكرمات» و»العطايا» و»الأب القائد» و»سيد الوطن»، في سجل الخطاب العام في سورية. تحيل كل تلك التعابير إلى متخيل أبوي سلطاني، رجعي بكل معنى الكلمة، ارتبط بصورة وثيقة مع رفع حافظ فوق محكوميه درجات وتحصين حكمه.
وليس غير ذي دلالة أنه لم يقاوم هذا المتخيل السلطاني الممارس أو يعترض عليه وينتقده في أي وقت، تقدميون سوريون وعرب، صارت دمشق قبلتهم في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وقت كان السوريون يسحقون. وإذ يصعب القول إنهم لم يلاحظونه، لا يبقى غير أنهم تواطؤوا معه وقبلوه. ليس هذا هو المقام الأنسب لسرد سيرة هذا المزيج من التقدمية و»السلطانية»، لكن يلزم القول إن هذا المزيج هو الثقافة الأسدية التي يجب أن تفصل ذات يوم ويكتب تاريخها. يكفي هنا القول إن دولة حافظ الأسد منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبعد أن جرى سحق المعارضة الإسلامية واليسارية، كانت مضخة جبارة للنكوص الاجتماعي والثقافي، وكان لها جناح ثقافي لا وجه للتقليل من أهميته.
اقتضى مشروع حفظ السلطة من حافظ الأسد الاعتماد على موثوقيه الأهليين منذ وقت مبكر من حكمه. كان هذا الاعتماد مضخة نشيطة بدوره للطائفية والتمييز الطائفي في المجتمع السوري. فنحن حيال جهاز عام ارتكازي، يستند إليه النظام في استمراره وإعادة إنتاجه لنفسه. ثم إن هذه الجهاز، أو المركب الجهازي المنتشر في كل مكان، كان يمارس على الدوام عنفا إذلالياً تمييزياً مشخصاً، منفصلاً عن أي تصور للحق والحماية القانونية للأفراد واحترام المجتمع ككل. كان هذا المركب الجهازي قوة ضخ للطائفية وعلاقاتها عبر صفتيه هاتين: انتشاره العام الذي يضعه في تماس مع السوريين جميعاً في كل وقت وكل مكان من البلد، وصفته العنيفة والإذلالية التي تثير مشاعر العداء ونوازع الانتقام.
حافظ الأسد لم يكن مفصولاً عن بيئة عربية وشرق أوسطية تقوم على استثناء إسرائيلي من مبادئ العدالة والقانون، وعن ظهور دول الريع الاستخراجي وتعمم العلاقات الريعية التي تعود على الدول باستقلالية غير مستحقة، تضعها في موقع فوق المجتمع، وعن استقطاب دولي كان يوفر حماية لدول أضعف فتظهر أقوى مما هي في الواقع، وكذلك عن مشكلات اجتماعية وسياسة سورية متنوعة (حاثة الكيان و»اصطناعه»، وتالياً ضعف الهوية السورية والإجماعات الوطنية، مطالب متصاعدة نشيطة لأقليات كانت مهمشة لأمد طويل، خاصة العلويين…). لكن الرجل ونظامه لم يكونا مجرد نتاج لهذه الأوضاع، كانا فاعلين في إنتاجها وتثبيتها، وطليعين في قيادة التحول نحو الحكم الأبدي والتوريث. سورية هي الدولة العربية الوحيدة التي وقع فيها التحول السلطاني، وحظي بمباركة على مستوى القمة الدولية، وتبدو سلالتها الحاكمة مقبلة اليوم على النجاة من ثورة كبيرة، وإن بكلفة مدمرة للبلد المحكوم ومجتمعه. الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات في أوضاع غير طيبة كلها اليوم، لكن مشروع الحكم السلالي الأبدي تحطم في جميعها.
أقترح عبارة تحول سلطاني لهذه النكوص التاريخي الكبير الذي ما كان ممكناً لولا أن الأب كان قتل عشرات الألوف قبل أقل من عقدين من التحول. كلمة سلطان في العربية تعني القائم على السلطة، وتعني السلطة نفسها، وتتضمن نسقاً من القيم ما قبل وطني حديث، هو الذي تنتسب إليها مدركات البيعة وتجديد البيعة والعطايا والمكرمات والفتنة. وهنا تكون الدولة «نوبة» في الحكم، دوراً قد يطول أو يقصر، لكنه يستهلك عمره على غرار الدول الخلدونية، وليس منتجا للزمن، أي للتغير والتبدل والمستقبل. ما تتطلع إليه الدولة الأسدية هو بالضبط منع التغير، وهو تأبيد الحاضر ومنع المستقبل من القدوم. تعمر قليلاً أو كثيراً، لكنها ليست حليفة للزمن.
أستخدم عبارة الدولة الأسدية في وصف هذا الكيان، وأراها أنسب من عبارة السلطة أو النظام، أو النظام الأسدي، فضلاً عن عبارة النظام السوري. فهي من جهة تبرز الطابع المشخص والسلالي لهذا النمط من الحكم، ومن جهة ثانية تضمر أمثلة تاريخية معروفة من تاريخنا مثل الدولة الأموية والعباسية والحمدانية والبويهية والأيوبية والسلجوقية والعثمانية… ولا يبعد أن حافظ الأسد فكر في نفسه كملك لسورية وبان لسلالة. وفي كل حال، تتضمن كلمة دولة في عبارة الدولة الأسدية تصور سلطة قائمة على الشوكة والغلبة، يتولى تصريفها الدهر، ويخضع تداولها للأيام (هي الأمور كما شاهدتها دول/ من سره زمن ساءته أزمان، يقول أبو البقاء الرندي)، وليس بحال تصور الدولة الحديثة كمؤسسة حكم عامة، تقوم على المساواة الحقوقية والسياسية، وعلى قواعد حكم مُطّردة، وعلى أشكال عقابية من العنف (ليست إذلالية ولا انتقامية)، وعلى صيغ «عقلانية» مرتبة اجتماعياً للتداول السياسي، لا تترك قياده بيد الدهر.
والمسألة ليست اصطلاحية على كل حال. فبما أننا حيال دولة سلالية خاصة، لا يسعنا التكلم عن مؤسسات عامة يجب الحفاظ عليها من أجل ضمن استمرارية الدولة السورية، أو إن شئنا الدقة، هناك مؤسسات عامة انحدرت إلينا مما قبل الزمن الأسدي، لكنها موهنة، تابعة، ومفرغة من السلطة، مثل الحكومة والإدارات والمدارس والجامعات والجيش النظامي (من غير التشكيلات ذات الوظيفة الأمنية)، تشكل بمجموعها الدولة الظاهرة؛ أما ما هناك من مؤسسات ذات سلطة، الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية والأسرة الأسدية، فكلها خاصة، وتشكل بمجموعها الدولة الباطنة. الفرق بين الدولتين هو أن الأخيرة، الباطنة، فوق القانون، فيما الثانية تحته. يصح في القانون ذاته ما سبق لماركس قوله عن القانون البورجوازي: أداة بيد الدولة الباطنة والبرجوازية الجديدة المرتبطة بها. ووحدها مؤسسات الدولة الباطنة صاحبة القرار في شأن استخدام العنف والحائزة الحصانة، وغير المسؤولة أمام أحد. والدستور الحقيقي لها هو: كل السلطة على الكل كل الوقت، وفي غرائز مؤسساتها الخاصة نازع عداء لمجتمع المحكومين وطابع إذلالي للعنف الممارس.
ولا يحتاج المرء إلى أن يكون سيئ الظن على نحو خاص حتى يفكر في أن الأجهزة الأمريكية والروسية تريد الحفاظ على «مؤسسات الدولة» هذه لهذا السبب بالذات. المشترك بينها، وبين مؤسسات الدولة الأسدية هو النظر إلى العموم في مجتمعاتنا كحشود متطرفة، خطرة وغير عقلانية، وهي نظرة متأصلة في تراث استعماري واستشراقي معلوم. وما يترتب على هذه المناقشة سياسياً هو أن فرص انبعاث الدولة العامة في سورية مرهونة بتحطيم الدولة الخاصة الأسدية، وأولها أجهزة عنفها القاتلة. هذا «داعش» من صنف آخر مع قدرة أوسع على القتل، ومع سجل محقق أوسع بما لا يقاس من القتل والتدمير. واستبقاؤها كمؤسسات عامة ليس أوجه في شيء من استبقاء أجهزة «الدولة الإسلامية».
كان جوهر القضية السورية هو استعادة سورية من الأسديين، وهذا مشروع متعثر إلى أقصى حد اليوم. على دأب سلالات كثيرة في التاريخ، فضلت السلالة الأسدية تسليم البلد للروس وللإيرانيين وأتباعهم الطائفيين على تسوية تاريخية، تضع السوريين ككل في وضع أفضل في بلدهم. قد يبقى الأسديون في مواقعهم إلى حين، لكن خسروا السيادة ولم تعد دولتهم تتحكم بشروط إعادة إنتاج ذاتها.
على أن الصراع مع السادة الجدد مفتوح، وهم أنفسهم من يخلقون شروط تجدده المستمرة. وهذا يبقي الحاجة إلى سورية جديدة، مستقلة، لاأسدية ولا طئافية، حياً وواجباً، اليوم وفي كل وقت. سورية لا إسلامية أيضاً، فليس هناك حل إسلامي للمشكلة الأسدية وعقابيلها. إلا أن تفصيل ذلك يقتضي مقدمات مختلفة.
أسابيع قليلة، ويغادر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، البيت الأبيض، تاركاً وراءه حزمة كبيرة من الأزمات المفتوحة، وارثاً مجهول المصير. بمجرد خروجه، سوف يبدأ أوباما، على الأرجح، كتابة مذكّراته، وسوف يتاح لنا أن نقرأ تاريخ الثماني السنوات التي قضاها في حكم القوة الأعظم في العالم، من وجهة نظر أول رئيس أميركي من أصول افريقية. سيخبرنا أوباما كيف أنه انشغل، منذ اليوم الأول لوصوله إلى الرئاسة، بالتحضير لإنفاذ وعوده الانتخابية الخاصة بسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وكيف أن نجاحه في انتشال أميركا من الأزمة المالية التي ضربتها عام 2008 كان يعتمد كلياً على وقف النزيف الخارجي للقوة الأميركية، خصوصاً في حرب العراق التي قدرت مصادر تكلفتها بتريليوني دولار.
سيروي أوباما تفاصيل خطته للانسحاب، والنقاشات التي دارت مع الدائرة الضيقة من المساعدين الذين أحاطوا به، خصوصاً مستشاره لشؤون الشرق الأوسط، روبرت مالي، ونائب مستشار الأمن القومي، بنجامين رودس، والذي وصفته "نيويورك تايمز" في تحقيق طويل، نشرته في 5 مايو/ أيار الماضي، بأنه ظل أوباما وعقله. اقتضت الخطة، كما غدا معلوماً، ترميم العلاقات مع حكومات العالم الإسلامي، تبني سياسات واقعية وطي صفحة "أوهام" نشر الديمقراطية. والأهم من ذلك كله تبني خلاصات لجنة بيكر-هاملتون التي أنشأها الكونغرس، بعد انهيار الوضع الأمني في العراق، إثر تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير/ شباط 2006، لتقييم الوضع هناك. انتهت اللجنة إلى التوصية بالانفتاح على إيران، لتهدئة الوضع في العراق، وتأمين خروجٍ آمن للأميركيين. أوكل تنفيذ الخطة لوزير الدفاع الأسبق، روبرت غيتس، وهو المسؤول الوحيد الذي احتفظ به أوباما من إدارة بوش، للإشراف على تنفيذ توصيات اللجنة التي كان غيتس من أعضائها، وهو من كتب توصياتها.
هنا، سيطلعنا الرئيس أوباما، على الأرجح، على تفاصيل المفاوضات السرية التي قادها غيتس مع إيران بين عامي 2009 و2011، لتأمين سحب القوات الأميركية من العراق، وكيف أن إدارته أيدت، إرضاءً لطهران، بقاء نوري المالكي رئيساً للوزراء، ضاربةً عرض الحائط بنتائج انتخابات عام 2010 التي خسرها أمام القائمة العراقية، بزعامة إياد علاوي. اقتضت المصلحة الأميركية تعزيز قبضة المالكي على السلطة، وتحويله إلى ديكتاتور، فساعدته، في ولايته الأولى، في ضرب خصومه من الشيعة (الصدريين خصوصاً) وغضّت، في ولايته الثانية، النظر عن سياساته الطائفية تجاه السنة، بهدف بناء سلطة مركزية قوية ترث النفوذ الأميركي المنسحب.
لا بد أن أوباما سيفرد فصلاً خاصاً، وربما فصولاً، عن مفاوضاته السرية مع إيران بشأن ملفها النووي، وكيف أن هذه المفاوضات بدأت مع حكومة محمود أحمدي نجاد التي صدّعت رؤوسنا بخطابات المقاومة وعزمها على إزالة إسرائيل من الوجود. وكما كان مضطراً أن يترك لها العراق خدمةً "للمصالح الأميركية"، سيخبرنا أوباما أنه، من أجل انتزاع اتفاقٍ معها بشأن البرنامج النووي، كان مضطراً إلى التغاضي عن تورّط إيران المباشر في قتل مئات آلافٍ من السوريين، وتشريد الملايين، وابتلاع خطوطه الحمراء التي رسمها، حال استخدم النظام السلاح الكيماوي.
سيدافع أوباما بقوةٍ عن سياساته في الانفتاح على إيران، باعتبار أنها سمحت له بتحقيق اثنين من أهم أهداف سياسته الخارجية في الشرق الأوسط: إتمام الانسحاب من العراق في ولايته الأولى، وانتزاع اتفاقٍ حول برنامج إيران النووي في ولايته الثانية، على الرغم من أنه دمّر العراق، ليحقق الهدف الأول، وأحرق سورية ليحقق الهدف الثاني.
بذل الرئيس أوباما قصارى جهده لإيصال هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، ليس حباً، وإنما سعياً إلى الحفاظ على إنجازاته "الإيرانية"، باعتبار أنها تمثل إرثه الرئاسي "الوازن". وأما وقد فاز ترامب، فالاحتمال كبير أن يتم دفن هذا الإرث، حتى قبل أن يتسنى لأوباما كتابته. فالرئيس الجديد يرى الانسحاب من العراق خطأً استراتيجياً كبيراً، لأنه سلم العراق إلى إيران على طبق من فضة، كما أنه يعد الاتفاق النووي الذي توصل إليه أوباما معها الأسوأ على الإطلاق. إذا ترجم ترامب هذه التصريحات إلى سياسات سيدخل في جولةٍ جديدة من الصراع مع إيران، يلقي معها كل ما حاول أوباما فعله، ثماني سنوات، في مزبلة التاريخ.
قد تختلف مع ترامب فيما يقول، لكنك إذا كنت موضوعيا لا يمكن أن تُنكر أنه رجل شجاع ومقدام ولا يخشى أحداً فيما يقول، في زمن يقولون إن من متطلبات السياسي الفطن أن يقول ما لا يؤمن به ويجاري النخب التقليدية المهيمنة على صناعة القرار السياسي.
ترامب نجح بامتياز في تحدى النخب السياسية والإعلامية المسيطرة على صناعة القرار السياسي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، واحتكم للشعب، وحقق انتصارا حقيقيا وكاسحا حسب شروط الديمقراطية الأمريكية، في حين ان «هيلاري كلينتون» القادمة من مدرسة هذه النخب التقليدية، مُنيت بخسارة كبيرة.
وأنا ممن يؤمنون إيمانا راسخا أن العظماء الحقيقيين يأتون غالبا من خارج السياق، ولا يرضخون للموروثات، أما الرؤساء الذين يحافظون على السياق والنسق، وعلى ما اتفق الناس على أنه (ثوابت) تقليدية، فهم غالبا ما يمرون بالتاريخ مرور الكرام، ولا يقودونه بقدر ما تقودهم هذه الثوابت.
وانتصار ترامب هو من زاوية أخرى هزيمة منكرة لما يُسمى (عقيدة أوباما)، الذي لم يتميز عهده بشيء إلا بكونه أول رئيس لأمريكا من أصول أفريقية، ثم لا شيء يذكر. بل يمكن القول إن الانتصار العظيم الذي حققه الرئيس التاريخي «رونالد ريغان» بإسقاطه للإتحاد السوفييتي، فرّط فيه أوباما، مكرسا (روسيا) العظمى ندا قويا ومناكفا جديدا للولايات المتحدة.
وليس لدي أدنى شك أن (التصفيق) الذي أبدته موسكو لانتخاب ترامب لن يدم طويلا، لأن شعار ترامب في حملته الانتخابية (لنعيد أمريكا كما كانت عظيمة)، لا بد وأن يتصادم مع طموحات الرئيس الروسي يوتين، الذي هو الآخر يريد أن يعيد مجد الاتحاد السوفييتي المفقود.
وأمريكا هي القوة العسكرية العظمى على وجه الأرض، وتُسيطر على ثلث اقتصاد العالم، بينما يتشارك بقية العالم في الثلثين الباقيين، ومن المهم للعرب عموما، وللمملكة ودول الخليج بصفة خاصة أن يكون رئيس أمريكا شجاعا لا يرضخ إلا لمصالح أمريكا العليا. السبب أن هذه المصالح متماهية مع مصالح العرب وتحديداً دول الخليج، ولن أتكلم هنا عن الثروات الطبيعية وعلى رأسها النفط، ولا عن الاستثمارات الرأسمالية الضخمة، وإنما عن علاج (الوباء) الذي يتّحد العالم للقضاء عليه، وهو الإرهاب. ولا يمكن لرجل عقلاني وموضوعي يرفع شعار الحرب على الإرهاب، دون أن يستعين بالمملكة. إضافة إلى أن سلفه الرئيس أوباما ارتكب خطأ فادحا حينما تحيّز لإيران، ومنحها (العراق)، وغض بصره عن سلوكياتها الشريرة لتصول وتجول في المنطقة، ما جعل العرب، وكذلك بقية المسلمين، يشعرون بانحيازه (الفاضح) لإيران في مساعيها لتشيّع بقية العرب والمسلمين، والسيطرة على سيادة قرارهم، مستخدمة النزعة الطائفية للتدخل في شؤونهم الداخلية.
وليس لدي أدنى شك أن شعور الكراهية تجاه أمريكا، سببه انحياز أوباما، لإيران، رغم أنه (ضد) مصالح أمريكا العليا.
وختامًا، لعل ما يثلج الصدر أن مستشار ترامب «وليد فارس» صرح بعيد انتصاره أن هناك توجها لدى ترامب للتحالف مع المملكة ودول الخليج ومصر والأردن، للقضاء على الإرهاب؛ اللافت للنظر أنه استثنى إيران الابن الذي كان مدللا للثنائي (أوباما/ كلينتون).
يتميز الصراع في سورية عن سواه من الصراعات بخطورته وحركيته، فإضافة إلى تكتيكات حافة الهاوية التي تستخدمها روسيا، بصفتها اللاعب المحرك الآن، فإن القتال ينتقل بسلاسة مذهلة من أطراف الصراع المحلية إلى اللاعبين الدوليين والإقليمين، ما يعني أن استمرار ذلك، مع عدم توافر آليات لإدارة الصراع، ستفضي حتماً إلى تصادم بين تلك الأطراف.
ما حصل أن أطراف الصراع، الدولية والإقليمية، استخدمت نمطاً من التكتيكات يمكن تسميتها بـ «المغلقة» ولا تنطوي على إمكان للتفاعل أو المساومة، بمقدار ما تفرض خيار المواجهة أو التراجع، وقد كثّفت روسيا من استخدام هذا التكتيك من خلال استراتيجيتها الهجومية وإصرارها على أن جوهر القضية هو الحرب على الإرهاب ومساندة حكومة شرعية، في حين اتّخذت الاستراتيجية الأميركية منحى التفاوض السياسي من دون تحديد خطوطها الحمر، ما أظهر إدارة أوباما كأنها وسيط محايد، والدليل أن مفاوضيها كانوا يضعون في جيبهم، عند كل تعنت روسي، التهديد بالانسحاب من المفاوضات كعقاب لروسيا!
هذه الطريقة في إدارة الصراع، من جانب اللاعبين الكبار، هي المسؤولة عن إيصال الصراع إلى هذه المرحلة من الخطورة، واليوم تجد روسيا نفسها مضطرة لخوض معركة تدمير حلب، رغم إدراك صانع القرار الروسي حجم الأخطار التي سترتبها هذه العملية، ذلك أن التراجع الروسي، بعد كل الاستثمارات اللوجيستية والحرب الدعائية، ستكون له أثار عكسية على الصورة التي يحاول فلاديمير بوتين رسمها عن روسيا الجديدة، كما أنها ستعني بداية التراجع لمشروع عودة روسيا قوة فاعلة على المسرح الدولي.
في المقابل، فإن إقدام روسيا على هذه الخطوة سيضع أميركا في مأزق استراتيجي خانق، إذ عدا سقوط هيبتها، فإن انتصاراً روسياً حاسماً في حلب سيغذي العدوانية الروسية على مسارح أخرى في بحر البلطيق والبحر الأسود وأوكرانيا، وسيدعم رغبة روسيا في مد نفوذها صوب آسيا وأميركا اللاتينية، بعد أن أعلن الكرملين رغبته في إعادة إحياء وجود روسيا هناك.
وهذا الأمر في حال حصوله، سيؤدي إلى إجراءات ملموسة على صعيد تهديد الأمن القومي الأميركي، إذ سيترجم إلى حيثيات من أرض وقواعد عسكرية، وحينئذ لن يكون هامش قدرة المفاوض الأميركي وحده في مجال الخطر وإنما الوجود الأميركي ذاته، في ظل وجود حكام في الكرملين على شاكلة بوتين ونخبة عسكرية تستثمر في المغامرة وتعتبرها أحد عناصر قوة الدولة.
ويبدو أن ثمة إدراكاً متأخراً لدى البيت الأبيض، بأن إنقاذ حلب مسألة باتت صعبة، ما يستوجب البحث عن خيارات أخرى، وهو ما دفع بوزير الخارجية جون كيري إلى القول أن الحرب في سورية لن تنتهي بسقوط حلب، ولكن ما هي البدائل التي تملكها واشنطن لتحويل تهديداتها إلى واقع يدفع روسيا إلى إعادة حساباتها؟
ثمة قاعدة تترسخ يوماً بعد آخر، في مسرح الصراع السوري، مفادها أن الحفاظ على المصالح يتطلب الانخراط المباشر في أرض المعركة. روسيا وتركيا توصلتا إلى هذه القناعة، وأثبتت تجارب الانخراط التركي والروسي أن تكلفة الانخراط المباشر أكثر عائدية وأقل مخاطرة من دعم الوكلاء. فلو أن روسيا لم تتدخّل لسقط نظام الأسد وخرجت من المولد بلا مكاسب استراتيجية، ولو أن تركيا بقيت متردّدة لكان الشريط الحدودي أصبح كردياً بحكم الأمر الواقع، واستمرار تردد أميركا سيجعلها خارج أسوار الشرق الأوسط.
سيكون على الإدارة الأميركية الجديدة التحرر من القيود الكثيرة التي وضعتها إدارة أوباما على نفسها والتصورات الخاطئة التي كبّلت يديها، فيما ظهر بوتين كبطل لأنه لم يضع قيوداً على سلوكه، وتثبت حالة الغليان التي تشهدها المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية احتجاجاً على سياسات أوباما تجاه روسيا، في سورية وغيرها، أن ثمّة خيارات ستكون الإدارة المقبلة مجبرة على اتخاذها.
شكلت بداية الثورات العربية مرحلة جديدة في تاريخ العرب. كانت محملةً بالآمال العظيمة، وأنَّ هناك مستقبلاً جديداً سيدخلون فيه. تشبّثت الأنظمة القديمة بالحكم (اليمن، سورية، ليبيا، العراق) وأُدخلت البلاد العربية بأزماتٍ على المستويات كافة. كانت الحصيلة في الدول المستجيبة لأهداف الثورات إعادة تسلّم الأنظمة القديمة السلطة، مثل تونس ومصر. وليست بقية الدول التي لم تضعضها الثورات في حالة مثالية، ولا تشكل أي نموذج يُحتذى، وليست قادرة على قيادة مشروع عربي لمواجهة التدخلات الإقليمية، من تركيا وإيران وإسرائيل، ولا على مواجهة التدخلات الإمبريالية، كما الحال من روسيا تحديداً، وكذلك أميركا وأوروبا.
برز في هذا الوضع دور كردي جديد، دورٌ يُوظف ذاته في المشروع الأميركي والتبعية له، وبما يحقق للكرد مصالحهم، وهذا ما اتضح بشكل كبير في العراق، ومنذ الغزو الأميركي فيه عام 1990، وتجدّد حينما احتلت أميركا العراق بشكل كامل 2003. كانت هذه العلاقة تتطور على حساب العرب في العراق، وبسبب طائفية النظام في هذا البلد، وعدم إنصاف الكرد والاستجابة لمصالحهم ضمن وحدة العراق؛ أيضاً كانت حسابات الكرد في غاية البراغماتية، أي الاستفادة من الدولة العراقية، طالما أن الظروف الدولية والإقليمية لا تسمح بقيام دولة كردية مستقلة.
بعد قيام الثورة السورية في العام 2011، اتخذت القوى السياسية الكردية موقفاً قومياً خاصاً بها، لا هو ضمن الثورة، وليس ضمن تحالفات النظام بشكل كامل، والاستفادة من الوضع الناشئ من أجل تحقيق أوسع الحقوق لصالح الأكراد، والذي تجاوز مسألة الحقوق الثقافية والمواطنة، وصارت الأحلام تُهدِّد سورية بشيء من التفكير الانفصالي، وإن لم يُعلن عن ذلك بوضوح كامل، فهناك الفيدرالية وكردستان الغربية، وهناك التهجير للعرب، وهناك ادّعاء مُسفٌّ أن العرب دواعش. ويأتي هذا التوظيف الأيديولوجي ضمن الحملة الأميركية في الحرب على الإرهاب، وللانخراط كقوات برية للائتلاف الدولي ضد داعش، وهو ما تحقّق لقوات صالح مسلم، ولا سيما في أثناء تحرير عين العرب (كوباني) ومنبج. والآن، هناك توكيل أميركي لقوات مسلم لتحرير الرقة.
صالح مسلم لا يعنيه أن تشتعل حربٌ كبيرة بين العرب والكرد، فأغلب قيادات تنظيمه من أكراد تركيا، وهو على خلاف كبير مع بقية القوى الكردية السورية، وإن لم يختلفوا كثيراً في الرؤية لمستقبل الكرد في سورية! وقد بدأت معالمها (الحرب) المستقبلية تظهر عبر ممارسات التهجير القسري في بلدات الحسكة وتل أبيض، ومن ممارساتٍ استبداديةٍ إلغائية لأهالي منبج، ومنعهم من إدارة شؤونهم عبر مجلسهم المحلي المنتخب. ويمثل التوكيل الجديد، والذي أعلن عنه الكرد والأميركان في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مشكلة كبيرة للعلاقات المستقبلية بين القوميتين.
رفضت الفعاليات السياسية في الرقة في بيانٍ (منشور على موقع مجلس مدينة الرقة) توكيل قوات صالح مسلم لتحرير الرقة، وهذا يعني، بشكل واضح، أن التنسيق الأميركي الكردي لمصلحة الكرد ضمن المنظور المباشر، ومرفوض عربياً، وستكون حصيلته حرباً كردية عربية في سورية مستقبلاً؛ هذا هدف أميركي، وهو ليس جديداً، حيث تقوم الإستراتيجية الأميركية وكل إستراتيجية امبريالية على عوامل التفريق بين الشعب، وفقاً للهويات القومية أو الطائفية والعشائرية والعائلية. وبالتالي، ما يفعله صالح مسلم بأكراد سورية خطير للغاية، فهو يقودهم إلى المجزرة في المستقبل، ونضيف هنا: إذا كان هناك مبرّر سياسي ما لتشكيل جيش كردي في سورية و"تحرير" مناطق ذات وجود كردي كبير، فإن معظم ما فعلته قوات صالح مسلم كان بغطاء من النظام، ولم تقارعه مطلقاً، وضد العرب الثائرين، ولم تُحرّر مدينة فيها أكراد كثيرون، بل ما زال النظام في القامشلي والحسكة قوياً، وربما أكثر من المدن التي تحت سيطرته الكاملة؟!
معركة الرقة، كما معركة الموصل، ستُعزز أدوار الكرد في العراق وسورية؛ وإذ تتكرّر التحذيرات للبشمركة الكردية، ولقوات الحشد الشعبي الإيرانية، ويتم التساوي بينها في دخول الموصل، فإن القوى السياسية في الرقة رفضت الأمر بأكمله. ورفض المحاولات الكردية للتمّدد في البلدين متأتٍ من إعلان قوات مسعود البرزاني، أو قوات صالح مسلم، أن المناطق التي "تحرّرها" لن تتراجع عنها، وستحاول وصلها بالمناطق التي تسيطر عليها، أي هناك تخوف عربي من الإستراتيجية الكردية، والتي تقوم على قضم مناطق عربية، والتأسيس لحروب مستقبلية. هناك سبب آخر للتخوف، فأكراد مسعود البرزاني يتحالفون مع تركيا، وأكراد صالح مسلم يتحالفون مع إيران، وهناك أسباب كثيرة للقول بتنسيقهم مع النظام كذلك. النقطة الأخيرة مصدر تشكيك كبير من المعارضة السورية، أي أن تحرير الرقة لن يكون مرفوضاً من النظام، وبالتالي، سيُعتبر التحرير ضربةً قوية ضد المعارضة في حال قامت بذلك قوات مسلم، وبغطاء أميركي، وهذا ما قد يقارب بين روسيا وأميركا والنظام في هذه المعركة.
ما فعله "داعش" بالكرد، فعل أسوأ منه بالعرب، والفعل نفسه تكرّره الفصائل الإسلامية و"الجهادية" بالمناطق التي تسيطر عليها. وبالتالي، هناك أسباب كثيرة للتقارب بين الكرد والعرب، وما يعيق ذلك رؤية تنظيم صالح مسلم حدود دويلته، وربما ارتباطه مع النظام وإيران، وكذلك محدودية رؤية الفصائل الإسلامية لحقوق الكرد في سورية أو العراق. لا يمكن للمعارضة السورية العربية قبول أي دور كردي على حساب العرب في الحرب وفي السياسة، فهي تطرح رؤية سياسية لكل سورية، وإن كانت لا تتجاهل الحقوق الثقافية والتعليمية للكرد، لكنها بالتأكيد ضد كل محاولة تقسيمية لسورية، أو بناء جيش قومي مهمته الوحيدة ليست المطالبة بالحقوق ضمن الدولة، بل تشكيل كيان سياسي على حساب الدولة والقوميات الأخرى، كما يجري في المناطق التي يسيطر عليها صالح مسلم.
لا ينفي تعامل صالح مسلم، أو مسعود البرزاني، مع النظامين في دمشق وبغداد، مطلقاً أنه، وفي حال تهيئة شروط لقيام دولة أو كيان سياسي مستقل عن الدولة المركزية، سيتم تفويت الفرصة، بل سيكون الأمر متحققاً بشكل فوري، وبالتالي، ليس من تناقض في المنظور البراغماتي: التعامل مع الأنظمة إلى لحظة تهيئة شروط لقيام كيان سياسي كردي.
يوضح القرار الأميركي بدء معركة الرقة، ورفض تركيا لها، وصمت روسيا حولها، أن أميركا لن تترك سورية لروسيا بشكل كامل، وكذلك لن تسمح روسيا أو أميركا لإيران بالبقاء طويلاً كذلك. ليس فقط الصمت الروسي عن معركة الرقة، بل وكذلك الاستمرار في تثبيت الهدنة في حلب، على الرغم من التقدم الكبير لقوات المعارضة، والذي يفهم منه أن لتركيا حصة كبيرة في حلب، وكذلك لأميركا، وأن على النظام وإيران أن يستوعبا جيداً أن سورية محكومةٌ في إطار التنسيق الأميركي الروسي.
يمكن أن تقرأ الرسالة هذه كذلك كونها موجهةً ضد المعارضة والأكراد معاً، أي أن للأكراد حقوقاً، ولا بد أن يُعترَف بها. ولكن، ضمن الدولة السورية، وفي إطار اللامركزية الإدارية، وأن على المعارضة أن تتخلى نهائياً عن التنظيمات الجهادية، ومنها "فتح الشام"، وربما "أحرار الشام"؛ ويخطئ صالح مسلم كثيراً إن توهم أن الأميركان سيدعمون قيام كيان كردي خارج إطار اللامركزية هذه، وسيعود إلى الشعور بالخذلان لاحقاً.
ستتعقد المعركة في الرقة، بسبب الهيمنة الكردية على قوات سورية الديمقراطية، ورفض تركيا لها، والرفض العربي لقوات صالح مسلم، وهو ما سيستفيد منه "داعش" كثيراً في تعزيز وجوده فيها. وفي حال الانتصار، لن تكون نتيجته إدارة تابعة لصالح مسلم، وسيُطلب منه ترك الرقة كما سيترك منبج كذلك، وربما تكون معركة الرقة والتعقيد الملاحظ بخصوص معركة حلب، بداية التقارب الجديد بين روسيا وأميركا بخصوص الوضع في سورية، ووضع مقاربة جديدة له.
بدأ المقال بالإشارة إلى وضع الدول العربية المنهار، وهذا لنوضح أن المنطقة العربية بأكملها، سواء التي حصلت فيها الثورات أو لا، تتعرّض لتدخلات إقليمية واسعة، وكذلك لبزوغ المشروع الكردي، لكنها ليست قادرة على مواجهة التحدّيات، وهذا يعني الإمعان في التفتت العربي وفقاً للهويات الدينية والقومية والعشائرية. مصير سيئ لبداية ثورية واعدة.
هل من بعدٍ أو عاملٍ إسرائيليٍّ في الموقف الأميركي من الثورة السورية؟ إنْ وجد، ما درجة تأثيره وفاعليته؟ ما هو هذا الموقف أصلا، وما هي مقادير التأثير الإسرائيلية عليه؟ من اللافت أن التصريحات الإسرائيلية في الشأن السوري، منذ انطلقت الثورة، شحيحة، إلى حدٍّ يجعلك تعتقد أن دولة الاحتلال لا تكترث بما يجري في سورية، أو أنها مطمئنةٌ من عدم تأثيره عليها، وعلى أمنها، ما يجعلها لا تجد نفسها مضطرة إلى إعلان أي مستوىً من القلق أو الاهتمام. وفيما تنشط الاتصالات الأميركية مع كل دول الإقليم، ومع فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وقبلها وبعدها مع روسيا، فإنك بالكاد تلحظ مشاوراتٍ أميركيةً إسرائيليةً في خصوص الأوضاع السورية، وفي الوقت نفسه، تتوالى التفاهمات الروسية الإسرائيلية في هذا الشأن، دلّ عليها مثلا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، زار روسيا مرتين، في إبريل/ نيسان 2015 ويونيو/ حزيران 2016، تباحث فيهما مع الرئيس فلاديمير بوتين، بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، والذي بدأ في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، وسبقته مباحثات بين الرجلين في الشهر نفسه في موسكو.
هذا انطباعٌ، لكنه كاشفٌ ودالٌّ ومسوّغ. ومحيّر أيضاً ربما. من أي نقطةٍ بالضبط يمكن مقاربة العامل الإسرائيلي في الموقف الأميركي بشأن الثورة السورية؟ يتصف هذا الموقف بوضوح العزوف عن أي جهد عسكريٍّ في سورية يساهم في إسقاط نظام بشار الأسد، ويكتفي بتسويق بضاعةٍ كلاميةٍ عن حل سياسي، باتت الشواهد وفيرةً تؤكد أنه حلٌّ لا يلحّ على إنهاء حكم الأسد، ولا يصرّ على إنفاذ بيان جنيف 1 المتفق عليه في يوليو/ تموز 2012، والذي نصّ على مرحلةٍ انتقاليةٍ تعبر فيها سورية إلى عهد جديد. ولا يكتفي سلوك إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بهذا الأمر في هذا الخصوص، وإنما يتوازى مع الامتناع عن بذل أيّ جهدٍ ميدانيٍّ أو سياسيٍّ ضاغط على موسكو وطهران، من أجل وقف مسلسل التدمير والقتل الذي لا يتوقف، ويروح عشرات السوريين ضحايا فيه يومياً، ومن جديد محطاته أخيرا ما تعرفه حلب من استهدافٍ بقصفٍ مشهود وعنيف. وهنا، يمكن التأشير إلى وجاهة قول المعارض السوري المعروف، رياض الترك، في عام 2013، إن الموقفين، الروسي والأميركي، بشأن الانتفاضة السورية واحد، غير أن الأميركيين أذكى من الروس"، بل إن بشار الأسد نفسه أبلغ وفداً لبنانياً زاره في العام نفسه إن "الأميركيين براغماتيون، ومع الرابح أخيراً".
تحطيم سورية واستنزافها
هل من بعدٍ إسرائيليٍّ يأخذ السلوك الأميركي بشأن سورية ما بعد الثورة إلى هذا الحال؟ أي إلى ما يمكن اعتباره ترخيصاً لنظام الأسد وللقوة العسكرية الروسية والمليشيات الإيرانية بمزاولة القتل والتدمير في سورية، بدعوى مواجهة الإرهاب والإرهابيين؟ الجواب: نعم. ويزعم صاحب هذه الكلمات أن هذا البعد حاسمٌ إلى حد بعيد، وموجزه أن إنهاك سورية، وتحطيمها، واستنزاف شعبها، واستغراقها في مطاحنات صراع أهلي مديد، مع أقصى مراتب التدمير والتفتت فيها، عمراناً ومجتمعاً وبنياناً ومؤسسات، وخصوصا لقدراتها وإمكاناتها العسكرية، هذا كله لا يمكن لإسرائيل إلا أن تغتبط به، فهي لو خططت ودبرت لمؤامرةٍ ضد سورية، على ما يردّد إعلام بشار الأسد، ومشايعوه في غير بلد، أن الثورة أساسا، ومنذ يومها الأول، إنما هي تدبير إسرائيلي، يستهدف صمود الأسد ونظامه، أقول إنها لو خطّطت ودبرت لمؤامرة، فإنها لن تستطيع إنجاز ما نرى ونعاين من حطامٍ مهول في البلد. يعني هذا الأمر، بالضرورة، أن إسرائيل سعيدةٌ تماما بالحرب التي يشنها الأسد على شعبه، وبالنتيجة الماثلة الراهنة لهذه الحرب، وبأي نتيجةٍ يمكن أن تؤول إليها الأمور لصالح الأسد، ذلك أن نظام المذكور لم يقلقها يوماً، وخبرتها معه تؤكد التزامه التام بأمنها، وبهدوء الجبهة السورية معها، بل حلق الطيران الإسرائيلي فوق قصر الأسد نفسه في اللاذقية في يونيو/ حزيران 2006، ولم يبدر منه شيء. كما إن المقاتلات الإسرائيلية شنّت غارةً جويةً مشهودةً على موقعٍ في منطقة دير الزور، في أكتوبر/ تشرين الأول 2007، قالت إنه منشأة نووية، ولم يردّ نظام الأسد سوى بالتنديد، وتوعّد إسرائيل في افتتاحيات جرائده. وبالمناسبة، هنا، كتب الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، في مذكّراته، إن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، إيهود أولمرت، هاتفه ليُخطره بموعد الضربة، ولم يطلب مشورته أو تغطيةً سياسية لقرارها، بل إنه رفض مشورة بوش بأن يتم استصدار قرار من مجلس الأمن بشأن القدرات النووية السورية، وأكد له أولمرت إن هذا أمرٌ يخصّ إسرائيل وحدها. وإلى هاتين الواقعتين، ثمّة غيرهما، من قبيل ضرب إسرائيل موقعاً عسكرياً لفصيل فلسطيني موال للنظام شمال دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 2003، وكانت المرّة الأولى التي يستهدف فيها الجيش الإسرائيلي الأراضي السورية منذ العام 1982.
لم يزعج نظام الأسد الولايات المتحدة، بإقلاق إسرائيل في أي واقعة، وإذا كان دعمه حزب الله أمراً معلوماً، فإن الحروب والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وعلى حزب الله، تتكفل بمعالجة هذا الأمر والتعامل معه، بالنيران اللازمة. وإذا كان نظامٌ في أثناء قوته، وفي غضون إمكاناته العسكرية والسياسية المعلومة، وفي أزمنة نفوذِه وهيمنته في لبنان، لم تغضب منه الولايات المتحدة، ولا إسرائيل، بل كان تعاونه مع الاستخبارات الأميركية في شأن الإرهاب ممتازاً، بل وأكثر مما توقعت واشنطن نفسها، كما كتب مدير المخابرات الأميركية المركزية بين ديسمبر/ كانون الأول 1996 إلى يوليو/ تموز 2004، جورج تينيت، فإن بقاءه يبقى خياراً أفضل من العمل على إسقاطه، فيعقبُه حكمٌ في سورية غير مضمون السلوك، وغير موثوق. أما إذا تبدّى مهلهلاً وضعيفاً ومتهالكاً، فإن حالاً مثل هذا يصير أكثر اطمئناناً وارتياحاً، وسورية ذات إمكانات بشرية وحضارية وثقافية وفيرة، وعداء شعبها إسرائيل مؤكّد، وعلى متانةٍ لا يحتاج التدليل عليها إلى شاهد. وهذان أمران يدفعان إلى تحبيذ سورية ضعيفة ومنهكة ومستنزفة.
يسرّ الإسرائيليين ما يحدث في سورية، من تحطيمٍ لمقدراتها وإمكاناتها، وإضعاف بنياتها، وتخريبها وهدمها، وإشغال جيشها وقواها الأمنية في نزاٍع أهلي، وفي صراع مع الشعب. بل إن الجرائم المتوالية التي لا يتوقف نظام الأسد عن اقترافها تيسّر للعصابات الحاكمة في إسرائيل إشهار سخريتها من أي جهودٍ فلسطينية وعربية تنشط في محافل دولية لتظهير جرائمها وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الفلسطينيين في وطنهم، فثمّة في الجوار ما هو أدعى إلى النظر، وهو قدّام عيون العالم، ولا يليق حرف النظر إلى "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ولمزيد من التدمير الذي يُجهز على سورية، يحسُن بقاء نظام الأسد إلى أطول فترة ممكنة. وإذا كانت القناعة بأن هذا النظام ساقط، قريباً أو بعيداً، فإن تفكّك سورية وانشغالها بتأزماتها الاجتماعية، ذات التفاصيل الطائفية والمذهبية خصوصاً، معطوفاً على ترهّل القدرات الذاتية للبلاد، اقتصادياً وأمنياً، فذلك كله سيعني، بالضرورة، أن أي نظامٍ سيقوم بعد الأسد، وعلى هذا الحطام المهول، وعلى جبالٍ من الجثث والخراب، سيكون مربوطاً باستحقاقاتٍ مطلوبةٍ وموضوعة له، مع حاجته المؤكّدة إلى إعادة إعمار سورية، وإلى معوناتٍ دولية، وإلى بناء الجيش وتنظيم الأجهزة الأمنية، وغير ذلك من متطلباتٍ ثقيلة، لن يجد النظام المقبل بدّاً لتوفيرها من الاستجابة إلى رهانات وخيارات، قد لا تلتقي مع توجّه الوجدان الوطني العام. وليست إسرائيل معنيةً بالانشغال بمن تقع عليه المسؤولية في أخذ سورية إلى هذا الجحيم الراهن، إلى هذه الوحول الداخلية العويصة الصعبة، هي معنيةٌ بأن تنشط محدلة التمويت والفتك والدمار إلى أقصى مدى، ما قد يذكّر بقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مناحيم بيغن، في خطابٍ له في الكنيست، بعد أسابيع من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980 إنه يتمنى النصر للطرفين (!).
هل يقيم هذا المنظور الإسرائيلي في السلوك الأميركي بشأن الثورة السورية؟ الجواب نعم. بمعنى أنه يمثل نقطة التقاءٍ بين واشنطن وتل أبيب، غير أنه ، بالطبع، ليس المنظور الوحيد الذي يحتكم إليه السلوك المتحدّث عنه، فهناك بالطبع حساباتٌ أميركية خاصة، ذات صلة بالمستجدّات والمتغيرات الإقليمية الحادثة في المنطقة. ونقطة الالتقاء المشار إليها هنا تسوق إلى صحة ما قاله المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، لناشطين سوريين التقاهم في بيروت في يونيو/ حزيران 2013، إن الموقف الأميركي والإسرائيلي غير راغبٍ في أن يرى نظام الأسد يسقط حقاً، وإن إسرائيل لم تتصرّف بأي طريقةٍ تنم عن أنها تسعى إلى إسقاط هذا النظام. وإذ تأكد أن الصراع في سورية لا يشكل أي خطرٍ على إسرائيل وأمنها، ولا يؤذيها، فإن استمراره يصير مطلباً إسرائيلياً، ولا سيما إذا كان إضعافُ النظام، واستنزاف الجميع في الساحة السورية، يصبّ في النهاية، واستراتيجياً، لصالح إسرائيل. وصالح إسرائيل وأمنها وإبقاؤها متفوقةً نوعياً في المنطقة أحد عاملين حاسمين وجوهريين في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تقليدياً، مع الحفاظ على المجال الحيوي عند منابع النفط، وضمان استمرار تدفق النفط.
ما بعد جريمة الكيماوي
وحده الاتفاق الروسي الأميركي على تدمير مخزون نظام الأسد من السلاح الكيماوي في جنيف في 14 سبتمبر/ أيلول 2013، عقب جريمة نظام الأسد استخدام السلاح الكيماوي في غوطتي دمشق في 21 أغسطس/ آب 2013، في ظني، كان الواقعة التي تبدّى فيها، إعلامياً على الأقل، تشاورٌ أميركي وإسرائيلي في الشأن السوري، ذلك أن وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، ما أن أنهى مباحثاته مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، وتبادل وإياه وثائق الاتفاق على تدمير 1000 طن من العوامل والمواد الكيماوية في 54 موقعاً في الأراضي السورية بحلول منتصف عام 2014، ما أن أنهى هذا الأمر، طار إلى إسرائيل، فكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أول من اطّلع على الاتفاق. وأكّد الحرص الأميركي البالغ على وضع إسرائيل في تفاصيل ذلك الاتفاق ما هو مؤكّد، بشأن أولوية الحسابات الإسرائيلية في السياسة الأميركية في المنطقة العربية، في ما يخصّ أمنها، راهنا واستراتيجياً. وبحسب الصحافة العبرية في ذلك الأسبوع، لم يكترث نتنياهو كثيراً بأمر الاتفاق بذاته، وإنما كان يلحّ على الموضوع النووي الإيراني، ولا نعتقد هنا أن ذلك كان التزاماً بخيار حكومته عدم التدخل في الأزمة السورية، وعدم محاولة التأثير على الولايات المتحدة إذا كانت ستضرب في سورية أم لا، وإنما كان نتنياهو يعمل على توجيه الإدارة الأميركية إلى الأولوية الإسرائيلية الأدعى إلى الحسم، وهي إيران ومشروعها النووي غير المطمئن للدولة العبرية، ونتذكّر لاحقاً الانزعاج الإسرائيلي الظاهر من اتفاق الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا مع طهران.
هل كانت إسرائيل حاضرةً في ثني الولايات المتحدة عن توجيه الضربة التي كانت مرتقبةً إلى حد بعيد ضد النظام السوري، عقب جريمة الكيماوي؟ لا شاهد يؤكّد هذا الأمر، ولا شاهد ينفيه، وإنْ يؤشّر المعلق الإسرائيلي، إرييه غولان، إلى أن إسرائيل ذُكرت 60 مرة في مناقشات الكونغرس بشأن تلك الضربة التي كانت الصور على الشاشات تجعلنا نتوقّعها، بل ونخمّن ساعة شنها، قبل انعطافة ذلك الاتفاق مع موسكو، وهو الذي لم تعلق بشأنه إسرائيل، ولم تعلن ترحيباً واضحا به، "لأن العبرة بالأفعال"، بحسب نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، وإن اعتبره وزير الخارجية السابق، أفيغدور ليبرمان، "خطوةً جيدة". ولأن في وسع إسرائيل أن تقوم بما تشاء من استباحةٍ للأراضي السورية، سواء في قتل سمير القنطار، مع غضّ نظر روسي، في جنوب دمشق في ديسمبر/ كانون الأول 2015، أو في ضرب منشأة في دير الزور في عام 2007، ومن دون الحاجة إلى ترخيص بذلك من الولايات المتحدة. كما أن انتشار السلفية والجهادية في مكوّنات الثورة السورية مريح لإسرائيل، إذا ما قيّض لهذه وتلك أن تتفشّيا أكثر وأكثر، وأن يُعملا في المجتمع السوري ما يقترفه "داعش" وغيره، من جرائم وفرز مذهبي.
واستطراداً بشأن واقعة الكيماوي والاتفاق الروسي الأميركي الذي أعقبها، تفيدنا المصادر المتاحة بأمريْن متناقضيْن ظاهريا: ما ذكرته "يديعوت أحرونوت" عن طلب أوباما من نتنياهو، في عدة محادثات هاتفية، مساعدته في إقناع أعضاء الكونغرس لتأييد هجوم أميركي في سورية، وهو ما استجاب له نتنياهو، غير أن السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، ميشيل أوبرين، يذكر، في مذكّراته التي صدرت في يونيو/ حزيران 2015، إن إسرائيل منعت أوباما من ضرب سورية في عام 2013. ويزول التناقض الظاهر عندما نسترجع أن إدارة أوباما التي عملت على حشد سياسيٍّ من أجل تلك الضربة التي لم تتم، فتأمّنت لها موافقة 33 دولة على المشاركة فيها (ليست بينها بريطانيا بسبب عدم موافقة مجلس العموم)، فكان سيصير محرجاً لها إذا ما امتنع الكونغرس عن تأييدها، (وهو دستورياً لا يحتاج إليه بالضرورة). ما يعني أنه قد يحتاج إلى الاستعانة بتأثير إسرائيلي على الكونغرس، غير أن حكومة نتنياهو لم تكن متحمسّة لضربةٍ مثل هذه، كان يمكن أن تأخذ الوضع الميداني إلى تفاصيل مغايرةٍ لما تحبذه من اقتتال مستمر، لا ينتهي إلى أي حسم، أقله في أعوام أخرى إضافية، الأمر الذي يمكن أن يفسّر أن مشورة إسرائيل لإدارة أوباما كانت، في تلك الأثناء، باتجاه الامتناع عن الضربة. وهنا كان مقترح كيري بشأن تدمير مخزون سورية من السلاح الكيماوي، وهو ما التقطه لافروف، فكان إبلاغ وزير خارجية النظام، وليد المعلم، به، وإنْ جاءت تقارير غير مؤكّدة على أن أوباما والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كانا قد بحثا هذا الأمر، قبل الجريمة المشهودة في الغوطتين.
مختتم القول هنا، إن نجاح الثورة السورية يعني أنه قد يؤدي إلى قيام نظام ديمقراطي وطني في سورية، وهذا أوجبُ للخوف لدى إسرائيل التي تفرط في اطمئنانها إلى نظام الأسد القائم، والذي يُسعد إسرائيل أكثر وأكثر عندما ينشط في الإجهاز على سورية نفسها، وطناً ومجتمعاً وإمكاناتٍ وقدرات. هذا البعد الإسرائيلي حاضرٌ في السلوك الأميركي المائع والمتواطئ، والمعادي حقيقة للثورة السورية، منذ قال أوباما، في أيامها الأولى، إن على الأسد أن يقود التحول الديمقراطي أو يتنحّى جانباً، ومنذ قال رامي مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز (الأميركية) إن بقاء النظام ضامنٌ لأمن إسرائيل. وصدق الثوار السوريون عندما هتفوا، غير مرة في الميادين، "الأسد في حماية أمريكا وإسرائيل".
هذا ملف بالغ الأهمية ليس للغربيين فقط، بل لنا أيضًا، ليس فقط لأن روسيا حليف نشط لإيران، وشريك أساسي في الحرب في سوريا، بل لأن ترتيبات العلاقات الدولية مرهونة بما سيحدث لاحقًا بين الدولتين العظميين في مناطق متعددة. والتوقعات المتفائلة بعصر جديد يعد بمزيد من التعاون بين موسكو وواشنطن، نتيجتها قد تفاجئنا بعكس ذلك، وتنتهي العلاقات الجيدة بينهما التي ميزت عهد أوباما طوال سنواته الثماني.
الرئيس المنتخب دونالد ترمب أثنى على الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، وردد قوله بأنه سيستطيع تحسين العلاقة معه. إنما لم أسمع رأيًا متخصصًا بأن الولايات المتحدة تحت إدارة الجمهوريين، في البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس يؤيد هذا القول. هناك كثير من المشكلات التي تغلي، مثل تنامي النزاع في أوكرانيا، والخلاف على حدود ونفوذ حلف الناتو، وتهديد مصالح أوروبا. بين الجمهوريين من يلوم إدارة أوباما لأنها لم تقف في وجه تمدد الروس، والعودة لمناطق نفوذهم القديمة أيام الحرب الباردة.
شخصية ترمب القوية، واتهامه المتكرر لسياسة إدارة أوباما بأنها ضعيفة، نتوقع أنها تعكس رؤيته الحقيقية، التي ستقود إلى توتر بين الدولتين العظميين، ما لم تتراجع موسكو عن سياستها في القرم وأوروبا الشرقية. والجميع في انتظار إعلان ترمب عن طاقم مطبخه، ويرجح أن يختار وزير خارجيته من الصقور، ليؤكد أن «أميركا ترمب» غير «أميركا أوباما».
ما الذي يهمنا في ملف علاقات موسكو وواشنطن؟
مثلت نهاية الحرب الباردة، في مطلع التسعينات، نهاية خريطة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط كما عرفها العالم لنصف قرن تقريبًا، وغلبت على الفترة التالية سياستان أميركيتان متناقضتان؛ هجومية، مثل غزو العراق خلال رئاسة جورج دبليو بوش، وانكفائية في عهد أوباما. وقد وجه عدد من الجمهوريين انتقاداتهم للإدارة الحالية لأنها أنهت الوجود العسكري الأميركي تمامًا في العراق، مخالفة سياسة بوش التي أعلنت عن سحب معظم القوات، مع ترك ما يكفي لمنع وجود فراغ يتسبب في تسلل قوى أخرى إلى هذه الدولة المهمة استراتيجيًا، وهو ما حدث لاحقًا بهيمنة إيران وظهور تنظيم داعش.
الفصل الآخر في هذا الملف، طموحات إيران النووية، والعلاقة الاستراتيجية الأميركية مع إسرائيل، ومصالح واشنطن في منطقة الخليج البترولية. بعد انكشاف سر التفاوض مع طهران، أصبحت إسرائيل المعارض الأول والنشط ضد التفاوض والاتفاق. ومع أن أوباما حصل على موافقة الكونغرس على الاتفاق، وهزم اللوبي الموالي لإسرائيل مستخدمًا كل الضغوط التي توفرت له، إلا أن المعارضة لا تزال قوية وتتوعد بتعطيل الاتفاق في الموسم السياسي الجديد.
إيران لم تعطِ أوباما شيئًا مهمًا في المقابل، فقد سارعت لطمأنة الروس إلى أن اتفاقها النووي لن يخلّ بعلاقتها المميزة معهم، ثم أكدت تحالفها من خلال الصفقات والعمليات العسكرية المشتركة مع روسيا، وهذا، على الأرجح، سيعيد تلوين خريطة تحالفات الشرق الأوسط مقسمة بين الروس والغرب.
وقد يؤدي صعود ترمب، مع إصرار بوتين على مواقفه، إلى عودة روح الحرب الباردة وليس الحرب نفسها. فهل هذا الوضع المحتمل في صالحنا ومنطقتنا؟ من ناحية؛ هناك أثر سلبي، لأن التوتر والقلاقل ستزداد، ومن ناحية أخرى يمكن تفعيل الاتفاقات الدفاعية المشتركة الخليجية - الأميركية، والاستماع لاعتراضات إسرائيل ضد «حزب الله» التي ستضع حدًا للتمدد الإيراني في منطقتنا.
لا شك في أن وصول ترمب للبيت الأبيض حدث مهم سيترك بصماته في العالم، ومن بينه منطقتنا. هناك كثير من القضايا التي تركت معلقة خلال فترة أوباما، والتي سترتبط بتفسير العلاقة مع الكرملين، وبقدرة الرئيسين لاحقًا على التعاون أو التنافس. وليس علينا أن نتوقع الكثير في النصف الأول من العام الأول لرئاسة ترمب، خصوصا في مناطق النزاع الكبرى مثل سوريا والعراق، لأن سياسة إدارته ستتبلور بشكل أوضح لاحقًا. فهل ستكون إيران، قبل ذلك الحين، قادرة على حسم كل المعارك لصالحها؟ أم إن معسكر الدول العربية الذي يواجه إيران اليوم ينجح في تعطيل تقدمها على الأرض فترة كافية، وأنه يمكن إعادة إيران إلى الصندوق الذي سبق أن أغلق عليها في سياسة الاحتواء الغربية؟ أم هل تبدل إيران سلوكها استجابة للتطورات الدولية الجديدة؟
ينقل عن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أنه كثيراً ما يستشير أعضاء «مركز المصلحة الوطنية» Center of National Interest في واشنطن. ومواقف أعضاء هذا المركز براغماتية وواقعية بالنسبة إلى الشرق الأوسط، خصوصاً سورية.
كتب زميل المركز روبرت كابلان الشهر الماضي أن «مبدأ أساسياً في الواقعية هو أن الفوضى أسوأ من الظلم، فالظلم يشير إلى أن العالم ليس مثالياً، فيما الفوضى تعني أن ليس هناك عدالة لأي كان. بشار الأسد اتبع هذه الفكرة إلى أقصى الحدود غير المحمولة، ومستوى الظلم الذي مارسه يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية». لكن كابلان يستدرك أن «مستوى الفوضى في سورية حالياً وصعود المجموعات الإسلامية المتطرفة يجعل رحيل الأسد الأمور أسوأ».
فإذا كان ترامب سيتخذ مثل هذا الموقف، فسيعني ذلك أن أولويته ستكون مثلما أعلن من قبل هي محاربة «داعش» في الموصل في العراق وفي الرقة في سورية، على أن يترك الأسد ضعيفاً يسيطر على بعض أماكن سورية. وإذا كانت هذه سياسة ترامب فسيعني ذلك أنه سيعقد تحالفات مختلفة لمحاربة «داعش»، أولها تحالف متين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن يترك الأسد في الأماكن التي يسيطر عليها ويزيح «داعش» من أماكن تواجده في سورية والعراق.
وهذه الرؤية ستنشئ تطورات جديدة في المنطقة. ففي لبنان سيجبر بعضهم على التعامل مع واقعية جديدة لأن الأسد يسيطر على أماكن تحيط بلبنان. وزيارة مبعوث الأسد إلى الرئيس ميشال عون قد تكون إحدى إشارات هذا الواقع المرير. وفي الوقت نفسه، يؤيد بعض دول المنطقة، مثل مصر، بقاء الأسد لأنها تعتبر أنه يتصدى للمتطرفين الإسلاميين. والإمارات أيضاً لا تعارض ذلك، فيما الأردن يتخوف من التهديد الإسلامي، وتركيا ستتكيف مع مثل هذا الوضع.
أما في لبنان فسيكون الرئيس سعد الحريري مضطراً إلى التعامل مع هذا الواقع. فكيف سيواجهه مع أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري على أرضه، وكلهم من السنة الذين يخشون العودة إلى بلدهم مع رئيس قتل أشقاءهم وأهلهم وهجرهم وطلب من جيشين أجنبيين و «حزب الله» قصفهم.
التوقعات لسياسة ترامب إزاء سورية ولبنان غير مطمئنة. لكنه في الوقت نفسه معروف بانتقاداته اللاذعة للاتفاق مع إيران في شأن الملف النووي، لقربه من إسرائيل. لكن هل يمكن أن يلغيه؟ هذا مستبعد، لكنه مرتبط بموقف الكونغرس. والسؤال الآخر هو كيف يمكنه إذا أراد انتهاج سياسة الواقعية هذه بالنسبة إلى سورية التوفيق بينها وبين سياسته المعارضة للتطبيع مع إيران، فيما الأخيرة تحارب إلى جانب الأسد في سورية؟
أما القيادات الأوروبية فهناك أيضاً توقعات بالتغيير في صفوفها. فمن سيكون رئيس فرنسا في أيار (مايو) المقبل، وكيف سيتعامل مع سياسة ترامب إزاء الشرق الأوسط؟ وهل يمكن للرئيس الجديد أن يطلق سياسة أوروبية أقوى مما يحدث الآن؟ وهل سيتمكن من تكييف مواقفه مع ترامب حول الشرق الأوسط؟
يطرح هذا كله أسئلة كثيرة عن تأثير انتخاب ترامب على الشرق الأوسط. ولدى ترامب مستشار ديبلوماسي لبناني الأصل هو وليد فارس الذي كان مسؤولاً سابقاً في «القوات اللبنانية»، وخرج من لبنان بسبب الاحتلال السوري. وهو قال إن سياسة ترامب ستكون مبنية على تنظيم مؤتمر سلام لسورية، وهو ما حاولت القيام به إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري لكنها فشلت. ويلعب أيضاً اختيار ترامب لوزير خارجيته دوراً في تحديد مسار السياسة الأميركية إزاء المشرق العربي، بسبب تنوع مواقف الأسماء التي يتم تداولها مثل نيوت غينغريتش وبوب كوركر وجون بولتون.
يمثل ذلك كله أسباباً لعدم اليقين بالمستقبل في سورية والشرق الأوسط، لكنه لن يشكل تغييراً عميقاً عن سياسة إدارة أوباما إزاء سورية، خصوصاً أن الرئيس المغادر لم يتخذ أي خطوة لإزاحة الأسد، واكتفى بإدانة ممارساته فيما رفض تسليح المعارضة، بل واحتقرها. المرجح أن يستمر الخراب والتدمير في سورية لمصلحة بوتين وصديقه ترامب على حساب الشعب السوري.
أثار انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية المخاوف والتساؤلات بخصوص السياسة التي سينتهجها تجاه الصراع السوري، في موقفه من الثورة السورية، أو من النظام، بالإضافة إلى موقفه من الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة إلى جانب المعارضة أو إلى جانب النظام، لا سيما إيران وروسيا.
تشير كل المؤشرات إلى أن الرئيس المنتخب لن يلجأ إلى إحداث تغييراتٍ على الاستراتيجية الأميركية الذي اتبعها سلفه، والقائمة على عدم التدخل أو التورّط، وترك الأطراف تتصارع فيما بينها، لأن هذه السياسة تتناسب مع أهوائه، ومع تصريحاته المعلنة، ومنها تأكيده على أولوية محاربة الإرهاب.
في هذا السياق، يمكن فهم إعلان وزارة الخارجية الأميركية، بعد ساعات من زيارة ترامب البيت الأبيض ولقائه الرئيس باراك أوباما، موقفها الصريح من جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، بإضافتها إلى قائمة الإرهاب، معتبرة أن تغيير الاسم لا ينفي عنها صفة الإرهاب فعلياً، ولا يحجب حقيقة ارتباطها بتنظيم القاعدة. وبحسب بيان الوزارة، فإنه "على الرغم من محاولات التفريق بينها (فتح الشام) وجبهة النصرة عن طريق إنتاج شعار وراية جديدين، إلا أن مبادئ الأولى ظلت مشابهةً للتي لدى تنظيم القاعدة، والجماعة مستمرة في تنفيذ الأعمال الإرهابية تحت الاسم الجديد. اسم الجماعة مهما تغير سيظل تابعاً للقاعدة في سورية". إضافة إلى ذلك، ظهرت تسريبات صحافية (في "واشنطن بوست" مثلا) تفيد بأن الرئيس أوباما أمر وزارة الدفاع (البنتاغون) بالعثور على قادة "النصرة" وقتلهم في سورية. وتضمن القرار نشر مزيد من الطائرات من دون طيار (الدرون) وتعزيز القدرات الاستخباراتية، واعتبرت الصحيفة أن هذا المنحى ضد "النصرة" يُرجّح أن يزداد مع تولّي ترامب الرئاسة مطلع السنة المقبلة.
ولعلّ هذا الموقف الجديد ـ القديم يؤكد أن الاستراتيجية الدولية، وخصوصاً الأميركية، بشأن الصراع في سورية، ما زالت تنحصر في أمرين: أولهما، إعطاء الأولوية للحرب ضد الإرهاب، ويأتي ضمن ذلك السعي إلى فصل قوات "المعارضة المعتدلة" عن جبهة فتح الشام، وهذا يعني العودة إلى تفاصيل الاتفاق الروسي ـ الأميركي (سبتمبر/ أيلول الماضي). أما ثانيهما، فيتعلق بتعويم مصير بشار الأسد الذي بقي نحو خمس سنوات ونصف متأرجحاً بين التصريح أولاً عن فقدانه الشرعية ثم أولوية خروجه من المشهد السوري، وصولاً إلى التسويات الغامضة التي يمكن تفسيرها بأكثر من معنى في بيان جنيف 1، ثم لاحقاً بيان فيينا. وبعد ذلك ما تسّرب عن لوزان1، مع الحديث عن استفتاء شعبي يحدّد مصيره. وللتذكير، فإن لوزان هي المدينة التي يتفاءل بها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بسبب نجاحاته، على ما يبدو، بإنجاز الاتفاق النووي مع إيران فيها، وهو الانجاز الذي وعد ترامب المرشح بإلغائه في حال نجاحه، ولا نعرف إذا ما كان ترامب الرئيس المنتخب سينفذ وعده أم لا.
بديهي أن نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية التي أوصلت ترامب إلى سدّة الرئاسة فتحت المجال واسعاً لتوقعاتٍ متشائمة، بما يتعلق بملف الصراع في سورية، لأسبابٍ كثيرة، لا سيما منها تقارب وجهة نظر الرئيس المنتخب مع روسيا في ما يتعلق بأولوية الحرب على الإرهاب، ولا مبالاته بما يحصل في سورية. ومع أنه من المفيد التذكير بأن هذه الأولوية كانت، وما زالت، تحتل الحيز الأكبر في استراتيجية إدارة أوباما، إلا أنه يجدر لفت الانتباه إلى فارقٍ مهم جدا، يتعلق بأن إدارة أوباما اعتبرت روسيا شريكاً لها في هذه الحرب، بدليل الاتفاق الروسي ـ الأميركي بشأن حلب، بينما قد يختلف الأمر مع إدارة ترامب عن ذلك على الأرجح. ولعل هذا ما يمكن ملاحظته في خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس المنتخب، وأكد فيه أن الولايات المتحدة تأتي أولاً، وأنه معني باستعادة عظمة أميركا، الأمر الذي يستنتج منه أن فكرة الشراكة بالمفهوم الأوبامي ستتراجع، لتصبح مجرد إيجاد أرضية مشتركة مع الدول الأخرى. أي أن "أميركا أولاً"، الترامبية، ربما تعني تولي الولايات المتحدة زمام القيادة والمبادرة، وإظهار قوتها وعظمتها وقيادتها للعالم، وليس شراكتها معه، بل وتخليها عن إعطاء وكالاتٍ للآخرين، ومنهم روسيا. وربما الأهم من ذلك لتعود أميركا العظيمة هو عودتها للدفاع عن حقوق الإنسان، ومبدأ الحريات والتزامها بدورها دولة عظمى.
مع ذلك، ربما ستحتاج الولايات المتحدة، في ظل رئاسة ترامب، إلى فترة فاصلة عن السنوات الثماني الماضية التي حاول فيها أوباما الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وتوكيل إيران تارة وروسيا تارة أخرى، للقيام بمهمة لملمة نتائج سياسات بوش الابن، ولاحقاً أوباما، في فترة رئاسته الأولى، تلك السياسات التي كان من نتائجها ترك المنطقة لمصيرها واضطراباتها وانقساماتها الحادة. وكان غزو الأول العراق أدى إلى تفتيت هذا البلد، وتدمير مؤسساته، وجعله مطيةً للنفوذ الإيراني، في حين أن الثاني تعامل مع تداعيات "الربيع العربي" الذي أثمر في تونس، وتعثر في مصر، وأحدث حالة انفلات أمني في ليبيا، وحرباً طويلة الأمد ومتعددة الأطراف في سورية واليمن، بطريقة انتهازية ووظيفية، بعيداً عمّا تعتبره الولايات المتحدة قيمها الأساسية.
اللافت في المشهد، أو في أولويات الإدارة الأميركية في سورية، بعد أن أصبح ترامب رئيساً، ترحيب النظام السوري به، بسبب تقاربه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف المغامر، وتعامل المعارضة بإيجابية مع وصوله، على الرغم من أجنداته المعلنة في أثناء حملته الانتخابية، وعلى الرغم من التشكّك بموقفه من الثورة المتساوق مع روسيا، علما أن ترامب المقرّب من روسيا هو نفسه ترامب المرحّب به تركياً.
مما يزيد في توضيح سيناريو السياسة الأميركية في المنطقة أنه سيبقى على النهج السابق نفسه في الملف السوري، أي الحفاظ على ديمومة الصراع، وجعل سورية مكاناً لاستنزاف الدول الأخرى، وأولوية الحرب على الإرهاب، وفصل جبهة النصرة عن المعارضة، وعدم تمكين أي طرفٍ من تحقيق الغلبة على الطرف الآخر، إلى حين فرض الحل السياسي الذي تعتقد الولايات المتحدة أنه آن أوان فرضه على الجميع، بمن فيهم روسيا. لذا، كان هناك ما يمكن لموسكو أن تقدمه لواشنطن، فهو القبول بوجهة النظر "الترامبية" الآن التي تريد لأميركا "العظيمة" أن تعود لتصدّر المشهد، وعلى كل الشركاء الآخرين في المشهد السياسي والعسكري التراجع إلى الخلف، ولعل ميدان الصراع في حلب المختبر لذلك كله.
يطرح هذا الواقع على المعارضة السورية (السياسية والعسكرية والمدنية) تكييف نفسها للتعامل مع المستجدات في المعطيات المحيطة بالوضع السوري، وفي المقدمة منه تغيير الإدارة الأميركية. كما يطرح على النظام السوري إنهاء حلمه المشترك مع إيران، وبرعاية روسية، بفرض الحل العسكري الذي سيصيب عظمة الولايات المتحدة بمقتل، حتى ولو كان ذلك بالتوافق مع شريكٍ روسي محتمل للعمل مستقبلاً.