تتلاشى الفوارق بين ظاهرتي «الحشد الشعبي» في العراق و «حزب الله» في لبنان. الأول ميليشيا مذهبية شيعية تمولها، رسمياً، الحكومة العراقية ويديرها الحرس الثوري الإيراني، والثانية ميليشيا مذهبية شيعية تعترف الحكومة اللبنانية بحقها في الوجود والعمل ويديرها أيضاً الحرس الثوري الإيراني.
والحال أن هذا التشابه راح يُغذي تشابهاً موازياً بين الأشكال الاجتماعية والسياسية للجماعتين في علاقتهما مع مجتمعي وبلدي المنشأ.
لكن التشابه لم يكتمل مصادفة، ذاك أن الحرس الثوري الإيراني لا يرى في الجماعات الشيعية خارج إيران سوى جسور صغيرة لحلم إمبراطوري، غير متبلور عقلانياً، لكنه يحضّ الخطى نحو التحول إلى واقع، على رغم الأكلاف الهائلة التي تترتب عليه. ولطهران هنا قصب سبق في التاريخ، ذاك أن الظاهرتين، «الحشد» و «الحزب»، يشتركان بفرادتهما كنموذجين غير مسبوقين في تاريخ الدول الحديثة.
النظر إلى العرض العسكري الذي نفذه الحزب في بلدة القصير السورية، يبقى خرافياً في أهدافه إذا لم يُنظر إليه انطلاقاً من المهمة الموكلة إلى الحزب في إطار المسعى الإيراني لجَسر مساحات هائلة من الديموغرافيا السنّية المعيقة حلمَ الإمبراطورية الافتراضية. تناول الخطوة الغريبة التي أقدم عليها الحزب تم بالنظر إليها في ارتداداتها ووظائفها اللبنانية والسورية، وأُغفلت الوظيفة الإيرانية للعرض العسكري. فلبنان ليس وحده الذي تعني الخطوة أنه مجرد «بلد سابق»، وسورية أيضاً بنظامها وحكومتها الرسمية ليست وحدها التي جرى عرض عسكري لـ «جيش» غريب على أرضها. الوقائع العراقية متصلة بما جرى في القصير. هناك بالقرب من مدينة الموصل ثمة من يسعى إلى جعل المساحات المنتزعة من «داعش»، ساحات ومعابر لا تخضع لسلطة واضحة ومضبوطة في منظومة العلاقات التي ترسيها فكرة الدولة.
هادي العامري قال أن «الحشد» سيكمل المهمة في سورية بعد هزم «داعش» في العراق. وهناك في شمال العراق، ثمة «قصير عراقية» تقيم فيها أقلية شيعية وأكثرية سنّية، تماماً مثلما تنتشر قرى شيعية قليلة بالقرب من القصير قال «حزب الله» في بداية حربه هناك أنه ذاهب لحمايتها. والقصير العراقية ليست الموصل طبعاً، إنما مدينة تلعفر التي يبدو أن ثمة إقراراً عراقياً وأميركياً بأن «الحشد»، وليس الجيش العراقي، الذي سيتولى خوض المعركة مع «داعش» فيها.
التشابه بين «القصيرين» السورية والعراقية احتاج أحلاماً إمبراطورية حتى تحقق، لكنه اليوم واقع تسنده مآسٍ وتنتظره أخرى. فتلعفر، إذا ما استعنا بالخيال الإيراني، ستتحول معبراً يصل الحدود الإيرانية والعراق بالحدود السورية.
هذا واقع غير متحقق الآن، وتحققه يتطلب «ترانسفيراً» للسكان السنّة لمحافظة ديالا، ومن يراقب الوقائع العراقية يعرف أن جزءاً من هذه المهمة أُنجز، وجزءاً آخر سيستعاض فيه عن «الترانسفير» بإخضاع الجزء المتبقي من السكان، وهذه أيضاً مهمة أنجز بعضها.
قفزة إلى المقلب الآخر من المشهد، إلى القصير السورية، تكشف أن الوقائع متطابقة. وإذا كان «حزب الله» عالقاً بين حقيقة أنه نجح في إفراغ مدن وبلدات ريفَي دمشق وحمص من سكانها السنّة، وبين الواقع الثقيل المتمثل في أن عدداً كبيراً من هؤلاء السكان نزح إلى لبنان ويشكل اليوم عبئاً مذهبياً عليه في بلد المنشأ، فها هو يسعى وبمساعدة نخب سنّية لبنانية حاكمة، أو تتوهم أنها حاكمة، إلى حل هذه المشكلة عبر مشروع خيالي أيضاً يتمثل في نقل جزء من اللاجئين إلى شمال سورية.
وهنا تحضر، وفي مقابل المقارنة بين «الحشد» و «الحزب»، مقارنة موازية بين النخب السنّية التي اختارها «الحزب» و «الحشد» شركاء ضمنيين لهما في هذه المهمة. فإغراق التمثيل السنّي في البلدين بالفساد يبدو قاسماً مشتركاً، وإذا كانت حقيقة التمثيل متفاوتة بين الجماعتين السنّيتين اللبنانية والعراقية لمصلحة الأولى، فالمرء لا يقوى على مقارنات بين نهاد المشنوق مثلاً وأثيل النجيفي، أو بين شقيق أثيل، رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي، وسعد الحريري.
لكن، يبقى الأهم أن هذا المشهد على افتراضيته ينطوي على احتمالات زلزال ديموغرافي مأسوي، لا سيما أن افتراضيته لم تضعف التصميم الإيراني على إنجازه، وأنه لا يبدو أن ثمة مقاومة صلبة له. فوصل القصير بتلعفر، رمزياً على الأقل، يفترض خطوات لا يبدو أن الإيرانيين يقيمون وزناً لتبعاتها. هم يعتبرون أن الحاجز الكردي السوري سيُبدده تحالفهم مع «حزب العمال الكردستاني» الذي سيتولى أيضاً عقبة مدينة سنجار العراقية التي يبدو أن لحزب العمال نفوذاً فيها يفوق نفوذ الأحزاب الكردية العراقية.
السيناريو الإمبراطوري الإيراني يعوقه الكثير من الحقائق حتى الآن: القاعدة التركية القريبة من بلدة بعشيقة العراقية، والبؤر الديموغرافية السنّية بدءاً من بعقوبة في العراق وصولاً إلى حمص في سورية. لكن المؤشرات إلى مباشرة طهران مشروعها كثيرة، وهي مؤشرات مذهلة في وضوحها. ففي ضوء ماذا يمكن المرء أن يُفسر إقدام حزب لبناني على إجراء عرض عسكري في بلد آخر؟ أو أن يقول هادي العامري أن مهمة «الحشد» ستنتقل إلى سورية بعد العراق؟
هذا ما لم يسبق لـ «ميليشيا وطنية» أن جاهرت فيه.
يحصل ذلك في ظل تحول هائل يعصف بالجماعات الشيعية أينما وجدت. زائر جنوب لبنان سيلاحظ شبهاً مستجداً بينه وبين جنوب العراق على مختلف المستويات، بدءاً من العمارة الناجمة عن طفرة الصعود، مروراً بالسيارات صاحبة الزجاج الأسود التي كتب عليها «رافضي 313»، وصولاً إلى الجنازات الآتية من سورية في الحالة اللبنانية، ومن شمال العراق في الحالة العراقية، وما يرافق هذه الجنازات من تكثيف للطقس المذهبي.
وإذا كان الجسر «الإمبراطوري» الذي تسعى طهران لإقامته عبر الحروب، من حدودها مع العراق في ديالا وصولاً إلى سورية ولبنان، فإن الجسر الذي يتولى إيصال الشعائر المذهبية عبر تكثيف العلاقات بين الجماعات الشيعية، يتولى اليوم إذابة ما علق في بنية هذه الجماعات من خبرات «وطنية» في الدول التي كانت جزءاً منها، والشيعي اللبناني سيشبه الشيعي العراقي أكثر من مشابهته لبنانياً آخر.
المجلس الحسيني الذي أقامه حجاج شيعة إلى العراق في مطار بيروت لا يقل في دلالاته، على هذا الصعيد، عما جرى في القصير وما سيجري في تلعفر.
الملف السوري إلى أين، في ظل التحولات الإقليمية والعالمية وآخرها فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، والبرود الأوروبي المتمثل في التعاطي مع قضية اللاجئين، والتطرف الروسي العسكري الهادف إلى حسم الحرب؟
ساهم فوز المرشح الجموري دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية في ازدياد منسوب القلق في نفوس قادة المعارضة السورية، خصوصاً أن ترامب أعلن خلال حملته الانتخابية أن الأولوية في الشرق الأوسط هي لمحاربة «الدولة الإسلامية» (داعش)، وهي تأتي قبل الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد للتنحّي. وقال في رد على نية هيلاري كلينتون تسليح المعارضة السورية في حال وصلت إلى الحكم، أن «الأسد سيئ، لكن هؤلاء الأشخاص قد يكونون أسوأ منه»، منتقداً سياسة باراك أوباما في دعمها «أشخاصاً لا نعرف هوياتهم وقد يكونون من داعش».
ويقول محلّلون أن موقف ترامب من سورية، يطلق يد الروس عسكرياً، وهو ما تُرجم ميدانياً في نية الجيش الروسي دخول أحياء حلب الشرقية، وتوسيع المعركة لتشمل إدلب وحمص، وسط موافقة أميركية صامتة، واستنكار أوروبي عاجز. كذلك، فإن سيطرة الجيش السوري على المزيد من الأراضي، يُسقط مخطّط التقسيم الذي تردد أن الإدارة الأميركية كانت وضعته للمنطقة، ويترك الباب مشرعاً لتصورات حلول جديدة، أبرزها ما بات يتردّد في أوروبا عن علمنة الدولة السورية الجديدة، كنموذج متقدّم للتعايش بين الطوائف المختلفة التي تشكّل الكيان السوري.
وتستشهد أصوات أوروبية بما حقّقه المفهوم العلماني في دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، والتي عانت ما عانت من الحروب الدينية والطائفية الطاحنة بين البروتستانتية والكاثوليكية، إذ أرست العلمانية ثقافة العقل والحرية والحداثة، المستقلة عن أي تأثير ديني أو فلسفي. وسمحت في المقابل باستيعاب كل التراث الفكري الإنساني بتياراته المختلفة، الديني منها واللاديني والفلسفي والوجودي.
وتسعى مصادر سورية علمانية في باريس، إلى إقناع المعارضة السورية المعتدلة، بالدولة العلمانية كحل للملف السوري، بعد تنحي الأسد ضمن اتفاق دولي بين الأطراف المختلفة. بمعنى أن تكون الدولة العلمانية السورية المرجوّة دولة تفصل بين السلطات السياسية والمالية والعلمية والدينية، وتخضعها جميعها للقانون المدني الذي يحدد أدوارها وميثاق علاقاتها. ومن شأن هذه الدولة أن توفّق بين النسيج السوري المتنوع، وتضمن المساواة الكاملة بين الأعراق المختلفة وبين المتدينين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، واللامتدينين، وحتى الملحدين، وتدافع عن حرية أبنائها المطلقة في إيمانهم، أو عدم إيمانهم. ويتحول الدين في الدولة العلمانية إلى سلطة روحية مستقلة، لا تخضع للسلطة السياسية.
وإذا كان مفهوم الدولة العلمانية يلاقي الفكر العربي المتنور وعقائد بعض الأحزاب العلمانية المحلية، فإن تطبيقه دونه عقبات عدة أهمها يهودية الدولة الإسرائيلية الرافضة مشاركةَ الفلسطينيين الحقوق والواجبات في دولة واحدة، والمحيط الإقليمي المتديّن الرافض نموذجاً علمانياً قد يتمدّد إلى دول مجاورة، أولاها لبنان والعراق بأنظمتهما الطائفية التي نخرها الفساد على أساس المحاصصة وتقاسم موارد الدولة بين زعماء الطوائف. وبعدهما، من يدري، قد تكرّ السبحة.
سيبقى باراك أوباما الرئيس الأميركي الأكثر مهارة في الكلام والوعود على الصعيد الدولي والأقل تحركاً لمكافحة جرائم ضد الإنسانية بين سابقيه. وليست إدانة البيت الأبيض للقصف الوحشي على مدينة حلب ومستشفياتها من النظام السوري وروسيا، سوى مجرد رفع عتب من إدارة تخاذلت مع موسكو وتركتها تهيمن بوحشية، مع إيران و «حزب الله»، على سورية ولبنان والعراق.
ألا تستحق حلب الجريحة المتألمة، حيث يعيش ربع مليون شخص تحت حصار ويعانون نقص الأدوية والأطباء، وحيث عناصر الدفاع المدني عاجزون عن تغطية الجثث من قصف متواصل لنظام بشار الأسد وحاميه جيش فلاديمير بوتين، أكثر من إدانة من البيت الأبيض؟
كارثة إنسانية يرتكبها بحق شعبه رئيس ينوي البقاء على رأس بلد دمره، ويعتقد بعض القيادات الغربية أنه ينبغي إعادة فتح الحوار معه، وأحدهم رئيس حكومة فرنسي سابق هو فرانسوا فيون أحد مرشحي الحزب الجمهوري للانتخابات الأولية للرئاسة.
إن عدم مبالاة العالم بما يرتكبه النظامان السوري والروسي في سورية مريع. سمعنا سيد البيت الأبيض في العام 2013 يهدد النظام السوري إذا تجاوز «الخط الأحمر» باستخدام الأسلحة الكيماوية، وتبين أنه خط أحمر وهمي. فماذا عن الخط الأحمر للجرائم ضد الإنسانية؟ إن مواقف أوباما كما سكوت العالم العربي عما يجري في حلب وفي سورية عموماً أمر مذرٍ لمستقبل الشعوب العربية. مصر على سبيل المثال تؤيد بقاء الأسد لأنه في اعتقاد القيادة المصرية «يتصدى للإخوان المسلمين»، في حين أن جرائمه ضد الإنسانية ستقوي نشر التشدد والتطرف الإسلامي. فروسيا تركز كل ضرباتها على حلب ومدنييها وأطفالها ومستشفياتها ومدارسها. وليس صحيحاً أن روسيا والنظام السوري يركزان على «داعش»، ففي حلب ثوار أخرجوا «داعش» منها، في حين أن روسيا والنظام والتحالف ضد «داعش» تركوا الرقة معقلاً للتنظيم ولم يتعرضوا لها رغم إعلاناتهم. إن مخاوف بعض الدول العربية التي جعلتها تسكت عن هذه الجرائم هي سوء تقدير معيب، بل عجز سياسي واضح. لم نسمع صوتاً عربياً يحاول وقف جريمة الأسد وبوتين ضد الإنسانية، فكيف نتوقع أكثر من إدانة أميركية؟
دُمّرت مدن سورية وبقيت بضعة أماكن يسيطر عليها النظام. لكن ما هو مستقبل نظام يسيطر على بعض الأماكن في البلد وهجر ملايين من شعبه وما زال بعضهم يدعي أنه الأفضل لحماية مسيحيي الشرق فيه. أي مسيحيين يريدون العيش في هذا الجو من الخراب والدمار والجرح العميق والتعصب والفوضى وانهيار المؤسسات وانقسامها إلى جماعات ومافيات تتقاسم النفوذ والأموال والتهريب؟
إن الوضع السوري مزرٍ، وهيمنة بوتين في المتوسط ستكون إرث رئاسة أوباما. فصحيح أن انتخاب دونالد ترامب مثل صدمة للعالم بسبب مواقفه المتطرفة وشخصيته الشعبوية المثيرة للقلق من مستقبل ديبلوماسيته، لكن شخصية أوباما المثقفة والراقية أساءت إلى الشرق الأوسط. وتبدو صداقة دونالد ترامب مع بوتين غير مقلقة، طالما أنه لا يمكنه أن الرئيس الأميركي المنتخب لن يعطي صديقه في الكرملين أكثر مما سلمه أوباما في سورية والمتوسط.
الخلاصة أن المأساة السورية المستمرة لن تجد حلاً، لا مع بقاء الأسد ولا مع تفاهم روسي - أميركي، لأن سكوت إدارة أوباما هو تنازل عن المصالح الأميركية في المنطقة وتفاهم على ترك روسيا تهيمن عليها. المستقبل قاتم، وستبقى سورية ومدنها الباسلة جريحة ومتألمة حتى إشعار آخر، مع الأمل بيقظة عالمية تخرج الشعب السوري من هذه الكارثة الإنسانية.
لم يعلن بعد الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بوضوح، أسس سياسته وطريقة عمله مع ملف الأزمة السورية، لكن رسائله في هذا الخصوص، إذا ما التزم بتنفيذها، تعني أنه سيطلق يد روسيا وإيران أكثر في تحديد مسار التفاهمات والتوازنات ورسم خريطة سورية الجديدة.
حذرنا ترامب، أولاً، من أن فتح الأبواب أمام اللاجئين السوريين سيزداد صعوبةً، إذا لم نتوقف مطولاً عند إعلانه رغبته "في إعادة الأقوياء منهم الذين قبلتهم الولايات المتحدة في أراضيها، فهناك احتمال أن يكونوا جيشا من إرهابيين، انتحلوا شخصيات لاجئين". وتبنى قبل الجلوس على مقعد الرئاسة فكرة أن تحالفاً أميركياً مع روسيا والنظام في سورية فرصة لهزيمة تنظيم الدولة، وهي السياسة التي يفضلها للتعامل مع الأزمة السورية. ثم قال إنه لا يحب بشار الأسد مطلقا، لكن تعزيز نظامه هو الطريق الأفضل للقضاء على التطرّف الذي ازدهر في فوضى الحرب الأهلية. "الأسد بالنسبة لي يأتي في الأولوية بعد تنظيم داعش".
يبدو أن واشنطن تريدنا أن نتغاضى، ونتعاون معها في الجمع بين مشروعية التدريب والتسليح والتنسيق الذي تنفذه مع الوحدات الكردية في سورية وقانونية وجود قوات حزب الله اللبناني على جبهات القتال هناك، على الرغم من تعارضها مع شعار النأي بالنفس اللبناني. وأخيراً، أن نتجاهل رغبة الحشد الشعبي العراقي الالتحاق بقوات النظام في سورية، من دون سماع رأي الحكومة المركزية في بغداد.
تريد واشنطن محاربة تنظيم داعش، ومنح الوحدات الكردية السورية التابعة لحزب صالح مسلم (الاتحاد الديمقراطي) دوراً أكبر في الملف السوري، ولا تريد تقديم السلاح النوعي لقوى المعارضة، مخافة أن يقع بيد جيش الفتح والمتشددين، وهي تحاول أن توازن مواقفها من خلال طمأنة الثوار أنها ستعرقل خطط تقديم العون العسكري للنظام. لو كانت واشنطن تريد أن تخدم حقاً لكانت فعلت أبسط ما في مقدورها، وهو إنهاء مشاركة حزب الله ووجوده العسكري في سورية، بالتنسيق مع السلطات الرسمية اللبنانية. هي لم تفعل ذلك، ليس بسبب عجزها، بل بسبب عدم رغبتها في قطع الطريق على هذا الوجود الذي يخدم أهدافها هناك. وها هي الآن تتابع عن قرب إعلان "الحشد الشعبي" رغبته في التوجه إلى سورية لدعم النظام، فهل هو مشروع أميركي آخر لتعقيد المشهد السوري، وتعطيل التقارب والتنسيق التركي الروسي هناك؟
لم تعرقل واشنطن الخطط التركية في التعامل مع ملف الأزمة السورية فقط، بل كانت، أيضاً، تحولها أوراق مساومة، تناور بها مع موسكو وإيران ضد شريكها التركي. هي التي وعدت بدعم مشروع تدريب وحدات في المعارضة السورية المعتدلة وتجهيزها، وفتح الطريق أمامها، وتخلت عن كثير من تعهداتها، وربما هذا ما دفع أنقرة إلى تغيير سياستها، وطريقة تعاملها مع الملف السوري، وتحركها باتجاه الدخول في المواجهة العسكرية المباشرة مع تنظيم داعش، وطرده من شمال سورية، في إطار خطة تنسيق واضحة المعالم مع موسكو لقطع الطريق على المناورات الأميركية ضدها هناك. ويعد قرار فرض العقوبات على مزودي النظام السوري بالسلاح رسالة أميركية لروسيا وإيران باتجاه تعقيد الملفات، وإطلاق يدهما أكثر لا غير .
ما الذي يعنيه كل هذا التجييش والحشد العسكري التركي على الحدود مع سورية والعراق، لو لم تكن أنقرة تريد توجيه رسائل مباشرة لإدارة أوباما، قبل غيرها، أن الرهان على مواقف الحليف المفترض لم تعد سياسةً مغرية لأنقرة، وأن لا أحد يحكّ جلدك مثل ظفرك.
إما أن نكون موحدين وأقوياء في حوارنا مع ترامب في الأسابيع المقبلة، ونضع أمامه جردة الربح والخسارة الأميركية، ونقنعه بها، أو أن نتخلى عن خيار النزول إلى البئر بالحبل الأميركي، والبحث عن بدائل إقليمية أخرى، كما فعلت تركيا أخيراً، ما قد يقود واشنطن إلى تغيير مواقفها وأساليبها .. أو أن نقطع مع الإدارة الأميركية، إذا ما تصلبت في دعم الوحدات الكردية في سورية، ولعب ورقة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، بتشجيعه على البقاء في بعشيقة، وفتح الطريق أمام وحدات العمال الكردستاني للانتشار في سنجار، بهدف الرهان على خطة فوضى خلاقة جديدة، لا تملك غيرها من خيارات.
الدخول العسكري التركي إلى شمال سورية هو الذي أبقى الأتراك، في اللحظة الأخيرة، أمام طاولة المساومات الإقليمية، لا بل هو اليوم الذي حول أنقرة إلى لاعب أساسي في توجيه مسار التطورات في شمال سورية نفسها. والزيارات واللقاءات التركية الروسية، السياسية والعسكرية والأمنية على أعلى المستويات، في الأسابيع الأخيرة، وعدم مشاركة الطيران الروسي في قصف حلب، كما تعلن موسكو، تطورات تؤكد وجود خطة تركية روسية تتقدّم على الأرض، وأن واشنطن التي فقدت فرصة المناورة على خط التوتر التركي الروسي بدأت تقدم أوراقاً مغرية للبلدين، بينها قرار الوحدات الكردية مغادرة منبج بذريعة محاربة تنظيم داعش في الرقة، وإعلان المبعوث الخاص لقوات التحالف ضد "داعش"، بريت ماكفورك، أن التنسيق التركي الأميركي مستمر في معركة الرقة. وكشف رئيس الأركان الأميركي، جوزف دانفورد، عن أجزاء مهمة من ورقة التفاهم بين أنقرة وواشنطن، في معركتي الموصل والرقة. ما لا نعرفه بعد هو ما إذا كانت الخطة التركية هي فتح الطريق أمام الجيش السوري الحر للاقتراب من الرقة، وأخذها من "داعش"، أم إن إيصاله إلى مدينة الباب هو أكثر ما يمكن أن تقدمه تركيا لنفسها، ولقوى المعارضة، في إطار خطة بناء "المدينة الآمنة"؟
ما هو نوع التفاهم التركي الروسي بين الرئيسين، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، وبين القيادات العسكرية العليا في البلدين التي بدأت عملية تنسيق وتبادل معلومات عسكرية وأمنية واسعة؟ حصلت تركيا على كثير مما تريده في شمال سورية، لكننا لا نعرف ما إذا كانت نقطة النهاية هي مدينة الباب ومشروع المنطقة الآمنة، أم هي البداية لخطة سياسية عسكرية أوسع أعدت بين أنقرة وموسكو، ووجدت واشنطن نفسها ملزمةً بدعمها؟
بقي أن نرفع معنويات الرئيس الأميركي بعض الشيء، ونقول إن الموقف الأميركي في سورية لا بد أن يرتبط مباشرة بملفات ومواقف أميركية إقليمية عديدة، متداخلة مع الملف السوري، وهي أبعد جداً من مسألة خيار أولوية ترامب بين الحرب على تنظيم داعش أو على النظام في سورية. ونحن ما زلنا لا نعرف تماماً ما الذي سيقوله ترامب للإيرانيين، بعد دخوله هو وفريق عمله البيت الأبيض. وهل ستقبل موسكو أن يصعّد ترامب ضد طهران في موضوع الملف النووي، ضاربا بعرض الحائط بنود اتفاقية التفاهم المعلن بين الغرب وإيران؟
تريد موسكو تحديد حصتها في سورية، وتضع أسس حمايتها، وتركيزها هناك في بناء منطقة آمنة مشابهة للمنطقة التركية في محيط حلب واللاذقية. تريد أن تعيد بناء المدينة على طريقتها هي، كما فعلت في الشيشان وقرقزستان والقرم، وتضمن توازنات حديقتها الخلفية هناك، التي ستوصلها إلى شرق المتوسط. وهذا ما تحاول إقناع أنقرة به من خلال دعمها في تعطيل مشروع الكيان الكردي الأميركي في المنطقة نفسها، فهل يطرح ترامب مشروعاً خدماتياً بديلاً، أم أنه سيوقع لموسكو على ما تريد في إطار رسم خريطة تقسيم جديدة لسورية تقبل واشنطن وحلفاؤها الأكراد فيها بالتمدّد في شرق الفرات، ويحفظ كل طرف مصالحه في التفاهم الجديد؟
احتمال آخر لا نناقشه كثيراً في تركيا، وهو إما أن أنقرة لا ترى المصيدة المعدّة لها في حلب، عبر تفاهم أميركي روسي إيراني لإسقاطها في المستنقع هناك، عبر استدراجها إلى مدينة الباب، أو أن سيناريو التفاهم التركي الروسي على إخراج مجموعات "فتح الشام" من حلب هو الذي سيشكل مقدمةً لخطة حل جديدة في سورية، تبدأ وتنطلق من الشمال، وضعت تفاصيلها على خط أنقرة موسكو؟
مسؤولية الائتلاف الوطني السوري المعارض والجيش السوري الحر، بعد الآن، أن يزيدا من حجم التنسيق والاستعداد لجولاتٍ أصعب في المواجهة مع النظام وحلفائه، من دون أن نغفل احتمال إقدام الإدارة الأميركية الجديدة على لعب أوراق محلية وإقليمية كثيرة ضدهما. توحيد صفوف قوى المعارضة، سياسياً وعسكرياً، ورفع مستوى الجهوزية، واستغلال الفرص التي تملكها في تحالفاتها مع قوى عربية وإقليمية وغربية، ورفع صوتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتفعيل خطة المنطقة الآمنة في شمال سورية، والتصدّي لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، الكردي التقسيمي، وبين ما يمكن فعله على المدى القصير، مصير حلب هو النقطة العالقة الوحيدة في المشروع.
لن يهدأ عداد أرقام القتلى في جميع الديار السورية، طالما أن ماكينة القتل الروسية حضرت بكامل طاقتها، فأينما ضربت ستكون غلتها في الصيد وافرة، ليس لشطارة من الصياد، ولا بسبب جودة سلاحه ودقة تصويبه، لكنهم السوريون الذين ينتشرون على المخابز في حلب وبساتين الغوطة وطرق المدارس في إدلب وأرياف حمص وحماة ودرعا.
إنها حربٌ على اللحم الحي، ما دام ثوار البلاد من أهلها، من الأحياء، نواطير الأرض والبيوت، حرب لن تكلّف روسيا جهوداً استخباراتية كبيرة، ولا عناء رصد المقاتلين وتعقب تحركاتهم، حرب تقف فيها حاملة الطائرات على مسافة مئات الأميال، لتقصف المقاتلين. وفي الأصل، لا يمكن لأكثر تكنولوجيات المراقبة تطوراً فصل المدني عن المقاتل في سورية، ما دام لهذا المقاتل بيت وعائلة وأطفال يلعبون حوله. وأغلب من هم في سورية ليسوا مقاتلين احترافيين بقدر ما هم آباء يحمون أبناءهم، حماة الدور "المنازل".
إذاً، ليست مفارقةً أن نتائج الضربات ستكون على الدوام إيجابية، بالمعنى العسكري الاحترافي، سيؤشر القائد بعلامة صح على كل دفعة صواريخ، يطلقها الرماة، لأنها بالفعل ستقتل وتصيب عمراناً وبشراً، وسيؤشر القائد على كل صاروخ، وكل طائرة، لكي تتحوّل إلى ماركة للبيع في سوق السلاح، بعد أن جرى اختبارها. هل يستطيع أحد نكران أنها لم تحقّق إصابات؟ هل ينكر أحد فعاليتها! حسناً أنتم تقولون إن أعداد القتلى بالمئات، فمن قتلهم إن لم تكن أسلحتنا؟ ليس مهماً الآن أنكم تقولون إنهم مدنيون. سنسوّي هذه المسألة، وسنصّر على وصفهم إرهابيين، لدينا الوقت الكافي في هذا الخصوص، ونثق بقدراتنا الإقناعية، المهم أن تعترفوا بمزايا أسلحتنا وفعاليتها.
لا نقتل سكان حلب الشرقية وغيرهم في الجغرافية السورية يا سادة فقط. هكذا يقول لسان الروس، نحن نقيم معرض بيع أسلحة، ولدينا الوثائق التي تفيد باستئجارنا المواقع اللازمة لإقامة المعرض، موقعة من رئيس سورية. أما آلية العمل، فتقوم على أساس التجريب المباشر، وعلى أهداف حيّة، ونقدّم للزبون فرصةً لاختبار جدوى الأسلحة وفعاليتها، فما عليه إلا أن يتابع الفيديوهات التي ستنتشر بعد كل صاروخٍ نطلقه من سفننا البحرية، وسنتكفل نحن بأخذ اللقطات الأولى لانطلاقه، زيادة في المصداقية، ولإثبات أننا لا نغشّ الزبون ولا ندَعي. لكن، من الغباء أن تصدّقوا أن أحياء حلب الشرقية، أو أي مكان آخر في سورية، يستدعي حضور حاملة طائرات وبارجة نووية ومدمرات وفرقاطات، وحتى غواصات.
على ذلك، لن تخيب أي ضربةٍ من ضربات بوتين، إما ستجد أهدافها من أطفال ينتشرون في الأزقة، أنهكهم الحصار، ويبحثون عمّا يسد رمقهم، أو عن حطبٍ يدفئون به عظامهم، أو من نساءٍ يجلبن ما يتيسر لسد جوع بطون الأولاد، وحتى مقاتلين يقفون على تخوم الأحياء، لكي لا تدخل مليشيات الموت، القادمة من أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان، إلى الأحياء خلسةَ، وتستبيح العوائل. لن تخيب ضربات بوتين، طالما أن بنك أهدافه مستشفيات الأطفال وبنوك الدم وبيوت العجزة والمعاقين.
لم يكتف بوتين بقتل ضحاياه في سورية بالصواريخ المجنحة والطائرات، بل صمّم آلة دعائية ضخمة، لضخ الكذب وتشويه الضحايا، تشابه التي استخدمتها النظم النازية والفاشستية، تقوم على تزوير الحقائق، وتغييب الحقيقة، وتصنيع حقائق ملتوية. لكن، من أين لنا بيكاسو يكشف حقيقة غيرنيكا على تلة الباسك التي اغتالت طائرات الموت الهتلرية والموسولونية أسواقها وساحاتها، دفاعاً عن ديكتاتور إسبانيا فرانكو؟ ثم أليس غريباً أن بوتين بدأ حملته الدموية أخيراً على حلب، بعد أول اتصال مع دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المنتحب، الذي كان قد أعلن أنه سيمزّق كتاب سياسة سلفه باراك أوباما بشأن سورية، ذلك الكتاب الركيك والمرتبك أصلاً. لربما يريد ترامب الذي يصف نفسه بأنه صانع الصفقات، أن يعقد، على هامش معرض القتل الروسي، أولى صفقاته السياسية التي تجلب لأميركا ربحاً صافياً، ممثلاً بتجنيب أميركا أثمان التدخل في الحرب السورية.
المفارقة في كل هذا المشهد، أنه لا أمم متحدة ولا منظمات حقوق إنسان ولا دول، سألت روسيا وإيران: بأي حقٍّ تقتلان السوريين، وتوجهان لهم الإنذارات، وتطالبانهم بترك ديارهم؟ هل دكّت صواريخ ثوار حلب أحياء موسكو وطهران، حتى يحق لهؤلاء فرض الحصار وإعلان الحرب وتجنيد المرتزقة؟ أليست كل هذه الإجراءات مخالفات صريحة للقانون الدولي الذي يفترض أن يكون الأداة الناظمة للعلاقات بين الدول والشعوب في العصر الحديث! لا يوجد في كل قواعد القانون الدولي، ونصوصه، ما يجيز التحالف بين دولة وأخرى ضد شعب الدولة. التحالفات عادة ما تكون ضد أعداء خارجيين، يقفون على الحدود، وهذا ما هو ليس متوّفراً في الحالة السورية.
يخطئ من يعتقد أنه بقتل السوريين لن يخسر العالم شيئاً. لذا، لا بأس أن تجري العملية بهدوء، وخارج حسابات الربح والخسارة الدولية. ستكون الضحية الأولى السلم العالمي الذي لن يتحقّق في ظل هذه المعادلة القبيحة، وإذا كان العالم قد وارى عورته بعد مذابح راوندا، بذريعة أنه لم يكن يعلم، فإن المذبحة في سورية على الهواء مباشرة، وعلى هامش أكبر معرض لبيع قيم الإنسانية العتيقة والمستهلكة من الشجاعة والأخلاق والحق، فمن يشتري؟
يجد الناظر في الدور الإيراني الإقليمي، وخصوصاً في المنطقة العربية، أن ما يفعله نظام الملالي الإيراني في المنطقة العربية، من تفتيتٍ وتخريب، على أساسٍ مذهبي، أسهم في تخريب دولها وتغيير تركيبتها الديموغرافية، وتمزيق النسيج الاجتماعي المتراكب منذ آلاف السنين، حيث يستغل هذا النظام حالات اللا استقرار والتردّي والأزمات لإشعال حروبٍ مذهبيةٍ ما بين أبناء البلد الواحد، عبر تشكيل مليشيات مذهبية يستخدمها أذرعاً أخطبوطية، بدعاوى زائفة، بغية تحقيق مشروع هيمنة وسيطرة، فحيثما نلتفت في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن وسواها، نجد أطراف هذا الأخطبوط المهووس بمعارك الماضي الغابر تمعن في تخريب النسيج الاجتماعي والتركيبة الديموغرافية، فضلاً عن استغلالها كل الأساليب القذرة لبسط النفوذ والهيمنة، مهما كان الثمن، ويظهر ذلك جلياً في التحالف المذهبي مع نظام الاستبداد الأسدي، والسيطرة الإيرانية القوية على معظم القوى السياسية في كل من لبنان والعراق واليمن، والتي أنتجت طائفيةً سياسية، تجد مرجعيتها الدينية والسياسية لدى ملالي إيران، وهي قوى شكلتها، أو أسهمت في تقويتها ورعايتها، وخصوصاً في لبنان والعراق.
ويشكل كل من لبنان والعراق نموذجاً للقوى السياسية المذهبية والمليشياوية التي شكلها نظام الملالي، أو على الأقل، رعاها وما تزال تتلقى رعايته ودعمه وتوجيهه، وهي مليشيات لا تدين بالولاء للوطن أو الدولة التي توجد فيها، ولا تكترث بمكوناتها الاجتماعية، الشيعية أو السنيّة وغيرها، وما تقوم به من عمليات إرهاب وجرائم، يصيب الجميع، ولا تمثل من تدّعي الانتماء المذهبي إليهم، بل أوامر نظام الملالي ومخططاته.
وليس ذلك وحسب، بل إن نظام الملالي رعى مصالحاتٍ بين القوى والأحزاب المذهبية الشيعية في العراق. كان أهمها، المصالحة ما بين مقتدى الصدر، مع قادة مليشيات "الحشد الشعبي" الذي يستخدمه نظام الملالي لتنفيذ مخططه في استكمال حزامهم المذهبي الشيعي، الواصل بين إيران وسورية مروراً بالعراق، عبر تلعفر والموصل، بالتعاون مع حليفهم حزب العمال الكردستاني الموجود في بعض مناطق وجبال سنجار، حيث يريد نظام الملالي من هذا الحزام أن يسهم في تزويد نظام الأسد في سورية بالمليشيات المذهبية العراقية والإيرانية، وفي دعمه ومده بالمعدات العسكرية واللوجستية. كما قام نظام الملالي برعاية لقاء ما بين الصدر وخصمه اللدود نوري المالكي، صاحب الدور الأكبر في تسليم الموصل لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والمسؤول عن "فرق الموت" التي قامت بتصفيات واغتيالات لكوادر علمية وعسكرية عراقية، انتقاماً لدورهم في الحرب العراقية الإيرانية، فضلاً عن تصفية الأصوات المناهضة للطائفية السياسية، ولدور نظام الملالي في العراق.
ولعل دور نظام الملالي الحاضر بقوة في الصراع على سورية يكشف طبيعة وتركيبة العقل السياسي الإيراني السائد، المتحكم في ساسته، حيث يشير النهج الذي اتبعه هذا النظام منذ البداية في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل لنظام الاستبداد الأسدي، قرين نظامهم في النهج والممارسة والتوجهات، يشير إلى حجم التورط والتورّم الذي أصابه، إذ لم يتوان نظام الملالي من زجّ مختلف أنواع الميليشيات المذهبية، بدءاً من حزب الله اللبناني، ومروراً بالمليشيات العراقية، "أبو الفضل العباس" و"النجباء" و"عصائب الحق"، وصولاً إلى المليشيات الأفغانية، "فاطميون" و"زينبيون" وسواهم، فضلاً عن زجّ وحدات عديدة من الجيش الإيراني والمستشارين وضباط الحرس الثوري في الحرب ضد غالبية السوريين، يتقدمه قائد فيلق بدر في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، الذي كان نظام الملالي يحرص، على الدوام، تسريب صور له مع قادة المليشيات في مناطق عديدة في كل من سورية والعراق.
ويمكن القول إن ما يقوم به نظام الملالي الإيراني في الدول العربية المشرقية مبني على دعاوى مذهبية خادعة، لا تمتّ للمذهب الشيعي بصلةٍ، ولا للدين الإسلامي، إنما تجسّدها سردية فارسية ثأرية، تضرب جذورها في الوعي السياسي الإيراني السائد، الذي أنتج، منذ زمن بعيد، مشاعر وسرديات معادية للعرب، وللسنّة. لم تستوردها تشكيلات الوعي الإيراني من الوعي الغربي، لأنها نتاج سيرورة التفكير القومي الفارسي والسياسي الإيراني في القرن التاسع عشر، على الرغم من أنها كانت متأثرةً بالنظريات العرقية والفاشية في الغرب الأوروبي، وتفاقمت مع وصول الملالي إلى حكم إيران، وسعيهم إلى تحقيق مشروع هيمنة وتسلط على المنطقة.
وتستلزم قضية البحث في جذور ما يقوم به نظام الملالي العودة إلى ما شهدته إيران في القرن العشرين، من سياساتٍ قام بها نظام رضا بهلوي، وتركّزت على إخضاع الجماعات غير الفارسية، حيث عمل الجيش على تنفيد سياسات تغييرٍ ديموغرافي، كان هدفها بعثرة الجماعات الأهلية، لكي يشكلوا أقليةً في كل موقع، وفُرض على الرجال والنساء ارتداء الثياب والقبعات الأوروبية، بدل الملابس التقليدية المميزة لكل إثنية، وحرّم رضا خان الذي صار فيما بعد رضا شاه بهلوي استخدام التقويم القمري الإسلامي، واستعاض عنه بالتقويم الشمسي الفارسي، وجرى تمجيد إيران ما قبل الإسلام على أيدي النظام البهلوي، واخترعت سرديات وروايات ثقافية تلعن العرب والمسلمين لتسببهم في انحدار إيران من العظمة التي كانت عليها في مرحلة ما قبل الإسلام. وسعى النظام البهلوي إلى تغيير الهوية الإثنية للشعوب غير الفارسية في إيران، بهدف جعلها جزءاً من الأمة الإيرانية الحديثة، واتبع سياسة تفريس إيران، من خلال إصلاح اللغة و"تنقيتها" من المفردات والعبارات ذات الأصول العربية.
غير أن الأمور لم تتغير كثيراً في سبعينيات القرن العشرين المنصرم وثمانينياته، إذ ومع قيام نظام الملالي الذي سمى نفسه "جمهورية إيران الإسلامية"، جرى إدراج الإسلام الشيعي بوصفه جزءاً من الهوية الثقافية الإيرانية الفارسية، ووضع الآخر السني، العربي، في حالة خصام وصراع دائمين مع الأنا الشيعي، الفارسي.
وتبنى المتشدّدون في نظام الملالي مشروعاً إيديولوجياً دينياً، يتخذ تلاوين مختلفة في المنطقة، ويقف وراءه عقلٌ سياسي، يخلط ما بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً، وفق فهم رجال دين متزمتين، وبين الطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا، والتاريخ الغابر، ما جعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة وإلى التغيير، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل، المشروعة وغير المشروعة.
في الأدب الفارسي
ويضرب هذا النمط من التفكير الإيراني السائد عميقاً في مختلف الميادين، حيث تكشف صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث عن بعض آليات اشتغال الخطاب القومي الإيراني في عملية تمثله الآخر العربي، من خلال تتبع نصوصٍ أدبيةٍ ترسم صورة العرب، وتبيان دلالاتها في السياقين الأدبي والتاريخي، والعمل على إبراز الأبعاد المتخيلة في هذا التمثيل، من جهة كونها صوراً نمطية وأحكام ومواقف، بقدر ما تنهل من خزانٍ رمزيٍّ يكثّف الوجداني والعقدي والقدسي، فإنها تتبلور في شكل تدخلاتٍ وصداماتٍ ومعارك جرت في غابر الأزمان.
ويقتضي ذلك الوقوف عند ما أنتجه الخطاب الفارسي من طرقٍ لإدراك الآخر وتمثله، والتساؤل عما يعبّر عنه من إرادة للمعرفة بالآخر، في مختلف التمثيلات، الأمر الذي يطرح أسئلةً محرجة أمام الفكر الإيراني السائد، المنتج له، ولنمطه المهيمن، خصوصاً في هذه المرحلة التي تختلط فيها الرؤى والتصورات بالمصالح والرغبات، وتعيث فيها مختلف النزعات والعصبويات ما قبل المدنية.
وفي الأدب الفارسي الحديث، تظهر صورة العربي، بوصفها جزءاً من الإجابة عن سؤال الذات الإيرانية، حيث شكل مفهوم "الإيراَنيَة" هاجساً أدبياً، بل ومشكلةً سياسيةً واجتماعية انعكست في مختلف أنواع الأدب، بوصفها مشكلة البحث عن الهوية التاريخية والثقافية والقومية، حيث لجأ أغلب كتاب الأدب الفارسي الحديث إلى تصوير إيران أمة واحدة، من خلال تعريفهم للعربي، بوصفه الآخر. وهو تعريفٌ مقلوبٌ للإيراني، بوصفه الذات، بمصطلحات العرق واللغة أحياناً، وبمنظور الآخر، بمصطلحات الدين والتاريخ والثقافة أحياناً أخرى، وهو مسعى شكّل جانباً من إيجاد القومية الإيرانية وتشكيلها في القرن العشرين المنصرم.
وفي سياق الحفر في الذاكرة الفارسية، ترى الأكاديمية الأميركية، جويا بلندل سعد، أن النزعة القومية الإيرانية ثيمة ملحة في الأدب الفارسي الحديث، يعثر عليها في وصف التاريخ الاجتماعي واللون المحلي والعادات واللهجات وسوى ذلك. وتعني النزعة القومية الولاء والإخلاص للأمة. أما الكاتب الإيراني، شاه رخ مسكوب، فيعتبر أنه، منذ مجيء الإسلام إلى إيران، تأسّس الوعي القومي الإيراني على اللغة الفارسية، وعلى تاريخ ما قبل الإسلام، بالنظر إلى عاملي التاريخ واللغة. وعليه، تمّ تعريف إيران أمة من خلال اللغة والتاريخ المشتركين.
مفهوم "الإيرانية"
في المقابل، يوضح واقع إيران التاريخي أنها بلد ذو تنوع إثني كبير، فهناك الفرس، وهناك جماعات قومية أخرى من الأتراك الأذريين، والتركمان، والغاشاي الأتراك، وقبائل بدوية ناطقة بالتركية، والأكراد، واللور، والبلوش، والعرب، والأرمن، والآشوريين. وهم مميزون على الصعيد الثقافي، ولكل جماعةٍ منهم لغة وثقافة مشتركة، تميزها كثيراً أو قليلاً عن الجماعات الأخرى في إيران. وكانت مقاطعات خوزستان وجيلان وخراسان، إضافة إلى قبائل بدوية عديدة، تتمتع عملياً بالحكم الذاتي قبل عام 1919.
غير أن مفكرين إيرانيين سعوا، مع بداية الوعي القومي الحديث، إلى تأسيس تعريف جديد لمفهوم الإيرانية، بُني على الماضي ما قبل الإسلامي، فصوّر بعضهم إيران ساسانية، وأخمينية، دمّر حضارتها المزدهرة "البداة المتوحشون"، فرأى عدد منهم في الإسلام ديناً غريباً فرضته أمة "سامية" على "الأمة الآرية النبيلة"، وراحوا يصوّرون العرب المسلمين "حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون".
وبالاستناد إلى التمثيل الذي تقدمه، وتغذّيه عناصر عديدة، ثقافية ودينية، مذهبية، وتاريخية وجغرافية، صيغت النزعة القومية المذهبية الإيرانية، في التفكير السياسي، وفي الأدب وسواه، استناداً إلى نوعٍ من النزعات التمركزية التي تغري الذات المتوهمة بأوهام التفوق والنقاء والصفاء، وتجعلها قطباً يسم الآخر بالدنس والدونية والاختلاط. وعليه، تغدو هذه النزعة المغالية نوعاً من التعلق بتصورٍ مضاعف عن الذات والآخر. وهو تصوّر لا يصدقه غالبية الشعب الإيراني، كونه مخادعٌ وفارغ، ينهض على الثنائيات التي تقوم على الفصل والإحالة والتمايز والتراتب والتعالي، وتأتي القصص والمرويات، عبر الزمن، لتراكم الصور النمطية المتخيلة الناتجة عنها.
غير أن المشكلة أن نظام الملالي ثيوقراطي، يحتكر المقدّس، ويلغي الآخر المختلف معه، ويبيح تصفيته، متّخذاً مختلف الذراع والحجج، بالاستناد إلى هلوساتٍ وسردياتٍ مختلقة، ويعمل على زرعها في عقول ثلةٍ من المتطرفين، لكي يصبحوا مشحونين بدواعي الانتقام التاريخي المذهبي، ويسوّق ذلك لجموعٍ من الناس البسطاء الجاهلين حقيقية مشروعهم، الهادف إلى الهيمنة والتسلط على الدول العربية، بينما لا يكترث نظام الملالي الإيراني، في حقيقة الأمر، لا بالعرب الشيعة ولا بسواهم، إنما يستخدمهم وقوداً في حروبه الثأرية، يساعده في ذلك مهووسون بالمشروع الفارسي، أمثال حسن نصر الله وقيس الخزعلي وهادي العامري ونوري المالكي وسواهم، ممن باعوا ولاءهم لملالي إيران، وراحوا يعملون وفق أجندة ملاليها الجاثمين على صدور الشعب الإيراني منذ ما يقارب العقود الأربعة.
تأتي أهمية السياسة من كونها المؤثر بحياة الدول منذ نشأتها , و الإنسان منذ ولادته و حتى وفاته . فكل ما يتعلق بحياة الإنسان يسيس أو تشرف عليه السلطة السياسية . حتى غدت هذه الأخيرة تتدخل بجميع مفاصل الحياة البعيدة كل البعد عن السياسة و معتركاتها .
فالزراعة , و الرياضة , و الموسيقا ؛ تُعد من أبعد الأنشطة الحياتية عن السياسة . و مع ذلك نرى أن السلطة السياسية هي التي تشرف عليها و تمولها و توجهها بالشكل الذي تريد . ففي الكثير من الأحيان تحولت ساحات الملاعب الرياضية لساحات شبه معارك تُرفع فيها الرايات و الأعلام و الصور و الافتات , و تتعالى الهتافات بتمجيد الدولة أو رمزها . و الدولة التي تنتصر في نهاية المباراة تعتبر نفسها قد حققت نصراً سياسياً و عسكرياً على خصومها . كذلك الأمر بالنسبة للموسيقا التي ترعاها السلطة السياسية و تشرف عليها و توجهها و تسيسها بالشكل الذي تريده عبر برامج تلفزيونية , و محطات إذاعية و صحف محلية مسيسة تهدف لإيصال فكرة ما للجمهور عبر هذه الوسائل .
من هذا المنطلق فقد أولت الكثير من الدول الأوروبية خاصةً بُعيد الحرب العالمية الثانية أهمية كبرى للعلم السياسي الذي ما هو إلا أحد مؤسسات و مرتكزات السلطة السياسية و التي تعني الهيئة العليا القائدة في الدولة . لهذا ؛ فقد اعتمدت هذه الأخيرة على عباقرة و فقهاء السياسة في تثبيت حكمها من جهة , وعلى فقهاء و خبراء القانون الدولي العام و الخاص لتحديد علاقاتها بالدول الأخرى من جهة ثانية . و بما أنَّ للسياسة الباع الأكبر , و التأثير الأقوى في حياة المواطنين و تثبيت حكم الدول ؛ فقد أنشأت أفرع جديدة في جامعاتها يسمى ( علم السياسة ) بدأ يُدرَّس في بعض الجامعات الأوروبية . و كان شبه حكراً على أولاد المسؤولين و أغنياء أوروبا . ما لبث أن انتشر في العديد من الدول النامية نظراً لما له من شأن و تأثير في حياة الدول و المجتمعات . حيث أن الكثير من فقهاء علم السياسة اعتبر أن ميزان قوة الدول تُبنى بالدرجة الأولى على قوة السياسة للدولة . بالإضافة إلى حنكة و قدرة الأشخاص القادرون على الإمساك بدفة الحكم . فقادة و حكام الدول ؛ هم الأشخاص الذين يمتلكون الحذاقة السياسية , و المناورة مع أخصامهم , و القدرة على ضم العديد من هؤلاء إلى جانبهم . فالسياسية هي الدماغ السليم الذي يعرف كيف يخطط , و يتعامل , و يناور , و يهدم , و كيف يبني .
في العصور الحديثة ؛ أصبح كل شيء مسيس . و كل شيء تشرف عليه السلطة السياسية . حتى أصبحت القرارات العسكرية لا تتخذ من قبل القيادة العسكرية إنما تتخذ من قبل سلطة سياسية . و السماح باستخدام الأسلحة النووية و أسلحة الدمار الشامل لا تتخذ من قبل قيادة عسكرية ؛ إنما تتخذ من قبل سلطة سياسية . و إعلان السلم و الحرب و الاتفاقات و الهدن و تسليح الجيش جميعها تشرف عليها السلطة السياسة و تصدر منها القرارات .
لا نغالي كثيراً إذا قلنا أن الثورة السورية تأثرت كثيراً بغياب و فراغ الأدمغة السياسية منها , عن طريق التصفيات , أو الاعتقالات . بل و تهميش أغلب نشطائها السياسيين و الحقوقيين الذين ربما كان لبقائهم في سورية و أخذ دورهم المكان الرائد في تنسيق العمل السياسي , و توفير الكثير من الدماء و التضحيات , بل و توجيه الثوار على الأرض لما يخدم مصالح ثورتنا المباركة و يحقق لها النصر المؤزر القريب , و اختصار الوقت لتحرير سورية و إسقاط النظام المغتصب للسلطة . فعندما يأخذ سياسيينا مواقعهم , و يقومون بالتنسيق السوي مع بعضهم , و يتبعون سياسة ( الاستراتيجيا ) مع الضباط الأحرار ؛ لما آل إليه ملف ثورتنا المباركة إلى ما آل إليه . و لما أصبح ملف الثورة السورية من أعقد الملفات الدولية و في قمة الملفات الشائكة في القرنين العشرين و الواحد و العشرين . فنحن الآن أحوج ما نحتاجه هو عودة عباقرة السياسة الثوريين المخلصين إلى الساحة الثورية من جديد . المتواجدون في سورية و في المعارضة للمساعدة بالتخلص من أعداء الثورة و إعادتها إلى مرحلتها الذهبية . و هذا لا يعني الانبطاح , أو المهادنة , أو الاستسلام لدول الخارج . أو الدلالة على الاستعانة ببعض السياسيين المنبطحين و الذين يُحسبون على الثورة السورية . إنما يعني تحصيل حقوق الثورة , و انتزاع قرارتها من الذين تخاذلوا عن نصرتها , و ابتعدوا عن منهجها , و تكلموا باسمها . من هنا يكمن دور السياسيين المؤثرين بإعادة تنظيم صفوف الثورة الداخلية و إدارتها بالتعاون مع شرفاء سورية في الداخل و الخارج . و تسخير هذه الجهود لخدمة قضيتنا التي حاول البعض حرفها عن مسارها الذي حدده نشطاء الثورة و قادتها منذ أن انطلق أول هتاف في درعا و تبعه في حمص . لأن مصالح الدول في الحقيقة تكمن بمن يستطيع من أبناء سورية و قواها الثورية استقطاب القاعدة الشعبية , و يسعى لتحقيق أهدافها , و توطيد أمانها , و تأمين سبل دعمها و صمودها . عندها تقوم هذه الدول بتقديم المساعدة . و يتحدد نوع هذه الأخيرة وفقاً لقوة السياسيون , و وفقاً لقوة التنظيم و الإدارة اللذان ينبعان من احتضان المواطنين للثورة و قادتها و رموزها .
نوجه رسائلنا إلى المجتمع الدولي و نقول له : أن الثورة تمتلك من هو أثمن من المال السياسي و السلاح العسكري لتحرير الأرض من رجس الطغاة و المحتلين و المرتزقة . ما يمتلكه أهلنا و أخوتنا هو الكوادر القادرة على التنظيم و الإدارة عن طريق نشطائها السياسيين و ضباطها العسكريين و مثقفوها و مخلصوها في كافة المجالات , القادرون على العودة بها لمرحلتها و نقائها الأولي .
التقى ديكتاتور سورية صحافيين غربيين، أخيراً، في دمشق، زاروا سورية، تلبية لدعوة من الجمعية البريطانية السورية التي يرأسها والد زوجته، جراح القلب الدكتور فواز الأخرس. وقد نقلت أوساط صحافية تصريحات لبشار الأسد تعبر عن حالة التشتت الذهني والانفصال عن الواقع التي يعيشها بعد أكثر من خمس سنوات على حربٍ شنها على شعبه، محاولاً قمع انتفاضة الشباب السوري. فقد قال إنه سيستمر في الحكم حتى العام 2021 على الأقل، موعد انتهاء ولايته الثالثة على رأس مافيا عائلية تحكم سورية منذ 45 عاماً، ورث قيادتها عن أبيه حافظ الأسد، الذي كان وصل إلى رأس السلطة في سورية عام 1970 في ثاني انقلاب عسكري منذ انقلاب "البعث" عام 1963 الذي أطاح التعددية السياسية في سورية والحكومة المنتخبة، وأسّس لديكتاتورية عسكرية، تقوم على حكم الحزب الواحد الذي تحول إلى حكم الشخص الواحد، فقد سجن حافظ الأسد رفاقه الذين انقلب عليهم حتى وفاتهم في سجونه، وأسس حكماً مافيوياً عائلياً وراثياً أوصل سورية إلى الكارثة التي تعرفها اليوم.
بقاء الأسد في السلطة حتى عام 2021، في رأي مراقبين كثيرين، مرهون باستمرار الحرب في سورية، المرجح أن نهايتها ليست قريبة، إلا في حال تغيرت الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، بعد رحيل إدارة الرئيس باراك أوباما، أو بدأت روسيا تشعر أن رغبة رئيسها، فلاديمير بوتين، في استعادة هيبتها دولة عظمى على حساب دماء السوريين ودمار بلادهم أصبحت مكلفة جداً، وأن ورطتها في سورية لن تكون أقل كارثيةً من ورطة الاتحاد السوفييتي المنهار في أفغانستان، الأمر الذي لن يحصل غالباً، قبل أن تقرّر الإدارة الأميركية دعم فصائل المعارضة السورية بأسلحةٍ قادرة على إيقاع خسائر حقيقية في الجيش الروسي.
تقوم الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط إلى الآن (تلتقي، إلى حد ما، مع المصلحة الإسرائيلية) على استنزاف كل من روسيا وإيران ومليشياتها اللبنانية في مواجهة عشرات الآلاف من العناصر الجهادية المتطرفة الذين تم تسهيل وصولهم إلى سورية بهذا الغرض. ويتطلب استمرار هذه الحرب أيضاً بقاء بشار الأسد على رأس سلطةٍ وهميةٍ، لا تملك من أمرها شيئا، لكنها تسهل انضمام سوريين كثيرين، قتل الأسد آباءهم أو إخوانهم أو اعتقل أمهاتهم وأخواتهم وأذلهم في سجونه، أو قتلهم تحت التعذيب، إلى أي جماعة ترغب بقتاله.
فكما تشكل التنظيمات التكفيرية السنية عاملاً جاذباً للحرس الثوري الإيراني ومليشيا حزب الله اللبنانية، وهو أمر ضروري لاستمرار الحرب المذهبية في سورية والمنطقة، يشكل بقاء الأسد عاملاً ضرورياً لاستمرار إصرار سوريين كثيرين على التعاون، حتى مع الشياطين، للخلاص من شروره.
لكن، على بشار الأسد أن يكون متأكداً أن بقاءه أو رحيله، وزمن هذا الرحيل وكيفيته، بيد أصحاب القرار الحقيقيين، فيما يتعلق بالحرب السورية، وهو ليس واحداً منهم بالتأكيد.
عندما تتعب روسيا، وينهار اقتصادها، ويبدأ مواطنوها بالاحتجاج على فقدان آلاف من أبنائهم في الحرب السورية، ويكتشف قادة الجيش الروسي أن احتلالهم سورية لم يكن أكثر من فخٍّ نصب لهم لاستنزافهم، وعندما يقتنع بوتين بأن أحلامه في التحول إلى قيصر جديد على حساب الدم السوري ليست أكثر من أوهام، أو تقرّر الولايات المتحدة بأنها أضعفت إيران وحزب الله، والتنظيمات المتطرفة التي تشكل خطراً على أمنها بما فيه الكفاية، أو تشعر إسرائيل بأن الدمار الذي حصل في سورية نتيجة حرب بشار الأسد على شعبه أصبح كافياً لإشغال السوريين عقوداً في معالجة جراحهم. عند ذلك، يكون بشار الأسد قد أنهى مهمته، ولم يبق عليه إلّا أن يحزم حقائبه، ويتوجه الى لاهاي، ويشغل كرسيه الذي يستحق في قفص محكمة الجنايات الدولية، مع كبار قادة المافيا التي ورثها عن أبيه.
ستتوقف الحرب بالتأكيد يوماً ما، وبشار الأسد وجميع مجرمي الحرب من تكفيريين ومليشيات إيرانية ولبنانية الذين ساهموا في قتل السوريين، وتسببوا في مأساتهم، سينالون جزاءهم من دون شك.
لكن الأهم أن يعمل شرفاء سورية، وكل أصدقاء شعبها، ومحبو السلام في العالم على وقف هذه الحرب بأسرع ما يمكن، حتى يبقى من سورية ما يمكن إعادة بنائه، ومن شعبها من يتولى إعادة البناء، بعد زوال الطغيان والإرهاب عن أرضها وصدور أبنائها.
عززت التعيينات التي أعلنها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في إدارته المنتظرة، التوقعات بتبنيه موقفاً متشدداً من إيران، كان أعرب عنه خلال الحملة الانتخابية، خصوصاً حين وعد لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية «ايباك» في آذار (مارس) الماضي، بجعل «تفكيك» الاتفاق النووي مع طهران «الأولوية الأولى» لرئاسته.
تاريخ مرشح ترامب لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية «سي اي ايه» مايك بومبيو حافل بما يدعم هذه التوقعات. فهو كان أحد أبرز معارضي الاتفاق النووي داخل مجلس النواب الذي ترأس فيه لجنة الاستخبارات، وهو قدم مشاريع قوانين عدة لتشديد العقوبات على إيران قبل الاتفاق وبعده. كما أنه عبر قبل ساعات من إعلان اختياره للمنصب أول من أمس عن تطلعه إلى «التراجع عن الاتفاق الكارثي مع أكبر راعٍ للإرهاب في العالم».
الأمر نفسه ينسحب على مرشح ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين الذي عارض الاتفاق النووي بشدة، وأفرد القسم الأكبر من شهادة له أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس النواب الأميركي العام الماضي، لمهاجمة إيران التي اعتبرها «خطراً واضحاً على المنطقة والعالم». ودعا إلى تغيير نظامها ودعم «تشكيل جيش عربي على غرار حلف شمال الأطلسي» لمواجهتها.
وإذا صحت التكهنات التي تسوقها وسائل الإعلام الأميركية بأن وزير الخارجية الجديد المتوقع إعلان اسمه خلال أيام سيكون إما عمدة نيويورك السابق رودي جولياني أو السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون، فسيصبح المثلث المعني بالتعامل مع إيران في الإدارة الجديدة على الموجة نفسها من التشدد في مواجهتها، خصوصاً أن جولياني وبولتون عارضا الاتفاق النووي.
لكن هذا الزخم الذي اكتسبته معارضة الاتفاق النووي في الإدارة الجديدة لن يفضي بالضرورة إلى إلغائه، إذ كان لافتاً تنازل بعض أبرز معارضي الاتفاق الجمهوريين عن هذا الهدف قبل أيام واقتراحهم الإبقاء على الاتفاق مع التشدد في تطبيقه، كما دعا رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر الذي كان أحد الأسماء المطروحة لتولي وزارة الخارجية في إدارة ترامب. وهو اعتبر أن أميركا «فقدت نفوذها» حين أفرجت لإيران عن بلايين الدولارات بعد الاتفاق، ما يعني أن إلغاء الاتفاق «في مصلحة طهران».
غير أن الانعطافة اللافتة في ما يخص الاتفاق جاءت من إسرائيل التي كرر ترامب وبومبيو وفلين مراراً أن أمنها أحد أهم دوافع موقفهم الرافض له. فوفق ما نقلته وكالة «بلومبرغ» عن مسؤولين إسرائيليين، يعتزم بنيامين نتانياهو الطلب من ترامب في لقائهما الأول عدم إلغاء الاتفاق، والحزم في المقابل في مواجهة إيران ومحاصرة تمدد نفوذها الإقليمي، عبر التوسع في العقوبات غير المرتبطة بالنشاط النووي.
الدول الخمس الأخرى المنضوية في الاتفاق ليست متحمسة لإلغائه أيضاً. فالأطراف الأوروبية بدأت جني المكاسب الاقتصادية من الاتفاق النووي مع دخولها السوق الإيرانية، لا سيما فرنسا التي أبرمت عقوداً بليونية لتحديث أسطول الطيران الإيراني. وروسيا المنخرطة مع إيران في الحرب السورية لا تريد إضافة عامل توتر آخر إلى العلاقة. ولن ترى الصين مصلحة لها في عرقلة روابطها التجارية المتنامية مع طهران.
وفي ضوء التفاعل بين مواقف الحلفاء الدوليين لأميركا وتراجعات بعض معارضي الاتفاق الجمهوريين من جهة، والقناعات المتشددة لأركان إدارة ترامب من جهة أخرى، ربما تكون المحصلة توازناً جديداً في العلاقات الأميركية - الإيرانية يحمل الكثير من سمات ما قبل عهد باراك أوباما، لكنه قد لا يصل إلى حد إلغاء الاتفاق النووي.
يصف اللسان السائد من يقاتلون معاً ضد طرف معادٍ بأنهم "إخوة السلاح"، لأن الإخوة يمتنعون عن مقاتلة وقتل بعضهم، ولأن اقتتالهم يرجح كفة أعدائهم عليهم، ويفضي، في النهاية، إلى هزيمتهم، ويعتبر مساعدةً لهؤلاء، ولأن في هذا الحماقة كل الحماقة والإجرام كل الإجرام.
ليس من يقتتلون، والعدو متربصٌ بهم من جميع الجهات، وبجميع أنواع الأسلحة، إخوة، بل هم، بكل صراحة، أعداء. لو كانوا إخوةً لما اقتتلوا، حتى إن لم يكن هناك عدو يفيد من اقتتالهم. ولو كانوا إخوةً لفعلوا ما تفعله في العادة "هوايش" يتربّص بها مفترس، فهي تتحامى ببعضها، وتركض إحداها قرب الأخرى، وغالبا ما تدافع عن الفريسة التي ينجح المفترس في التقاطها أو الانفراد بها. كما أن وحيد الخلية، الأميب الذي هو أدنى الكائنات الحية تطوراً، يتكيف مع تبدل شروط عيشه، ويبدل أوضاعه بما يحفظ حياته. لكن "إخوة السلاح" في الغوطة الشرقية وحلب لم يصلوا بعد إلى مستوى الهوايش ووحيد الخلية، على الرغم من تبدل شروط قتالهم ضد النظام الذي نجح، بفضلهم، في استعادة 55% من الغوطة دونما قتال تقريباً، بما في ذلك سورها الزراعي الذي كان يكفل لسكانها شيئاً من الغذاء، واستغل ما أنزلوه ببعضهم من خسائر فادحة في الرجال والسلاح، وما أحدثته مصادرات الأسلحة المتبادلة من تغير جدّي في أوضاعهم الميدانية، وأجّجته من خلافاتٍ وأحقاد بينهم، بدلت الموازين السائدة، وأغلقت باب المعارك ضده، وفتحت أبوابها الداخلية بينهم التي لم، ويبدو أنه لن ينجح، أي شخص أو طرف، في إغلاقها، وسط تزايد الهجمات والكمائن وقطع الطرقات وسقوط الضحايا البريئة، حتى صار من الصعب الحديث عن خلافٍ بين ثوارٍ ينتمون إلى قضيةٍ واحدة، وبدأ الهمس يتعالى حول خطةٍ لتسليم الغوطة الشرقية للنظام، تتستر بترهاتٍ فقهية وكلامية وتفسيرية متبادلة، يغطون بواسطتها القتل المتبادل، ويجعلونه طقساً دينياً مقدساً، وليس جرماً ينتج الخراب وانتحاراً.
هل هناك، في أي معيار أخوي، أي مسوغ للاقتتال في حلب والغوطة الشرقية وإعزاز؟ وهل هناك مبرّر أخلاقي أو سياسي أو وطني أو ديني أو إنساني للاقتتال؟ إذا لم يكن هناك مبرّر كهذا، لماذا وقع؟ هل وقع بسبب خلافات فقهية، أم لاعتباراتٍ جهادية، أم إنه صراع بين الحق الذي يدعيه كل طرف لنفسه والباطل الذي ينسبه لسواه؟ إذا كان فقهياً وجهادياً، لماذا لا يقتصر على الحوارات والنقاشات والمناظرات والخطابات، ويقتصر "الحوار" فيه على السلاح وحده؟ وإذا كان صراعاً بين الحق والباطل، يصير السؤال: هل يستطيع حق هزيمة الباطل، إذا كان انتصاره يفضي إلى ما يفضي إليه الباطل: هدم البيت الوطني على رأس شعبنا؟ وما معنى هذا الحق المزعوم الذي ينتج مثل هذا الباطل، ولا يختلف عنه؟
ليس هناك أي مسوغ لما يجري في الغوطة الشرقية وحلب، غير أن يكون مستوى المتصارعين تحت مستوى السياسة والوطن والدين والإنسانية الهوايش والأميب. في هذه الحال، أنصحهم أن يراقبوا قطيع أبقار يتربّص به مفترس، وكيف يتجمع ويتحامي ببعضه، ويدافع عن أي ثور أو بقرة يستهدفها الخطر.
يا "إخوة السلاح"، هناك شيء اسمه التناقض مع العدو، وهو عداء لا يحلّ بغير هزيمة أحد طرفيه وشطبه. وهناك تناقض في الصف الصديق، لا يحلّ إلا بالخلاف: بالحوار الودي والنيات الطيبة والشراكة الراسخة ووحدة المصير، وبالامتناع المطلق عن الاقتتال واللجوء إلى السلاح، لأن اللجوء إليه يمكّن العدو من تسوية تناقضه العدائي معنا، بهزيمتنا وشطبنا، كما يحدث، منذ أشهر في الغوطة، وسيحدث من الآن فصاعدا في حلب. هل هذا ما تريدونه؟ ألا تعون أنه النتيجة الوحيدة الممكنة التي ستترتب على أفاعيلكم، وأن نهايته ستكون هزيمة الثورة، ونهايتكم كتنظيمات وأشخاص، تحت دواليب الباصات الخضراء، هذه المرة، وليس داخلها؟
تزامن العرض العسكري الذي أجراه «حزب الله» في مدينة القصير السورية بآليات عسكرية تبين أن بعضها يعود إلى الجيش اللبناني، مع انتشار فيديو روسي عالي الدقة ُصّور من الجو، يوثق الدمار الهائل الذي أصاب مدينة حمص نتيجة القصف السوري ¬ الروسي المزدوج عليها. حمص، التي تعتبر اليوم جبهة هادئة نسبيًا مقارنة بحلب على سبيل المثل، تحظى باستعراض بري وآخر جوي قد يعتبران خارج السياق الميداني الساخن للمعارك. لكن الواقع أن رمزية حمص في سياق الثورة السورية لم تخُب بعد، كما أن قمع التظاهرات فيها ثم «إخضاع» ما بقي من جيوب مّتقدة عبر اتفاقات وقعت بسلاح الحصار والتجويع، يقدم بصفته «قصة نجاح» لكل من «حزب الله» وروسيا في اصطفافهما إلى جانب النظام السوري. اللافت أن الغائب الأبرز عن استعراض العضلات ذاك هو الجيش السوري (النظامي) ذاته، أو أي رمز من رموز «الدولة» التي هب الحليفان اللبناني والروسي لنصرته. والحال أن الفيديو الذي يعبر مساحات ومساحات من الركام، ويتوقف عند معالم أساسية تحمل رمزية كبيرة لأهل حمص ومجتمع الثورة السورية الأوسع، يوحي للوهلة الأولى بأن المشاهد تلك هي من برلين ما بعد الحرب العالمية الثانية. برلين التي دمرتها أيضًا الآلة العسكرية السوفياتية انتقامًا للنينغراد، وللقضاء على النازية، أو ما يمكن تسميته اليوم «إرهاب» ذلك العصر. لا يفوت المشاهد أن إقامة ذلك التوازي البصري بين المدينتين متعمد ومقصود. فلا محاولة لإخفاء هول ما جرى ولا مبادرة لتجميله أو نكرانه عبر رصد حياة طبيعية رغدة تدور في أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث أحياء أخرى من المدينة، كما يفعل إعلام النظام في دمشق والساحل السوري، حيث يصور حياة الليل وحركة الأسواق وارتياد الشواطئ بوتيرة عادية. على العكس تمامًا. هنا، ثمة من يقول لنا متباهيًا: انظروا جيدًا إلى ذلك الدمار، تحسسوا هوله. إنه ما فعلناه بأيدينا وإرادتنا، بل ما «أنجزناه» وما نحن مستعدون للمزيد منه. يقدم الفيديو الروسي مشاهد الدمار في حمص، بصفتها «إنجاز الضرورة» الذي يمهد لبارقة أمل بحياة جديدة بعيدًا من تهديد «الإرهابيين»، تمامًا كما كانت عليه الحال في برلين ذات حرب في القرن الماضي. فهل كان ممكنًا مث ًلا دحر النازية عن أوروبا لولا «إنجاز الضرورة» ذاك؟ الرسالة التي يحملها الفيديو واضحة، لا مواربة فيها. هناك من يقول للعالم: فعلناها في ألمانيا لوقف «الإرهاب النازي»، ونفعلها اليوم في سورية لوقف «الإرهاب الديني»، ونحن مستعدون لتكرارها حين تدعو الحاجة. وتحمل تلك الرسالة التي تسعى موسكو إلى تصديرها بشتى الوسائل الديبلوماسية والعسكرية والإعلامية، وزنًا إضافيًا على مشارف عهد رئاسي جديد في واشنطن، وضع نصب عينيه «استعادة مجد أميركا». فهناك في موسكو َمن يذكر بتحالف العدوين اللدودين في الحرب العالمية الثانية، للقول أنه من غير المستحيل استعادة ذلك المجد عبر تحالف ظرفي جديد اليوم، في سياق الحرب على الإرهاب. وإلى ذلك، فإن العرض العسكري الآخر، الذي أجراه «حزب الله» في القصير، يحمل رسالة إيرانية واضحة ومتعددة الاتجاه هذه المرة. فهي أو ًلا تأكيد جديد لأن معركة القصير كانت «إنجازًا ضروريًا» في سياق تجفيف منابع الإرهاب وتأمين الطريق نحو «سورية المفيدة»، ولكن أيضًا نحو «لبنان المفيد». فلا يجدي كثيرًا اليوم تأكيد المؤكد من أن «حزب الله» أثبت مرة أخرى أنه امتداد للحرس الثوري الإيراني، وأن ولاءه ليس لبنانيًا، وغير ذلك مما بات ماضيًا معروفًا يفاخر به الحزب أكثر مما ينكره. الجديد ربما، هو في الدور الذي سيناط بلبنان تحت حكم «حزب الله» المطلق وفي عهد رئاسي جديد ما كان ليبصر النور لولا موافقة الحزب ومظلته الراعية. كيف يمكن جعل لبنان هذا مفيدًا، لا بل أكثر إفادة، لـ «سورية المفيدة» تلك؟ ذلك هو التحدي الذي ترفعه مشهدية القصير التي تظهر شريطًا كام ًلا من الحدود السورية ¬ اللبنانية المشتركة وقد باتت تحت سيطرة الحزب الكاملة، لا سيما أنها استعانت بآليات عسكرية يعتقد أنها تعود إلى الجيش اللبناني حصل عليها هو من منحة أميركية. وإذ ّ ؤ، لا يمكن اعتبار المسألة هفوة أو زلة قدم سارعت قيادة الجيش إلى إصدار بيان نفي وتبر من الحزب في أي شكل من الأشكال. إنها رسالة إيرانية واضحة تقول فيها للإدارة الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب الأميركية الجديدة، أنها مفاوض أول على الطاولة الإقليمية. ليس في سياق «الحرب على الإرهاب» في سورية فحسب، وإنما في سياق أوسع يشمل المنطقة كلها. وهي بذلك تحذرها من دعم جيش في المنطقة قد يقف في وجه حلفائها وأذرعها العسكرية، أو يكون قراره وولاؤه لغيرها، سواء في بلد هائل كالعراق، أو في حرب مستعرة كسورية، أو حتى في خاصرة رخوة كلبنان. وليس من قبيل المصادفة الآن أن يعارض «حزب الله» أي تشكيلة حكومية لا يكون فيها وزير الدفاع (وبالتالي صلاحيات تعيين قائد الجيش) من حصته المباشرة. استعراض عسكري هنا، وإشهار مسؤولية عن دمار شامل هناك، ومفاوضات معلنة لتقاسم السلطات ومراكز النفوذ، وغير ذلك من إشارات تسلط القطبين الإيراني والروسي على المنطقة حتى لم يبق دور، أي دور، للنظام السوري أو «مؤسساته» المزعومة التي جاء الجميع بذريعة الدفاع عنها والحفاظ على «المفيد» منها.
"خذوا مثلاً من إسرائيل، حين يكون المقصود محاربة الإرهاب، فإنها لا تتراجع أبداً، دائماً تحارب حتى النهاية، وهكذا تحافظ على البقاء. لا يوجد بديل آخر. علينا المحاربة. إذا واصلنا التراجع سنخسر دائماً".
الكلام السابق هو للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف الأساسي لمحور الممانعة اليوم. وهو الكلام الذي مرّ سريعاً في التحليلات ونشرات الأخبار، من دون أن يثير الانتباه بما يكفي لدلائله عربياً، وهو فعلاً لا يثير الانتباه كثيراً، حين يُقرأ روسياً، إذ لطالما كان بوتين حليفاً رئيسياً للكيان الصهيوني. إلا أنّ قراءة الكلام عربياً، من ناحية محور الممانعة من جهة، ومن ناحية العقل العربي وطريقة التفكير بما يحدث حولنا من جهة ثانية، تكشف الكثير عما لا يقال ولا يفكّر به، عن المسكوت عنه في ثقافةٍ لا تزال تسكن في مفازاتها المفارقة للواقع.
الممانعة بأكملها اليوم (إيران، النظام السوري، حزب الله، الحوثيون، باعتبارهم يرفعون يافطة محاربة إسرائيل أيضاً)، وتنظيمات فلسطينية وعراقية، تقف اليوم في الخندق نفسه إلى جانب بوتين في محاربة "الإرهاب" في سورية، وفق الطريقة الروسية التي تعتمد المنهج الإسرائيلي وتشيد به، وهو ما عبّر عنه بوتين بالقول: "أنا أسمع دائما حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟ هل يمكننا ترك هذا التنظيم الإرهابي على حاله، أم يجب سحقه وإخراجه من خلال بذل جهود لتقليص عدد المدنيين المصابين؟"، الأمر الذي يعني، وحرفياً، أنّ محور الممانعة يطبّق استراتيجية إسرائيليةً في سورية لمكافحة الإرهاب، وإذا أضفنا إلى قتل المدنيين، واتهام الثورة والشعب السوري كله بالإرهاب، وتعميم سياسة الخوف والطائفية... إذا أضفنا إلى هذا التهجير الديموغرافي الممنهج الذي يقوم به حزب الله وروسيا وإيران في سورية، في تشابهٍ مع عملية تهجير الفلسطينيين، وتشريدهم في بقاع الأرض (هم يشرّدوا مرة أخرى من سورية على يد الإسرائيليين الجدد)، فنصبح أمام تشابهٍ مطلق مع السياسة الإسرائيلية، منذ بداية تكوّنها، وهو الأمر الذي توّج، أخيراً، باستعراض عسكري فج وسقيم، في تحدٍّ واضح لإرادة السوريين وكرامتهم المهانة، وفي تماهٍ مع سلوك المستعمرين عبر التاريخ، الأمر الذي يعرّي الممانعة كلياً، ويوحّدها مع منطق عدوها، فتصبح هي هو. هذا ما تقوله الوقائع حرفياً، بعيداً عن الأدلجة، بما يعني ذلك أنّنا أمام اعترافٍ ممانعٍ بصحة ما تقوله إسرائيل عن محاربتها "الإرهاب الفلسطيني" من جهة، وأنّ هذه الحرب ستسحق المدنيين، إلى أن ننتصر على هذا "الإرهاب" أو لا بأس أن يذهب ضحايا مدنيون في سورية، في سبيل تحقيق الهدف الأكبر، أي سحق "الإرهاب السوري"، كما تفعل إسرائيل في سحق "الإرهاب الفلسطيني".
إلا أنّ وصف الممانعة بالأسرلة، وفق الكلام السابق، يبدو ثقيلاً على اللسان العربي، ما يوصلنا إلى أزمة العقل العربي وطريقة تفكيره، فهو عقلٌ ما زال أسير إيديولوجياته ومحرّماته ومقدّساته، يستقي منها أفكاره، قبل أن يقرأ الوقائع. ولهذا، يحجم عن قول الحقائق استناداً لما هي عليه، بقدر ما يقولها مواربةً أو استناداً إلى شيء سابق، وهو أمر يعود جذره إلى مرحلة الاستعمار، حيث الأجنبي أو المستعمر أو الآخر (في الذهنية العربية) أشدّ فتكاً وإجراماً من الأخ أو القريب. ولهذا، يبدو المستعمر أكثر رجماً وشيطنةً في ثقافتنا من المستبد أو "الأخ المجرم" (إذا استثنينا الكواكبي)، إذ تستسهل ثقافتنا رفع السلاح بوجه المحتل، في حين أنها تداور وتناور، حين يتعلّق الأمر بمستبدٍّ تكون جرائمه أشدّ، وبما لا يقاس بجرائم المستعمر نفسه. العقل هنا ينظر لطبيعة المجرم ولونه، لا للجريمة، فالأصل عنده أنّ جريمة الأخ أقلّ وطأةً من جريمة الغريب، وهو عقلٌ لا شك في أنّه ما زال يقيم في عصر ماضٍ. ولهذا، يصعب على العقل العربي أن يقول إنّ تصرفات الممانعة هي إسرائيلية في سورية، وهو ما قاله بوتين بوضوح، لأنه بعيد كل البعد عن حساسيات (وقيود) ثقافتنا التي أغرقها الصراع العربي الإسرائيلي (وهو صراع حق في نهاية المطاف، لأنّ إسرائيل دولة عنصرية ومحتلة) بقيودٍ ومحرّماتٍ كثيرة وضعتها سلطات الممانعة وأحزابها، لكي تمرّر سياساتها، وفي مقدمتها سياستها الإسرائيلية/ الإيرانية/الطائفية في سورية.