تسير التطورات العسكرية في محافظة حلب نحو مزيد من التصعيد ضمن مرحلة يمكن تسميتها بكسر العظم قبيل وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وما يمكن أن يستتبعه ذلك من تغير في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية.
ولذلك يحشد النظام السوري وحلفاؤه قواتهم لاقتحام مناطق سيطرة المعارضة في الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة وفي الأحياء الجنوبية الغربية وامتدادها في الريف الجنوبي الغربي، لا سيما نحو خان طومان ومحيطها.
وتبدو الأيام المقبلة على موعد مع دخول المعارك مرحلة جديدة بعد حصول ثلاثة تطورات:
الأول، فشل اجتماع لوزان، وما يعنيه ذلك من فشل روسي في تحصيل اتفاق أو هدنة تتوافق مع مصالح النظام.
الثاني، نجاح عملية «درع الفرات» في قضم مزيد من الأراضي لمصلحة فصائل «الجيش الحر» ومن ثم اقترابها نحو إطلاق معركة مدينة الباب.
ويبدو أن وصول عملية «درع الفرات» إلى هذه المرحلة قد استفز الأكراد بقدر ما استفز النظام الذي أعلن للمرة الأولى منذ بدء العملية أنه سيتعامل مع القوات التركية كقوات احتلال.
والغريب أن النظام لم يطلق مثل هذا التصريح منذ بدء عملية «درع الفرات» قبل نحو شهرين، لكن سيطرة فصائل «الجيش الحر» على دابق ثم التوجه غرباً نحو تل رفعت على غير ما هو متوقع، ثم إعلان الرئيس التركي أن بلاده مصرة على التوجه نحو الباب، تدل على أن النظام بدأ يشعر بتهديد حقيقي من العملية التركية التي إذا وصلت إلى الباب فإنها ستكون على تماس مباشر معه.
الثالث، معركة الموصل وتصريحات وزير الدفاع الأميركي عن ضرورة عزل تنظيم «داعش» في مدينة الرقة.
ولا تفضل روسيا والنظام وإيران انطلاق معركة الرقة من جانب حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً الأتراك و «الجيش الحر» وبعض القوى العربية داخل محافظة الرقة، لأن من شأن ذلك أن يمنح الأتراك سيطرة تامة على ضفتي الفرات، أي على شريط حدودي يمتد من أعزاز غرباً إلى تل أبيض شرقاً، وهي مسافة كبيرة جداً.
وفقاً لذلك، تتسارع خطوات الأطراف المتقاتلة، فبالنسبة إلى تركيا، الأولوية الآن هي لإكمال السيطرة على مدينة الباب، أو على الأقل السيطرة على محيطها الشمالي، قبل الضغط على منبج لدفع الأكراد إلى مغادرتها، وبالتالي إنهاء الترابط الجغرافي الكردي ليس فقط بين شرق الفرات وغربه، وإنما أيضاً تقطيع التواصل الجغرافي للأكراد في غرب الفرات وحصرهم في أقصى الغرب نحو عفرين وأجزاء من مدينة حلب.
أما بالنسبة إلى النظام وإيران وروسيا، فالأولوية الآن لمدينة حلب عبر خطين، الأول السيطرة على الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة، والثاني قطع أي تواصل بين مدخل المدينة من الناحية الجنوبية الغربية والريف الجنوبي الغربي، أي منع أي تواصل للمعارضة في هذا الريف مع المدينة.
ولذلك شن النظام هجوماً على كتيبة الدفاع الجوي في ريف المدينة الجنوبي لخلق أسفين جغرافي بين المدينة والريف مع التحضيرات التي تجريها «جبهة فتح الشام» والفصائل الأخرى لشن هجوم على المدينة من الريف الجنوبي الغربي.
ولن تكون بلدة خان طومان بعيدة عن سيناريو المعارك بين الطرفين لما تشكله من أهمية كبيرة في معادلة الصراع في هذه المنطقة، فالبلدة تتمتع بموقع جغرافي هام كونها البوابة الجنوبية لمدينة حلب، وقربها من الأوتوستراد الدولي بين دمشق وحلب، فضلاً عن طبيعتها الجبلية.
أما الأولوية الثانية للنظام، فهي الحيلولة دون سيطرة فصائل «الجيش الحر» المدعومة من تركيا على مدينة الباب، ذلك أن السيطرة على الباب تعني وفق القاموس العسكري للنظام أن أنقرة ستكون مهيمنة على كامل الريف الشمالي والشمالي الشرقي لحلب.
وليس مفاجئاً أن التعزيزات العسكرية للنظام المرسلة إلى حلب كبيرة جداً، وبعضها جاء من مناطق بعيدة، مثل القلمون وحمص، وهي تتجه نحو موضعين هما الراموسة جنوب مدينة حلب، ومطار كويرس في الريف الشرقي لحلب.
المنطقة الأولى من أجل إحكام السيطرة على المنفذ الجنوبي لمدينة حلب قبيل الانتقال إلى مرحلة توسيع النطاق الجغرافي لقوات النظام في الريف، والمنطقة الثانية من أجل إطلاق معركة الباب قبل الأتراك.
لكن المشكلة التي يواجهها النظام في مدينة الباب هي ذاتها التي يواجهها الأتراك وفصائل «الجيش الحر»، وهي أن كلا الطرفين لا يملك القوة العسكرية الكافية للسيطرة عليها، فالمدينة تشكل الرقم الأصعب للتنظيم في عموم المحافظة، فهي عبارة عن قلعة متينة بسبب مساحتها ووزنها الديمغرافي، وبسبب الترتيبات الدفاعية التي جهزها التنظيم في المدينة منذ نحو عامين.
النظام ليس لديه هو وحلفاؤه العديد البشري والعسكري الكافي لإطلاق معركتين كبيرتين ومتزامنتين في حلب والباب، والأتراك لن يكون في مقدورهم تأمين الغطاء المدفعي للفصائل أثناء معركة الباب بسبب بعدها الجغرافي، في حين لا يمتلك «الجيش الحر» القوة البشرية والعسكرية وحده لدخول مثل هذه المعركة.
أما «قوات سورية الديموقراطية»، فقد أصبحت خارج معادلة معركة الباب بعد توسيع «درع الفرات» لمساحة سيطرتها الجغرافية في الريف الشمالي، بالتالي لم يعد للأكراد أي منفذ نحو الباب.
وعليه يمكن القول إن المشهد العسكري المقبل سواء في مدينة حلب أو في مدينة الباب لا يزال غير واضح بسبب تعقيدات التداخلات الإقليمية الدولية الحادة وتعقيدات موازين القوى المحلية وتداخلاتها.
نكتة سوداء أن يتقاسم وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والإيراني محمد جواد ظريف جائزة «تشاتام هاوس» الديبلوماسية، عن دوريهما في إبرام الاتفاق النووي الإيراني، فيما الأميركي يكتفي بدموع باردة يذرفها على السوريين ضحايا الجحيم الروسي- الإيراني.
نكتة مبتذلة أن تعرض طهران التوسُّط بين بغداد التي تقاتل «داعش» في معركة الموصل، وأنقرة التي تصرّ على دور في محاربة التنظيم في شمال العراق، ومطاردة «إرهابيي» حزب العمال الكردستاني. فالأتراك يدركون أن إيران هي الحاكم الفعلي للعراق، بغطاء أميركي، وإصرار حكومة حيدر العبادي على استبعاد أي دور لأنقرة في معركة تحرير الموصل، يعكس رغبة إيرانية في التصدّي لسعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تكريس نفوذ إقليمي لبلاده، في انتظار مرحلة التسويات الكبرى لملفّي العراق وسورية... وربما تغيير الخرائط.
وإذا كان التراشق العراقي- التركي بالاتهامات ولغة «الاستفزاز»، مرشّحاً لفصل آخر من التصعيد، نتيجة إصرار أنقرة على ما تراه «حقاً مشروعاً» في الدفاع عن النفس وراء الحدود، فاللافت هو توسيع حملة إعلامية تركّز على «الحقوق التاريخية» لتركيا في أراضٍ في الإقليم، ووثائق تتناول خطاً من حلب إلى كركوك فالموصل.
لم يرَ أردوغان ما يحول دون تبديل عقيدة الأمن القومي لتركيا، مثلما بدّل قيصر روسيا فلاديمير بوتين عقيدة الجيش الروسي الذي بات يعتبر سورية والسوريين حقل تجارب، لاختبار أسلحته الجديدة. وَضَعَ الرئيس التركي خطّين للأمن القومي خارج الحدود، أحدهما من حلب إلى الموصل وكابول، والثاني ينتهي في الصومال... أصرّ على «منطقة آمنة» في سورية، ويصرّ على منطقة «عازلة» في شمال العراق.
وبعيداً من جبهتي الحرب في سورية وفي العراق، وبعيداً من الفظائع التي يرتكبها «داعش»، قد يبدو «المشروع» أو الحلم التركي محاولة استباقية قبل أن تستقر الهيمنة الإيرانية ضمن خطوط جغرافيا توسُّع «الهلال الشيعي» وتشرّعه، وهذه المرة برضا روسي وتغاضٍ من الغرب الذي لا يريد أن يدفع ثمن العجز الأميركي عن لجم شهية روسيا وإيران.
لا يضير واشنطن في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، أن يتفاقم صراع النفوذ التركي- الإيراني، ولا أزمة الثقة مع أردوغان، ولا تمديد دور المتفرّج على «استنزاف» الروس في الحرب السورية. فبين بوتين وتحقيق «الانتصار» هناك بدءاً من حلب، فصول من الدماء والدمار، فيما الخمول الأميركي يشجع القيصر على التمسُّك برهانه على الحل العسكري مع كل المعارضين للنظام في دمشق.
آخر مشاهد فضيحة الدعم الأميركي للمعارضة السورية «المعتدلة»، ما سرّبته صحيفة «واشنطن بوست» من توضيحات للنهج الحالي للإدارة، الذي يركّز على إحالة ملف تسليح تلك المعارضة على خَلَف الرئيس باراك أوباما. وتلك نكتة، لأن الرئيس المتردّد المتلعثم بأهدافه «الإنسانية» الكبرى، لن يُقدِم في أيامه الأخيرة على «مغامرة» وقف المجزرة، بعدما تفرّج عليها طويلاً. وأما الفضيحة الجديدة فهي تشديد مسؤولين أميركيين على أهمية فحصٍ جديد للنيات، يخضع له مقاتلو المعارضة «المعتدلة»، للتحقُّق مما إذا كانوا لا يزالون معتدلين!
وللمرة المئة، يتبيّن التطابق الروسي- الأميركي أو توافق المصالح على تدمير تلك المعارضة، فلا يبقى سوى إمعان واشنطن في التفرُّج على «جرائم حرب» اتّهمت الروس بها... فردّوا بالتهمة ذاتها لقصف التحالف الدولي مواقع في الموصل.
وإذ يبدو ما يرتكبه الروس في حلب إبادة، بذريعة استئصال «الإرهابيين»، لا يبقى بينها وبين إبادة «الدواعش» مدنيين في سورية والعراق، أي خيط رفيع.
بين مدن القتل وبلدات المشرّدين والنازحين ونعوش الأطفال التي لا تصفع وجداناً لدى الأميركيين والروس، الكل مُدان بالجريمة الكبرى، مُدان بتفريخ «داعش»، بعد سنوات طويلة من استخدام الإرهاب سلاحاً «سرّياً» في الصراعات الإقليمية والدولية، ومُدان بتدمير قدرات العرب.
وحدة العراق وسورية تحقّقت، بنكبات الإرهاب بعد الاستبداد، وأما العرب فليسوا لدى الأميركيين والروس سوى أرقام في المذبحة.
هل تزيح توافقات لقاء لوزان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري مقرّرات بيان جنيف، بحيث تصبح بمثابة المرجعية الجديدة لحل الصراع السوري؟ الفارق بين هذه وتلك، أنه في جنيف كان الطرفان المتصارعان، أي النظام والمعارضة، يتفاوضان وجهاً لوجه، بغضّ النظر عن جدّية هذه العملية أو رأينا فيها، أما في لوزان، فقد أضحينا أمام مشهدٍ مختلف تماماً، إذ اختفى، أو أزيح، الطرفان المعنيّان، وأصبحت الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، والموجودة على الأرض، تتفاوض مع بعضها مباشرة، بدلاً من أدواتها، لأول مرة منذ بداية الصراع السوري، وهذا ما توفّر بجلوس كل من وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، مع وزراء خارجية إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر والأردن والعراق، وفي غياب الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا).
هذه نقلة كبيرة في مسار الصراع السوري، على الرغم من معرفتنا أن القضية السورية خرجت من أيدي السوريين، نظاما ومعارضة، منذ زمن، إذ أضحى الأمر، هذه المرة، بيد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتوابعهما، من الناحية العملية وعلى المكشوف، كأن أصحاب القضية باتوا مجرد أدواتٍ تنفيذية لهم، وذلك نتيجة هيمنة القوى الخارجية على الطرفين المتصارعين، لتغدو هذه القوى كأنها العامل الداخلي، نتيجة ارتهان النظام لحليفيه الإيراني ثم الروسي، ونتيجة اعتمادية فصائل المعارضة على القوى الخارجية.
على ذلك، هل تحلّ توافقات لوزان محل مقرّرات جنيف، أو مفاوضات لوزان غير المعلنة محل مفاوضات جنيف العلنية؟ في الإجابة على تساؤلٍ كهذا، ربما يمكن القول بإمكان حصول ذلك، بحسب ما تفيد مجمل التسريبات والوقائع، إذ هذه المرة ثمّة توافقاتٌ يجري ترجمتها من الناحية الفعلية على الأرض، وعلى جبهات القتال، وفي الفصل بين المتحاربين، وفرض خطوط تماس، إضافة إلى حديثٍ عن العودة إلى مسار تفاوضي، لكن على أساس الاتفاق الأميركي الروسي الذي جرى في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، وثمة خبراء روس وأميركيون يجتمعون بشكل منتظم في جنيف، في ما يشبه ورشة عمل جماعية، مع خرائط وتفصيلات، بل ومع توجيهات وأوامر للنظام والمعارضة.
ما كان يمكن الوصول إلى هذا الوضع، لولا إخفاق المجتمع الدولي، ممثلاً بمجلس الأمن الدولي، في فرض صيغةٍ لاتفاق ما يضمن وقف إطلاق النار، ووقف القصف الجوي وتأمين المساعدات الإغاثية للمناطق المحاصرة، واستئناف عملية جنيف؛ هذا أولاً. ثانياً، يبدو أن إطلاق عملية لوزان تم برغبة روسيا، لتأمين ما يشبه سلّماً للنزول لها، بعد أن شعرت موسكو بعزلتها في مجلس الأمن الدولي، وبعد أن تبيّن أن لعبها بالورقة السورية لن يجدي نفعاً في دفع الغرب إلى تقديم تنازلات لها في الملفات الأخرى (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، رفع أسعار النفط، رفع الحظر التكنولوجي). ثالثا، تحاول روسيا، ومعها الولايات المتحدة، فتح مسارٍ يجمعها وروسيا بالدول الأخرى التي تعتبر منخرطةً بالصراع السوري، ولا سيما إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن، مع استبعاد الدول الأوروبية التي بات موقفها ينحو نحو التشدّد وفرض مزيد من العقوبات على روسيا بدلاً من رفعها؛ وهذا ما تمخضت عنه قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي فرانسوا هولاند ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل في برلين أخيراً.
بالنسبة للمعارضة السورية، من الواضح أنها تفتقد للخيارات المناسبة، السياسية أو العسكرية، لمواجهة الحل المطروح، بمعنى أنها غير مخيّرة، وليس لها إلا القبول، بحكم اعتماديتها على الدعم الخارجي، وأيضاً بسبب تشتّت قدراتها وفصائليتها وتعدّد مرجعياتها، وضعف إمكاناتها، وأخيراً بسبب الكارثة المحدقة بالسوريين، في ظل واقع اللجوء والحصار والتشرد.
يستنتج من ذلك أنه لا يوجد لدينا في الساحة الآن سوى الاتفاق الأميركي ـ الروسي، وعملية لوزان، بغض النظر عن رأينا في هذا وذاك، ولا يوجد لدينا، ولو مضطرين، إلا الوصفة الأميركية للحل السياسي القائمة على الحفاظ على رسم خطوط فصل بين الأطراف المتحاربة في سورية، وإنهاء القصف الجوي (من روسيا والنظام) وإغاثة المناطق المحاصرة، والتوجه نحو محاربة الإرهاب (داعش وجبهة النصرة)، ثم الانتقال إلى عمليةٍ سياسيةٍ لا تتطرّق إلى مصير الأسد، أو لا تشترط رحيله، في المرحلة الانتقالية، مع إقامة حكومة انتقالية بالتفويض بصلاحيات غير واضحة حتى الآن، بالشراكة بين النظام والمعارضة.
هذه هي الوصفة الأميركية للحل، ولا يبدو أن ثمة قدرة لأحد على مقاومتها، لا من النظام ولا من المعارضة، بل إن جلب الأطراف المعنية (تركيا وإيران وقطر والسعودية) إلى لوزان كان بهدف وضع هذه الدول أمام مسؤولياتها (إلى جانب روسيا)، كي تأتي الخطوة التالية، وهي جلب الفصائل السورية المقاتلة، لتضع توقيعاتها على هذه الوصفة، وإلا اعتبرت ضمن الجماعات الإرهابية، وجرت مقاتلتها.
عموماً، تم التمهيد لذلك، بإعلان تركيا والمملكة العربية السعودية باعتبار جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) تنظيماً إرهابياً حسب السعودية، ويجب أن تخرج من حلب حسب تركيا، ودعوة الفصائل العسكرية إلى فصل مواقعها عن تلك الجبهة، والتحريض على التبرؤ منها، وإخراجها إلى إدلب، وتبدو قطر ملتزمة بهذا التوجه بحضورها اجتماع لوزان.
لعل هذا كله يؤكد أننا إزاء مسارٍ جديد في مسيرة الصراع السوري على مختلف الأصعدة، أي على صعيد مواقف الدول الكبرى، الولايات المتحدة وروسيا، ومواقف الدول الإقليمية المشاركة في الصراع (إيران وتركيا والسعودية وقطر)، كما على صعيد الموقف من جبهة النصرة، ولا سيما أن هذه لا تعتبر نفسها محسوبةً على الثورة السورية، بل إنها تناهض أهدافها، وحتى إنها لعبت دوراً رئيساً في إزاحة الجيش الحر من المشهد، بل وسهّلت استعداءها برفضها التخلي عن منهجها المرتبط بالقاعدة.
قد يشمل التغير الحاصل في مشهد الصراع السوري أيضاً تجميد قواعد الاشتباك السائدة، والدخول في عمليةٍ سياسية، وما يرجح ذلك تصاعد التبرم الأوروبي من روسيا، والتغير الآتي في الإدارة الأميركية، ووصول الأطراف المتصارعة في سورية إلى مرحلةٍ كبيرةٍ من الإنهاك والاستنزاف.
في كل الأحوال، نحن أمام واقعٍ يلغي تماماً النظام كرأي مستقل، ويضيق خيارات المعارضة، حتى لتغدو صفراً، إذ لا خيارات بديلة، أو أنها غير قادرة على اجتراح خياراتٍ بديلةٍ، في حال بقيت تدور في واقعها الحالي، بعيداً عن متابعة خطواتها الإصلاحية التي أعلنت عنها، بدءاً من إنهاء حالة الفصلنة العسكرية، مرورا بتوسيع دائرة التمثيل والمشاركة بصناعة القرار السياسي.
كرّر كتاب صحافيون عرب قريبون من إيران خلال الشهرين الماضيين مقولة إن سقوط الموصل على يد ميليشيات «الحشد الشعبي» المدعومة بالقوّة الجوّية الأمريكية (تحت إطار «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية») وسقوط حلب على يد جيش النظام السوري والميليشيات اللبنانية والعراقية الموالية له مدعوما بالقوة الجوّية والصاروخية الروسية سيصبّان في صالح إيران.
تجد هذه المقولة مصداقيّة لها في السيطرة الإيرانية الهائلة على مقدّرات الوضع العراقي، وتشي التحرّكات الأخيرة التي تجريها طهران، من خلال رعايتها مصالحات بين أطراف القوى الشيعيّة، بدءاً من لقاء بين مقتدى الصدر، الزعيم ذي الشعبية الكبيرة، مع قادة ميليشيات «الحشد الشعبي»، وما تبعه من تمهيد للقاء آخر بين الصدر وخصمه اللدود نوري المالكي، صاحب الألقاب العديدة: نائب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء السابق، ورئيس «ائتلاف دولة القانون»، وصاحب النفوذ المستمر في «حزب الدعوة» (الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي) والذي جمع خلال رئاسته للوزراء نفوذاً كبيراً في السلطات التنفيذية والقضائية وكذلك ضمن «الحشد الشعبي» نفسه. بل إن المالكي قام الأحد الماضي (في مؤتمر «إسلاميّ» برعاية إيران في بغداد، بالربط المذكور بين معركتي الموصل وحلب (وأضاف إليهما الحرب في اليمن)، فيما سارع قائد «فيلق بدر» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني بالحضور إلى جبهة عمليات الموصل (وقبلها كان موجوداً في حلب).
تحضر إيران في عناصر المشهد السوري من خلال «حزب الله» اللبناني، وميليشيات «النجباء» و»عصائب الحق» ولواء أبو الفضل العباس» العراقية، وكذلك لواء «فاطميون» الأفغاني وغيرها الكثير، ولكن هذه التنظيمات جميعها، ورغم تبعيتها المباشرة لإيران، وتحوّلها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الدولة من خلال امتلاكها شبكة ماليّة وعسكرية (وحتى سجوناً خاصة بها)، فإنها لا تملك وضعيّة سياسية (أحزاب سياسية وبرلمان) تتطابق مع نفوذها العسكري، كما هو الحال في العراق، واذا كانت السيطرة على شرق حلب – لو تمّت – ستصبّ في خانة محور النظام السوري ـ إيران ـ روسيا، لكنّ حسابات الغنائم السياسية والعسكرية لن تكون بالتأكيد ربحاً خالصاً لإيران، كما يفترض محازبوها وأنصارها.
تتجاوز مقولة «انتصارات إيران» في العراق وسوريا (واليمن ولبنان) فوارق وازنة ليس بين الوضعين العراقي والسوري فحسب بل ضمن الساحتين نفسيهما، وهي فوارق إشكاليّة فالسيطرة الجوّية في العراق هي لأمريكا، وعلى الأرض توجد قوّات إقليم كردستان «البيشمركه»، كما تحضر القاعدة التركيّة في بعشيقة والمسلحين العراقيين الذين دربتهم، بالمقابل، فالسيطرة الجوية في سوريا هي لروسيا، فيما تتواجد أيضاً قوات كرديّة تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (لا تنفكّ تتراجع أمام التدخّل العسكري التركيّ الكبير).
يضاف إلى هذه الفوارق أن ما يجمع القوى المحلّية والإقليمية والعالمية المتنازعة في الموصل هو العداء لتنظيم «الدولة الإسلامية» أما في شرق حلب فلا وجود لهذا التنظيم وهو ما تم تعويضه بحجة الوجود (الضئيل أصلاً) لـ»جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» التي غيّرت اسمها وأعلنت انفكاكها عن «القاعدة»)، وهي حجّة لا يمكن أن تبرّر استخدام منهجية تدمير روسيا لمدينة غروزني الشيشانية في حلب.
تفضح معادلة الموصل – حلب لدى نوري المالكي و»حزب الله» ومحازبي إيران العرب انتهازية فظيعة في تهافتها وجمعها للأضداد، فإذا كانت الموصل مثل حلب، و»داعش» مثل الفصائل المعارضة للنظام السوري، وروسيا مثل أمريكا، وكل الحجج والوسائل الطائفية والوحشيّة عسكرياً تبرّر تسييد إيران على المنطقة فما معنى استخدام سرديّات المقاومة والممانعة ومحاربة الإرهاب والتكفيريين إذا كان كل ذلك يتمّ بالتعاون (وأحيانا بالعمالة) لروسيا وأمريكا؟
شكل تركيز نظام الأسد الدموي على حلب، كما هو الحال في اليمن في استهداف المخلوع ومن ورائه الحوثيين مدينة تعز، لغزًا في تحول بعض المدن في الدول إلى نقطة فاصلة في انهيار الدولة وأفولها، حيث يسقط النظامان البعثي والحزبي في سوريا واليمن ليس بتحرير صنعاء أو دمشق بل بسقوط حلب وتعز لأسباب تتصل بالتاريخ والجغرافيا وطبيعة الكتل الثقافية والسياسية، إضافة إلى التركيبة السكانية، وهي عوامل تلغي محددات الأقلية والأكثرية التي باتت موضة الغرب في قراءة ملفات المنطقة السياسية.
وإذا كان الغرب بدا مضطربًا في فهم تاريخ المنطقة الحديث وتشكلات القوى الفاعلة فيه، فإنه أكثر ارتباكًا في فهم جغرافيا المنطقة ومناطق ثقلها السياسي باعتبار وجود مدن مفارقة لجغرافيتها، لأنها تختزل قوة الأنظمة القمعية بسبب تراكم العمل الحزبي من جهة كما في تعز، أو بسبب تضخم كتلة المعارضة والممانعة لانفراد النظام بالسلطة المطلقة كما في حلب.
حين نجح حلفاء الأسد في دفعه لقطع الطريق على حلب، تحول مسار الأزمة السورية بالكامل في وقت كان الجميع يعتقد جازمًا أن أيام النظام باتت معدودة قبل أن تدخل روسيا على الخط لتعزز قراءة الأنظمة الشمولية لمناطقها بعيدًا عن التعميمات والترسيمات الغربية الفضفاضة، فأصبح سقوط حلب بوابة لقطع الطريق على طول الحدود التركية السورية، وهو ما يعني قطع شريان الإمداد وتراجع قوة المعارضة السورية في المدينة ودفع كل المناطق الأخرى للتحالف مع
نظام الأسد على طريقة فرض الأمر الواقع، وهو ما دفع قوات النظام محمولة بمقاتلي الميليشيات الشيعية إلى ملاحقة المقاومة السورية في مناطق الريف وإهمال وجود تنظيم «داعش» على الشريط الحدودي الضيق بين تركيا وحلب «أعزاز»، وكانت العلامة الفارقة في الحضور السوري هي تجاهل الأكراد أيضًا في هدفهم لإيجاد صيغة استقلال ولو جزئية، لأن النظام يدرك أن حملاً كهذا يمكن أن تنوء به تركيا إردوغان، وهو ما يفسر خروج تركيا من المشهد السوري بطريقة مثيرة للتساؤل ودخولها في معركة الموصل بشكل فعّال وقوي بل وباشتراطات تصل إلى حد التلويح بالتصعيد ضد الحكومة العراقية، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة تجاه كل الدول المتداخلة عسكريًا في المستنقع السوري عن أهدافها الحقيقية، التي ربما كانت نصرة الشعب وإنهاء الأزمة مجرد شعارات تستبطن مصالحها الخاصة، وهذا متفهم في عالم السياسة لكن بطريقة زادت من تعقيد الأزمة وأصبحنا في مقامرة عسكرية تتبدل معادلاتها مع تبدل الظروف على الأرض من تقدم النظام أو المعارضة.
أهداف روسيا في سوريا واضحة حتى وإن بدت غير معلنة، وهي إبقاء النظام على قيد الحياة ولو في حال شلل سريري لا يتجاوز المنطقة العلوية الساحلية، وهو ما يفسر نشر قواتها اللوجستية هناك وطرد المقاومة من المدن الكبرى وإرجاعهم إلى مربع الثوار الريفيين الذين يهددون مصلحة البلاد والسيطرة على الإمدادات الخارجية، بحسب فابريس بالونش الذي كتب دراسة مهمة عن استهداف حلب باعتبارها رقعة الشطرنج السورية، مضيفًا أن أهداف روسيا تحققت بفعل هذه الاستراتيجية لتجزئة جغرافيا سوريا والتعامل مع كل منطقة بحسب أهميتها الجغرافية، حيث لم تقع أي مدينة كبرى منذ التدخل الروسي تحت سيطرة المقاومة، كما أن الغطاء الجوي وميليشيات المقاتلين الشيعة عوضت هشاشة جيش نظام الأسد الذي يبدو أنه في أسوأ حالاته.
وكما هو حال نظام الأسد يبدو نظام المخلوع علي صالح ومن ورائه ميليشيا الحوثي على نفس خطى الأسد، كما كتبت سابقًا، ليس في اختزال الدولة في حزبه ونظامه بل وفي اللعب على عامل الوقت أكبر فترة ممكنة وانتهاك كل المواثيق والمعاهدات وخرق إيقاف الحرب، لعلمه أنه لا يملك أوراقًا تفاوضية بعد أن تحررت أكثر من 80٪ من البلاد، لكنه يملك ورقة مفصلية وهي «تعز» بما تحمله من عمق سابق لحزبه السياسي وللكتل السياسية الفاعلة في اليمن، ولإدراك النظامين أن العالم بمؤسساته ودوله الكبرى بدأ يشعر بالملل من هذا الجزء من العالم ويسعى الجميع لخلق تسويات سريعة قد تساهم في تضخم نظام الأسد وصالح احقًا في حال بقاء حالة اللاحسم لفترة طويلة، فالنظامان ليس لديهما ما يخسرانه، وهما يدركان أن الوقت مبكر للوصول إلى حالة الاختناق للدوائر الضيقة المحيطة بهما وإن ذهب معظم الشعب إلى جحيم الموت والفقر والأمراض، ففي النهاية يمكن تحويل هذه الكوارث إلى أوراق تفاوضية بالضغط على الجماعات الحقوقية أو الدول الكبرى التي تحاول معالجة العرض وإهمال المسبب في ظل حالة الهلع من التنظيمات الإرهابية، وهو هلع مشروع ومبرر، لكنه غير كاف لاستبدال إرهاب الدولة والميليشيات المسلحة الموالية لها بإرهاب التنظيمات.
وإذا كان الأمر بدا معقدًا في حلب فإنه أكثر وضوحًا في تعز اليمنية، فكل الثورات اليمنية منذ سقوط الإمامة مرّت بهذه المدينة، كما أن التركيبة السياسية لها يمكن أن تشكل النواة الأكبر لأي حكومة مقبلة بفضل تاريخ الممارسة السياسية، كما أن منسوب المواطنة بعيد عن شكلانية حزب المؤتمر بقواعده القبلية في الشمال أو بارتباكه في جنوب اليمن وعدن، عطفًا على تداخل حركات ما قبل الوحدة وما بعدها وعدم وجود هويّة تسع اليمن كاملاً بعيدًا عن نوستالجيا الجنوب المنفصل الذي ربما كان حلاً سهلاً لكنه سيزيد من تعقيد باقي المناطق في حال اللجوء له مع اليأس من تطور الحالة السياسية اليمنية.
مدينة تعز هي بوابة تحرير اليمن، ولذا يمكن فهم هذا التحالف بين نظام المخلوع وجماعة الحوثي؛ الأول في استثمار قوته الحزبية سابقًا في المدينة، والثاني في محاولة الوصول إلى شريان اليمن السياسي الذي إذا تمكن من السيطرة عليه قاده إلى تعميم انتشاره بقوة السلاح في باقي المناطق.
ورغم بقاء صنعاء كل هذا الوقت في يد المخلوع والحوثي ليس بسبب سهولة السيطرة العسكرية على المدينة بل لسهولة الحشد القبلي والسياسي والمناطقي لما يسمى «أهل مطلع» باعتبار أنها معركتهم الوجودية، فإن هذا لن يكون كافيًا أبدًا حتى للتفاوض على أي صيغة سياسية في ظل بقاء تعز صامدة ومستقلة كما هو الحال في حلب الشهباء.. هكذا قدر مدن شكلها التاريخ لتصبح عواصم تختزل قوة الدولة «قيامًا وحطامًا».
في اجتماع لندن بشأن سورية، مباشرة بعد اجتماع لوزان الفاشل، حضّ (مفردة الخبر الذي نقلته وكالات الأنباء العربية) وزير الخارجية البريطاني، لوريس جونسون، روسيا على إظهار الرأفة في حلب. وكانت هذه العبارة المفارقة الأكثر طرافةً في الاجتماع، وإن كان هناك عبارات أخرى نافستها، فما كشفه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن توجهات الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية مثير للاهتمام أيضاً، فهو قال حرفياً: "لم يستبعد الرئيس أوباما أي خيارٍ للرد على روسيا في سورية، مع التأكيد أنه لا يوجد خيار عسكري).
وقد قام الاجتماع بحد ذاته على فرضيةٍ ظريفة، حيث دعت الولايات المتحدة حلفاءها ممن لم يشاركوا في اجتماع لوزان، لتطلعهم على ما جرى في الاجتماع، وتتشاور معهم في الأفكار الجديدة التي طرحت فيه، والتي تهدف إلى إنهاء الحرب السورية. وكان اجتماع لوزان، بحد ذاته، "فرصة لتبادل الأفكار" بين أطرافٍ تملك جميعها قوة عسكرية على الأرض السورية، أو تدعم بشكل مباشر قوىً أخرى ترتبط بها. وخرج الاجتماع بنتائج أقل قليلاً مما يمكن أن يكتبه أي شاب سوري على "فيسبوك". أي أنه اجتماع أفكار، والأفكار أكثر ما يحتاجه اليوم ملايين السوريين القابعين تحت الحصار في حلب، وغيرها من المدن السورية. تقصفهم الطائرات من فوق، وتنخسف الأرض تحتهم من تحت، ويحيط الدمار بهم من كل مكان، وينهش الجوع أمعاءهم. وبالتالي، هم يملكون كل شيء، وتنقصهم الأفكار فقط.
وينقصهم أيضاً أن يؤكد وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن "تدمير روسيا حلب في شكل كامل، على طريقة غروزني، لن ينهي الحرب السورية"، فهم لم يكونوا يعرفون هذه المعلومة، وكانوا يعتقدون أن تدمير حلب على طريقة غروزني سينهي الحرب في سورية، حتى أن السوريين كانوا يستيقظون، في الصباح الباكر، ليدعوا الله أن تدمر روسيا حلب على طريقة غروزني، ظناً منه أن الحرب ستنتهي، وسيعودون إلى منازلهم، ويعود المفقودون والمهجّرون، لذلك، أردفها كيري بوعد لأهالي حلب بأنه ونظيره البريطاني، جونسون، سيواصلان إيصال رسالةٍ إلى موسكو بضرورة وقف النار الفوري، ووقف قصف حلب، ومع الإصرار والاستمرار بإرسال الرسائل، عبر كل وسائط التواصل، يبدو أن روسيا قد أذعنت واستجابت. وبعد جهدٍ جهيد، قرّرت أن تعلن وقفاً لإطلاق النار ثماني ساعات كاملة، وكأنها تريد أن تقول للعالم: رأفة هذه أم ليست رأفة (يا متعلمين يا بتوع المدارس)؟
وبعد أخذ ورد وشدٍّ وجذب، تصريحات وتصريحات مضادة، قرّرت تمديد الهدنة ثلاث ساعات إضافية، فيما يعتبر أكثر بكثير من الرأفة التي طلبها الوزير البريطاني. وفي الوقت نفسه، كانت الخارجية الروسية تذكّر بشروطها لتواصل تقديم "الرأفة"، وتؤكد أنه لكي ينجح اتفاق أميركي - روسي لوقف النار "يجب فصل المعارضة السورية المعتدلة عن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) وغيرها من الجماعات الإرهابية التابعة لها".
بعد اجتماع لندن الملحق باجتماع لوزان، بدأ الكلام عن اجتماع برلين الذي لا يقل أهميةً وعمقاً عن سابقيه، وهو أيضاً اجتماع أفكار من تلك الاجتماعات الكثيرة التي تتداول الأفكار، فيما تمرّ أهم الأفكار من فوق رؤوس الناس المقيمين في حلب، وتتساقط فوق بيوتهم فكرةٌ تلو فكرة، ويهرعون لانتشال أطفالهم من تحت الأفكار. فيما يكرّر كيري: "هناك أفكارٌ كثيرة، يجب التعمُّق فيها سريعاً، على أمل أن تساهم في حل المشكلات التي تعيق تطبيق وقف النار السابق الذي تم التوصل إليه، لا يمكنني الخوض علناً في تفاصيل هذه الأفكار، ولا أريد إفساح المجال للتكهُّنات".
في المحصلة، ما زال الدولاب الذي يدور منذ خمس سنوات ونصف السنة يدور، حاصداً في طريقه أرواح السوريين وبيوتهم ومستقبل أطفالهم، ولقمة عيشهم، وما تبقّى من أملٍ بالحياة لهم، فيما القوى الكبرى التي تدعى يومياً حرصها على الشعب السوري، وتدّعي نصرته وصداقته والعمل لأجله، لم تفعل شيئاً، طوال هذا الوقت، سوى تبادل الأفكار ومزيد من الأفكار، وعقد الاجتماع تلو الاجتماع، لتؤكّد، في نهاية كل واحد منها، على أن لا حل عسكرياً لسورية، وأن من الضروري البدء بعمليةٍ سياسيةٍ تنهي الحرب في هذا البلد الممزّق، وتوقف سيل الموت والنزوح المستمر من دون توقف.
لفضّ كل سوء فهم محتمل، ودرء كل اتهامٍ مسبق الصنع، يميل الكتّاب والمثقفون، من ذوي الخلفيات الفكرية المستنيرة، إلى الحذر بشدة من الوقوع في براثن الخطاب الطائفي، والابتعاد ما أمكنهم عن بواطن الشبهة، وذلك بعدم تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ورفض الخوض في مستنقعات الظواهر الاجتماعية المعيبة، خصوصاً وأن من شأن المقاربات الجارحة لوجدان العامة من الناس أن تزيد الوحل بللاً، ولا تسدي معروفاً إلى أيٍّ من ضحايا مثل هذا الخطاب المترع بالضحالة والتفاهة.
لكن السؤال المؤرّق للبال، والمثير للحفيظة في أغلب الأحيان، هو هل التعالي عن الحقائق الصادمة، والاستدارة من حولها كيفما اتُّفق، أو حتى تجاهلها بالمطلق، يلغي الحقائق الساطعة سطوع الشمس في نهارٍ قائظ، أو يشطبها هكذا من الذاكرة المستباحة؟ وهل الهروب من ضرورات التقاط جمرات المسؤولية الأخلاقية برؤوس الأصابع العارية، يخمد أوارها المتقد تحت غلالةٍ رقيقة من الرماد الساخن؟ وهل إغماض العين عن تجليات الحالة القبيحة يمنع الحالة المرفوضة هذه من الانتشار والتجذر؟
ولا أحسب أن هذه الأسئلة المتبوعة بعلامات الاستفهام، وليس بإشارات التعجب بعد، بنت هذه اللحظة التاريخية النازفة، ولا هي مستلهمةٌ من فانتازيا نص روائي خصب الخيال، لا سيما وأن المشهد المفعم بالرايات المذهبية، والمليشيات الطائفية، وتعبيرات الكراهية والثارات التاريخية، المحمول على أكتاف الأقليات المذهبية، أبلغ من كل قولٍ متعففٍ عن تسمية الولد باسم أبيه الحقيقي، ومن اجتراح الكلام المراوغ في حضرة الاعتراف الضمني بأن البحر هو البحر، وأن الماء لا يعرّف إلا بكونه ماء.
وبالانتقال من هامش الهامش إلى متن الرواية، فإنه يمكن القول، إن ما يجري تباعاً في مدينة حلب منذ عدة أشهر، وما يتواصل الآن في الموصل على قدم وساق، يقدّم مثالاً نموذجياً على ما نحن بصدده في هذه المعالجة، الرامية إلى فضّ التباسات الخطاب الرائج بقوة، وفرز طيف ألوان الصورة الجاري تظهيرها بأقل قدرٍ من الكياسة، وتشخيصها على نحو تعسفيٍّ لإخفاء جوهر هذه الحروب المذهبية التي تتقدّم فيها الاعتبارات الدينية الفجّة على الاعتبارات الوطنية الخجولة.
ذلك أنه مهما برعت ماكينات الدعاية الإيرانية على وجه الخصوص، وخاض أربابها في فنون التعمية الإعلامية بكل اقتدارٍ وبراعة، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أن المدينتين السنيتين الكبيرتين في شمال سورية وشمال العراق، حلب والموصل، تتعرّضان الآن، كلٌّ على حدة، إلى حملةٍ حربيةٍ منسّقة، أولاهما بقيادة روسيا، وثانيتهما بزعامة الدولة العظمى الوحيدة، لإعادة هندسة ديمغرافيا المشرق العربي، تحت ذرائع وجيهة من حيث المظهر، كالحرب ضد آفة الإرهاب المستشرية، ومسوّغات باطنها فيه العذاب لأمةٍ مستهدفةٍ من الأقليات المذهبية، المستقوية بتحالفاتٍ خارجية هجينة.
وإذا كان صحيحاً أن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، هذا المخلوق الذي استعدى كل من في محيطه القريب، واستجرّ على نفسه انتقام أبعد دولةٍ في العالم البعيد، حرب لها ما يبرّرها، فإن من الصحيح أيضاً، أن القوى المتجحفلة حول أقدم وأهم حاضرتين باذختين في العراق والشام (حلب والموصل)، وهي، في جوهرها، قوى ذات طبيعة مذهبية صارخة، أتاح لها خطاب "داعش" الوحشي وممارساته الإجرامية، التساوق بنجاح، مع حملتين عسكريتين عرمرميتين، وتوظيف مدخلاتهما ومخرجاتهما معاً في لعبة قمار كل أوراقها مكشوفة.
وليس من شكٍّ في أن دمشق وبغداد، العاصمتين التاريخيتين لأقدم إمبراطوريتين عربيتين (الأمويين والعباسيين) شهدتا، مع مرور الوقت، تبدلاتٍ ديموغرافية كثيرة، حيث تمكّنت الأقليات، في غضون العقود القليلة الماضية، من الاستيلاء التدريجي على روحهما السنيّة، وتغيير موازينهما السكانية بهذه الدرجة أو تلك، فيما ظلت حلب والموصل، وهما الأعرق والأقدم من العاصمتين السياسيتين، بمنأىً عن ذلك التبديل الاجتماعي البطيء، الذي وقف على تخوم الحاضرتين الشماليتين المنكوبتين الآن، ولم يدخل إلى قلبهما بقوة.
ويبدو أن اللحظة المواتية لتسديد الحساب المؤجل قد أزفت، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، لا حصر لها، وأن السانحة قد باتت مواتيةً أكثر من أي وقت مضى، لاستكمال تلك الهجمة الضارية التي بدأت في دمشق قبل نحو أربعة عقود. وفي بغداد منذ الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، وإن مد بحر الرايات المذهبية الهائج يقول؛ لقد آن أوان غمر حلب والموصل بالمياه المالحة، اغتناماً لفرصةٍ نادرةٍ لن تتكرّر، كان من شبه المستحيل استثمارها على هذا النحو، من غير دخول أقوى قوتين عسكريتين على وجه الأرض، في معمعان هذه الحروب المتزامنة.
وعليه، يمكن الافتراض بسهولة أن حلب والموصل اللتين تتعرّضان، في هذه الأيام، لهجمتين ضاريتين، أو قل عملية تدمير منهجية في رابعة النهار، هما أقرب ما تكونان إلى أختين شقيقتين، مهدّدتين بالاغتصاب أمام الملأ، وسط ما يشبه الرضى، أو غضّ البصر على الأقل، من جانب أولياء الدم، ممن يشيحون بأوجههم عن الفعلة المذلّة بحقهم، فيما لم يتورّع بعضهم من الرقص في حفلةٍ تجللهم بالعار إلى يوم القيامة.
خلاصة القول؛ إن الوجود السني في بلاد الهلال الخصيب يتعرّض في هذه الآونة إلى تهديدٍ وجوديٍّ، لا سابق له منذ قرون بعيدة، ليس بفعل ما تشهده هذه المنطقة من تهجيرٍ منهجيٍّ وتشتيتٍ سكاني فقط، وإنما أيضاً، بفعل افتقار هذا الوجود الذي يشكّل عماد الأمة، للعمق الديموغرافي القادر على الدفاع عن حق البقاء أولاً، وللزعامة المؤهلة للتعبير عن ضمير الأمة ثانياً، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن ما بعد معركتي حلب والموصل لن يكون كما قبلهما.
لا تنشب الحرب وفق خطة مسبقة في كل الأحوال. الحروب أنواع عدة. أحدها ينتج من أخطاء سياسية أو عسكرية، أو سياسات تبدو لصانعيها محسوبة قبل أن تؤدي إلى تداعيات تصعب السيطرة عليها.
وليست الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وحدها التي اندلعت بسبب أخطاء ارتكبتها قوى أوروبية كبرى، وأدت إلى أحداث تداعت حتى وجدت هذه القوى نفسها أمام حرب لا مفر منها. ولكنها تُعد المثال الأكثر دلالة على هذا النوع من الحروب، ربما لهول ما ترتب عليها من ضحايا وخسائر ودمار.
وعلى رغم أن العالم تغير كثيراً، بل ربما جذرياً في العقود السبعة التي أعقبت انتهاء تلك الحرب، ينطوي الصراع الروسي - الغربي في سورية على ملامح يبدو بعضها قريباً من المقدمات التي أدت إليها.
لقد تمكنت القوى الدولية الكبرى من تجنب نشوب حرب واسعة منذ انتهاء الحرب الثانية، وسعت إلى تحقيق مصالحها بوسائل أخرى. لجأت أحياناً إلى نمط الحرب بالوكالة في مختلف مناطق العالم. كما أصبحت حروب الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا أدوات فاعلة في الصراع الدولي.
وهذا التغير الهائل في العالم يُضعف احتمال نشوب حرب عالمية كبرى أخرى (ثالثة)، لكنه لا يُلغيه أو يجعله مستحيلاً. لذلك تصعب مقاومة إغراء التفكير باحتمال تصاعد التوتر الذي ازداد في الأسابيع الأخيرة بين روسيا والغرب حول الأزمة السورية باتجاه حرب واسعة النطاق.
كما يصعب حصر دلالة تحذير موسكو من مثل هذه الحرب في السعي إلى منع أي دعم غربي للمعارضة السورية يُغير ميزان القوى في حلب، ويحول دون سقوطها في أيدي قوات نظام الأسد والميليشيات المتعددة الجنسية التي تعمل معه. قد يكون هذا «الردع» الهدف الرئيس للخطاب الروسي عن زلزلة الشرق الأوسط، واللعب الخطر في سورية، والتحولات المرعبة في المنطقة كلها في حال إقدام الغرب على أي تدخل مؤثر.
غير أن هذا الخطاب التحذيري القوي يحمل في طياته معنى أن الحرب الضارية في سورية قابلة للتوسع، ولكن لغير ما تقصده موسكو بل لعكسه تحديداً. فهذا احتمال يزداد بازدياد ارتباك الغرب وعجزه عن الفعل، فيما يقلّله التدخل بوسائل كالتسليح النوعي للمعارضة. لذلك لم يعد ممكناً الاستمرار في استبعاد هذا الاحتمال إذا بقيت الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تأمل بوقف مذابح حلب مرتبكة وعاجزة.
وربما يكون السبيل الوحيد إلى تجنبه الإسراع بتقديم دعم عسكري نوعي إلى المعارضة السورية يُمكّنها من الصمود في حلب ومناطق أخرى صار وجودها فيها مُهدَّداً. فالبديل عن هذا الخيار هو أن تجد الدول الغربية نفسها بعد حين في موقف شديد الصعوبة قد يدفعها إلى التدخل المباشر الذي تحذر منه موسكو.
ويتطلب ذلك تحرر واشنطن من فوبيا وقوع أسلحة نوعية تقدمها إلى المعارضة في أيدي عناصر متطرفة. وقد يكون هذا خطراً محتملاً، ولكنه ليس كبيراً. فإذا افترضنا استيلاء جبهة فتح الشام (النصرة) مثلاً على بعض الصواريخ المضادة للدبابات، لن يكون لديها ترف تخزينها في ظل القصف الجوي المتوحش الذي يفرض استخدامها فورياً. كما أن عدد عناصر هذه الجبهة في حلب محدود، ويُعدَّ بالمئات وليس بالآلاف، بشهادة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي لم يُعرف عنه أي تعاطف مع المعارضة، بل العكس.
غير أن استمرار التردد الغربي في حسم خيار إمداد المعارضة بهذه الأسلحة يزيد احتمال توسع الحرب حين تجد الدول المترددة في شأن هذا الخيار أنها لم تعد قادرة على تحمل التحدي الروسي الذي يُتوقع له أن يتنامى في حال سيطرة حلفاء موسكو على حلب.
وعندها قد يصبح توجيه ضربات صاروخية ضد مطارات وقواعد عسكرية تابعة لنظام الأسد، وإسقاط طائراته، خياراً جدياً بما قد يفتح الباب أمام توسيع الحرب وتدويلها.
وهكذا يزداد احتمال نشوب حرب واسعة كلما تأخر الغرب في اتخاذ موقف قوي ضد روسيا يفرض عليها مراجعة سياستها المغامرة عبر تمكين المعارضة من إلحاق خسائر بطائراتها وقواتها في سورية. فالارتباك والتردد الغربيان يشجعان موسكو على المضي قدماً في سياسة التوسع المدفوعة بحلم قومي متطرف لاستعادة أمجاد إمبراطورية.
ويصح، هنا، أن نستعيد درس الحرب العالمية الثانية التي كان ارتباك بريطانيا في مواجهة التوسع الألماني السبب الرئيس لإشعالها. صحيح أن العالم تغير كما سبقت الإشارة. كما أن روسيا البوتينية تختلف عن ألمانيا النازية الهتلرية. ولكن الاختلاف بينهما يتعلق بمرجعية النزعة القومية المتطرفة، وليس بجوهرها وطابعها المغامر وميلها التوسعي.
غير أن أوجه الشبه بين الارتباك الأميركي تجاه روسيا الآن، والارتباك البريطاني إزاء ألمانيا قبل ما يقرب من ثمانية عقود، تبدو أهم. كما أن المقارنة بين شخصيتي أوباما ورئيس الوزراء البريطاني حينئذ تشمبرلين قد تكون أهم من المقارنة بين شخصيتي بوتين وهتلر.
كان تشمبرلين مؤمناً بإمكان الحل السلمي لأية أزمة مهما بلغت حدتها، وراغباً في تجنب أي عمل عسكري. ولذلك ظل يراهن على أن يكتفي هتلر أو يشبع، فتغاضى عن ضم النمسا، ثم رضخ لضغوط هتلر في شأن إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وقدمها «هدية» له في مؤتمر ميونيخ المشهور في أيلول (سبتمبر) 1938 على رغم ارتباطه معها بمعاهدة تعاون دفاعي. وكان لديه اعتقاد قوي بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد.
لكن هتلر فسر موقف تشمبرلين وحلفائه بأنه ضعف، ما فتح شهيته لمزيد من التوسع. ولم يمض عام على مؤتمر ميونيخ حتى كانت ألمانيا قد غزت بولندا في 1 أيلول (سبتمبر) 1939 فاشتعلت الحرب العالمية.
وإذا أردنا أن نحدد البداية الحقيقية لتلك الحرب، في سياق السعي إلى استيعاب درس من التاريخ، لا بد أن نعود إلى الاتفاق الذي أسفر عنه مؤتمر ميونيخ في 1938، قبل عام على اندلاعها.
والسؤال الآن هو: أليست هذه أوجه شبه معتبرة بين بعض أهم مقدمات تلك الحرب، وخصوصاً السياسة البريطانية تجاه التوسع الألماني في وسط أوروبا وشرقها، وبعض ما يحدث الآن وخصوصاً السياسة الأميركية تجاه الهجمة الروسية في سورية؟
بعد هدنة أو ثلاث، لا بد أن تتواصل معركة حلب، حتى إن تم إخراج مقاتلي جبهة «تحرير الشام» («القاعدة» سابقًا) من حلب، فهذا لن يكون إلا فصلاً من المعركة، وليس خاتمتها على نحو ما يقول البعض، أو يتوهم آخرون. وثمة سببان معروفان لهذا المآل؛ أولهما أنه ليس من برنامج للحل السياسي لدى الطرف المصر على أخذ المدينة بالحرب قتلاً وترحيلاً لمن فيها ودمارًا لمعالمها، ثم احتلالاً بالقوة وفق النموذج الذي طبقه حلف النظام في محيط دمشق على مثال داريا في غوطة دمشق الغربية، وعلى نحو ما سيؤول إليه الحال في أكثر مدن غوطة دمشق الشرقية. أما السبب الثاني فيتصل بالفريق الآخر من المجتمع الدولي والموصوف باسم «أصدقاء الشعب السوري» بقيادة واشنطن، الذي لا يملك الإرادة بالمضي نحو حل سياسي، بات يتطلب تغييرات ميدانية، توقف الذاهبين إلى الحل العسكري عن مسارهم، وتدفعهم إلى طاولة المفاوضات، للوصول إلى توافقات للحل السياسي عبر تنازلات متبادلة، وتكمن في خلفية هذا الموقف مخاوف من اندلاع حرب تخرج من الداخل السوري إلى محيطه الإقليمي، قبل أن تتحول إلى حرب عالمية كثرت التحليلات حول مساراتها ونتائجها الكارثية.
في ظل الوقائع القائمة، التي تعكس صلفًا في معسكر حلف الروس والإيرانيين ونظام الأسد، وإحساسًا بالقوة، وإصرارًا على الهدف بالاستيلاء على حلب، وضعف وغياب للإرادة في الطرف الآخر، تبدو معركة حلب محسومة النتائج، وهي سقوط المدينة بيد المهاجمين الذين سينتقلون إلى مرحلة تالية في حرب الشمال السوري، ستكون إدلب ميدانها، وفق سيناريو لن يكون بعيدًا عما تم في حلب، وإن اختلف بعض تفاصيله بحكم المعطيات المحلية ليس أكثر من ذلك، وسيكون المدافعون عن إدلب في وضع، لن يختلف كثيرًا عما كان عليه حال المدافعين عن حلب إلا في بعض التفاصيل، لأن بيئة الحرب الإقليمية والدولية، لا ينتظر أن تتغير كثيرًا في الفترة القريبة، وهو عامل يشجع حلف الروس والإيرانيين ونظام الأسد على إنجاز سريع لهذا الفصل في حرب الشمال السوري.
إن الخلاصة المنتظرة لما بعد معركة حلب مزيد من الخسائر في صفوف السوريين في حرب غير متكافئة من الناحيتين السياسية والعسكرية، تبدو معالمها الرئيسية في الداخل في ثلاثة تعبيرات؛ أولها انحسار مساحات الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام، وتمدد الأخير وحلفائه فيها، والثاني مزيد من الخسائر البشرية والمادية في صفوف معارضي النظام وحواضنهم الاجتماعية، وبالتالي مزيد من معاناة سكان مناطق الشمال، والثالث تراجع قوة تشكيلات المعارضة المسلحة، وقد تختفي بعض تلك التشكيلات من مسرح الشمال.
ولا يكمن سبب هذه الخلاصة في العامل الإقليمي والدولي بوزنه المؤثر فقط، بل يمتد إلى العامل المحلي الذي ساهمت في تكريسه سياسات وممارسات، شكلت الأساس فيما لحقه ويلحقه من خسارات وهزائم، ولعل أول تلك السياسات والممارسات، هي انفصال السياسي عن العسكري، ومحاولة الأخير تحت حجج مختلفة، أن يزاوج بين الدورين العسكري والسياسي لصالح مشروعه في نظام أكثري لسوريا المقبلة، باعتبارها عربية - إسلامية - سنية، مقابل مشروع سياسي، يقوم على «سوريا لكل السوريين، دولة ديمقراطية تعددية»، وهو مشروع استدعى مسايرة السياسي للعسكري، ولو على حساب مشروعه الأشمل والأقرب إلى أهداف ثورة السوريين، كما استدعى في آن معًا سكوته عن وجود وممارسات جماعات مسلحة متطرفة، ومصنفة في القائمة العالمية بوصفها تنظيمات إرهابية، مثل «جبهة النصرة»، فرع «القاعدة» في سوريا، التي غيرت اسمها إلى «جبهة فتح الشام»، وأعلنت انفصالها عن «القاعدة»، دون الذهاب إلى تغييرات عميقة في قياداتها وبناها التنظيمية وفي منظماتها الفكرية والسياسية وأهدافها، التي بقيت على أرضية «القاعدة»، ومثل «جند الأقصى»، التي وصفتها التشكيلات المسلحة للمعارضة، بالتابعة لتنظيم داعش الموصوف بـ«الإرهاب والتطرف»، ثم سكتت عن مبايعة «جند الأقصى» لـ«جبهة فتح الشام» واندماجها فيها.
والخط الثاني في السياسات والممارسات باعتبارها سببًا فيما صار إليه الوضع الحالي، تمثله الصراعات البينية، ليس في المستوى السياسي فقط، ولا بين السياسي والعسكري، بل في الطرف الأخير رغم تقارباته الآيديولوجية والسياسية الإسلاموية. فثمة حذر وتوجس وعصبوية، وتنافس محاط بالشك والشكوك والاغتيالات، وحروب غير معلنة بين الجميع.
أما الخط الثالث في سياسات وممارسات التشكيلات العسكرية، فقد بدا في علاقتها مع الحاضنة الشعبية. وبدل أن تبذل جهودها في خدمة الحاضنة، التي منحتها معظم عوامل «القوة» التي صارت إليها، فإنها عملت على إخضاعها آيديولوجيًا وسياسيًا، واستخدمت مختلف الوسائل مزاوجة بين الترغيب والترهيب، وبدل أن تحسن سبل الحياة، جعلتها أصعب.
وسط تلك السياسات والممارسات وبالتزامن مع بيئة إقليمية ودولية سلبية التأثير، بدا من الطبيعي الوصول إلى ما صار إليه الوضع في الشمال السوري، وصار بالإمكان لروسيا وحلفها مع الإيرانيين ونظام الأسد تحقيق تقدم ميداني على الأرض وتحقيق تقدم سياسي من شأنه تغيير موازين القوة والمضي على طريق استعادة السيطرة في الشمال الذي تمثل معركة حلب فصلاً أساسيًا فيه، وقد تكون إدلب فصله الثاني، إن لم تحصل معجزة، تبدل النتائج التي تلوح في الأفق.
تهجير ممنهج للعرب السنة في الموصل وفي ريف دمشق، ولا تزال عيون إيران وروسيا على سكان حلب.. بات من الواضح للجميع أنه ليس هناك حل يلوح في الأفق لتخليص الشام والعراق من الهيمنة الإيرانية وأدواتها في الدولتين اللتين راحتا ضحية الشعارات الزائفة والجمهوريات الفاسدة، فلم يكن من الغريب تفتت العراق وسوريا بعد أن اندلعت الحرب في إحداهما والثورة في الأخرى، على خلاف دول الربيع العربي الأخرى التي لم تتأثر وتنهار بشكل كلي كحال سوريا والعراق، فلطالما كان الناس في البلدين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية مقموعين وممنوعين من التعبير عن ثقافاتهم في ظل نظامين طاغيين أسدي وصدامي.
كانت نتيجة القمع وطمس الهويات حروب دموية في البلدين استشرست كل طائفة فيها للدفاع عن هويتها المطموسة، فما كان من الأكراد إلا أن لملموا قواهم و بنوا جيوشهم و مؤسساتهم ووجدت إيران في الشيعة العرب الأداة المجانية التي تقاتل فيها أعدائها في المنطقة وهم العرب السنة الذين تجد نفسها في سباق على النفوذ معهم في المنطقة العربية، فجهزت إيران كذلك الميليشيات وسلحتها وأضفت عليها سحنة طائفية خلقت جدار لن تهدمه السنين بين الشيعة العرب ومواطنيهم في بلاد الشام والرافدين، أما ممثلي السنة ففشلوا في إيجاد معبر عن التيار السني المحافظ بتمثيل حداثي يقود إلى جعل العرب السنة جزء من الحكم في سوريا والعراق في المستقبل، بينما نجحت تنظيمات كداعش والقاعدة في تشكيل حالات سنية ذات شعبية بين السكان، حتى أن الفصيلين نجحوا في إرساء أسس دولة تمارس التجارة وتقوم ببعض الصناعات و تفتح المدارس رغم أنها دولة غير صالحة للاستمرار في ظل معاداتها لكل القوى العالمية الإسلامية منها والغربية.
الحل يكمن في إيجاد ممثل حداثي للعرب السنة في العراق والشام يلتف حوله السكان ويكون قادر على تمثيلهم دون أن تكون له أي شبهات بالإرهاب
البكاء على الحليب المسكوب لن يفيد كثيراً فلا أحد سمع صوت بكاء الطفل عمران رغم أننا رأينا العالم كله يشاهد وجهه المدمى في الصحف والشاشات، ولن يسمع أحد كذلك صوت النازحين من الموصل الذين لم يختاروا داعش، بل داعش اختارتهم لتنشأ دولتها بينهم.
في الانتخابات الأميركية هناك أربعة مرشحين للرئاسة، كلينتون وترامب واثنين آخرين غير معروفين يمثلون أحزاب ثالثة لن تنجح حتماً، السياسيون ينصحون الناخبين بالتصويت إما لترامب أو لكلينتون حصراً، فإذا كنت تفضل هيلاري على ترامب وامتنعت عن التصويت لهيلاري وبدلاً عن ذلك صوتت للمرشح الثالث أو الرابع فهذا يعني أنك أعطيت صوتك لترامب حين صوتت لمرشح ليس لديه أي فرص للفوز.. وقوف العرب السنة إلى جانب داعش أو القاعدة هو بمثابة التصويت للمرشح الرابع أو الثالث، وبالتالي تعود الفائدة على المرشح العدو وهي ميليشيات إيران التي تنكل بالعرب السنة والتي تحتكر السلطة والتمثيل السياسي في سوريا والعراق، إذا أنت صوت لمرشح غير صالح أصلاً للحكم ولن يسمح العالم له بتمثيل العراق أو سوريا يوماً وهذا هو سبب استمرار الحرب في البلدين.
الحل يكمن في إيجاد ممثل حداثي للعرب السنة في العراق والشام يلتف حوله السكان ويكون قادر على تمثيلهم دون أن تكون له أي شبهات بالإرهاب، ولعل تجربة الحريري في لبنان تجربة رائدة حيث أنها مثلت السنة اللبنانيين بمحافظين وليبراليين بشكل دفع العالم بأسره للوقوف ضد قيام نظام الأسد باغتيال الحريري، إلا أنها تجربة ارتبطت تماما بشخص الحريري ولم ترتكز على أرضية فكرية مما أضعفها مؤخرا على حساب التيارات السلفية التي رأى فيها جزء من سنة لبنان معبرا يجابه عقيدة حزب الله الفاشستية.
ولعل تجربة تيار المستقبل هي تجربة تستحق الدراسة للاستفادة من أخطائها كي يشكل كيانا سياسيا وفكريا يكون نداً لميليشيات إيران الإرهابية أمام المجتمع الدولي لمواجهة داعش وكل أشكال التطرف التي يتخذها الغرب حجة لاستمرار قصف المدنيين في المناطق ذات الغالبية السنية.
فمع كل استفراد حزب الله في لبنان وهيمنته بسلاحه على جميع قطاعات الحياة فيه إلا أن وجود تمثيل سياسي للسنة ممثل بسعد الحريري يحمي سنة لبنان من الكثير من التجاوزات ويجعلهم شركاء في حكم البلاد حتى أن مسألة كتعيين رئيس جديد للبلاد لا تمر دون موافقة ممثل السنة والذي سيكون رئيس حكومة في ظل الإدارة اللبنانية الجديدة.
لم يكن مقدراً لـ «دولة البغدادي» أن تعيش طويلاً. العراق لا يستطيع احتمالها. والمنطقة لا تقدر على التعايش مع وجودها. والعالم لا يستطيع غضّ النظر عن ارتكاباتها. حين تختار مجموعة إرهابية العيش تحت عنوان ثابت ومعروف، ترتكب خطأً قاتلاً. قوة الإرهاب تكمن في سرّيته وقدرته على التخفّي. حين يصبح له عنوان، يبدأ العدّ العكسي لشطبه. ثم إن تنظيم «داعش» بفكره وطبيعته وأساليبه هو عملية انتحارية واسعة. اللافت هو أن رحلة «داعش» ألحقت أفدح الأضرار بمن ادعت أنها جاءت لنصرتهم والدفاع عنهم. يعاقب المكون الذي ينتمي إليه أصلاً أبناء «داعش» مرتين، الأولى على يديه والثانية على أيدي خصومه.
قال المسؤول الكردي: «أنا لا أقلل من تضحيات الجيش العراقي والبيشمركة، ولكن من دون الغارات الأميركية كان يمكن معركة الموصل أن تكون مريرة وطويلة وشبه مستحيلة». واعترفَ بأنها قد تستغرق بعض الوقت «لأن أوباما لا يستطيع أن يفعل في الموصل ما فعله بوتين في غروزني أو ما يفعله حالياً في حلب. لدى أوباما معارضة ورأي عام وصحافة حرة، في حين نجح بوتين في تطويع المؤسسات والأصوات وإلحاقها بمطبخ القصر».
رأى أن الموصل ستعود «لكن السؤال هو إلى أين تعود؟ إذا استعيدت على قاعدة التوازن والمسؤولية الوطنية وتبادل الاعتراف بين المكونات، ستكون استعادتها خطوة على طريق استعادة العراق. وإذا استُخدِمت نتائج معركتها لتعزيز الخلل في التوازن بين الشيعة والسنّة، فإن فكرة داعش ستبقى حية أو ستستيقظ عند أول فرصة».
صحيح إلى أين سترجع الموصل؟ وماذا يريد حيدر العبادي وماذا يستطيع؟ وماذا يريد نوري المالكي وجنرالات «الحشد الشعبي»، وماذا يريد قاسم سليماني من الموصل؟
في ظل الانشغال بدخان حرائق الموصل، قد يتقرر مصير مدينة عربية عريقة أيضاً هي حلب. وتقع حلب، كما الموصل، على خطوط تماس مذهبية وإقليمية. لا يمكن تشبيه ما يفعله الروس في حلب بما يفعله الأميركيون في الموصل. الأزمة مختلفة وهوية اللاعبين وحساباتهم. أزمة حلب سابقة على وجود «جبهة النصرة» فيها وأبعد. أزمة سورية سابقة على وجود «داعش» ولا يمكن اختصارها بوجود الإرهابيين، على رغم خطورتهم.
يصرّ الروس والإيرانيون ومعهم النظام السوري على استعادة حلب الشرقية. يصرّون على الانتصار في هذا الفصل المهم من الحرب، وإن كان واضحاً أنه انتصار لا ينهي الحرب على رغم أهميته. مرة جديدة يطرح السؤال عن اليوم التالي. إلى أي سورية ستعود حلب علماً أنها تعيش أزمة مكونات؟
خدع القيصر كثيرين. كان الاعتقاد أنه سيمنع سقوط النظام، لكنه سيرغمه على السير في حل سياسي شبه معقول. ثم ساد الاعتقاد بأنه سيكتفي بمحاصرة المدينة ليطلق مبادرة جدّية للحل. ثم اكتشف الجميع أن حلب مجرد محطة في برنامج الانقلاب الكبير الذي ينفّذه بوتين ضد الغرب وحلفائه، لإعادة تطويب روسيا قوة عظمى مرهوبة الجانب. إذا حلّت عقدة حلب بأسلوب غروزني، فإن الحرب السورية ستنجب مزيداً من الانتحاريين، وسيمتد حديث «المظلومية السنّية» من الأنبار إلى حلب.
من حسن الحظ أن بيروت لا تعيش ما تعيشه الموصل وحلب. لكنها معلّقة في النهاية بمصير المدينتين من زاوية الجغرافيا والانخراط والمشاعر، ولأن هذا الكعك من ذاك العجين. قطعت توتّرات المنطقة رأس الجمهورية اللبنانية. أبقتها بلا رئيس منذ سنتين ونصف السنة. الذين حلموا بفوز سريع للمعارضة في سورية عادوا خائبين. ومثلهم الذين حلموا بهزيمة سريعة للمعارضة.
كانت بيروت مدينة مهمة يوم كانت رئةً وملاذاً وشرفةً ومختبراً. انكمشت قامتها كانحسار القامات على مسرحها. وعلى رغم ذلك يبقى لما تعيشه شيء من المعنى. تشهد بيروت حالياً محاولة لإنهاء عهد الرأس المقطوع. تسير في الاتجاه المعاكس لحروب التفكُّك والطلاق في العراق وسورية.
في وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، حفلة لتوزيع كؤوس السمّ على مؤيديه ومعارضيه. أغلبهم كانوا يفضّلون تفادي رؤيته مجدداً في القصر. جملة من العوامل الداخلية والإقليمية دفعت كثيرين إلى التسليم بتناول هذا الدواء المر. ثمة من يعتقد بأن الجنرال الثمانيني سيضطر إلى تجرُّع بعض السمّ بعد فوزه. سعد الحريري تحوَّل خبيراً في تجرُّع الكؤوس الصعبة. أغلب الظن أن مشاهد حلب والموصل كانت بين العوامل التي دفعته إلى الإقدام على «مخاطرة كبرى»، تتمثّل في ترشيح عون المقيم في الضفة الأخرى.
هناك ما هو أهم من قصة الجنرال. هل يستطيع اللبنانيون أن يبعثوا برسالة جديدة في هذه المنطقة المهددة بأن توغل أكثر في عصور الظلام؟ رسالة مفادها أن بيروت يمكن أن تتّسع ليعيش الشيعي والسنّي والمسيحي في دولة واحدة، وعلى قاعدة تبادُل الاعتراف واحترام الحقوق والمخاوف. أنا لست سائحاً غريباً. لا أطالب بأكثر من شبه جمهورية وشبه دستور وشبه قانون. مثل هذه الخيمة ضرورية للسنّي والشيعي والمسيحي، مهما توهّم أي طرف منهم، أنه قوي ويستطيع إملاء إرادته. ولا خيار أمام العراق وسورية غير التفكير بخيمة من هذا النوع، كي لا يتحول الانتصار في الموصل وحلب مجرد وعد بحروب أشد وأدهى.
هناك.. تحت الأرض، في الرطوبة والعتمة والهدوء الرهيب، مع فأس ورفيق، كان يحفر نفقاً، ربما للتفجير أو للتسلل أو للإمداد، حسبما تختار المعركة حينها، تفاصيل الخاتمة لا تعنيه ما دام الطريق واحداً وهو يحفر نفقاً إلى الحرية.
وفي الهدوء الرهيب، ومع كل ضربة فأس وانفلاق حجر، كان يظهر وجه طفلٍ قتيل في الحولة، ذعر معتقلة في دمشق، قصيدة شيخ في دوما، عوائل معدة للحريق في بانياس، مدارس وزعت أطفالها أشلاء في حلب.. حين عاد إلى بيته، اضطر أن يحفر مرة أخرى، كان أهله تحت أنقاضه ميتين.
حربنا طويلة لأن جيل الظلم طويل.. قضيتنا حق ثابت وطريقٌ طويل، وأمانةُ شعب من الشهداء وحقّ جيل قادم بالحرية والكرامة، وستدومُ ما دام الظلم.
وفي النفق المجاور، كان يجلس من فقد ستة من إخوانه شهداء يتحدث بيقين عن معركة قادمة، وبجانبه من فقد أربعة، ومن فقد اثنين، وبصمت كان يستمع من أعدّ نفسه للفقد العظيم كي يجد أهله طريقاً للهواء.
"ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة.. ليمرّ النور للأجيال مرّة"
وفوق غابة الأنفاق والمرابطين في العتمة، كانت الأرض القيامة.. هنا حلب، أخطر مدن العالم، وأجمل مدن العالم، فقيرة بالغذاء، غنية بالرجال.
بين كل مجزرتين، تطبخ أم لأبنائها الميتين عمّا قليل، ويجهّز مقاتل جعبته لخندق سيغدو قبراً للأعداء.. أو لنفسه، وتحفر مقابر عاجلة بين البيوت والحدائق، وتزفّ عروس لشهيد قادم، ويلعب الأولاد بجدية عابثة لعبة الحرب، ويولد طفل بعينين من ثأر وغضب، وتستكمل الحرية نشيدها السعيد في قلوب الثائرين..
وقريباً جداً من حافة المذبحة، كانت تمر حياة العالم وأهلها بحالتها العادية جداً.. بعاديّتها المرعبة! وجربنا جميع أنواع الموت، ومسارات الشظايا، وخيارات الركام، واحتمالات الأشلاء، وأشكال الفجيعة، وألوان الدم، وأعداد الضحايا، ودروب الشهادة، وبعد أيام.. بعد شهور.. بعد سنين في المذبحة، وقفنا وسط المقبرة الشاسعة بلامبالاة.. ضاحكين -بكامل جذوة القلب- للحرية العظيمة.
في مجزرة مدرسة ما، وبعدما انتُشلت أشلاء الإرهابيين الصغار، بقي جسد طفلة عالقاً تحت أنقاض البناء، بقيت أمها وأبوها أسبوعاً واقفين أمام الركام بينما تزيحه القبعات البيض، ولما وجدوا في النهاية جسد الطفلة القتيل ارتاحوا.. فرحوا.
وفي مجزرة مدرسة ما، كانت المعلمتان معاً على المقعد أمام الطلبة الصغار في درس الظهيرة، وبعد ثانيتين كاملتين، كانت المعلمتان معاً على المقعد نفسه.. بلا رأسين.. بلا طلبة.
وفي مجزرة مدرسة ما، على الأرض الحافلة بالموت والأشلاء، تمدد جسد الطفلة بسكينة هادئة، والدم انساب فوق الوشاح.. قانياً حتى دفتر الرسم المفتوح على جملة ملونة "أنا أحب سوريا".. وكانت سوريا تدفن المحبين بلا ملل.
وفي مجزرة قادمة، سوف نخبر الضحايا أن يموتوا متأنقين، وأن يتركوا احتياطاً بجانبهم كاميرات دقيقة، ربما تحتاجهم أوراق صحيفة توزع مع شاي الصباح، وسوف نخبر النساء أن يكتبن في وصاياهن المعطرة اقتباسات من سيمون دو بوفوار، حتى يصبح لموتهنّ معنى في حديث المنظمات والوزيرات الجدد، وسوف نخبر الطفل القتيل أن يدوّن عشر مرات في دفتر الرسم عن الفارق الدقيق بين مجلس الأمن والإرهاب، ولكننا سنخبر الناجي الوحيد من الرحيل الكبير بالحقيقة الوحيدة: كم أنت وحدك.
وبينما كنّا نموت، والمذبحة تهيم على رؤوس الناس، والموت يأتينا بكلّ سلاحه البري والجوي والبحري، كانت الإبادة المعلنة مجرد بند محتمل في غرف المؤتمرات، وكانت المذبحة كأي فعل سياسي تُطرح بهدوء للنقاش أو التعديل أو المساومة، كانت مذبحة أنيقة وشرعية وحديثة كما يليق بالدول الكبرى، ولم تكن فعل تنظيمات صغرى أو خطاب جهاديين كلاسيكيين لكي تصبح -عند الخبراء- من "الإرهاب".
وكانت الدول التي وزعت الشعارات الأخلاقية والإنسانية على شعوب الأرض قروناً، تتباحث بجدية عن حجة بليغة أو تبرير علميّ دقيق للمذبحة الكبرى، كأن يكون ثمة فرد بين كل ألفين ينتمي لفصيل يكرهونه.
قد يعيش الآخرون في سكينة العائلة والمدن الهادئة والترف الجميل، دون حصار أو قصف أو موت سريع في الطرقات، ولكنهم لا يعرفون أن طعم الحرية أجمل من كل ذلك.
وكانت تجتمع "الأمم" لتناقش الحلّ الأثير أمام المذبحة: ترحيل الشعب عن مدائنه، وكانوا يشكرون السفّاح إن أوقف المذبحة ساعتين، ويطلبون منا بوادر حسن نية بالمقابل، كأن نلقي السلاح والشهداء وما نزعمه من ضمير ونمضي للعار والهزيمة راضين بالمكافأة.
وكانت أرومتنا الكبرى وقومنا العرب الأقحاح مشغولين بجداول الكرة والغاز، ولم يتجاوز أحد الزعماء المحترمين أناقته وهدوءه الحكيم كي يستنكر أو يدين أو يشجب موتنا العلني، كانت حتى كلمات المواساة أكثر مما يستحق الميتون.
وقد يسألوننا مرة أخرى: هل كانت تستحق الحرية كل هذا الموت؟!
ولكن السؤال الأجدى بعد هذا الموت: هل عالمٌ بكل هذا العار يستحقّ الحياة حقاً؟!
إن حربنا طويلة لأن جيل الظلم طويل.. ولا تقف الثورة عند شخص أو معركة أو مدينة، قضيتنا حق ثابت وطريقٌ طويل، وأمانةُ شعب من الشهداء وحقّ جيل قادم بالحرية والكرامة، وستدومُ ما دام الظلم.
قد يعيش الآخرون في سكينة العائلة والمدن الهادئة والترف الجميل، دون حصار أو قصف أو موت سريع في الطرقات، ولكنهم لا يعرفون أن طعم الحرية أجمل من كل ذلك.
ولم نندم على الكرامة.