تزامن العرض العسكري الذي أجراه «حزب الله» في مدينة القصير السورية بآليات عسكرية تبين أن بعضها يعود إلى الجيش اللبناني، مع انتشار فيديو روسي عالي الدقة ُصّور من الجو، يوثق الدمار الهائل الذي أصاب مدينة حمص نتيجة القصف السوري ¬ الروسي المزدوج عليها. حمص، التي تعتبر اليوم جبهة هادئة نسبيًا مقارنة بحلب على سبيل المثل، تحظى باستعراض بري وآخر جوي قد يعتبران خارج السياق الميداني الساخن للمعارك. لكن الواقع أن رمزية حمص في سياق الثورة السورية لم تخُب بعد، كما أن قمع التظاهرات فيها ثم «إخضاع» ما بقي من جيوب مّتقدة عبر اتفاقات وقعت بسلاح الحصار والتجويع، يقدم بصفته «قصة نجاح» لكل من «حزب الله» وروسيا في اصطفافهما إلى جانب النظام السوري. اللافت أن الغائب الأبرز عن استعراض العضلات ذاك هو الجيش السوري (النظامي) ذاته، أو أي رمز من رموز «الدولة» التي هب الحليفان اللبناني والروسي لنصرته. والحال أن الفيديو الذي يعبر مساحات ومساحات من الركام، ويتوقف عند معالم أساسية تحمل رمزية كبيرة لأهل حمص ومجتمع الثورة السورية الأوسع، يوحي للوهلة الأولى بأن المشاهد تلك هي من برلين ما بعد الحرب العالمية الثانية. برلين التي دمرتها أيضًا الآلة العسكرية السوفياتية انتقامًا للنينغراد، وللقضاء على النازية، أو ما يمكن تسميته اليوم «إرهاب» ذلك العصر. لا يفوت المشاهد أن إقامة ذلك التوازي البصري بين المدينتين متعمد ومقصود. فلا محاولة لإخفاء هول ما جرى ولا مبادرة لتجميله أو نكرانه عبر رصد حياة طبيعية رغدة تدور في أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث يصور حياة الليل وحركة الأسواق وارتياد الشواطئ بوتيرة عادية. على العكس تمامًا. هنا، ثمة من يقول لنا متباهيًا: انظروا جيدًا إلى ذلك الدمار، تحسسوا هوله. إنه ما فعلناه بأيدينا وإرادتنا، بل ما «أنجزناه» وما نحن مستعدون للمزيد منه. يقدم الفيديو الروسي مشاهد الدمار في حمص، بصفتها «إنجاز الضرورة» الذي يمهد لبارقة أمل بحياة جديدة بعيدًا من تهديد «الإرهابيين»، تمامًا كما كانت عليه الحال في برلين ذات حرب في القرن الماضي. فهل كان ممكنًا مث ًلا دحر النازية عن أوروبا لولا «إنجاز الضرورة» ذاك؟ الرسالة التي يحملها الفيديو واضحة، لا مواربة فيها. هناك من يقول للعالم: فعلناها في ألمانيا لوقف «الإرهاب النازي»، ونفعلها اليوم في سورية لوقف «الإرهاب الديني»، ونحن مستعدون لتكرارها حين تدعو الحاجة. وتحمل تلك الرسالة التي تسعى موسكو إلى تصديرها بشتى الوسائل الديبلوماسية والعسكرية والإعلامية، وزنًا إضافيًا على مشارف عهد رئاسي جديد في واشنطن، وضع نصب عينيه «استعادة مجد أميركا». فهناك في موسكو َمن يذكر بتحالف العدوين اللدودين في الحرب العالمية الثانية، للقول أنه من غير المستحيل استعادة ذلك المجد عبر تحالف ظرفي جديد اليوم، في سياق الحرب على الإرهاب. وإلى ذلك، فإن العرض العسكري الآخر، الذي أجراه «حزب الله» في القصير، يحمل رسالة إيرانية واضحة ومتعددة الاتجاه هذه المرة. فهي أو ًلا تأكيد جديد لأن معركة القصير كانت «إنجازًا ضروريًا» في سياق تجفيف منابع الإرهاب وتأمين الطريق نحو «سورية المفيدة»، ولكن أيضًا نحو «لبنان المفيد». فلا يجدي كثيرًا اليوم تأكيد المؤكد من أن «حزب الله» أثبت مرة أخرى أنه امتداد للحرس الثوري الإيراني، وأن ولاءه ليس لبنانيًا، وغير ذلك مما بات ماضيًا معروفًا يفاخر به الحزب أكثر مما ينكره. الجديد ربما، هو في الدور الذي سيناط بلبنان تحت حكم «حزب الله» المطلق وفي عهد رئاسي جديد ما كان ليبصر النور لولا موافقة الحزب ومظلته الراعية. كيف يمكن جعل لبنان هذا مفيدًا، لا بل أكثر إفادة، لـ «سورية المفيدة» تلك؟ ذلك هو التحدي الذي ترفعه مشهدية القصير التي تظهر شريطًا كام ًلا من الحدود السورية ¬ اللبنانية المشتركة وقد باتت تحت سيطرة الحزب الكاملة، لا سيما أنها استعانت بآليات عسكرية يعتقد أنها تعود إلى الجيش اللبناني حصل عليها هو من منحة أميركية. وإذ ّ ؤ، لا يمكن اعتبار المسألة هفوة أو زلة قدم سارعت قيادة الجيش إلى إصدار بيان نفي وتبر من الحزب في أي شكل من الأشكال. إنها رسالة إيرانية واضحة تقول فيها للإدارة الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب على الإرهاب» في سورية فحسب، وإنما في سياق أوسع يشمل المنطقة كلها. وهي بذلك تحذرها من دعم جيش في المنطقة قد يقف في وجه حلفائها وأذرعها العسكرية، أو يكون قراره وولاؤه لغيرها، سواء في بلد هائل كالعراق، أو في حرب مستعرة كسورية، أو حتى في خاصرة رخوة كلبنان. وليس من قبيل المصادفة الآن أن يعارض «حزب الله» أي تشكيلة حكومية لا يكون فيها وزير الدفاع (وبالتالي صلاحيات تعيين قائد الجيش) من حصته المباشرة. استعراض عسكري هنا، وإشهار مسؤولية عن دمار شامل هناك، ومفاوضات معلنة لتقاسم السلطات ومراكز النفوذ، وغير ذلك من إشارات تسلط القطبين الإيراني والروسي على المنطقة حتى لم يبق دور، أي دور، للنظام السوري أو «مؤسساته» المزعومة التي جاء الجميع بذريعة الدفاع عنها والحفاظ على «المفيد» منها.
"خذوا مثلاً من إسرائيل، حين يكون المقصود محاربة الإرهاب، فإنها لا تتراجع أبداً، دائماً تحارب حتى النهاية، وهكذا تحافظ على البقاء. لا يوجد بديل آخر. علينا المحاربة. إذا واصلنا التراجع سنخسر دائماً".
الكلام السابق هو للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف الأساسي لمحور الممانعة اليوم. وهو الكلام الذي مرّ سريعاً في التحليلات ونشرات الأخبار، من دون أن يثير الانتباه بما يكفي لدلائله عربياً، وهو فعلاً لا يثير الانتباه كثيراً، حين يُقرأ روسياً، إذ لطالما كان بوتين حليفاً رئيسياً للكيان الصهيوني. إلا أنّ قراءة الكلام عربياً، من ناحية محور الممانعة من جهة، ومن ناحية العقل العربي وطريقة التفكير بما يحدث حولنا من جهة ثانية، تكشف الكثير عما لا يقال ولا يفكّر به، عن المسكوت عنه في ثقافةٍ لا تزال تسكن في مفازاتها المفارقة للواقع.
الممانعة بأكملها اليوم (إيران، النظام السوري، حزب الله، الحوثيون، باعتبارهم يرفعون يافطة محاربة إسرائيل أيضاً)، وتنظيمات فلسطينية وعراقية، تقف اليوم في الخندق نفسه إلى جانب بوتين في محاربة "الإرهاب" في سورية، وفق الطريقة الروسية التي تعتمد المنهج الإسرائيلي وتشيد به، وهو ما عبّر عنه بوتين بالقول: "أنا أسمع دائما حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟ هل يمكننا ترك هذا التنظيم الإرهابي على حاله، أم يجب سحقه وإخراجه من خلال بذل جهود لتقليص عدد المدنيين المصابين؟"، الأمر الذي يعني، وحرفياً، أنّ محور الممانعة يطبّق استراتيجية إسرائيليةً في سورية لمكافحة الإرهاب، وإذا أضفنا إلى قتل المدنيين، واتهام الثورة والشعب السوري كله بالإرهاب، وتعميم سياسة الخوف والطائفية... إذا أضفنا إلى هذا التهجير الديموغرافي الممنهج الذي يقوم به حزب الله وروسيا وإيران في سورية، في تشابهٍ مع عملية تهجير الفلسطينيين، وتشريدهم في بقاع الأرض (هم يشرّدوا مرة أخرى من سورية على يد الإسرائيليين الجدد)، فنصبح أمام تشابهٍ مطلق مع السياسة الإسرائيلية، منذ بداية تكوّنها، وهو الأمر الذي توّج، أخيراً، باستعراض عسكري فج وسقيم، في تحدٍّ واضح لإرادة السوريين وكرامتهم المهانة، وفي تماهٍ مع سلوك المستعمرين عبر التاريخ، الأمر الذي يعرّي الممانعة كلياً، ويوحّدها مع منطق عدوها، فتصبح هي هو. هذا ما تقوله الوقائع حرفياً، بعيداً عن الأدلجة، بما يعني ذلك أنّنا أمام اعترافٍ ممانعٍ بصحة ما تقوله إسرائيل عن محاربتها "الإرهاب الفلسطيني" من جهة، وأنّ هذه الحرب ستسحق المدنيين، إلى أن ننتصر على هذا "الإرهاب" أو لا بأس أن يذهب ضحايا مدنيون في سورية، في سبيل تحقيق الهدف الأكبر، أي سحق "الإرهاب السوري"، كما تفعل إسرائيل في سحق "الإرهاب الفلسطيني".
إلا أنّ وصف الممانعة بالأسرلة، وفق الكلام السابق، يبدو ثقيلاً على اللسان العربي، ما يوصلنا إلى أزمة العقل العربي وطريقة تفكيره، فهو عقلٌ ما زال أسير إيديولوجياته ومحرّماته ومقدّساته، يستقي منها أفكاره، قبل أن يقرأ الوقائع. ولهذا، يحجم عن قول الحقائق استناداً لما هي عليه، بقدر ما يقولها مواربةً أو استناداً إلى شيء سابق، وهو أمر يعود جذره إلى مرحلة الاستعمار، حيث الأجنبي أو المستعمر أو الآخر (في الذهنية العربية) أشدّ فتكاً وإجراماً من الأخ أو القريب. ولهذا، يبدو المستعمر أكثر رجماً وشيطنةً في ثقافتنا من المستبد أو "الأخ المجرم" (إذا استثنينا الكواكبي)، إذ تستسهل ثقافتنا رفع السلاح بوجه المحتل، في حين أنها تداور وتناور، حين يتعلّق الأمر بمستبدٍّ تكون جرائمه أشدّ، وبما لا يقاس بجرائم المستعمر نفسه. العقل هنا ينظر لطبيعة المجرم ولونه، لا للجريمة، فالأصل عنده أنّ جريمة الأخ أقلّ وطأةً من جريمة الغريب، وهو عقلٌ لا شك في أنّه ما زال يقيم في عصر ماضٍ. ولهذا، يصعب على العقل العربي أن يقول إنّ تصرفات الممانعة هي إسرائيلية في سورية، وهو ما قاله بوتين بوضوح، لأنه بعيد كل البعد عن حساسيات (وقيود) ثقافتنا التي أغرقها الصراع العربي الإسرائيلي (وهو صراع حق في نهاية المطاف، لأنّ إسرائيل دولة عنصرية ومحتلة) بقيودٍ ومحرّماتٍ كثيرة وضعتها سلطات الممانعة وأحزابها، لكي تمرّر سياساتها، وفي مقدمتها سياستها الإسرائيلية/ الإيرانية/الطائفية في سورية.
مطلع هذا الأسبوع، اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب ليهنئه على الثقة الشعبية التي نالها، ويؤكد له استعداده للتعاون معه في مختلف المجالات. وعلقت موسكو على الاتصال الهاتفي بالقول أن هذه الخطوة تمهد للقاء شخصي بعد 20 كانون الثاني (يناير) 2017، أي موعد دخول ترامب الى البيت الأبيض، ونهاية عهد أوباما.
والمؤكد أن عبارات الإعجاب بالرئيس بوتين، التي كررها ترامب أثناء حملته الانتخابية، هي التي شجعت سيد الكرملين على الاتصال به، وإبلاغه قرار الانفتاح والتعاون. وذكرت الصحف الروسية أن الرئيسَيْن أشارا في حديثهما المقتضب، الى جعل سنة 2017 بداية مرحلة الانفراج الدولي.
الحكومة البريطانية لا تخفي قلقها من حدوث تقارب روسي - أميركي ربما يكون الشأن السوري أول اختباراته، خصوصاً بعدما باشر ترامب إطلالته الإعلامية الأولى هذا الأسبوع، عبر حديث أجراه مع صحيفة «وول ستريت جورنال». وقد رسم من خلال هذا الحديث، خطاً سياسياً مختلفاً عن الخط التقليدي الذي التزمته الإدارات السابقة. وقال صراحة أن إدارته ستركز ضمن أولوياتها على إنزال الهزيمة بتنظيم «داعش» بدلاً من السعي الى إسقاط نظام بشار الأسد.
ومثل هذا التصور الانقلابي يخالف تصور رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، التي تتهم الأسد بارتكاب جرائم ضد شعبه. واستناداً الى هذه القناعة، فهي تطالب الأسرة الدولية بإعادة بناء مستقبل سورية من دون الرئيس الأسد، الذي تعتبره مسؤولاً عن مقتل 400 ألف مواطن وتهجير 7 ملايين نسمة. لذلك، طلبت من وزير خارجيتها بوريس جونسون السفر الى واشنطن، بهدف التعرف الى الأعضاء الجدد في إدارة ترامب، لعله ينجح في إقناعهم بتبني موقف لندن من التطورات الجارية في الشرق الأوسط.
وتنظر الحكومة البريطانية الى مواقف ترامب بطريقة لا تختلف عن سائر الحكومات الأوروبية. أي أنها ترى فيه رئيساً متقلباً في قراراته، عفوياً في تصريحاته، الأمر الذي يؤدي الى عجز المحللين عن استكشاف توقعاته، خصوصاً أنه تجاهل الأسماء البارزة في الحزب الجمهوري أثناء التعيينات، واختار معاونين يفتقرون الى الخبرة والحنكة... على الأقل حتى الآن.
يوم الاثنين الماضي، حدث على الجبهة السورية ما يؤكد نظرية التعاون بين بوتين وترامب. إذ شنت القوات الروسية حملة واسعة في البر والجو والبحر، عقب الانتهاء من حديث طويل على الهاتف بين الرئيسَيْن. ووصف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الغارات الصاروخية التي استهدفت شرق حلب ومواقع تدريب قوات المعارضة بالقرب من إدلب وحمص، بأنها مظهر من مظاهر التعاون على محاربة الإرهاب، علماً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، كان يتدخل لوقف القصف بحجة حماية المدنيين.
وكما شكل انتخاب ترامب حدثاً سياسياً غير متوقع، كذلك شكل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للبنان خرقاً لجمود سياسي استمر نحو سنتين ونصف السنة.
وبما أن «حزب الله» لعب دوراً كبيراً في عملية الانفراج، فقد اعتبرته وسائل الإعلام الرسمية في إيران في مثابة القوة الدافعة التي تقود لبنان من الوراء. وعلقت صحيفة «كيهان»، الناطقة باسم المرشد الأعلى علي خامنئي، في افتتاحيتها تقول: النصر التاريخي لـ «حزب الله» في لبنان. ونشرت في صدر صفحتها الأولى صورة السيد حسن نصرالله وهو يستقبل الرئيس ميشال عون. وكان ذلك في مثابة مؤشر إلى العلاقة الوثيقة التي ستحظى بمباركة طهران. وبسبب الأهمية الاستثنائية التي يوليها خامنئي لدور لبنان على المتوسط، فقد أرسل الى بيروت وزير الخارجية محمد جواد ظريف، كبير المفاوضين في الاتفاق النووي.
وحرص ظريف، بعد زياراته المسؤولين اللبنانيين، على حضور «مؤتمر الفرص الاقتصادية بين إيران ولبنان». كما ألقى كلمة شدد فيها على أهمية التعاون الوثيق، والعلاقات الاقتصادية الصلبة، مع وعد بتذليل الصعوبات من أجل خلق فرص استثمارية بين البلدين.
رئيس «اللقاء الديموقراطي» اللبناني النائب وليد جنبلاط، دعا مختلف الأطراف الى التقاط اللحظة التاريخية التي سمحت بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. كذلك، طالب عون وسعد الحريري بضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، ملمحاً الى تعليقات بعض السياسيين الذين وصفوا ميشال عون بأنه رئيس لم يُصنَع في لبنان، وبأن هذه الصناعة لم تحصل في يوم من الأيام.
في الوقت الذي انشغل اللبنانيون بمتابعة أخبار التشكيلة الحكومية، كان «حزب الله» يقدم عرضاً عسكرياً في بلدة القصير السورية لمناسبة «يوم الشهيد»، نفذته عناصر تابعة لـ «قوات التدخل».
وظهرت في العرض دبابات وناقلات جنود ومدفعية ميدان وشاحنات تحمل قاذفات ثقيلة. وتمثّل الأمين العام في هذا العرض برئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله»، هاشم صفي الدين، الذي ألقى كلمة أشاد فيها بالنظام السوري، وتعهد الدفاع عنه.
وكان من الطبيعي أن يتبارى خصوم الحزب، في لبنان والخارج، حول تفسير الغايات السياسية والعسكرية التي تتوخاها قيادة «حزب الله» من وراء العرض فوق الأرض السورية.
واتفق المحللون على اعتبار هذا العرض العسكري مرتبطاً بمستقبل العلاقات الأميركية - الروسية - الإيرانية، وما قد تفرضه الترتيبات الدولية المقبلة من متغيرات على أرض الواقع. خصوصاً أن عهد ترامب يؤذن بنهاية مرحلة دامت من 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 - أي منذ تدمير جدار برلين - حتى اليوم.
ويُستدَل من فحوى الحديث الهاتفي الذي جرى بين الرئيسَيْن الروسي والأميركي، أن بوتين يطمح الى جعل ترامب شريكاً في المحادثات المتعلقة بدور الحلف الأطلسي ومستقبل أوكرانيا ورسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، وإبرام اتفاق حل الدولتين بين الفلسطينيين وإسرائيل.
مستشار الرئيس الأميركي المنتخب للشؤون الخارجية وليد فارس، اختصر موقف ترامب من مسألة أزمة لبنان المستعصية منذ 1990 على الشكل التالي: يعتقد ترامب أن التسوية المطلوبة تبدأ من تنفيذ القرار 1559، الذي يدعو الى تجريد كل الميليشيات والقوى المسلحة غير الحكومية من أسلحتها، سواء كانت «حزب الله» أو المنظمات الفلسطينية. وقد صدر قرار الأمم المتحدة، الذي أيَّده في حينه العماد ميشال عون، سنة 2004.
واتفق المحللون على اعتبار العرض العسكري الذي أقيم في القصير السورية عملاً مرتبطاً بمستقبل العلاقات الروسية - الأميركية - الإيرانية، وما قد تفرضه الترتيبات الدولية المقبلة من متغيرات على أرض الواقع.
استباقاً لكل محاولة قد تُقْدِم عليها الإدارة الأميركية الجديدة، إن كان مع روسيا أو مع نظام بشار الأسد، فإن عرض «حزب الله» كان أشبه بتظاهرة مسلّحة بهدف إقناع الدول المعنية بأنه يمثل قوة إقليمية يجب أخذها في الحسبان.
ومن المؤكد أن اختلاف وجهات نظر الدول الأجنبية حول تصنيف «حزب الله» أعانه على زعزعة المواقف الملتبسة لغالبية الدول. ذلك أن الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وهولندا تعتبره منظمة إرهابية مثل «القاعدة». في حين تحصر بريطانيا ونيوزيلندا هذا التعريف - أي الإرهاب - بالجناح العسكري للحزب. وبين هذا وذاك، تضع أستراليا «منظمة الأمن الخارجي» للحزب على قائمة الحظر. أما دول الاتحاد الأوروبي، فقد عجزت عن الاتفاق على تحديد موقف موحد، الأمر الذي ترك حرية القرار لكل دولة على حدة.
ومثل هذه البلبلة تعزز مكانة المختلفين على شرعية عمل «حزب الله» الذي انزلق بالمسيحيين والسنّة والدروز الى انعزالية لم تعرفها هذه الطوائف منذ زمن بعيد. لذلك، اعتبرت قرارات الحزب، غير المنظورة وغير المنشورة، مجرد هيمنة. وعليه، يرى المراقبون أن تشكيل حكومة اتحاد وطني لن يكون أمراً سهلاً مثل انتخاب رئيس الجمهورية!
لا يمر يوم من دون أن يقتحم الوضع الإقليمي في تقلباته وأحداثه الخطيرة، المشهد السياسي اللبناني، على رغم أن التسوية التي قضت بإنهاء الشغور الرئاسي استندت، بين أمور عدة، إلى السعي «لإبعاد لبنان عن الصراعات الخارجية»، وفق ما قال الرئيس ميشال عون في خطاب القسم في 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
أحدث مظاهر الاقتحام الإقليمي للسياسة الداخلية اللبنانية، كان العرض العسكري بالآليات المدرعة لـ»حزب الله» في مدينة القصير السورية آخر الأسبوع الماضي، والذي لقي ردود فعل محلية وخارجية ما زالت تفاعلاتها مستمرة.
فهذه التسوية التي قال مريدو الرئيس عون في سدة الرئاسة أنها صُنعت في لبنان، لا بد من أن تمر في اختبارات شبه يومية لمدى قدرة أصحابها على تحييد لبنان عن حروب المنطقة وانخراط «حزب الله» فيها بصفته جسماً إقليمياً تعلو هويته وأدواره على هويته المحلية، كقوة راجحة في طائفته التي تشكل أحد المكونات الرئيسة للنسيج اللبناني المعقد.
يرمز العرض العسكري للحزب في القصير إلى الكثير، ويكرس تفوّق علاقته بالإقليم على وزنه الداخلي. وإذا كان البعض ما زال يشكك في رسم جديد لخرائط المنطقة وتحديداً لسورية المدمرة، بحجة أن ما يجري في بلاد الشام هو مناطق نفوذ موقتة، فإن استعراض القوة الذي تخللته مسيرة المدرعات التابعة للحزب، يثبت أن الحزب كرس اقتطاعه منطقة نفوذ تمتد من البقاع اللبناني الشرقي إلى الغرب السوري يتيح له حرية الحركة نحو الغرب الجنوبي لسورية، ونحو غربها الشمالي عبر حمص المدمرة، وصولاً إلى حلب، التي يعد التحالف الروسي- الإيراني - الأسدي بالسيطرة عليها قريباً لتعمل فيها أيضاً سكين التغيير الديموغرافي مثل غيرها. لكن المنطقة الغربية السورية المحاذية للبنان، باتت مساحة نفوذ واحدة مع المساحة اللبنانية الشرقية لـ «حزب الله»، تلغي الحدود بين البلدين لتبقى ممرات العبور لقوات الحزب متاحة من دون أي عائق. إنها نسخة طبق الأصل عن إلغاء الحدود بين العراق وسورية من جانب «داعش» عام 2014، ولعملية الإلغاء هذه حين سيدخل «الحشد الشعبي» العراقي الأراضي السورية، تحت عنوان المساهمة في معركة تطهير محافظة الرقة من «دولة الخلافة» بعد الانتهاء من معركة الموصل.
الحال هذه، هل يمكن تصور إقدام السلطات اللبنانية على إقفال الحدود الشرقية خلافاً لمقتضيات تكريس منطقة نفوذ «حزب الله»، (وهو نفوذ إيراني بالتعريف النهائي)، على الأرض السورية، إذا افترضنا أن البعض يصدّق أن هناك إمكانية لـ «تحييد» لبنان عن الصراعات الخارجية؟
قيل الكثير عن الرسائل المتوخاة، إقليمياً ودولياً، من استعراض القوة في القصير. أما لبنانياً، فإن تزامنه مع جهود تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة واعتراض الحزب على إيكال وزارة الدفاع الى حزب «القوات اللبنانية»، يؤشر إلى رفض الدور السياسي لفريق قد لا يسلم بما يمليه غض الطرف عن الموجبات اللبنانية لدور الحزب الإقليمي. فوزير الدفاع هو الذي يقترح إسم قائد الجيش الجديد الذي تقع عليه مهمة غض الطرف، إذا لم يكن أكثر من ذلك، والذي يفترض تعيينه من الحكومة الجديدة. ومع أن الحزب ليس في حاجة إلى إذن الجيش ليواصل دوره الإقليمي، فإنه يفضل أن يأمن إلى توجهات مؤسسة عسكرية أكثر مساعداتها من الجيش الأميركي، الذي له رأيه هو الآخر بالقائد الجديد.
ومع أن الاندفاع الروسي- الأسدي - الإيراني (و»حزب الله») نحو احتلال المزيد من الأراضي السورية، لا سيما حلب، يراهن على توجه دونالد ترامب نحو التساهل مع رغبات موسكو بتحول سورية إلى قاعدة نفوذ لها تحت ستار محاربة «داعش»، وعلى استمرار غض الطرف الأميركي عن دور الحزب في سورية، فإن ضمانة هذا الدور الأولى تبقى في التأثير في قرار السلطة المركزية اللبنانية. والركون إلى إدارة ترامب مجازفة يتحتم الاحتياط لها، خصوصاً أن الشعارات التي طرحها الأخير، ومنها رغبته في التفاهم مع فلاديمير بوتين، قد تصطدم بواقع أكثر تعقيداً من مواقف أدلى بها أثناء الحملة الانتخابية. والرئيس الآتي من خلفية جاهلة بالسياسة الخارجية، قد تدفع حزبه الجمهوري إلى إحاطته بفريق أكثر إدراكاً منه بتعقيداتها.
تحوّل تعايش الطوائف اللبنانية وتقاسمها النفوذ والسلطة، في توازن داخلي رعته على الدوام القوى الدولية والإقليمية، إلى تعايش مع التحالفات الخارجية لبعضها في مراحل سابقة، لكنه مع «حزب الله» تحول تعايشاً مع أدوار فاعلة للحزب في الحروب الإقليمية، التي توجب القبول بالتسهيلات المطلوبة لبنانياً كي يستمر في لعبها. وهو تعايش غير مسبوق في التاريخ اللبناني.
يمرّ اليمن بحالة غير مسبوقة منذ انقلاب الحوثيين وصالح، والمقاومة التي أعقبته، فقد دخل الخميس الماضي بهدنة وافق عليها الحوثيون، والتحالف الذي تقوده السعودية، الذي تدخّل في اليمن بموجب طلب رسمي من الحكومة الشرعية، ولكن الحكومة هذه المرة ليست شريكاً في الهدنة، ولم تُسْتَشَرْ فيها، ولا ترى نفسها ملزمة بها كما صرّح بذلك وزير خارجيتها عبدالملك المخلافي، بل حتى صعّدت عسكرياً، خصوصاً في جبهة تعز، التي أثارت الحيرة في تأخر الحسم فيها، على رغم أنها البوابة الطبيعية لصنعاء، فحققت انتصارات غير مسبوقة، مع وعد بانتصارات مماثلة في جبهة نهم المطلة على العاصمة من جهة الشمال، فما الذي يجرى؟ وهل تستطيع الحكومة الشرعية المقاومة منفردة من دون دعم التحالف الملتزم بوقف إطلاق النار بشرط التزام الحوثيين به؟ أم أن هدنة الخميس كغيرها من الهدن السابقة التي سرعان ما انهارت؟ على رغم أنها تميزت بأن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والراحل قريباً، قام من أجلها بآخر زيارة له للمنطقة، وضغط من أجلها، وأتى بالحوثيين من صنعاء إلى مسقط للتوقيع عليها، لعله يكتب في مذكراته أنه «أعاد السلام لليمن».
بدأت تداعيات هدنة الخميس قبل ذلك بأسبوعين، عندما أعلن المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ خريطة طريق، تفضي إلى خروج الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، ونائبه اللواء علي محسن من المشهد السياسي، مقابل قبول الحوثيين وصالح، الفريق الانقلابي، بالانسحاب من صنعاء، وتشكيل حكومة وطنية يشاركون فيها بالثلثين مقابل الثلث لما تبقى من الشرعية، هذا إن تبقى منها شيء، خريطة طريق صادمة ولكن الجميع وافق عليها، باستثناء أصحاب القضية، اليمنيين.
التقيت حينها، وبعد إعلان الخريطة بيومين قادة الشرعية اليمنية الثلاثة، الرئيس ونائبه اللواء علي محسن، ورئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر، كلاً على حدة، وجدتهم غاضبين، قلقين، ولكن مزاجهم «مقاوم»، ورافضين تماماً لخريطة ولد الشيخ.
أتوقع أنني لو التقيتهم الآن، فسأجدهم أكثر غضباً، بعد إعلان الهدنة، وقبلها خطة كيري التي لم يستشاروا فيها، وخرج بحلٍّ لا يتفق مع المنطق، ولا مع المرجعيات الأممية المتفق عليها، ولن يعيد السلام لليمن، وإنما سيولِّد مزيداً من الحروب فيها. كما قال لي الرئيس هادي، وفصَّله رئيس الوزراء ابن دغر، إذ قال: «لكل يمني سبب لرفض حكم الحوثيين»، ثم توقف قائلاً: «لاحظ أني قلت حكم الحوثيين وليس الحوثيين الذين هم فصيل يمني ومن حقهم الشراكة معنا في الوطن، ولكننا نرفض حكمهم وهيمنتهم، الوطني اليمني المؤمن بالجمهورية يرفضهم، لأنهم يمثلون الحكم السلالي (مصطلح يمني المقصود منه هيمنة وتفضيل الهاشميين في الحكم والوظائف)، والإصلاحي يرفضهم لأنهم يمثلون مشروعاً طائفياً مذهبياً يتعارض مع مشروعه، والشافعي لأنهم متعصبون لمذهبهم، وأبناء المناطق الأخرى لأنهم جاؤوا باستعلاء مناطقي، وهكذا، إنهم مشروع مقسّم لليمن، لم نرد يوماً أن يقسّم اليمن طائفياً ولا مناطقياً، ولكنهم برعونة ضخوا هذه المفاهيم في بلادنا»، ثم استرسل: «لذلك أي حلّ يقوم على أن تكون لهم الكلمة الفاصلة سيُرْفض، وسيُفتح بابٌ للمقاومة خارج الشرعية، ما يعني حروباً صغيرة لا تنتهي».
الفكرة نفسها سمعتها من الرئيس هادي: «الشرعية وقيادتها للمقاومة وتمثيلها لليمن هي التي تمنع اليمني أن يستقل بقراره، الجميع الآن في صف الحكومة، ولكن إن انهارت هذه الشرعية بسبب خريطة ولد الشيخ، ستخرج حكومة لا يقبل بها كثير من اليمنيين، هل تتوقع أن أهالي تعز سيقبلون بسلام تحت حكم صالح والحوثيين؟ أما الجنوب». وسكت كأنه يقول مستحيل أن يقبل بحكومة يشارك فيها الحوثي والرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي يمثل لهم عودة حكم الشمال، كما أن الجنوبي اليمني يبحر حالياً بعيداً في أكثر من اتجاه، بل حتى متفرقاً عن فكرة الدولة الواحدة، ما سيفتح الباب لتفتت أكبر من مجرد استعادة «الشطر الجنوبي» استقلاله، إلى تفككه بالكامل.
ثمة شيء مهم وغير مطمئن حتى للسعودية سيحدث في اليمن، فولد الشيخ لا يهرول عبثاً. يبدو أنه مدعوم، هو وخريطته، يقول إنها حصلت على دعم الرباعية المعنية بالأزمة، السعودية والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن الجميع يعرف أنها خريطة كيري، المنتمي لسياسة ومرحلة رئيسه باراك أوباما «الغامضة والبغيضة»، والذي يتهم بأنه ساهم بمواقفه الضعيفة بتسليم سورية للإيرانيين والروس، وبالتالي لا ينبغي الوثوق به أيضاً في اليمن.
أتمنى ألا يكون هناك خلاف، أو اختلاف في وجهات النظر بين «الحكومة اليمنية الشرعية» والتحالف، ولكن ما سمعته من الرئيس هادي يشي بأن هناك وجهات نظر مختلفة حيال التعامل العسكري. نائب الرئيس علي محسن، المعني بقيادة العمليات في جبهة مأرب، يتقدم هناك بصعوبة، ويَعِدُ بتقدم كبير في منطقة نهم المطلة على العاصمة. مصدر طلب عدم ذكر اسمه، ذكر أن مساعيه لإغراء قيادات في الجيش من رفاق سلاحه القدامى تعرّضت لانتكاسة كبرى في الغارة الخاطئة التي استهدفت سرادق العزاء بصنعاء الشهر الماضي، وكان هذا سبباً لغضب شديد من قيادة التحالف التي أوقفت عدداً من العسكريين، والتحقيق لا يزال جارياً بسرية تامة، على رغم ذلك اللواء علي محسن لا يزال متفائلاً، بأنه «قريباً» سيحصل اختراق يغيّر موازين القوى في صنعاء. ربما لا يملك إلا أن يتفاءل، ويحاول أن يسابق الوقت والضغط الدولي وولد الشيخ.
الرئيس هادي يرى ضرورة تعزيز جبهة تعز، قال: «في تاريخ اليمن حربان تركيتان (في العهد العثماني)، لم يهاجم الأتراك صنعاء مباشرة، وإنما في كل مرة، كانوا يحتلون تعز والحديدة، وحينها تأتي لهم صنعاء طائعة مختارة».
وتبقى تعز، التي استعصت على الحوثيين واستعصى عليها انتصار كامل، أحد أسرار الحرب اليمنية الحالية. يروي اللواء علي محسن: «ضاعت علينا فرصة بعد تحرير عدن (في تموز - يوليو 2015) وتقدم قوات التحالف نحو تعز، ارتفعت معنويات سكانها والمقاومة، حتى محافظة إب تحررت، وطرد أهلها الحوثيين وقوات صالح، ولكن جاءتهم الأخبار بتوقف التقدم عند خط التسعين (الخط الفاصل بين اليمنين قبل الوحدة)، فانهارت المعنويات، واستعاد الحوثي وصالح زمام الأمور واستعادوا المناطق المحررة، وتراجعت المقاومة إلى داخل المدينة»، ثم يسكت ويبتسم، كأنه يقول: أكمل أنت باقي القصة. قصص كثيرة، وتبادل لوم بين أطراف عدة في أسباب عدم تحرير تعز، والتي تبدو أنها الطريق المعبّد الطبيعي نحو صنعاء، كما أنها المدينة الثانية في الحجم باليمن، والتي يمكن أن تكون حاضنة للحكومة الشرعية بعيداً عن ضغوط عدن وطموحات الفرقاء الجنوبيين، الذين عادوا وانقسموا بين «زمرة» و «طغمة»، وارثين حرب الرفاق الطاحنة، قيادات الحزب الاشتراكي التي اصطرعت طوال شهر كامل حتى الموت، أوائل 1986.
لعل الانتصارات التي تحققت في تعز الأربعاء الماضي، بعدما توحدت كل الفصائل المقاوِمة فيها بدعم من التحالف في إطار الجيش الوطني، تحاشياً للانقسامات الحزبية التي سادت المرحلة السابقة، تشير إلى تعامل جديد في جبهتها، فإن استمرت وتيرتها، خصوصاً أن الحكومة الشرعية أعلنت أنها غير معنية بوقف إطلاق النار، فقد يكون ذلك مغيّراً لقواعد اللعبة، ويقلب الطاولة على كيري وولد الشيخ.
بدا لمن التقيت بهم يومها في الرياض أن السعوديين موافقون على خطة ولد الشيخ، وتجدد هذا الاعتقاد بإعلان كيري من مسقط الثلثاء الماضي، قبول التحالف والحوثيين بوقف للعمليات العسكرية. كانوا في حيرة، إذ إن «عاصفة الحزم» لم تؤتِ ثمرها بعد، وبالتالي اتخذوا موقفهم الصارم برفض الخريطة «خدمة للشرعية ولمصلحة السعودية»، فهادي يقول: «نحن في اليمن لسنا هدف إيران، نحن توطئة لهدفها، بعدما يستقرون هناك ومن خلال عملائهم الذين سيكونون الحكومة الشرعية المعترف بها أممياً لا قدر الله، سيقفزون على هدفهم الكبير وهو السعودية». طوال حديثي معه لم يُخْفِ الرئيس نقمته على الإيرانيين الذين يحمّلهم وزر ما يحصل في بلاده، نافياً أن يكون سبب موقفه حرصه على السلطة: «كل ما أريده هو تسليم اليمن موحداً آمناً من النفوذ الإيراني، وأضمن مستقبله بنظام الأقاليم الستة الذي هو النجاة، والذي يرضي الجميع حتى الحوثيين، أنا لا أريد السلطة، أنا متقدم بالسن، ولا أريد غير سلامة اليمن، كل اليمن». بدا حديثه مقنعاً وهو يتناول مجموعة من الأدوية أتى بها أحد مساعديه خلال لقائنا.
مشروع الأقاليم الستة مقنع جداً، هكذا يبدو، ومعه كل تفاصيل اتفاق اليمنيين على انتخابات ودستور جديد، ولكن المشكلة من يقنع الحوثيين الذين يحملون مشروعاً مذهبياً متكاملاً مختلفاً عما يريد غالب الشعب، ومستعد لفرضه عليهم بالقوة؟ هل يمكن استمرار الحرب الجوية التي باتت مكلفة، ليس مادياً فقط، وإنما تعرّض الرياض لضغوط دولية وهجمات إعلامية، مع تقدم عسكري بطيء من قبل الجيش الوطني اليمني؟ بينما تنهار البنية التحتية في كل اليمن، ويتفكك حتى في مناطقه المحررة أمام رغبات المغامرين وتطلع بعض المحافظات للاستقلال، وظهور ميليشيات مشكّلة فقط من أبناء كل منطقة، ما يعزز الروح التشطيرية وفرص الحروب الصغيرة التي حذّر منها الرئيس.
هل الخطة هي تجميد الوضع اليمني بالتسويف في تطبيق خطة كيري، أو خريطة ولد الشيخ، فلا فرق بينهما، حتى تستبان نوايا الإدارة الأميركية الجديدة، أم أنه الحسم العسكري ودخول صنعاء، دخول المنتصرين، والذي عاد التفاؤل به بعد انتصارات تعز الأخيرة؟ إذ لا يعقل أن تقبل السعودية بوضع متميز للحوثيين في اليمن يمكّنهم من عقد اتفاقيات تهدد أمنها مع خصمها الإيراني اللدود.
خرجت من قصر المؤتمرات بالرياض، وكلمات رئيس الوزراء ابن دغر ترنُّ في رأسي: «لو تخلَّى عنا العالم فلن نقبل بالحوثيين، لكل يمني سبب في رفضهم وحربهم، ستكون هناك مقاومة لهم من دون شرعية، ستكون فوضى»، بالطبع لا أحد يريد تلك الفوضى، ولا ثورة كالثورة السورية في جبال اليمن، حتى لو كانت مستحقة، وكذلك لا تريد السعودية إيران في جبال اليمن، وهذه قاعدة أساسية يؤسس عليها أي تحليل لمستقبل اليمن.
أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، وأعتبرها ملاذًا للكسول غير القادر على التحليل والرصد والمتابعة والتمحيص. غير أنني لم أستطع أن أتخلص من هاجس مؤداه أن ثمة بالفعل اتفاقًا من قِبل القوى الغربية الكبرى، إضافة إلى روسيا، بإيكال مهمة (شرطي المنطقة) للفرس الصفويين.
العراق شنت عليها أمريكا (بوش) حربًا، أعادتها إلى أجواء القرون الوسطى، ولما أرادت أمريكا (أوباما) أن تنسحب من العراق بعد سحقها عسكريًّا سحقًا يكاد يكون كاملاً سلمتها كدولة منهكة وعلى طبق من ذهب لإيران، من خلال عملائها حزب الدعوة الشيعي، وهو حزب يوازي عند أهل السنة جماعة (الإخوان المسلمين)، أي حركة شمولية أممية، لا تؤمن بالحدود الوطنية، وتؤمن بنظرية الولي الفقيه.
أما في سوريا فتكفل الروس بسحق أهل السنة، وتحالفوا مع بشار الأسد العلوي، ومن خلال المليشيات الشيعية، التي أتت بها إيران من كل مكان، سحقت أهل السنة، إضافة إلى من ثاروا عليه من الطوائف الأخرى.
أمريكا والروس قطبان متنافران، لكنهما في مواجهة أهل السنة العرب اتفقا، وتقاسما المهمة بتناغم غريب في العمليات العسكرية والاستخباراتية، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل.
والسؤال الذي يثيره السياق هنا: لماذا يختلف هذان القطبان على كل شيء، ويتفقان على أهل السنة العرب؟
السبب في تقديري لهذا الاتفاق أنهما تطابقت مصالحهما بتفويض الإيرانيين بممارسة مهمة شرطي المنطقة. ولعل من أهم الأسباب الموضوعية التي دفعت القوى العظمى إلى إيكال مهمة شرطي المنطقة إلى إيران أنها بالفعل تسيطر على الصوت الشيعي سيطرة شبه كاملة؛ فالولي الفقيه في إيران يمثل القوة الشيعية شبه الوحيدة، ولا ينافسه في زعامته أحد، حتى وإن وجد هنا أو هناك من يختلف مع الإيرانيين، فلديهم (آلياتهم) لتدجينه، وجعله كويكبًا يدور في فلك السياسة الإيرانية وتوجهاتها. في حين أن العرب السنة أحزاب وتوجهات فكرية وعقدية متضادة ومتخاصمة، وكل يغني على ليلاه؛ الأمر الذي يجعل جمعهم على زعيم واحد، وكلمة واحدة، أو سلطة واحدة، ضربًا من ضروب المستحيل. فلو تفاهمت مع السلفيين لاختلف معك الأشاعرة، والصوفيون، إلى درجة تصل إلى حد التكفير والإخراج من الملة.
وأتذكر أنني ناقشت صحفيًّا أمريكيًّا عن هذا الشأن، فقال: (التعامل مع الشيعة سياسيًّا أسهل من التعامل مع أهل السنة). وأضاف: (الشيعة لهم مرجعية تكاد تكون واحدة، وهي إيران، في حين أن السنة توجهات ومدارس ومذاهب متعددة ومتشظية، ليس لهم مرجعية واحدة، وبينهم من الخلافات والعداوات ما يجعل التفاهم مع كل تلك القيادات، والوصول معها إلى نقطة التقاء، أمرًا متعذرًا؛ فهناك جماعة السلفيين وهناك جماعة الإخوان وهناك الإسلام الرسمي [إسلام الحكومات]، وهناك الإسلام الثوري؛ الأمر الذي يجعل من السهولة التعامل مع الشيعة المتحدين لا مع السنة المتشرذمين المختلفين مع بعضهم البعض).
ولا يمكن رد هذا الاتهام؛ لأنه حقيقة. فإذا كانوا يقولون (اتفق العرب على ألا يتفقوا) فكذلك لك أن تقول أيضًا (اتفق أهل السنة على ألا يتفقوا). وما مؤتمر (غروزني) في الشيشان عنا ببعيد.
قبل مجيء الإسلام وحتى انتشاره في الجزيرة العربية، كانت تتحكم في العالم القديم إمبراطوريتان كبيرتان، هما دولة الروم ودولة الفرس، وبعد وفاة الرسول الكريم توجهت جيوش العرب المسلمين مباشرة لنشر الإسلام في بلاد الشام والعراق. وبسرعة زمنية مذهلة استطاعت تلك الجيوش الوليدة أن تقضي على تلك الدولتين قضاء شبه كامل. فدولة الروم انهارت بعد معركة اليرموك على يد خالد بن الوليد، وانكفأت نحو هضبة الأناضول، والتمت حول مدينة القسطنطينية، عاصمة الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت، كما تم القضاء على دولة الفرس بعد معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص.
إلا أن الفرس كانوا من الخبث والرياء والدهاء بحيث دخلت جموعهم في الإسلام، وأخذوا ينخرون في جسده منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، بهدف إضعافه والقضاء عليه، عبر مذهبهم الشيعي، وهو مذهب ظاهره حب آل البيت وأحقيّة علي بن أبي طالب بالخلافة والبكاء على مقتل الحسين، والدعوة للثأر من قاتليه، حتى ولو بعد ألف وخمسمائة سنة.!!. أما باطنه فهو الفتك بالعرب والمسلمين، واستعادة مجد كسرى، ومن أجل ذلك تعاونوا مع الصليبيين والمغول ضد المسلمين، وأحداث التاريخ تثبت ذلك.
وإن لمحة سريعة إلى أحداث التاريخ الإسلامي تبيّن أن معظم دعاة المذهب الشيعي وما انسلخ منه من فرق دينية كان معظمهم من أصول فارسية، وقد أضرت معظم هذه الفرق بالإسلام والمسلمين ضرراً فادحاً، وكانت سبباً مباشراً في ضعف الدولة العباسية وانهيار الحضارة العربية الإسلامية فيما بعد. وإن نظرة سريعة إلى أحداث القرن الرابع الهجري وما قبله بقليل تبين لنا ذلك.
ففي القرن الثالث الهجري ظهر الفاطميون المنسلخون عن المذهب الشيعي في تونس، ثم امتدت دولتهم إلى مصر وبعض بلاد الشام، وكان لهم صراع مديد مع الخلافة العباسية، وتناغموا مع الفرنجة عندما احتلوا سواحل بلاد الشام فيما بعد، وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، إلى أن قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي.
وفي بلاد فارس ظهرت الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع، وأصبحت من القوة والهيمنة بحيث صار الخليفة في بغداد ألعوبة بين أيدي ملوكها، فيعزلون هذا ويعينون ذاك، فضلاً عن تعيين الوزراء والولاة وغيرهم. وهذا ما يذكرنا بالعراق وسورية ولبنان واليمن، وهيمنة إيران على تلك الدول في الوقت الحاضر.
أما الفرقة الأكثر خطراً، والتي عاصرت الفاطميين والبويهيين ودولة سيف الدولة في حلب الذي كان يميل إلى المذهب الشيعي، فهي فرقة القرامطة التي أسسها حمدان قرمط معتمدة على شيوع تام في الممتلكات وانهيار أخلاقي قلّ نظيره، بحيث كانت المرأة تتزوج العديد من الرجال، وبأساليب يصفها أحد الشعراء بقوله:
وكنت امـرأً مـن جنـد إبليـسَ فارتقـــتْ
بيَ الحالُ حتى صار إبليسُ من جندي
ولـو مـات مَـن قبلـي لأحيـيــتُ بعــــده
طرائــقَ فِسْــقٍ لـيـس يحسنُهــا بعـــدي
ومع أن كتب التاريخ تسكت عن أصل حمدان قرمط، وإن كنت أعتقد أن أصله فارسي، إلا أن أبو سعيد الجنابي الذي يُعد المؤسس الحقيقي للدولة القرمطية في البحرين، هو من أصل فارسي معروف، واسمه الحقيقي الحسن بن بهرام، ثم انتشرت دولته على زمنه وزمن أولاده من بعده في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية وجنوب العراق وعُمان واليمن وبلاد الشام، واستفحل خطر هذه الفرقة وعاثت في الأرض فساداً. وقد وصفهم أحد المؤرخين بقوله: القرامطة فريق من غلاة الباطنية، وهم يدينون بالقتل والتدمير وإخافة السبيل أكثر مما يدينون برأي أو ينزعون عن عقيدة، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الحجيج في طريقه إلى مكة أو في طوافه أو عند إفاضته فيقتلون الرجال ويذبحون الأطفال ويستحيون من راق في أعينهم من النساء ".
وحادثة إغارتهم على مكة مشهورة، فقد قتلوا الآلاف من حجاج بيت الله، واقتلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى بلادهم في البحرين، وكان ذلك في عام 317 هجرية، وبقي عندهم 32 سنة، ثم أعادوه إلى مكانه للتخفيف من نقمة المسلمين.
أما الرجل القرمطي الأكثر فتكاً، فهو زكرويه بن مهرويه، ويدل اسمه على أصله الفارسي، فقد عاث هو واتباعه في بلاد الشام وأجزاء من العراق، فحين كان يغير على مدينة أو قرية، يبيد سكانها إبادة كاملة، حتى كادت بلاد الشام في عهده تخلو من أهلها تماماً، وهذا ما يحدث شبيه له الآن مع الشعبين السوري والعراقي.
والمستغرب أن اليساريين العرب من أتباع الاشتراكية العربية والماركسية.!! كانوا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين مبهورين باشتراكية القرامطة، ويعدّونهم من طلائع التقدميين في العالم.
.................................
وبما أن قانون الانتصارات والهزائم يستند إلى مبدأ القوة والتماسك من جهة، والضعف والتشتت من جهة ثانية، فبعد أن رأى الفرنجة ما أصاب العالم الإسلامي من التفرقة والتناحر والضعف، حشدوا جموعهم باسم الصليب من أدنى أوروبا إلى أقصاها، وأرادوا أن يستعيدوا مجدهم العسكري والديني في بلاد الشام وينتقموا ممن كانوا السبب في دمار الإمبراطورية الرومانية البائدة. وقد نجحوا في إنشاء الممالك والإمارات على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، وعلى رأسها مملكة القدس التي أبادوا سكانها إبادة كاملة، والمؤرخون يقدرون عدد القتلى بستين أو سبعين ألفاً.
لكن ما أسموها هم أنفسهم " الحروب الصليبية " بقيت نحو قرنين من الزمان، وفي النهاية تم طرد أولئك الفرنجة، وعادت بلاد الشام إلى أهلها العرب المسلمين في عام 690 هجرية. ويعود الفضل في ذلك إلى سلطان مصر والشام الأشرف خليل بن قلاوون الذي لم ينصفه التاريخ، فهو الذي قام بتحرير عكا، وكانت استعصت حتى على صلاح الدين الأيوبي نفسه، ثم نجح ذلك السلطان الشاب بتنظيف الساحل السوري من بقايا الفرنجة.
وعلى الطرف الآخر استغل الفرس ضعف الدولة العباسية، فظهرت الدولة البويهية، كما ذكرنا، ثم فيما بعد ظهر إسماعيل الصفوي، وأنشأ دولته على الغلو في المذهب الشيعي، فارتكبت العديد من المجازر بحق المسلمين السنة، وألغى الخلافة العباسية.
لكن منطق التاريخ لا يسمح بالانفلات والتسيب والعشوائية، ولا بد من ضبط مناسب لمجرى الأحداث، لذلك نشأت الدولة العثمانية على أنقاض الروم في هضبة الأناضول، وقضت على القسطنطينية مركز الديانة المسيحية الشرقية، وأصبحت دولة عسكرية مهيوبة الجانب، تبسط نفوذها على رقعة شاسعة من الأرض، من جنوب أوروبا حتى جنوب وشمال بلاد العرب، وجابت أساطيلها البحار والمحيطات، وقد مكّنها ذلك من إعلان الخلافة الإسلامية، وأخذت على عاتقها حماية الإسلام القائم على المذهب السني.
ولذلك أيضاً وقفت الدولة العثمانية أمام المد الصفوي الشيعي الذي كان يشكل خطراً حقيقياً على الإسلام السني والوجود العثماني في المنطقة، لا سيما في العراق وبلاد الشام، وكانت تجري بين الدولتين حروب طاحنة على أرض العراق حتى استطاع العثمانيون تحجيم الطموح الصفوي وردعه ومنعه من تحقيق أهدافه. وربما كان للتاريخ كلمته المختلفة لولا الوقوف العثماني الحازم بوجه الأطماع الفارسية في ذلك الوقت.
وبقيت الحال هكذا حتى بداية القرن العشرين، حيث وهنت الدولة العثمانية وضعفت، وقضى مصطفى كمال أتاتورك على خلافتها الإسلامية، وهيمن الاستعمار الفرنسي والإنكليزي على المشرق العربي ومغربه. وبرز الحقد الغربي التاريخي مرة أخرى، فحين تمكن الحلفاء في الحرب العالمية الأولى من طرد العثمانيين من بلاد الشام، ودخل الجنرال الإنكليزي أللنبي إلى دمشق، كان أول خطوة قام بها هي الذهاب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال كلمته المشهورة: الآن عدنا يا صلاح الدين " في إشارة منه إلى الصليبيين الذين ظلوا مائتي سنة في بلاد الشام.
وعودة الجنرال أللنبي إلى دمشق أدت إلى اتفاقية سايكس ــ بيكو، حيث تم زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وتمزيق الوطن العربي إلى عدة دول تتنافر وتتخالف في الغايات والأهداف، بعد وقوعه تحت هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي.
وبعد نحو مائة عام، أي في مطلع القرن الواحد والعشرين، تعود استراتيجية القضاء على الإسلام من جديد، عبر مقولة مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة قبل نهاية القرن العشرين: الآن قضينا على الاتحاد السوفييتي، وبقي علينا القضاء على الإسلام في القرن الواحد والعشرين ". وهذا ما سيبينه في مقالة لاحقة.
برز حضور مجموعة من النخب السياسية المتصدرة للساحة السياسية السورية، والتي تشكلت خلال الفترة السابقة من الثورة، متمثلة في معارضة الداخل والخارج، بفرض حضورها الإعلامي المكثف على شاشات الفضائيات، بوصفها متحدثة شرعية ووحيدة بلسان طيف الشعب السوري، معظمها كانت له محاولات في استغلال الثورة لمصالح شخصية جدًا، بالعمل على حصد رضا سفارات الدول المهتمة بالشأن السوري، كل بحسب لونه وصلاته، وما يتقارب إليه من هذه الدول، وبدل أن تتوجه هذه النخب السياسية إلى الجماهير؛ لقيادة ثورتها الصعبة، والوصول إلى أهدافها في الحرية وبناء دولة العدل والقانون، عمل جميعها على المناكفات الميكيافيلية.
تأطّرت معارضة الداخل، ومنحت نفسها شرعية وحيدة، وأحقية في تمثيل المعارضة الوطنية، وعدّت من هم خارج سورية مجرد معارضة خارجية غير شرعية، علمًا بأن قسمًا منهم خرج من سجون النظام، وفر إلى الخارج كذلك، وكثيرون ممن أعطوا أنفسهم هذه الشرعية، لم يكن لهم وزن في مقارعة النظام قبل الثورة، بل أن بعضهم كان في السر على موائد مخابرات النظام، وفي دائرته الخاصة، وبعض من في الخارج، كان يبحث في طرق التصالح مع النظام؛ للعودة إلى حضن الوطن.
قسم لا بأس به منهم له تاريخ في المناورات السياسية، يرفعون شعارات الوطنية والحرية والقومية، ويُعرّفون أنفسهم بأنهم معارضة تاريخية، ذات دور مميز عن سواهم؛ لأن بعضهم، وبأشخاصهم، كانوا قد قدّموا الشرعية الجماهيرية لحافظ الأسد، عندما انقلب على رفاقه، حين شاركوا في الجبهة الوطنية التقدمية، ثم انسحبوا منها بضغط من قواعدهم التي اكتشفت حقيقة النظام وتغوله على الدولة والمجتمع، وحينها برر بعضهم أن تلك التجربة مع نظام الأسد كانت “غلطة شاطر”.
بعدها بدأ النظام يضيق على كوادر هذه الأحزاب المنسحبة من الجبهة، بالسجن وتضييق سبل الحياة؛ ما دفع كثير منهم إلى الهجرة خارج البلاد، إلى أن أصبحت هذه الأحزاب في أضعف حالاتها، متروكة لتعيش ترف ديكور مُعارض في الداخل.
بعد قيام الثورة شكلت هذه النخب الأخيرة “هيئة التنسيق الوطنية في الداخل”، وتشكل المجلس الوطني خارجًا، وظهر أمام العالم أن المعارضة تنقسم على نفسها، بين داخل وخارج، بتنازع شكلي على أحقية تمثيل الشعب السوري.
بقي نظام الأسد سلطة واحدة ذات شرعية دولية، مستمرًا في جرائمه، ومسؤولًا أساسيًا عن التدمير والقتل والتهجير الممنهج، وحين بدت علامات التهالك، عسكريًا وشعبيًا، على النظام دخلت إيران بأذرعها العسكرية في احتلال أجزاء من سورية، وأخيرًا تدخل الروس بطائراتهم ومستشاريهم، وأصبحت سورية محتلة، يكسب النظام مناطق واسعة ميدانيًا، مع هذا الثقل في الدعم العسكري، وهكذا تحول عمل القوى الثورية المسلحة من مواجهة النظام الدكتاتوري وحده، إلى محاربة الاحتلال الإيراني الجاثم على أرض سورية، وصار الشعب السوري بين شهيد وأسير وجريح ومُهاجر في أنحاء العالم، أما في دمشق، فيتربع الأسد ممثلًا عن السلطة؛ ليبرر الاحتلال، ويضفي عليه شرعية بوجوده الدبلوماسي.
لم تكتف هذه النخب السياسية بتبني خطاب مُخجل، يحدد الصراع القائم بين نظام ومعارضة، وليس بين شعب ثائر ومحتلين، على الرغم من كل النداءات الشعبية، الموجهة إلى تلك النخب، لتُعلن سورية محتلة، وتُشكّل جبهة سياسية مُوحّدة، تقود الفصائل المقاتلة وتوحدها نحو هدف التحرير، بل يفاجأ الناس بمن يخرج عليهم -أخيرُا- ويدعوا إلى عقد مؤتمر للمعارضة في دمشق، يفاوض النظام بمشاركة معارضة الداخل (هيئة التنسيق الوطنية)، ودعوة معارضة الخارج إلى حضور المؤتمر بضمانات دولية، أي: بضمان دولتي الاحتلال: روسيا وإيران، في تحليل تاريخي للاحتلال ووجوده، متجاهلين أن كل من يدعوا أو يشارك في مؤتمر كهذا، لا يمثل إلا دور الزوج المُحلّل، الذي سيذكره التاريخ جيدًا، وستذكره دماء الشهداء التي دافعت عن كل شبر ومنزل وقطعة أرض سُلبت من هذا الشعب اليتيم.
عندما يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ممارسات وأسلوب نظام الملالي في طهران، بأنه مدرسة في فن السياسة، فهو لا يجافي الحقيقة، لأنهما من مدرسة واحدة تذكرنا بثنائيات فن المغالاة بالكوميديا أو المأساة معاً؛ كما لو كان إطلاق نار بكل الاتجاهات، فمن يموت حظه عاثر وكان يمكن أن يموت بحادث سير أو نزلة برد؛ لم يعد لهما الموت يعني شيئاً، فالكمال في فن السياسة يبرر قوافل القتلى وفاقدي الأطراف وجموع المهاجرين والمعاقين وبراميل الدموع.
إيران وروسيا تأكلان شعوبنا باستمتاع وليس لديهما مقتنيات الإحساس بالنقص، وتلك أدوات سلطتهما التي صنعت أبشع أنواع الفصل العنصري بين مفاهيم السلطة والقوة وبين حرية الشعوب وحقوق الإنسان.
في سياق انطلاق المشروع الإيراني بمرحلته العلنية، بعد إعلان خامنئي انتهاء صلاحية التقيّة وفترة المظلومية، وشعوراً من النظام الإيراني ومقلدي ولايته بالقوة، فإن الكتمان والتعتيم على أسرار تمدد صادراتهم، أمسيا صورة للضعف لم تعد تناسب إمكاناتهم؛ ولهذا اختفت من خطاباتهم لغة الدبلوماسية، خاصة بما يتوجه منها إلى العرب الذين فقدوا أو كادوا يفقدون تماماً العراق وسوريا واليمن ولبنان.
صواريخهم تنطلق مع صواريخ الأخبار الحاملة لنياتهم في تحرير المدن العربية وهم في طريقهم إلى القدس؛ بما يعني استغلال واستثمار فنهم الخاص بمزاوجة الخيال بالأسطورة، مع سلطة أفكار ومنهجية في خلطة اشتهر بها الملالي لتكييف أحزابهم ومجموعاتهم الغوغائية لاستلاب عقول الناس بالخوف من هواجس رغبتهم بحياة حرة لائقة وعذاب مستطير في آخرتهم، إذا لم يستجيبوا في دنياهم لأوامر التعصب الصادرة من مدرسة الولي الفقيه ومن يمثلها.
تصريحات مستشار وزير خارجية إيران، فعلاً مثيرة للاستغراب مع وجود قوانين واتفاقات دولية تجعل من إيران ودول مشابهة لها في سعي دائم وشغل شاغل لإحاطة كل نشاطاتها العسكرية، وما يرتبط بها، بسرية تامة وقلق من أي رائحة أخبار متسربة إلى الإعلام أو استخبارات الدول الكبرى؛ لكن ما الذي غيّر من نمط سياسة ونهج يفترض أنه يسري على الجميع لتفادي المشكلات في العلاقات وردات الفعل تجاه كل خرق لمنظومة السلام العالمي؟ ما الذي يدفع إيران للتصريح بامتلاكها خطا لإنتاج الصواريخ في سوريا والعراق وبلدان أخرى لم يتم ذكرها؟
الدول المجهولة مؤكد من بينها اليمن الذي استخدم فيه الحوثيون الصواريخ باستمرار، ومنها استهداف مكة، وأيضا يمكن أن يكون لبنان في خط إنتاج محتمل، عموماً الأمر لا يتعلق فقط بصواريخ مصنعة أصلاً في دول أخرى مثل كوريا الشمالية أو روسيا وتتم زيادة قدرتها التفجيرية وأيضاً مداها لتصل إلى أهداف بعيدة لإلحاق الأذى والتدمير الواسع، كما هو التوجه لصناعة حمام دم في حلب توفرت له كل المستلزمات بوصول حاملة الطائرات الروسية الأدميرال كوزينتسوف وسفن حربية وبوارج وطلعات تدريبية أدت إلى سقوط إحدى طائراتها في المتوسط.
من يضمن أن إيران لا تمتلك خطوط إنتاج في بعض دول أفريقيا لإدامة الصراعات في تلك القارة بمغذيات قريبة وبذات الأسلوب في سوريا والعراق واليمن، وهل تكتفي بالصواريخ أم إنها تقوم بإنتاج طائرات مسيرة دون طيار، وهو مجال تصنيع عسكري اهتمت به إيران في بداية التسعينات ومع انتهاء حربها مع العراق الذي أسقط أكثر من طائرة على أراضيه في زمن الحصار، وبهذا تكون الذخائر للأسلحة الخفيفة والمتوسطة إنتاجا أكيدا في الدول التي ذكرها التصريح.
روسيا ربما تكون شجعت إيران على الإعلان عن مصانعها الحربية خارج أراضيها، وفي ذلك رسائل لعديد من الدول، ولأنها مفتوحة وغير مغلقة فالمعنى عام يراد منه القبول بالأمر الواقع والإذعان لاستعراض القوة الروسية التي تعتبر إيران، في هذه المرحلة، حليفا إستراتيجيا مع سوريا في المنطقة بعد صفقة بـ10 مليارات دولار لتسليح إيران ووضع قاعدة همدان بتصرف القوات الروسية؛ كأن المنطق يقول وليس فلاديمير بوتين: إن أي اعتداء أو مواجهة بالضد من إيران تعتبر موقفاً معادياً من روسيا، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى سوريا.
كذلك رفع الحرج عن المصانع العسكرية الإيرانية خارج سياجها الجغرافي، إذا كان هناك حرج، في حالة إرسال شحنات الأسلحة إلى دول تخوض صراعات مسلحة وتحت أضواء الإعلام واستخبارات العالم المتطور.
صناعة الأسلحة الإيرانية في دول متعددة تفتح الباب على مصراعيه على حقيقة هذا النظام وتاريخه منذ مجيئه إلى الحكم في العام 1979 وبداية أقسى محن المنطقة، وكشف مستمر لسلسلة متواصلة من ألاعيب السحرة والمقامرة بمصير الشعوب، ومنها امتلاك إيران للأسلحة الكيمياوية واستخدامها أثناء الحرب الإيرانية العراقية بما فيها من خفايا وملابسات، وحجم التعاون في هذا المجال مع النظام السوري ولو على مستوى الخبرات والاستخدام ووسائل التمويه، لتمرير المشروع الذي تبناه الخميني بتصدير ثورته أولاً إلى كربلاء، لكن دماء العراقيين وتضحياتهم جميعاً وتوحدهم للذود عن وطنهم سقته السم، إلى أن حدث الاحتلال الأميركي ومن ثم الانسحاب وتسليم العراق إلى إيران.
مع تصريحات إيران بامتلاكها خطوط إنتاج عسكرية في أكثر من دولة، تسرب خبر نقلها للشحنات الحربية عن طريق “طيران ماهان” المدني، وهذا يذكرنا بمسرحية تفتيش الطائرات القادمة من إيران في مطار بغداد، وهي في رحلتها إلى سوريا للتأكد من خلو شحناتها من أي مواد تصنفها كمواد عسكرية، كان ذلك في السنوات الأولى للصراع السوري والرقابة الدولية على تصدير الأسلحة؛ العراق كان يعتمد الشفافية في تطبيق المعايير الدولية وبإشراف وزير النقل والمواصلات الذي يتولى، الآن، قيادة الحشد الشعبي الطائفي ويتسلم أوامره من المرشد خامنئي ومن مستشار رئيس وزراء العراق لقضايا الأمن قاسمي سليماني.
ومن أجل أن يكون الإعلان واضحاً وصريحاً تم تنظيم أول استعراض مباشر لمجموعات من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني، فرع لبنان، على أنقاض مدينة القصير السورية وبمتابعة من القوات الإسرائيلية، تمهيداً للتصريح العلني باستيلاء إيران على سوريا بمساعدة المحتل الروسي، بما يشبه استيلاء إيران على العراق بمساعدة المحتل الأميركي، وكلا الاحتلالين على طريقة التعاقد مع الشركة الكبرى في الظاهر ومن الباطن يأتي دور الشركات الطفيلية وبرامجها الخبيثة التي لا يعيبها شيء مما تفعله، لأنها تعلم مسبقاً إفلاتها من العقاب في ظل وجود الشركة الراعية مالكة القوة والنفوذ.
في غياب الردع الدولي وشيطنة الثورة السورية وخلط أوراق الإرهاب، تسنى لإرهاب الميليشيات الإيرانية الطائفية، وإرهاب النظام الحاكم في سوريا وكل مصانع الدجل التي التقت مع المصالح الروسية، ووجدت لها صوتاً معطِلاً لأي قرار في مجلس الأمن لامتلاك روسيا حق التصويت بالفيتو؛ العبث بالحقائق وتمرير فنونهم السياسية الخاصة التي لا يجيدها غيرهم.
هناك عالم جديد يتكون، فيه الكثير من التحديات تقابلها استجابات حتمية لكنها تحتاج إلى السرعة بعد فراغ أنتج لنا خطوطاً لصناعة الإرهاب بكل تداعياته وصنوفه؛ لكننا دائماً بانتظار من يتجرع السم مرة ثانية وللأبد.
كثير من الأميركيين، ولأسباب كثيرة، كانوا مشمئزين من مقولة: «السياسة كما جرت العادة»، وأظهروا ذلك عن طريق التصويت لدونالد ترامب أو عدم التصويت إطلاقًا. بعد «البريكست» في المملكة المتحدة، وفوز ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، انتهت الفترة الطويلة والمجحفة المؤيدة للعولمة التي تحكم بها سياسيون تقليديون أغفلوا تنامي معارضة المهمشين، ويمكن القول اليوم إن التأييد للعولمة، أو الرفض لها، صار بدل اليسار مقابل اليمين في العالم. لقد بدأنا فصلاً جديدًا، لكن اللوم لا يقع على الديمقراطية، بل على فشل المؤسسات الحاكمة التي انفصلت بعيدًا عن الواقع، ولم تدرك غضب الشعب.
بالنسبة إلينا، قال الرئيس الأميركي المنتخَب إن لديه خطة طموحة لوقف توسع تنظيم داعش، واحتواء الإسلام الراديكالي: «يجب أن يكون هذا أهم أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وكذلك سياسة العالم، وهذا يتطلب اللجوء إلى القوة العسكرية، إنما أيضًا مواجهة عقائدية كمواجهتنا الطويلة أثناء الحرب الباردة، لهذا سنعمل معًا، وعن كثب، مع حلفائنا في العالم الإسلامي الذي يتعرض هو الآخر لخطر عنف الإسلام الراديكالي».
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان أول المهنئين لترامب. علاقة مصر الحالية مع الولايات المتحدة صعبة، وكذلك حال كثير من الدول العربية، إذ كانت إدارة باراك أوباما تركز على انتقاد هذه الدول، ولا تعترف بالجهود التي تبذلها لمكافحة الإرهاب.
قد يكون الرئيس السيسي ارتاح لفوز ترامب، لكن ما يريده من واشنطن دعمًا اقتصاديًا ضخمًا، وسبق لترامب أن قال إنه يعارض المساعدات الاقتصادية لأي دولة خارجية. هو أشار إلى استعداده لتقديم الدعم المالي «حيث يجب ذلك»، وذكر الأكراد «الذين بحاجة، كي يكونوا مجهزين لقتال (داعش)»، لكن إذا اكتفى ترامب بدعم معنوي لمصر، فهناك خطر اهتزاز الاستقرار فيها، إذا ما استمر اقتصادها في التدهور.
بالنسبة إلى سوريا، اقترح ترامب أن تقاتل روسيا «داعش»، وقد يطرب الرئيس السوري بشار الأسد لهذا الاقتراح، لكن إذا سمح ترامب لروسيا بأن تفعل ما تريد في سوريا، فهذا يعني السماح لها بتقوية وجودها في الشرق الأوسط، مع كل ما في ذلك من تبعات.
أكثر المترقبين لسياسة الرئيس الأميركي المنتَخَب هي إيران، رغم كل عنجهية التصريحات، ستبدأ إدارة ترامب في التهديد باللجوء إلى القوة، وتفرض على إيران الخيار بين عقوبات صارمة، أو عمل عسكري، أو العودة إلى طاولة المفاوضات.
يوم الجمعة الماضي، وأثناء وجوده في براغ، قال محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إن بلاده تطبق الشقَّ الخاص بها من الاتفاق النووي، وأَسِف لأن الإدارة الأميركية الحالية لم تفعل ذلك.
الاتفاق يلزم إيران بالحد من قدرتها على تخصيب اليورانيوم وتخزينه والقبول بالمفتشين الدوليين. الأسبوع الماضي، انتقدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران لانتهاكها الاتفاق، بحيث أنتجت 130 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب.
خلال حملته الانتخابية وصف ترامب الاتفاق بـ«الكارثة»، وقال إن الأولوية عنده العمل على تفكيكه، متهمًا إيران بخرقه. بعد فوزه، قال أحد مستشاريه للشؤون الخارجية، إن ترامب سيعيد النظر في الاتفاق، ويرسله إلى الكونغرس ليطالب الإيرانيين ببعض التغييرات.
السؤال هو: هل يستطيع رئيس الولايات المتحدة التراجع عن اتفاق بمفرده؟! فالاتفاق النووي لم يُناقَش فقط بين أميركا وإيران، وإن كانت إدارة أوباما هي الرائدة، بل ناقشته الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن (بما فيها أميركا) بالإضافة إلى ألمانيا، ثم صادق عليه مجلس الأمن. لهذا على ترامب أن يذهب بعد الكونغرس إلى مجلس الأمن الدولي ليرى إن كان باستطاعته إقناع الأعضاء الآخرين بالتوافق على التغييرات التي يراها. هنا يأتي دور جون بولتون السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، على زمن الرئيس جورج دبليو بوش، الذي لا يرى تبريرًا لكل الأمم المتحدة وأدوارها.
من ناحية أخرى، يستطيع الرئيس فرض عقوبات أميركية يمكن لها أن تطيح بالاتفاق، والمعروف أن الولايات المتحدة هي الأقوى في النظام العالمي، وهي الأهم عندما يتعلق الأمر بالعقوبات. ثم إن القيود الأقوى التي ستواجهه في تطبيق نظرته تعود إلى عدم استعداده، وعدم استعداد الحزب الجمهوري لخطوة كهذه. يمكنهم القول إنهم يريدون تمزيق الاتفاق، وتستطيع أميركا الخروج منه بفرض عقوبات أحادية، لكن أوروبا لن توافق، ولن تفرض عقوبات جديدة. الصين أيضًا لن توافق، وبالتالي سيحمّل الكل ترامب مسؤولية تدمير الاتفاق، وخلال شهر أو شهرين سيكون أمام خيارين؛ إما قصف إيران أو عدم قصفها. فهل يريد إشعال حرب في بداية عهده؟
أعضاء في مجلس الشيوخ، وبينهم بوب كروكر (جمهوري من تنيسي وأحد المرشحين لمنصب وزير الخارجية) ينتقدون بشدة الاتفاق، ويريدون التفاوض مجددًا بشأنه، أو التخلي عنه واللجوء إلى القوة. الآن أمامهم الفرصة، إنما لا فكرة واضحة لديهم عما يجب عمله، وستكشف لنا الأيام كيف سيتعاملون معه، قد تكون لديهم مفاجأة، لأنهم يرون أنه كافأ إيران فعمدت إلى سجن أميركيين من أصل إيراني، وزادت من عدوانيتها وتدخلها في سوريا والعراق واليمن. وإدارة أوباما تريد من ترامب احترام الاتفاق والالتزامات الأميركية، تمامًا كما طلبت إيران التي تشعر بأنها قد تكون الخاسر الأكبر، ولأن السياسة الأميركية المواتية الآن لها، يمكن أن تنقلب رأسًا على عقب في الأشهر المقبلة.
المهم أنه إذا بقي الاتفاق، حتى إلى وقت محدد، يجب التفكير بجدية عما سيليه، كوضع استراتيجية تحد من اندفاع إيران إقليميًا، وهذا يتطلب موارد عسكرية، وإرادة سياسية، وموقفًا حازمًا. ولن ينفع إيران تهليلها بأنها وقّعت على مناورات عسكرية مشتركة مع الصين، يوم الاثنين الماضي، لأنه إذا كانت هناك دولة كبرى تريد استقرار الشرق الأوسط، فإنها الصين.
وقبل أن يصوغ ترامب سياسته تجاه إيران، يجب معرفة ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه إقليميًا. هل تريد الاحتواء أم الردع، خصوصًا مع وجود اللاعب الروسي على المسرح الإقليمي؟! الإيرانيون متداخلون جدًا مع الروس في سوريا. وعاد الحديث عن احتمال عودة روسيا إلى استخدام قاعدة همدان الجوية لعملياتها في سوريا.
من الواضح أن ترامب يريد تخفيف التوتر مع روسيا. كيف سيُترجم ذلك.. هل بإعطائها اليد العليا في سوريا، أو في كيفية معاملته إيران؟! هذا ليس معروفًا حتى الآن. لكن بناء على ما نشرته وسائل الإعلام الإيرانية، فإن النظام الإيراني يخشى من أن تفرض إدارة ترامب وبقوة تطبيق الاتفاق، ثم إن النظام الإيراني قلق لأن بعض الفوائد الاقتصادية التي كان يأمل بها مع الصفقة، لن تؤتي ثمارها. وعلى سبيل المثال، فإن إدارة ترامب قد لا توافق على بيع طائرات «بوينغ» لإيران.
المهم التأكد من أن تهديد إيران للمصالح الأميركية ولحلفاء أميركا في الشرق الأوسط سيتم احتواؤه مع وقف مغامراتها الإرهابية في الدول المجاورة. الأسبوع الماضي، قال ديفيد فريدمان كبير مستشاري ترامب، إن إدارة ترامب ستعود للتعاون مع الأطراف العالمية بطريقة تسعى لإعادة الضغط على إيران، لأن إيران نووية بعد 9 سنوات غير مقبولة. قد تبدو الـ9 سنوات فترة طويلة لكنها تمر في غمضة عين.
هناك عوامل كثيرة تعمل على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، من بينها النظام الإيراني. صحيح أن نظرة الرئيس المنتخَب إلى العالم ليست جيوسياسية بقدر ما هي اقتصادية، ولهذا فهو ليس مهتمًا بالشرق الأوسط كثيرًا، لكن يبقى الشرق الأوسط مهمًا من ناحية النفط، والممرات، ثم إن شركات ترامب نفسها عملت في الخليج، هو يعتقد أن كل شيء قابل للتفاوض، وسيأتي الوقت الذي يشعر فيه بأن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط يؤثر على المصالح الاقتصادية والأمنية الأميركية.
وهنا يجب تحذيره: إن رجل الأعمال ترامب غير معتاد على البيروقراطية، لكن الرئيس ترامب سيكون تحديه الأكبر البيروقراطية، إن كان في أميركا أو في الشرق الأوسط!
ما يحدث في سورية هو محاولة تحقيق الانتصار عبر الإبادة، هكذا بالضبط. فقد حاول النظام إبادة التظاهرات حين انطلقت، وخصوصاً بعد أن توسّعت، حيث أدخل الجيش في الحرب على الشعب، وعلى الرغم من أن معظم الجيش لم يكن موثوقاً به، فقد كان يدفع بعض قطاعاته تحت تهديد السلاح من أجل مواجهة الشعب.
وحين فشلت هذه الصيغة، بات يستخدم الصواريخ بعيدة المدى والطائرات، ومختلف أنواع الأسلحة، حتى الأسلحة الكيماوية. انتقل من قتل المتظاهرين إلى تدمير البيوت والأحياء، القرى والمدن، والقتل بالجملة. وكذلك على التهجير الجماعي، ودفع جزءاً كبيراً من الشعب إلى أن يترك مدنه وقراه، وحتى يترك سورية، هارباً من جحيم العنف والوحشية، والحصار الشديد والانهيار الاقتصادي.
كان الهدف هو الانتصار على الثورة، حتى وإن تطلب ذلك تدمير المدن والقرى، وقتل الشعب أو تهجيره، لأن السلطة تريد أن تبقى هي السلطة، أن تبقى تحكم سورية حتى بدون شعب. فهي كسلطة عائلية تنطلق من أن سورية ملكيتها الخاصة، فإذا تمرّد الشعب، يجب أن يُسحق ويشرّد، ويُطرد من مملكةٍ تمت وراثتها. والسلطة فعلت ذلك، بالضبط، لأنها تعرف أن الأمر يتعلق بشعبٍ تمرّد عليها، وليس بعصاباتٍ و"مجموعاتٍ إرهابية" سلفية، هي التي افتعلتها بالأصل، قبل أن تُدعم من دول متعدّدة. هذا الشكل من المواجهة الذي قامت به السلطة هو بالضبط ما يؤكد أن ما حدث هو ثورة شعب، وكان استنتاجها من الثورات العربية يتمثّل في أن البقاء في السلطة يفترض سحق الشعب بكل العنف والوحشية، وإلا انهارت السلطة ذاتها.
لكن السلطة كانت على شفير الانهيار، حين بعثت إيران جيوشها، من حزب الله والمليشيات الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، ومن الحرس الثوري الإيراني، فقوى السلطة لم تستطع سحق الشعب، حتى الجيش بات عبئاً عليها، نتيجة الاحتقان الذي عاشه، لأن أهله هم من يُقصف ويُقتل، وبيوته هي ما يُدمر. وقد مارست قوى إيران الطريقة نفسها في القتل والتدمير، في ظل استمرار استخدام السلطة طيرانها وصواريخها وبراميلها المتفجرة التي تقتل من دون تمييز.
وحين شارفت هذه كلها على الانهيار، كانت السلطة بحاجة إلى قوة عظمى، لكي تحمي وجودها، وكانت روسيا تنتظر اللحظة التي تسمح لها باحتلال سورية، سورية كمرتكز للسيطرة على "الشرق الأوسط"، والتحكّم البحري بالبحر الأبيض المتوسط، وأيضاً التحكّم بـ "خطوط الغاز"، ونهب الاقتصاد. ولقد أتت بقواتها، وهي تحمل حلم السيطرة العالمية، وإرهاب العالم. وكان في سياستها تنفيذ ما قامت به في الشيشان، حين دمرت غروزني العاصمة. وهذا ما قاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حينما اجتمع مع كل من المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، في برلين، فقد بنى مجده في التحكّم في السلطة على أنقاض غروزني، وهو يريد بناء مجده العالمي على أنقاض حلب الآن، وربما سورية كلها، لكي يكمل ما بدأته السلطة نفسها.
تلخص معركة حلب ذلك كله، إذ تتم المجزرة بالشراكة بين السلطة وروسيا وإيران بأدواتها المتعدّدة، وبات "الانتصار" فيها مسألةً حاسمة لكل هؤلاء. ولهذا، يجري تكثيف كل ما مورس في سورية في السنوات السابقة، بما يحقق ذلك. لقد حاصرت السلطة مناطق كثيرة، في دمشق ومحيطها، وفي حمص، وعملت على ترحيل سكانها إلى الشمال، بعد أن مارست كل الوحشية الجوع والسلاح. وهي تريد من حلب الأمر ذاته. وربما نشهد في الفترة المقبلة وحشيةً مركّبةً لتصفية الثورة، الثورة التي تعني الشعب، والتصفية التي لا تتحقق إلا بإبادة الشعب. يريد النظام سورية من دون شعب، كذلك روسيا وإيران وكل "قوى الممانعة" التي تدافع عن وهم فتقبل قتل الشعب. لكن، ليس ممكناً إبادة شعب، وبالتالي، إنهاء ثورته.
الانتصار بالإبادة هو شعار النظام، لكنه شعار روسيا التي تريد أن تفرض نفسها قوةً إمبرياليةً مهيمنة.
حسب علمي، ليس هناك إلى اليوم دراسات عسكرية، خبيرة أو مهنية، عن الحرب التي يخوضها الجيش السوري الحر وشركاؤه ضد جيش الأسد والروس والإيرانيين. وليس هناك كذلك دراسات حول التنظيم الفصائلي، بوصفه جهةً تنهض بالجزء الأكبر من أعباء الحرب، وقياسات علمية حول عائد التجربة العسكري العملي الذي أنتجته أعوام خمسة من التضحيات والمقاومة والصراع المفتوح.
وليس هناك أي اتفاق بين من يخوضون الحرب على نمطها، وهل هي حرب جيوش أم حرب عصابات أم مزيج من الاثنين، أم أنها ليست حرباً، بل مجرد عمليات غزو متلاحقة، هدفها أخذ الغنائم من النظام، يؤكد ذلك اتفاق تنظيمين كبيرين، يقاتلان في ريف حماه على التخلي عن اعتبار الأملاك العامة غنائم يجب تقاسمها بينهما؟ وإذا لم نكن حيال وضعٍ أقرب إلى الغزو منه إلى الحرب، كيف نفسر فوضى التنظيمات والسلاح والزعامات، وتعايش الشبيحة وأمراء الحرب مع وطنيين وإسلاميين مخلصين، والنزوع إلى الانفراد بالمناطق التي يحتلها فصيلٌ بمفرده، أو تجمع فصائل، والاستئثار بما يتركه الجيش الأسدي وراءه من سلاح وذخيرة، بدل اعتباره ملكاً للجيش الحر والفصائل، تتزوّد به جميع الوحدات المقاتلة، ولماذا تنتزع التنظيمات الكبيرة من التنظيمات الأضعف ما تستولي عليه من عتاد النظام وذخائره؟ وكيف لم تقتنع الفصائل بعد بالانضواء تحت هدف وطني، تقول جميعها إنه مشترك بينها هو إسقاط الأسد ونظامه؟ ولماذا تتمسك بالنمط الفصائلي شكلاً وحيداً لتنظيمها العسكري، على الرغم من ثبوت عجزه عن تحقيق هدفها، وبناء ميزان قوى، لا يستطيع الروس والإيرانيون كسره، يستثمر كثافة الانخراط الشعبي في المقاومة، ويؤطره في أشكال من التنظيم العسكري، مرنة وفاعلة؟
في الحروب التي يخوضها ضعيف ضد قوي، يأخذ الضعيف بنمط من الحرب، يكون دفاعياً، فترة تطول أو تقصر، على الصعيد الاستراتيجي، هجوميا على المستوى التكتيكي، يتحول إلى الهجوم الاستراتيجي، بقدر ما تنجح هجماته التكتيكية في استنزاف عدوه، وتُرغمه على الانسحاب من مناطق حاكمة واستراتيجية، وتلحق به من خسائر تستنزف عديده وعتاده، وتعزله شعبياً وسياسياً وتفكك وحدته وتقوّض مؤسساته. السؤال الآن: هل أخذ مقاومونا بأيٍّ من هذه الأنساق، ورسموا خططاً قتالية، تنضوي، في مرحلة أولى، ضمن إطار دفاعي، استراتيجي، يمليه تفوق عدوهم بالسلاح والرجال، وحجم الاحتياطي الاستراتيجي لدى شركائه الروس والايرانيين، علما أن افتقارهم إلى عقيدة قتالية واضحة حول نمط الحرب يحول بينهم وبين مجاراته أو موازنته؟ وهل استخلص مقاتلو الفصائل ما يمليه عليهم وضعهم هذا، وهو أن عليهم خوض حربٍ تعتمد على هجماتٍ تكتيكيةٍ متلاحقةٍ، تنهك عدوهم الأسدي/ الروسي/ الإيراني، وتحطم معنوياته وتدمر مراكزه، تقطع طرق مواصلاته، وتشل مراكز القيادة والسيطرة لديه، وتفكّك وحداته، وتجعلها عاجزةً أكثر فأكثر عن السيطرة على مناطق تمركزها وإيوائها ... إلخ؟
بصراحة: لم تفعل المقاومة هذا أو ذاك، لأسبابٍ منها إبعاد أهل الخبرة من الضباط المنشقين عن قيادة الحرب، ووجود أوهام خطيرة حول دور الخارج في حسم الصراع لصالحنا، وتسليمنا البلاد على طبقٍ من ذهب، بعد إسقاط النظام طبعا، فلا ضير علينا إن دخلنا في صراع مفتوح على النفوذ والسلطة، الساقطة حتماً بأيدي غيرنا، فالوقت ليس لرسم خطط حربية، والتفكير في الحرب ومراحلها، وتعبئة قدرات الشعب وطاقاته، ما دام دورنا فيها مساعدة دهاقنة الحرب وجنرالاتها الذين يعرفون جيداً هوية (ونمط) الحرب التي سيسقطون الأسد بواسطتها، ولا بد أنهم سيفكرون بشتى جوانبها، ليس فقط بسبب ما لديهم من خبرة، وإنما أيضاً لأنهم يريدون كسبها، ولن تفوتهم، بالتالي، أية قضية من قضاياها.
بالنسبة لرسوخ عقلية الغزو في وعينا العام، لسنا، ولا يمكن أن نكون، في مرحلة دفاع استراتيجي، بل إن تصنيف الحرب إلى مراحل لا يخطر ببال أغلب من يقودون معاركنا، ولا يدخل في خططهم، لكونهم ألفوا القتال تجمعات متفرقة ومتنافسة غالباً، فإن تحالفوا مع غيرهم بنوا تحالفهم على حساباتٍ وقتيةٍ أو عابرة، أو إكراهية، سرعان ما يتخلون عنها أو يذهبون إلى نقيضها، فهم اليوم في هذا الحلف، وغداً في نقيضه، وليس في تخطيطهم تعبئة أو تفعيل شيء اسمه قدرات الشعب التي يجب أن تنظم في وحداتٍ تخوض حرب عصاباتٍ متكاملة التكوينات: تستند على تنظيماتٍ محليةٍ ومناطقيةٍ ووطنيةٍ، تنضوي في إطار تنظيمي موحد ومترابط، وتخضع لقيادةٍ تمسك بخيوط الحرب، وتدير معاركها بصورة مركزية، تستخدم جميع وحداتها في أوقات متزامنة، وبصور متكاملة، حسب المتطلبات الميدانية المحلية والوطنية التي تترجم إلى معارك لا تترك للعدو لحظة راحة، ولا تسمح له بالانتشار في أية منطقة، من دون قتال يمنعه من الاستقرار فيها، والإفادة من موقعها... إلخ.
لسنا أيضا في طور تكتيكي، يقوم على شن عملياتٍ متلاحقة تقطع طرق إمداد العدو. ومن يتابع ما يجري يلاحظ أن النظام هو الذي يقوم بمعظم الهجمات التكتيكية، بصورة خاصة، عندما تكثر هزائمه، وينسحب من مناطق مهمة، ويشعر بأن روح أتباعه المعنوية تنهار، أو أنه سيواجه مرحلةً من الصعوبات تتحدّى قدراته، خصوصاً إن كانت ستقطع خلالها طرق إمداده، أو ستضرب مراكز القيادة والسيطرة لديه، وستهاجم مستودعات ذخيرته ومراكزها وثكناته، لوعيه الذي نفتقر إليه بأن الحرب ليست، ولم تكن، يوماً غير حرب طرق إمداد وسيطرة، بينما جعلها بعض كبار خبراء الحروب من جهلة الشيوخ والتجار المحليين وقبضايات الحارات حرب مدن، دمرت معظم مدننا وشرّدت جزءا كبيرا من شعبنا، وبالنتيجة، قاتلت معظم وحدات الجيش الحر والفصائل في شروطٍ عسكريةٍ تتسم بقدر كبير من الارتجال والفوضى، سمحت للعدو بالتحكّم في مجريات الحرب التي دفع الشعب، حاضنة الثورة، ثمناً مرعباً لها، أدى إلى تمزيقه داخل وطنه، وتهجير أكثر من نصفه، وإفقاره وتجويعه واعتقال بناته وأبنائه وتعذيبهم، وقتل أطفاله وشيوخه ونسائه، وتحويل قسم كبير من بلداته وقراه إلى سجونٍ لا يستطيع مبارحتها، على الرغم من موته داخلها بالقنص والقصف والتجويع.
هذا الوضع أنتجه عجزنا عن تعبئة قدراتنا الذاتية، ضمن أشكال تنظيمية تتناسب ونمط الصراع الذي نخوضه، وتفعيلها بطرق تصاعدية، تقرّبنا خطوةً بعد أخرى من هدفنا، وحتّمه فشلنا في وقف العدوان الأسدي على شعبنا أو كبحه، وتحقيق ولو نصف انتصار نرسي بواسطته ركائز وشروط ضرورية، لتحقيق تدريجي لما يطالب شعبنا به، منذ قامت الثورة: إقامة وضع ذاتي ثوري ووطني، يقنع العالم برحيل الأسد وتغيير النظام، وبناء نظام ديمقراطي، يضمن الحرية والكرامة والمساواة والعدالة لجميع المواطنين. وأنتجه أخيرا افتقارنا لخطة عسكرية استراتيجية، تترجم إلى برامج محلية ومناطقية ووطنية، تغطي بلادنا بكاملها، لحمتها وسداها في مرحلتنا الراهنة تكتيكاتٌ تراكميةٌ ناجحة، تعبر ميدانياً عن استراتيجية سياسية، تمس حاجتنا إليها، لأننا لا نمتلكها بعد. بما أننا نفتقر إلى جميع هذه المفردات، فإن تحركاتنا تتسم بالتخبط والجزئية والتقطع، ويعقب انتصاراتنا الباهرة هزائم محبطة وغير مبرّرة، وتحتجزنا توازناتٌ هشة، وعلى قدر كبير من الاضطراب والتذبذب، ويتعايش ساستنا وعسكرنا، كل على حده، مع واقع تتحدّاهم تعقيداته التي تصير، بمرور الوقت وتراكم الأخطاء، عصيةً أكثر فأكثر على الحل.
نحن في حاجةٍ إلى ثورة في الثورة، تغلب الطابع الوطني والشعبي من نضالنا في سبيل الحرية على الجوانب والولاءت الجزئية والدنيا التي حكمت حراكنا وأنشطتنا طوال الأعوام الماضية، ولعبت دوراً حاسما في نجاة النظام، على الرغم من أن بعضها استهدف مقاتلته. ونحن في حاجة أيضا إلى إعادة تعريف أوضاعنا السياسية والعسكرية وهيكلتها، بحيث نقوّم اعوجاجها، ونصحّح مساراتها، ونعيد بناءها بما يخدم مصالحنا الوطنية، الجامعة والعليا، ويهمش المصالح الجزئية والدنيا للأطراف المنخرطة في الصراع الذي هو صراع من أجل الحرية، وليس صراعاً على سلطةٍ يحق لنا رؤية مصالحنا الوطنية العليا بدلالتها، بدل أن نحدّدها هي انطلاقا منها، فلا تخدم مواقفنا عدونا: نظام الأسد، من حيث لا نريد. في النهاية، لن تنتصر الثورة ويهزم النظام، إذا لم ننجح في تغليب مشروع الحرية على مشاريع الاستبداد البديلة لها وللنظام، فالثورة لن تنتصر بمشاريع متضاربة، ينفي بعضها بعضاً، يخدم مشروع الأسلمة الاستبدادي منها النظام، بالتقائه معه على معاداة الحرية وتهميش (ومحاربة) حملتها، في صفوف الشعب والثوار في آن.
من دون "ثورة في الثورة"، تغطي سائر مواقفنا وأنشطتنا، لن ننجح في الحد من حجم ضحايانا الهائل الذي سنتمكن من تقليصه، إذا عقلنا دورنا في الصراع وصحّحنا أخطاءنا. وسنفشل في مبارحة الحلقة المفرغة التي ندور فيها، وتأخذ شكل انتصار نحققه اليوم، وهزيمة تلحق بنا غداً أو العكس، بينما يتكبّد مجتمعنا خسائر فادحة في الحالتين، ويعاني وطننا تدميراً شاملاً، ويموت شعبنا تجويعاً وحصارا وتشرداً.
هل يمكن أن تتحقق الثورة المنشودة، إذا لم تتوافق مصالح (ومواقف) جمهرة كبيرة من قادة حملة السلاح والمقاومين معها، ولم يعمل الساسة لامتلاك القدرة التي تتيح لهم القيام بها، ويبادر الشعب الذي صنع ثورةً من أجل حرية المواطن والوطن إلى تنظيم مظاهراتٍ وأنشطة عامة وكثيفة، تعبّر عن خياراته، شعباً متمسكاً بحريته، في مخيماته ومهاجره؟