ليست هناك أي بارقة أمل تلوح في الأفق لوقف المجزرة الدموية الرهيبة في حلب، ففي كل يوم يمر يكبر الإصرار الروسي الإيراني على تحويل المدينة إلى مقبرة جماعية. وفي ثاني مدن سورية، يواجه قرابة ربع مليون مدني أعزل، وبضعة آلاف من المسلحين، أحدث ما في الترسانة الروسية من أسلحة نوعية، ذات قدرة تدميرية وكثافة نارية عالية، مخصّصة لحروب الجيوش الحديثة.
باتت المعادلة واضحة. يرفض الأهالي الاستسلام وإخلاء المدينة، وموسكو مصممة على ذلك. غير مكترثة، ولا تقيم اعتباراً لحياة قرابة 300 ألف مواطن، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وهي قرّرت أن تدفنهم تحت ركام منازلهم، وسط عالم صامت، وبلا ضمير، وأمم متحدة تخلت عن دورها في حماية المدنيين من الإبادة.
في الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تحيي مناسبة اليوم العالمي للطفل، نقلت وكالات الأنباء صور الأطفال من حلب، تدفنهم تحت الأنقاض طائرات الموت الروسية.
في اليوم العالمي للطفل الذي تحييه الأمم المتحدة في 20 من نوفمبر/ تشرين الثاني، زار العاصمة السورية مندوب الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، لكي يلتقي وزير خارجية النظام، وليد المعلم، ونقلت وكالات الأنباء أن المبعوث الدولي ذهب ليطلب من النظام وضع حلب تحت إدارة ذاتية، لكن الحكومة السورية رفضت العرض "لأنه يعني مكافأة للإرهابيين".
طلب دي ميستورا وردّ النظام يشكلان عينةً صريحة عن المستوى الذي بلغه نفاق الأمم المتحدة وهوانها، وما وصل إليه النظام من إجرامٍ منظمٍ مع سبق الإصرار. الأمم المتحدة التي وصفت، أكثر من مرة، أن ما يحدث في حلب يرقى إلى جرائم حرب، بقيت تتصرف مع نظام بشار الأسد على نحو ناعم، ولم تزعجه منذ بداية الثورة السورية، على الرغم من أنه ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لم يقم بها حاكم آخر، وبقيت تتعامل معه بمواصفات الدول ذات السيادة. ومع أنها تدرك أنه لم يعد له أي سلطة فعلية على القسم الأكبر من أراضي سورية، فهي تمتنع حتى الآن عن إدخال مساعدات إنسانية إلى حلب، لأنها لا تريد خرق القانون الدولي الذي يحتم عليها الحصول على إذن رسمي من النظام.
هذا أمر صحيح من الناحية الشكلية، ولكن الأمم المتحدة تعرف أن من يحكم الأرض والجو والبحر هما روسيا وإيران، وهما من يتوليان القسط الأكبر من حرب الإبادة، ومن واجب المنظمة الدولية ليس العمل فقط على وقف قتل شعب أعزل في بلده، بل اللجوء لكل السبل لوقف التدخليْن، الإيراني والروسي، في شؤون دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة. وفوق هذا وذاك، كان على الأمم المتحدة أن تتحلى بقدر قليل من الشجاعة الأخلاقية حيال وضع إنساني غير مسبوق، وتضع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا أمام مسؤولية كسر الفيتو الروسي الصيني الذي وفر مظلةً لجرائم النظام السوري ضد الشعب السوري، وإحالة الجرائم ضد المدنيين في سورية إلى مجلس الأمن، تمهيداً لرفعها إلى محكمة الجنايات الدولية. وفي وسع الأمم المتحدة العمل من خارج مجلس الأمن، كما حصل في السابق في حال كوسوفو والأكراد في العراق، وحيال جرائم كانت أقل من تلك التي تحصل في حلب، وباتت ترقى إلى حرب إبادة.
موقف الأمم المتحدة مخزٍ وعار على الإنسانية، بل هو يؤسّس لحالةٍ من الإحباط، بسبب انهيار منظومة القيم وعدم احترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية والمواثيق التي اتفقت عليها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، ومثلما تم حل عصبة الأمم، بسبب فشلها في حماية السلم العالمي عشية الحرب الثانية، فإن الأمم المتحدة باتت مهدّدة بأن تواجه المصير ذاته، بسبب عدم التعامل مع المأساة السورية بمسؤولية.
لعلّ أكثر الكليشيهات التي استخدمها الغرب في تقريظ بشّار الأسد قبل انطلاق الثورة السورية أنه طبيب جرّاح تعلّم في الغرب وأن زوجته («وردة الصحراء» على حدّ وصف راج بعد لقاء لصحيفة إنكليزية معها قامت بترتيبه شركة علاقات عامّة) نشأت ودرست أيضاً في بريطانيا، وبالتالي فإن هذا الثنائي الذهبي سيفتح الطريق للديمقراطية والتحديث في سوريا. وقد قامت وسائل إعلام عديدة بتجريع السوريين هذه التقييمات والأوصاف متجاهلة الطريقة الكاريكاتورية التي وصل فيها الوريث إلى السلطة وتاريخ والده الدكتاتوري الذي حكم بلاده بالنار والحديد.
لكن مزركشي الحكاية الإعلامية للطبيب المتعلم في الغرب أو ضحاياه، لم يتوقعوا أن يتفوق الأسد الابن على والده بمراحل كبيرة في التنكيل بأبناء بلاده وأن يحوّل الجرّاح الخطير وطنه إلى أشلاء على طاولة التشريح، وأن تصبح سوريا، التي كانت إحدى الدول التي بدأت فيها الزراعة والكتابة والتجارة ممرّاً مفتوحاً لانتهاك سيادتها من قبل جيوش من كل لسان ولون، فتصبح «الجبهة الجنوبية» مناطاً بغرفة «الموك» التي لأمريكا وإسرائيل يد طولى فيها، وتصبح الحسكة والقامشلي وعفرين شبه دويلة كردية، ويغدو الشريط المحاذي للبنان محطّ تجارب التغيير الديمغرافي الطائفي لـ«حزب الله» اللبناني، وتغدو الرقة عاصمة لتنظيم «الدولة الإسلامية» المتطرف (الذي تعهّده النظام بالعناية واستخدمته أبواق الغرب العنصرية مجددا لإعادة تأهيل رئيس الضرورة)، ويغدو الساحل السوري محكوماً من قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين، فيما أزيلت مدن وقرى وبلدات من الخارطة وتم قتل وتهجير سكانها الذين فاضت بهم البلدان المجاورة وابتلعت الكثيرين من الهاربين منهم قيعان البحار.
المثير للسخرية أن الأسد نفسه، والذي تشير دلائل عديدة إلى أنه لم يُنه درجته العلمية المزعومة في بريطانيا، لم يكفّ عن استخدام حكاية الطبيب الأثيرة إلى نفسه، وفي أحد لقاءاته هذا العام مع قناة «سي إن إن» قال: «عندما يوجد طبيب يبتر قدم مريض ويجنبه الموت بالغرغرينا فأنت لا تسميه جزاراً بل تسميه طبيباً».
لكنّ أكثر ما يثير الغرابة في شخصية الأسد هي كراهية نظامه المرضيّة للأطباء وللمشافي فهم أكثر جماعة تم استهدافها من قبل مخابراته وقوّاته، بحيث أنهم يعتبرون الصيد الأثمن للصواريخ والقنابل والقناصة، فهل يكون تفسير ذلك في أن الأسد يدرك في أعماقه أنه ليس طبيباً ولا جرّاحاً (وأنه ليس رئيساً حتى بل وريث غير شرعيّ) وأن الطريقة الوحيدة لإقناع الآخرين بذلك هي القضاء على الأطباء الحقيقيين؟
غير أن هذا التأويل النفسيّ لا يفسّر كيف تحوّل حرق الأطباء (كما حصل مع محمد وسيم معاز آخر طبيب أطفال في حلب وطبيب أسنان وثلاثة ممرضين وعشرين مريضاً قضوا في قصف النظام لمشفى القدس)، وتفجير المشافي إلى استراتيجية يتشارك فيها النظام وحليفته روسيا التي قضت الأسبوع الماضي وهي تسخر من الناطق باسم البيت الأبيض الذي قال إنها قصفت خمسة مشاف ولم يستطع تسمية أسمائها حين طالبته مراسلة «روسيا اليوم» بذلك!
حسب ميريام اليا، المنسقة الطبية السابقة لأقسام الطوارئ في منظمة أطباء بلا حدود ـ سوريا والتي عاشت في حلب من 2012 إلى 2014، فالأمر استراتيجية متعمدة ومخطط لها وأن المستشفيات والمراكز الطبية وسيارات الإسعاف وسائقيها وعناصر الخوذات البيضاء هم الضحايا المفضلون، ولذلك يقوم النظام بقصف منطقة ثم ينتظر وصول فرق الطوارئ لمساعدة المصابين فيلقي قنابل جديدة للقضاء عليهم والفكرة وراء هذه الاستراتيجية هي: «مقابل كل طبيب يموت هناك 200 مدنيّ أقلّ»، أي أنها استراتيجية للإبادة الجماعية.
… ولكي يثبت بشار الأسد ونظامه أنه يجد في هذه الإبادة للبشر مجرد ملهاة مسلّية فقد اختار هذه الأيام بالذات ليعلن حلب «مدينة للسينما السورية».
يتم حالياً اغتيال حلب، بإبادة بطيئة، برعاية على أعلى مستوى: فلاديمير بوتين وباراك أوباما ودونالد ترامب وعلي خامنئي وبنيامين نتانياهو... وبالبثّ المباشر. العرب والأوروبيّون والعالم يقرّون بالعجز والهوان، روسيا ونظام بشار الأسد والإيرانيون في طريقهم الى إنجاز انتصار. عندما باشر الروس حملة التدمير المنهجي قبل شهرَين، لم يتوقّعوا ردود الفعل التي أدانت «جريمة حرب» موصوفة، فحاولوا أولاً التنكّر بـ «شرعية» محاربة الإرهاب، ثم أوحوا بتقاسم المسؤولية مع الأميركيين أو إلقاء اللوم عليهم لأنهم «لم ينجحوا في فصل المعتدلين عن المتشدّدين» في صفوف مقاتلي المعارضة. عندئذ فضّلوا تغيير كامل تكتيكهم، لا لسبب أخلاقي أو إنساني، بل لأن الهجوم البرّي لاقتحام دفاعات المعارضة لم ينجح. وخلال الهدنة التي أعلنوها، ومدّدوها مراراً، لم يكونوا يتوقّعون من المحاصَرين داخل حلب سوى الاستسلام والمغادرة الفورية. لا الروس ولا حلفاؤهم يقبلون بأن يبقى مدنيّ واحد في المدينة، ولا هم فتحوا ممرات آمنة بمعايير الأمم المتحدة لإقناع المدنيين بالخروج، ولا سمحوا بإدخال مساعدات إنسانية. إنهم يبحثون عن مجزرة كبرى، عن إبادة فعلية.
خلال الهدنات الروسية، طرأ تغيير مهمّ. انتُخب ترامب رئيساً للولايات المتحدة. ابتهجت موسكو ودمشق، ولم تبتئس طهران، فما يناسب حليفَيها في سورية يناسبها أيضاً، ثم إنها منهمكة بتجذير وجودها في سوريا عبر شراء العقارات واستكمال حصارات التجويع في المناطق المحيطة بدمشق، أما مشاكلها مع واشنطن في شأن الاتفاق النووي وغيره فهي قادرة على إدارتها. كان ترامب قال خلال حملته، أنه لا يعرف بوتين الذي كان الوحيد في قول «أشياء جيدة» عنه وفي دعمه باختراقات إلكترونية، لذلك فهو مستعد للعمل مع الرئيس الروسي لبناء تعاون بين الدولتين. لكن ما ظهر بعدئذ لفت الى أن بين الرجلين قنوات اتصال وليس مجرد كلمات طيبة، وإذ شمل الابتهاج بفوز ترامب إسرائيل أيضاً، فلا بد أن تقارب بوتين ونتانياهو فعل فعله في كواليس الرئيس المنتخب وبعض عائلته فضلاً عن «اللوبي اليهودي». ثمة اتصال وتواصل منطقيان بين هذه العناصر، وقد أنتجا هذه المهادنة الترامبية المبكرة لروسيا – بوتين، على رغم أنها لا تتماشى كلّياً مع التوجّهات الأساسية للحزب الجمهوري.
في الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، تهاتف بوتين وترامب. كان هذا الاتصال الثاني المعروف بينهما. أفاد الكرملين رسمياً بأنهما تحادثا عن «ضرورة توحيد الجهود في محاربة الإرهاب»، وبحثا في «سبل تسوية الأزمة السورية». أما الترجمة الفورية لهذه اللغة الخشبية فتقول أن بوتين أبلغ الآخر بأن معركة حلب ستُستأنف. لم يستأذنه، طبعاً، لكنه شرح التكتيك الجديد: روسيا تخوضها جوّاً كالعادة، لكنها تتوارى إعلامياً وراء نظام الأسد، طالما أن الأخير غارقٌ في سمعته الدموية. في اليوم التالي، أي 15/11 بدأت الحملة الجديدة على حلب، وفي ذلك اليوم قال الأسد في لقائه مع التلفزيون البرتغالي: «إذا كان ترامب يريد محاربة الإرهابيين فسنكون حلفاء طبيعيين له مع الروس والإيرانيين». هذا يعكس تناغماً مع تصريحات عديدة لترامب قال فيها أن الأسد ليس مشكلته وإنما تنظيم «داعش»، وأنه لن يدعم تسليح المعارضة، وهو كان وصف حلب في إحدى المناظرات مع منافسته هيلاري كلينتون، بأنها «كارثة إنسانية لكن المدينة في الأساس سقطت».
ما يتوقّعه ترامب وما وُعِد به أن بوتين و «حليفه الطبيعي» الأسد إضافة الى الإيرانيين، سينهون عملية حلب قبل مباشرته عمله في البيت الأبيض في 20/01/2017. هذا يعني رمزياً وفعلياً، أنه أعطى الضوء الأخضر للإجهاز على المدينة، وأصبح مع أوباما شريكين لبوتين في أبشع مرحلة مرّت بها حلب في تاريخها الطويل. ولم يعد هناك معنى لكل الانتقادات والإدانات التي توجّهها الإدارة الحالية للقصف الحاصل. فلا الأمم المتحدة ولا قناة الاتصال الأميركية - الروسية التي يقال أنها لا تزال فاعلة، ولا اتصالات كيري - لافروف، ولا أي جهة على الإطلاق، لمّحت الى بحث في هدنة «حقيقية» أو وقفٍ لإطلاق النار. أما الحصيلة خلال الأيام الأولى، فتجاوزت بضع مئات من الضحايا قضى العديد منهم في القصف المركّز على المستشفيات التي لم يعد أي منها في الخدمة، لذا فإن أكثر من ألف جريح لا يجدون من يهتم بهم، وبعض كثير منهم أصيب بأسلحة محظورة دولياً كالقنابل الفوسفورية أو العنقودية أو قذائف الكلور المعبّأة في البراميل المتفجّرة، وقد لا يختلف مصيرهم عن مئات دمّرت الأبنية فوقهم فقُتل مَن قُتل وظل الآخرون عالقين تحت الأنقاض فيما فقد الدفاع المدني (ذوو الخوذ البيضاء) القدرة على الإنقاذ بعد استهداف مراكزه وأفراده. وبعدما وزّعت آخر المؤن الغذائية انعدمت سبل العيش، والآن ينتظر الأسد دعم «حليفه الطبيعي» الآخر: حصار التجويع.
بات واضحاً لماذا كان متاحاً دائماً لـ «الحليف الطبيعي» لترامب (و»الحليف الموضوعي» لأوباما) أن يلقي البراميل المتفجّرة على شعبه، ولم يكن ممكناً أبداً إلقاء أي مساعدة إنسانية الى المحاصرين في حلب وغيرها. إنه أكبر تحالف جهنمي اجتمع فيه الأعداء والمتضادّون ليمنعوا شعب سورية من نيل حريته وحقوقه، وجعلوا ثمن بقائه على أرضه أن يرضى بالحاكم المستبد المجرم الذي كان الترخيص الدولي والإقليمي لبقائه يقوم على ضمانه أن شعبه غير موجود. لذلك فهو لا يريد حلب، وحلفاؤه جميعاً لا يريدونها، سوى أكوامٍ من الركام.
يتصرّف ترامب وبوتين كما لو أن بينهما تفاهماً سابقاً ويتعجّلان تفعيله، بل إن بوتين لم يعد راغباً في العمل مع الإدارة الحالية، لأن هناك استحقاقات، أو تحديداً لأن مجزرة حلب لا تستطيع الانتظار لشهرين إضافيين. وعلى نحوٍ مجاني ومتهافت، يبدو ترامب مسلّماً سورية الى روسيا، حتى قبل أن يتسلّم مهماته. فعل ما تفادى سلفه أن يفعله على رغم أنه ارتكب أفدح الأخطاء في سورية. لا أحد في المنطقة العربية سيحنّ الى أيام أوباما أو سياساته، لكن ما سيُفتقد على الأرجح هو ذلك الحد الأدنى - ولو الوهمي - من القيم والأهداف. هذا على الأقل ما يبدو أن أنغيلا مركل قصدته عندما انتهزت وقوفها الى جانب أوباما لتقول مخاطبةً ترامب: «الأسد لا يمكن أن يكون حليفاً لنا»، ولتشرح أيضاً أن الأسد مسؤول عن الإرهاب وعن معاناة اللاجئين الذين اجتاحوا ألمانيا، فـ «معظمهم هرب من الأسد وليس من تنظيم داعش». لا شك أن الأوروبيين يفضّلون شكواهم المريرة من بلادة سياسات أوباما على الشكوك العميقة التي تنتابهم حالياً إزاء استخفاف ترامب ونياته «الانقلابية».
السؤال ماذا بعد حلب، كالسؤال ماذا بعد الموصل وماذا بعد «داعش»، لا يُطرحان بحثاً عن حلول سلمية استقرارية تأخذ في الاعتبار مجتمعات البلدَين ومكوّناتهما، بل للانكباب على رسم حدود وخرائط للصراعات والتوتّرات، وبالتالي للوصايات الخارجية المستدامة. كان أوباما يبرّر تلكؤه في مساعدة المعارضة السياسية والعسكرية بأنه لا يعرفها وبالخشية من جماعات الإرهاب، لكن تردّده جاء بـ «داعش»، وعندما أراد ضربه جاءت روسيا لمشاركته وللسير بالأزمة السورية نحو حل سياسي لكنها لم تحارب الإرهاب بل أجّجت نار الصراعات المذهبية، وتخوض الحسم العسكري لمصلحة الأسد. لذا لم يعد مستغرباً أن يبدأ ترامب «من الآخِر»، فهو أعفى نفسه من محاربة الأسد (لم يتوقعها أحد منه) خشية أن تؤدّي الى «مواجهة مع روسيا»، لكنه مصمّم على محاربة «داعش». الفارق أن ترامب، خلافاً لأوباما، لا يرى مشكلةً ولا عاراً أخلاقياً في إبقاء الأسد وحتى التحالف معه، بل إنه مثل بوتين والأسد وخامنئي لا يعترف بأن هناك شعباً في سورية.
الفيديو الذي ظهرت فيه جامعيات لبنانيات يعبرن عن رفضهن احتمال مواعدة شبان سوريين لأسباب متعددة ذكرنها، بينها «الاختلاف الثقافي والحضاري»، أثار ردود فعل عكس معظمها استياء من «عنصريتهن» وسخرية من «فينيقيتهن». لكن الكثير من هذه الردود انطوى على ركاكة وسطحية وعنصرية مقابلة، وعجز عن محاولة فهم - وليس تأييد - هذا الرفض وأسبابه العميقة لدى شابات يفترض أنهن على تماس بـ «العالم المتحضر» المعادي للعنصرية والمليء بالنماذج والأمثلة عن الاختلاط العرقي والثقافي والديني وسواه.
ومع أن الجامعة التي تنتمي إليها الفتيات الظاهرات في الشريط أوضحت أن التسجيل جزء من مشروع دراسي يتناول موضوع العنصرية من زوايا مختلفة ويهدف إلى قياس مدى تأثير الشبكات الاجتماعية في الفئات الشابة، وأن هناك شريطاً ثانياً يتضمن إجابات «سليمة وإيجابية»، إلا أن الانتقادات التي سجلت على شبكات التواصل قبل هذا التوضيح، واستمرت بعده، كشفت عن هوة من «الجهل» تفصل بين اللبنانيين باختلاف انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية والطائفية والطبقية، تماثل تلك التي تفصل بين اللبنانيين والسوريين، وكذلك بين السوريين أنفسهم.
لكن، لماذا ترفض فتيات لبنانيات في شكل قاطع مواعدة شاب لمجرد ذكر جنسيته، من دون السؤال عن أي تفاصيل أخرى قد تكون مهمة بالنسبة إليهن مثل مستوى تعليمه أو وضعه المادي؟
الجواب يكمن في «النموذج» الذي قدمه نظام حافظ الأسد، ثم ابنه «النجيب» بشار، عن «شبانـ» ـهما إلى اللبنانيين على مدى 45 عاماً من حكمهما، وتركِهما لديهم انطباعاً بأن «السوري» هو فقط ذلك الجندي أو الضابط في «قوات الردع» الذي دخل إلى لبنان وتصرف به كأنه ملكية شخصية، وتعاطى مع أهله كأنهم «أتباع» أو من درجة إنسانية «أقلّ»، أو ذلك المسؤول الذي نُصّب «حاكماً سامياً» مطلق الصلاحية لتنفيذ تعليمات سيده، والذي أباح لنفسه التعامل مع السياسيين اللبنانيين أياً كانت درجة ولائهم، بصفاقة ولهجة آمرة.
«السوري» في نظر غالبية اللبنانيين الساحقة هو العسكري الواقف عند الحاجز الأمني يفرض هيبته عليهم بالقهر، أو الذي يهاجم مناطقهم ويقصفها لتمردها على سلطة حاكم دمشق ومعارضتها سياساته، أو الذي يعتقل أفراد عائلتهم وأقرباءهم وجيرانهم ويسوقهم إلى التحقيق، ثم يختفون، من دون سبب. وهو أيضا قائد «جهاز الاستطلاع» الذي يهدد نواباً وسياسيين بالقتل والخطف والتفجير لاشتباهه بخروج مواقفهم عما يريد ويرغب، من دون أن يسائله أحد عما يفعل وكيف، أو عمّن منحه سلطة فعله. وهو المسؤول الأمني والاستخباراتي الذي يقف وراء مسلسل اغتيال قادتهم وسياسييهم وصحافييهم الذين اختاروا المطالبة باستعادة استقلال بلدهم.
«السوري» في نظر معظم اللبنانيين هو ذلك الحاكم الذي صادر سيادة لبنان، ولا يزال يحاول، وأناب نفسه عنه في المحافل العربية والدولية حتى محا صورته كبلد مستقل، وزج به في خصومات مع دول عربية طالما رعته وساعدته، ودفعه إلى التخلي عن دوره في صوغ التسويات العربية والنأي بالنفس قدر الإمكان عن الأحلاف والتكتلات.
ومع أن هذا «السوري» هو ذاته الذي عانى ويعاني منه السوريون أنفسهم، وعرب آخرون بينهم الفلسطينيون، طوال حكم عائلة الأسد، بعدما سامهم بالأساليب ذاتها كل أنواع العسف، وحكّم فيهم أجهزته الأمنية، وقتل بينهم كل من عارضه، وملأ سجونه بمئات الآلاف منهم، وهو نفسه الذي ثاروا عليه منذ 2011 ولا يزالون يقاتلونه بما يستطيعون، إلا أنه نجح على مدى عقود سيطرته على لبنان في زرع فكرة مشوهة لدى اللبنانيين عن سورية ومواطنيها. وهي فكرة تحتاج إلى سنوات مديدة لتزول، وتحتاج أولاً وأخيراً إلى نظام سوري مختلف يعمل على محوها.
كان الأمل كبيراً في بداية الثمانينيات أن تكون نهاية الحرب الباردة فرصةً تاريخية، وربما الأخيرة، لتدشين مسارٍ جديد للبشرية التي أنهكتها الحروب والنزاعات القومية والأيديولوجية، ولفتح الطريق أمام تعاون دولي، يضمن الأمن والحرية والعيش الكريم لجميع سكان المعمورة. وعلت بالفعل أصوات عديدة مطالبة بتطوير منظومة الأمم المتحدة التي شلتها الحرب الباردة من قبل، وتعزيز قدراتها وصلاحياتها، وتحويلها إلى شبه إدارة دولية قادرة على ايجاد الحلول المتوازنة للنزاعات الدولية المتقرحة، وإطلاق برامج أصبحت أكثر من ضروريةٍ للرد على تحديات ومعالجة مشكلات البيئة ونقص التنمية في أكثر مجتمعات العالم، والقضاء على الفقر، ودعم جهود التربية والتقدم التقني والعملي لملياراتٍ من البشر الذين لا يزالون مستبعدين منها، على مستوى المعمورة بأكملها.
ما حصل كان معاكسا تماما لذلك. استغلت الولايات المتحدة، تفرّدها بالقوة لإعادة ترتيب الأوضاع الدولية، بما يعزّز هيمنتها ونفوذها العالميين، فخاضت حروباً عديدة، كلها مدمرة، في أفغانستان والعراق وغيرهما، فاقمت من المشكلات العالمية، ثم ما لبثت روسيا أن ردّت بالمثل، بعد أن تحرّرت من أزمة الدولة السوفييتية، وتيقنت من انكفاء واشنطن وانطوائها على مشكلاتها الداخلية. وهي تخوض اليوم في سورية، بالتعاون مع إيران، وتغطية صينية، حرباً دولية دامية لفرض نفسها من جديد قوة عالمية كبرى، على الأقل في أوروبا والشرق الأوسط، بينما تكاد منظومة الأمم المتحدة تنهار من تلقاء نفسها، بسبب عجزها المحزن عن القيام بأي دورٍ لتخفيف المحنة عن الشعوب التي تتعرّض لإبادة حقيقية، وفي مقدمها الشعب السوري الذي أصبحت أراضيه مسرحا للمواجهة بين عديد الجيوش والمليشيات الطائفية وغير الطائفية، المحلية والإقليمية والدولية، بينما يتعرّض أكثر من مليون إنسان لحصار جوع قاتل، وتدمير منهجي لأبسط شروط الحياة الطبيعية في حلب والغوطة ومناطق أخرى، في عملية تهجير قسري مقصودة للسكان، وباستخدام جميع الأسلحة الكلاسيكية والكيميائية، بينما لم يبق للأمم المتحدة دور سوى الإعراب عن قلق أمينها العام وهي عاجزة حتى عن ضمان إدخال المساعدات الغذائية والأدوية، وإخراج المصابين من تحت الأنقاض، فما بالك بضمان استقلال الدول وسيادة الشعوب، كما تنص عليه مواثيقها.
لكن، في موازاة هذا التصعيد المتسارع والخارج عن السيطرة للعنف، والصراع بين الدول والحكومات والطوائف والجماعات، والتنافس عبر الحدود والسيادات على السيطرة والنفوذ ونهب الموارد التي لا تستطيع الشعوب الصغيرة حمايتها، تتفاقم أزمةٌ عالميةٌ متعدّدة الأبعاد، تنذر بانهيار النظام الدولي والتهميش الكامل للأمم المتحدة، والتنكّر لآخر ما تبقى من الأعراف والقوانين وقواعد العمل بين الشعوب والمجتمعات، تحاول الدول أن تخرج منها، أو تخفّف خسارتها فيها، بتخليها عن مسؤولياتها الدولية، وإعادة صوغ أجندتها القومية، كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر، أي في أكثر صورها بدائيةً، بحيث لا تراعي فيها الحكومات أي مصالح أخرى غير مصالحها الخاصة، ولا تنظر من خلالها إلى مدىً أبعد من سنوات الولاية الانتخابية وحدها، أي لأقل من عقد. وهو ما يدفع العالم، بزخمٍ لا حدود له، نحو وضعٍ تزداد فيه الفوارق والاختلالات بين الطبقات والشعوب والمجتمعات على كل المستويات بشكل انفجاري، ويجعل من المواجهات المتعدّدة الأشكال مصدر فوضى معممة، تهدّد بزعزة استقرار جميع القارات. وذلك مع انهيار الايمان بوجود حاضنة قانونية وسياسية، قادرة على ضمان حقوق الأفراد وصون أمن الدول وسيادة الشعوب.
في هذا السياق، تبرز النزوعات القوية نحو الديكتاتورية، ويدفع انهيار الثقة بوجود حاضنةٍ قانونية بضمان حقوق الأفراد وصوت أمن الدول وسيادة الشعوب إلى انبعاث الهويات التقليدية، الإثنية والدينية، وفيه أيضاً تنمو الرغبة في التقوقع على الذات وفقدان الأمل بقيمة التكتلات الدولية. وفيه أيضا يبرز معنى تصويت الناخبين البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي شكل درعاً للدول الأوروبية جميعا في مواجهة الرياح العاتية للأزمات المتعددة الأشكال التي من المممكن أن تتمخض عنها التحولات الاقتصادية العالمية، في إثر ما سمي بالعولمة وسياسات الانفتاح المتسارع وتكوين سوقٍ عالمية واحدة. ولا يقتصر الأمر، كما يبدو الآن، على بريطانيا. فتيار الانكفاء على السياسات القومية ينمو بشكل مضطرد في إيطاليا وفي بلدان أوروبية أخرى، حتى لو لم يتخذ شكل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وليس فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية بعيداً عن هذا التوجه، بل إنه التعبير الأكثر فجاجةً عنه، حيث تعلن الولايات المتحدة، على لسان رئيسها الجديد، انسحابها من كل التزاماتها الدولية الجماعية. ومن الطبيعي ألا يكون حامل هذا التوجه من الفئات والشرائح الاجتماعية المندمجة في الاقتصاد المعولم أو المستفيدة منه، وإنما جمهور المهمشين الذي شعر بأنه في طريقه إلى أن يخسر مكانه وموقعه ووزنه في الدولة والمجتمع معاً، بسبب إعادة توزيع علاقات السطلة والنفوذ والثروة على قواعد عولمية جديدة، أعني الجمهور الذي لم يعد يشكّ في أنه مهدّد بأن يصبح من بين الجماعات الواسعة العديدة القابعة منذ عقود على قارعة الطريق، لا مستقبل لها ولا قيمة ولا اعتبار. وهذا هو أيضاً درس الانتخابات الأولية الفرنسية التي فاز فيها رئيس الوزراء السابق، فرنسوا فييون، وهو الذي حرص على أن يظهر في خطابه ذاك التكنوقراطي الذي لا تهمه سوى حماية المصالح الفرنسية، بصرف النظر عن أي مبادئ أو معايير أو قيم إنسانية، أخلاقية أو سياسية.
لا يعرف الجمهور الحائر ما يريده من المرشّحين الذين يصوّت لهم، لقدرتهم على ترجمة مشاعر الخوف والقلق التي تستبدّ به عن حق، إلى كلام سياسي أو شبه سياسي، فهو ليس لديه معرفة كبيرة بأبعاد السياسة الاقتصادية الدولية، وبالاستراتيجيات المتنافسة والمتنازعة على مستوى التكتلات القارية. على الأغلب إن ما ينتظره من هؤلاء الطامحين للحكم، باسمه، هو تطمينه فحسب. وغالبا ما يتخذ هذا التطمين، من الساعين إلى حصد ثمار هذا الخوف والقلق، وإعادة إنتاجه وتضخيمه في الوقت نفسه، لتحويله إلى رصيد سياسي ثابت، أحد شكلين: الأول شرعنة العداء للأجنبي واللاجئ والمختلف، والثاني تفعيل النزعة القومية التي تخفي الفوارق الطبقية والتمايزات داخل البلد الواحد ضد الدول الأخرى والتكتلات وتعزيز الضخ في مشاعر الهوية والخصوصية، على حساب القيم والتقاليد والتوجهات الإنسانية الكونية الانفتاحية المتهمة بتسبيب التدهور في شروط الحياة والمستقبل.
فالأول يقدم للمرشحين لقيادة المجتمعات المتازمة في العقد المقبل كبش الفداء المطلوب الذي لا يفدي بالضرورة أحداً، فتحويل حياة اللاجئين والمهاجرين إلى جحيم لن يحمي أحداً من الخائفين والناقمين، وإنما يفعل العكس تماما. لكنه يقدم للقادة مسرباً إضافيا للتهرّب من المسؤولية أو التغطية على الفشل.
أما الثاني فبمقدار ما ينمّي الشعور بالأنانية والعظمة، ويشجع على التحلل من الأخلاقيات السياسية، وبشكل خاص مبادئ الالتزام بحقوق الإنسان التي أقامت عليها الدول الكبرى، خلال العقود الماضية، سياساتها لتضفي على هيمنتها العالمية صبغةً أخلاقية وإنسانية، يبرّر عمليات السرقة والنهب وصرف النظر عن المذابح التي تجري في عالم مفتوح على كل احتمالات النزاع، ومن وراء ذلك استعادة الروح الاستعمارية والامبريالية الفجة، والتحوط ضد تأنيب الضمير.
إنها العودة إلى روح القرن التاسع عشر الاستعماري، حيث ضاعت القواعد والأعراف، واختلطت القومية بالعنصرية، وصارت تتجلى في العداء للآخر المختلف، بدل أن تتحوّل إلى التزام بالتضامن الداخلي، وحيث استعادت الرأسمالية في طورها الأخير سيرتها الأولى، وتحوّلت مضاربات ومكائد وسطو مسلح أو شبه مسلح على موارد الشعوب والجماعات ونهب واحتلال.
ما يجري في المشرق اليوم هو نموذج مبكّر وفج، أي متوحش ككل نموذج بدائي، لهذا النزوع الذي يدفع العالم إلى التحلل من التزاماته الجماعية، والجري وراء المصالح في صورتها القريبة والمباشرة والآنية وعدم الاكتراث بأي نتائج للأعمال، ولا أي مبدأ أخلاقي أو قيمة إنسانية. وهذا ما يفسر لماذا استمرت الحرب السورية، ولماذا بقي العالم متفرجاً على اجتياح بلد آمن وتدميره من مئات المليشيات المتعدّدة الأجناس والمذاهب التابعة والممولة من دول أعضاء في الأمم المتحدة وموقعة على مواثيقها، ووقوفه اليوم غير عابئ اليوم لاغتيال مدينة الحضارة العالمية بامتياز حلب، وتدميرها على رؤوس أطفالها ونسائها.
إنه عالم ترامب وبوتين وخامنئي وشين جين بينغ (الرئيس الصيني). عالم: انجُ سعد فقد هلك سعيد. عالم أصبح فيه العنف والتطرّف والأنانية سياسة دولية، وصار كبار قادته من أكابر المتطرفين.
قَلَّ من قرأ المشهد العام في بلدان الربيع العربي بشكله الصحيح، نظرًا للتداخلات الكثيرة والمتغيرات الداخلية والخارجية اليومية، أمر جعل الغالبية الساحقة من مواطني هذه الدول مشدوهين بما يجري، فذهب البعض إلى جلد الذات والإسهاب في ذلك؛ ما تجلى في موجة الإحباط التي تنتاب الغالبية إن لم يكن الجميع.
وبدا لكثيرين أن الأمور وصلت إلى طريق شبه مسدود في كثير من الثورات (سوريا - ليبيا - اليمن)، فهدف هذه الثورات بطبيعة الحال لم يكن الحروب والقتل والدمار، وإنما البحث عن الحرية والديمقراطية والكرامة. وما لبثت مشاريع هذه الثورات أن تحولت إلى حروب طاحنة بعد تقاعس قوى كبرى عن دعمها كما يجب من جهة، ودعم طرف على حساب طرف، والعكس صحيح، من جهة أخرى، إضافة إلى خلق الإرهاب العابر للقارات من جهة ثالثة.
في الملف السوري، وبعد ما يقارب ست سنوات من بدء الثورة، وخروج الأمر عن السيطرة، لتعقيداته وتداخلاته الدولية والإقليمية والداخلية، أصبح من الواضح أن الأمر لم يعد بيد السوريين ولا حتى دول الإقليم، بل وصل إلى أن يكون صراعًا دوليًا، وتصفية حسابات بين الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، وكان من مظاهر ذلك، عدم مبالاة الولايات المتحدة، وسماحها بالتمدد الروسي في المنطقة وأوروبا، كما كان من مظاهره احتلال روسيا لمناطق في أوكرانيا، وما يمثله ذلك من تهديد للاتحاد الأوروبي في حال بقائها في المناطق المحتلة.
في الداخل السوري، الذي أصبح ساحة صراع معقد متعدد الأطراف والأجندات، لا يزال الثوار متمسكين بمطالب الثورة، ضد نظام القتل والإجرام، الذي استخدم جميع الأسلحة وصولاً إلى صواريخ سكود والسلاح الكيماوي المحرم دوليًا؛ أكثر من 150 مرة في مناطق يسيطر عليها الجيش السوري الحر، وقد أثبتت المنظمات الدولية في تقارير كثيرة مسؤولية نظام الأسد عن ضربات كيماوية، وكذلك ضد ميليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، التي تسيطر على مناطق عدة في سوريا، وتستخدم سياسة التغيير الديموغرافي، وضد تنظيم القاعدة (جبهة النصرة)، و«داعش»، الذي سيطر على مساحات واسعة في سوريا والعراق، ومارس خروقات وانتهاكات ونفذ عدة عمليات في دول أخرى، كتركيا ودول أوروبا؛ ما جعله تنظيمًا عابرًا للقارات.
لقد تحول القتل والدمار ليصبح جزءًا من المشاهد المعتادة، ليس على صعيد الأفراد فقط، بل على مستوى المجتمع الدولي والأمم المتحدة، التي يفترض بها أن تتحمل مسؤولية الأمن والسلم الدوليين، وتحوّلَ السلم والأمن إلى مفهوم غريب لا يكاد يجد له مكانًا في المشهد.
يكشف هذا الواقع عن التقاعس الكبير والمواقف الباردة وغض الطرف عن الإجرام، الذي يقوم به نظام الأسد والميليشيات اللبنانية والعراقية والإيرانية بحق الشعب السوري، والانشغال بالقشور، التي لا تتعدى بعض المساعدات الإنسانية، والقلق المستمر الذي يعتصم به الأمين العام للأمم المتحدة، كل ذلك مقابل ترك الأصل والعجز عن تنفيذ القرارات الأممية على هشاشتها وفشلها في الوقوف الصارم إلى جانب الحق، والتي باتت حبرًا على ورق، ولا تساوي قيمة الورق الذي تكتب عليه.
وقد ظهر هذا العجز وانكشفت تلك الهشاشة بأفدح الأثمان التي سددت، ولا تزال تسدد من دماء السوريين ومستقبلهم، كما ظهرت على مستوى آخر في توالي ثلاثة مبعوثين دوليين؛ كوفي أنان، والأخضر الإبراهيمي، وآخرهم ستيفان دي ميستورا، الذي عبّر في مرات عدة من خلال سلوكه عن تخبط واضح وعن عدم نجاح في تولي المهمة المسندة إليه، ظهر ذلك في إطلاقه المبادرة تلو الأخرى، معبرًا من خلال كل ذلك عن فشل جوهري في كيان المنظمة التي اختارته وابتعثته، وفضّل أن يتنازل عن الحياد في بعض الحالات واتهم بأنه تورط في مخططات النظام الرامية لإجراء التغيير الديموغرافي والتهجير الممنهج في مناطق عدة، منها ريف دمشق الغربي وحي الوعر في مدينة حمص وسط سوريا، والمساهمة في هذا الأمر من خلال ممارسة الضغط بهذا الاتجاه كما حصل في داريا غرب دمشق وحي الوعر في حمص، عندما قدم فريق دي ميستورا في مكتب دمشق النصائح للثوار من أجل تسليم حي الوعر المحاصر للنظام؛ بدل الضغط على النظام لفك الحصار، أو على أقل تقدير إدخال المساعدات الإنسانية. وفي داريا شارك فريقه في تفريغ المدينة من أهلها بشكل كامل لصالح النظام!
نحن أمام عجز للمجتمع الدولي، وأمام تداخل بين الملفات والأجندات المختلفة.. نحن أمام تدخل إيراني يدعم النظام كخيار استراتيجي لا يرى بديلاً عنه.. نحن أمام أحلام روسية قيصرية واحتلال لمناطق في سوريا، احتلال تفرضه قرابة مائة طائرة حربية، وطرادات وسفن وبوارج، وحاملة طائرات ترسو على السواحل السورية، تدمر الحجر وتقتل البشر في ظل الصمت الدولي على هذه الجرائم.
الملف لا يزال مفتوحًا على مزيد من الإضافات، فالمعارضة السياسية السورية لا تزال بعيدة عن الآمال، وهي تستمر في التخبط على بعض المستويات، بين تخوين بعض الأطراف في الداخل السوري، ومؤامرات المجتمع الدولي، ويبدو للبعض أنها تبحث عن أمل وسط كومة قش طالتها ألسنة اللهب وبدأت بالاحتراق بفضل سلاح أبدعت في تأمينه دول العالم.
المعطيات، المحلية والإقليمية وكذلك الدولية، تشير إلى عدم وجود حل في المدى المنظور، وإلى أن القتل والدمار وتوسيع دائرة الصراع ستستمر إلى أجل غير معلوم.
الخطر الأكبر قد يأتي من التغيير الديموغرافي، الذي يجتاح الكرة الأرضية بجميع الاتجاهات جرّاء الحروب والظلم والاضطهاد، ما سيكون له الأثر السلبي والثمن الأفدح والتهديد الأكبر للأمن والسلم الدوليين.
غيّر الاستهداف الذي قامت بها طائرات الأسد ، اليوم، على مواقع للجيش التركي بالقرب من الباب شرق حلب، وخلف 3 قتلى و 10 جرحى، المعادلة التي يُعمل على تنفيذها من خلال الاتفاق بين روسيا و تركيا حول حلب، اتفاق لا يحظى بقبول من ايران الذي يسحب البساط من تحتها و بطبيعة الحال الأسد، الذي بموجبه سيكون مكبلاً و غير قادر على تحقيق أي نصر ميداني.
لاشك أن توقيت القصف، الذي قالت رئاسة الأركان التركية أنه تم من قبل طائرات تابعة للأسد، و ما سبقه و رافقه من تصريحات من ايران و الأسد، يأخذ الأمور نحو منحى واضح ، وهو عبارة عن تعبير فعلي عن رفض أي اتفاق يتم حاليا تطبيقه بشأن الأحياء المحررة و المحاصرة في حلب ، والذي ينص على خروج بضع مئات من المقاتلين المنتمين لفتح الشام إلى ادلب و بقاء الثوار في الأجزاء المحررة مع ادارة مدنية من المجلس المحلي التابع للثوار.
ووفق صيغة الاتفاق التركي الروسي، فإن لا رأي لإيران بالموضوع ولا قرار للأسد فيه ، و بالتالي استبعادهما يعني أن الأمور لن تقف هنا، و ربما يُعمل على تنفيذ تبعيات الاتفاق التي قد تصل إلى حد تحويل حلب لمنطقة منزوعة السلاح تماماً، وفق مقترح تم تدارسه دولياً، و لن يكون أفضل من روسيا لتأمن الحماية الجوية له ، و تركيا البرية، الاثنين غير معترض عليهما من أي طرف دولي، بخلاف الوضع اذا ما كانت ايران و تلك المليشيات التي تدعهما.
الأسد أعلنها جهاراً وبوضوح عندما رد على مقترح الادارة الذاتية لحلب ، الذي تقدم به المبعوث الأممي إلى سوريا استيفان دي مستورا ، وقال حينها حلب موحدة و سيتم اخراج جميع المقاتلين منها و سيعيد أجهزته إليها، كما كان طوال أربعين عاماً من حكمه.
أما ايران التي التزمت الصمت طويلاً، و رافقها بعض التصريحات، و يبدو أن دي مستورا قد لمس رفض ايران حول حلب، خلال زيارته الأخيرة، في حين أعلن اليوم رئيس هيئة الاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية محمد باقري أن مئات الآلاف من قوات التعبئة “البسيج” مستعدين التوجه إلى سوريا ، في حال أعطت القيادة الاذن بذلك، في اشارة واضحة لجاهزية عالية للتصعيد، بدون أن يكون هناك مساندة جوية من قبل روسيا، والتي خففت من حدة القصف على حلب الساعات الماضية.
و لعل ليس من باب المصادفة البريئة اختيار التوقيت في ٢٤ تشرين الثاني ، وهو ذات التاريخ الذي أسقطت فيه تركيا طائرة حربية روسية في ريف اللاذقية، والتي تسببت بحرب دبلوماسية كبيرة بين الدولتين، استمرت لأشهر طويلة، واعادة فتح الجرح من جديد بحادثة كهذه سيكون سلاح اضافي لإعادة استمالت روسيا، بتذكيرها بما وُصف بـ”صفعة قوية” للجيش الروسي.
قصف القوات التركية في مدينة الباب ، وفق لما سبق، ليس من نتاج قرار الأسد فحسب، و إنما بدعم ايراني و توجيه حقيقي منها، لتعكير الأجواء الايجابية التي تسود بين تركيا و روسيا ، و تغيير النظر عن تنفيذ الاتفاق إلى اشعال المنطقة بحرب غير متوقعة، اذ كان من المفروض أن ننتظر بعد تحرير الباب من “داعش”، أن نشهد حرباً مع الفصائل الكردية الانفصالية وفق ما كرره المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، و لكن مع هذا الاستهداف باتت تلك الفرضية غير موجودة، وبات الأمر متعلق بحرب فعلية مع قوات الأسد و ايران ، الأمر الذي يضع روسيا مأزق كبير لاختيار أحد الطرفين، ويعّول الأسد و روسيا على تفضيلهما على تركيا، و بذلك تكون المدة الزمنية الموضوعة قبيل استلام ترامب ،كافية لتحقيق “سحق” حلب وفق وصف دي مستورا.
تتابع الآلة العسكرية لجيش النظام الأسدي في سورية محاولة حصد ما تبقى في حلب (الشرقية)، من أرواح وأبنية، بإصرارها على انتهاج سياسة "الأرض المحروقة"، وفقاً لشعارها "الأسد أو نحرق البلد"، أو "الأسد أو لا أحد"، عبر حربٍ مفتوحةٍ بأسلحة التدمير الشامل البراميلية والصاروخية، وبمشاركةٍ روسيةٍ إيرانية، وبمظلة صمتٍ لا تبددها بعض تصريحات أميركية أو أوروبية، تندّد أو تهدّد بعواقب هذا القصف الهمجي على مدينةٍ في الشمال تارة، وفي الوسط تارة أخرى، أو في الجنوب تارة ثالثة.
وإذ يراهن المندّدون إعلامياً على تفهمّنا عجزهم عن أكثر من ذلك أمام خطةٍ روسية هدفها محاكاة تجربة غروزني، وتعويم نظام الأسد، فنحن، في الآن نفسه، نسأل أنفسنا للمرة المليون ربما: أما تعلمنا الدرس بعد؟
تسير الخطة إذن بإحكام شديد، وفقا لمساراتٍ وتصعيداتٍ مبرمجة، لاستنزاف وإنهاك ما تبقى من حاضنةٍ شعبيةٍ للثورة، عبر تصعيد العنف في مكان، وإلزام مناطق متفرقة للإذعان لما باتت تعرف بأنها "هدن محلية"، يستعيد عبرها النظام سيطرته إدارياً، ويعيد من خلالها هيكلة المناطق ديمغرافياً، مقدّماً للعالم المتفرج، أو اللامبالي، نموذجاً آخر للحل السياسي، بصيغته الاستسلامية أمام جيوش متكئةٍ على سلاح متطور، وسياسة تجويعٍ طالت حتى الحيوان والشجر إضافة إلى البشر.
في الغضون، وبينما نزيف الدم السوري يستمر، والدمار يحصل بأقسى صوره في حلب، يتحرك المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، باتجاه دمشق، وتستضيف منسّقة العلاقات الخارجية الأوروبية، فريدريكا موغريني، وفود المعارضة السورية في بروكسل، للحديث عن مبادرةٍ سياسيةٍ، من شأنها، حسب قراءة النظام، أن تعيد الأمل له باستعادة سورية "الأسد"، حيث تتجاوز المبادرة الحديث عن مصيره، إلى الحديث عن صلاحياته، وفق طرح النظام الرئاسي البرلماني بديلاً للنظام الحالي، وحيث يصبح الحديث عن رحيل الأسد مغيباً، أو مكتوماً.
هكذا، وبينما يتصاعد القصف الوحشي على حلب، تقوم الآلة الدبلوماسية بنسج خيوط النهاية في سيناريو واضح بكل تفاصيله لديها، وتنتقل إلى ما بعد الحرب مباشرةً، باحثةً عن تفاصيل تقاسم السلطات، وتوزيع أدوار ما بعد الهدوء الذي جاءت به عاصفة الحرب الهوجاء على الشعب السوري، إضافة إلى الحديث عن الإعمار.
على ذلك، يبدو أن موغريني ودي مستورا، ومن خلفهما المجتمع الدولي، يعرفون مواقيت الحرب، وإلى أين سيذهب النظام، أو يصل، ومعه الآلة الحربية الروسية، من خلالها، حيث العدوان على حلب، على الرغم من بشاعته ونوعية أهدافه ذات الطبيعة الخدمية، كالمشافي والمدارس، ظل يترافق مع صمتٍ دوليِّ مريب، هو أشبه بموافقة عليه، أكثر مما هو عجز هذه الدول عن أداء دورها في الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، أو في ادّعائها المعروف بمساندة الثورة السورية، أو طلب السوريين على الحرية والتخلص من الاستبداد.
ستتتابع المعركة على حلب، على الأرجح، على الرغم من احتجاجات الإدارة الأميركية والدول الأوروبية، وهي عموماً احتجاجات خجولة، ولا تهدف إلا إلى ستر عورة هذه الدول، ومداراة موقفها اللاأخلاقي وغير المفهوم.
تتعلق المسألة، الآن، بمدى صمود المقاتلين في حلب، ومدى مضي روسيا في خطتها دعم النظام لإسقاط حلب، ومدى جدّية الضغوط الدولية في هذا الاتجاه. هذا أولاً. ثانياً، تتعلق المسألة بمدى صلابة المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، وخصوصاً قدرتهما على مواجهة هذه الهجمة الشرسة، ليس فقط في البيانات والمناشدات، وهي حال المعارضة اليوم، وإنما في تجسيد ذلك على الأرض، في وحدة الموقف السياسي، ووحدة الجهد العسكري، وفي تقديم خطاباتٍ سياسيةٍ واضحةٍ، تركّز على طلب السوريين حقوقهم المشروعة، في الحرية والكرامة والمواطنة، وتضع حداً للاضطرابات والتباينات والتشوهات التي أحاقت بالثورة السورية، نتيجة هيمنة بعض الجماعات ذات الأيديولوجية والأجندة الطائفية والدينية المتعصبة التي ترفض الآخر، ولا تقبل التعدّدية والتنوع، وتحاول صوغ مستقبل سورية وفقا لهواها ومقاييسها.
أخيراً، بوضع حد لمعركة حلب، بهذا الشكل أو ذاك، لن يكون الأمر قد انتهى، إذ ستستمر الثورة السورية، وسيبقى النظام موجودا بسبب دعمه من روسيا وإيران، أي أن الواقع تغيّر كثيراً. كذلك لن يسمح المجتمع الدولي، على علاته، باستمرار سورية الأسد، على النحو الذي كانت عليه، أي أننا سنكون إزاء تسويةٍ ما، وهذا ما تحاوله موغريني والمبعوث الأممي، وكذا تلميحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين. يتعلق السؤال، إذن، بالمعارضة ومدى أهليتها، أو مدى إعدادها ذاتها لمواجهة هذا الاستحقاق، وهل هي حقاً في أوضاعها الراهنة على قدر هذه المهمة؟ طبعاً أشك في ذلك. لذا، تقف المعارضة أمام لحظةٍ تاريخية، فإما تعيد ترتيب أحوالها وبناها، وتعيد صوغ خطاباتها بطريقةٍ تتقاطع مع القيم الدولية والإنسانية، أو أن الزمن سيتجاوزها، وستنشأ حقائق جديدة.
إذا وصل فرانسوا فيون الفائز في الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين الديغولي إلى الرئاسة في فرنسا في أيار (مايو) المقبل، فسيعني ذلك أن سياسة فرنسا الخارجية ستتغير في الشرق الأوسط وخصوصاً في سورية. فيون أعلن مرات عدة أنه سيعيد فتح سفارة فرنسا في دمشق وسيعاود التعامل مع بشار الأسد، إذ إن هناك طرفين في سورية، من يريدون نظاماً توتاليتارياً إسلامياً والآخرين الذين يمثلهم بشار الأسد. وقال فيون إنه يختار الأسد. ويعزز ذلك قربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تربطه به علاقة ود وثقة وصداقة حتى أنه يلعب البليار معه ويمضي إجازات معه في منزله الريفي في سوتشي. وكل ذلك يؤكد عزم فيون على تغيير التوجه الفرنسي في سورية. كما أنه في الحوار الأخير مع المرشحين السبعة قبل فوزه أعلن أنه يحبذ التقارب مع إيران، وانتقد الدبلوماسية الفرنسية الحالية، مطالباً وفق قوله، بـ «إعادة توازن هذه الدبلوماسية التي هي أساس الظاهرة الأصولية في الإسلام».
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال ترؤسه الحكومة في عهد ساركوزي خلال خمس سنوات، زار السعودية والتقى العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله. وفيون يطالب منذ حوالى سنتين بالتقارب مع إيران و «حزب الله». وبعض النواب المقربين منه مثل تييري مارياني وفاليري بوايي كانوا زاروا سورية للقاء الأسد. ويرى فيون أنه من أجل حماية المسيحيين في سورية ينبغي الحفاظ على بقاء بشار الأسد. وإذا وصل إلى سدة الرئاسة فسيكون مسؤولاً عن عهد جديد من علاقات فرنسا في الشرق الأوسط، علماً أن منافسه في الانتخابات ألان جوبيه، استغرب كيف يمكن بناء مستقبل سورية مع رئيس تسبب برحيل نصف السوريين عن بلدهم. ولكن السياسة الخارجية لا تلعب دوراً في اختيارات الناخب الفرنسي الذي تهمه الضرائب والبطالة والتقاعد. وبرنامج جوبيه أكثر اعتدالاً وحداثة من فيون اليميني المحافظ الذي حصل في الجولة الأولى على أكثر من ٤٣ في المئة من الأصوات بعكس ما كانت تتوقع استطلاعات الرأي، والأرجح أن يفوز في الجولة القادمة، خصوصاً أن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي شهد هزيمة كبرى في هذه الانتخابات، أعطى إشارة لمؤيديه وهم أكثر من ٢٠ في المئة بالتصويت لفيون الذي كان رئيس حكومته وتحول لاحقاً إلى خصم ومنافس له. ورغم ذلك أسرع ساركوزي الأحد الماضي إلى تأييده، بالقول إنه أقرب إلى توجهه السياسي من جوبيه. ولكن فوز فيون لا يعني أنه سيصل حتماً إلى سدة الرئاسة، لأن اليسار الفرنسي لم يمت بعد. وكل شيء ممكن، على رغم أن فرانسوا هولاند يحظى بتأييد ضعيف جداً في استطلاعات الرأي ولكنه لم يقل بعد إذا كان سيترشح للانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي، ومن سيكون مرشح اليسار، وماذا عن شعبية وزيره السابق للاقتصاد إيمانويل ماكرون الذي قرر خوض المعركة الرئاسية متجاوزاً الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي.
أما إذا انتهت المعركة الرئاسية إلى منافسة بين فيون ومارين لوبن رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» فسيعني ذلك أن التغيير حتمي في سياسة فرنسا الخارجية مع انطلاقة جديدة في علاقات فرنسا مع الأسد على رغم مجازره في حلب والمدن السورية. فهناك عهد جديد مخيف، وتحول السياسة الفرنسية على الأبواب، إلا إذا حصلت أعجوبة وفاز جوبيه يوم الأحد القادم، وهذا مستبعد، أو إذا استطاع هولاند أن يفوز مرة أخرى في انتخابات الرئاسة، وهذا مستبعد أيضاً، ولو أن كل ما جرى في الانتخابات التمهيدية اليمينية كان مفاجئاً.
يضيّع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الفرصة لاحتفاء كثيرين في العالم، خصوصاً العرب، بوداع عهد سلفه باراك أوباما. الرئيس المغادر شجّع مزيداً من الكوارث في المنطقة العربية، لا سيما سورية المنكوبة بنظامها وحلفائه الروس والإيرانيين... وأسرف في بيانات استجداءٍ كاذب للعطف على ضحايا الحروب السوريين.
الآتي إلى البيت الأبيض بعد أسابيع، لا يعِد إلا بمزيد من الكوارث، مستخدماً شعارات لتضليل شعبه، والإيحاء بعطفه على الفقراء والطبقة الوسطى التي سحقتها العولمة. لم يبدّل حرفاً بعد في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة حروب سورية وليبيا واليمن، بل أن «أميركا أولاً» من شأنها ممارسة مزيد من الإغراء لقيصر الكرملين، الرئيس فلاديمير بوتين، لتشجيعه على التشبّث بسياسة روسيا أولاً، وأصدقائها ثانياً وثالثاً ورابعاً.
الأنكى أن أوباما تفرّغ لإسداء نصائح إلى ترامب، من نوع تنشيط الذاكرة، لئلا ينسى الرئيس «المعجزة» أن أميركا «أمة لا غنى عنها في نظامنا العالمي»... ما يقتضي النأي عن الانعزال. فالفارق بين السلف والخلف يكون في هذه الحال بين مَنْ يتفرّج على المجازر، ومَنْ يتخلّى حتى عن دور شاهد الزور، حرصاً على مشاعره، من الضحايا.
ربما لن يختلف معدَّل القتل اليومي في سورية، لكن الأكيد أن أحداً من ساسة أميركا لم يلعن طبقتها السياسية ونخبتها ويدينهما الآن بالتنكُّر لقيم الإنسانية والعدالة التي تغنّت بها الولايات المتحدة لعقود طويلة، حتى حين كانت تمارس القتل دفاعاً عن أنظمة.
ويكفي لتلمُّس أحد أوجه المأزق الأميركي اليوم، مثالان عن وجهين مرشَّحين لإدارة العلاقة بين أميركا ترامب والعالم: ميت رومني الذي قد يتولى حقيبة وزارة الخارجية، اعتبر الرئيس البليونير «مشعوذاً»، قبل فوزه في الانتخابات، و «جنرال الجنرالات» جيمس ماتيس المرشح لحقيبة الدفاع والذي يثير إعجاب ترامب، كان وصفَ القتل يوماً بأنه «مسلٍّ». تُرى، أين سيتسلّى في المنطقة العربية؟
حتى الآن، ومن أميركا إلى أوروبا، يبدو «الفائز» الأول زعيم «تيار» ينقلب على النظام العالمي، على وحدة أوروبا، ومَنْ يدري، ربما على وحدة الولايات المتحدة يوماً. إنه القيصر الذي يمشي بخطى ترامب، لا على خطاه، ويجعل الكرملين مدرِّساً لـ «الأصدقاء». في مدرسته، بعد ترامب حل فرنسوا فيون رئيس الوزراء الفرنسي السابق الذي أطاح أحلام ساركوزي في انتخابات اليمين التمهيدية... قبله مارين لوبن التي تغزّلت بالثلاثي بوتين- ترامب- لوبن للعالم «المفيد». ويضيف البليونير الى المدرسة- التيار، زعيم «حزب الاستقلال» البريطاني نايجل فاراج، متجاوزاً الأعراف الديبلوماسية في ترشيحه سفيراً لدى الولايات المتحدة.
الأرجح أن قائمة الترشيحات معولمة، على طريقة الكرملين الذي يبدو مبتهجاً بصعود القوميات واليمين المتطرف، بعدما كان «أبا اليسار» في العالم، حتى تفكيك الاتحاد السوفياتي. الأرجح أننا أمام تفكيك النظام العالمي الذي كان في قبضة قوة عظمى «وحيدة». ولكن، إن كان ذلك جلياً، بعيداً من نظريات المؤامرة، فالتحولات الصاخبة تُنذر بما هو أبعد بكثير من «الزلازل» السياسية، تارة بنسخة فرنسية لترامب، وأخرى بنسخ «روسية» في فضاء الكرملين وحدائقه الخلفية.
لعلنا نسمع يوماً عن «انقلابات» تمارسها إدارة ترامب لتنصيب «نخبة» عنصريين، أو يفاجئ هو العالم بأن تهريجه لم يكن سوى ذرّ للرماد، في عيون القيصر!
الاحتمال الأخير هزيل، لكن مفاجآت البليونير ما زالت في بداياتها، وفي عصر هواة السياسة، يتعاظم الخطر من أطماع العسكر في كل مكان.
هل يمكن تخيُّل العالم بلا أوروبا موحّدة، لأن «فرنسا أولاً»، و «بريطانيا أولاً»...؟ وبلا حلف أطلسي يلجم شهية القيصر لتوسيع نادي الأصدقاء؟
ومرة أخرى، مَنْ يتحمّل انفلات قنبلة العنصرية «النووية» في قوة عظمى باتت «ناعمة»، وفي أوروبا الجارة لجنوب الفقراء؟
القيصر ما زال يلعب على كل حافة للهاوية.
جاءت دعوة الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية للرئيس الجدلي المنتخب دونالد ترامب حول ضرورة المحافظة على الاتفاق النووي مع إيران في سياق طويل من رؤيته حول ضرورة التعامل مع الخطر الإيراني من زاوية أخرى تتمثل في تطوير مشاريع نووية تضطلع بها دول الخليج وعلى رأسها المملكة، الأمير قبل تصريحه للرئاسة ألقى محاضرة عن مستقبل العالم العربي في ضوء المتغيرات، في جامعة الملك سعود، وشدد فيها الأمير على ضرورة تعاون دول الخليج لمواجهة مشروع إيران لتطوير السلاح النووي، وتطوير قدراتها الذاتية في مجال البحوث النووية، مؤكدًا أن ما قامت به السعودية من إنشاء منظومة للصناعات النووية خلال العشرين سنة المقبلة، أمر حيوي وملح، مؤكدًا خطورة سعي إيران للهيمنة السياسية على المنطقة، وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية ونشر أفكارها الطائفية، ومحاولة تصدير أزماتها إلى البلدان العربية، ودعمها للإرهاب الطائفي.
والحال أن قراءة التصريح في سياقه السياسي تصب في صالح الضغط على التمدد الإيراني، فلا يشكل الاتفاق النووي عذرًا في إطلاق اليد لملالي إيران في المنطقة، فهو لم يكن مجرد هدية أوبامية كما يتردد، بل يمكن القول إنه جاء في سياق رؤية جديدة للإدارة الأميركية التي تفكر في تحقيق مصالحها في المنطقة مع ضمانة منع إيران من امتلاك السلاح النووي طيلة فترة الاتفاق المقدرة بخمس عشرة سنة وبرقابة دولية.
إشكالية الاتفاق النووي من زاوية أميركية ضيقة هي النظر إلى إعادة فتح أسواق إيران أمام الشركات العملاقة وما تمثله من إنعاش للاقتصاد الإيراني، وبالتالي الضغط على المحافظين والمتشددين، وهو أمر يتردد عادة في تبرير تغير الموقف الأميركي، في محاولة لتضخيم تأثيرات انتعاش الأسواق الإيرانية على خنق تيار الصقور، إلا أن المسكوت عنه هو أن الاتفاق النووي من جهة أخرى اعتراف بحجم إيران وتأثيرها في المنطقة ورغبة أميركية حفزها تولي أوباما في التخفف من ضغط ملفات المنطقة وتقليص حجم التدخل العسكري الأميركي إلى أقصى حدوده.
النقطة التي لا تذكر عادة في مسألة الاتفاق النووي أنه اكتسب صفة الإطلاقية بانتقاله من اتفاق أميركي إيراني إلى اتفاق دولي بقرار مجلس الأمن الدولي الذي يلزم باقي الدول الخمس، روسيا والصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، كما أن التفريط من قبل ترامب في الاتفاق ومراقبة السلوك النووي الإيراني هو من جهة ثانية إعطاء مبرر لنظام طهران في تطوير برنامج نووي وتخصيب أكبر قدر من اليورانيوم وإطلاق اليد للعبث بالمنطقة، فإشكالية العالم وعلى مقدمتهم دول الخليج أكبر من القضية النووية.. إنها قضية سلوك عدائي وتدخلات سيادية وتصدير لمشاريع الدولة داخل الدولة كما هو الحال مع تجربة «حزب الله» اللبناني.
الإشكالية الحقيقية فيما يخص المجتمع الدولي والولايات المتحدة مع إيران أنها عادة ما تتطلب اشتراطات أقل تشددًا من الأطراف الإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها إيقاف العبث والتدخلات المعادية في دول تتمتع بسيادة كاملة، كما أن جزءًا من أزمة الدبلوماسية الأميركية والصحافة الأميركية هو التركيز على استدعاء التحالف مع المعتدلين في إيران، وهو حديث يهمل جزءًا مهمًا من القصة نفسها المتمثل في أن طموحات معظم المعتدلين لو صحت التسمية لا يمكن لها أن تؤثر على قرار الحرس الثوري بفيالقه التي تشكل سلطة مستقلة.
الوضع السياسي المقلوب في إيران هو أن الرئاسة اليوم دبلوماسية، بينما القرار السياسي يصنع داخل أروقة الأطراف المؤثرة في النظام وتحديدًا في الحرس الثوري وكل مؤسسات حماية نظام الملالي، وهو أمر يعلمه الأميركيون جيدًا، لكنهم سيقدمون أوراقهم وشروطهم على أمل أن تتجاوز شخصية روحاني الدبلوماسية إلى التأثير الفاعل على القرار السياسي.
يتطلع الأميركيون إلى الحد الأدنى السياسي وهو القدرة على اختراق جدار الصمت السياسي بينهم وبين إيران، لكن هذا الحد الأدنى لا يكفي اللاعبين الأساسيين في المنطقة: دول الخليج والاعتدال العربي التي تملك هواجس أمنية تتصل بالتدخل الإيراني في المنطقة، وتركيا التي لا تريد أن تواجه منافسًا إقليميًا معيقًا لمشروعها، ويبدو أن مخرجات الأزمة السورية تلامس أمن المنطقة أكثر من تأثيرها على القرار الأميركي، وهذه معطيات تجعل من الصعب اختزال العلاقة مع إيران في الحد الأدنى من المرونة السياسية بعد كل هذه السنوات التي خلقت إرثًا ثقيلاً من الأزمات والملفات السياسية، واقع اليوم يقول لنا إن معضلتنا مع إيران أكبر من اتفاقية السلاح النووي، إنها أزمة سلوك سياسي ورؤية توسعية تهدد استقلال الأوطان.
كتبتُ في صحيفة الاتحاد الإماراتية عام 2000 مقالاً بعنوان (نحو عقد اجتماعي جديد) دعوتُ فيه إلى قيام عقد اجتماعي جديد في الدول العربية كافة، يتنازل بموجبه المواطنون عن بعض حقوقهم الجوهرية مقابل حقوق أخرى لا تقل أهمية.. كما يتنازل فيه الحكام عن بعض امتيازاتهم من أجل مصالحهم ومصالح أوطانهم.. فمثلاً، يقر المواطنون ومنظماتهم السياسية بشرعية حكامهم ويتعهدون بعدم الخروج عليهم.. ويتعهد الحكام بآليات تكفل العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وضمان الحريات الشخصية والعامة، كما يتعهدون ببناء أقطارهم بناء حديثاً قوياً يردع الأعداء ويكفل استقلالية تلك الدول، وتتم صياغة هذه المبادئ الأولية في عقد اجتماعي جديد في كل قطر، بحيث يرتاح الحاكم من القلق على منصبه ويرفع سطوة أجهزته وممارساته القمعية ويتفرغ لبناء دولة قوية صلبة تستطيع مواجهة المخاطر الخارجية بدل ذلك.. في حين يأمن الناس على حياتهم وأرزاقهم وحرياتهم الأساسية على الأقل!
مثل هذه الأفكار لم تكن غريبة في ذلك الوقت عن الفكر السياسي العالمي. فكثير من الحركات السياسية في أمريكا اللاتينية مثلاً، دعت إلى مقاربات مماثلة في مواجهة العولمة التي تهدد السيادة الوطنية وتفرض قوانينها الخاصة على الدول بالضد من مصالح الشعوب.. (اتفاقيات منظمة التجارة العالمية المجحفة بحق الدول النامية، واتفاقيات الملكية الفكرية التي تدعم سلطة الأقوياء، وغير ذلك من الاتفاقيات العابرة للحدودة)! وشبّهت تلك الحركات السياسية المعارضة دولَها وأنظمتها بالقفص الذي يتهدده وحش خارجي كاسر (هو العولمة).. وبدلاً من كسره (طلباً للحرية) يمكن الاتفاق مع الحاكم لتدعيمه وجعله بيئة سعيدة آمنة!!!
ولكني في ذلك الوقت لم أكن أفكر في هجوم العولمة على العرب، بل في هجوم القوى الإقليمية والعالمية على بلدانهم ونفطهم وسيادتهم
وهو هجوم كان حاصلاً بالفعل، وإن لم يكن بالشراسة والشمولية التي نراها اليوم.
واليوم يدرك العرب الحقيقة الكبرى، بعد أن تأخر الوقت، وأصبحوا في عين العاصفة! يدركون حقيقة أن الدول لا تُبنى وتستمر عبر التحالفات الخارجية وحدها.. فالمصالح تتغير، وينقلب الصديق عدواً، والحليف خصماً عندما تنتهي مصالحه. والدول القوية العظيمة تقوم على الجد والعمل الدؤوب لبناء القدرات الذاتية في كل المجالات. وأول تلك المجالات الحكم الرشيد العادل، المؤدي إلى تماسك الشعب وولائه، وبناء القدرات العسكرية الرادعة، والقدرات الاقتصادية الحقيقية المنتجة، القائمة على العلم.. ففي عالم اليوم (كما كان العالم دائماً) لا مكان للضعفاء، ولا يحمي أحد أحداً لسواد عيونه! فالوطن عادة ما (يُحرّمه لمعُ الأسنّة حوله) كما أشار المتنبي في معرض حديث آخر.. ولا يُحرّمه على الطامعين لا ضعفه، ولا تحالفاته، ولا ميله للسلام والمحبة والأخوة العالمية.. فالسلام والتسامح والمحبة مفاهيم لا تصلح في السياسة دون مطارق تكسر رؤوس من يفكر بخرقها!
يدرك العرب اليوم، وخاصة أشقاؤنا في الخليج العربي، لحظة الحقيقة واستحقاقاتها بعد أن كشرت إيران عن أنيابها على الملأ.. وبعد أن شهدوا أعتى حلفائهم يتواطؤون مع إيران ويتنازلون لها طائعين عن المنطقة بأسرها.. وبعد أن تضاءل كثيراً اعتماد أمريكا على نفطهم.. يدركون أن أحداً لا يمكن أن ينفعهم في هذا العالم سوى شعبهم وقوتهم.. فيدعو مفتي السعودية مثلاً إلى تطبيق التجنيد الإجباري في المملكة، وهي خطوة كان ينبغي أن تتم منذ عشرات السنين، ليس في المملكة فحسب، بل في كل بلد عربي. ولكن ذلك يجب أن يبدأ بالشرط الأول المشار إليه أعلاه: شرط الحكم الرشيد العادل الحازم!!
هذا الربيع العربي الذي تآمرت عليه جميع قوى الردة، الداخلية والخارجية حتى انقلب كابوساً وحول كثيراً من الدول العربية إلى دول فاشلة تمزقها الصراعات والحروب.. ربما كان بالإمكان تجنبه لو قدر لمثل ذلك العقد الاجتماعي أن يتطور بين الحاكم والمحكوم!