بعد أن ظل النظام الإيراني يسوق مبرراته في التدخل في الأزمة السورية، ويقدم ذريعة الدفاع عن المراقد الشيعية ليدفع بالمزيد من المقاتلين في الساحة السورية، جاء قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني ليعطي مبرراً جديداً ظل دائماً بعيداً عن تصريحات مسؤولي النظام. نسير مع القارئ الكريم لنستطلع ذلك المبرر الذي اعتبره سليماني السبب الرئيس للتواجد في سوريا. خلال الذكرى السنوية لمقتل حسين همداني في سوريا، أشار قاسم سليماني إلى أن السبب الرئيس وراء الدعم الإيراني لسوريا هو دعم هذه الدولة لإيران في الوقت الذي وقفت سائر الدول العربية ضدها في الحرب العراقية الإيرانية. كما أشار كذلك إلى أن تواجدهم في سوريا ليس دفاعاً عن سوريا فحسب، بل دفاعاً عن الإسلام وعن الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها، مضيفاً أن «داعش» والتنظيمات التكفيرية لم يتم تشكيلها من أجل مواجهة سوريا، بل من أجل مواجهة إيران. مع بداية أحداث ما يطلق عليه «الربيع العربي» وبالرغم من تصريحات الرئيس السابق أحمدي نجاد حيال الأزمة السورية ومطالبة الأسد بالالتفات لمطالب الشعب، إلا أن الدولة العميقة في إيران تحركت باتجاه مسار آخر يضمن لها استمرار بقاء نظام الأسد وبالتالي المحافظة على مكتسباتها في هذه الدولة.
مع تزايد الضغوط على النظام السوري، انتقل النظام الإيراني بالإضافة إلى الدعم اللوجستي والتسليحي له، إلى ضرورة الدفع بعناصر مقاتلة ضد المعارضة السورية. فجاءت المراقد الشيعية بوصفها المبرر لاستقطاب عناصر شيعية للقتال في الساحة السورية.
من ذلك المنطلق، أصبح مرقد السيدة زينب العنصر الرئيس في الخطب الحماسية التي كانت تنطلق من مدينة «قم» للدفع بتجنيد عناصر للقتال. وهذا الأمر ساهم في توجه عدد من المقاتلين الأفغان والباكستانيين وغيرهم لينضموا جميعاً تحت ما عُرف ب«لواء فاطميون». في حين جاء من العراق من انضوى تحت «لواء العباس» ناهيك عن عناصر «حزب الله» اللبناني.
وبالرغم من استمرار النظام الإيراني وإعلامه التركيز على مبرر القتال في سوريا من منطلق الدفاع عن المراقد الشيعية إلا أن المكمن الرئيس الذي أعلنه قاسم سليماني أخيراً كان يتجلى بين فترة وأخرى في تصريحات عدد من المسؤولين الذين أشاروا إلى أن الدفاع عن سوريا يأتي في المقام الأول للدفاع عن إيران.
إن الأهمية الجيوستراتيجية لسوريا من المنظور الإيراني تؤكد أن الدفاع عن المراقد الشيعية في سوريا لم تكن تعدو كونها وسيلة ومبرراً من قبل النظام الإيراني للزج بتلك العناصر للقتال في سوريا.
وبالرغم من الإعلان المتكرر من قِبل النظام الإيراني أن الضباط الإيرانيين المتواجدين في سوريا لا يعدو دورهم كونه مرتبطاً بالجانب الاستشاري، إلا أن ارتفاع عدد القتلى بينهم يظهر أن القتال في الساحة السورية وانتشار تلك العناصر ليسا مرتبطين بمرقد السيدة زينب، وإنما يتعدى ذلك ليصل إلى الهدف الرئيس من التواجد في سوريا وهو ما قاله قاسم سليماني.
لاشك أن النظام الإيراني سيستمر في توظيف المذهب الشيعي لتحقيق طموحاته وتوسعاته في المنطقة، مستغلاً بذلك جوانب أخرى من الفقر والحاجة خاصة بين صفوف اللاجئين الأفغان ناهيك عن مراكزه الدينية والثقافية المتواجدة في عدة دول والتي بموجبها يستطيع تجنيد العناصر والدفع بهم إلى تلك المناطق.
واستغلال لمذهب يقع ضحيته للأسف كل من الشعب الإيراني العريق بتاريخه وحضارته ليصبح ضحية العقوبات الاقتصادية وغيرها مع استمرار هذا النظام في التدخل في شؤون المنطقة ورعايته للإرهاب، وأولئك الذين غُرِر بهم وهم لا يدركون أنهم أول الخاسرين من ذلك التوظيف.
الصراع الدائر في مرحلة الاستعداد لتحرير الموصل لا يشي بأن الولايات المتحدة تمسك جيداً بمسرح العمليات. كانت ولا تزال ترفض مشاركة «الحشد الشعبي». وعولت بداية على موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لم يبد حماسة لمشاركتهم. لكنه تراجع ودعاهم إلى الميدان بعدما نجحت إيران في إخماد الصراع بين قوى التحالف الشيعي، وأعادت لملمة صفوفه. وبعدما كبحت جماح حملة نوري المالكي لإسقاط الوزارة كلها وليس الاكتفاء بإقالة وزير الدفاع والمال. ولم تفلح دعوة واشنطن الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التفاهم مع بغداد لتسوية وجود القوات التركية في بعشيقة. وغسلت أيديها من مشاركة القوات التركية في معركة استعادة ثاني أكبر مدن العراق. ويبدو أن أنقرة لن تتوانى عن الانخراط في الحرب، كما حصل شمال سورية، يوم اندفاعها نحو جرابلس. وهي بالطبع لن تعول على سير العمليات بقدر ما يعنيها المشهد السياسي بعد تحرير المدينة. أي خريطة توزيع القوى التي ستتقاسم «الغنيمة». فهي حريصة على عدم استئثار الميليشيات الشيعية والكردية بجغرافيا محافظة نينوى. تخشى أن يؤدي ذلك إلى تغيير ديموغرافي لا يبقي لها فرصة بناء حضور ونفوذ تعدهما جزءاً لا يتجزأ من فضائها الأمني الوطني. لذلك كرر الرئيس التركي قبل يومين أن بلاده لن تسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» ولا لأي تنظيم آخر بالسيطرة على الموصل.
تركيا مصممة إذاً على المشاركة في تحرير الموصل. وإذا لم تكن هذه في إطار عمليات التحالف الدولي بقيادة أميركا، فإن ثمة خطة «باء» وخطة «جيم» كما أعلنت حكومتها. لم تفصح عن تفاصيل الخطط البديلة. سيبقى غامضاً دور الأتراك في المعركة المقبلة، وكذلك حضورهم في المدينة. تماماً مثلما يظل غامضاً إلى حد ما تفاهمهم مع الروس في شأن سورية وشمالها ومدينة حلب خصوصاً. ولكن يرجح أن يكرروا ما حصل في شمال سورية: الاعتماد على قوات خاصة تتقدمها قوات من أبناء محافظة نينوى بقيادة أثيل النجيفي، المحافظ السابق للموصل، أشرفت وحدات تركية على تدريبها وتمويلها، لتشكل رأس حربة على رغم معارضة بغداد مشاركة هذه القوة المحلية. لذلك ثمة مبالغة في اعتبار حدة الخطاب السياسي للرئيس أردوغان في مواجهة حكومة بغداد، مجرد سلعة استهلاكية موجهة إلى الداخل التركي. لعله جزء من الاستعداد لمرحلة ما بعد تحرير الموصل. إذ لا يمكن أن تجازف أنقرة بإخراجها من العراق، سواء عبر علاقاتها المتينة مع رئيس الإقليم الكردي مسعود بارزاني وحزبه الديموقراطي الكردستاني، أو مع قوى سنية واسعة. إن هذا التصميم الذي تعبر عنه تصريحات كبار المسؤولين الأتراك دافعه إذاً إصرارهم على دور لبلادهم في الأزمة الدولية المتعاظمة حول سورية والمنطقة عموماً، من أجل أن تكون لها حصة في الإقليم حين يأتي زمن الصفقة الكبرى أياً كان شكلها ومآل بلدان الإقليم. ولا شك في أن تفاهمهم مع الروس يثمر بخلاف ما عدّوه «خيانة» غربية، أو تقاعساً سواء من أوروبا أو الولايات المتحدة أثناء المحاولة الإنقلابية وبعدها.
ولا يبدو أن إيران بعيدة عن التفاهم الروسي - التركي، وإن كانت تشعر بأنه يقتطع من طريق نفوذها في كل من سورية والعراق. وهو ما يخشى أن يتفاقم بعد تحرير الموصل إذا اشتعلت بين الميليشيات الشيعية والقوى السنية والتركية في المدينة والمحافظة كلها بعد انتهاء المعركة. ذلك أن طهران حريصة على إبعاد أي نفوذ لأنقرة عن بلاد المشرق. ولا ترغب في أن تقيم شريط نفوذ واسعاً يمتد من الموصل وأجزاء واسعة من كردستان إلى شمال سورية وريف حلب، يسهل لها ضبط طموحات الكرد. علماً أن بغداد ومن خلفها الجمهورية الإسلامية، تدعمان حزب العمال الكردستاني الذي اندفع إلى مناطق سنجار تحت شعار الدفاع عن الإيزيديين. كما أن طهران تحرص على عدم قيام إقليم سني في المحافظات الشمالية والغربية يلقى دعماً عربياً ويشكل تهديداً لنفوذها في بلاد الرافدين وحاجزاً يعيق سعيها إلى إقامة هلال واسع يربطها براً بدول «الهلال الخصيب» حتى شاطئ المتوسط.
لا شك في أن المشاركة المرتقبة لتركيا في معركة الموصل ستساهم في مزيد من خلط الأوراق. تماماً كما حصل إثر تدخلها المستمر شمال سورية. عرفت حكومة بن علي يلدريم كيف تعيد تموضعها في خضم الصـــراع الحاد بين الكبار والذي بات جزءاً أساسياً من الأزمة. انحازت إلى معسكر روسيا التي يبدو أنها غلّبت المســـار العسكري على الديبلوماسي في اشتباكــــها الواضح مع الولايـــات المتحدة والغرب عموماً. هكذا فعلت في أوكرانيا وقبلها فـــي جورجيا حيـــث فرضت وقائع جديـــدة تثقل على الاتحاد الأوروبي وعلى جمهوريات البلطيق. بينما كانت إدارة الرئيس باراك أوباما ولا تزال تغلب السعي الديبلوماسي مع الكرملين لعله ينتهي إلى تفاهم يوقف الحرب في سورية ويساهم في تدمير «دولة أبي بكر البغدادي» سريعاً، وينهي الفوضى في الشرق الأوسط انطلاقاً من سورية، ويمهد لبحث مشترك في نظام جديد للإقليم. لكن موسكو عبّرت وتعبّر كل يوم عن سعي إلى الاستئثار برسم هذا النظام. لذلك فشلت المحادثات بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف. ولذلك تأخرت معركة تحرير الرقة. ذلك أن القوى الكردية التي راهنت عليها واشنطن منيت بخسائر بشرية فادحة في تحرير منبج. وجاء دفع تركيا قوات إلى جرابلس ورسمها خطوطاً حمراً للانتشار الكردي ليساهما في خسائر «حزب الاتحاد الكردي» وميليشياه «وحدات حماية الشعب»، وليعقدا الحرب على الإرهاب، وكذلك التفاهم على تسوية أو هدنة لوقف القتال.
سقطت وتسقط كل الخطوط الحمر التي رفعتها الإدارة الأميركية في كل من سورية والعراق من دون أي تحرك فعال سوى الإصرار على سكة ديبلوماسية انتهت وتنتهي برفع الآخرين خطوطاً حمراً يصعب المجازفة بتجاوزها. هكذا حذر الكرملين من توجيه أي ضربة إلى قوات النظام السوري لأنه يعد ذلك ضرباً لقواته. وهكذا لحقت به أنقرة التي ترفع هنا وهناك خطوطاً حمراً بوجه الكرد، خصوصاً حزب العمال والمرتبطين به وبسياسته. وكذلك تفعل إيران التي تتشدد في التمسك بالنظام السوري ورأسه وبدورها في حروب المشرق تحت شعارات وشعارات. لذلك لم يسقط الحل السياسي فحسب أمام مصالح المنخرطين في الصراع بل سقط الرهان على تفاهم الكبار منطلقاً لتسوية أزمات الإقليم. صار الرهان على فك الاشتباك بين الكبار، بين روسيا وأميركا الحائرة بحثاً عن سبل لمنع استئثار غريمتها برسم النظام في الشرق الأوسط بعدما باتت هذه تمسك بالورقة السورية كلها تقريباً، وتتقدم نحو استعادة ما كان للسوفيات في المنطقة، في مصر وأماكن أخرى... فضلاً عن تحييدها تركيا وإن لم تضمن بقاء هذه إلى جانبها في نهاية المطاف! انكسر ميزان القوى العسكري في سورية، أو في الطريق، لذا يستحيل إرساء حل سياسي. وقد يحدث الشيء نفسه في العراق بعد تحرير الموصل.
نجحت روسيا حتى الآن حيث أخفقت أميركا. حالت دون اندلاع حرب مفتوحة بين حليفيها اللدودين اليوم، إيران وتركيا سواء في سورية أو العراق، على رغم أن الدولتين تتصارعان على تركة عربية وازنة. نجحت في استدامة حوار مع الدول العربية على رغم تعارض مواقفها مع كثير من هذه الدول بخصوص العلاقة مع الجمهورية الإسلامية ومع نظام الرئيس بشار الأسد. في حين لم تستطع المقاربات المزدوجة لواشنطن في وقف الفوضى في الإقليم. لم تنجح في إقامة نوع من التوازن في العلاقات بما يسمح بتحريك الديبلوماسية. لم تنجح في تبديد العداء بين إيران والمملكة العربية السعودية وعدد من أشقائها. ولم تنجح في إعادة ما انكسر بين حكومة حزب العدالة والتنمية التركي وحزب العمال، وبينها وبين وحدات حماية الشعب. فيكف لها غداً أن تقيم توازناً بين كل القوى المتصارعة على الموصل قبل تحريرها؟ ظلت تتمسك بشعار «ماذا عن اليوم التالي؟» لئلا تنزلق إلى الساحة السورية. وهي بالتأكيد لا تضمن ماذا سيحل بهذا اليوم بعد تحرير ثاني كبرى مدن العراق. بينما تنهج روسيا سياسة تعرف بموجبها ما عليها فعله في المقبل من الأيام.
هل بلغ أسماعَ السوريين في شرقي حلب المحاصرين، والذين يتعايشون مع النكبة الحادثة بين ظهرانيهم، وهم في مرمى الصواريخ العمياء والبراميل المتفجرة والنيران المليشاوية، قول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إن الاجتماع الذي انعقد بطلبٍ منه، لبحث الحالة السورية، في فندق (قصر) بوريفاج، البالغ الفخامة، في لوزان "كان صريحاً وشهد بعض التوّتر"؟ هل في وسع الواحد منهم، مثلا، أن يتخيّل أيَّ جنسٍ من التوتر زاوله المجتمعون هناك، وهم يرفلون بفائضٍ من الوداعة بين تلال خضراء، ولا تُصادف عيونهم، إذا ما تفرّجت من الشرفات والنوافذ هناك، سوى حدائق بديعة، وفضاء يشيع هناءة البال؟.
أراد كيري تبادلاً للأفكار بين وزراء استحسن، أولاً، أن يكونوا أضيقَ عدداً، غير أن القرار ليس له تماماً في هذا الأمر (وغيره) فأُلحق آخرون، ثم انعقد الاجتماع، وعلى هامشِه كانت لقاءات ومشاورات، غير أن ذلك كله لم يكن إلا لاستعراض الآراء والاجتهادات، وكأن السادة الوزراء، وبينهم كيري وزميله الوزير الروسي سيرغي لافروف، تداعوا إلى المدينة السويسرية الباذخة للتعرّف بشكلٍ أفضل على ما لديهم من رؤىً وتصورات، في ورشة نقاشٍ ليس أكثر، أما "بعض التوتر" الذي جرى، كما أوجز الوزير الأميركي، فبدا تنويعاً من لوازم الصراحة التي قال إنها مورست هناك.
لم يكن ثمّة ما يستدعي حضور سوريين هذا النقاش الحر الذي في وسع الواحد منا أن يستشعر صفته الأقرب إلى دردشاتٍ مفتوحة. لا لزوم لهؤلاء، معارضين أو غير معارضين، أو بين بين. لا صلة للسوريين بالأمر، وكانوا قد أَخذوا فرصتهم في التحاور والتفاوض، غير المباشر، غير مرة، في جنيف غير البعيدة عن لوزان. وإذ لم ينجم عن تلك الصراحة وبعض التوتر ذاك، في مناقشات قصر بوريفاج، غير اتفاق المنتدين على مواصلة الاتصالات بين من يمكنهم التواصل بين بعضهم، فإن ذلك ينذر بأن ورشة حوارٍ شبيهةً قد تنعقد تالياً، في المكان المترَف نفسه أو في غيره. والمعلوم أن كل مداولات الورشات الحوارية في فيينا وبرلين ولندن وميونخ وجنيف، أمثلة، لم تُزحزح عنصراً من الحرس الثوري الإيراني من مطرحه في الغوطة أو في أطراف حلب، ولم تمنع صاروخاً روسياً أو برميلاً متفجراً أسدياً عن وجهته في أي موضع في سورية.
ليست ندوة لوزان، إذن، غير وصلة حوار بين ما سبقها وما سيليها. ولكن، من دون أن يكون لأيّ من هذه الندوات أي صلة بالحادث في الأجواء والمياه والأراضي السورية، ومن جديده أن حاملة الطائرات الروسية "أميرال كوزنتسوف"، السوفييتية التاريخ، مع سفنٍ حربيةٍ وسفن أخرى ضخمة مضادّة للغواصات، كانت تتقاطر إلى المياه السورية. لا لنقل 900 محارب من "فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً) يقال إنهم في داخل حلب (العدد يتناقص في تقديراتٍ أخرى) إلى مطرح آخر في سورية (هل هو إدلب؟)، وإنما لتعزيز روسيا وصورتها بلداً غير الذي كان يُرمى بالتنكيت عليه، إبّان رئاسة بوريس يلتسين مثلاً. هناك الفيتو في مجلس الأمن في نيويورك، وهنا، في حميميم وطرطوس واللاذقية البوارج والعتاد لحربٍ موضعية راهنة، ولغيرها مما قد يستجدّ في المشرق العربي المنتهك، وفي غيره إن لزم الحال.
ما الذي أضافه منتدى لندن في الشأن السوري، أمس، بين وزراء أوروبيين وعرب، وبمشاركة جون كيري، على ما تم تداوله في منتدى لوزان؟ لا يستثير سؤالٌ مثل هذا رغبةً بالبحث عن إجابةٍ عليه. هي متواليةٌ من اجتماعاتٍ لا تتوقف، وبضاعةٌ من الكلام الذي لا طائل منه، تتوزع في الأثناء. أما انتظار حلّ للاستعصاء السوري، وضمن أيّ أفقٍ، من هذه الاجتماعات، فلا يتبدّى أنه في محله، فالصراع الماثل في حلب وشقيقاتها في جغرافيا المحنة السورية ليس من الطراز الذي تأخذه اجتماعاتٌ كهذه، في لوزان ولندن وغيرهما، إلى أي حلٍّ منظور. .. سورية موضوعٌ عويصٌ جداً، تبدأ أولى خيوط حله بمفاجأة غير ميسورة التوقع، وإلى أن تحدُث، ثمّة تهديم وتحطيم وتمويت كثير.
أيّام طويلة مّرت على هذه الثورة يتصارع فيها "النظام السوريّ" مع "المعارضة" : من يمثِّل الشعب ..؟
وفي حين يستميت النظام ، ويدفع بكلّ ثِقله إلى اعتبار أنّه هو فقط "الدولة" التي تمثِّل الشعب (الواقف على الحياد) يدعمه أنصاره "القسم الثاني من الشعب" ويستبيح كلَّ ما لدى القسم الثالث (الحاضن للثورة) لدرجة أنّه يعتبرهم ليسوا بشراً ليستحقّوا الحياة ..
في هذه الأثناء يقوم الثوّار ومن وراءهم بمحاولات يدفعون ثمنها أرواحهم ودماءهم ليقولوا للعالم : نحن نمثِّل الشعب ، والصامتون الخائفون ينتظرون من يزيل عنهم الطغيان ليتنفسوا الصّعداء ويعيشوا بكرامتهم وحريّتهم .
أهم مظهر من مظاهر هذا الصراع يتجلى في مناطق بسط السيطرة والنفوذ ، فالثوار عندما يحررون منطقة ، ويخرجونها من تحت سيطرة النظام يسارعون إلى المؤسسات الهامة لدى النظام فيرفعوا عليها علم الثورة ويحطموا أي أثر لطغيان هذا النظام وظلمه وبطشه .
يعجز الثوّار في لحظات التحرير الأولى أن تكون ردات فعلهم متوازنة فتكثر العفويات ومعها تكثر الأخطاء .
ويعجزون أيضاً في أيام التحرير الأولى عن رص صفوفهم ، وبسط الأمن والأمان وإعادة حياة الدولة من جديد إلى تلك المناطق ، ويأخذ ذلك وقتاً يكون فيه المواطن يتساءل عن أمنه وأمانه ومعيشته وحقوقه : متى يحصل عليها .
ومن أهمّ ما يحصل في تلك الفترة قضيّة هامّة تبرز للمواطنين الذين يبقون أنفسهم على مسافة من الثوار قبل أخذ قرارهم بالرضى أو عدم الرضى بهذا التحرير ، وهي : هل ستعود الحياة مستقرة ؟!
في الطرف الآخر يلعب النظام على هذا الوتر فيعتبر كل أرض خارجة عن سيطرته هدفاً مشروعاً لقذائفه وصواريخه وبراميله المتفجرة بمن فيها من نساء وأطفال وبنة تحتية ..!
وهو الذي كان يستميت في الدفاع عنها ويتغنى بأمان الناس فيها قبيل أيام .
ويصوّر النظام السوري بإعلامه وإعلامه الرديف الفروقات في الحياة بين المناطق التي تحت سيطرته والمناطق التي تحت سيطرة الثوار ، ويستثني نفسه من المعادلة حين يضع اللائمة على الثوار الذين أدخلوا المدن في الصراع وجعلوا المدنيين هدفاً مشروعاً لحرب لا تعرف المحاباة والرحمة..!
وتصبح كلّ المناطق المحرّرة أقلّ أمناً مما كانت عليه ، لاسيّما أن الثوّار يتورعون عن استهداف تلك المناطق ويحصرون معركتهم على الجبهات فقط تحت ضغط المبادئ والأخلاقيات والإيمانيات والشعارات التي يرفعوها ..
ورغم محاولات الثوّار بسط نفوذ الدّولة على هذه المناطق إلا أن هذا النفوذ يبدوا ضعيفاً مشتتاً ، غير مقنع للنّاس ..
فكلّ قرية هنالك فصيل عسكريّ يسيطر عليها ، وبالتالي فإنّ شؤون الحياة فيها تتعلّق بالفصيل وأجندته وسياسته في التعامل .
ويصبح القضاء والعدل محصوراً بأيديولوجيا الفصيل ، فتختلف المسألة من قرية لقرية ، أو من مدينة لمدينة ، ولربما في المدينة الواحدة تجد محكمتين ، كلّ محكمة تتبع لفصيل ، وعدّة سجون كلّ سجن له قضاءه الخاصّ به .
ورغم محاولات الثوار القيام بمحاكم مدنية ، وقضاء مشترك ، وسجن واحد ، وحصر القضايا بالمكاتب القضائية أو حتى الشرعيّة ، إلا أن هذا لم يثمر بشكل حقيقيّ ، وما تزال المحاولات هذه بحاجة جديّة أكثر وإيمان أكبر بالشعب والناس ، وتنازلات حقيقيّة من قبل القادة لتصبح واقعاً يلمس الناس أثره بأنفسهم.
بالمقابل أيضاً : نجد النظام عندما يحتل منطقة ، أو يهادن ثوّارها أو أهلها ، أوّل ما يقوم به هو تأهيل البنى التحتيّة وفتح مؤسسات ودوائر الدولة ، ويصوِّر الحياة فيها تعود بشكل تدريجيّ مستفيداً من عمق دولته ، وحفاظه -في أصعب الحالات التي مرَّ بها والهزَّات التي تعرَّض لها- على مؤسسات الدولة بكوادرها وبنيتها ، ولم يقم يوماً بقطع رواتب موظفيه في أحلك الظروف ولو كانوا يقيمون في المناطق المحررة (المعادية بالنسبة له) وبالتالي ساعده ذلك بالظهور أمام الناس بمظهر القوة ، ومظهر "الدولة" التي تقوم على شؤون الناس وترعى خدماتهم ، ويرى فيها النّاس صورة النظام المتماسك ذو الهيكليّة الإدارية المعروفة ، والمؤسسات المنظّمة ، وبالتالي يشعر بأمانه الشخصيّ ، بل ويستفيد من ذلك على الصعيد الشخصي والمادي والنفسي.
ورغم أن الثوار وحاضنتهم استفادوا كثيراً من حفاظ النظام على مؤسَّساته ، واستغلّوا ذلك في الكثير من الأحيان ، إلا أنه لم يخرق مؤسسة ولم يكسر قواعده ولم يتنازل عن "الحكومة" ، و"الدّولة" ككيانات ترعى مصالح الناس .
الخلاصة أن أربعين سنة أو أكثر من عمر النظام السوري الشموليّ ليس من السهل إسقاطه بدون التفكير بنفس المنطق الذي يفكّر فيه ..
وليس من السهل إعادة كرامة المواطن ، وحريته ، ورفع الظلم والاستبداد دون العمل جدّيَّاً بمنطق "الدولة" بمؤسساتيّة لا بثورّية ، وبمنطق خدمة الناس لا المنِّ عليهم ، وبفكر تحرير النّاس لا ُحكم الناس ، وبإعادة العدل لا بتغيير الحاكم ..
فإن عجزت المعارضة السياسيّة في الخارج الحصول على تمثيل ديبلوماسي، ولو لمسألة خدمات الناس بتجديد وإصدار الجوازات والوثائق ..
وعجزت الحكومة المؤقتة عن القيام بشؤون الناس خدمياً في الداخل، ولو مجرد إصدار الشهادات الثانوية للطلاب لدخول الجامعة ..
وعجز الثوّار عن حماية المناطق بعد تحريرها .. والاتفاق على إدارات مدنيّة موحّدة بقانون موحد ..
فكيف يمكن أن يقتنع الناس أن النتيجة لن تكون كما وعد "بشار الأسد" الناس : أنا أو الفوضى ..؟؟
إذا أردت أن تتعرف على أعداء أمريكا الحقيقيين فيجب أن تنظر إلى صورتهم في أفلام السينما الأمريكية، فمن عادة السينما الأمريكية أن تشيطن الأعداء وتحتفل بالحلفاء في أفلامها الهوليودية. ومن المعلوم أن «هوليوود» هي أقوى سلاح إعلامي في أيدي المؤسسة الحاكمة في أمريكا منذ عقود وعقود، فهي ليست أبداً شركة ترفيهية تجارية ربحية كما تروج لنفسها، بل هي الذراع الإعلامي الفني الأخطر للولايات المتحدة. وقد لعبت الشركة على مدى تاريخها أدوراً رهيبة في شيطنة أعداء أمريكا وخاصة أيام الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي.
وقد نجحت هوليوود في إقناع الغالبية العظمى من الأمريكيين والغربيين عموماً بأن روسيا الشيوعية شيطان رجيم يجب على الغرب أن يفعل كل ما بوسعه لإسقاطها بكل السبل والوسائل. وقد كانت هوليوود تصور الشيوعيين في أفلامها على أنهم أسوأ رموز الشر في العالم.
ولا ننسى كيف عمل السيناتور الأمريكي الشهير جوزيف مكارثي على ملاحقة أي مشتبه يتعاطف مع الشيوعيين في أمريكا، ولم يسلم من المكارثية حتى الممثل البريطاني الشهير تشارلي تشابلن وقتها. وقد سخر بعض الأدباء الأمريكيين كالمسرحي الراحل آرثر ميلر من ذلك الهوس الأمريكي بملاحقة المتعاطفين مع الشيوعيين من خلال مسرحيته الشهيرة «البوتقة» التي تناولت ما أسماه «صيد الساحرات» كناية عن الشيوعيين وأتباعهم. باختصار شديد، فقد كانت شركة هوليوود الأمريكية رأس الحربة في الحرب الإعلامية الأمريكية ضد الاتحاد السوفياتي.
كيف نصدق الآن إذاً أن أمريكا دخلت في صراع جديد مع روسيا إذا ما علمنا أن هوليود بدأت تعد العدة الآن لإنتاج فيلم كبير عن حياة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما يكون من بطولة الممثل الهوليوودي الشهير ليوناردو كابريو بطل الفيلم العالمي «تايتانك». إن الحديث عن وجود صراع روسي أمريكي ينذر بحرب عالمية ثالثة انطلاقاً من الساحة السورية لا يستقيم أبداً مع التوجه الهوليوودي الجديد للاحتفال بالرئيس الروسي سينمائياً، ولا يستقيم أبداً مع لغة الغزل التي يستخدمها مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب مع بوتين، فقد صرح المرشح أكثر من مرة بأنه معجب بشخصية الرئيس الروسي ويتطلع إلى التعامل معه فيما لو فاز في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة.
لو كانت أمريكا قد دخلت فعلاً في حرب باردة جديدة مع روسيا كما يشيع بعض أبواق المماتعة والمقاولة، لكانت هوليوود أول من بدأ بشيطنة روسيا ورموزها الجدد، ولما كان قد التقى الممثل الأمريكي الشهير دي كابريو الرئيس الروسي ليعبر عن رغبته في تجسيد شخصيته في الفيلم الهوليوودي الجديد.
وفي تعليق لصحيفة Welt am Sonntag الألمانية قال دي كابريو، «إني مستعد وبكل ترحيب للعب دور الرئيس بوتين في أي عمل فني، فذلك سيكون ممتعاً جداً بالنسبة لي!». وأعاد دي كابريو إلى الأذهان أنه كان قد حظي بشرف لقاء بوتين شخصياً في مدينة سانت بطرسبورغ خلال فعاليات منتدى إنقاذ نمور سيبيريا قبل بضع سنوات. وبحسب وكالة الأنباء «نوفوستي»، وفي معرض التعليق على روسيا وانطباعاته عنها، جدد دي كابريو التأكيد على إعجابه الشديد بها. وختم بالقول، إن «لعب دور الزعماء الروس مثل لينين وراسبوتين، من شأنه أن يكون ممتعاً للغاية، وأرى أنه ينبغي تصوير كم أكبر من الأفلام التي تحكي تاريخ روسيا.
هذا وقد أعلنت إحدى شركات صناعة السينما العالمية لتصوير فيلم «بوتين» ومن المنتظر أن تبدأ شركة «كنايتس بريدج انترتيمنت» للصناعة السينمائية قريباً، بتصوير فيلم روائي بطله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم تعلن الشركة التي يقع مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، اسم الممثل الذي سيقوم بدور البطولة في هذا الفيلم، مشيرة إلى أن هنالك 4 مرشحين كل منهم يتمتع بنجومية من الدرجة الأولى في العالم للعب دور بوتين في فيلم ينتجه مخرج يحوز على جائزتي «أوسكار».
ولا ننسى أيضاً أن المخرج الأمريكي ذائع الصيت أوليفر ستون قد أخرج فيلماً وثائقياً عن فلاديمير بوتين. وصرح المخرج الروسي إيغور لوباتيونوك الذي ساعد أوليفر ستون على إنتاج وإخراج فيلم «سنودن»، لـ»سبوتنيك»، أنه لا بد أن يستأثر الفيلم الذي أخرجه أوليفر ستون باهتمام الجمهور وخاصة الجمهور الأمريكي. وكان أوليفر ستون أعلن منذ عامين نيته لتصوير فيلم وثائقي عن الرئيس الروسي، لكي يعرض للأمريكيين وجهة نظر مغايرة حيال أهم أحداث العالم.
عندما توافق هوليوود ومثيلاتها الأمريكية على الاحتفال بالرئيس الروسي سينمائياً، يجب أن نفهم أن الروس والأمريكيين باتوا حلفاء يتقاسمون منطقتنا وخاصة سوريا بمحبة ووئام. لا عجب إذاً أن بوتين كان أيضاً شخصية العام 2015 في إسرئيل.
كيف نصدق إذاً أن أمريكا وروسيا أعداء في سوريا ويمكن أن تدخلا في حرب عالمية ثالثة إذا كان ممثلو هوليود يتسابقون على تجسيد شخصية بوتين، وإذا كانت إسرائيل تعتبر الرئيس الروسي أفضل حليف لها في تاريخ روسيا؟
بصراحة، ملّ السوريون كلمات التعاطف الإنشائية معهم التي تصدر عن أميركا: القوة التي تستطيع وقف العدوان المتعدد الجنسيات عليهم، لكنها تحجم عن ذلك، وتستمتع بمتابعة مآساتهم. كما ملّ السوريون عواطف الأمم المتحدة: الجهة المؤثرة التي تعطل مدوّناتها القانونية، وتمتنع عن تفعيلها، والتي يمكن أن تحدث تبدلاً جدياً حيال القضية السورية، يطال مواقف دولٍ كثيرة، والرأي العام العالمي، أو تخلق بيئة سياسية/ إنسانية تنصفهم وتتفهم تطلعاتهم، وخصوصاً أنها تتفق أشد الاتفاق مع العهود والمواثيق الدولية المعتمدة من منظماتها الشرعية. لكن المؤسسة الدولية، المرجعية القيمة، اكتفت دوماً بالتعبير عن الأسف والحزن والقلق والرعب والاستنكار والاشمئزاز والقرف والألم، مما يستهدف السوريات والسوريين من أسلحة تفتك بمئات منهم يومياً.
ليس من اللائق أن نغلظ القول لرجل طيب غادر منصبه من يومين، هو بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي قيل يوماً إنه يتلقى راتباً ضخما (حوالي 45 ألف دولار) ليدير أسطوانة كلامية مملة عن حزنه واستنكاره المجزرة المنظمة التي تعصف بوجود شعٍبٍ اكتشف وزير دولة كبرى، أخيراً، أنه من صناع الحضارة البشرية، وليس داعشيا أو قاعدياً، ليستحق ما ينزل به من إبادة وتدمير.
قد يقول قائل: وماذا في وسع أمين عام الأمم المتحدة أن يفعل، إذا كان القرار الدولي ليس بيده؟ هذا القول صحيح في ما يتعلق بالقرارات الدولية التي تتخذها القوى الكبرى، لكنه ليس صحيحاً بالنسبة لطرق التأثيرعليها التي في حوزته، وللمداخل المتنوعة لتفعيلها حتى ضد هذه القوى، كأن يقرّر، مثلاً، زيارة منطقة داريا أمس، أو حلب أو دوما، أو أحد مخيمات اللاجئين في لبنان اليوم والأردن غدا، حيث تضفي زيارته طزاجةً إنسانيةً وفاعليةً سياسيةً حقيقية على كلماته، بعد أن أفرغها تكرارها البارد عن بعد من معناها، وجعلها تبدو كأنها صادرة عن شخص عاجز، تشبه مواقفه مواقف أي شخص "ينقّ"، لأنه عاطل عن العمل، أو لا يملك موارد يعيل أطفاله بواسطتها، لا خيار لديه غير البكاء والشكوى واستعطاف الآخرين.
وفي حالتنا السورية، فشل بكاء بان كي مون على شعبنا في رد الأذى عنه، وعجز، في حالات داريا والمعضمية وحلب ودوما والزبداني ومضايا... إلخ، عن إيصال كيس طحين واحد إلى جياعٍ يواجهون الموت، فهل يجوز أن تفوت رؤية هذه القضية الخطيرة رجلا في موقعه، وأن لا تحرك لديه غير لسانه، بدل أن يراها انطلاقا من حسّه الإنساني الذي كان سيدفعه إلى تبني خياراتٍ يصعب على المجتمع الدولي رفضها أو التعامل معها بدم بارد، كأنها لا تعنيه.
لا بد من القول بصراحة للأمين العام الجديد، السيد المحترم جداً غويتريس، إنه من غير المقبول أن يتصرف، وهو مسؤول دولي يحتل أعلى موقع في تراتبية العالم السياسية، وكأنه بكّاء عاجز عن مد يد العون لمن يبكي عليهم، لأن سلوكه هذا سيضر بمؤسسته، وسيقدم انطباعاً سلبياً عنها يسيء إلى دورها في الأحداث الدولية، وإلى قيمتها بالنسبة للنظام الدولي والبشرية عموماً، فضلا عن أنه يخالف الأسس التي قامت عليها، وتلزمها بالعمل لوقف العدوان أسلوباً لحل المشكلات التي يواجهها العالم، وخصوصاً ذلك النمط من العدوان الذي يلحق ضرراً جسيما بالشعوب، كما هو العدوان الأسدي على الشعب السوري.
غادر بان كي مون موقعه قبل يومين. أليس من حقنا مطالبته بخطاب وداعيٍّ، يكشف فيه الاسباب التي حالت دون نجاح الأمم المتحدة في وقف مذابح النظام الأسدي ضد شعبٍ ينشد الحرية، وإزاحتها جانباً كي لا تقوم بواجبها في وقف أخطر كارثةٍ، وقعت خلال العقود السبعة الأخيرة؟. أرجو أن يلبي كي مون هذا المطلب المحقّ، لكي يترك بصمته على التاريخ، ولا يطويه النسيان؟
تعاطت السياسة الأميركية مع الحدث السوري من زاوية رفض الانحياز الكامل لأحد طرفي الصراع، ورفض الحل العسكري بالكامل، وأن الممكن الوحيد في سورية هو الحل السياسي، بما يمثل طرفي الصراع. تعقّدَ الصراع نفسه بفعل التحالفات الإقليمية والدولية التي أقامها كل من طرفيه، فالنظام استعان بإيران وأدواتها من لبنان والعراق وأفغانستان وسواها، واستعانت المعارضة بدولٍ إقليمية ودولية ممسوكة أميركياً، وكان من جرّاء ذلك تصفية الثورة السلمية والانتقال إلى العسكرة والسلفية، وانتقال النظام من القمع إلى الدمار والقتل، وأدى هذا إلى تفكّك قوى النظام القمعية نفسها، وكذلك تفكّك الفصائل الوطنية السورية، وأصبحت سورية بعد ذلك محكومةً بدويلات، تبدأ من دويلة النظام، ولا تنتهي بـ "داعش".
تطورت الأحداث وطال أمدها، وذلك لم يمنع الأميركان من التنسيق المستمر مع الروس، من أجل إدارة الصراع في سورية. الإشكالية هنا أن الأميركان أرادوا تمكين روسيا في سورية، كما حال موقفهم الضعيف منها في أوكرانيا وجورجيا. وهذا يأتي في سياق صراع دولي بين الصين وأميركا التي تبتغي من ورائه جذب روسيا إليها، أو تحييدها في ذلك الصراع. توضح هامشية العقوبات المفروضة على روسيا أو المواقف "الباردة" ضدها ذلك. ويتجاوز الموقف الأميركي إزاء سورية الدور السلبي للرئيس أوباما في الانسحاب من العراق وأفغانستان، فهو موقفٌ ينطلق من مصالح عالمية متخوفة من الصين بالتحديد. تعلم المافيا الروسية الحاكمة القامعة للداخل الروسي، والراغبة بدور دولي، جيداً الصراع الدولي بين الصين وأميركا، وتتحرّك في هذا الإطار؛ هذا السياق هو ما شجع روسيا على الإمعان في البلطجة في سورية، والتي انتقلت من تدخل عسكريٍّ جويٍّ في 29 سبتمبر/ أيلول 2015، إلى رفده بقواتٍ بريةٍ محدودة في سبتمبر/ أيلول 2016، والرد على ضربة القوات الأميركية للجيش السوري بقصف شاحنات المساعدات الدولية للأحياء المحاصرة في حلب، وإيقاف الهدنة المعلنة، أخيراً، بين أميركا وروسيا، في إطار التنسيق بين الدولتين. الرد الروسي العنيف وإعلان النظام السوري إيقاف الهدنة جعلا الموقف الأميركي في أسوأ حالاته، ففي هذا استهانة كاملة بالأميركان، وهذا ما دفع أميركا إلى تعليق التنسيق مع روسيا، وكان هذا بتشجيع كبير من دوائر الجيش والاستخبارات الأميركية للقيادة، وبضغط دولي من الدول الأوروبية بالتحديد.
ترافق إيقاف التنسيق مع تصريحات أميركية عديدة ضد السياسة الروسية في سورية، منها أن كل الخيارات ضد النظام السوري ممكنة، بما فيه الخيار العسكري كضربات محدودة. وما زال الخيار الأخير ملتبساً والكلام حوله غير دقيق؛ المهم هنا أنه، ولأول مرة، يتم إيقاف التنسيق مع روسيا، بينما كانت الخلافات المستمرة في إدارة الملف السوري تُحل بالتفاوض المباشر بين وزيري خارجية الدولتين، أو رئيسيها. الموقف جديد كلياً. ولكن، هل هناك فعلاً تغيير ممكن في السياسة الأميركية إزاء الوضع السوري؟
تفيد متابعة السياسة الأميركية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية بأن لا تغيير كبيراً ممكن في سورية. تضع أميركا سياساتها وفقاً للأخطار الدولية والهيمنة الدولية على العالم، والخطر الحقيقي ما زال هو نفسه، أي الصين، لكن ذلك لا يعني السماح "ببلطجة" عالمية كبيرة لأية دولة، ولو كانت روسيا، فسورية مُقادة، ومنذ تدخل الأميركان في الائتلاف الدولي ضد "داعش" من أميركا وروسيا بشكل عسكري، يأتي عدم رفض أميركا التدخل الروسي في هذا السياق، فروسيا أكّدت أن الحل في سورية سياسي، وليس عسكرياً، وأنها قادمة لمواجهة التنظيمات الجهادية. الإشكال الجديد أن ما تفعله روسيا في مدينة حلب يقول بمحاولتها اجتياح المدينة، وهو ما دأب النظام السوري على تكراره. هذا يعني استخفافاً كاملاً بالتنسيق الدولي بخصوص سورية، وضرباً لكل العلاقات الأميركية مع دول المنطقة؛ فلكل هذه الدول مصالح في سورية الآن، ومن غير المسموح به أن تتفرّد روسيا بسورية، وهذا لا يتعارض مع تمكين أميركا لروسيا في سورية.
إذاً هناك تجاوزات كبيرة للروس، ولا بد من وضع حد لها، وإعادتهم إلى الصواب، أي إلى الحل السياسي؛ طبعاً الانتخابات الأميركية تلعب دوراً في ذلك، فمن غير المسموح به أن تتهمَّش أميركا أكثر فأكثر في اللعبة السورية، وربما إيقاف التدهور في المواقف الأميركية، وعدم تسليم الإدارة المقبلة اتفاقاً سياسياً ودولياً "مذلاً" يعطي لروسيا الحق شبه الكامل في التصرّف بمستقبل سورية.
من أكبر الأوهام الاعتقاد أن أميركا ستدخل حرباً ضد روسيا في سورية، أو أن الحل العسكري سيُعتمد خياراً أميركياً، وسيتم دعم الفصائل على الأرض، فأميركا ستقوم بتحركاتٍ جديدة بالتأكيد، وستعمل على إيقاف الانفلات الكبير للروس في حلب، وقد توجه ضرباتٍ محدودةً لبعض مواقع النظام، ولن تمنعها التصريحات الروسية، أخيراً، عن أن جنوداً روساً أصبحوا في الجبهات كافة مع الجيش السوري، فالضغط الدولي وحجم الهمجية الروسية المنفلتة والاستخفاف الكبير بالدور الأميركي في سورية تشكل ضاغطاً حقيقياً لإيقاف تلك العربدة، وليس من شيء آخر.
الحجة الروسية بضرورة خروج جبهة فتح الشام من حلب لإيقاف الحرب، وأن تنفذ أميركا تعهداتها بالضغط على الفصائل المحلية، للانفكاك عن "فتح الشام" هناك، حجة تُعطي تبريراً للأميركان المترددين ليخففوا من موقفهم الجديد المحتمل، لكنها حجة كاذبة، كما يعرف الأميركان جيداً، ففتح الشام ستتراجع مواقعها في سورية حينما يحصل توافق حقيقي على الحل السياسي، وتثق المعارضة بذلك، وهو ما سيُباعد بين الفصائل والجهاديين بالعموم.
إذاً لن يكون هناك مواقف جديدة للأميركان، والممكن الوحيد تصعيد جزئي ضد روسيا وبعض مواقع الجيش السوري، لتعود إلى جادّة الصواب، وأن وجودها في سورية هو بموافقة أميركية، وليس تعبيراً عن هيمنة روسية عالمية، وقادرة على فرض شروطها بقوتها دولة عالمية.
لم تكن صدفة أن يسخر بشار الأسد من فريق الدفاع المدني السوري، المعروف أعضاؤه بذوي الخوذ البيضاء، عشية ترشيحهم لجائزة نوبل للسلام، واحتمال حصولهم عليها، وذلك في معرض إجابته عن أسئلة مقابلة صحافية أجرتها معه
وكالة «أسوشييتد برس»، في سبتمبر (أيلول) 2016، مبديًا اعتراضه على ترشحهم، منكرًا أهمية ما يقومون به من أعمال لإنقاذ السوريين من تحت أنقاض تسببها طائراته وطائرات حلفائه الروس.
السبب الرئيسي لموقف الأسد هو أن فريق الخوذ البيضاء يفشل أهدافه، وما يسعى إليه حلفاؤه من قتل مزيد من السوريين، وتدمير حياتهم وممتلكاتهم، وفق معطيات مؤكدة. فقد أنقذ هؤلاء في السنوات الثلاث التي مرت على تجربتهم نحو 62 ألف شخص من تحت الأنقاض التي سببتها غارات الطيران، خصوصًا بالبراميل المتفجرة.
الخوذ البيضاء جماعة مدنية تطوعية تشكلت في عام 2013، على خلفية الحاجة لمواجهة تداعيات الصراع المسلح، وغارات الطيران على المدن والقرى السورية الخارجة عن سيطرة النظام وجماعات الإرهاب، وضمت بين صفوفها فئات مختلفة من السوريين، عمالاً وحرفيين وطلبة ومهندسين وعاطلين عن العمل، وغيرهم ممن أخذوا على عاتقهم مهمة مساعدة الناس على نحو ما هي عليه مهمة فرق الدفاع المدني المعروفة في العالم، الملتزمة بمبادئ منظمة الدفاع المدني الدولية في «الإنسانية والتكافل والحيادية».
ووسط ظروف الصراع المسلح الصعبة، وجد أصحاب الخوذ البيضاء أنفسهم في مواجهة تداعيات الغارات الجوية التي تنفذها حكومة النظام، ويواجهون في الوقت ذاته نيران القناصة، ليصلوا إلى جثث جنود النظام، ويدفنوها بشكل لائق، وزادوا إلى أعمالهم المشاركة في تقديم خدمات عامة للسكان في المناطق التي يوجدون فيها، والتي يسكنها نحو سبعة ملايين نسمة، ومنها توصيل الكابلات الكهربائية، وتأمين المباني السكنية، وتقديم خدمات الإرشاد والسلامة للأطفال.
ووسط مسؤولياتهم وأعمالهم، وفي أثناء تنفيذها، سقط نحو 150 منهم ضحايا، بينهم عشرات قتلوا بغارات الطيران التي استهدفت مقارهم بصورة مباشرة.
بسبب أعمالهم الخطرة، اقتصرت عضوية الخوذ البيضاء على الرجال، وقد بلغ عددهم قرابة ثلاثة آلاف رجل، غير أنه في ضوء الاحتياجات الميدانية والظروف الاجتماعية، أُنشئ فريق نسائي متطوع قارب عدده المائة شابة في 2016، دُربن على القيام بأعمال الرعاية الطبية، وعمليات البحث والإنقاذ في مجتمع محافظ، يعارض بعض الرجال فيه قيام عمال الإنقاذ الرجال تقديم المساعدة للنساء والفتيات، مما يتطلب تدخل متطوعات في تلك العمليات.
وتؤثر الأوضاع الاقتصادية الصعبة على تمويل أعمال الخوذ البيضاء، مما يجعلهم يعتمدون على أدوات بسيطة وبدائية في عمليات الإنقاذ غالبًا، مما يعني نقصًا في المعدات والأدوات الحديثة وسيارات الإسعاف التي يتطلب تأمينها تآزرًا دوليًا للمساعدة عبر تبرعات تشارك فيها دول ومنظمات مدنية ومتخصصة وأفراد يؤمنون بأهمية إنقاذ الأرواح في زمن الصراع المسلح وتداعياته.
صورة أصحاب الخوذ البيضاء، وأعمالهم الجبارة والصعبة والإنسانية في آن معًا، كانت سببًا في ترشيحهم لنيل جائزة نوبل للسلام، وهو ما سعت إليه حملة دولية أطلقتها مجموعات سورية، لاقت دعمًا ومساندة في المستوى الدولي، وشارك فيها عدد من الممثلين والمخرجين العالميين الذين وقعوا عريضة للمطالبة بمنح الجائزة لأصحاب «الخوذ البيضاء»، بينهم المخرج ريدلي سكوت، والنجم جورج كلوني، وجاستن تيمبرلايك، وعزيز أنصاري، وبن افليك، ودانيال كريغ، وزوي سالدانا، وأليشيا كيز، فيما قامت شبكة «نيتفليكس» بإنتاج فيلم وثائقي باسم «الخوذ البيضاء»، رصد يوميات ثلاث مجموعات من الدفاع المدني السورية، والصعوبات العملية والنفسية التي يواجهونها في عملهم اليومي في إنقاذ أرواح الناس، وانتشال الجثث من تحت الأنقاض، وسط أخطار الضربات الجوية المزدوجة التي تقوم بها الطائرات الحربية على المكان نفسه، وسط إيمان لخصه أحد أعضاء الفريق بالقول: «عندما أبادر لإنقاذ حياة أحدهم، لا يهمني إذا كان عدوًا أو صديقًا، ما يهمني هو الروح المعرضة لخطر القتل».
فريق الخوذ البيضاء ومهمته وأهدافه، ربما هو التعبير الأبرز لروح السوريين الذي أشاعته ثورتهم على نظام الأسد الاستبدادي في عام 2011، يوم أطلقوا شعار الحرية، وكرسوا وحدتهم وتضامنهم في وجه سياسة القتل والتدمير والتهجير، مطالبين بإقامة نظام سياسي جديد يوفر حرية وعدالة ومساواة لكل السوريين. ولئن لم يحصل الفريق على جائزة نوبل للسلام، فإن وصول صورتهم وصوتهم إلى العالم في بلد صارت صورة الحرب والدمار هي المعروفة عنه، والأكثر شهرة فيه إرهابيون ومتطرفون موزعون بين نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين وأدوات قتلهم من الميليشيات الطائفية، إضافة إلى إرهاب «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما من الجماعات المتطرفة، فيما تكاد تغيب صورة وأصوات المطالبين بالحرية والحريصين على الحياة والسلام، أمثال فريق الخوذ البيضاء.
ليست سورية، في ذاتها، بلداً غنياً بالنفط، أو بالثروات الاستراتيجية، كما حال العراق وليبيا مثلاً، ولكن الاقتتال الدولي الدائر بشأن سورية يعود إلى عدة عوامل سياسية معقدة ومختلفة، يتعلق بعضها بالتاريخ القريب لمنطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، الشرق الأوسط هو كابوس الفوضى الذي يلقي بثقله على العالم بأسره، خصوصاً أن سياسات الولايات المتحدة، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، كانت سبباً رئيسياً في اختلال هذا التوازن، لا سيما احتلال العراق عام 2003 وما تلاه من عودة للطائفية والمذهبية والتشدّد الديني، وتشكل نوى مهمة للحركات السلفية الجهادية. أسفرت المطامح الأميريكية في "شرق أوسط جديد" إلى كارثةٍ دولية، ولا شك أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في استقرار الشرق الأوسط وراعية السلام الذي يضمن مصالحها وتثبيت حلفائها، شرط عدم تكرار تجربتها المكلفة في العراق، والاكتفاء بسياسة "الأيدي الناعمة"، من دون التورّط في حربٍ حقيقية على الأرض.
أما روسيا التي اكتفت بوضع العصي في عجلات المجتمع الدولي، في السنوات الأولى من عمر الثورة السورية، واستثمرت في تطبيق الضغط السلبي على الملف السوري وعرقلة أي جهود أميركية أو أوروبية، خوفاً من تكرار خسارتها السياسية التي منيت بها في ليبيا، فإنها، منذ الأزمة الأوكرانية، تحولت إلى الضغط الإيجابي السافر سياسياً وعسكرياً.
مع التجاهل الأميركي لروسيا، وتركيز الجهود لإنهاء الاتفاق النووي مع إيران، تحولت إيران، أخيراً، من دولة "مارقةٍ" إلى عضو في المجتمع الدولي، وجزء من طاولات الحوار. تسبب ذلك بالقلق لروسيا، لا سيما أن إيران (على عكس روسيا) موجودة في الأراضي السورية عسكرياً. لذا، قدرت روسيا أن الضغط السياسي الذي تمارسه غير كافٍ لتثبيت قدميها في الشرق الأوسط، فأتبعته بدخول عسكري إلى الأراضي السورية، بدايةً بإرسال "مستشارين عسكريين"، مروراً بتثبيت قواعد عسكرية ومكاتب استخباراتية مشتركة، وصولاً إلى تصويت البرلمان الروسي، أخيراً، لصالح بقاء الجيش الروسي في سورية إلى أجل غير مسمى. ليست سورية بالنسبة لروسيا هدفاً بعينه، وإنما وجودها في الشرق الأوسط عسكرياً هو الضامن لعودة مصالحها "الإمبراطورية" في الشرق الأوسط، خصوصاً مع يقينها بانكفاء الولايات المتحدة عن التدخل العسكري الصريح.
وبالنسبة إلى التدخل الإيراني في سورية، والذي يقع في مقدمته وجود حزب الله، فإنه يجعل إيران في موضع المساوم لتمرير الاتفاق النووي القلق. وبغض النظر عن نتائج هذه المساومات، فقد حزب الله ترف الخيار منذ زمن طويل، ولم يعد قادراً على الانسحاب من سورية، إذ لن تقتصر نتائج هذا الانسحاب على الساحة السورية وحسب، وإنما ستمتد إلى لبنان، وتعيد نبش الملفات العالقة، منذ إعلان "بعبدا"، والاتهامات التي طالت حزب الله، لتفرّده بالقرار، ووضع لبنان بأكمله في فوهة المدفع، وتجاهل موقف "النأي بالنفس" الذي أعلنه لبنان رسمياً.
تقع مسؤولية الانقسام السياسي اللبناني، جزئياً على الأقل، على حزب الله وموقفه من الحرب في سورية، ونتائج هذا الانقسام ماثلة اليوم، بعد مرور عامين ونيف على الفراغ الرئاسي في لبنان. ومهما كان مقدار الضغط الدولي على إيران (وقد تضمن تمديد تجميد الأموال الإيرانية والتشكيك في قدرة إيران على الالتزام بالاتفاق النووي، وأحياناً التلويح بالتراجع عنه)، فإن الوضع العسكري لإيران على الأرض لم يعد قابلاً للتفاوض. وعليه، هذه المعركة هي معركة حياة أو موت.
بناءً على هذه العوامل السابقة، وغيرها مما لا يمكن الخوض فيه هنا، يبدو أن جميع الأطراف الدولية انخرطت في أزمةٍ أكبر من أي طرفٍ فيها، ما يحتم على جميع الأطراف الانهماك في تخطيط "استراتيجية خروج" من المنطقة ببعض المكاسب وأقل ما يمكن من الخسائر. ليست هناك مؤشرات توحي بقدرة أي طرفٍ على السيطرة المطلقة، عسكرياً أو سياسياً. لذلك، لا بد من إعادة صياغة التحالفات السياسية بشكلٍ يوحي بالقدرة على احتواء الأزمة السورية. شيء من هذه التحالفات السياسية قائم بين روسيا وإيران مثلاً، كما أن تركيا تلعب دوراً وسيطاً مهماً على الحافة بين حلف الأطلسي وروسيا. لدى تركيا ملفات كثيرة عالقة في المنطقة أيضاً، بداية بأزمة اللاجئين السوريين في تركيا وصولاً إلى رغبتها بالسيطرة على المناطق الكردية السورية، بحجة الحاجة إلى منطقة آمنة. ومن المحتمل أن تتقدم الطموحات التركية بلا حدود، إذا تطابقت مع رغبة أميركية بأن يخوض طرف آخر حربها بدلاً عنها.
هذا البلد الصغير المسمى سورية، على الرغم من مساحته الصغيرة، وأهميته الاقتصادية الضئيلة نسبياً، قد يغدو حصيلة تصفية الحسابات الدولية بأسرها، وهذا يعني أن الحرب ستطول كثيراً.
عندما سئل بشار الأسد عن ذوي القبعات البيضاء في حلب كان جوابه أنه لم يسمع بهم، والواقع أن العالم جميعاً سمع بهم إلا هو. في القرآن الكريم تعبير مدهش عن أمثاله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْين لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا).
صهري في كندا قال يجب أن تراهم فقد صدر عنهم فيلم يروي بطولتهم في حلب، وهي تحت القصف في قناة «النت فليكس»، وهي قناة رائجة جداً في مونتريال يتلقفها الناس باشتراك شهري بعشرة دولارات. لقد رشحوهم لنيل جائزة نوبل للسلام. وجلست أنا لمدة ساعة خلف التلفزيون أتعرف عليهم في فيلم صدر حالياً، يمكن لأي مشاهد في العالم أن يراه. وأهم ما في هذه المجموعة في حلب أنها تنقذ حياة الناس من ويلات القصف، بعد أن ترمي عليهم الطائرات القاصفة القنابل الحارقة والبراميل المتفجرة.
في الفيلم رأيناهم وخوذهم البيضاء جاهزة مع أدوات إسعافهم البسيطة، فإذا حلقت الطائرات بصوتها المخيف فوق منطقة «الهولك» في حلب مثلًا تركت المجموعة الطعام والشراب وهرعت إلى مكان الهدف للإنقاذ. لقد أنقذوا الطفل محمود وسموه طفل المعجزة لأنه كان طفلًا رضيعاً لم يبلغ الشهر بعدما رسا تحت الأنقاض وهم يقرعون الجدران ويصغون لكل همسة عسى أن ينقذوا روحاً جديدة! وأخيراً وصل إلى سمعهم بكاء طفل رضيع من بعيد! وهكذا تابعوا الحفر، حيث الأنين الخافت لينقذوا الرضيع محمود بعد أن بقي تحت الركام 16 ساعة! لقد رأيناهم وهم يقبلونه بعد أن أصبح عمره سنة ونصف السنة، أما مقدار الناس الذين رأوهم مقطعي الأوصال، أو في حشرجة الموت، أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة تحت أثقال الحجارة وأعمدة الإسمنت؛ فعن عددهم حدّث ولا حرج.
وأجمل ما في هذه المجموعة الحلبية المتضافرة أنها تعتمد الآية القرآنية الكريمة (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). أحدهم يودع ابنته كل صباح ويقول لزوجته ربما لن تريني مجدداً، فهم يهرعون إلى بؤرة الحدث حيث القصف، وحين يرون الطائرات النفاثة المغيرة من بعيد وهي تزمجر يتوقعون أن يكون القصف في المكان الفلاني، فيهرعون بسيارتهم إلى مكان الحدث وبأيديهم ما اعتادوا حمله من أدوات إطفاء النيران ومعاول الحفر وجرافات التنقيب.
إنهم أبناء حلب المثاليون. يقول رئيس المجموعة «أبو عمر» لا يهمني من يقاتل ومن يقتل، فقط يهمني أن أنقذ من تحت الأنقاض من يقترب منه الموت ويلامسه.
وحول عقيدته في الموت والحياة يرى أن الأجل ليس بيد أحد بل هو ملك الرحمن الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة وهو الذي يحيي ويميت.
هؤلاء المنقذون مهنتهم إنسانية وهم معرضون للموت مع كل قصف وتفجير، فالقنابل العنقودية تقصف الأرواح وتخطف النفوس، في دفعات من صناعة إبليسية. لقد مات منهم في عمليات الإنقاذ حتى صدور الفيلم الذي أبرز تضحياتهم الإنسانية 132 شخصاً، ولكنهم أنقذوا 58000 إنسان.
معركة حلب مع كتابة هذه الأسطر تذكرني بأمرين بالمثل الشعبي الذي يقول بعد خراب بصرة! كما يذكرني باجتياحها من قبل تيمورلنك قبل أن يدمر العثمانيين في معركة سهل أنقرة في عام 1402م، وفي هذه الفترة المضطربة كان ابن خلدون يجتمع بالطاغية، ويحاول ألا تستباح دمشق كما استبيحت حلب. مع كل هذه الحلكة، فإن أصحاب الخوذات البيض يبعثون بالأمل في ظلمات الاضطراب السياسي الذي تعيشه المنطقة.
في عهد الخليفة المعتمد، انفجرت الأوضاع في ثورة شعبية هي ثورة الزنج ما يشبه «المجالدون» في روما وسبارتاكوس، حتى انطفأت في عام 270 هجرية، بعد أن قتلوا معظم أهل البصرة في رقم يقترب من 300 ألف ضحية، وفي عهد ابنه المعتضد انفجرت الأوضاع من جديد في ثورة القرامطة الذين وصلت أيديهم إلى حجر الكعبة. دروس التاريخ مفيدة، أليس كذلك؟
صورة المندوب الروسي في مجلس الأمن الدولي، فيتالي تشوركين، وهو يرفع يده بإشارة فيتو ضد مشروع القرار الفرنسي الإسباني بخصوص معاناة حلب، لن ينساها السوريون، ومهما طال الزمن، وتغيّرت الأحوال، فإنها لن تسقط بالتقادم، بل ستبقى محفورةً في الذاكرة، شاهدا على إمعان الروس في قتل السوريين مع سبق الإصرار.
حسب الحسابات كافة، لا يوجد أي سبب يدفع الروس إلى اتخاذ هذا الموقف ضد شعبٍ أعزل محاصر، يعاني الموت جوعاً ومرضاً، لا يجد الماء ولا الدواء، وهناك 100 ألف طفل بلا حليب منذ عدة أشهر، حسب تقارير الأمم المتحدة التي أكدت أن من سوف يبقى من هؤلاء على قيد الحياة سيكون في وضعٍ صحيٍّ هش، وعرضةً دائمةً للأمراض.
يتحجّج الروس بأن الفيتو الخامس الذي اتخذوه، ليل السبت الماضي، ضد مشروع القرار الفرنسي الإسباني، هو من أجل محاربة الإرهاب. ولنفترض أن هذه الحجة صحيحة، فهل يبيحون لأنفسهم قتل 300 ألف مواطن في حلب، وتدمير المدينة من أجل معاقبة 900 من جبهة النصرة، حسب الأرقام التي أوردها مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا؟. إذا كانت دولةٌ عظمى تمتلك حق الفيتو، مثل روسيا، تعطي نفسها حقّ التصرف على هذا النحو البلطجي، فهل يستقيم القانون الدولي، ويسري على الجميع، أم أنها ترتكب سوابق خطيرة، عن سابق تصميم، تجعل من المرجعيات الدولية لعبةً بيد من يمتلك القوة؟ وبالتالي، لا أهمية لأي قانون أو عدالة دولية، ولا مكان لأي أخلاق في حسابات البشر، ولا حاجة للأمم المتحدة، طالما أن قوة مارقة وضعت نفسها فوق كل مقياسٍ ومرجعيةٍ وحساب.
يقدّم الروس في سورية نموذجاً غير مسبوق على عدة مستويات، خصوصا في العنف الذي أوصلوه إلى مصاف من الوحشية، يتفوق على جرائم "داعش". ويكشف منهج القتل والتدمير الاستعراضي في حلب عن عقليةٍ اجراميةٍ يقف العالم حيالها مصدوماً، حتى أنه يجد مقارنتها بالنازية أمراً لا يشفي الغليل، وقد أصبحت هذه القضية، منذ عدة أسابيع، الشاغل الأول للصحافة والمنظمات الإنسانية العالمية، فالمقارنة بين حلب وغروزني صارت منتشرةً على نطاق واسع، ونشرت الصحف العالمية بورتريهات لرئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف، الذي يطبق في حلب منهجه الذي استخدمه في غروزني، حين كان قائداً للحملة الروسية لإخضاع المدينة الشيشانية، وهو منهجٌ يقوم ببساطة على إلحاق أكبر قدر من الدمار بالمدينة، وضرب البنى التحتية، واعتبار كل ما يتحرّك على الأرض هدفاً عسكرياً، ووصفته صحيفة الفيغارو ب"البارع في أساليب القتل البدائية".
وتقود أسلحة القتل البدائية إلى مسألة أخرى، لا تقلّ فداحةً من القتل، وهي احتقار الروس الشعب السوري، من خلال العمل على إعادة تمكين بشار الأسد وعصابته من حكم سورية، بعد أن كان قد أصبح خارج الحساب منذ عام على الأقل، وبدلاً من أن يُساق هؤلاء إلى محاكم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تقوم روسيا بإعادة تعويمهم، وكأن شيئاً لم يحصل، غير عابئةٍ بأرواح قرابة 600 ألف قتيل ومليوني معاق وعشرة ملايين نازح ومهجّر. لا يمكن وصف ذلك بأقل من مشاركة للنظام في الجريمة. ولذا بات السوريون يضعون فلاديمير بوتين بمصاف الأسد، ويتعاملون مع روسيا قوة احتلالٍ بدأت، في الأسبوعين الأخيرين، بتعزيز وجودها العسكري باتفاقاتٍ، وبناء قواعد بحرية وجوية، لتستمر إلى أمد طويل.
اللافت أنه ليس جهاز بوتين السياسي والعسكري وحده من يبدو مصمماً على قتل السوريين حتى النهاية، بل تقف إلى جانبه ترسانة من المحللين السياسيين الروس على الفضائيات العربية، أغلبهم ضباطٌ سابقون في جهاز كي جي بي، إلى حد أننا نجد أنفسنا أمام نسخةٍ جديدةٍ من الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان حليفاً للأنظمة الاستبدادية في العالم.
هناك مواجهة دبلوماسية قوية بين فرنسا من جانب، ونظام الأسد وإيران وروسيا من جانب آخر، ورغم التهديدات ضدها، فإن الحكومة الفرنسية تصر على موقفها المتكرر، والمتضامن مع الشعب السوري، بعد أن تخلى عنهم معظم القوى الدولية.
وقد استنكرها الروس قائلين، إنهم يعجبون لماذا تصر فرنسا على الوقوف ضد مشروعهم في سوريا، واصفين هجومهم، وحصارهم، وتشريدهم لملايين السوريين بأنها حرب على الإرهاب، وأن فرنسا لا تخالفهم فقط، بل تخالف التوجه الأوروبي بمواقفها.
ومشروع القرار الفرنسي، الذي دعا لوقف قصف حلب، وقصفه الروس بالفيتو، وتسبب في مواجهات كلامية بين سفراء القوى الأعضاء في مجلس الأمن الأسبوع الماضي، لم يكن العمل الوحيد الذي رعته الحكومة الفرنسية. فرنسا من الدول الراعية للثورة السورية منذ البداية، وبخاصة في دعم الجهود السياسية للائتلاف والمجالس المختلفة، وهي من أكثر الدول التي استهدفتها العمليات الإرهابية التي نفذتها تنظيمات مشبوهة مثل «داعش»، التي تدلل كل أفعالها على أنها تنفذ مشروعًا لصالح الأسد والإيرانيين، ويستهدف الدول التي وقفت ضد جرائم نظام دمشق وحلفائه. ورغم تكرار العمليات الإرهابية التي أدمت فرنسا، فإنها استمرت تقف ضد الحرب الوحشية التي تشن على الشعب السوري.
ولَم تعانِ فرنسا من إرهاب «داعش» وحده، بل واجهت أزمة داخلية لا تقل خطورة، وهي تنامي العنصرية ضد الأجانب وضد الفرنسيين من أصول إسلامية، التي تتغذى على جرائم التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالأزمة السورية، وبسبب طوفان المهاجرين الذي أغرق غرب أوروبا من سوريا وغيرها. وهذه المواقف السياسية، التي قد لا تحظى بشعبية وتستخدم لإضعاف الحكومة والحزب في الانتخابات التي بدأت مهرجاناتها.
على المستوى السياسي والدبلوماسي بشكل خاص، حكومة فرنسا تقود دعوة لمحاسبة الدول المتورطة في حصار وتدمير حلب وبقية المدن السورية، ومحاكمتها بجرائم حرب، وتفعيل المؤسسات الدولية ضدها.
نحن أمام هذه المواقف المتعددة، والمستمرة لسنوات، لا يمكننا إلا أن نذكر بالتقدير ما يفعله الفرنسيون. وسياستهم العادلة والمنصفة في القضية السورية هي امتداد لمواقفهم ضد نظام الأسد في لبنان، عندما ساندت فرنسا رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وكان موقفها أساسيًا وفاعلاً بعد جريمة اغتياله من قبل نظام الأسد. وموقفها استمر أيضًا يواجه محاولات التغيير في لبنان، وقامت بدعم القوى الرافضة لهيمنة «حزب الله».
والرؤساء الفرنسيون عمومًا استمروا على هذا النهج إلا في مرحلة قصيرة، خلال رئاسة ساركوزي الذي تولى مهمة تبييض صفحة الأسد، بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية، وفشل في النهاية.
قد لا يجد البعض في المواقف الفرنسية القيمة الكافية لتغيير الأوضاع على الأرض، ففرنسا دولة كبرى لكنها ليست الولايات المتحدة ولا روسيا، القوتين العظميين، مع هذا تلعب دورًا كبيرًا، وتقود قاطرة المواجهة، في وقت فضلت معظم الدول الأخرى تحاشي مواجهة «محور الشر».
وفِي ظل العربدة والاستهانة بالقيم والقوانين الدولية التي يمارسها حلفاء الأسد، فإنه ليس بالقليل أن تقف دول، مثل فرنسا، هذه المواقف المتكررة، والتي يمكن ونرجو أن توصلنا إلى مرحلة الحل السياسي المعقول. فالحرب الإيرانية الروسية في سوريا فشلت حتى هذا اليوم في القضاء على انتفاضة الشعب السوري، وفشلت في تثبيت حكم الأسد حتى في نصف سوريا التي باتت تحت حكمه، ولن يجدوا في الأخير إلا بلدًا مثل فرنسا، لدعم حل سياسي يخرجهم من هذا المستنقع.