مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
«لوزان 2» لتثبيت خطوط الاشتباك وتحديد مصير الأسد

لم تحسم الإدارة الأميركية خياراتها تجاه القضية السورية، والتي لا زالت تتراوح بين تدخّل دبلوماسي والحؤول دون امتلاك المعارضة أسلحة فعالة ودعوة الأطراف المتصارعة إلى تقديم تنازلات بالجملة، وصولاً إلى احتمال القيام بتدخّل عسكري محدود يسمح للصراع بالاستمرار، ولا يتيح لأي طرف تحقيق الغلبة على الآخر، لا النظام ولا المعارضة، وذلك بدعم المعارضة بأسلحة دفاعية غير قادرة على صناعة نهاية حاسمة لأي معركة.

بين كل من هذه الخيارات تأتي عملية «لوزان ١» إلى الحضور الدولي، وكأنها عملية إنعاش صعبة لميّت اسمه هدنة حلب، أو الاتفاق الأميركي- الروسي الذي ولد معوقاً أو غير قادر على النمو. يعود الحديث عن لوزان جديدة إذاً على رغم أن «لوزان ١»، التي تم تدشينها في منتصف هذا الشهر بحضور الولايات المتحدة وروسيا وكل من إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن والعراق ومصر، لم تأخذ إعلامياً أي صدى حقيقي لما تم داخل أروقتها، إذ لم يصدر إعلان عن مجريات نقاشاتها التي توحي بأنها كانت أكثر من صريحة بين الأطراف الفاعلة على أرض سورية. فليس مصادفة أن الأطراف المشاركة هي الأطراف المنخرطة مباشرة في الصراع على الأرض (باستثناء مصر والأردن)، طبعا عبر أدواتها أو استطالاتها المحلية، من طرفي النظام أو المعارضة، مع ملاحظتنا تغييب الدول الأوروبية عن هذا الاجتماع، المتحمسة للحسم السياسي، الأمر الذي يؤكد الأهمية العملية لهذا الاجتماع وطابعها الميداني.

ما الذي طرحته «لوزان 1» (15/10) أو ما الذي يفترض أن تحسمه كي يعود الحديث من جديد عن «لوزان ٢»؟

لعل هذا هو السؤال الذي تدارسته الأطراف جميعها خلال الفترة الماضية ويفترض أن تقدم الإجابة عنه في الجلسة المزعم عقدها قريباً حسب التسريبات الصحافية، والتي تفيد بأن الأمر لا يتعلق هذه المرة فقط بهدنة تبدأ من حلب، ولكن أيضاً بمنفذ سياسي يقود إلى إحياء مفاوضات قد لا تتجاهل مصير الأسد، وهو عقدة الاستعصاء في الصراع السوري، بحسب التسريبات الموثوقة، وذلك من خلال تظهير، بدل تجهيل هذا المصير باستفتاء شعبي، يتاح فيه لكل السوريين، أينما كانوا، التعبير عن رأيهم، ولعلّ هذه المسألة تحديداً هي التي تقف وراء تغيب مجريات النقاش التي جرت في «لوزان 1» عن وسائل الإعلام، بحيث لم يصدر أي بيان عما توافقت عليه الأطراف المجتمعة أو ما لم تتوافق عليه.

أيضاً، كان الحراك الديبلوماسي اللاحق لاجتماع «لوزان١»، والطلب المتلاحق من كل الأطراف سواء التي اجتمعت أو التي غُيبّت، يوحي بأن عودة الاتفاق الأميركي الروسي (9/9) بات ممكناً، بل وفي طريقه للتنفيذ، وفي مقدمة ذلك يأتي فصل قوات المعارضة المسلحة عن قوات جبهة «فتح الشام» (النصرة). الدليل على ذلك أن بعض الدول المتّهمة بدعمها غير المعلن لـ «جبهة النصرة» صرحت علناً بضرورة خروج هذه الجبهة من حلب، وإعادة تصدير تصنيفها كمنظمة إرهابية وخفوت الأضواء عن حراكها العسكري داخل سورية، بعد أن حظي بتغطية إعلامية أوحت وكأن « النصرة» هي صاحبة الباع الكبير في عملية الحسم العسكري في مواجهة النظام، ليتبين لاحقاً أن عدد عناصرها في حلب المستهدفة لا يتجاوز مئتي مقاتل على الأرض.

كل ما تقدم أيضاً يطرح تساؤلاً ملحاً بشأن ما إذا كانت الدول الفاعلة في الصراع السوري وجدت أخيراً طريقاً إلى تفاهمات تفضي إلى وضع حد لهذا الصراع؟ وأنه إذا كانت وصلت إلى ذلك فما الذي يؤخّر تنفيذها له ووقف هذا العدوان المستمر من النظام وحلفائه على حلب؟ وعلى ضوء ذلك فهل نحن بانتظار انتظام خطوط الفصل بين الطرفين حسب خريطة محددة لا تسمح للمعارضة وبالتالي لتركيا بكسب كل شرق حلب، كما لا تسمح بتوغل النظام على كامل حلب غربها وشرقها؟

على ذلك يبدو أن الحديث عن «لوزان ٢» يتضمن شبه إجابة عن هذه التساؤلات لا سيما أن الدعوة ستقتصر على الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية وقطر، أي القوى التي تملك أدواتها العسكرية ومساحاتها الجغرافية على الأرض كما تملك جهاز التحكم السياسي والدعم المالي أيضاً لمختلف الأطراف.

الآن، وبعيداً عن النظام والمعارضة، تحصل التوافقات في الملف السوري، لكن السوريين هم من يدفع ثمن الاختلافات في الرأي والخطط المؤجلة ومحددات خطوط الفصل المطلوبة بين الطرفين المتقاتلين، وإلى أن تستقر الأطراف الفاعلة، سيما الولايات المتحدة وروسيا، على الصورة النهائية للاتفاق المأمول ضماناً لمصالحها. ومعنى ذلك استمرار النزيف السوري ومواصلة تقديم التنازلات من ثورة تطالب بالحرية والكرامة وإسقاط نظام الاستبداد وإقامة دولة ديموقراطية تعددية، تحفظ حقوق المواطنين والجماعات القومية والإثنية، إلى تفاهمات محدودة على حكومة تشاركية تجمع بين النظام والمعارضة، يفوّضها رئيس النظام بصلاحيات تنفيذية لا ترقى إلى صلاحيات سيادية، ورغم هذه التنازلات لا يزال النظام حتى الآن يناقش في حقه برفضها بناء على وهم انتصاراته العسكرية التي تقودها روسيا في السماء وإيران على الأرض.

اجتماعات «لوزان ٢» إذا تم تسهيل انعقادها، بأطرافها روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة مع السعودية وقطر من جهة ثانية، وتركيا الطرف الثالث في المعادلة التي تتقاطع مع روسيا بعلاقات متجددة ومصالح كبرى، ومع الولايات المتحدة بتحالف دولي يصعب الانسحاب منه، وإزاء سورية بعلاقة متداخلة يصعب الفصل بينها مع فصائل المعارضة المسلحة والسياسية ويصعب حل مشكلاتها مع قوات سورية الديموقراطية، «لوزان ٢» هذه ستأتي لتكون المرجعية الدولية للقضية السورية بدلاً من «جنيف ١» وكل ما تم التوافق عليه في «جنيف ٢» و «جنيف ٣».

إذاً نحن في «لوزان 2» سنكون، على الأرجح، في مواجهة استحقاقين: الأول يتعلق بتثبيت خطوط الاشتباك بين المتقاتلين. والثاني يتعلق بتحديد مصير الأسد في العملية الانتقالية، وهذا سيتوقف على نتائج التجاذبات الأميركية- الروسية.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
ما العمل من أجل سورية الوطن؟

على قدر ما تحمل الحالة السورية من ألم وحزن وقتل، فإنها تجعل الأسئلة تأخذ مداها لتصل إلى هذا الترابط فـي عالم اليـوم، حيـث تـتـداخل المصالح وتتفاعل في الساحة السورية إلى درجـة تبدو سورية في حالتها الراهنة كأنها تلخيص لحالة عالمية.

السياسيون السوريون (وبمعنى ما كل سوري له رأي سياسي)، ينتظرون نتائج انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، بينما يدوس الدب العسكري الروسي على مجمل القيم الإنسانية في سورية عسكرياً وسياسياً. النظام الإيراني الشمولي يرى عودة إمبراطوريته الفارسية ممكنة مع التراخي الأميركي المستمر معه حتى اللحظة، بينما يعتقد تابعه «حزب الله» اللبناني أن ساعة قطف ثمار معركة سورية قد حان لبنانياً، وذلك من خلال قضية الرئاسة اللبنانية.

بشار الأسد يشعر بأنه سيبقى طويلاً في الحكم بعد كل هاتف بوتيني له، ويرجو من الله أن ينصر ترامب لا كلينتون.

ومعارضات سورية متنوعة الشكل واللون والهدف، صار بعضها عبارة عن عارضات أزياء سياسية أمام كل الدول المتدخلة عسكرياً في الشأن السوري، وكل معارض سوري يرى أن تأخر النصر سببه أن العالم لم ينتبه لمقدرته في التحليل السياسي.

على الأرض السورية الآن، أكثر من نصف مليون مقاتل يتعاركون عسكرياً وسياسياً وثقافياً أيضاً، بينما تئنّ الناس تحت وطأة وضع معيشي اقتصادي هو الأسوأ والأعنف، إلى درجة صار معها الحفاظ على العيش بيولوجياً يُعتبر مطلباً سياسياً عاجلاً أيضاً.

تمزق وتشتت سوري - سوري، تشتت وتمزق عالمي في الساحة السورية، أمم متحدة هي محضُ عدّاد أرقام غير دقيق تجاه الحالة السورية.

وميشال عون سيصل إلى سدة الرئاسة محمولاً على أسوأ لحظة يعيشها لبنان، مُذ خرجت قوات الاحتلال الأسدية من لبنان عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري.

ويطل السؤال الصعب «ما العمل»؟ وألف إشارة استفهام معه حول الجدوى من أي عمل سياسي سوري في ظل أسوأ إدارة أميركية عاشتها الكرة الأرضية ومعها الثورة السورية اليتيمة.

ما العمل؟ وكيف نوقف هذا الانهيار السوري؟ وكيف نوقف هذا الانهيار في الشرق كله؟

مع كل ما يحمل المشهد السوري من تعقيدات، ثمة بارقة أمل يمكن أن تحمل معها جواب عن سؤال «ما العمل؟». بارقة الأمل يمكن أن تكون فعلاً سياسياً حقيقياً إذا قيّض لكل أشكال المعارضات السياسية السورية الآن أن تتفق في ما بينها على برنامج عمل آني واستراتيجي. والحامل الأساسي لهذا البرنامج السياسي هو السوريون أنفسهم.

من هنا يصبح مطلب إيقاف الحرب أهم مطلب سياسي آني.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
مغامرات ترامب وغارات بوتين: تكامل الحياء والدماء

خلال الأسبوع المنصرم، وحده، الذي شهد كثافة عالية لعمليات الطيران الحربي الروسي ومروحيات النظام السوري ضدّ مناطق في إدلب وريفها؛ ارتفع عدد الشهداء السوريين المدنيين إلى 90، بينهم 22 طفلاً و20 امرأة، فضلاً عن عشرات الجرحى. ذروة هذه الوحشية وقعت قبل يومين، حين قُصف تجمّع للمدارس في بلدة حاس، القريبة من كفرنبل، فبلغ عدد الشهداء ـ حتى ساعة كتابة هذه السطور، بالطبع ـ 35 مدنياً، بينهم 11 طفلاً و7 نساء. قبل مجزرة حاس، كانت أعمال القصف قد استهدفت مدن وبلدات وقرى جسر الشغور ومعرة النعمان والبارة والشيخ مصطفى والنقير، ومعرشمارين وبابولين…

في وسائل الإعلام الروسية، حتى تلك التي تُلصق صفة «المعارضة»، أو الليبرالية، أو النأي عن سياسات الكرملين، أو تعكس وجهة نظر رجال الأعمال الأقرب إلى الغرب (والمرء يضع جانباً إعلام المافيا الروسية، لأنه مرآة بالغة الإخلاص للنظام)… ثمة تطبيل وتزمير لتصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حول توقف المقاتلات الروسية عن قصف حلب خلال الأيام الماضية/ وثمة، في السياقات ذاتها، ولع بحديثه عن «الممرات الآمنة» لتأمين خروج المدنيين من حلب؛ ومباركته لمقترحات المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، حول ممرات أخرى موازية لانسحاب مقاتلي جبهة النصرة (الإعلام الروسي، في غالبيته، لا يعترف بالتسمية الجديدة: «جبهة فتح الشام»!).

ماذا عن إدلب؟ ماذا عن مدارس حاس؟ ماذا عن تلامذة المدارس؟ لا شيء، تقريباً؛ أو لا وقائع خارج تلك التي يتحدث عنها الوزير شويغو.

ولا غرابة، أيضاً، في واقع الأمر. هذه قوة عظمى تمارس جرائم الحرب في سوريا، بصفة يومية؛ فلا تستثني مستشفى، أو مدرسة، أو مخبزاً، أو سوقاً شعبية، أو مسجداً. وهي تستخدم كلّ صنوف الأسلحة، خاصة المحرّمة منها دولياً، وبالأخصّ تلك الصنوف التي عفا عليها الزمان، ومن الأجدى إسقاطها على مدن وبلدات وقرى سوريا، بدل تلويث أراضي روسيا الأمّ عن طريق إتلافها أو طمرها (كما يتفاخر فلاديمير جرينوفسكي، زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي»!). وهي قوة عظمى لا تجد رادعاً يردعها، ضمن صفوف ما يُسمّى «المجتمع الدولي»؛ وتجد أكثر بكثير مما تحتاج من خنوع وتبعية بشار الأسد، وشهيته لتحليق القاذفات الروسية في أربع رياح سوريا، وإفناء البشر والشجر والحجر…
فماذا، في المقابل، عن القوة العظمى الأولى: الولايات المتحدة الأمريكية؟ وماذا عنها، ليس على صعيد السياسات الرسمية لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فهذه باتت كلاسيكة؛ بل على صعيد الإعلام الأمريكي المستقل، أو الذي يزعم استقلالية أوسع بكثير من تلك التي تُنسب إلى الإعلام الروسي؟ ثمة مقالات الاحتجاج على خيارات البيت الأبيض، التي مكّنت موسكو من هذه الحال في سوريا؛ ولا يخلو المشهد من كتابات الإشفاق على الضحية السورية، وتقارير التعاطف مع الأطفال بصفة خاصة، واستهجان السلوك الروسي، وتقريع سيد الكرملين فلاديمير بوتين نفسه. وبين هذه وتلك، ثمة أولئك الغيارى على انحسار السطوة الأمريكية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً؛ وأولئك الذين يعلقون الآمال على احتمال استئناف نفوذ واشنطن الكوني، على يد إدارة هيلاري كلنتون إنْ فازت، أو حتى دونالد ترامب!

وإذا كان في الوسع تفهم انشغال أمريكا بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، فإنّ مقدار الانهماك بغارات بوتين الدموية يبدو مكمّلاً ـ من حيث معدّل النفاق الأخلاقي، بادئ ذي بدء ـ لانهماك أمريكا بتعقّب افتضاح الأسرار حول مغامرات ترامب الجنسية: غارة لا تجبّ مغامرة، ولكنّ المغامرة تفعل… فلا تجبّ فقط، أو تُلهي وتُنسي وتحرف الانتباه فحسب، بل تحثّ أيضاً على مزيد من النفاق! فإذا جرى ربط ما، وهذا إجراء نادر تماماً، بين الغارة والمغامرة؛ فإنّ الغائب الأكبر ـ أو بالأحرى: المغيّب، عن سابق قصد وتصميم ـ سوف يكون مقدار التنافر بين التباكي على الأخلاق الجنسية للمرشح ترامب، والتباكي على الأخلاق العسكرية للرئيس بوتين! وفي كلّ حال، شائع أيضاً ذلك المقدار من التعامي عن مستويات التورط الأمريكي الفعلي على الأرض السورية، مقابل الزعم بعدم الرغبة في التورط!

والحال أنّ عناصر كثيرة في المشهد الأمريكي الراهن تعيد التذكير بمغامرات جنسية أخرى، لرئيس أمريكي هذه المرة، وليس مجرد مرشح للرئاسة: بيل كلنتون، ومونيكا لوينسكي، وغراميات المكتب البيضاوي، ودراما التحقيقات، ودراما المحاكمة، ودراما التبرئة… وبذلك فإنّ المرء لا يلوم الأمريكيين هذه الأيام، إذا ما استعاد مناخات تلك الأزمنة المشحونة بالمسرح السياسي والجنائي والبوليسي والقضائي. وبعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية جورج أورويل «1984»، ولكن على نحو كان سيقشعرّ له بدن «الأخ الكبير» نفسه، كان الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة أورويلية كاملة الشفافية، حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية كانت تستهويه أكثر، وأيّ شعر إيروسي ألهب مخيّلته، وأيّ الأماكن كانت الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب…

آنذاك تحدّث البعض ــ بهمس خافت، سرعان ما تعالى تدريجياً ــ عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، الذي يزعم أبناؤه أنه بلد هو العالم بأسره. يومئذ، بالفعل، حلّ زمان أمريكي عجيب أتاح لنا أن نقرأ كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية هي مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!). «لماذا يجد الأمريكيون كلّ هذه المتعة في هتك الأعراض»، سأل أنتوني لويس، قبل أن يجيب بأسى عميق: «ألأننا فقدنا الإحساس بقيمة الحرّية الشخصية في المجتمع الأمريكي»؟ ولكن ماذا عن حرّية ترامب، اليوم؟ وأيّ نفاق يسحب هذه «الحرّية» من تلك؟ وهل هذه المغامرات الجنسية هي، حقاً، أمّ القضايا التي تشغل الناخبين قبل أسابيع قليلة تسبق التصويت؟

في غمرة هذا الاقتران بين المغامرة الجنسية والغارة الدموية، بين أمريكا وروسيا؛ تظلّ على الألسن، وطيّ المقالات والتقارير والتحليلات، عبارة «محاربة الإرهاب»، بوصفها مقتصرة على جهاديي سوريا والعراق، من السنّة حصرياً. الميليشيات ذات التمذهب الشيعي، القادمة من أصقاع شتى؛ و»حزب الله» اللبناني، الذي صار في سوريا جيشاً كامل العديد والعدّة؛ وضباط وعناصر «الحرس الثوري» الإيراني، وغيرهم وسواهم… ليسوا، البتة في عداد الإرهاب. ومثلهم، بل قبلهم، ليس إرهابياً أبداً العدوان العسكري الروسي، الذي أتمّ سنة أولى ونيف؛ وليست إرهابية أعمال القصف الوحشي التي لا تُبقي ولا تذر…

صحيح أننا نقرأ، في الصحافة الأمريكية، نقداً شديداً للتدخل العسكري الروسي؛ ونقرأ، في الصحافة الروسية، نقداً لا يقلّ شدّة لاحتضان البنتاغون بعض الفصائل العسكرية «المعتدلة» في صفوف المعارضة السورية؛ ولكن هيهات أن نعثر، هنا أو هناك، على ما يوحي بصفة «الإرهاب» لدى أيّ من الفريقين. وبذلك فإنّ انشغال واشنطن وموسكو بالملفّ السوري له حيثيات متنافرة غالباً، أو متناقضة أحياناً؛ ولكنّ المآلات، بصدد توصيف فعل القوتين العظميين، سياسياً وعسكرياً ـ ثمّ أخلاقياً، لمن يشاء! ـ ليست على درجة مماثلة من التنافر أو التناقض. وليست هذه خلاصة جديدة، في أية حال، ما خلا أنها تتجدد تلقائياً؛ كلما أريق ماء الحياء في فضيحة جنسية عند ترامب، أو أريقت دماء سورية، في قصف وحشي يأتمر بأمر بوتين.
تكاملٌ بين الحياء والدماء، ليس أقلّ!

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
ولادة عسيرة للخيارات الأميركية بشان سورية

استنزفت أميركا طاقات حلفائها، وهي تتحدّث عن نيتها تصنيع خياراتٍ بديلة في سورية، بل وضعت الثورة السورية نفسها في سلسلةٍ من المخاطر غير المسبوقة، والأخطر أن سياستها هذه جعلت من روسيا شريكاً واقعياً في إدارة السياسات الدولية، على الرغم من أنها طرف غير مؤهل لهذه الأدوار، نظراً لضعف خبراتها في الإدارة السلمية للأزمات.

ماذا فعل أوباما؟ استنفر وكالاته وأجهزته، وطلب منها اقتراح خيارات وبدائل للتعاطي مع الحالة السورية، شرط أن تكون تلك الخيارات عملية، ويمكن تنفيذها، بهدف تعديل موازين القوى، أو تصحيح الخلل الذي أحدثته روسيا وحلفاؤها في حلب، وذلك لانعكاس هذا الخلل على مصداقية أميركا ومصالحها. والمعلوم أن لدى الأجهزة الأميركية تقديرات وقوائم خيارات كانت قد أعدتها في مناسبات سابقة، سواء بقصد الوقوف الدائم على تطورات الأزمة وتداعياتها المنفلتة، أو حتى تلبيةً لطلب من الإدارة نفسها التي طالما وقفت على عتبة الأزمة، متأبطة ملفها بين جنيف وموسكو، وكانت هذه الخيارات على الدوام تحتاج إلى تحديث وتعديلاتٍ، نظرا للمتغيّرات السريعة الحاصلة في مواقع الأطراف وظروف الحرب.

من الواضح اليوم، ومن الاجتماعات الكثيفة وطول مدة التشاور أن واضعي الخيارات للرئيس أوباما يعملون ضمن مناخاتٍ صعبة، فالرجل يطلب منهم المشورة، نتيجة ما يتعرّض له من ضغوط. وفي الوقت نفسه، يقيدهم بمحاذير كثيرة، تكاد تكبّل قدرتهم على الحركة والفعل، حيث يقع هامش البدائل المقبولة من أوباما بين حدي انعدام المخاطر وعدم تورّط أميركا بإرسال قواتٍ إلى سورية.

وتكشف تصريحات أوباما المتواترة أنه يجري، على الدوام، موازنةً بين المخاطر والفرص في القرارات التي سيتخذها، من دون أن يلتفت إلى أن التغيرات جارية بشكل متدفق، وما قد يكون اليوم فرصةً يصبح غداً، وفي حال التلكؤ في التنفيذ، خطراً أو أقله فرصةً قليلة الجدوى والفعالية، فماذا سيعني السماح بتسليم مضادات للمروحيات، في وقت تكون روسيا قد استعادت حلب، وهدّدت الفصائل في مناطق أخرى. حينها لن تكون ثمة حاجة لسلاح المروحيات. أو ماذا يعني احتمال قصف مطارات محدّدة، فيما تتولى روسيا القوة النارية الجوية من مطار حميميم؟

الأهم أن الخيارات التي تسعى أميركا إلى اجتراحها لن تترجم على شكل التزامات دائمة، ولا أعمال مستدامة، إلى حين تغيير موازين القوى على الأرض، لن تكون أكثر من ضربة واحدة إن حصلت، أو دفعة محدّدة من الأسلحة. وهنا، على القيادة الأميركية أن تتنبه بالفعل للمخاطر التي ستجلبها مثل هذه السياسات، حيث إنها ما لم تردع روسيا وتجبرها على التراجع عن أساليبها، فإنها ستدفعها إلى استعمال أقصى أنواع العنف تجاه الشعب السوري، وستفعل ذلك بذريعة أنها تخوض حرباً مقدّسةً ضد أميركا والغرب، كما أن نظام الأسد سيزاود على السوريين بأنه يواجه مؤامرةً كبرى لإسقاطه وإسقاط الدولة السورية. أليس من الأفضل لخياراتٍ على هذه الشاكلة أن لا ترى النور؟

لم تفعل دراسة الخيارات الأميركية سوى تحفيز روسيا على توسيع انتشارها في سورية، وإرسال مختلف صنوف الأسلحة. وهنا أيضاً مكمن خطورة آخر، ذلك أن عدم اتخاذ واشنطن إجراءاتٍ رادعة ضد روسيا سيعني أنها لم تفعل شيئاً آخر، سوى تغيير ديناميكية الصراع لصالح روسيا في سورية. وهي وضعيةٌ لن يستطيع الرئيس القادم أن يفعل تجاهها شيئاً له قيمة.

أسقطت أميركا، بتردّدها وسلوكها المتهاون، عدة خيارات، كانت، حتى وقتٍ قريبٍ، ممكنة التحقق: خيار تشكّل ائتلاف إقليمي، تقوده تركيا والسعودية، يسقط نظام الأسد، وخيار إمكانية إسقاطه من الثوار، وخيار إنشاء منطقة آمنة، حتى وإن كانت هناك مصاعب عملية تقف في وجه تنفيذ هذه الخيارات، فإنه مع الاستعدادات الروسية وطبيعة الانتشار وحجم الأسلحة صارت كلها في حكم الماضي.

ويمكن للمراقب لصيرورة الإجراءات الروسية في سورية ملاحظة بعدٍ تقنيٍّ خطير فيها، ذلك أن تلك الإجراءات كانت، في الغالب، ذات طابع تكتيكي اختباري (أوراق ضغط تكتيكية)، طبيعة الاستعدادات ومستوى التحضير وحجم الموارد والأصول كانت مؤشرات واضحةً على ذلك، لكن الرد الضعيف من أميركا حوّلها إلى إجراءات مستدامة واستراتيجية، ولم تأخذ الإجراءات الروسية وقتاً طويلاً، في طور الاختبار، قبل أن تتحول من مجال المناورة المتحرّك إلى الواقع الاستراتيجي الصلب. لذا من المقدّر أن يحصل تمدّد وانتشار روسي في الأشهر القليلة الباقية من حكم أوباما، بما يوازي أضعاف ما جرى حتى اللحظة، وليس في سورية وحدها، وإنما على مستوى العالم.

لم تكن أميركا بحاجةٍ إلى دراسة مديدة لخياراتها، لقد وفّرت لها ظروف الحرب السورية وتطوراتها الفرصة تلو الأخرى، للقيام بعملٍ يؤيده المجتمع الدولي كله. كان يمكن إنزال الإمدادات الإنسانية فوق حلب، وغيرها من المناطق المحاصرة، بطائرات نقل أميركية من مسؤولي الأمم المتحدة. وكان يمكن أن يكون ذلك بدايةً لتأسيس آلية تدخلية خالية من المخاطر، لو أن إدارة أوباما التقطتها وطوّرتها.

غالباً ما تنتهي الخيارات الأميركية بفرض عقوباتٍ من نمط منع بعض ضباط الأسد وقادة نظامه من السفر إلى أميركا، والذين في الواقع لا يفكرون أصلاً بزيارة أميركا، ولن يكون لديهم وقت لزيارتها، في ظل انشغالهم في الحرب. وعند انتهاء الأزمة، سيكون القسم الأكبر منهم قد غادر الحياة، أو عقوبات اقتصادية تطاول بعض رجال الأعمال القريبين من بشار الأسد، وهم من المفترض أن يكونوا، بدون هذه الواسطة، مطلوبين للانتربول الدولي، نتيجة فسادهم وجرائمهم الاقتصادية.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا تستغل الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي!

عاد الحديث عن حرب باردة بين روسيا والغرب. ففي سوريا أصبحت روسيا الدولة التي من المستحيل حل النزاع من دونها. موسكو تريد حوارًا مع واشنطن يهدف إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى. ولهذا تلعب لعبة دبلوماسية متطورة جدًا، فالقوة وسوريا مجرد أدوات لاستعادة المكانة العظمى.

الرئيس باراك أوباما اتهم روسيا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنها تبحث عن استعادة مجد ضائع. الآن هو على وشك المغادرة، وتتجه الأنظار إلى من ستختاره أميركا رئيسًا مقبلاً لها. ذلك أن تعاطي الرئيس الأميركي المقبل مع سوريا سيعتمد أولاً على روسيا ونياتها. قد تكتفي الإدارة الأميركية الجديدة بالتركيز على محاربة «داعش» ومقاتليه، لكنّ لروسيا أهدافًا أبعد من محاربة «داعش» وبقية الإسلاميين المتطرفين. ذلك أن تدخلها بالحرب في سوريا، برًا وجوًا وبحرًا، كان لإظهار رغبة الكرملين بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي الوقت نفسه للدلالة على التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران، إلى درجة أنه جرى حديث عن تحالف شيعي بقيادة طهران تدعمه موسكو، لتحدي الكتلة السنية المدعومة من واشنطن.

لكن، مع هذا تبقى روسيا وإيران أبعد من تشكيل تحالف كامل. في 16 أغسطس (آب) الماضي سمحت إيران لقاذفات القنابل الروسية باستخدام قواعدها الجوية لضرب مواقع الثوار السوريين، بعد أقل من أسبوع تراجعت إيران عن قرارها. صحيح أن لروسيا وإيران كثيرًا من المصالح الإقليمية المشتركة وبالذات في سوريا، لكن تبقى هناك توترات موروثة من حروب سابقة. كما أن موسكو لا تريد أن تستحوذ إيران على السلاح النووي، وتتخوف من أن أي اتفاق نووي شامل وبعيد المدى قد يدفع إلى تقارب بين واشنطن وطهران، فيقلص هذا من النفوذ الروسي أكثر فأكثر.

في سوريا تريد روسيا إظهار أنها بالفعل تقدم الحماية لحلفائها، وترى في الوقت نفسه أن إلحاق الهزيمة بالمتطرفين السنّة هو الطريق لاحتواء النفوذ الأميركي في المنطقة، كما أنها تريد أن تحمي حليفها السوري. والمغامرة الروسية ترغب في المحافظة على حكومة صديقة لها في دمشق، وقواعد بحرية على الأبيض المتوسط، وتأكيد مكانتها كقوة عظمى. ترفض روسيا تغييرًا في النظام السوري يؤدي إلى قيام حكومة في دمشق موالية للغرب. هذا ما تريد منعه، لكن هذا لا يعني الدفاع عن قيادة بشار الأسد مهما كان الثمن.

ثم إن روسيا ترتبط بعلاقات براغماتية في الشرق الأوسط. ويقول أحد المحللين الروس إنه إذا كان هناك من شك بالنسبة إلى جدول موسكو المستقل في سوريا بالنسبة إلى إيران، فليس علينا التفتيش كثيرًا، بل أن نأخذ إسرائيل التي تقول إيران إنها العدو الرئيسي، إذ ترتبط موسكو بعلاقات وثيقة مع تل أبيب، وتضاعفت هذه العلاقات في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. الدولتان مستمرتان بحوار سياسي، وهناك تبادل وفود بينهما على كل المستويات، ويوم الجمعة الماضي أجرى بوتين اتصالاً هاتفيًا مع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهنئه بعيد ميلاده، والأعياد اليهودية، كما تبادلا التهاني لمرور 25 سنة (18 أكتوبر/ تشرين الأول)، على إعادة العلاقات بين الدولتين (كانت روسيا قطعت العلاقات مع إسرائيل بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، وأعادتها على مستوى قنصليات عام 1987، لتُستأنف كاملة عام 1991)، كما تعهد الطرفان بتطوير العلاقات والتعاون بينهما. ناهيك بأن عددًا كبيرًا من المواطنين الإسرائيليين ولدوا في الاتحاد السوفياتي. إضافة إلى إسرائيل، تحتفظ موسكو بعلاقات جيدة مع مصر وتركيا والدول السنّية العربية التي ليست إيران على علاقات جيدة معها. ويوم الاثنين الماضي قال ألكسندر نوفاك وزير الطاقة الروسي: «بلغنا مستوى غير مسبوق في علاقاتنا مع السعودية». كما تتنافس روسيا وإيران في مجالي النفط والغاز، والدولتان تدعيان ملكية مناطق في بحر قزوين.

يقول المحلل الروسي إنه لا يزال الروس يشعرون بطعم الذل الذي لاقوه من الغرب بعد موجة الديمقراطية التي دمرت الجدار الحديدي 1989 - 1990، وتفكك الاتحاد السوفياتي. يعرف بوتين هذا، ولذلك من أجل سلطته وأيضًا بسبب غريزة وطنية حقيقية تضاعفت بسبب أيامه في استخبارات الـ«كي جي بي»، يلعب الآن بالورقة الوطنية، ولأنه يريد استعادة هيبة روسيا الدولية، كما يريد غالبية الروس، فإنه يريد فتح أسواق أوسع أمام الأسلحة الروسية. يقول محدثي: «هذا يعود إلى براغماتية بوتين. وفّرت سوريا له مسرحًا لاستعراض طائراته وصواريخه». ويضيف: موسكو تصعّد من حملتها العسكرية في سوريا الآن لأنها لا تزال تعتقد أنها قادرة على إقناع الأميركيين بقبول موقفها والتخلي عن مطلبهم برحيل الأسد. ويعتقد بوتين أنه يستطيع عندها الاستمرار بمحاربة الإسلاميين مع الولايات المتحدة، وهو يرغب في التوصل إلى اتفاق ما مع إدارة أوباما، لأن الروس مقتنعون بأن هيلاري كلينتون، كرئيسة محتملة، ستكون أكثر تشددًا مما عليه أوباما.

لكن، لا يجد بوتين ثغرة ضد المصالح الأميركية إلا ويحاول سدها بموقف روسي معادٍ، إذ، وفي مجال أوسع من منطقة الشرق الأوسط، دعمت موسكو مطالب الصين بجزر بحر الصين الجنوبي، وتصالحت مع تركيا مستغلة غضب أنقرة من الغرب بعد المحاولة الانقلابية على الرئيس رجب طيب إردوغان. يقول المحلل الروسي: قد تكون روسيا طموحة جدًا بمحاولتها سحب تركيا من الحلف الأطلسي نفسه. هي ترى أن تركيا لم تعد مهتمة الآن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لذلك يستغل بوتين ردود فعل إردوغان على محاولة الانقلاب، لشد تركيا أكثر إلى آسيا ودفعها إلى تحالفات تجارية ودبلوماسية مثل منظمة شانغهاي للتعاون.

وكانت الغارات الجوية التركية يوم الخميس الماضي على قوات وحدات حماية الشعب الكردية لمنعها من الوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية شمال غربي سوريا، أثارت كثيرًا من الأسئلة حول علاقة أنقرة بموسكو والنظام السوري، إذ ما كان يمكن للطائرات التركية الإغارة من دون إبلاغ روسيا التي تسيطر على الأجواء في تلك المنطقة.

لكن في الوقت نفسه لن تسمح روسيا للمعارضة السورية المدعومة من تركيا باحتلال الباب، لأن هذا قد يهدد خطط الحكومة السورية باسترجاع حلب. وكان إردوغان تحدث هاتفيًا مع بوتين في 19 من الشهر الحالي، حيث أكد له مساعدة تركيا في طرد «جبهة فتح الشام» (النصرة) من حلب.

وكان لوحظ أنه مع بدء المعارك لاسترجاع الموصل لم تطلب أي دولة من دول التحالف استعمال القواعد الجوية التركية لشن غاراتها الجوية. وهذا ما أثار سخط أنقرة ويدفع موسكو إلى فتح أذرعها لتركيا أوسع فأوسع.

الأوراق الروسية كثيرة، تختصر برغبة الكرملين في استعادة الوضع السابق ليصبح على قدم المساواة مع البيت الأبيض، لكن في ظل إدارة أوباما التي انكفأت عن كثير من الصراعات كان تدخل بوتين. في سوريا، يشعر كثيرون بأن واشنطن لعبت دورًا رئيسيًا في تفاقم الحرب، بسبب ترددها وعدم حسمها، وتفضيلها التوصل إلى اتفاق مع إيران على حساب مصير الشعب السوري. أما في العراق، فإن معركة الموصل رغم أهدافها لا تزال في البداية. عبر هذه الفوضى الدموية تستغل موسكو الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي؛ بأن تزيد من الشرخ بين تركيا والحلف، في حين أن إيران تراقب وقد استدعت السفير التركي في طهران للاحتجاج على طلب تركيا التدخل في معركة الموصل. تعرف إيران أن هناك خطوط أنابيب للنفط والغاز تنطلق من منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين إلى البحر المتوسط، وأن سوريا وتركيا من المواقع المهمة للتصدير إلى أوروبا. وتقف روسيا لها بالمرصاد.
اللعبة لن تنتهي في الشرق الأوسط.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
سورية والعراق... مكافآت روسية - أميركية لإيران

تتنافس حلب والموصل هذه الأيام على إيلامنا وجلد وجداننا، وعلى تقريعنا لتقصيرنا وإهمالنا. قبلهما اغتيلت حمص وهانت علينا، اغتيلت بيروت، واستُبيحت القدس والخليل وغزّة، وغيرها وغيرها، وهانت علينا كلّها. أصبحت المقارنة، وربما المفاضلة، بين احتلال يشير اليه العالم على أنه احتلال لا تستطيع اسرائيل أن تتخلّص من آثامه مهما عربدت في إجرامها، واحتلال لا أحد سوى المعانين منه يسمّيه باسمه رغم أن إيران فَجَرَت وتمادت، واحتلال روسي لا يشبهه سوى احتلال أميركي وقد برع كلاهما في الاستهتار بالأرض ومَن عليها وما عليها، وبالتاريخ والحاضر والمستقبل وما تعنيه لا للسوريين والعراقيين أو العرب، ولا لسنّة وشيعة ومسيحيين، وحدهم، بل للعالم ولما تسمّى «حضارة انسانية» فشل العرب، قبل سواهم، في الاهتداء الى سبل حمايتها من صولات الوحوش المسعورة.

هناك طعَم نهايات مريرة وبدايات أكثر مرارة في ما تشهده حلب والموصل. لا، ليس التراث الانساني الذي هشّمه المدعو «أبو بكر البغدادي» أو يدمّره المدعو فلاديمير بوتين أو يطرحه سماسرة الحروب في مزادات التهريب هو ما سيفتقد فقط، بل انه الانسان نفسه الذي صبر على الطغاة القدامى والجدد، بمن فيهم صدّام حسين وجورج بوش ونوري المالكي وبشّار الأسد وقاسم سليماني و «داعش»، وصنع تجربة العيش بهذا المزيج من الأقوام والأديان. هذا الانسان تحطّم بدوره وتدمّر، فقد الثقة والأمل، فلا الدولة/ النظام تحميه ولا هو يعني شيئاً لها، ولا القوى الخارجية ترحمه بل تمعن في تقطيع أوصاله. وفي السياق الحضاري التاريخي سيكون واضحاً أن روسيا دمّرت حلب وأميركا دمّرت الموصل وإيران صنّعت «داعش» لاستدراجهما كي يلعبا لعبتها القذرة فتحصد المكاسب. وعلى رغم أن الوحشية لا تُعرف إلا باسمها ولا مجال فيها للمقارنات إلا أن «داعش» المنشغل بالنحر والحرق والنهب والسبي قد يبقي في الموصل مستشفيات ومدارس ومخابز وأسواقاً، خلافاً لما ارتكبه بوتين لتوّه في حلب وهو منشغل بتدمير سورية لتأمين قضمه أوكرانيا أو لتقاسمها بصفقة مع أميركا.

«ممرات آمنة» غير آمنة هي كل ما تبقّى من المدينتين لأهلهما. حُوصرت الموصل ويراد لأهلها أن يغادروا كي يسهل تحريرهم من تنظيم «داعش»، وبعضٌ ممن يحاصرونها أو جلّ من يريدون «تحريرها» ساهم في صنع «داعش» وتسعير توحّشه. هناك أكثر من معركة في الموصل، واحدة لأهل الموصل وخمسة لأميركا وإيران وتركيا وحكومة بغداد والأكراد، وكلٌّ منهم يخوضها وفقاً لأجندته. صحيح أن الهدف طرد «داعش» لكنه يختلف بالنسبة الى الإيرانيين والأتراك بين تمكين و/ أو عدم تمكين «دواعش الحشد الشعبي/ الشيعي» من دخول المدينة. لا شك في أن «داعش» سيُهزم، لكن هذه معركة يراقبها العالم موقناً بأن النصر فيها يعادل الهزيمة اذا أفسدها صبية قاسم سليماني و «حشده». شيء من هذا يشوب أيضاً معركة حلب، حيث لا وجود لـ «داعش» بل إن «فتح الشام/ النصرة/ القاعدة» يحاول الذوبان في نسيج الفصائل، فيما ينتظر «دواعش» الأسد وسليماني والحشد العراقي و «حزب الله» اللبناني وأقرانهم متعدّدو الجنسية أن لا يبقي الروس حجراً على حجر فيها ليعلنوا الانتصار على ركام المدينة. يُذكر أن الروس والإيرانيين يتغطّون بـ «شرعية» نظام مجرم تعاقد معهم على قتل الشعب السوري وتدمير حواضره، لكن حكومة بغداد لم تعلن أن الأسد تعاقد معها لاستيراد «دواعش الحشد» الذين جعلهم حيدر العبادي جزءاً من الجيش العراقي.

لا خلاف على إرهابية «داعش»، لكن كمَّ الإجرام الذي مورس في سورية والعراق وعدد المشاركين فيه يبرز إرهابية الآخرين ويحمّلهم مسؤولية مضاعفة في ترك ظاهرة «داعش» تكبر وفي استغلالهم لها، بل في استنساخ «منطقـ»ـها السياسي الذي ربط بين البلدين، حتى قيل إن هذا التنظيم هو الذي جهر بإعادة النظر في ترتيبات معاهدات «سايكس – بيكو» و «سيفر - لوزان»، فيما تطرح الأطراف الأخرى إعادة النظر هذه سرّاً. وعلى رغم مساهمة الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية بالجهد الأكبر في تحرير الموصل، إلا أن سنّة نينوى لجأوا الى تركيا وإلى تذكيرها بصلتها التاريخية بالموصل طلباً للحماية منذ الآن تحسّباً لمرحلة «ما بعد داعش»، وثمة مؤشّرات الى أن المحافظات السنّية الأخرى تشاركهم هذا الالتماس، فهي تعاني من تداعيات الغزو الإيراني المتنكّر بـ «دواعش الحشد الشعبي» بعد تحريرها من «داعش». وتستند مخاوف الموصل وبالأخصّ تلعفر الى أن هذه الأخيرة بمقدار ما تشكّل معبراً لـ «الدواعش» الهاربين الى الشطر الآخر من «دولة الخلافة» بمقدار ما يحتاج اليها الإيرانيون كممرٍّ لا بد منه للاتصال جغرافياً بسورية، كما أنهم يحتاجون الى حلب لتأمين تواصل سورية - العراق - إيران.

يدور السيناريو حالياً كما يفترض له بدءاً من 1916، كما لو أن المئة عام لم تكن أو كأنها محكومة بأن تعود الى الفراغ الذي بدأت به، لا دول لا مؤسسات لا فكر لا نُخَب. هناك أمة قذفها الفرس الهائج من على متنه فارتمت أرضاً ليكثر ذبّاحوها. قبل مئة عام توافقت مصالح «الحلفاء» المنتصرين في الحرب العالمية الأولى على تقسيم التركة العثمانية بإرضاء العرب كقومية، وبعدها التقت مصالح الأطلسيين والسوفيات على مباركة سرقة الاسرائيليين أرض فلسطين التاريخية، بل التقت أيضاً على منع العرب من أن يتصرّفوا كقومية يلتقي أبناؤها على أهداف مشتركة، وقد سهّل العرب للقوى الخارجية الاستهانة بمصالحهم وطموحاتهم.

رغم كل ما بذله العرب (بالأحرى ما بذلته الأنظمة) من أخضاع لمصالحهم في ما ظنّوه مصادقات وتحالفات مع العالم، فإنهم اتّهموا أولاً بقوميتهم ويتّهمون اليوم بإسلامهم، كمصدري خطر إقليمي وعالمي، ولم يعد يُرى منهم سوى «إرهابهم»، بل إنهم يُحاسبون ويُعاقَبون على هذه كلّها. وها هم يقفون اليوم على قارعة التاريخ فلا يجدون صديقاً أو حليفاً، وتكاد العودة الى كنف الدولة العثمانية تشكّل ذروة طموحاتهم، ولن ينالوها. أما الكبار، وهم الأميركيون والروس هذه المرّة، فيستخلصون من تجربة الـ 100 عام ضرورة «شرعنة» تطلّعات القوميّتين اليهودية والكردية بما تتطلّبه من تقسيم وتغيير خرائط، ويتوافقون على تنصيب الفرس والاسرائيليين أوصياء على العرب، كمكافأة على ما ارتكبوه في حق العرب. وربما يراد، بشيء من التردّد، إشراك الأترك لكن كأوصياء من الدرجة الثانية.

بعد كل المقدّمات التي تفاعلت سورياً وعراقياً واقليمياً ودولياً تؤشر الى نهاية مرحلة، ولم يعد حديث التقسيم مجرّد تكهّنات واحتمالات، بل توغّل أكثر في التداول. ليس هناك أبسط من القول، مثلاً، أن تعايش السنّة مع بغداد بات استحالة من دون أن يقال لماذا وكيف صار كذلك ومَن المسؤول، بل من دون النظر الى الفارق بين تعايشهم الممكن مع الشيعة وبين إجبارهم على الخروج من عراقيتهم والخضوع للاحتلال الإيراني. ولو أن أتباع ولي الفقيه بنوا تجربة راقية تحترم خصوصيات العراق لما كان «داعش» ظهر أصلاً، لكن الحاصل هو أنهم منعوا قيام دولة وهمشوا الجيش وأرهبوه بـ «دواعش الحشد» وهتكوا كل ما تبقّى من روابط أهلية غير متأثرة بالشحن الطائفي وساهموا في مأسسة الفساد. فهل أن هذه مقوّمات «تفاهم» أميركا وإيران على العراق؟ واقعياً، لم يثبت أنها عكس ذلك ولم يتبرّأ الأميركيون مما حصل بعد انسحابهم.

لكن هل هناك أي مبرر، طائفي أو سياسي، يبرّر مدّ هذا «التفاهم» الى سورية والاعتراف بالدور الإيراني كجزء من «التفاهمات» الأميركية - الروسية ومن دون أي اعتبار لخصوصيات سورية إنْ لم يكن لحقائق مجتمعها؟ لا مجال لإخراج السوريين من سوريتهم وإخضاعهم لاحتلال إيراني جنباً الى جنب مع احتلال روسي، لذلك صمتت أميركا عن اقتلاعهم من مدنهم وبيوتهم، وهي وروسيا تغضّان النظر عن تغيير ديموغرافي تعمل إيران على هندسته لإدامة احتلالها. فإذا لم يكن هذا من ارهاصات التقسيم، كما تتمنّاه واشنطن وموسكو، فما عساه يكون؟

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
الحل الأفغاني:هل ستكون نهاية الأسد كنهاية نجيب الله؟!

في لقاء صحافي نشرته إحدى الصحف العربية قبل أيام، تحدث المسؤول الأميركي السابق المعروف ريتشارد ميرفي، الذي عمل سفيرًا لبلاده (الولايات المتحدة) في كل من دمشق والرياض، عن مسألة غدت مطروحة ويكثر الحديث عنها بكل جدية هنا في هذه المنطقة وأيضًا في أوروبا وأميركا، وهي أنه لا حل لمشكلة بشار الأسد إلا «الحل الأفغاني»، وأنه لإنهاء هذه الأزمة السورية التي باتت معقدة وشائكة لا بد من «سيناريو» كـ«السيناريو» الذي تم تطبيقه في أفغانستان.

وحقيقة، فإن هذا الذي قاله ريتشارد ميرفي كمبادرة كان قد اقترحها، كما يتردد وكما يقال، على بعض كبار المسؤولين في بعض دول الخليج العربي كان قد طُرِحَ وجرى الحديث عنه مبكرًا عندما كان نظام بشار الأسد قد أصبح آيلاً للسقوط قبل أن تنتقل روسيا بتدخلها في الشؤون السورية الداخلية من مجرد المساندة السياسية والدبلوماسية والدعم الأمني إلى التدخل العسكري السافر الذي كان بدأ في نهايات سبتمبر (أيلول) عام 2015 ثم ما لبث أن تحول إلى احتلال فعلي غاشم وبأبشع أشكال الاحتلال.

لكن كل الذين تحدثوا عن هذا الحل وعن هذا «الخيار» وعن هذا الـ«سيناريو»، ومن بينهم ريتشارد ميرفي نفسه، هذا الذي يُعتبر أحد كبار الخبراء الأميركيين في الشؤون العربية وشؤون هذه المنطقة، لم يحددوا بالضبط ما الذي يريدونه وهل أنهم يقصدون إيجاد مخرج لرئيس النظام السوري بشار الأسد بالتنحي على غرار ما حصل عندما تنحى الرئيس الأفغاني الأسبق بابراك كارمال وحل محله مدير المخابرات الإيرانية السابق محمد نجيب الله الذي كانت نهايته مأساوية بالفعل عندما جرى إعدامه، بعدما وصل الحكم في أفغانستان إلى حركة طالبان، بالتعليق على أحد أعمدة الكهرباء في كابل وحيث بقي معلقًا لنحو أسبوع بأكمله؟!

وحقيقة فإنَّ المشكلة الأفغانية، التي كانت بدأت بذلك الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال محمد داود خان ضد ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه في عام 1975، قد ازدادت تفاقمًا أولاً بانقلاب حفيظ الله أمين على رفيقه في حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني محمد نور طرقي في عام 1979 الذي كان بدوره قد انقلب عليه رفاقه، وثانيًا بذلك التدخل السوفياتي الذي كان احتلالاً عسكريًا بكل معنى الكلمة، والذي جاء لسوريا كنسخة شبيهة له في وجوه متعددة وكثيرة، وثالثًا عندما تحولت أفغانستان، خلال حكم حركة طالبان المتطرفة، إلى معسكر كبير لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ورابعًا عندما ارتكب هذا التنظيم الإرهابي، أي «القاعدة»، تلك الجريمة التاريخية البشعة في نيويورك وواشنطن في سبتمبر عام 2001، أمّا خامسًا فعندما ردت الولايات المتحدة على هذه الجريمة بتحشيد عسكري دولي واحتلال هذا البلد كله وإنهاء نظام هذه الحركة وفرض نظام جديد لم يستقر سياسيًا ولا أمنيًا حتى الآن رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.

وهكذا وعندما يجري الحديث عن الخيار الأفغاني لحل الأزمة السورية، التي قد ازدادت استعصاءً وازدادت مأساوية بعد التدخل العسكري الروسي الآنف الذكر، الذي تحول بعد عام واحد إلى احتلال يوصَف بأنه دائم، فإنه لا بد أن تخطر على البال هذه الـ«سيناريوهات» الأفغانية كلها وآخرها الغزو العسكري الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، بعد كارثة برجي التجارة العالمي في نيويورك و«البنتاغون» في واشنطن في عام 2001، لإسقاط نظام حركة طالبان وإقامة نظام انتهى إلى الانتخابات الديمقراطية «المعقولة والمقبولة»، لكن ورغم مرور كل هذه الفترة الطويلة فإن هذا البلد لم ينعم بالاستقرار حتى الآن وهو لا يزال بحاجة إلى الحماية العسكرية الخارجية.. الأميركية بالدرجة الأولى.

فهل يا ترى أن هذا هو المطلوب بالنسبة لسوريا التي أصبح حالها، بعد نحو ستة أعوام من عدم الاستقرار، وفي جوانب كثيرة كحال أفغانستان قبل وبعد التدخل العسكري السوفياتي في عام 1979 ولكن دون انقلابات عسكرية كتلك الانقلابات الأفغانية التي تلاحقت بعد انقلاب الجنرال محمد داود خان في عام 1975، والتي لم تتوقف عمليًا، إلا بذلك الغزو الدولي الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001، وأسقطت حكم حركة طالبان، لكنها في حقيقة الأمر لم تنهِ هذه الحركة التي بقيت حاضنة فعلية وحقيقية لـ«القاعدة»، وأصبحت أيضًا حاضنة لكل الحركات الإرهابية في تلك المنطقة الاستراتيجية الخطيرة؟ وحقيقة أنه بالإمكان الاتفاق ومرة أخرى على أن هناك صفات كثيرة بين أوضاع أفغانستان خلال فترة حكم حركة طالبان وقبل ذلك، ووضع سوريا تحت حكم بشار الأسد، فهناك الاحتلال السوفياتي وإلى جانبه «القاعدة» سابقًا ولاحقًا، وهنا الاحتلال الروسي ووجود «النصرة» و«داعش»، وأيضًا التدخلات الخارجية التي يقابلها تدخلات أخطر وأكثر من تلك التدخلات التي شهدتها ولا تزال تشهدها التجربة الأفغانية، ثم وإذا كان نظام بابراك كارمال ولاحقًا نظام محمد نجيب الله لم تكن لأي منهما أي سيطرة فعلية إلا على جزء محدود من البلاد، فإن المعروف أنَّ هذا النظام السوري لا يسيطر عمليًا وفي حقيقة الأمر إلا على «نُتفٍ» صغيرة حتى في دمشق نفسها، وكل هذا وإذا كان القرار هناك في كابل عند القيادة السوفياتية، فإنه ما بات مؤكدًا أن القرار هنا في دمشق إنْ لم يكن في قاعدة «حميميم»، فإنه عند فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية.

وهنا، وبينما أن البعض يرى أن الحل الأفغاني المقصود الذي يُطرح كنهاية للأسد ونظامه هو ليس أيًا من كل هذه الحلول والـ«سيناريوهات» المشار إليها آنفًا، وإنما ذلك الحل الذي كان بدأه محمد نجيب الله بعد تسلمه الحكم، قبل أن ينتهي إلى تلك النهاية المأساوية المعروفة، فإن السؤال هو: ألمْ يكن بإمكان الرئيس السوري يا ترى أن يأخذ بهذا في بدايات انفجار ثورة عام 2011، وعندما كان حل تلك العقدة بالأصابع ممكنًا قبل أن تتطور الأمور وأصبح من غير الممكن حلها حتى بالأسنان؟!

وهكذا فالمهم أنه بينما لجأ بشار الأسد لمواجهة مطالب الشعب السوري بالحديد والنار ودفع سوريا دفعًا إلى كل هذه المآسي التي تواجهها الآن، فإن نجيب الله بمجرد وصوله إلى سدة الرئاسة قد رفع راية المصالح الوطنية وأعلن أنه عفا الله عما مضى، وبادر إلى إجراء تعديلات دستورية نصت على أن يكون النظام السياسي تعدديًا، وعلى حرية الرأي ووضع قانون إسلامي لمجلس حاكم على رأسه سلطة قضائية مستقلة، وهذا بالإضافة إلى الإعلان رسميًا عن ضرورة انسحاب القوات السوفياتية من بلاده، وإلى الانفتاح على المعارضة (المعتدلة) ممثلة بالقائد الكبير المعروف أحمد شاه مسعود، والاتفاق معه على تسوية شاملة لإنهاء الحرب الأهلية.. لكن ما لبث أنْ انهار كل شيء بسبب تعنت «المجاهدين» وتشددهم، وبسبب التدخلات الخارجية فكان أنْ سيطرت حركة «طالبان» على الحكم فتم إعدامه، أي نجيب الله، دون أي محاكمة بطريقة بشعة ومرعبة، وبذلك تكون قد انطوت صفحة واعدة في التجربة الأفغانية.. وهذه مسألة من المفترض، بل يجب، أن يتعلم منها بشار الأسد الشيء الكثير، وذلك مع أن أغلب الظن أن مصيره سيكون هو هذا المصير.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
رئاسة عون برعاية الأسد ونصرالله

اياً تكن قصيدة الزجل التي سينظمها أنصار ميشال عون للتغني بـ «قدراته» الرئاسية، ومهما تضمنت من مواصفات «استقلالية» فضفاضة تتناسب وعنترياته المعتادة، فإن الرجل لا يعدو كونه «انتقالياً» جاء في مرحلة انتقالية يُرسم خلالها مصير سورية ولبنان معاً بأيدي قوى خارجية، تتقدمها إيران وروسيا، ولن يملك إلا أن ينضوي في المسار الذي ستحدده هذه الأيدي، ويذعن لإرادتها، وينفذ الجزء البسيط المتعلق به في عملية إعادة ترتيب الهلال الشرق أوسطي الجارية بالطائرات والمدافع.

فإيران التي تعتبر نفسها الوصي على النظامين السوري واللبناني، وتشعر بأنها تملك حرية تصرف شبه مطلقة في البلدين، ترى تكاملاً بين العلويين والشيعة، يمتد أيضاً إلى العراق، لا يمكن أن تسمح بفك عراه، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سورية. وهي لا تنظر إلى لبنان سوى باعتباره «ضلعاً» في «محور المقاومة» يخدم هدف توسيع نفوذها الإقليمي وتكريسه. ويلعب المسيحيون السوريون واللبنانيون في هذا المحور دوراً «فولكلورياً» على غرار النواب الأرمن واليهود في مجلس الشورى الإيراني. ولا يخرج منصب الرئيس اللبناني المسيحي بالنسبة إليها عن هذا الإطار، بما لا يشكل تهديداً للنسيج العابر للحدود، وهي حدود لم تعد قائمة عملياً سوى في الخرائط الرسمية، بعدما خرقتها دمشق أكثر من مرة في اتجاه، وبادلها «حزب الله» خرقها في الاتجاه الآخر.

ولأن سورية أهم بالنسبة إلى طهران التي تؤكد أن نتائج الحرب فيها قد تحدد مصير النظام الإيراني نفسه، فإن عون لن يكون في أفضل الأحوال أكثر من «نائب» لبشار الأسد، معيّن على «ولاية لبنان» التي يديرها من الخلف وكيل «الولي الفقيه» في الضاحية الجنوبية، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الرئيس الإيراني الذي تخضع صلاحياته وسياساته لرقابة المرشد خامنئي.

ولا بد أن سعد الحريري يدرك هذا الواقع أو بعضه، لكنه على رغم ذلك أقدم على ترشيح عون وقرر دعمه في تحقيق هدفه الدائم بالوصول إلى الرئاسة. وربما هناك من نصحه بالانحناء أمام العاصفة الإيرانية ريثما تخف قوتها وتتغير بعض المعطيات، كي لا يبقى هو ومن يمثل خارج المعادلة الجديدة. أو ربما خشي من أن يكون مصير السنّة في لبنان مماثلاً لمصير نظرائهم في العراق وسورية، حيث القتل والتهجير، واعتقد أنه بتنازله قد يحميهم من اجتياح الحلف غير المقدس القائم بين الخبث الإيراني والبطش الأسدي.

لكن أياً تكن نتائج خطوته «الوقائية»، فإن ما تخطط له إيران أسوأ بكثير مما يظن، ويقوم على استبدال المرجعية العربية في اتفاق الطائف بمرجعيتها هي في «اتفاق» جديد، مكتوب أو غير مكتوب، يطبق تدريجاً ويُحكم قبضتها على لبنان. ولن يكون أمامه بعد اليوم سوى أن يقدم المزيد من التنازلات بعدما مشى الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، وهو ما ستثبته مشاورات تأليف الحكومة العتيدة، سواء كلف تشكيلها هو أو غيره، والتي ستكون وظيفتها في أفضل الأحوال تغطية ما تحيكه طهران، وما «يتفاهم» عليه الثنائي نصرالله وعون في شأن أدوار مكوناته.

وإذا اجتاز الحريري «قطوع» تشكيل الحكومة، فستكون يداه مكبلتين بمطالبات عون باستعادة صلاحيات رئاسية منحها اتفاق الطائف إلى رئيس الوزراء السنّي، فيما الشيعة الذين يملكون القدرة على تعطيل دور كل منهما يتفرجون على الكباش، ويلعبون دور الحكم المقرِر. أما الكلام عن «المشاركة» و «التوافق» و «الميثاقية» فسيصبح مجرد ذكرى من الماضي.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
في حاس .. “ يلي مضيع ابنه وكان بالمدرسة يروح ع الجامع يدور عليه بين الجثث”

تصر “أم محمد” أن الانسان خطّاء حتى لو كان امام المسجد، تركض في شوارع القرية المعدودة ، تطرق الأبواب التي تعرف ساكينها أو تلك الغريبة عنها، سؤال واحد على شفتيها “محمد عندكم ؟؟” ، و المأذنة تواصل التكرار “ يلي مضيع ابنه وكان بالمدرسة يروح ع الجامع، يدور عليه بين الجثث”.

أصابها الكلل ، وقررت كسر “قاعدة الخطّائين” و ذهبت للمشفى تتفحص أكياس الجثامين الغضة، التي لاتزال تنزف ما بقي منها من دم، و نداؤها المتواصل لابن رحمها “محمد” ، ومع صمتها أيقن الجميع أنها اجتمعت مع من تنشد، بقميصه و بنطاله و بقايا جسد مفتت .

ليس ببعيد ، كان الدكتور خالد الضعيف يعيد في كل محاضرة له أو لقاء بتلاميذه ، أن “المرأة عماد المجتمع” ، واعداً بأن يصرف كل ما يملك لتدريس ابنته، ابنته التي وقف بالأمس فوق الكيس الذي جُمعت أشلاؤها فيه، يلقي نظرة قد تكون الأخيرة و لكنها الصورة الدائمة التي ستحفر في روحه.

“هدى” تلك الطفلة التي كانت سعيدة بنهاية يومها الدراسي، و تهم بوداع رفاق المقاعد، تركض مبتعدة عنهم بهلع، همها الأوحد أن يأتي شيء غريب يمسح من ذاكرتها ما رأته، هذا الشيء لا يعبر عنه إلا بكلمة “بدي أمي”.

اليوم بلدة “حاس” الصغيرة مساحة، و البعيدة عن الأذهان أو حواف الذاكرة ، تقف صامتة فلا صوت للحياة فيها ، و صفير للرياح في مكان خاو، بل هي أشبه بمدينة مقفرة روحاً و قائمة جسداً.

في حاس تلك تم توديع ٢٢ طفلاً و ٦ من مدرسيهم ، دفعة واحدة، قيل أنها “الأكثر دموية” تبعاً لمنظمة الطفولة ، أمر “فظيع” بفعل السفاح مرتكب الفعلة، و لكن في نظر الخاسرين هي “نهاية الحياة” و ابادة حرفية لها ، وإن كان هناك ناجين.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
... والحربُ في الموصل تُقرأ بالحربِ في حلب!

إذا أردنا أن نفهم الحرب في الموصل، علينا أن نفهم الحرب في حلب وتلك الحرب في صنعاء. وإذا شئنا الدقّة علينا أن نتجاوز سطح الأحداث وغُبارها إلى ما هو تحت. وهذا مهم في ثقافة مُصابة بالتسطيح وبثنائية الأسود والأبيض و «معي» و «ضدي». فقد رأيت شيوعيين يهتفون لانتصارات الحشد الشعبي في الموصل وحلب. ورأيت قوميين يفعلون الأمر ذاته كأن المعارك معاركهم هم وكأن لا فرق بين شيوعي أو شيعي أو أصولي إلا بالاسم! ورأيت قوماً يُسقطون على هذه وتلك من حروب عقائدهم المندثرة وعُقَدِهم وأمانيهم وإرهاصاتهم وعجزهم. وهو عجز عام تجسّد في هذه الحروب وفي التعاطي معها.

في الموصل - وبحجة وجود «داعش» - وهي حجة - يتمّ إخضاع سُنّة العِراق لشيعته وتصفية نزعة ظاهرة إلى استعادة السنة زمام الأمور على الأقل في جزء من العراق الذي عرفناه. أما الوجود الأميركي أو غيره فهو هناك لالتقاء مصالح مع القوى المسيطرة راهناً في هذا البلد الذي تزيد موارده عن طاقته وعن قُدرته على استثمارها. أما الوجود التركي فهو يعكس، أيضاً، نوعاً آخر من المصالح وفي مقدمها إجهاض مشروع الدولة الكردية المستقلّة أو المستقلّة على نحو ما في شمال العراق تكون متواصلة جغرافياً وبشرياً بالتجمع الكردي في جنوب تركيا وشرقها. وهي تسعى في الوقت ذاته لضمان حصّة في موارد العراق بالضغط العسكري والحضور الفعلي لتعطيل المشاريع الأخرى أو التهديد بنسفها في حال لم تتمّ مراعاة المصالح التُركية. أما إيران - فمهما يكن - ستظلّ صاحبة الحظ المضمون في نسبة عالية للاستفادة من أي تطور ينشأ هناك. ففي كل الأحوال، ستظلّ إيران فاعلة بقوة على أرض العراق وبأدوار متعدّدة في رأسها ضمان حيز جغرافي وسياسي وبشري حليف أو متفاهم يوصلها كدولة ونفوذ وحُلم بأرض سورية ولبنان.

في حلب - يتمّ أمر مشابه مع خصوصيات تتصل بالحالة السورية. هناك، أيضاً، نشهد الجهود الجبارة لقمع ثورة الشعب السوري - وغالبيته سنّية - ضد نظام حكم أقلّوي. وهي ثورة بدأت مدنية سلمية وتحوّلت في مظاهرها وقواها وخطابها، لكنها ظلّت رغم كل شيء تجسّد الرغبة في تبديل نظام أمني قمعي جثم على صدور السوريين والسوريات عقوداً طويلة أطول مما ينبغي. ظلّت تجسّد رغبة في إقامة دولة أكثر عدلاً ومجتمع أكثر مدنيّة ونظام أقلّ شمولية. ولا ضير أن تكون غالبية المنتفضين في 2011 من السنّة. فهذه نتيجة حتمية لعقود من نظام امتيازات الطائفة العلوية وسؤددها. أما حديث العروبة والأمة والبعث فهو غبار قُصد به لسنوات طويلة التستّر على انحياز الدولة لمصالح أقلية - أقليات في فلكها - توجّست من أن تفقد السيطرة. وهنا يحضر «داعش» كفزّاعة وحجّة وأداة.

يتمّ تصوير الفصائل المسلّحة الإسلاموية الخطاب كخطر على العالم بأسره، فنراه يتجنّد بقواه المتنفّذة مع النظام وحلفائه في قصقصة أجنحة المعارضة على فصائلها كافة - السياسية والعسكرية والمدنية والعلمانية والمتدينة. إما بالخذلان أو بالقوة المباشرة أو بحرمانها من منظومات سلاح ودعم عسكري وسواه كان يُمكن أن يحسم الحرب هناك من مدة. وإلا كيف ينتقل النظام من الدفاع إلى الهجوم ومن الانزواء إلى محاصرة الشعب وقواه في أقلّ من سنتين؟ وكيف يكون حرّاً في التجويع والتهجير والتدمير وارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية؟ أما تركيا فتتدخل هنا أيضاً لضمان مصالحها التكتيكية والاستراتيجية - ضد الثورة أو فصائل فيها أو معها وضد الأكراد أو في اتفاق معهم!

أما صنعاء التي انقلب فيها رأس النظام هناك - علي صالح - على الثورة الشعبية التي أطاحت به بالتحالف مع إيران ووكلائها هناك، أعدائه الطيبين الذين استعملهم سنوات طوال في تأخير الثورة وتطوير النظام والمؤسسات وتوزيع الموارد؟ وهو علي صالح - لمن نسي - الذي قاد حرباً ضد اليمن الجنوبي وصفّاه تماماً باسم فرض الوحدة بين اليمنين ابتداء من العام 1994. وهو - لمن نسي - اليمن ذو الحلم الاشتراكي التقدمي! وعبدالله صالح هذا فتح مناطقه لإيران وللحوثيين الذين شكّلوا قوة ضاربة ضد الثورة المدنية التي فازت بتأييد عربي واسع. بل رأتها إيران فرصة لتحقيق مصالح متعددة ومنها إجهاض الإمكانية ليمن أكثر ديموقراطية أو استقراراً، تعزيز قدرات الحلفاء على شاطئ البحر الأحمر ممثلين بحوثيين وصالح نفسه، والأهم - مشاغلة السعودية في حدودها الجنوبية وإقلاق راحتها وهي الداعمة للثورة الشعبية في سورية.

الحروب إذاً حروب مصالح ومشاريع سياسية إقليمية. لكن علينا أن نتبيّن تلك القوى التي تقف ضد ثورات الشعوب في هذه المناطق وتلك التي دعمتها. صحيح أن للدول الداعمة مصالحها في هذه الثورات أو هذه القوى التي خرجت ضد أنظمة ومشاريع تظلمها، لكن للدول الداعمة للأنظمة الدموية وللاستبداد مصالحها. وهي لا تقف ضد المشاريع الأميركية أو الاستعمارية بل مع هذه المشاريع وتلتقي معها. فالنظام في العراق الآن ليس نظاماً صدّامياً ولا هو نظام سنّي أقلويّ بل هو نظام شيعي بامتياز صنعته أميركا وتحميه وتربّيه على أكفّها كزغاليل الحمام. ليس لأنها تحبّ الشيعة أو إيران فجأة، بل لأنها تريد أن تضمن مصالحها بخاصة تلك التي يحددها مجمع الصناعات النفطية الأميركي - الكوني! وهي موجودة في خليج عدن لتضمن مصالحها هي - ولن يهمها كثيراً إذا كانت هذه المصالح ستُضمن من الرئيس هادي منصور أو علي عبدالله! فالمصلحة الكونية - نظام العولمة - تقتضي أن يبقى مدخل البحر الأحمر الجنوبي مفتوحاً لحركة الملاحة العالمية.

وعليه، إذا شئنا أن نقرأ خارطة الحروب فلنقرأها بعيون الشعوب التي أرادت التغيير والديموقراطية والكرامة ودولة المؤسسات لكنها خُذلت كلياً أو جزئياً بأيدي قوى إقليمية وكونية تريد تثبيت مصالحها التكتيكية والاستراتيجية. علينا أن نكون جريئين ونفكّر خارج النسق المعهود لنعطي الشعوب حقوقها ولو في لغتنا وحساباتنا. أما أن نذهب نحن أيضاً في قراءة الشعوب ومصالحها وفقاً لتوازنات القوى وخارطة المصالح المعادية للشعوب، فهذا يعني أننا سنخطئ بالضرورة وسنظلم. ومن أوجه الظلم الآن مثلاً أن ينشر الناشطون في الميديا أخبار الموصل كأنها انتصارات بينما المجازر على أبواب المدينة و «داعش» حجّتها لا الفاعل بدلالة أن 95 في المئة من التقتيل في سورية - مثلاً - حصلت وتحصل بأيدي النظام والطاغية وحلفائه لا بأيدي «داعش». وهكذا في الموصل - إن قوة التدمير التي يمتلكها مهاجمو المدينة تفوق مليون مرة القوة التي يمتلكها المتمترسون داخل المدينة وفي الخلفية مدّ شيعي مسكون بالتاريخ المفخّخ. فإذا كانت هناك من مؤامرات فهي ضد الشعوب والفئات المستضعفة فيها، أما النظام في سورية وعبدالله صالح والحوثيون والعراق في الراهن وفي هذه اللحظات الدموية فهم رأس الحربة في المؤامرة!

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
معركة الباب في نظر تركيا والنظام السوري

تسير التطورات العسكرية في محافظة حلب نحو مزيد من التصعيد ضمن مرحلة يمكن تسميتها بكسر العظم قبيل وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وما يمكن أن يستتبعه ذلك من تغير في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية.

ولذلك يحشد النظام السوري وحلفاؤه قواتهم لاقتحام مناطق سيطرة المعارضة في الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة وفي الأحياء الجنوبية الغربية وامتدادها في الريف الجنوبي الغربي، لا سيما نحو خان طومان ومحيطها.

وتبدو الأيام المقبلة على موعد مع دخول المعارك مرحلة جديدة بعد حصول ثلاثة تطورات:

الأول، فشل اجتماع لوزان، وما يعنيه ذلك من فشل روسي في تحصيل اتفاق أو هدنة تتوافق مع مصالح النظام.

الثاني، نجاح عملية «درع الفرات» في قضم مزيد من الأراضي لمصلحة فصائل «الجيش الحر» ومن ثم اقترابها نحو إطلاق معركة مدينة الباب.

ويبدو أن وصول عملية «درع الفرات» إلى هذه المرحلة قد استفز الأكراد بقدر ما استفز النظام الذي أعلن للمرة الأولى منذ بدء العملية أنه سيتعامل مع القوات التركية كقوات احتلال.

والغريب أن النظام لم يطلق مثل هذا التصريح منذ بدء عملية «درع الفرات» قبل نحو شهرين، لكن سيطرة فصائل «الجيش الحر» على دابق ثم التوجه غرباً نحو تل رفعت على غير ما هو متوقع، ثم إعلان الرئيس التركي أن بلاده مصرة على التوجه نحو الباب، تدل على أن النظام بدأ يشعر بتهديد حقيقي من العملية التركية التي إذا وصلت إلى الباب فإنها ستكون على تماس مباشر معه.

الثالث، معركة الموصل وتصريحات وزير الدفاع الأميركي عن ضرورة عزل تنظيم «داعش» في مدينة الرقة.

ولا تفضل روسيا والنظام وإيران انطلاق معركة الرقة من جانب حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً الأتراك و «الجيش الحر» وبعض القوى العربية داخل محافظة الرقة، لأن من شأن ذلك أن يمنح الأتراك سيطرة تامة على ضفتي الفرات، أي على شريط حدودي يمتد من أعزاز غرباً إلى تل أبيض شرقاً، وهي مسافة كبيرة جداً.

وفقاً لذلك، تتسارع خطوات الأطراف المتقاتلة، فبالنسبة إلى تركيا، الأولوية الآن هي لإكمال السيطرة على مدينة الباب، أو على الأقل السيطرة على محيطها الشمالي، قبل الضغط على منبج لدفع الأكراد إلى مغادرتها، وبالتالي إنهاء الترابط الجغرافي الكردي ليس فقط بين شرق الفرات وغربه، وإنما أيضاً تقطيع التواصل الجغرافي للأكراد في غرب الفرات وحصرهم في أقصى الغرب نحو عفرين وأجزاء من مدينة حلب.

أما بالنسبة إلى النظام وإيران وروسيا، فالأولوية الآن لمدينة حلب عبر خطين، الأول السيطرة على الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة، والثاني قطع أي تواصل بين مدخل المدينة من الناحية الجنوبية الغربية والريف الجنوبي الغربي، أي منع أي تواصل للمعارضة في هذا الريف مع المدينة.

ولذلك شن النظام هجوماً على كتيبة الدفاع الجوي في ريف المدينة الجنوبي لخلق أسفين جغرافي بين المدينة والريف مع التحضيرات التي تجريها «جبهة فتح الشام» والفصائل الأخرى لشن هجوم على المدينة من الريف الجنوبي الغربي.

ولن تكون بلدة خان طومان بعيدة عن سيناريو المعارك بين الطرفين لما تشكله من أهمية كبيرة في معادلة الصراع في هذه المنطقة، فالبلدة تتمتع بموقع جغرافي هام كونها البوابة الجنوبية لمدينة حلب، وقربها من الأوتوستراد الدولي بين دمشق وحلب، فضلاً عن طبيعتها الجبلية.

أما الأولوية الثانية للنظام، فهي الحيلولة دون سيطرة فصائل «الجيش الحر» المدعومة من تركيا على مدينة الباب، ذلك أن السيطرة على الباب تعني وفق القاموس العسكري للنظام أن أنقرة ستكون مهيمنة على كامل الريف الشمالي والشمالي الشرقي لحلب.

وليس مفاجئاً أن التعزيزات العسكرية للنظام المرسلة إلى حلب كبيرة جداً، وبعضها جاء من مناطق بعيدة، مثل القلمون وحمص، وهي تتجه نحو موضعين هما الراموسة جنوب مدينة حلب، ومطار كويرس في الريف الشرقي لحلب.

المنطقة الأولى من أجل إحكام السيطرة على المنفذ الجنوبي لمدينة حلب قبيل الانتقال إلى مرحلة توسيع النطاق الجغرافي لقوات النظام في الريف، والمنطقة الثانية من أجل إطلاق معركة الباب قبل الأتراك.

لكن المشكلة التي يواجهها النظام في مدينة الباب هي ذاتها التي يواجهها الأتراك وفصائل «الجيش الحر»، وهي أن كلا الطرفين لا يملك القوة العسكرية الكافية للسيطرة عليها، فالمدينة تشكل الرقم الأصعب للتنظيم في عموم المحافظة، فهي عبارة عن قلعة متينة بسبب مساحتها ووزنها الديمغرافي، وبسبب الترتيبات الدفاعية التي جهزها التنظيم في المدينة منذ نحو عامين.

النظام ليس لديه هو وحلفاؤه العديد البشري والعسكري الكافي لإطلاق معركتين كبيرتين ومتزامنتين في حلب والباب، والأتراك لن يكون في مقدورهم تأمين الغطاء المدفعي للفصائل أثناء معركة الباب بسبب بعدها الجغرافي، في حين لا يمتلك «الجيش الحر» القوة البشرية والعسكرية وحده لدخول مثل هذه المعركة.

أما «قوات سورية الديموقراطية»، فقد أصبحت خارج معادلة معركة الباب بعد توسيع «درع الفرات» لمساحة سيطرتها الجغرافية في الريف الشمالي، بالتالي لم يعد للأكراد أي منفذ نحو الباب.

وعليه يمكن القول إن المشهد العسكري المقبل سواء في مدينة حلب أو في مدينة الباب لا يزال غير واضح بسبب تعقيدات التداخلات الإقليمية الدولية الحادة وتعقيدات موازين القوى المحلية وتداخلاتها.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
نحن الأرقام... من حلب إلى الموصل

نكتة سوداء أن يتقاسم وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والإيراني محمد جواد ظريف جائزة «تشاتام هاوس» الديبلوماسية، عن دوريهما في إبرام الاتفاق النووي الإيراني، فيما الأميركي يكتفي بدموع باردة يذرفها على السوريين ضحايا الجحيم الروسي- الإيراني.

نكتة مبتذلة أن تعرض طهران التوسُّط بين بغداد التي تقاتل «داعش» في معركة الموصل، وأنقرة التي تصرّ على دور في محاربة التنظيم في شمال العراق، ومطاردة «إرهابيي» حزب العمال الكردستاني. فالأتراك يدركون أن إيران هي الحاكم الفعلي للعراق، بغطاء أميركي، وإصرار حكومة حيدر العبادي على استبعاد أي دور لأنقرة في معركة تحرير الموصل، يعكس رغبة إيرانية في التصدّي لسعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تكريس نفوذ إقليمي لبلاده، في انتظار مرحلة التسويات الكبرى لملفّي العراق وسورية... وربما تغيير الخرائط.

وإذا كان التراشق العراقي- التركي بالاتهامات ولغة «الاستفزاز»، مرشّحاً لفصل آخر من التصعيد، نتيجة إصرار أنقرة على ما تراه «حقاً مشروعاً» في الدفاع عن النفس وراء الحدود، فاللافت هو توسيع حملة إعلامية تركّز على «الحقوق التاريخية» لتركيا في أراضٍ في الإقليم، ووثائق تتناول خطاً من حلب إلى كركوك فالموصل.

لم يرَ أردوغان ما يحول دون تبديل عقيدة الأمن القومي لتركيا، مثلما بدّل قيصر روسيا فلاديمير بوتين عقيدة الجيش الروسي الذي بات يعتبر سورية والسوريين حقل تجارب، لاختبار أسلحته الجديدة. وَضَعَ الرئيس التركي خطّين للأمن القومي خارج الحدود، أحدهما من حلب إلى الموصل وكابول، والثاني ينتهي في الصومال... أصرّ على «منطقة آمنة» في سورية، ويصرّ على منطقة «عازلة» في شمال العراق.

وبعيداً من جبهتي الحرب في سورية وفي العراق، وبعيداً من الفظائع التي يرتكبها «داعش»، قد يبدو «المشروع» أو الحلم التركي محاولة استباقية قبل أن تستقر الهيمنة الإيرانية ضمن خطوط جغرافيا توسُّع «الهلال الشيعي» وتشرّعه، وهذه المرة برضا روسي وتغاضٍ من الغرب الذي لا يريد أن يدفع ثمن العجز الأميركي عن لجم شهية روسيا وإيران.

لا يضير واشنطن في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، أن يتفاقم صراع النفوذ التركي- الإيراني، ولا أزمة الثقة مع أردوغان، ولا تمديد دور المتفرّج على «استنزاف» الروس في الحرب السورية. فبين بوتين وتحقيق «الانتصار» هناك بدءاً من حلب، فصول من الدماء والدمار، فيما الخمول الأميركي يشجع القيصر على التمسُّك برهانه على الحل العسكري مع كل المعارضين للنظام في دمشق.

آخر مشاهد فضيحة الدعم الأميركي للمعارضة السورية «المعتدلة»، ما سرّبته صحيفة «واشنطن بوست» من توضيحات للنهج الحالي للإدارة، الذي يركّز على إحالة ملف تسليح تلك المعارضة على خَلَف الرئيس باراك أوباما. وتلك نكتة، لأن الرئيس المتردّد المتلعثم بأهدافه «الإنسانية» الكبرى، لن يُقدِم في أيامه الأخيرة على «مغامرة» وقف المجزرة، بعدما تفرّج عليها طويلاً. وأما الفضيحة الجديدة فهي تشديد مسؤولين أميركيين على أهمية فحصٍ جديد للنيات، يخضع له مقاتلو المعارضة «المعتدلة»، للتحقُّق مما إذا كانوا لا يزالون معتدلين!

وللمرة المئة، يتبيّن التطابق الروسي- الأميركي أو توافق المصالح على تدمير تلك المعارضة، فلا يبقى سوى إمعان واشنطن في التفرُّج على «جرائم حرب» اتّهمت الروس بها... فردّوا بالتهمة ذاتها لقصف التحالف الدولي مواقع في الموصل.

وإذ يبدو ما يرتكبه الروس في حلب إبادة، بذريعة استئصال «الإرهابيين»، لا يبقى بينها وبين إبادة «الدواعش» مدنيين في سورية والعراق، أي خيط رفيع.

بين مدن القتل وبلدات المشرّدين والنازحين ونعوش الأطفال التي لا تصفع وجداناً لدى الأميركيين والروس، الكل مُدان بالجريمة الكبرى، مُدان بتفريخ «داعش»، بعد سنوات طويلة من استخدام الإرهاب سلاحاً «سرّياً» في الصراعات الإقليمية والدولية، ومُدان بتدمير قدرات العرب.

وحدة العراق وسورية تحقّقت، بنكبات الإرهاب بعد الاستبداد، وأما العرب فليسوا لدى الأميركيين والروس سوى أرقام في المذبحة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)