استراتيجية القضاء على الإسلام
قبل مجيء الإسلام وحتى انتشاره في الجزيرة العربية، كانت تتحكم في العالم القديم إمبراطوريتان كبيرتان، هما دولة الروم ودولة الفرس، وبعد وفاة الرسول الكريم توجهت جيوش العرب المسلمين مباشرة لنشر الإسلام في بلاد الشام والعراق. وبسرعة زمنية مذهلة استطاعت تلك الجيوش الوليدة أن تقضي على تلك الدولتين قضاء شبه كامل. فدولة الروم انهارت بعد معركة اليرموك على يد خالد بن الوليد، وانكفأت نحو هضبة الأناضول، والتمت حول مدينة القسطنطينية، عاصمة الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت، كما تم القضاء على دولة الفرس بعد معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص.
إلا أن الفرس كانوا من الخبث والرياء والدهاء بحيث دخلت جموعهم في الإسلام، وأخذوا ينخرون في جسده منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، بهدف إضعافه والقضاء عليه، عبر مذهبهم الشيعي، وهو مذهب ظاهره حب آل البيت وأحقيّة علي بن أبي طالب بالخلافة والبكاء على مقتل الحسين، والدعوة للثأر من قاتليه، حتى ولو بعد ألف وخمسمائة سنة.!!. أما باطنه فهو الفتك بالعرب والمسلمين، واستعادة مجد كسرى، ومن أجل ذلك تعاونوا مع الصليبيين والمغول ضد المسلمين، وأحداث التاريخ تثبت ذلك.
وإن لمحة سريعة إلى أحداث التاريخ الإسلامي تبيّن أن معظم دعاة المذهب الشيعي وما انسلخ منه من فرق دينية كان معظمهم من أصول فارسية، وقد أضرت معظم هذه الفرق بالإسلام والمسلمين ضرراً فادحاً، وكانت سبباً مباشراً في ضعف الدولة العباسية وانهيار الحضارة العربية الإسلامية فيما بعد. وإن نظرة سريعة إلى أحداث القرن الرابع الهجري وما قبله بقليل تبين لنا ذلك.
ففي القرن الثالث الهجري ظهر الفاطميون المنسلخون عن المذهب الشيعي في تونس، ثم امتدت دولتهم إلى مصر وبعض بلاد الشام، وكان لهم صراع مديد مع الخلافة العباسية، وتناغموا مع الفرنجة عندما احتلوا سواحل بلاد الشام فيما بعد، وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، إلى أن قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي.
وفي بلاد فارس ظهرت الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع، وأصبحت من القوة والهيمنة بحيث صار الخليفة في بغداد ألعوبة بين أيدي ملوكها، فيعزلون هذا ويعينون ذاك، فضلاً عن تعيين الوزراء والولاة وغيرهم. وهذا ما يذكرنا بالعراق وسورية ولبنان واليمن، وهيمنة إيران على تلك الدول في الوقت الحاضر.
أما الفرقة الأكثر خطراً، والتي عاصرت الفاطميين والبويهيين ودولة سيف الدولة في حلب الذي كان يميل إلى المذهب الشيعي، فهي فرقة القرامطة التي أسسها حمدان قرمط معتمدة على شيوع تام في الممتلكات وانهيار أخلاقي قلّ نظيره، بحيث كانت المرأة تتزوج العديد من الرجال، وبأساليب يصفها أحد الشعراء بقوله:
وكنت امـرأً مـن جنـد إبليـسَ فارتقـــتْ
بيَ الحالُ حتى صار إبليسُ من جندي
ولـو مـات مَـن قبلـي لأحيـيــتُ بعــــده
طرائــقَ فِسْــقٍ لـيـس يحسنُهــا بعـــدي
ومع أن كتب التاريخ تسكت عن أصل حمدان قرمط، وإن كنت أعتقد أن أصله فارسي، إلا أن أبو سعيد الجنابي الذي يُعد المؤسس الحقيقي للدولة القرمطية في البحرين، هو من أصل فارسي معروف، واسمه الحقيقي الحسن بن بهرام، ثم انتشرت دولته على زمنه وزمن أولاده من بعده في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية وجنوب العراق وعُمان واليمن وبلاد الشام، واستفحل خطر هذه الفرقة وعاثت في الأرض فساداً. وقد وصفهم أحد المؤرخين بقوله: القرامطة فريق من غلاة الباطنية، وهم يدينون بالقتل والتدمير وإخافة السبيل أكثر مما يدينون برأي أو ينزعون عن عقيدة، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الحجيج في طريقه إلى مكة أو في طوافه أو عند إفاضته فيقتلون الرجال ويذبحون الأطفال ويستحيون من راق في أعينهم من النساء ".
وحادثة إغارتهم على مكة مشهورة، فقد قتلوا الآلاف من حجاج بيت الله، واقتلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى بلادهم في البحرين، وكان ذلك في عام 317 هجرية، وبقي عندهم 32 سنة، ثم أعادوه إلى مكانه للتخفيف من نقمة المسلمين.
أما الرجل القرمطي الأكثر فتكاً، فهو زكرويه بن مهرويه، ويدل اسمه على أصله الفارسي، فقد عاث هو واتباعه في بلاد الشام وأجزاء من العراق، فحين كان يغير على مدينة أو قرية، يبيد سكانها إبادة كاملة، حتى كادت بلاد الشام في عهده تخلو من أهلها تماماً، وهذا ما يحدث شبيه له الآن مع الشعبين السوري والعراقي.
والمستغرب أن اليساريين العرب من أتباع الاشتراكية العربية والماركسية.!! كانوا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين مبهورين باشتراكية القرامطة، ويعدّونهم من طلائع التقدميين في العالم.
.................................
وبما أن قانون الانتصارات والهزائم يستند إلى مبدأ القوة والتماسك من جهة، والضعف والتشتت من جهة ثانية، فبعد أن رأى الفرنجة ما أصاب العالم الإسلامي من التفرقة والتناحر والضعف، حشدوا جموعهم باسم الصليب من أدنى أوروبا إلى أقصاها، وأرادوا أن يستعيدوا مجدهم العسكري والديني في بلاد الشام وينتقموا ممن كانوا السبب في دمار الإمبراطورية الرومانية البائدة. وقد نجحوا في إنشاء الممالك والإمارات على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، وعلى رأسها مملكة القدس التي أبادوا سكانها إبادة كاملة، والمؤرخون يقدرون عدد القتلى بستين أو سبعين ألفاً.
لكن ما أسموها هم أنفسهم " الحروب الصليبية " بقيت نحو قرنين من الزمان، وفي النهاية تم طرد أولئك الفرنجة، وعادت بلاد الشام إلى أهلها العرب المسلمين في عام 690 هجرية. ويعود الفضل في ذلك إلى سلطان مصر والشام الأشرف خليل بن قلاوون الذي لم ينصفه التاريخ، فهو الذي قام بتحرير عكا، وكانت استعصت حتى على صلاح الدين الأيوبي نفسه، ثم نجح ذلك السلطان الشاب بتنظيف الساحل السوري من بقايا الفرنجة.
وعلى الطرف الآخر استغل الفرس ضعف الدولة العباسية، فظهرت الدولة البويهية، كما ذكرنا، ثم فيما بعد ظهر إسماعيل الصفوي، وأنشأ دولته على الغلو في المذهب الشيعي، فارتكبت العديد من المجازر بحق المسلمين السنة، وألغى الخلافة العباسية.
لكن منطق التاريخ لا يسمح بالانفلات والتسيب والعشوائية، ولا بد من ضبط مناسب لمجرى الأحداث، لذلك نشأت الدولة العثمانية على أنقاض الروم في هضبة الأناضول، وقضت على القسطنطينية مركز الديانة المسيحية الشرقية، وأصبحت دولة عسكرية مهيوبة الجانب، تبسط نفوذها على رقعة شاسعة من الأرض، من جنوب أوروبا حتى جنوب وشمال بلاد العرب، وجابت أساطيلها البحار والمحيطات، وقد مكّنها ذلك من إعلان الخلافة الإسلامية، وأخذت على عاتقها حماية الإسلام القائم على المذهب السني.
ولذلك أيضاً وقفت الدولة العثمانية أمام المد الصفوي الشيعي الذي كان يشكل خطراً حقيقياً على الإسلام السني والوجود العثماني في المنطقة، لا سيما في العراق وبلاد الشام، وكانت تجري بين الدولتين حروب طاحنة على أرض العراق حتى استطاع العثمانيون تحجيم الطموح الصفوي وردعه ومنعه من تحقيق أهدافه. وربما كان للتاريخ كلمته المختلفة لولا الوقوف العثماني الحازم بوجه الأطماع الفارسية في ذلك الوقت.
وبقيت الحال هكذا حتى بداية القرن العشرين، حيث وهنت الدولة العثمانية وضعفت، وقضى مصطفى كمال أتاتورك على خلافتها الإسلامية، وهيمن الاستعمار الفرنسي والإنكليزي على المشرق العربي ومغربه. وبرز الحقد الغربي التاريخي مرة أخرى، فحين تمكن الحلفاء في الحرب العالمية الأولى من طرد العثمانيين من بلاد الشام، ودخل الجنرال الإنكليزي أللنبي إلى دمشق، كان أول خطوة قام بها هي الذهاب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال كلمته المشهورة: الآن عدنا يا صلاح الدين " في إشارة منه إلى الصليبيين الذين ظلوا مائتي سنة في بلاد الشام.
وعودة الجنرال أللنبي إلى دمشق أدت إلى اتفاقية سايكس ــ بيكو، حيث تم زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وتمزيق الوطن العربي إلى عدة دول تتنافر وتتخالف في الغايات والأهداف، بعد وقوعه تحت هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي.
وبعد نحو مائة عام، أي في مطلع القرن الواحد والعشرين، تعود استراتيجية القضاء على الإسلام من جديد، عبر مقولة مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة قبل نهاية القرن العشرين: الآن قضينا على الاتحاد السوفييتي، وبقي علينا القضاء على الإسلام في القرن الواحد والعشرين ". وهذا ما سيبينه في مقالة لاحقة.