مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٤ نوفمبر ٢٠١٦
في نقد تفكير مؤيدي الثورة السورية

هناك كثير مما يمكن نقده في تفكير مؤيدي الثورة السورية، وكاتب هذه السطور منهم. من هذه الأمور تشبّثُ مؤيدين للثورة، سياسيين ومثقفين ونشطاء، وبدرجة أقل بكثير عسكريين، بشرح الحقيقة الواقعية أن علاقة وطيدة تربط نظام بشار الأسد وحكومة نوري المالكي في العراق وإيران بتنظيم القاعدة وبعده "داعش". كانت الغاية هي ربط الأطراف المذكورة بالإرهاب وتبرئة النفس، وكأن الأمر سهلٌ ومتاحٌ، ويمكن إقناع الآخرين ببساطة، به، إذْ يكفي أن نورد حقائق من نوع أن:
الأسد أخرج من السجن 900 إسلامي سلفي، جلّهم مرتبط بقاعدة العراق في عام 2011 من سجن صيدنايا. وفي الوقت نفسه، كانت أجهزته تزج في المعتقلات آلاف النشطاء المدنيين. وكان قادة أكبر الفصائل الإسلامية التي اعتبرت ثورية فيما بعد من هؤلاء الإسلاميين.

المالكي سهّل هروب آلاف من السلفيين المرتبطين بـ"الدولة الإسلامية" في العراق من سجن أبو غريب، وما تلاه فيما بعد من انسحاب 40 ألف عسكري وضابط من الجيش العراقي بطريقة مريبة من الموصل. ولم يكن مهاجمو الموصل آنذاك يتجاوزون 800 جهادي.

الإيرانيون أمّنوا ملاذاتٍ آمنة لبعض قيادات "القاعدة". عاش فيها نجل أسامة بن لادن من امرأته السورية إلى أن غادرت العائلة إلى سورية 2011. ولا زالت الأيام تكشف أن قادة آخرين من "القاعدة" ما زالوا مقيمين في إيران.
ومعروف جيداً أن مخابرات الأسد تعاونت، في مراحل متعددة، مع الأميركان والغربيين في الحقل الأمني، وكثيراً ما ذكّر الأسد الغربيين أنه تعاون معهم، وأنه يستأهل المكافأة، وليس غيرها. وأجهزة الأمن العراقية في حالة تعاون تام مع الأميركان، وهي لن تعمل في تعاونها مع الغرب ضد الجهاديين، بمعزل عن الشغل الإيراني.

والحال هذه، يقتضي الأمر أن نعرف أن الكلام عن وظيفيّة دول غير عظمى، كإيران، في التعاون ضد "الإرهاب" مع دول عظمى، عبر رصيد معلوماتها عن الإرهاب، واختراقها له، ليس مجالاً ناجعاً لإقناع الدول العظمى بصوابية وجهة نظرنا. إذْ كيف نقنع أجهزة مخابرات ومراكز قرار في الدول المؤثرة في أن يتخلوا عن مصادر معلوماتٍ ثريةٍ في معلوماتها، وكيف نقنعهم أن يتخلوا عن تعاون مثمر ومريح بالنسبة لهم؟ نحلم.

وللتوضيح أكثر. أعلن العالم، ممثلاً بالدول العظمى في مجلس الأمن، تضاف إليها دول أوروبا والهند، وجزء مهم من الدول الإسلامية، أعلن الحرب على الإرهاب. ما يعني، بوضوح، الحرب على القاعدة وداعش والسلفية الجهادية السنية أينما كانت. لا ينقص هذا من أن يكون هناك هامش تزييني، أو حقيقي، في اتهام أطراف غير سنية، هنا وهناك، مثل الحوادث الفردية من بيض في أوروبا أو أميركا، ومثل وضع حزب العمال الكردستاني (التركي).

ستجرف هذه الحرب على الإرهاب واقعياً معها دولاً ومنظمات وحركاتٍ، وحتى ثورات، تحت مسمى الحرب على الإرهاب. وقد فعلت هذا من قبل في العراق، وظلت مستمرة، ولم تخفت ضد كل ما يخص أي تشكيل عراقي سني، لا يوالي حكومة المليشيات الشيعية. الحرب على الإرهاب بلدوزر ضخم، له وجهة محددة، وسائق غير مدرب على تجنب شيء. كلّه سيُعفس للوصول إلى الهدف. والمصيبة أن الهدف، أي الجهادية السلفية، بفروعها ليست ثابتة في مكان، ولا تعطي نفسها بسهولة. وهي تعتاش على مبرراتٍ كثيرة، على أحقية عملها وكفاحها، ولن ينهيها بلدوزر أهوج.

إذن، وبوضوح، هل تسمع تلك الدول العظمى والدول صاحبة مشروع الحرب على الإرهاب لإيران التي تجمع بيدها أوراقاً عديدة في هذا المجال، أم لنا ولحلفائنا المحصورين في خانات قاتلة؟ هنا الفرق. وهنا ما هو حاصل.

لا يمكن تعديل هذا الميزان غير العادل، إلا بعمل سنوات وسنوات، وبمعرفةٍ وعمل من الدول الحليفة للثورة أن القضية ليست أمنياتٍ، ولا آمالاً، ولا تحشيداً بخطاب طائفي، وإنما بعمل منظم ودؤوب، وبسلوك إلى دروبٍ للعصر، بدلاً من الوقوف على الرصيف، والتمثّل بالسلف. وقد صارت دول كثيرة تحسب الثورة السورية على السلفية السنيّة الأقرب إلى الإرهاب.

وحدهما العمل والخطاب الوطنيان المستبطنان روح العصر في المدنية والعلمانية والديمقراطية هما ما يمكن أن ينقذا الثورة من بلدوزر الحرب على الإرهاب.

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٦
الثورة الأميركية: هل تشبه الربيع العربي؟

الشائع في العالم العربي بأن الربيع العربي مؤامرة غربية أميركية لتمكين الإسلام السياسي في المنطقة. يبدو أن عدوى الربيع نفسه وصلت أولاً إلى بريطانيا وأخرجتها من الاتحاد الأوروبي، وثانياً إلى أميركا بانتخاب رئيس من خارج التقاليد والتاريخ السياسي لمؤسسة الحكم هناك، هل تآمرت واشنطن على نفسها أيضاً؟

لا شك في أن الانتخابات الأميركية الأخيرة كانت، بشقيها الرئاسي والبرلماني، استثنائية، وليست لها سابقة في التاريخ الأميركي. لماذا؟ لاعتبارات عدة. منها أنها لم تكن انتخابات عادية لاختيار هذا المرشح أو ذاك بناء على هويته الحزبية، كما جرت العادة. على العكس، كانت ثورة على الأحزاب، وتحديداً على الحزبين الجمهوري والديموقراطي. ولأن هذين الحزبين يمثلان معاً أكبر قوتين سياسيتين في مؤسسة الحكم، يصبح من الواضح أن هذه الانتخابات لم تكن منذ أيامها الأولى أقل من ثورة اجتماعية على مؤسسة الحكم. وهذا يقتضي إعادة تعريف الثورة بأنها ليست دائماً فعلاً عنيفاً لفرض تغيير بنيوي في المجتمع والدولة، بل قد تكون فعلاً سياسياً سلمياً إذا ما توافرت لها الأطر والمؤسسات والإجراءات الدستورية التي تسمح لها بأن تكون كذلك، وأن توفر لها الحماية في مسارها هذا. وهذا ما حصل في الولايات المتحدة على مدار العام الحالي، خصوصاً في الأسبوعين الأخيرين.

كيف يبدو البعد الثوري هنا؟ في ثلاثة أمور. الأول طبقي اجتماعي، بمعنى أن الطبقة العاملة، التي تعلم أفرادها أقل من التعليم الجامعي هي التي فرضت التغيير والتمرد على مؤسسة الحكم في اختيار المرشحين في الانتخابات. كان هذا واضحاً في المرحلة الأولى، أو الانتخابات الأولية لاختيار المرشح الذي سيمثل الحزب الجمهوري، حيث استطاع ترامب هزيمة 16 مرشحاً، جميعهم يمثلون تقاليد مؤسسة الحزب المتوارثة. توقع الجميع أن يخرج ترامب من الانتخابات الأولية نظراً الى عنصريته، وسطحية خطابه السياسي، ومفرداته المبتذلة، وعدوانيته التي لم يتردد في استخدامها علناً لتخويف خصومه. لكنه تمكن وبسهولة من إخراج جميع منافسيه من حلبة الصراع بأصوات الناخبين، ومن ثم الهيمنة على المؤتمر العام للحزب الجمهوري الذي لم يجد مناصاً من المصادقة على اختياره لأن يكون مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية. حصل هذا على رغم معارضة أغلب قيادات الحزب، بل ومقاطعة كثيرين منهم للمؤتمر.

حصل لدى الحزب الديموقراطي شيء مشابه، لكن ليس مماثلاً لما حصل للحزب الجمهوري، إذ تمكن بيرني ساندرز، اليساري الاشتراكي من فرض نفسه في الانتخابات الأولية كمنافس قوي لهيلاري كلينتون على ترشيح الحزب، وحصل هذا مرة أخرى بفعل أصوات الناخبين، وتحديداً أصوات الطبقة العاملة. لكن نجاح ساندرز، وعلى العكس من ترامب، لم يصل لحد الحصول على تمثيل الحزب. لكن الشاهد هنا أن فكرة الاشتراكية فشلت فشلاً ذريعاً في المجتمع الأميركي طوال القرنين الـ19 والـ20. وتبدو الآن وكأنها تعاود المحاولة مرة أخرى. هل تنجح؟ ليس بالضرورة. الأهم من ذلك أن نجاح ساندرز اليساري في الحصول على عشرات الملايين من أصوات الناخبين جعل منه ومن تياره اليساري قوة سياسية كبيرة داخل الحزب الديموقراطي، وفرضت بأن يكون برنامج الحزب هو الأكثر يسارية في تاريخه. ولعله من الواضح بأن نجاح كل من ترامب اليميني، وساندرز اليساري يؤشر في شكل واضح بأن مؤسسة الحكم الأميركية (The Establishment) تواجه ثورة سياسية لم تعهدها من قبل. والسؤال الذي يجري تداوله الآن في الأوساط الأميركية هو: هل تفرض هذه الثورة على الحزب الديموقراطي بفعل خسارته المدوية (وهو حزب الأقليات والطبقات العاملة والمتوسطة) الجنوح نحو اليسار، مقابل جنوح الحزب الجمهوري (وهو حزب مؤسسات المال الكبيرة) بنجاحه الكبير على يد ترامب نحو اليمين؟

هنا نأتي للعامل السياسي، أو الأمر الثاني. وينبع هذا من حقيقة أن ترامب اليميني هو الذي فاز بأصوات الطبقة العاملة، وليس ساندرز اليساري. والسبب في هذا واضح. فالحزب الديموقراطي اختار هيلاري كلينتون وليس ساندرز لتمثله في السباق الرئاسي مقابل ترامب الجمهوري. ومن حيث أن كلينتون تمثل رمزاً من رموز مؤسسة الحكم التقليدية، وترامب يمثل التمرد على هذه المؤسسة، فاز هذا الأخير في السباق. وفي هذا مفارقة كبيرة لأن ترامب لا يمثل الطبقة العاملة بأي شكل من الأشكال. وإنما يمثل بحكم عمله كرجل أعمال طبقة رأس المال الكبير. لكنها مفارقة تعكس عمق التمرد الشعبي على مؤسسة الحكم التقليدية، وأن هذا التمرد يبدو وكأنه يريد التغيير بأي ثمن. اتضح هذا في فوز ترامب في ولايات مثل بنسلفانيا وويسكونسن وميتشيغان التي تصوت عادة للحزب الديموقراطي. كما يتضح في أنه كسب أصوات الهيئة الانتخابية، وليست غالبية الأصوات الشعبية التي ذهبت في الواقع لكلينتون، وذلك لأن عدد الولايات التي فاز فيها أكثر من تلك التي فازت بها كلينتون. ونظام الهيئة الانتخابية يعطي لكل ولاية عدداً من الممثلين لها في الهيئة يعادل ممثليها في مجلسي الشيوخ والنواب. وبالتالي فإن أصوات ممثلي الولاية في الهيئة تذهب للمرشح الذي يفوز فيها ولو بنسبة صغيرة. بعبارة أخرى، الناخب الأميركي في الحقيقة لا يصوت للمرشح مباشرة، وإنما لممثلي الهيئة الانتخابية التي تقرر بناء على ذلك اختيار الرئيس.

نتيجة الانتخابات الأميركية ستفرض على الأرجح، وهذا هو الاعتبار الثالث، تصادم الاجتماعي مع السياسي، أي تصادم تطلعات الطبقة العاملة في التغيير، ومعها الطبقة الوسطى، مع الحدود السياسية للرئيس الجديد باعتباره أولاً لا ينتمي لأي منهما، وثانياً لأنه اختار أن يدخل المعترك السياسي من خلال الحزب الجمهوري ومؤسسة الحكم التي يفترض أنها هدف الثورة. بدأت معالم الصدام الأولى بتراجع ترامب مباشرة بعد فوزه عن عدد من الوعود التي كان يرددها أثناء حملته الانتخابية مثل بناء جدار على الحدود مع المكسيك للحد من الهجرة، أو إلغاء برنامج الرعاية الصحية الذي يحسب للرئيس الحالي باراك أوباما، أو ترحيل المهاجرين المسلمين. لن يمضي وقت طويل قبل أن يدرك الذين أوصلوا ترامب للبيت الأبيض بأنه انتهازي استغل إحباطهم من الواقع الاقتصادي لتحقيق أهدافه السياسية على حسابهم. السؤال هل تصل أميركا إلى حال نجحت فيها الطبقات في التعبير عن إحباطها، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها؟ وهل يجد الجميع عندها أنفسهم أمام حال انسداد بين طبقات متمردة، ونظام سياسي لا يستطيع الاستجابة بسهولة لتطلعاتها؟ لن تتحقق في الغالب نبوءة كارل ماركس بأن النظام الرأسمالي سيصل حتماً إلى مرحلة تنفجر عندها تناقضات هذا النظام من الداخل. فلدى هذا النظام الكثير من المرونة والآليات والمؤسسات التي توفر تنفيسات ومخارج عدة تجنبه الانفجار. مهما يكن فإننا أمام أميركا مختلفة عما استقرت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، أميركا في حال تحول يميل نحو اليمين لكنه لم يستقر عليه بعد.

تشبه الثورة الأميركية الربيع العربي في شيء واحد، وهو أنها حتى الآن من دون قيادة فكرية أو سياسية. لكنها تختلف عنه في أنها ثورة طبقة بعينها، وفي أنها تتم في إطار سياسي يملك القدرة على الحوار والتفاوض معها. انتهى الربيع العربي مباشرة إلى الانفجار لأن مسألة الحكم في هذه المنطقة هي مسألة صفرية، وهذا هو المأزق الذي لم تتجاوزه منذ أكثر من 1400 سنة. بدأت الثورة الأميركية بالتعبير عن نفسها من خلال آلية الانتخاب. يبدو أنها فشلت حتى الآن. لكن فشلها ليس حتمياً، وليس أبدياً. وإذا كانت تميل نحو اليمين الشعبوي، فإن هذا لن يكون لونها الوحيد. ستنافسه ألوان أخرى. انظر في الجانب الآخر، كمثال، إلى دموية المشاهد التي أطلقها النظام في سورية. ستجد فوارق أخرى تقود إلى الإرباك. ثم انظر إلى مصر. ضاق الشعب هناك ذرعاً بحكم «الإخوان»، فإذا به يجد نفسه ليس أقل ضيقاً من الحكم الذي جاء على أنقاضه. وفي كل ذلك تحل الأصفار محل البدائل والمخارج والحوارات والألوان.

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٦
نعم.. لتخرج "النصرة" من حلب وسورية

لا يشفع لجبهة النصرة أنها تجيد مقاتلة جيش الأسد المتهالك، لأنها قضمت وقاتلت، وما زالت تقضم وتقاتل، فصائل تحسب نفسها على عدو الأسد ونظامه: الجيش السوري الحر. ولا يشهد لثورة حريةٍ أن تحتاج إلى تنظيم القاعدة الإرهابي، لكي يدافع عنها أو ينصرها، وليس من الثورية في شيء سكوتها عليه، وامتناعها ماضياً وحاضراً عن منعه من التوطّن في سورية، التي خرج شعبها، قبل قرابة ستة أعوام، طالباً حريته، فركبت على حراكه لا لتحقق أمنيته، بل لتحول بينه وبينها، وتنخرط في القتال من أجل استبداد مذهبي لا يقل سوءاً عن استبداد الأسد الطائفي، وتعدّ الشعب بحكم وثني الأيدلوجيا معاد للإسلام، من حيث رسالته ومعاييره السياسية وعنفه، ورفضه تراحم الدين الحنيف، وإحلاله إرادة الجولاني محل الإرادة الإلهية، وفرض رؤيته على المؤمنين، باعتبارها القراءة الوحيدة الصحيحة للإسلام التي يتوعد المسلمين والمؤمنين بتطبيقها بالسيف.

مثل "داعش"، ليست جبهة النصرة، ولم تكن يوماً جزءاً تكوينياً من ثورة الشعب السوري التي صاغت برنامجاً لخصه مطلبان: "الحرية، والمحافظة على وحدة الشعب". لكن "النصرة" ترفض مطالبته بالحرية، وحجتها أن المخلوق ليس، ولا يمكن أن يكون حرّاً، لأنه عبد لخالقه، ولأن مطالبته بحريته كفرٌ، يضمر انفكاكه عنه. وترفض، في الوقت نفسه، اعتبار السوريين شعباً واحداً، وترى فيهم مللاً ونحلاً، معظمها مرتد أو كافر. بما أن تعايش مؤمني "النصرة" مع الكفرة محال، فإنها ستقضي عليهم، ما دام قتلهم لا يعدّ جريمة، بل هو فعل إيمانٍ، يحتسب لمرتكبيه عند الله.

بهذا البرنامج، أسهمت "النصرة" في قتل السوريات والسوريين واضطهادهم، وقوّضت ثورة الحرية بحرفها عن مسارها الملبي حاجات ورؤى أغلبية الشعب، وتصدّت للمقاتلين تحت رايتها وطرحت برنامجاً مذهبياً، لعب دوراً خطيراً في تضليل المواطنين وتشتيت قواهم، وشقّ المجتمع وقسّمه إلى كياناتٍ متناحرةٍ، ليس لغير كيانه الحق في الحياة. بدل وعد الحرية لمواطنين يتساوون في حقوقهم وواجباتهم الذي قالت به الثورة، تعدنا "النصرة" بحرب أهليةٍ مفتوحةٍ، لا تعترف بآصرة وطنية أو مجتمعية أو إنسانية في مجتمعنا، وترفض أي تنظيم قانوني لعلاقاتهم، بحجة أن القانون وضعي ومنافٍ للتدبير الإلهي، كما ترفض هويتنا الوطنية، فنحن لسنا، في نظرها، سوريين، بل مهتدين من جهة وكفرة وضالين من جهة أخرى، فأية مساواةٍ في الحقوق والواجبات يمكن أن تكون بين من اهتدى إلى سبيل الله، ومن ضلّ عنه؟

أخيراً: هل سبق لسوري أن سمع بثورة انتصرت ببرنامجين متناقضين، يدعو أحدهما إلى الحرية، وثانيهما إلى نفيها، وقتال القائلين بها، والمطالبين بدولتها، الذين يعتبرهم مرتدّين وخارجين عن الدين، يفرض واجبه الشرعي، عليه مقاتلتهم، ومنعهم من الوصول إلى أهدافهم عبر سلطةٍ جديدةٍ، تقوم على أنقاض السلطة الاستبدادية الأسدية؟

هل يجوز الدفاع عن تنظيمٍ هذه وعوده ومواقفه، والنتائج الداخلية والعربية والدولية التي ترتبت على توطّنه في بلادنا، وأدت إلى تقويته وإضعاف المقاتلين من أجل الحرية، ووحدة الشعب والمجتمع، وأغرقت الثورة في التباساتٍ أنهكتها، وكانت في غنىً عنها؟ وهل يحقّ لأحدٍ التمسّك ببقائه في حلب، حيث يشجع على القتال بين التنظيمات، تمهيدا لاحتوائها وإقامة وضع على الأرض هو طرفه الأقوى أو الوحيد، بعد أن حال نيّفاً وشهراً دون إيصال الغذاء والدواء إلى قسمها الشرقي، واتّخذه الروس والنظام ذريعةً لتدمير حلب وقتل مواطنيها؟ إذا كانت مواقف "النصرة" تتعارض إلى هذا الحد مع مصالح الثورة والشعب السوري الواحد، هل يجوز التضحية بالثورة وسورية من أجلها؟ لو كانت "النصرة" حريصةً على وطننا وشعبنا، لبادرت إلى الالتحاق بالجيش الحر، ولرفعت علم الثورة، وتخلت عن طابعها العصبوي/ الإرهابي الذي عاد إلى اليوم بضرر قاتلٍ على شعبنا وثورة الحرية.

لتخرج جبهة النصرة من حلب، ومن سورية أيضاً، لأن طريقها غير طريقنا، وأهدافها معادية لأهدافنا، ولأننا نرفض ما تتبناه من خياراتٍ وأدلجة، ولا نقبل بديلاً عن برنامجنا: الحرية للشعب السوري الواحد.

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٦
الأسد وثقافة "النظام المُنْضَمّ"

شرحتُ لحضراتكم، في زاوية سابقة، مصطلحَ "النظام المُنْضَمّ" الذي ‏يُسْتَخْدُمُ في الجيش السوري. إنه مجموعةٌ من التدريبات ‏الصارمة التي تساعد الفتى الغرّ (المُسَاق) لتأدية الخدمة على ‏تَعَلُّم السير الجماعي، والانضباط، وطاعة القائد، وخلق آليةٍ نفسيةٍ ‏غريزيةٍ، تؤهله لتنفيذ الإيعازات المباغتة بتلقائية مُبهرة.

أرجو ألَّا يبقى تفكيرُكم، الآن، منحصراً في نطاق الخدمة العسكرية، فأنتم تعلمون أن نظام حافظ الأسد المغوار جعل أنموذجَ الحُكم في سورية هو نفسه أنموذج "النظام المنضم"، بدليل أن الشخص الذي يتسلم أيَّ منصب في البلاد سرعان ما يتقمّص شخصية الضابط العسكري، مع اعتقادٍ جازم بأن المواطنين الذين يقعون تحت إمرته إنما هم جنودٌ ينتظرون منه الإيعاز لينفذوه من دون تلكؤ، أو تردّد، أو تذمر.

من هنا، نستطيع أن نفهم ظواهر كثيرة سادت في المجتمع السوري، خلال فترتَي الأسدين الأب والوريث، منها تعيين ضباط مخابرات ذوي سجلاتٍ حافلة بالإجرام في وظائف إدارية مدنية، كوظيفة (المحافظ). والواحد من هؤلاء ينسى، في أثناء تأديته عمله، أنه محافظ، وسرعان ما يحوّل مكتبه إلى مرتع للمخبرين وكتبة التقارير الأمنية. وفي أحيانٍ كثيرة، ينزعج من مواطنٍ ما، فيخطر له أن يرفعه (فلقة)، ووقتها يتذكّر أنه لا يمتلك أدواتٍ خاصة بالتعذيب، فيتصل بأحد رؤساء فروع الأمن، ويقول له، بلغةٍ ملغزة: باعت لك هدية، أرجو أن تقبلها مني، وأن تتولاها برعايتك!

يعرف القسم الأكبر من الشعب السوري أن رفعت الأسد، مثلاً، أمضى حياته كلها في الخدمة العسكرية، وأنه اختصّ، بعد وصول شقيقه حافظ إلى السلطة، بممارسة التصرفات الوسخة والمجازر بحق السوريين. لذا، بلغتْ دهشةُ الناس حدَّها الأقصى، حينما علموا أنه عضو في اتحاد الكتاب العرب. وعلى الرغم من دهشتهم الشديدة، لم يجرؤ أحد منهم أن يسأل الدكتورَ علي عقلة عرسان، رئيس الاتحاد الأزلي، عن المؤلفات التي قدمها السيد رفعت الأسد للمكتبة العربية، حتى قُبِلَ لعضوية الاتحاد، وما إذا كانت كتبُه مستوفيةً للشروط العالمية للكِتَاب التي حددتها منظمة اليونسكو، وهي الشروط التي كان الدكتور، عبد الله أبو هيف، عضو المكاتب التنفيذية الثلاثة (الطلائع- العمال- الكتاب) يتمسّك بها، ويتحدث عنها في مقالاته الصميدعية.

وبرأيي أن سبب دهشة الناس من انتساب الدكتور رفعت الأسد إلى اتحاد الكتاب العرب، وبقائه فيه حتى سنة 2012، يأتي من أنهم لا يعلمون أن نسبة 15% من أعضاء اتحاد الكتاب العرب ضباطٌ متقاعدون من الجيش والشرطة. وقد وزّعهم الدكتور عرسان على جمعيات الشعر والقصة والمسرحية والرواية... وبالنسج على هذا المنوال، اقترح أحدُ الكتاب الساخرين على المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب إحداث جمعية خاصة بـ (كتاب التقارير الأمنية).

لا يمكن أن يُسْتَكْمَل الحديث عن الأدب والصحافة، بوصفهما مرتعاً لـ "النظام المُنْضَمّ"، بمعزل عن اسمٍ مؤثّرٍ في هذا المجال، هو سيادة العميد محمد إبراهيم العلي الذي كان قائداً لـ "الجيش الشعبي"، وكان، في الوقت نفسه، يكتب رواياتٍ لا تكفي صفةً "كبيرةً" للتعبير عنها، فهي "ضخمةٌ"، ولم يكن أحدٌ بين المثقفين السوريين ليجرؤ على الادّعاء بأنه استطاع أن يُكمل قراءة أيٍّ منها، لأنها سردية، ومسطحة، وخلوٌ من المهارات الفنية، ومملة. ومع ذلك استطاع العلي، من خلال نفوذه العسكري والسلطوي، أن ينال بها شيئاً من العالمية، فعلى أيام الاتحاد السوفييتي الصديق، تُرجمت أعماله الروائية كلها إلى الروسية، وصار يُعْرَفُ هناك بأنه الروائي السوري الأول!

ولئلا أخرج عن موضوعنا الأساسي؛ أحيطكم علماً بأنه كان بإمكان القائد العلي أن يطلب من قيادة الجيش أن تفرز بعض الكتاب الشبان لتأدية الخدمة الإلزامية في الجيش الشعبي، وهؤلاء، بعد الفرز، يساعدون سيادة اللواء بكتابة رواياته، في مقابل إعفائهم من التدريبات الشاقة التي تدخل تحت تسمية "النظام المُنْضَمّ".
فتأمل.

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٦
عن الدولة البربرية

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على تأليفه، بل بالأحرى بسبب ذلك، يقدّم لنا كتاب الدولة البربرية الذي حرّر نصوصه ميشيل سورا في الثمانينيات، وستصدر ترجمته العربية لأول مرة قريباً، مفاتيح أساسية للإجابة على سؤال: كيف وصلت سورية إلى وضعها الكارثي اليوم. ففي محاولته فكّ ألغاز العنف المفرط الذي استخدمه حافظ الأسد لسحق حركة الاحتجاج المدني الذي قادته النقابات والمثقفون منذ 1979، يكشف سورا عن الطبيعة الحقيقية العميقة للنظام، ويفسّر، بصورة ارتجاعية، العنف غير المسبوق الذي واجه به هذا النظام الثورة الشعبية السلمية والمدنية في مارس/ آذار 2011، مع فارق وحيد، هو البعد الإقليمي الذي اتخذه هذا العنف والتدخلات الأجنبية التي أغرقت الثورة في حربٍ إقليمية جيوسياسية وطائفية معاً.

لم تخدع شعارات التقدمية والاشتراكية والعداء للإمبريالية التي كان يظهرها نظام الأسد ميشيل سورا، وأدرك، منذ مقالاته الأولى، بحدسه الرهيف، أنه لا يوجد عند الأسد مشروعٌ آخر، لا بناء أمة ولا بناء دولة ولا إقامة عدالة اجتماعية، وإنما بناء سلطة، وتأمين وسائل القوة الكفيلة بالدفاع عنها. وفي هذا السياق، اكتشف مفهوم العصبية الخلدوني الذي قاده إلى رؤية ما لم يره الآخرون من زملائه الباحثين الغربيين، والإضاءة على وقائع، سوف تظهر أهميتها وصحتها بعد عقود، فالعصبية في نظر ابن خلدون هي الشرط الأول من شروط التداول الطبيعي على السلطة، أو نشوء "ملك" جديد، من بين ثلاثية العصبية والدعوة والملك، فمن دون عصبيةٍ تلحم الأفراد، وتحولهم إلى جماعةٍ متحدة وقادرة على التصرّف على مسرح التاريخ قوة متماسكة، لن يكون للسلطة عصب، أي اتساق يشدّ أركانها إلى بعضها، ويؤمن إرادة القوة والتضحية التي يحتاج إليها كسب الصراع. أما الدعوة فتأتي بعدها، من أجل إضفاء شرعية على كفاحها ومعركتها، وهي مجرد دعوةٍ لا تستدعي حتمية الالتزام بها، أو هي بالأحرى وعد، كوعد السياسيين أنصارهم في زمن الانتخابات. وهذا ما كانت تعنيه الأيديولوجيا القومية والاشتراكية التي تمسّك بها النظام في مراحله الأولى، وتخلى عنها صراحةً فيما بعد، قبل أن يتركها تذبل وتموت من تلقاء نفسها، وكذلك الحزب الذي حمل رايتها وشعاراتها. لكن الهدف من هذا وذاك هو "المُلك"، أي بمصطلحاتنا السلطة والحكم، فهو الغاية الأساسية. ليست العصبية هدفاً بذاتها، إنما هي شرط لإنتاج العنف الذي هو سيف السلطان، ومن دونه لا قيمة لدعوةٍ ولا وجود لمُلك. لذلك، كما كان طلاب السلطة والملك في التاريخ الإسلامي القديم يعرفون أن سلطتهم لا تستقيم وتستمر إلا بالشوكة، أي التفوق في استخدام العنف لردع الطامحين الآخرين، وثنيهم عن التنافس على الحكم، كان الأسد الأب يدرك أنه لن يستطيع أن يفرض نفسه على خصومه ومنافسيه، وتأسيس سلطة تابعة له، سوى بتوفير هذا العنف المنتج لشوكةٍ، من خارج الدولة التي يسعى إلى السيطرة عليها، وبالتالي، من دون إعادة إحياء العصبية التي هي، بالتعريف، تضامنات أهلية أولية آلية. فهي وحدها القمينة بأن توفر له العنف البدائي الأول، الأعمى، والجاهز، الخارج عن القانون، والمرتبط مباشرةً بعلاقةٍ من خارج الدولة والسلطة نفسها. حقيقة العصبية، في ما وراء وهم القرابة الذي يحرّكها، مذهبيةً كانت أم قبلية، هي أنها المرجل الذي يقطر فيه العنف الضروري لفرض الشوكة والهيبة، والذي يشكّل القبض على الدولة جائزتها الأولى.

هذا ما يفسر أن الدولة السورية التي انتزعها الأسد بالقوة الانقلابية لم تعد دولة السوريين المؤسّسة لتنظيم شؤونهم العامة، ورعاية مصالحهم، وضمان أمنهم الفردي والجماعي، وأصبحت، خلال أشهر معدودة، دولة الأسد القائمة لتنظيم شؤون ملكه، وتثبيت أركانه، ورعاية مصالح عصبيته، وضمان توسع نفوذ أصحابها وأمنهم. كانت هذه السلطة التي نشأت على أساس العصبية وسيلةً لتبديل طبيعة الدولة نفسها، وأسلوب عملها وأهدافها وغايتها. وكي ما تستطيع أن تتعزّز وتستمر، ما كان أمامها إلا التوسّع في إنتاج العنف لردع خصومها ومنافسيها، وأولهم الشعب نفسه الذي فقد دولته، من جهة، والتفنّن في التغطية على حقيقة أهدافها وغاياتها، والمصالح التي تخفيها، بتطوير أشكالٍ غير مسبوقة من الخداع والغش والتحايل على الرأي العام المحلي والعالمي، والتستر على الحقيقة، وما يترتب عن ذلك من تحويل الانتهازية والوصولية والازدواجية والرياء والكذب والتلون بكل الألوان إلى الفضيلة والوسيلة الوحيدة للتعايش والاستمرار والنجاح في الحياة العامة والخاصة، من جهة ثانية.

هكذا بقي العنف والتوسّع في إنتاجه وتنويع أشكاله وأجهزته العامل الثابت والدائم الحضور في سياسة النظام، وتعامله مع كل الأطراف الداخلية والخارجية، العنف الجسدي والروحي والفكري والسياسي والعسكري، وذلك بموازاة تحول هذا "المُلك" نفسه من "مُلك" سياسي إلى "مُلك" وراثي، وتطابق السياسة والحرب، بحيث لا يمكن تمييز إحداهما عن الأخرى، ولا فصلها عنها. وبالمثل ربما لم يبلغ نظامٌ في التاريخ، مستوى من التفنّن في تطوير وسائل الخداع، مستعيناً بالتقنيات الإعلامية والتواصلية الحديثة، لقلب الحقائق، وتزوير الواقع، والتهرّب من المسؤوليات، وتحويل الضحية جلاداً والسارق قاضياً، ما بلغه نظام الأسد. كان تسليط الضوء على الواقع كما هو، والحديث عن الحقائق البسيطة، كما هي، أكثر ما يخشاه النظام، ويسعى إلى إخفائه، إلى درجةٍ أصبح فيها إنكار الحقائق بشكل فج ومباشر فناً قائما بذاته. وهذا بالضبط ما أوقع ميشيل سورا، وجعل من هذا النص الذي بين يدينا اليوم من أغلى النصوص التي كتبت في التاريخ الحديث، لأنه كلف كاتبه حياته. كان كشف حقيقة النظام العميقة، أي واقع اختطاف الدولة من السوريين شعباً وأفراداً، وتحويلها إلى أداة للسيطرة وإنتاج العنف وتعميم الأكاذيب وتشويه الحقائق المستخدمة، لإخضاعهم وتجريدهم من إنسانيتهم، يعني موته. ما كان يحرص النظام على إخفائه، ويخشى أن يطلع عليه الناس هو ببساطة أنه كان يلعب لعبة مزدوجة، ويبنى من خارج الدولة والقانون وضدهما دولته وقانونه الخاصين، دولة الأسد وقانون العصبية، ويقوّض أسس الدولة السياسية القائمة، ويحضر لاستعمارها من الداخل، ووضع مواردها في خدمة سلطته وأجهزته وحاشيته وأتباعه. ولذلك، كان الكشف عما يجري ورؤية الوقائع كما هي، سواء جاء على يد مثقفين أو سياسيين أو باحثين من نوع سورا يشكل هوساً دائماً للنظام.

يكاد ميشيل سورا يختصر، في دراسته، الطريقة التي واجه بها نظام الأسد انتفاضة الثمانينيات هذه، وتحويل الاحتجاجات المدنية والنقابية إلى مواجهةٍ بين السلطة والمنظمة الإسلامية الإخوانية، تاريخ حروب النظام السوري جميعا التي واجه بها الاحتجاجات والانتفاضات التي لم تتوقف رداً على عملية تجريد منهجي للناس من حقوقهم، وتحويل الأفراد إلى غرباء في وطنهم، وأصفار في كل ما يتعلق بتقرير مصيرهم، وإخراج الشعب من السياسة والدولة والثقافة معاً، وتحييده. وكانت آخر هذه الاحتجاجات وأقواها انتفاضة النفس الأخير التي قادتها النقابات السورية، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن تدفن حية.

فلا تكاد تختلف استراتيجية الحرب التي يخوضها نظام الأسد الابن اليوم للرد على الثورة التي فجرها السوريون لاستعادة هويتهم شعباً، وكسر قيودهم، وفرض الاعتراف بوجودهم وحقوقهم على سلطة "أجنبية"، لا تختلف عن أي سلطة احتلال، كثيرا عن التي عرض فصولها ووصفها وحلل آلياتها ميشيل سورا، منذ ما يقارب أربعة عقود، لا في خططها ولا في أساليبها ووسائل القمع والتحايل السياسي والإعلامي التي لم تتغير. فكما في كل مرة، لا يعرف نظام الأسد رداً على أيٍّ من تظاهرات الناس، لتأكيد وجودهم وحقوقهم، مهما كانت، سوى اللجوء إلى العنف، ورفض الحوار، والسعي إلى إنهاء النزاع بحمّام دم، يشكل، في نظره، درساً بليغاً يعزّز شوكته ويكسب النظام، كما يعتقد قادته، عقوداً جديدة من الاستقرار، ويردع الشعب، سنوات عن محاولة الخروج عليه، أو المطالبة بحقوقٍ غير ما يريد النظام نفسه أن يقدّمه له. فالمشهد لم يتغير: الشعب ذاته، المغلوب على أمره، في تعدّده وانقساماته وتشظيه وحيرته وخوفه، والقتلة ذاتهم، بخطابهم العنصري والدموي وحماقتهم، وتحايلهم على القانون، واستعداداتهم للذهاب حتى الخراب الشامل، من أجل تأكيد حقهم الحصري في السلطة، واستخدامهم الدولة مطيةً لمصالحهم ومآربهم الخاصة، ورفضهم أي حوارٍ أو تفاوض أو مشاركة أو تقاسم للسلطة مع أي طرفٍ كان، وجاهزيتهم للتعامل مع أي قوة أجنبيةٍ تخدم بقاءهم، والمراهنة على قدرتهم على خداع الدول والمتاجرة بقضية التطرّف، واختلاقها إذا لزم الأمر، ومن ضمن ذلك التلاعب بالحركات الإسلامية، واستثمار خوف الدول الكبرى من الإرهاب، واستخدامه وسيلةً لإعادة الاعتبار لحكم الاستثناء والإقصاء. ما يحصل اليوم هو تماماً ما حصل بالأمس من قتلٍ وإبادةٍ ودمارٍ وتهجيرٍ وتشريد، كل ما هنالك أن ما جرى منذ أربعة عقود على نطاق مدينة حماة، يجري اليوم على نطاق سورية بأكملها، وبعنفٍ منفلتٍ أكبر، فتتحول المجزرة في حماة في الثمانينيات إلى حرب إبادةٍ جماعيةٍ في العقد الثاني من القرن 21.

لذلك، في أكثر من جانب، يفضح هذا الكتاب سياسة الأسد الذي امتهن القتل والكذب طريقةً للحكم، ويشكل وثيقة اتهام فعلية ضد نظامٍ كان، ولا يزال، المنتج الرئيسي للعنف الخارج عن القانون، والموزع له في سورية والعالم.

اقرأ المزيد
١٢ نوفمبر ٢٠١٦
ترامب والقضية السورية

بدا في فترة التحضير للانتخابات الرئاسية الأميركية أن ثمة ميلاً للحذر والتخوف في موقف السوريين من ترشح دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، وتفضيلاً لأن تأتي المرشحة هيلاري كلينتون إلى هذا المنصب، ليس لأنها أفضل من يتولاه، بل لأنها الأقل ضررًا للسوريين حسب التقديرات، وكان الموقف في أوساط المعارضة السورية، أكثر حساسية في الخيار بين ترامب وكلينتون، وتفضيل مجيء الأخيرة، لأنها وزيرة خارجية سابقة، ولديها خبرة في القضية السورية، وباعتبارها سيدة، قد يضفي وجودها نوعًا من أنسنة للسياسة الأميركية في الموضوع السوري، ولأنها من الديمقراطيين الذين يوصفون بالمعتدلين مقارنة بالجمهوريين، رغم أن كثيرًا من السوريين لا يؤمنون بهذا التمايز فيما يتعلق بقضيتهم.

مصدر قلق السوريين ومعارضتهم من فوز ترامب، كان في مجيئه من خارج النخبة السياسية المعروفة، ومن شعبويته ومن تصريحاته التي رافقت ترشحه، وكان لبعضها معانٍ ودلالات، تتصادم مع منظور السوريين ونخبتهم في النظر إلى السياسة، والسياسة الأميركية بشكل خاص، وهذا يفسر الحذر من وصوله إلى البيت الأبيض الذي سيحل فيه لأربع سنوات، تليها أربع أخرى على الأغلب.

غير أن أسباب الحذر ليست كافية على الأقل، وفقًا لما كشفت المعطيات الأولية، التي ظهرت على الجانب الأميركي. فكون الرجل من خارج النخبة السياسية المعروفة، لا يمكن اعتباره أمرًا يدعو للتوجس والحذر، فقد جاء إلى الرئاسة الأميركية أشخاص من خارج النخبة مثل الرئيس رونالد ريغان، القادم من عالم هوليوود، واستطاع من خلال رئاسته للمؤسسة الأميركية الحاكمة البقاء في منصبه لدورتين في ثماني سنوات، ما بين 1981 و1989، وهذا يرسم ملامح طريق يمكن أن يسير عليه ترامب.

أما في موضوع شعبوية ترامب، فقد ثبت أن لها حضورًا في الواقع الأميركي، وهذا ما أكدته نتائج الانتخابات، وتعبيره عن ميول الأكثرية الأميركية بأخذه أكثرية أصوات الناخبين، ومنهم أكثرية أصوات الأميركيات (53 في المائة)، الذين لا شك أنهم ملوا و«قرفوا» من سياسات النخبة السياسية المعروفة، التي ندد بعيوبها الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقالة عميقة له، نشرها أواخر العام الماضي عن احتمالات الانتخابات المقبلة وخراب النخبة المرشحة، التي كان ترامب في أواخر أسمائها، ومع شعبويته، التي دغدغت أحاسيس الأكثرية الأميركية، وصل إلى البيت الأبيض بخلاف تقديرات مؤسسات ورموز النخبة بما اشتغلته من استطلاعات رأي وتقديرات مراكز الأبحاث وتحليلات في الصحافة الأميركية، التي كانت تترقب هزيمة ترامب المؤكدة في الانتخابات الرئاسية.

أما في موضوعات تصريحات ترامب، التي أثار كثير منها عواصف حول الرجل وسياساته المرتقبة في المجالات الداخلية والخارجية. فإن البعض، ومنهم سوريون، نسي أو تجاهل، أنها جاءت في إطار معركة انتخابية، يقال في كثير من محطاتها، ما لا يقال في مواقع وأماكن وأزمان أخرى خارج المعركة، ويبدو أن محتويات «خطاب النصر» الذي ألقاه ترامب بعد فوزه بمثابة تأكيد ملموس لهذه الحقيقة، التي من الواضح أن كثيرين لم يدركوها، ليس من سوريين فقط، بل وغيرهم بمن فيهم أميركيون في مواقع لا تسمح لهم بمثل هذا الخطأ الشنيع.

لقد تضمن الخطاب المختصر للرئيس الجديد روحًا عالية من المسؤولية، بخلاف كل محتويات مناظراته وخطاباته في المعركة الانتخابية. فشكر كلينتون، وأشاد بها، قبل أن يؤكد ضرورة وحدة الأميركيين، وأنه سيكون رئيسًا لهم جميعًا، وأن الدولة سوف تخدمهم، مؤكدًا أن «أميركا لن تقبل بعد اليوم بأقل من الأفضل»، وواعدًا: «نحن سنحدد مصير بلدنا»، قبل أن يختتم خطابه بالقول: «أقول للعالم إننا سنبحث عن الشراكات لا عن الصراعات، وسنتعامل بعدل مع الجميع».

ورغم أن تحسن الحالة الأميركية يمكن أن يساهم في دور أفضل للسياسة الأميركية في العالم، فإن الأهم بالنسبة للسوريين، هو الإطار الذي يرسم سياسة واشنطن الخارجية، وقد حدده ترامب على أساس الشراكات لا الصراعات، والأهم أنه يقوم على العدل مع الجميع، وإذا وجد هذا الإطار طريقه للتطبيق، فإن سياسة ترامب في القضية السورية، ستكون أفضل من سياسة سابقه أوباما، التي قامت على التخلي عن دورهم، بل وتسليم الملف إلى روسيا رغم أنها طرف في القضية السورية، وحامية مباشرة لنظام الأسد، وقوة لمنع سقوطه وإعادة تأهيله وعودته إلى المجتمع الدولي بعد كل ما ارتكبه وما يرتكبه من جرائم ضد السوريين وما تتركه من تداعيات على المجتمع الدولي.

ليس للسوريين ومعارضتهم أن يراهنوا على سياسة أميركية مختلفة، فهذا مجرد احتمال، خصوصًا بعد أن فشلت رهانات بعضهم على سياسة أوباما وإدارته في السنوات الست الماضية، لكن عليهم أن يعملوا من أجل سياسة أميركية أفضل في عهد ترامب وعودة بأميركا فاعلة وتعامل بعدل، وإن لم ينجحوا كما حصل سابقًا، أو لم تستجب إدارة ترامب لمساعيهم، وتبدلت سياساتها حيال القضية السورية، فلن يخسروا شيئًا، ولن يكون وضع السوريين وقضيتهم بأسوأ مما كانت عليه سياسة أوباما وإدارته في السابق، فقد كانت أسوأ ما يمكن أن تكون عليه السياسة في مجرياتها وفي نتائجها.

اقرأ المزيد
١٢ نوفمبر ٢٠١٦
أميركا "جديدة" وعرب أقل اعتماداً عليها

عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، وجد مهتمون عرب كثيرون أن لكل من المترشحين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب مزايا وعيوبا، وأن أحدهما لا يفضُل الآخر بصورة مطلقة، مع تحبيذٍ إجماليٍّ ونسبيٍّ للسيدة كلينتون التي كانت كل التقديرات والاستطلاعات ترجّح فوزها بمنصب الرئاسة. وفي صبيحة الأربعاء، 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مع الإعلان عن فوز ترامب، كان لسان الحال في دول عربية عديدة: وداعاً إذن للديمقراطيين.. وداعاً أوباما وكلينتون، وأهلاً بعودة الجمهوريين من فريق بوش الأب وبوش الابن الى البيت الأبيض. لقد تحلّى الجميع تقريباً وفوراً بالواقعية، فالرئيس الجديد انتخبه شعبه، كما انتخب غيره من قبله، ولا مناص من احترام هذا الرئيس والتعامل معه. لم يقتصر هذا الموقف الواقعي على الدول العربية، بل شمل أغلبية دول العالم، وإن كانت دول أوروبية غربية، مثل ألمانيا وفرنسا، لم تكتم توجّسها من النزعة الشعبوية للرئيس المنتخب ترامب، وجعلت من القيم الديمقراطية فيصلاً ومِحكاً للتعامل مع إدارة أميركية جديدة وتقييمها.

ومع الانفعالات العربية المؤقتة التي صاحبت حملة الانتخابات، ثم رافقت عمليات التصويت، وصولاً إلى إعلان الفائز، فإن المسافة بين التقديرات الرسمية والتقديرات الشعبية أخذت تتقلص بخصوص ما هو مُنتظر عربياً من الرئيس الأميركي. لم يعد هناك، في محصلة الموقف العربي الرسمي، أي تعويلٍ كاملٍ على أي إدارةٍ جديدة في واشنطن. كان الموقف الأميركي الصنمي والأصم من القضية الفلسطينية هو مفتاح الوعي الجديد. في السنوات العشر الماضية، أضيف الموقف الأميركي من التمدّد الإيراني، كأحد العوامل التي تفتح فجوةً بين المصالح العربية وتقدير واشنطن للمصالح الأميركية. وخلال ذلك، برز العامل الثقافي والفروق الحضارية والموقف من المسلمين وظاهرة الإسلاموفوبيا عوامل إضافية للتباعد. لم يعد هناك في الوعي العام من تطابقٍ بين الأهداف العربية وأهداف واشنطن، كما كان عليه الحال في سنوات الحرب الباردة، وحتى أواخر القرن الماضي. ولهذا، لا يصادف المسؤول العربي ( الخليجي مثلاً..) صعوبةً تذكر في التحلي بالواقعية، بالتعامل مع أيّ رئيسٍ منتخب، أو أية رئيسة كان يُمكن أن تنتخب. فما دامت الفروق والتباينات العربية والأميركية قائمةً في جميع الحالات (ومعها نقاط الاتقاء والمصالح المشتركة)، فإن ذلك يُظهر أن الفروق بين السياسيين الأميركيين ليست كبيرة، على الرغم من التطاحن فيما بينهم، ما يُملي المضيّ في سياسة الاعتماد على الذات، وهذا هو أفضل تحوّلٍ أصاب الوعي السياسي العربي الرسمي في العقد الأخير. وقد تم التوجه إليه بالتدريج وببطء، حتى أصبح خياراً على درجةٍ من الرسوخ. وقد تجلى في الموقف من الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث لم يكن هناك مرشح رئاسي يحظى بثقةٍ عربيةٍ كبيرة. وسريعاً ما تم الانتقال إلى موقفٍ عقلانيٍّ، بالاستعداد التام للتعامل مع الرئيس المنتخب.

وقد استفاد الموقف العربي من النموذج التركي في التعامل مع واشنطن، باستلهام هذا النموذج وإنْ جزئياً، فمع بدايات القرن الجديد، وعشية حرب الخليج الثانية، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد أخذت الجمهورية التركية مساراً سياسياً على درجةٍ من الاستقلالية عن واشنطن، ولم تشارك في حرب الخليج الثانية، وإنْ فتحت قواعدها أمام انطلاق عمليات حلف الأطلسي القتالية الجوية. وابتعدت أنقرة عن تل أبيب، وأخذت تقترب أكثر فأكثر من الجانب الفلسطيني. وكان الموقف من موجة الربيع العربي ميداناً للالتقاء مع واشنطن والافتراق عنها، وخصوصاً بما يتعلق بالحراك السوري.

ولا يقتصر الأمر على تركيا، فحتى الحليف الصهيوني لأميركا الذي يتمتع بما لا تتمتع به أية دولةٍ من مزايا تفضيلية في واشنطن. .. هذا الحليف يشتقّ سياسةً خاصةً بما يتعلق بمصالحه وأطماعه التوسّعية، ويعمل على حمل الإدارات الأميركية على تبني هذه السياسة، وليس العكس، فواشنطن، في المجمل، وعلى الرغم من الفروق في المواقف بين المؤسسات، تعتنق سياسة شرق أوسطية إسرائيلية بما يتعلق بالأراضي المحتلة ومستقبل الصراع والتسوية، وليس العكس، فتل أبيب لا تعتنق سياسةً أميركيةً شرق أوسطية، إلا في الخطوط العريضة والتوجهات العامة. وهو ما استحقّ عربياً استخلاص الدروس منه، فالاعتماد الكامل على الحليف الدولي لا يستقيم مع موجبات السيادة واستقلال القرار السياسي، ولا مع واجب بناء قدراتٍ دفاعيةٍ ذاتية، والتباينات السياسية مع " الحليف" في ظل الاعتمادية قد تؤدي إلى نتائج مُهلكة، فلو نظر الجانب السعودي والخليجي النظرة الأميركية إياها إلى ما يحدث في اليمن، قبل زهاء ثلاثين شهراً، لكان الحوثيون قد أتموا سيطرتهم على المياه الإقليمية اليمنية في البحر الأحمر، ويهدّدون جدّة ومناطق سعودية أخرى. ولو استأذن السعوديون واشنطن في شنّ الحرب الوقائية (عاصفة الحزم)، لانتظروا طويلاً تأييداً أميركياً لخطوتهم هذه، ولتحوّلت عدن وباقي اليمن إلى ترسانةٍ للأسلحة والمنشآت الإيرانية، ومنصة تهديد مباشر للسعودية ولدول خليجية أخرى، علاوة على التفاف الانقلابيين على إرادة الشعب اليمني، وسعيهم المحموم إلى بسط سلطتهم على الضدّ من أية شرعية بالحديد والنار، والاستقواء المكشوف بدولةٍ أجنبيةٍ ذات أطماع معلنة.

وليس بعيداً عن السعودية، فإن البحرين كانت مؤهلةً لاختراق إيراني. ولا يقترن الموقف الأميركي المؤيد لحقوق كاملة في المشاركة السياسية الداخلية في هذا البلد بتكريس حق البحرين بمنع أية تدخلات أجنبية في شؤونها الداخلية، أو بمخاطبة طهران بصورة حازمة لوقف تدخلاتها في المنامة.
لقد تم قطع شوط كبير من فك "ارتباط سيامي" عربي أميركي، وخصوصاً ذلك الخليجي الأميركي، ويلحظ المرء كيف أن التحولات الداخلية في أميركا نحو الانعزالية، ورفض المشاركة في "حروب الآخرين"، وتنمية الثروة البترولية الأميركية، و"أميركا أولاً" حسب شعار ترامب الانتخابي، قد تلاقت موضوعياً مع تحولاتٍ على الجانب المقابل العربي، باعتناق سياسة الاعتماد على الذات، وعدم انتظار غوثٍ خارجيٍّ، ومع تنويع مصادر التسلح، وبناء أوسع شبكةٍ من العلاقات الاقتصادية مع مختلف دول العالم. وهنا لا بد من ملاحظة نزعةٍ انعزاليةٍ للجمهوري الجديد ترامب، تشكّل امتداداً للنزعة نفسها لدى الديمقراطي باراك أوباما، وإنْ بمضمونٍ خاص لكل منهما. وخلافاً للعسكرة الجامحة التي كانت تميز السياسة الخارجية في عهدي بوش الأب والابن. ولكن، لننتظر قليلا لاكتشاف المسار الذي سيتخذه الساكن الجديد للبيت الأبيض.

وإذا كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية قد فقدت كثيراً من جاذبيتها، وباتت صنيعة الميديا التكنولوجية والوسائط التقنية التي تزداد تقدماً، فذلك لأن جاذبية أميركا نفسها إلى انحسار، فهي أشبه بالفيل الذي يحطم الموجودات لدى دخوله محلاً واسعاً، ومع خروجه أيضاً من هذا المحل. ففي حقبة تحرّر الشعوب من الاستعمار، وقفت أميركا ضد الشعوب، ومع بقايا الاستعمار القديم، ومع موجة الانكفاء الأميركي التي تشهدها في هذه الحقبة، أطلقت موجة من البلطجة الإسرائيلية والإيرانية والروسية، يتضرّر منها بصورةٍ مباشرة وبالغة العنف عشرات الملايين من العرب والمسلمين. ولهذا، لا يعود مستغرباً ما نشهده من بوادر متزايدة لتباعد موضوعي نسبي بين حلفاء الأمس، بين الإدارة الأميركية وأصدقائها التاريخيين في المنطقة، بعد أن فرّقت بينهم الرؤى والمصالح والأولويات.

اقرأ المزيد
١٢ نوفمبر ٢٠١٦
ترامب رئيساَ

لم يسقط دونالد ترامب من السماء، لقد أنبتته أرضٌ ألفت إنبات رؤساء ليسوا اليوم، ولم يكونوا بالأمس، أفضل منه، كباراك أوباما الذي لعب دورا مفتاحياً في إنجاحه بانتخابات الرئاسة، وهزيمة هيلاري كلينتون، على الرغم من أنه دعا الأميركيين إلى انتخابها، بيد أنه وضع الأساس اللازم لنجاح ترامب، من خلال سياساتٍ اعتمدها، ناهضت بعنادٍ أي مبدأ يتصل بالحرية، وحقوق الإنسان والمواطن، والنزعة الإنسانية وقيمها الكونية المشتركة التي جعلت حياة البشرية محتملةً وقادرةً على الاستمرار، وتفرّجت بأبرد دمٍ يمكن تصوّره على أفظع مذبحةٍ منظمةٍ، يتعرّض لها شعب سورية الأعزل، من دون أن ترى في وقوعها ما يدعوها إلى فعل أي شيء ضد المجرم بشار الأسد، أو تحجم عن تصفية حساباتها مع إيران وروسيا بدماء ضحاياها السوريين، أو حتى تقلع عن الاستمتاع بمشهد دمائهم، وهي تتدفق أنهاراً من أجساد أطفالهم ونسائهم وشيوخهم، ممن يحاصرهم جيش الأسد وإيران ومرتزقتهما، وقد هدّهم الجوع والمرض، وقضت عليهم صواريخ وبراميل متفجرة تهطل عليهم كالمطر، وقنابل روسية فوسفورية حارقة، وأخرى ارتجاجية، أمر بوتين بتجربتها عليهم، لأن ذلك أفضل من تجربتها في المناورات العسكرية، كما قال لجنرالاته.

في ظل انهيار النظام الدولي، وتداعي النظام القانوني والشرعي الذي نهض عليه، وعطلته تناقضات روسية/ أميركية، ورثاثة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، التي بلغت حدود الجبن، وأعدمت شعوره بالمسؤولية، وفي ظل افتقار العالم إلى حسٍّ أخلاقي يُلزمه بحماية الشعب السوري من القتل والاعتقال والتهجير والتجويع، هل يتوقع أحد أن يخرج من القدر الأميركية غير ما وضعه عهد أوباما فيها من انحطاطٍ سياسي وأخلاقي؟.

كان المرشح الديمقراطي الآخر للرئاسة، بيرني ساندرز، يؤكد، في حملته الانتخابية القصيرة، حاجة أميركا إلى إصلاح هيكلي وعميق، يطاول نظامها، والأسس التي يقوم عليها. وحين منعته المؤسسة الديمقراطية، الحزبية والرئاسية، من مواصلة حملته الانتخابية، تصرّفت هيلاري كلينتون وكأن الحاجة إلى إصلاح أميركا انتفت، وتبنت سلوكاً يشبه حكي عجائز الحمامات، جوهره مناقرة ترامب، والنزول إلى مستواه الكلامي و"الرؤيوى"، بينما كان هو يحشد غضب عوام أميركا البيض ضد المسلمين والنساء والسود، وضد الطبقة السياسية الجمهورية/ الديمقراطية ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، ويصوّر نفسه ثورياً مظلوما تنبذه هذه الطبقة، وتتجنى عليه وسائل إعلامها ومراكز أبحاثها، لأنه يدافع عن "القيم الأميركية" الأصيلة.

بهذا السلوك الذي حرّض مشاعر عنصرية ومعادية للآخر والمختلف، استغل ترامب أنانية الفئات الميسورة والشرائح مرتفعة الأجر، ورفضها سياسات أوباما الاجتماعية، وخصوصاً منها تلك التي اتّسمت بشيء من التكافل الاجتماعي كبرنامجه الصحي، وأفاد أيضاً من غياب الفكرة الإصلاحية عن الحملات الانتخابية، ليطرح رؤيته المشحونة بقدرٍ من التعصب والأحكام المسبقة لم تألفه حياة أميركا السياسية من قبل، وأوقظ أحقاد البيض على "ملوّني" أميركا الذين اعتبرهم طفيليين ومعادين لها، سواء كانوا عرباً أم أفارقة أم أميركيين لاتينيين... إلخ. في هذه الأثناء، واصلت حملة كلينتون تجاهل حاجة أميركا إلى الإصلاح، وتعامت عمّا كانت حملة ساندرز قد شهدته من إقبال كثيف للشباب، ومن حماسة سياسية للإصلاح تذكر بحماسة شبان العالم العربي للثورة. وفي حين كان هؤلاء ينتظرون أن تكون استمرارا لساندرز وبديلاً لترامب، وجدوا أنها تشبه خصمها الانتخابي، وإن اختلفت لغتها في هذه الجزئية أو تلك عن لغته، وأنها مستسلمةً لعالم زوجها الذي فات زمانه، ولسياسات أوباما الذي غدا محطّ احتقار أميركي عام، بسبب حكمه العديم الدينامية في الداخل، ولم يحقق أيّ نجاحٍ في الخارج غير استكمال تسليم العراق لإيران الذي كانت قد بدأته إدارة بوش الابن، والموافقة على تدمير سورية بيد الأسد وسادته في طهران، فضلا عن تسليمها وحوض المتوسط الشرقي لروسيا.

هذا الانحطاط في الطبقة السياسية الذي صحبه انحطاط أشد، وعنصري، لدى فئات مجتمعية واسعة، خصوصاً في المدن الصغيرة والأرياف، عبّر عن نفسه في النجاح المباغت والساحق لرجلٍ متهتكٍ وجاهلٍ وعدوٍّ للقيم الإنسانية الذي يتباهى بتصميه على اعتبار الحياة العامة ساحةً تربّح كالذي يطبع عمله في شركاته، وعرف كيف يفيد من "انقسام المجتمع الأميركي الأشد عمقاً مما كنا نعتقد"، حسب اعتراف هيلاري، ومن تجميع التيارات العنصرية المعادية لكل ما هو تقدمي وإنساني، غير محافظ أو رجعي، ومن بيع شعاراته للقطاع البروتستانتي والأبيض والأنغلوسكسوني من الأميركيين، المذعور من كثافة اللونين، الأسود والبني، في الشوارع الأميركية، ويعتقد أن الملونين والمختلفين غزاةٌ، لا بد من مقاومتهم، في حين عزّز نبذ الطبقة السياسية له شعور هؤلاء بانتمائه إليهم وانتمائهم إليه، وزاد من دعمهم له ما تأكّد من افتقاره إلى أية رؤيةٍ تتجاوز أفقهم المحدود والضيق الذي يحمل سمات (وأحكام) الطبقات الحاكمة المسبقة في بلدان (ودول) الليبرالية الجديدة التي يتصل معظمها بصراع الهويات الدينية والمذهبية، وما تطلقه من أدلجة مسيحيةٍ مذهبية الطابع ومعادية للمغاير. وفي الوقت نفسه، من شعارات مناهضة للتنوير ونزعاته الإنسانية، ولقيمه وتسامحه، ما تجسد في أشنع صوره من خلال ما يتعرّض له الشعب السوري من إبادة، وسط إحجام قادة "العالم الحر" عن فعل أي شيء لوقفها، وشعوبه عن تنظيم مظاهرة استنكارٍ واحدةٍ تطالب بوقف إبادته، أقله لأنه لم يطالب في حراكه بغير قيمة القيم التنويرية التي يدّعي العالم الحرّ تمسكه بها: عنيت الحرية التي يُقال إنها مكتسبٌ لكل إنسان وشعب الحق في بلوغه، والمبدأ الذي لا بد أن يخترق الحياة الدولية، ويحظى بقبولٍ عالمي.

والآن، وقد فاز ترامب، يبقى السؤال: هل سيتحدى رثاثته والشرط السياسي/ الاجتماعي الذي أنجب ظاهرته المرعبة، ووضعه على رأس أكبر وأقوى دولة في العالم خلال أشهر قليلة، في واحدةٍ من أسوأ ظواهر الانحطاط السياسي والقيمي التي عرفها التاريخ، بعد هتلر؟ وهل سنواصل، في المعارضة السورية، تجاهل التصدّي للحاضنة التي أنجبته، أم سنبادر، أخيراً، إلى وضع خطةٍ ثوريةٍ بحق، تتحدّى ليس فقط مفارقات انتخابات أميركا، بل كذلك عصر الانهيار والانحطاط الليبرالي الكوني الذي ندفع ثمنه من دمائنا، ويجعل من بوتين ترامباً روسيا، ومن ترامب بوتيناً أميركيا، ومن الأسد مرتزقاً إيرانياً، ومن خامنئي قاتلاً أسدياً، ويعدنا بمواصلة إبادتنا، إذا لم نخرج منه ونتحدّاه بواقعية برامجنا وثورية مواقفنا وتضحيات شعبنا، فلا يكون هناك، عندئذ، أي خوفٍ من دونالد ترامب وأشباهه، لأن قدرتنا على المقاومة ستتصاعد إلى حدٍّ يجعل من الصعب على أي ترامب، روسيا كان أو أميركياً أو أسديا أو إيرانياً، تجاهل حق شعبنا في الحرية والحياة.

اقرأ المزيد
١١ نوفمبر ٢٠١٦
عداوة البغدادي لتركيا والسعودية!

قبل خمسة أيام خرج زعيم «داعش» في تسجيلٍ عبر وسائل إعلام التنظيم، ليطلق، بالمصطلح الكلاسيكي وبمناسبة حرب الموصل: «نداء النفير» أو «الاستنفار العام». في القسم الأول من التسجيل حثّ أنصاره على الصمود، ودعاهم إلى الاستقتال في مواجهة المهاجمين، وأمَّلهم بالنصر والعزّة، أو بالشهادة (إحدى الحسنييْن). لكنه في القسم الثاني، وعندما كان المطلوب تحديد الأعداء الذين يكون على التنظيم الاستماتة في مواجهتهم، مضى باتجاه تركيا والسعودية، باعتبارهما العدوَّ المستهدَف، وليس إيران مثلاً أو الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» المتأيرن. قال إنه سيحوّل أرض تركيا إلى دار حرب، وإنّ المملكة ليست حقيقةً بحماية الحرمين والإسلام، لأنها تُعادي «دولة داعش» وتقاتلها!

لقد استغرب كثيرون هجمة البغدادي المفاجئة على الدولتين السنيتين الكبيرتين بالمنطقة، والسكوت عن إيران؛ بل إنّ كلامه على المملكة، يشبه الكلام الإيراني شبهًا كبيرًا. أما بالنسبة لتركيا؛ فإنّ الأميركيين والروس والإيرانيين ومنذ عام 2014 يتهمون تركيا بمخامرة «داعش»، والتسهيل لعناصره وجرحاه بالمرور ذهابًا وإيابًا. وهو الأمر الذي دفع الروس عندما كانوا مختلفين مع تركيا، للقول إن داعشًا صناعة تركية. بينما أقبل الأميركيون على دعم الأكراد في سوريا لمقاتلة «داعش» بدلاً من الاستعانة بتركيا. ولا يزال الخلاف بين الطرفين قائمًا بعد التدخل التركي المتأخر فيما بين جرابلس والباب.. ومنبج. ولقد عاد الأميركيون أخيرًا فآثروا الأكراد بشرف محاصرة مدينة الرقة واقتحامها، وهذا سببٌ جديدٌ للخلاف التركي مع الولايات المتحدة وحلفائها!

قال لي أستاذ ألماني مختص بشؤون الشرق الأوسط على أثر سماعه البغدادي: «أنتم في محنةٍ بالفعل، فالولايات المتحدة تعتبر المملكة إسلاميةً أكثر من اللازم، و(داعش) يعتبرها إسلاميةً أقل من اللازم. والولايات المتحدة تعتبر تركيا أقل التزاما بمقاتلة (داعش)، والبغدادي يعتبرها العدو الرئيسي لـ(داعش) قبل إيران!».

لقد تناسل «داعش» عن «القاعدة» عبر تطوراتٍ متعرجة ومعقَّدة. وهو، مثل «القاعدة»، انشقاقٌ بداخل الإسلام. وقد قلتُ مرارًا في الدراسات والمقالات الصحافية إنّ الانشقاق إنما ينعكف على أصله الذي انشقّ عنه، ويرمي لإزالته والحلول محلَّه. وهذا يصح في الدين كما صحَّ في الحركات الحزبية والآيديولوجية. فعندما اختلف الصينيون مع السوفيات في أواخر الستينات، أقبلوا على التآمر مع الولايات المتحدة ضد أولئك التحريفيين! كان ماو تسي تونغ يتحدث عن أميركا الإمبريالية باعتبارها نمرًا من ورق، فلمّا اختلف مع الروس على مناطق النفوذ والموارد والمصالح الواقعة بين الطرفين أو بجوارهما؛ صار الروسي هو العدو الرئيسي، وصار الصراع على من يقود الحركة الشيوعية العالمية، إلى حدّ إقبال الصين على دعم ألبانيا الشيوعية المتشددة في وجه التحريفيين الروس!

وبحسب توماس هيغهامر؛ فإنّ بن لادن والظواهري كانا مختلفين في إيثار مجاهدة العدو البعيد أم العدو القريب. ويعتقد هيغهامر أنّ بن لادن هو الذي أخّر مواجهة العدو القريب. لكننا لو تأملنا ما بعد عام 2001، بل وما قبله، لوجدنا أنّ الأمر كان متوازيًا أو مختلطًا. وقد سمعتُ وقرأتُ لـ«القاعدة الأولى» وللزرقاوي ولمفتي «داعش»، وعلى مدى عشر سنوات، كلامًا يقول إن مجاهدة المرتدّين أولى من مجاهدة الكفار والفجار!

نحن مختلفون مع «داعش» حول ثوابت الإسلام، ومختلفون معه بشأن التعامل مع الناس، ومختلفون معه بشأن المصالح والأولويات. فـ«داعش» خرج على ديننا، وكفّر سائر الناس، ومضى لقتلهم وقتالهم. وكنا نسخر من دعاة «حزب التحرير» عندما يسألنا أحد عوامهم: أي الفروض أوجَب؛ الصلاة أم إقامة الخلافة؟! فإذا بـ«داعش» يجعل من «الخلافة» ركنًا من أركان الدين! وكنا نأخذ على الإيرانيين إنشاء التنظيمات الطائفية القاتلة؛ فإذا بـ«داعش» ينشئُ تنظيمًا لا همَّ له غير تقليد الإيرانيين والمتأيرنين في قتلنا وتهجيرنا. ثم ما المصلحة أو المصالح الضرورية للأمة والدين من وراء إقامة سلطةٍ مسخ في المناطق السنية المغلوبة على أمرها في سوريا والعراق، بحيث تصبح هدفًا ليس للأسديين والمالكيين والإيرانيين والأفغان فقط؛ بل وللأميركان والروس والفرنسيين والبريطانيين؟! سمعتُ معلقيْن على إحدى الفضائيات يتجادلان فيمن هجَّر وقتل أكثر من السنة بالعراق؛ «داعش» أم الموالك والإيرانيون والمتأيرنون. وظلا يتضاربان بالأرقام إلى أن ذكر أحدهما سوريا، فانقلب الملفّ لصالح «داعش»، لأن الأسد والإيرانيين والروس قتلوا نصف مليون، وهجّروا اثني عشر مليونًا!

أما الأتراك، فإنهم حاولوا طويلاً ألا يصطدموا بـ«داعش»، وأخذ ذلك عليهم كثيرون، ليس من الدوليين فقط؛ بل ومن العرب والمسلمين. لكنّ داعشًا عندما جرى التضييق عليه على الحدود، انصرف للتفجير في تركيا، وتراجع بسرعة أمام الأكراد بحيث صاروا هم و«داعش» على الحدود التركية، واستعجلوا في إقامة الكيان الكردي، وهو كابوس تركيا الأكثر اسودادًا. ولذلك تدخلت تركيا أخيرًا ضد «داعش» وضد الأكراد، ولولا الإذن الروسي (في مقابل ماذا؟!) لما جرؤت تركيا على التدخل رغم المعارضة الأميركية (!). فكيف تصبح تركيا العدو الرئيسي لـ«داعش»، الذي ينسحب من المناطق التي يهاجمها الأكراد بدعمٍ من طيران التحالف؟! ولو أنّ تركيا تدخلت قبل ثلاثة أعوام كما انتوت، لما ظهر «داعش» ولا ساد الأكراد، ولا نجحت إدارة أوباما في لعبة القط والفأر مع إيران وفي سوريا والعراق!

إنّ الذي أزعمه أنّ مشكلتنا نحن العرب مع «داعش» تتناول الدين والدولة. بينما مشكلة الأتراك معه إنما تتعلق بآيين الدولة، وبالسياسات الاستراتيجية بالمنطقة، ومن ضمنها التنافُس مع إيران. وقد كانت «القاعدة» واضحةً، واليوم «داعش»، في أنّ أعداءهم الرئيسيين هم المملكة والعرب بعامة؛ لكنهم تأخروا حتى اعتبروا تركيا ضمن الأعداء الرئيسيين. وقد كان منطقيًا أن يتلاقى العرب والترك تلاقيًا استراتيجيًا منذ عشر سنوات على الأقل. لكنّ إردوغان آثر صداقة بشار الأسد وخامنئي منذ عام 2004. وعندما راقب حركات الاضطراب العربي عام 2011، راهن على الإخوان المسلمين، وما تحالف مع الخليجيين، إلاّ قطر. وها هم الإيرانيون، وها هم الداعشيون، يعتبرون المملكة وتركيا عدوين لدودين. وهكذا، فإنّ الداعشيين والإيرانيين كادوا يتوحدون في تحديد أعدائهم، لولا أنّ الإيرانيين لا يبحثون عن أصدقاء وحلفاء؛ بل عن عملاء ومرتزقة يستخدمونهم. وقد فعلوا ذلك مع «القاعدة» طويلاً، وها هم يفعلون الشيء نفسه مع «داعش». وقد قال زعيم حركة «النجباء» الشيعية المتأيرنة إنهم يريدون «الثأر» من الموصل وغيرها. وقد مكّنهم «داعش» من ذلك بإنهاك تلك المناطق التي جاء لإنقاذها من الموالك والمماليك الإيرانيين، وها هم الإيرانيون وميليشياتهم يستخدمون الأميركيين في ضرب «داعش»، ويأتون بعدهم للقتل والتهجير بعد أن انتهى توظيفه. ثم ها هو «داعش» يكشف عن أعدائه الحقيقيين: المملكة وتركيا، لأن معهما شرعية الدين، وشرعية الدولة، أما شرعية «داعش» فإنها شرعية قطع الرؤوس وبقر البطون والإحراق، واستعباد النساء واستحياء الأطفال. لقد استجار بكم البعض هربًا من الاستنزاف، فعرضتموهم للقتل والتهجير، وها هم يكادون يتعرضون للإبادة بسبب انصرافكم عن الدفاع عنهم إلى مقاتلة السعودية وتركيا:
المستجير بعمرٍو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنارِ

اقرأ المزيد
١١ نوفمبر ٢٠١٦
ترامب والحلم الأميركي

لا ننكر أننا على صعيد المعارضة السورية سمعنا من هيلاري وعوداً أفضل مما سمعنا من ترامب، لكن تجربتنا مع الإدارة الديموقراطية لم تكن تجعلنا نطمئن إلى الوعود، ولن ينسى العالم أن أوباما أسرف كثيراً في ترديد تصريحه الشهير «على الأسد أن يرحل»، لكن ما فعله في الواقع هو تمكين بقاء الأسد، وتقديم دعم خفي للتنظيمات الإرهابية «داعش» ومشتقاتها بالصمت عليها حتى تكبر وتتمدد! وهي التي حاربت الشعب ووجهت أسلحتها ضد المعارضة الوطنية وجيشها الحر. كما أن إصرار الولايات المتحدة على حظر تسليح الجيش الحر بمضادات الطيران جعل سماء سوريا تمطر وابلاً من القنابل المحرمة والصواريخ التي أبادت الحياة وقتلت البشر، دون أية قدرة على مقاومتها، وهذا ما جعل ملايين السوريين يهربون نازحين بحثاً عن مكان آمن، وقد قتل عشرات الآلاف منهم غرقاً في البحار. كما رفضت الولايات المتحدة إقامة منطقة آمنة تتيح للمدنيين أماناً، وتوقف تدفق الهجرة التي تحولت إلى مشكلة دولية.

وليس سراً أن الولايات المتحدة كانت تدير الصراع، وتدعي أنها تدير مسار الحل السياسي، وقد لبينا دعوتها ودعوة أصدقاء سوريا إلى مؤتمر الرياض في مثل هذا التوقيت من العام الماضي، وعقدنا مع ممثلي الدول التي أطلق عليها اسم «أصدقاء سوريا» عشرات اللقاءات، ووجدنا أن الوزير كيري يريد فقط أن نسافر إلى جنيف وأن نسجل حضوراً. وحين كنا نعلن إصرارنا على تنفيذ القرار 2254، وبخاصة البنود التي حدد القرار كونها مرحلة بناء الثقة وما فوق التفاوض (فك الحصار، إيصال المساعدات، حماية المدنيين، إطلاق سراح المعتقلين وبخاصة النساء والأطفال)، كنا نواجه أجوبة غير منطقية من مثل (ناقشوا ذلك في جنيف)، وكان الهدف تحويل مفاوضات الحل السياسي إلى استجداء لدخول قافلة مساعدات (بعضها يصل فارغاً، وأغلبها يمضي إلى النظام، وبعضها تعرض لهجوم الطيران، كما حدث في أورم الكبرى)! ووجدنا أنفسنا كمن يلاحق وهماً في سيل من التصريحات المتوافقة والمتناقضة في مسلسل (لافروف- كيري)، حتى إن المبعوث «راتني» صارت مهمته ترقيع تصريحات كيري، بينما قال المبعوث الدولي دي مستورا: «نحتاج إلى معجزة إلهية».

لم يكن يغيب عنا أن الضامن الحقيقي لبقاء النظام وتفكيك المعارضة هو هذا الموقف الأميركي الذي فوض بقتل السوريين باسم مكافحة الإرهاب، وطالما رددنا قول أبي الطيب المتنبي «ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدواً له ما من صداقته بدُّ».

ربما هذا ما دفعني إلى أن أقول مرات على قنوات التلفزة إنني أفضل أن يأتي ترامب على مبدأ «إن خيراً فخير، وإن شراً فشر»، ولم يتبق لدى السوريين الكثير مما يخسرونه.

نأمل أن يكون ترامب بعلنية مواقفه أكثر وضوحاً، ونحن نبحث عن حل عادل لقضيتنا رسمنا رؤيتنا الدقيقة له وأعلنا عنها في مؤتمر لندن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعلم ترامب- كما يعلم بوتين قبله- أن تحقيق الانتقال السياسي يعني بدء مرحلة لا وجود فيها لمن ثار الشعب ضد استبدادهم وظلمهم وضد ما ارتكبوا من جرائم إبادة. وأما من لم تتلوث يداه بدم السوريين فقد رحبنا بالتشاركية معه لبناء دولة مدنية ديموقراطية. وقد سمعنا ترامب يتحدث عن حلم أميركا، وبحسب مسؤوليتها كدولة عظمى يجب أن يمتد هذا الحلم القائم على الحرية والديموقراطية، ليشمل الدفاع عن حريات الشعوب وعن حقوقها في الحياة الكريمة، وليس في الدفاع عن آخر وأسوأ الديكتاتوريات في العالم.

اقرأ المزيد
١١ نوفمبر ٢٠١٦
في النقد السياسي للمعارضة السورية

تعد مراجعة التجربة السياسية، والقصد من ذلك المراجعة النقدية، من أهم العمليات التي يفترض بالحركات السياسية القيام بها، في المحطات المختلفة، سواء في المؤتمرات الدورية، أو في سياق العمل اليومي. إلا أن غالبية حركاتنا السياسية، كما نعلم، لم تختبر هذه المراجعات يوماً، بل إنها، كما بينت التجربة، تستنكر أي ملاحظة حول مواقفها، وتأنف أي موقف نقدي لسياساتها وممارساتها، بل إنها قد تعتبر ذلك جزءاً من عملية معادية لاستهدافها، أو لإضعافها.

لذا فإن حركاتنا السياسية بمعظمها للأسف تظن أنها مخلدة، وتمتلك الحقيقة، بل إنها تعتقد أن شعاراتها وخطاباتها تعد من البديهيات واليقينيات، أي فوق النقاش، بدل أن تشجع على عملية التفكير، وبالأخص التفكير النقدي، لذلك فليس غريباً أن نجد أغلب الجماعات الحزبية بمثابة جماعات مغلقة تتمحور حول بعضها، مثل العائلات والعشائر والطوائف، وتلتف حول حركاتها السياسية، في تماه مع الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن الشعب مجرد جماهير ليس لها إلا أن تهزج بشعارات القائد، أو الحزب القائد.

في مواجهة هذا الوضع، من المفيد أن يدخل في إدراكات المنتمين للحركات السياسية، وحتى بعض المعارضين والمثقفين (ومنهم طبعاً الصحافيون) اللامنتمين لأية حركات، أن السياسة تعني المشاركة السياسية، وحرية الرأي والتعبير والتظاهر، وتالياً النقد، وفي أساسه النقد الذاتي، لأن أية حركات سياسية لا تواجه ذاتها ولا تنتقد تجربتها، هي حركات لا تستحق الحياة، إذ إنها تبدو غير واثقة من نفسها، ولا حتى من مسيرتها، فضلاً عن أن ذلك يعني أنها فقدت حيويتها، وقدرتها على التطور والتجديد.

كانت هذه مقدمة ضرورية للتطرق إلى نقد المعارضة السورية ونقد نقدها، إذ واجهتني في نقدي للمعارضة، في المقالات التي كتبتها في هذه الجريدة (وفي غيرها،) بعض المواقف التي أخذت أو استكثرت علي نقدي للمعارضة، بحكم أنني في موقع نائب رئيس «الائتلاف الوطني»، وقد فات هذا البعض أنني مواطنة سورية، قبل أن أكون في هذا الموقع أو ذاك، لذا فمن البديهي أن يكون لي أيضاً موقفي النقدي من المعارضة وكياناتها السياسية وشعاراتها وطرق عملها، علماً أنني حتى قبل أن أكون في أي كيان في المعارضة فأنا كاتبة وإعلامية منذ أكثر من عقدين.

ما أقصده أنه سواء كنا في حزب ما، أو في حركة سياسية ما، لا ينبغي لنا أن نلغي عقولنا، أو أن نلغي ملكة التفكير، بخاصة التفكير النقدي لدينا، وإذا كنا كذلك فما الذي سنضيفه، في هذه الحال، الى الثورة، أو الى عملية التغيير في سورية؟

جاء النقد لمقالاتي النقدية من بعض المنتمين للكيان السياسي ذاته الذي أنتمي إليه (الائتلاف)، ظناً منهم أن هذه الملاحظات ينبغي أن تطرح في الإطار، ما يذكرنا بالأحزاب الشمولية، التي تأنف التغيير وتمنع النقد، وتتحدث عن الالتزام بالأطر، وعدم نشر الغسيل «الوسخ» في الخارج، وهذا يعني تحويل الأحزاب والحركات السياسية الى حركات لزعيم أو لقائد أو لفئة، وتحريم التفكير، والتربية على إلغاء العقل. لكن المفاجأة الأكبر بالنسبة إلي أن مثل هذا النقد جاء من بعض المعارضين، من غير المنتمين لحركة سياسية، إذ استكبر علي هذا البعض نقدي لمؤسسة أنا أنتمي لها، أو لأن لي موقعاً قيادياً فيها، وهذا كلام خاطئ وقاصر، إذ إن نقدي للمعارضة هو جزء من انتمائي للثورة السورية، وجزء من تعبيري عن موقفي كإنسانة وككاتبة، والشجاعة هنا أن أنتقد الإطار الذي أشتغل فيه، بمعنى أنني أحاول أن أنقل أفكاري إلى الفضاء العام، إيماناً مني بالمشاركة السياسية، وبحق الجميع في الاطلاع، ولوضع تجربتنا في موقع الفحص والمساءلة، وأيضاً لتشكيل حالة ضغط شعبية، من خلال توسيع قاعدة الرأي العام التي تشجع على التغيير والتطوير.

طبعاً من حق أي كان أن يفترض أن الموقف الصحيح هو الاستقالة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، في ظروفنا السورية المعقدة: ماذا بعد الاستقالة؟ أو ما هو البديل؟ ثم لماذا لا يكون الأصح أن أستمر في حالة الانتقاد والضغط وصوغ الرأي العام لتطوير الكيان السياسي الذي أشتغل فيه، أو لتهيئة الأوضاع لخلق بديل مناسب له في الظروف المواتية؟ وما أريد أن أنوه به هنا هو أن موقفي من «الائتلاف» ليس جديداً إذ هو قديم، وقبل أن أشغل موقعي كنائب للرئيس في هيئته القيادية، وهذا ما تمكن ملاحظته من هذه المقابلة التلفزيونية المخصّصة لنقد «الائتلاف»، والمسجلة قبل عامين ((https://www.youtube.com/watch?v=0mKG1uJ0fVA)

أود أن أقول إنني أتصرف وفق قناعتي بضرورة إشراك أوسع قطاع من السوريين، وأوسع قطاع من أوساط المعارضة في الرأي، لا سيما الذين يشعرون أن كيانات ومؤسسات المعارضة هي لهم، وتعبر عنهم، ويفترض أن تمثل كفاحهم، بما لها وما عليها، وهذا هو معنى المشاركة السياسية. كما أنني أعتبر أن عملية النقد جزء من العملية الثورية، وجزء من عملية التغيير، أي تغيير وتطوير الأفكار، وهذه مسؤولية كل كاتب ومثقف ضمن الأطر السياسية أو خارجها، وهذه مهمة لا يستهان بها لأنها تسهم في زيادة الضغط على المؤسسات والكيانات السياسية لإصلاح ذاتها وتقويم أدائها وتطوير أوضاعها. أما المراجعات الداخلية فقد تستخدم كوسيلة فقط لصراعات ومنافسات التكتلات داخل الجسم المعارض، وبالتالي كسب أصوات انتخابية تغير في الأسماء أو في الشكل من دون تغيير في المضمون أو الأفكار وأشكال العمل.

على ذلك، فقد كان النقد الذي مارسه كتاب من داخل هذه المؤسسات كميشيل كيلو وفايز سارة، مثلاً، إضافة إلى كتاب من خارج هذه المؤسسات كياسين الحاج صالح وسلامة كيلة وجمال خاشقجي وماجد كيالي وعبد الوهاب بدرخان وعمر قدور وغيرهم، وسيلتنا لإلزام هذه المؤسسات ومنها «الائتلاف»، والضغط عليها، لإصلاح أوضاعها الداخلية، وتوسيع دائرة تمثيل فئات الشعب وإيلاء اهتمام أكبر لقضايا السوريين داخل بلدنا وخارجه. ويأتي بين خطوات الإصلاح توسعة تمثيل المرأة، التي فشل «الائتلاف» بتحقيقها ثلاث سنوات متتالية، ما يفترض مساندتها حتى ولو لم تحقق كل المعايير المطلوبة، لأنها خطوة بالاتجاه الصحيح. المشكلة أنه بدلاً من ذلك فاجأنا البعض بالأحكام المسبقة والمتسرعة عليها بالفشل تارة وبأنها مجرد أدوات تزيينية (ماكياج)، من دون إعطائها فرصة التعبير عن نفسها. والمؤسف أن يكون هذا البعض طالب مراراً بالتوسعة، لكنه عند إنجازها قلل من شأنها بدل الحضّ على تطويرها، كي تكون المرأة شريكاً فاعلاً في صناعة القرار سواء الآن أو في المرحلة الانتقالية، وخلال صياغة كل وثائق سورية التي نريد، كالدولة الديموقراطية التعددية، دولة المواطنين الأحرار المتساوين.

اقرأ المزيد
١٠ نوفمبر ٢٠١٦
الأسد «المنتصر» إذ يتوقّع من الغرب أن يكافئه

لم يكن صحافيون أميركيون وبريطانيون يدركون أن إعلامهم كان مضلِّلاً للرأي العام، في شأن الأزمة السورية، الى أن أُتيحت لهم فرصة مقابلة رئيس النظام بشار الأسد. وقد بدوا، وفقاً لما نشروه، كأنهم تعرّفوا أخيراً الى «الحقيقة» من فم القاتل مباشرة، وقد كان حريصاً على أن يصحّح مفاهيمهم، مروّجاً عبرهم للمرّة الألف رواية أن كل مَن يقاتله هو «إرهابي» بالضرورة، حتى الذين قضوا تعذيباً في سجونه وصوّرهم «قيصر» قبل أن ينشقّ ويغادر سورية. كانت لدى الأسد أخبار كثيرة يكشفها للمرّة الأولى أمام هؤلاء الإعلاميّين، إذ علموا منه مثلاً، أنه ينوي البقاء في منصبه حتى انتهاء ولايته سنة 2021، وأنه «الرئيس» لكنه «ليس مسؤولاً شخصياً» عما حصل في سورية ولسورية. من المسؤول إذاً؟ «إنها الولايات المتحدة»... ماذا عن إيران وميليشياتها، ماذا عن روسيا؟ لا الأسد تحدّث عن حليفَيه، ولا ضيوفه ألحّوا في السؤال، لذلك قالوا أنهم قابلوا رجلاً «مطمئناً»، حتى أنه لم يهاجم تركيا والسعودية كعادته، بل ترك ذلك لـ «أبو بكر البغدادي» الذي بدا كمن يبثّ، قبيل سقوط «خلافته» في الموصل، كلمة أُعدّت له في طهران.

كان ذلك اللقاء بكل تفاصيله من أسوأ لحظات الصحافة، تحديداً في نقطتين: الأولى، أنه أتاح للأسد أن يسخّف اتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن يستخدم فائضاً من السفسطة لردّ الاتهامات الى دول الغرب وإعلامه بأنهما يميّزان بين «جرائم إرهاب» (يقترفها تنظيم «داعش») و «جرائم الحرب» (يقترفها النظام باعتباره «الدولة»)، في حين أنه لا يرى سوى إرهابيين في مواجهة أنصاره. كان الأسد واثقاً بأن الإعلاميين الأجانب الذين يخاطبهم تناسوا أو تجاهلوا مثله عشرات المجازر التي نفّذتها قواته قبل ظهور «الإرهاب الداعشي» الذي لم يعد الغرب يرى سواه في سورية. كان واثقاً أيضاً بأن هؤلاء الإعلاميين جاؤوا للاستماع إليه أكثر مما جاؤوا لطرح أسئلة تشتبه بدور للنظام وحليفه الإيراني في تمكين «داعش» من السيطرة والانتشار، بل إن استخدام السلاح الكيماوي، وهو جريمة حرب مثبتة، لم يستحق أي تنويه على رغم تأكيدات التحقيق الدولي الذي تتعامل معه روسيا بكل ديماغوجيتها لتمييعه ومنع مجلس الأمن من إدانة نظام الأسد.

النقطة الأخرى تتعلّق بالتغيير الديموغرافي الذي أصبح واضحاً أن الأسد يعتمده لضمان مستقبله وإدامة وجود حليفه الإيراني في سورية. فالعبارة التي مرّت في تقرير «نيويورك تايمز» نسبت الى الأسد القول بأن «النسيج الاجتماعي أصبح أفضل مما كان سابقاً». وتفسير ذلك أن سياسة الحصارات التجويعية هي التي أتاحت التطهير المذهبي الذي أدّى بدوره الى «تنقية» النسيج الاجتماعي في مناطق لم يبلغها «داعش» ولا أي تنظيم إرهابي معروف، وأن الأسد يعتبر إخلاء أي مدينة وبلدة من سكانها «انتصاراً» حقيقياً، فيما يتولّى الروس والإيرانيون من جهة والأميركيون من جهة أخرى، محاربة الإرهاب الذي كان له ولحليفه الإيراني الدور الأكبر في تصنيعه واجتذابه، سواء لتعزيز «شرعية» النظام أو لإضفاء «شرعية» على التدخل الإيراني. ففي الأعوام الثلاثة الأولى من الأزمة، كان التركيز على «المؤامرة الكونية»، وبعدها تحوّل الى «محاربة التكفيريين». بل إن ما يفسّر التغيير الديموغرافي هو ببساطة ما يتوارد الى أهالي داريا والمعظمية والزبداني وغيرها من مدن الغوطة، وهم في «المنفى» الإدلبي، من أن شيعةً عراقيين ولبنانيين وأفغاناً استُقدموا للسكن في ما تبقّى من منازل كانت لهم.

كان هذا اللقاء مع صحافيين أجانب مختلفاً عن لقاءات سابقة، إذ واكب مؤتمراً نظمته «الجمعية البريطانية - السورية» التي يرأسها والد زوجة الأسد، بهدف البدء بتلميع النظام ورئيسه استناداً الى أنه باقٍ في منصبه وأن الدولة والحكومة موجودتان ويحسن التعامل معهما بالنسبة الى المستقبل. هذه هي الرسالة التي أراد الأسد إطلاقها، وتولّى وزير خارجيته وليد المعلم صياغتها بأن «من شأن الغرب أن يعيد التفكير في سياساته»، وإذا فعل فإن حكومة النظام سترحب بذلك وإنْ كانت لا تتوقع تعاوناً من جانب الولايات المتحدة. غير أن النظام يتطلّع الى تعاون غربي معه باعتبار أنه حقّق «الانتصار» أو اقترب منه، ولذلك يحسن أن يبدأ التفكير والتخطيط لـ «ما بعد الانتصار». ولدعم هذا التوجّه، قال الأسد: «حتى اللحظة، لا يزال لدينا حوار من خلال قنوات مختلفة، حتى مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني التخلي عن سيادتنا وتحويل سورية إلى دولة دمية». كان الأفضل أن يسأل حليفتيه روسيا وإيران عما تعتقدانه في شأن «الدولة الدمية»، وكذلك عما آلت إليه «الدولة» و «الحكومة» وحتى المؤسسة العسكرية. بل كان الأفضل أن يسأل على الأقل العسكريين الأكثر موالاةً له عما يعتقدونه في شأن «السيادة»، خصوصاً أنه حوّل ضباطه وجنوده الى منسّقين وعاملين تحت الإمرتين الروسية والإيرانية، وجعلهم حتى في مناطق النظام تحت رحمة ميليشيات محلّية يتنازعها الروس والإيرانيون كسباً لولائها وتعاونها معهم.

ينطلق الأسد في فهمه الأزمة السورية، من أن الولايات المتحدة أرادت تغيير نظامه لأنه «لا يتناسب مع معاييرها»، وطالما أن هذا الهدف لم يتحقّق فلا يعني ذلك سوى أنه انتصر، بدليل أنه لا يزال في منصبه، تماماً كما اعتبر صدام حسين أنه انتصر في حرب الخليج الثانية (1991) لمجرّد أنه ونظامه بقيا على رغم الدمار الكبير للعراق. وبالتالي، يراهن الأسد على أن الغرب سيذعن للواقع، وسيستأنف العمل معه بـ «معاييره». المفارقة أنه قد لا يكون مخطئاً، فهناك في الغرب مَن هو مستعد لبيع القيم التي يدّعي الدفاع عنها لقاء الأوهام التي يعرضها الأسد عليه، وعلى رأسها أن الإرهاب ومحاربته كافيان لمحو جرائم النظام ونسيانها، وأن وجود «دولة الأسد» يقدّم السيناريو الأفضل بديلاً من الفوضى العارمة في حال سقوطها. ثم إنه يلوّح بـ «تغييرات سياسية» وبـ «عهد جديد من الانفتاح والشفافية والحوار»، بعد الانتصار. أي أنه كان «مضطراً» لإسقاط أكثر من مليون سوري بين قتيل ومعوّق ولجعل أكثر من نصف الشعب بين مهجّر في الداخل ولاجئ في الخارج ليصبح جاهزاً للتغيير (متخلّصاً من ثلث الشعب السوري) وللحوار (مع ذاته) وللانفتاح بإسكان لبنانيين وعراقيين وأفغاناً في بيوت السوريين الذين شرّدهم.

ربما يستند الأسد في توقعاته الغربية، الى ما أسداه من خدمات ينتظر أن يُكافأ عليها، ويمكن إجمالها في ثلاث:

أولاً، إنه يعلم يقيناً أن واشنطن لم تسعَ يوماً الى إسقاطه، بل إنها بذلت كل ما تستطيعه لمنع المعارضة من تشكيل تهديد حقيقي له أو لنظامه، سواء في تفاهمات كيري - لافروف أو في تفاهمات كيري - ظريف أو في تفاهمات أميركا - إسرائيل التي ألحّت فيها الأخيرة على حماية النظام وعدم تسليح المعارضة طالما أن الأسد يقوم بما يتوجب عليه حتى من دون أن يُطلب منه، بدءاً بتحويل الأزمة الى مواجهة مع الإرهاب، مروراً بتوريط إيران و «حزب الله» اللبناني واستنزافهما، ووصولاً الى توريط روسيا.

ثانياً، إن الأسد قدّم الى أميركا وإسرائيل هدية استراتيجية لا تقدّر بثمن، إذ استطاع في نظرهما أن يقدّم نموذجاً «عربياً» إجرامياً قلّد من جهة صدام حسين وتخطّاه بقدرته على نسج تحالفات تمكّنه من البقاء، كما قدّم من جهة أخرى كل المسوّغات اللازمة لـ «شرعنة» الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أو على الأقل لإضعاف قضية الشعب الفلسطيني سواء بالنسبة الى حقوقه المشروعة أو لاعتبارها القضية العربية المركزية.

وثالثاً، إن مساهمة الأسد في إضعاف سورية الى حدّ تفكيكها، تمثّل للأميركيين والإسرائيليين ذروة توقعاتهم الاستراتيجية، إذ إنها تتيح لهم مراجعة خرائط الشرق الأوسط وإعادة تخليق العالم العربي وعلاقاته وتحالفاته. فالسقوط السوري والدور الإيراني فيه يقدّمان فرصاً لمدّ الاضطراب الى دول أخرى، واستغلال الصراع العربي - الإيراني لتعميم الاضطراب في المنطقة. ولعل هذا ما يشار إليه اليوم بـ «الموجة الثانية» من «الربيع العربي»، وإذا حصلت فلن تكون لها هذه المرة أي علاقة بطموحات الشعوب.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان