١٩ ديسمبر ٢٠٢٥
يحمل البيان الأخير الصادر عن الشيخ حكمت سلمان الهجري مزيجًا لافتًا من لغة الحسم والتهديد من جهة، ومحاولات التثبيت والضبط الداخلي من جهة أخرى، في خطاب يبدو موجّهًا إلى أكثر من جمهور، لكنه يركّز بشكل واضح على البيئة الداخلية في محافظة السويداء.
فعلى المستوى الظاهري، يتبنى الخطاب نبرة عالية السقف، تقوم على مفردات مثل “الاستقلال”، و”تقرير المصير”، و”الدفاع عن الوجود”، وهي مفردات تُستخدم عادة في سياقات الصراع الوجودي أو المواجهة مع أخطار خارجية كبرى.
غير أن التدقيق في بنية الخطاب وتسلسل أفكاره يكشف أن القسم الأكبر منه موجّه لضبط السلوك الداخلي أكثر من كونه رسالة ردع للخصوم الخارجيين.
من أبرز سمات البيان الإلحاح المتكرر على مفاهيم مثل توحيد التوجه، والثقة بالقيادة، ورفض أي مسار مغاير لما يُقدَّم على أنه “إرادة الأهل”. هذا النوع من اللغة لا يكتفي بالدعوة إلى وحدة الصف، بل يتجاوزها إلى رسم حدود صارمة لما هو مقبول وغير مقبول داخل الجماعة.
ويلاحظ أن الخطاب لا يفتح مجالًا واضحًا للاختلاف أو النقاش الداخلي، بل يقدّم التمايز في الرأي بوصفه تهديدًا محتملًا، ما يوحي بوجود قلق من تراجع الانضباط أو من بروز أصوات لا تتماشى مع الخط السياسي المطروح.
يستخدم البيان مفردات شديدة مثل “الخيانة”، و”الظلام”، و”الإرهاب”، من دون تقديم تعريف دقيق أو محدد لهذه المصطلحات. هذا الغموض يجعل الاتهام مفتوحًا على تأويلات متعددة، ويمنح الخطاب قدرة واسعة على إدراج فئات مختلفة ضمن خانة العداء، سواء كانوا معارضين سياسيين، أو منتقدين، أو حتى متحفظين.
في الخطاب السياسي، غالبًا ما يُستخدم هذا الأسلوب عندما تسعى القيادة إلى خلق حالة ردع داخلي، حيث يصبح الخوف من الوصم أقوى من الرغبة في التعبير أو الاعتراض.
وفي هذا السياق، يرى معارضون للهجري أن خطابه لا يقتصر على التحذير اللفظي، بل يتقاطع مع واقع أمني تُتَّهم فيه مجموعات مسلحة محسوبة عليه بفرض توجهاتها بالقوة، عبر الترهيب وإسكات أي صوت مخالف. ويقول هؤلاء إن مساحة الاعتراض داخل السويداء باتت شديدة الضيق، إذ يُنظر إلى أي نقد، حتى لو جاء بدافع التصويب أو التحذير من الانزلاق، بوصفه تهديدًا يجب إخماده.
ووفق شهادات محلية، فإن هذا المناخ القائم على التخويف أسهم في إخراس أصوات معارضة، عبر التهديد أو الاستهداف المباشر، ما عمّق منسوب الخوف الداخلي ورسّخ منطق القوة بدل الحوار.
اللافت أيضًا استخدام عبارات تشير إلى نزع الانتماء عن بعض الأفراد، من خلال توصيفهم بأنهم “غير جديرين” بالمجتمع أو بالهوية الجماعية. هذه اللغة لا تتوقف عند حدود النقد السياسي، بل تمس البنية الاجتماعية ذاتها، إذ تحوّل الانتماء من رابطة جامعة إلى أداة ضبط وعقاب.
وفي مجتمعات تقوم على الروابط التقليدية والدينية، يحمل هذا النوع من الخطاب وزنًا كبيرًا، لأنه لا يعاقب الفرد سياسيًا فحسب، بل يعزله رمزيًا واجتماعيًا.
ولا يمكن فصل نبرة القلق التي تطغى على خطاب الهجري عن التطورات الأمنية والاجتماعية التي شهدتها محافظة السويداء مؤخرًا. فقد تزامن البيان مع سلسلة أحداث داخلية دامية، شملت حوادث إطلاق نار أودت بحياة مدنيين، وعمليات قتل طالت شخصيات دينية واجتماعية معروفة، إضافة إلى تقارير عن اعتقالات وتصفيات في سياق خلافات داخلية.
كما برزت شهادات محلية تتحدث عن تهجير قسري وتضييق على عائلات ومجموعات بعينها، وسط تصاعد الاتهامات لمجموعات مسلحة بفرض واقع أمني بالقوة. هذه الوقائع، بما تحمله من صدمة اجتماعية وتوتر داخلي، تفسّر إلى حد كبير تركيز الخطاب على مفردات مثل “الانضباط”، و”عدم المزاودة”، و”من خاننا ليس منا”.
وفي السياق نفسه، تتقاطع نبرة التحذير التي استخدمها الهجري في حديثه عن سرقة المساعدات مع شكاوى متكررة من أهالي السويداء وناشطين محليين، تحدثوا عن عدم وصول المساعدات الحكومية أو المقدّمة من منظمات دولية إلى مستحقيها.
ووفق هذه الشهادات، تُتَّهم مجموعات مسلحة موالية للهجري بالاستيلاء على تلك المساعدات وإعادة توزيعها على مقربين منها، أو طرحها للبيع في البسطات والمحلات التجارية.
ويعكس هذا الملف تحديدًا أحد أوجه التصدّع الداخلي، حيث يتحول الخلل المعيشي إلى عامل إضافي لتآكل الثقة، ويضعف قدرة الخطاب التحذيري على إقناع الشارع، حتى عندما يتضمن إدانة صريحة لهذه الممارسات.
ويبدو أن هذه اللغة لا تأتي في سياق مواجهة تهديد خارجي فحسب، بل تعكس محاولة لاحتواء حالة تشقق داخلي آخذة في الاتساع، وإعادة ضبط المشهد الاجتماعي، ومنع انتقال الاعتراض من الهامش إلى العلن.
يمكن قراءة خطاب الهجري بوصفه محاولة لإعادة رسم خطوط الولاء والشرعية داخل مجتمع يعيش توترًا سياسيًا واجتماعيًا متصاعدًا. فبينما يرفع البيان شعارات كبرى تتعلق بالسيادة وتقرير المصير، فإن لغته وتفاصيله تشير إلى انشغال واضح بإدارة الداخل، وضبط الاختلاف، ومنع تآكل النفوذ أو تشكل مسارات بديلة.
وفي هذا السياق، يبدو الخطاب انعكاسًا لمرحلة حساسة تختلط فيها مخاوف الانقسام الداخلي مع هواجس خارجية لا تقل حضورًا في صياغة البيان.
إذ يلفت مراقبون إلى أن الإشادة العلنية التي خصّ بها الهجري إسرائيل، حكومةً وشعبًا، لا يمكن قراءتها بمعزل عن قلق متزايد من فقدان الغطاء أو الدعم الإقليمي، أو من احتمال الاستغناء عنه في حال تغيّر موازين المصالح.
ويشير هؤلاء إلى أن هذا الشكر العلني، بصيغته المباشرة، يوحي بمحاولة تثبيت موقع أو تجديد رسالة ولاء في لحظة يشعر فيها صاحب الخطاب بأن أوراقه باتت مكشوفة، خاصة مع تصاعد الاتهامات الداخلية بالفساد، وبتورط مجموعات مسلحة محسوبة عليه في انتهاكات طالت المدنيين وملفات المساعدات.
وفي ظل هذا المشهد، تتشابك مخاوف الهجري من الداخل مع مخاوفه من الخارج، سواء من عودة نفوذ الحكومة السورية أو من تبدّل حسابات الأطراف الإقليمية، ما يفسّر سعي الخطاب إلى مخاطبة أكثر من جهة في آن واحد، بلغة تجمع بين التهديد في الداخل والتودد في الخارج.
١٩ ديسمبر ٢٠٢٥
يمثّل إلغاء قانون “قيصر” للعقوبات الأميركية، بعد عام واحد فقط من سقوط نظام الأسد البائد، لحظة تاريخية في مسيرة سوريا الجديدة، فهو لا يقتصر على إزالة بند قانوني من سجل العقوبات فحسب، بل يشكل انطلاقة نحو تحول اقتصادي سياسي عميق يمكن أن يعيد دمشق إلى رقعة الاستقرار الإقليمي والدولي، ويمنحها قدرة غير مسبوقة على التنفّس التجاري والمالي بعد سنوات من العزل والحصار.
وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً قانون موازنة وزارة الدفاع لعام 2026، الذي تضمن مادة تُلغي قانون “قيصر” بشكل كامل، وبصورة غير مشروطة، دون أي إمكانية لإعادة فرض العقوبات في المستقبل تلقائياً، ما يجعل هذا الإجراء تحولاً نوعياً في الموقف الأميركي تجاه سوريا. وتجسيداً لهذا الانعطاف، بذلت الحكومة السورية جهوداً دبلوماسية مكثفة في واشنطن وعواصم أخرى، بدعم من الجالية السورية ومنظمات أميركية ودول صديقة، أسهمت في دفع هذا التوجه.
إلغاء قانون “قيصر” ينقل سوريا من موقع الدولة المعاقَبة قضائياً إلى موقع الفاعل المحتمل في الاقتصاد العالمي، ما يتطلب من دمشق إعداد نفسها جيداً لاستثمار هذه الفرصة في إطار إصلاحي حقيقي يشمل السياسات المالية والاقتصادية والحوكمة.
من أداة خنق اقتصادي إلى نافذة تنفس مالي
على مدار سنوات الحرب، شكّل قانون “قيصر” أداة رئيسية للضغط الاقتصادي، ليس فقط على شخصيات وكيانات مرتبطة بالنظام السابق، بل على الاقتصاد السوري ككل. جعل القانون التعامل مع المصارف السورية مخاطرة قانونية، ما أدى إلى انسحاب البنوك المراسلة، وانحسار القدرة على الحصول على العملة الصعبة، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وتعطيل التجارة الرسمية.
ومع سقوط النظام السابق وتعليق العمل بالقانون بشكل موقت، دخلت البلاد في ما يمكن تسميته “تعليق العقوبة”، لكنها بقيت محاصرة جزئياً. أما الإلغاء النهائي لقانون “قيصر”، فينقل البلاد إلى مرحلة اقتصادية جديدة تتجاوز اقتصاد الهوامش والتحويلات غير الرسمية، نحو اقتصاد قادر على الانفتاح التدريجي على التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي والمنظمات المالية العالمية.
أبعاد إلغاء “قيصر” الاقتصادية لسوريا الجديدة
إعادة فتح القنوات المصرفية والمالية
رفع العقوبات يتيح للمصرف المركزي والبنوك السورية استعادة علاقات المراسلة مع البنوك الإقليمية والدولية، مما يُمكّن سوريا من استعادة الجسور المالية الرسمية، فتح الاعتمادات المستندية، تسهيل التحويلات المالية، وتمويل التجارة والاستيراد والتصدير كلها عوامل أساسية لإعادة “النبض المالي” للاقتصاد السوري. كما يمكن أن يُسهم ذلك في إعادة الثقة بالنظام المصرفي، خصوصاً إذا ترافق مع إصلاحات جادة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
استعادة الثقة بالنظام المصرفي
إعادة بناء الثقة تعدّ خطوة أساسية لاستقرار سعر الصرف، وتقليل هوامش المضاربة التي تضعف قيمة الليرة السورية، ما يشجع أيضاً السوريين في الداخل والشتات على إعادة جزء من مدّخراتهم إلى القنوات القانونية، ما يعزز السيولة ويُقَوّي الاقتصاد الرسمي.
تحريك الاستثمار وإعادة الإعمار
دُمّرت البنية التحتية في سوريا بشكل واسع خلال سنوات الحرب، ومن قانون “قيصر” كان أحد العقبات الأساسية أمام دخول الشركات الدولية إلى السوق السورية، حتى في القطاعات غير الخاضعة صراحة للعقوبات، مع إزالة هذا الحاجز القانوني، تزداد واقعية تدفّق الاستثمارات، خصوصاً من دول الخليج وتركيا وأوروبا في مجالات الطاقة، الكهرباء، الإسكان، النقل، الزراعة والصناعات الغذائية، ما يمكن أن يخلق فرص عمل واسعة ويسهم في التخفيف من مستويات البطالة والفقر.
دعم الليرة السورية وتخفيف أعباء المعيشة
ساهم قانون “قيصر” عملياً في تضييق القدرة على جلب العملة الصعبة عبر الطرق الرسمية، ما انعكس سلباً على سعر صرف الليرة، وأدى إلى تضخّم شديد وزيادة حادة في كلفة المعيشة. ومع التحسن التدريجي في النشاط التصديري، واستعادة جزء من الحركة الاستثمارية، يمكن أن يعود القطع الأجنبي إلى الدورة الاقتصادية الرسمية، ما قد يساعد في استقرار الأسعار ورفع القدرة الشرائية، خاصة إذا صاحبه سياسات نقدية رشيدة وضبط للعجز المالي.
إعادة اندماج سوريا في سلاسل التوريد العالمية
أُجبرت سوريا على الاعتماد على سلاسل توريد معقدة ومكلفة خلال عقود العقوبات والحرب، ما زاد كلفة الاستيراد وأضعف التنافسية. إلغاء القيد القانوني يمكن أن يعيد البلاد تدريجياً إلى موقعها الطبيعي كحلقة وصل بين أسواق الخليج وتركيا والعراق والأردن والبحر المتوسط، ما يخفض كلفة المواد الخام والآلات ويُعزز الإنتاج المحلي.
المكاسب السياسية والرمزية لإلغاء العقوبات
لا يمكن فصل إلغاء قانون “قيصر” عن السياق السياسي الأوسع. من الناحية الرمزية، يمثل القرار اعترافاً أميركياً واضحاً بأن سوريا الجديدة ليست امتداداً لنظام الأسد السابق الذي عزل البلاد، بل يمكن اعتبارها شريكاً محتملاً في استقرار المنطقة، بعد تنفيذها أنها قادرة على الالتزام بالمعايير الدولية في مكافحة الإرهاب، وحماية الأقليات، وملاحقة الجرائم التي ارتُكبت في حقبة النظام السابق.
هذا الاعتراف يُرسِل رسائل قوية إلى العواصم الأوروبية والخليجية بأن “الوقت قد حان للانخراط الفاعل” في إعادة إعمار سوريا. وقد يقلل هذا الموقف الأميركي العقبات السياسية التي كانت تحول دون المشاركة الاستثمارية في البلد.
لحظة اختبار لإرادة السوريين
الفرصة اليوم أكبر مما كانت عليه خلال العقود الماضية. سوريا لم تعد مجرد ساحة صراع، ولا دولة معزولة، بل أصبحت دولة تسعى للاستقرار والاندماج الدولي. ونجاحها في استثمار هذه اللحظة لابد أن يكون ثمرة تعاون بين الحكومة، المجتمع المدني، القطاع الخاص، والمجتمع الدولي، لتشكيل اقتصاد متعافٍ، يضمن حقوق المواطنين ويعيد البلاد إلى مسار التقدم والتنمية.
١٧ ديسمبر ٢٠٢٥
إن شكوى الأدواء في الجسد السوري مالها حصر ولا انتهاء، وكل عضو فيه طاله من الظلم والفساد وقهر الاستبداد على امتداد السنوات التي عصفت به، إلى أن جاء حدث التحرير بسيل أفراحه العارم ليصبّه على هذا الشعب، بيد أن الصعوبات قدر محتوم على الإنسان السوري يرافقه أينما كان موقعه الجغرافيّ، إذ تبدّى سؤال طارئ في كل بيت سوري “متى العودة؟”، ولأن فعل العودة ليس إجراءً بسيطًا أو خيارًا مُرفّهًا يُقاس بعبور الحدود، تلك التي لا تزال تلقي بويلاتها على السوريين بين أوضاع لم تُسوَّى وشمل لم يكتمل، يبقى الاستقرار هدفًا صعبًا لم تُصِبه حتى سهام التحرير.
من السفر إجبارًا إلى السفر اضطرارًا.. عائلات مرهونة
بعد التحرير وزوال الظرف الأمني العصيب المتمثل بسقوط نظام الأسد الذي لطالما أجبر السوريين منذ عقود على الهجرة واللجوء والنزوح، صار المحدد الناظم لحركة العائلة هو العامل الاقتصادي، وبصرف النظر عن وجهة محددة فإن الواقع الاقتصادي المقروء في شتّى بلاد التواجد السوري مرتبك، فضلًا عن الأوضاع القانونية المتذبذبة عقب زوال النظام البائد. وكان لكل ذلك دور في تقسيم العوائل إلى (مكانين)، ربّ أسرة يتحرك مع الفرصة الأصلح وعائلة تثبت مؤقتًا في مكانها الحالي بلا يقين زمني.
إن هذا الشكل الحالي من التباعد الأسريّ ليس جديدًا على كثير من السوريين في حين أنه كذلك على بعضهم الآخر. وفي تحديدي للفظ مكانين وليس بلدين غاية، حيث إن من يشغلون مناصب في الحكومة الجديدة أنفسهم يمرّون بالظرف عينه داخل سوريا، ممن حملهم دورهم على التواجد في محافظة وترك عوائلهم في محافظة أخرى.
عوائل شكّلها المنفى
سنوات أمضى فيها السوريون أعمارهم أفرادًا وعائلات يحاولون بناء سكن ومستقرّ لهم متعالين على كل العوائق والتحديات التي أحاطت بهم في منافيهم، لتقطع لحظة التحرير دابر محاولاتهم بنداءٍ عاطفي وأخلاقي عنوانه “العودة للمشاركة في البناء”، وتضعهم في حلٍّ من أمرهم ما بين آمال في بدايات جديدة تعتريها مخاوف ومجازفات كثيرة على أرض وطنهم، وبين ضمان معيشة جزئيّ وانتماء اضطراريّ على أراضٍ كانت يومًا ما أوطانًا بديلة لهم وبدأت تضطرب من تحت أقدامهم.
فهل يضحّون بمكتسباتهم ويختارون العودة على تبعاتها؟ أم يُكملون الاغتراب المعلّق حتى انقضاء المنفعة؟
هنا برز ما يُسمّى بالزيارات الاستطلاعية والعودة غير الكاملة، متمثلة بربّ الأسرة أو فرد ينوب عن العائلة، فيكون العين الفاحصة والمقدّرة لقرار الانتقال الكامل لباقي أفراد العائلة من عدمه. وغالبًا ما يحول دون هذا الانتقال المكتمل الظرف التعليمي للأبناء ومشاكل التأقلم في حين العودة، أو عدم القدرة على تأمين مكان إقامة بسبب غلاء الإيجارات مقارنة بالدخل القليل الذي لا يتناسب مع المصاريف الأخرى، أو الظرف الأمني المتقلّب نسبيًّا، أو غير ذلك مما يتعلق بانتظار استكمال وثائق رسمية كتحصيل جنسيات دول اللجوء أو استصدار إقامات لحرية التنقل الدائم.
حنين مؤجّل وواقع معجّل
بقدر عمق ارتباط السوريين بوطنهم واجتماعهم على ذاكرة واحدة بقدر ما حُرموا طويلًا من رفاهية التعبير عنه والتغنّي به، حتى إن منهم من تناساه حتى نسيه تمامًا، لكن ذلك لم يمنعهم من تعميق جذوره في فروعهم حتى يُورق في أبنائهم، فتجدهم في أحلك الظروف وأبعدها عن الممكن يحكون لهم عنه رغم أنهم يستوطنون غيره، واليوم بعد أن استعاد السوريون وطنهم بات تأجيل العواطف أمرًا ثقيلًا عليهم.
إضافة إلى ثقل انقسام العائلة الواحدة بين محطتين، محطة عمل الأب المعيل ومحطة استقرار باقي العائلة، وبين كليهما مسافات يقطعها الانتظار، تاركًا وراءه الأطفال يقاسون تواتر غياب الأب الطويل عنهم، وأبًا تعبره الوحشة ويعتاد الانفراد.
فضلًا عن الأعباء الإضافية على الزوجات بين دوري الأم والأب، وتجلّي شكل جديد للعلاقات الزوجية أشبه بالعلاقة عن بُعد.
هل نعيد إنتاج منطق الهجرة بعد التحرير؟
بين شعور الذنب لدى المسافر وشعور الانتظار لدى العائلة، متى يكون الاجتماع؟
كيف يُفاضل الإنسان بين رغبته في العودة والمساهمة في إعادة البناء وبين السفر؟
وفي غربة البلد الواحد كيف تتحسن الأوضاع وتوائم الفرص ظروف أصحابها؟
أسئلة كثيرة تشغل أذهان السوريين بلا أفق واضح وبسيناريوهات لا تنتهي، وبكلفة غياب ممتدة أصلًا.
تخبرني إحدى معارفي عن نيتهم الانتقال إلى سوريا كعائلة (أب وأم وطفلان) بسبب ظرف العمل الصعب في تركيا، حيث يبقى أحدهم في مدينة والآخر في مدينة أخرى.
وتذكر لي أخرى عن سفر زوجها الدوري مرة كل شهر منذ التحرير لتصفية أعماله بعد تراجع أعداد السوريين الملحوظ وتهيئة أوضاعهم في سوريا للانتقال واستقبال مولودهم الأول هناك.
إحدى العوائل تواجه إلى جانب مشكلة ظرف العمل مشكلة تدريس أبنائها في الجامعات السورية وما يتبع ذلك من إجراءات.
إعادة توطيد مفهوم الحياة المشتركة
ربما هذا نذير إفاقة جماعية حقيقية يخبرنا أن أكثر ما يحتاجه السوريون بعد توالي نكباتهم أن يلتقطوا أنفاسهم معًا، كعائلات طوتها سنوات الفراق الطويلة، وكجماعات مزقها تلاطم الأدلجة، إن الانطلاق من هذا المفهوم من كل بيت سوري باعتباره خط الدفاع الأول عن سوريا الحرة الجديدة لهو التزام صارم بمعنى الانتماء على الأرض الواحدة، وغرس لتجديد معنى التعايش بين أبناء سوريا جميعهم على تنوع خلفياتهم ومعتقداتهم.
١١ ديسمبر ٢٠٢٥
تزامن عرض المقاطع المصوّرة المقتطعة من التحقيق مع وسيم الأسد، ابن عم المخلوع بشار الأسد والمتورّط في انتهاكات جسيمة بحق السوريين، مع الإعلان عن تسلّم فريد المذهان المعروف باسم "قيصر" الجائزة الفرنسية الألمانية لحقوق الإنسان وسيادة القانون.
المذهان الذي عُرف بشجاعته حين خاطر بحياته وسرّب صور آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام، ليُعرف عالمياً باسم “قيصر”. هذا التزامن بين سقوط أحد رموز القمع وصعود صاحب موقف أخلاقي نبيل إلى منصة التكريم يقدّم مثالاً صارخاً على أن الموقف الأخلاقي هو من يرسم النهاية.
منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس عام 2011، تباينت المواقف داخل البلاد وانقسمت إلى ثلاث اتجاهات واضحة. فهناك من اختار الحياد وفضّل التزام الصمت من دون تعليق على ما يجري.
وفي المقابل برزت فئة أعلنت موقفها المعارض للنظام بكل صراحة، فانتقدت سياساته القمعية، وشاركت في المظاهرات والفعاليات المطالبة بالحرية. وعلى الجانب الآخر، اصطفّ أشخاص إلى جانب الأسد، وأيدوا انتهاكاته وجرائمه ضد السوريين.
أوهم بشار الأسد مواليه بأن السلطة ستبقى في يد آل الأسد إلى الأبد، تماماً كما كان يفعل والده سابقاً حين قدّم نفسه بوصفه القائد الخالد وصاحب الحق المطلق في الحكم. هذا الخطاب رسّخ لدى كثيرين قناعة بأن النظام غير قابل للسقوط، فاندفع آلاف الأشخاص إلى التورّط في الانتهاكات دعماً له. فمنهم من شارك بالسلاح والقمع المباشر، ومنهم من وفّر له الغطاء الإعلامي والدعائي.
وفي المقابل، دفع المعارضون للنظام ثمن مواقفهم المناهضة للأسد وكلمة الحق التي تمسّكوا بها، فعانوا من النزوح والقصف والدمار وسلب الحقوق غيرها من الظروف القاسية التي شهدها السوريين طوال سنوات الثورة.
لكن الباطل لا يدوم، والحق لا بد أن ينتصر مهما طال الزمن. ومن اختار الوقوف إلى جانب الظلم وتورّط في انتهاكات بحق أبناء الشعب السوري، كان عليه أن يدفع ضريبة خياره في النهاية. فقد انتهى المطاف بكثير منهم خلف القضبان، يرتدون البدلات المخططة، وتطاردهم دعوات السوريين المظلومين، وينتظرون مصيراً مظلماً.
أمّا الذين اصطفّوا إلى جانب الحق، فصمدوا مع الثورة في أحلك ظروفها، وبقوا أوفياء لقيم الحرية والكرامة، فحظوا بمحبة السوريين وتقديرهم، وتحولوا إلى رموز أخلاقية وشخصيات خالدة في ذاكرة الأهالي، تقديراً لمواقفهم وشجاعتهم، وصار يمشون في كافة أنحاء البلاد مرفوعي الرأس.
ختاماً، فإن الفارق بين فريد المذهان الذي تحوّل إلى رمز وتكرّم، وحظي بمحبة ملايين السوريين، وبين وسيم الأسد الذي يقف اليوم مذلولاً أمام قاضي التحقيق محاولاً إنكار الجرائم المنسوبة إليه، يؤكد أن من يقف مع الحق هو من ينتصر في النهاية، وأن من يختار الوقوف مع الباطل سيدفع الثمن غالياً على كل المستويات. وهكذا يتبيّن أن الموقف الأخلاقي هو وحده الذي يرسم النهاية الحقيقية لكل مسار.
٤ ديسمبر ٢٠٢٥
في حدث يعدّ نقطة تحوّل في موقع سوريا على خريطة العلاقات الدولية، وصل وفد كامل من ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى دمشق، في زيارة رسمية هي الأولى من نوعها منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، وتأتي في توقيت لافت يرتبط بمرور عام كامل على التحرير، وبمستجدات سياسية واقتصادية أبرزها رفع جزء من العقوبات الدولية عن القيادة السورية الجديدة، وفي مقدمتها الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب.
هذه الزيارة تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية عميقة، تؤسس لمرحلة جديدة كاملة من العلاقة بين سوريا والمجتمع الدولي، وتعيد ترسيم دور دمشق في الإقليم والعالم.
أولاً: سورية تدخل عامها الأول من السيادة الكاملة بعد التحرير
تزامن الزيارة مع الذكرى السنوية الأولى للتحرير لم يكن مصادفة، بل رسالة واضحة مفادها أن سوريا أصبحت دولة مستقرة تتعافى من آثار الحرب، وتعيد بناء مؤسساتها على أسس جديدة تتسم بالشفافية والحوكمة والانفتاح.
ويشير توقيت الزيارة إلى اعتراف متزايد بأن سوريا تجاوزت مرحلة "إدارة الأزمة" ودخلت في مرحلة "إدارة الدولة"، فالاستقرار الأمني النسبي، وعودة المؤسسات للعمل، وبدء مشاريع إعادة الإعمار، جميعها عوامل جعلت سوريا تُقدَّم اليوم كـ"نموذج دولة خارجة بنجاح من صراع طويل".
ثانياً: إجماع دولي استثنائي… وسابقة منذ أربعة عشر عاماً
للمرة الأولى منذ عام 2011، يتفق أعضاء مجلس الأمن —الدائمون وغير الدائمين— على زيارة مشتركة إلى دمشق، وهذا الإجماع يعكس "اعترافاً بشرعية المؤسسات السورية الجديدة، وإدراكاً بأن البلاد تسير نحو استقرار دائم، واستعداداً دولياً للتعامل مع سوريا كدولة ذات سيادة لا كملف أمني.
كما أن خلافات الدول الكبرى حول سوريا، والتي عطلت المجلس طوال سنوات، تراجعت اليوم لمصلحة رؤية جديدة مفادها: سوريا باتت مستقرة بما يكفي لفتح صفحة سياسية جديدة.
ثالثاً: محاولة أممية لاستعادة ثقة السوريين
خلال سنوات الحرب، فقد السوريون الثقة بمجلس الأمن نتيجة عجزه عن وقف الجرائم والانتهاكات.
لكن الزيارة الحالية تمنح المجلس فرصة مهمة لـ (إعادة بناء الثقة المفقودة، فهم الواقع السوري بعيداً عن تقارير القاعات المغلقة، والتواصل المباشر مع القيادة السورية الجديدة، وإظهار احترام السيادة السورية بعد سنوات من التجاهل الدولي)، هذه النقلة من "مجلس أمن يراقب سوريا" إلى "مجلس أمن يزور سوريا" تحمل رمزية سياسية كبيرة.
رابعاً: رسالة مباشرة بعد الاعتداء الإسرائيلي الأخير
تأتي الزيارة بعد أيام قليلة من الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي السورية، في لحظة حساسة أمنياً، ويمكن قراءة الزيارة كرسالة دولية واضحة هي (التمسك بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، ورفض الاعتداءات الخارجية أيّاً كان مصدرها، ودعم الاستقرار الداخلي، والاعتراف بأن سوريا ليست ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية)، كما أن الوجود الأممي في دمشق بهذا التوقيت يشكّل مظلة سياسية معنوية للدولة السورية في مواجهة أي تهديد خارجي.
خامساً: سوريا تنتقل من مسار الحرب إلى مسار التعافي
تؤكد الزيارة أن سوريا تتقدم نحو مرحلة إعادة الإعمار الشامل، حيث تتركز أولويات الدولة على "إعادة بناء البنية التحتية المنهكة، وإعادة الخدمات الأساسية، وتأهيل الاقتصاد الوطني، وعودة النازحين والمهجرين، وإصلاح المؤسسات الأمنية والإدارية"، فما يجري اليوم يضع سوريا على مسار التنمية بعد أكثر من عقد من الحرب.
سادساً: سوريا لم تعد ملفاً مطروحاً على طاولة الأزمات الدولية
واحدة من أهم دلالات الزيارة أن سوريا خرجت من دائرة الانهيار الأمني والسياسي التي كانت تفرض نقاشات مستمرة داخل مجلس الأمن.
اليوم: تقلصت الحاجة إلى الاجتماعات الطارئة حول سوريا، وتحوّلت الدولة من "أزمة دولية" إلى "دولة مستقرة تتفاعل مع الأمم المتحدة"، وباتت دمشق طرفاً فاعلاً لا موضوعاً للتجاذبات، فاستقبال مجلس الأمن فوق الأراضي السورية هو اعتراف عملي بأن السيادة السورية باتت كاملة وأن البلاد تستعيد دورها الطبيعي كدولة مستقلة كاملة الأهلية.
سابعاً: بداية مرحلة جديدة في علاقة سوريا بالأمم المتحدة
الزيارة تعكس تحولاً عميقاً في علاقة دمشق بالمؤسسات الدولية، من علاقة توتر ومراقبة، إلى علاقة شراكة واحترام، وتفتح الزيارة الباب أمام: مشاركة أممية في برامج التعافي المبكر، ومشاريع إعادة الإعمار، ودعم المؤسسات الإدارية والقانونية، وبرامج دعم العودة الآمنة للنازحين، وتعاون اقتصادي وخدمي طويل الأمد، وهذه العلاقة الجديدة تقوم على التنسيق وليس الإملاء.
ثامناً: ترسيخ مبادئ السيادة ووحدة الأراضي
تؤكد سوريا الجديدة على أن الحلول لا يجب أن تُفرض من الخارج، وأن ملكية القرار الوطني بيد السوريين فقط، وهو ما يعترف به المجتمع الدولي اليوم بصورة أوضح من أي وقت مضى.
الزيارة بحد ذاتها تمثل اعترافاً أممياً بوضوح: بسيادة الدولة السورية، وحدة أراضيها، وحقها في إدارة شؤونها الداخلية دون تدخل.
تاسعاً: اعتراف مباشر بصمود الشعب السوري
لا تغيب الرسائل المرتبطة بالشعب السوري عن المشهد، فالوفود تدرك تماماً أن صمود السوريين ــ رغم كل الظروف ــ هو ما أعاد البلاد إلى موقعها الطبيعي، وتحمل الزيارة دلالة تقدير دولي لـ: الإرادة الشعبية، قوة المجتمع، وشرعية المشروع الوطني الجديد.
خلاصة المشهد
الزيارة التاريخية لمجلس الأمن إلى دمشق تمثل إعلان دولي جديد مفاده أن سوريا استعادت سيادتها، وفرضت استقرارها، وعادت لاعباً شرعياً في المجتمع الدولي، وسوريا الجديدة — بقيادتها ومؤسساتها وشعبها — تدخل اليوم مرحلة سياسية مختلفة، تُبنى فيها العلاقات على الاحترام المتبادل، لا على الضغوط، وعلى الشراكة، لا على الإملاء.
١ ديسمبر ٢٠٢٥
لم يكد يمضي يوم على سقوط نظام بشار الأسد حتى بدأت الروايات والأسئلة تتزاحم حول ما جرى، كيف سقط الأسد؟ ومن أسقطه؟ وكيف سقط بهذه السرعة؟ وأين روسيا وايران وحزب الله والميليشيات الايرانية والعراقية؟ كل هذه الاسئلة والروايات، هي محاولات للتشكيك بقدرة السوريين على أخذ قراراتهم بأيديهم.
وكأن الذاكرة السورية ذاتها أصبحت ساحة معركة موازية للمعركة التي دارت على الأرض، وبينما تتوالى محاولات تفسير الحدث عبر عيون الخارج، أو ربطه بإرادات عابرة للحدود، توجد رواية سورية واحد أكثر التصاقاً بالواقع وأكثر قرباً من نبض الأرض: معركة “ردع العدوان” لم تكن قراراً دولياً، ولا ثمرة صفقة إقليمية، ولا نتيجة ضوءٍ أخضر أميركي أو رغبةٍ تركية طارئة، بل كانت حصيلة تراكم داخلي بدأ منذ اللحظة التي أدرك فيها السوريون أن بقاءهم كثورة وفصائل وجماعات مسلّحة لا يعني إلا خسارة جديدة في كل جولة.
على طرف السرديتين يقف سؤال واحد يحمل في جوفه معنى أكبر بكثير من السياسة: من يملك حق سرد قصة السقوط؟ هل هو الخارج الذي فوجئ بالوتيرة، أم الداخل الذي خطّط وصبر وأعاد ترتيب صفوفه بعيداً عن ضوء الكاميرات؟
السؤال نفسه هو ما يعيد تشكيل النقاش اليوم، وهو ما يفرض إعادة قراءة ما جرى خلال الأسابيع والاشهر والسنوات التي سبقت معركة “ردع العدوان” والأيام الأحد عشر التي تلتها، ليس كأحداث متفرقة، بل كمسار واحد يؤكّد أن القرار الذي غيّر مصير سوريا لم يصدر من أيّ عاصمة خارج حدودها.
لم يكن مفاجئاً أن تخرج أصوات دولية – بينها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب – لتتحدث عن دور الدول، وأن تُنسب المعركة إلى تفاهمات لا مصدر لها إلا التصريحات المتأخرة. فالرواية الجاهزة التي تقول إن “أردوغان هو من أسقط الأسد”، أو أن الانهيار لم يتم إلا بتفاهمات من فوق، تجد دائماً جمهوراً يفضل تفسير الأحداث الكبيرة عبر إرادة القوى الكبرى لا إرادة الناس.
يعود هذا الميل إلى ثلاثة أسباب رئيسية تداخلت لحظة سقوط النظام: غياب المعلومات الدقيقة في الأيام الأولى للعملية، وصدمات الانهيار السريع التي جعلت كثيرين عاجزين عن فهم كيف يمكن لمنظومة أمنية حكمت سوريا نصف قرن أن تتداعى بهذه السرعة، ثم رغبة بعض القوى الدولية في إظهار نفسها وكأنها صاحبة القرار، لا جمهور المقاتلين على الجبهات.
لكن أي قراءة جادة تحاول المرور عبر طبقات الحدث تدرك أن هذه السردية – مهما اكتسبت زخماً إعلامياً – لا تصمد أمام الوقائع. فالمواقف التركية والأميركية والروسية، منذ لحظة التخطيط وحتى اللحظة الأخيرة من تنفيذ العملية، تشير إلى مشهد مختلف تماماً عما يُشاع. فتركيا لم تكن في صفّ العملية حين بدأت، وأميركا التزمت الحياد الصامت، وروسيا تراجعت تحت ضغط الميدان لا تحت ضغط مفاوضات خلف الستار. وحين تتراكم هذه العناصر في صورة واحدة، يصبح من الصعب الدفاع عن فكرة أن السقوط جاء بقرار دولي.
لم يكن تحرير حلب مجرد انتصار ميداني يفتح الطريق جنوباً، بل كان نقطة انعطاف إقليمية أعادت رسم حسابات العواصم المحيطة بسوريا. فبعد دخول قوات “ردع العدوان” إلى المدينة واستقرارها فيها، بدأت أنقرة تتحرك بسرعة غير معهودة باتجاه موسكو وطهران، محاولةً احتواء الصدمة ومنع انفلات الموقف نحو مواجهة إقليمية مفتوحة.
توجه وزير الخارجية هاكان فيدان لممارسة ضغوط صريحة على الطرفين: أولاً لوقف أي تفكير بالتصعيد الجوي، وثانياً لتحييدهما عن خطّ المعركة التي كانت تتقدم بسرعة لم يتوقعها أحد. هذا التحرّك التركي كان حاسماً في تسريع الانهيار، لكنه لم يكن يوماً سبباً رئيساً فيه؛ فأنقرة لم تصنع اللحظة، بل لاحقتها. التحوّل التركي كان استجابة لواقع جديد صنعته الإرادة السورية على الأرض، لا مقدمة له.
وهنا تكتسب رواية أسعد الشيباني، وزير الخارجية السوري، أهمية خاصة. ففي مقابلته مع مجلة «المجلة» شرح كيف بدأ تفكيك العقدة الروسية. يروي الشيباني أن قنوات التواصل مع موسكو لم تُفتَح تحت ضغط تركي، بل بقرار سوري صريح جاء من داخل غرفة العمليات ومن رؤية سياسية نضجت خلال سنوات.
ويؤكد أن قيادة ردع العدوان، كانت قد وصلت إلى قناعة واضحة: تحييد روسيا لا يكون عبر الاصطدام، بل عبر وضعها أمام الحقيقة التي لم تستطع طمسها بعد تحرير حلب—أن النظام الذي حاربوا من أجله يتداعى، وأن الدفاع عنه بات عبئاً سياسياً وعسكرياً لا مكسباً استراتيجياً.
ما فعله الأتراك بعد تحرير حلب كان أشبه بإزاحة الضباب عن المشهد، لكنه لم يكن ما رسم الخطوط الأولى فيه، ومن يقرأ ما يقوله الشيباني في المقابلة يدرك أن التحوّل الأكبر حدث حين التقت الرؤية السورية الجديدة مع لحظة إدراك روسية متأخرة بأن القصف لم يعد مجدياً، وأن الحفاظ على مواقع النفوذ يتطلب صياغة علاقة مع القوة الجديدة، لا حماية نظام لم يعد يملك حتى القدرة على إدارة معركة دفاع واحدة.
وكشف الشيباني أنّه لم يتحدث مع قادة عسكريين روس عاديين، بل مع شخصية رفيعة جدًا، وقال إنّ اللقاء كان مباشرًا في معبر باب الهوى،، وذكر أنّ وسيطًا أعلمهم بعد إصدار بيان سياسي من غرفة عمليات ردع العدوان أنّ الرئيس فلاديمير بوتين نفسه قرأ البيان وأُعجب به، مما دلّهم على أنّ الرسالة وصلت.
وقال الشيباني للمجلة إنه بدأ حديثه مع الوفد الروسي من موقع وطني لا من موقع المنتصر، وقال لهم: «نحن الشعب السوري اخترنا التغيير. تحالفكم مع النظام كان خطأ، ويمكن تصحيح الخطأ. شراكتكم يجب أن تكون مع دولة لا مع عصابة».
وقال إنه خاطبهم بسؤال رمزي: «كم مرة ستعيدون حلب للنظام؟ أعطيتموه إياها عام 2016، وخسرتم سمعتكم، ثم تخلّى هو عنها». وأشار إلى أنّ المنطقة كانت مهيأة لتفهم هذا الطرح العقلاني.
وهكذا، وجدت روسيا نفسها أمام معادلة جديدة: واقع ميداني فرضته “ردع العدوان”، وموقف تركي جديد يرغب بالتغيير، ورؤية سورية سياسية مختلفة جذرياً عمّا عرفته موسكو خلال سنوات الحرب.
لا غرابة إذن أن تتسارع الأحداث بعد ذلك. فحين بدأ الروس يسحبون قواتهم وأوقفوا دعمهم الجوي، كان الضباط السوريون التابعون للنظام يدركون أن اللحظة انتهت، وأن تماسك منظومتهم صار وهماً.
وأكثر ما يدحض السردية التي تقول إن إسقاط الأسد جاء بتوجيه دولي هو الموقف التركي قبل المعركة. فأنقرة لم تكن مؤيدة للعملية حين كانت تُعدّ في غرف القيادة شمال البلاد. على العكس تماماً، كانت تتخوف من انتصار جديد وحاسم لنظام الأسد وهزيمة جديدة للفصائل، يطلق موجة نزوح جديدة ويفتح الباب أمام فوضى حدودية لا يمكن ضبطها، حيث حاولت تركيا الضغط لوقف ردع العدوان.
لكن ما إن تحررت حلب وسقطت غرف قيادة الأسد والإمداد للنظام حتى تغيّر المشهد السياسي. حينها فقط أدركت أنقرة أن الثورة السورية تنتصر وتتقدم، وأن النظام يتفكك من الداخل بسرعة تفوق أي تقدير سابق. الموقف التركي لم يقُد العملية؛ لقد لحق بها، فحين كان الداخل السوري وحده يرسم خط النهاية، كان الخارج يحاول فقط مواكبتها، لا قيادتها.
أما الولايات المتحدة فقد بقيت في زاوية المشهد: تراقب، تحلل، تصدر بيانات عامة حول حماية المدنيين، لكنها لم تدخل بأي مستوى من مستويات الضغط أو الإسناد. لم تفتح واشنطن أجواء، ولم ترسل مستشارين، والسؤال البديهي هنا: إذا كانت أميركا تملك القدرة والإرادة لإسقاط النظام، لماذا لم تدفع بهذا المسار عام 2013 حين كان النظام أضعف وأقل قدرة على المقاومة؟
جواب هذا السؤال وحده يكفي لسحب البساط من سردية “القرار الدولي”.
لنفهم كيف تحوّل السوريون من موقع الدفاع في 2020 إلى بوصلة تقرير مصيرهم في نهاية 2024، لا بد من العودة إلى تلك السنوات التي عملت فيها الفصائل بصمت، وأعادت خلالها بناء نفسها من جديد. كانت الهزيمة الثقيلة في إدلب نقطة الصفر لهذا التحوّل، اللحظة التي واجه فيها القادة العسكريون والسياسيون واقعاً يقول إن استمرار الفصائلية يعني انتهاء الثورة فعلياً حتى لو ظلت موجودة شكلياً.
منذ ذلك الوقت بدأ تفكيك النموذج القديم واستبداله بمنظومة أكثر تماسكاً: مركز قيادة موحّد في إدلب، كليات عسكرية وشرطية، تفويض ميداني لقادة المحاور، توحيد القرار الاستراتيجي تحت مظلة واحدة، وتأسيس شبكة اتصالات مؤمّنة قادرة على إدارة جبهات تمتد من ريف اللاذقية غرباً إلى أطراف حماة جنوباً.
لم يكن هذا عملاً تقنياً فحسب، بل كان شرطاً وجودياً لإطلاق أي عملية لاحقاً. فالمعركة لم تكن لتُخاض بجيش موزّع بين غرف عمليات متعددة، ولا بخطاب سياسي متناقض، ولا بقدرة لوجستية وصحية هشّة.
في الوقت نفسه كانت السماء تُعاد كتابتها. لم تستطع الثورة امتلاك سلاح جو، لكنها امتلكت ما يكفي لتغيير قواعد الاشتباك: “الشاهين”، تلك الطائرة الصغيرة محلية الصنع التي بدأت كأداة استطلاع ثم تطورت إلى منصة ضرب دقيقة. ومع توسّع بنك الأهداف الاستخبارية، وتكامل الاستطلاع الجوي مع وحدات الرصد الأرضية، اكتسبت القوى الثورية للمرة الأولى منذ سنوات القدرة على التأثير في مسار المعركة من السماء، ولو بحدود إمكانياتها.
هذه البنية – بكل تفاصيلها التقنية والتنظيمية – لم تولد من دعم خارجي. جاءت حصيلة عمل محلي، داخل غرف ضيقة، وتحت ضغط نقص الموارد، وبعقلية تتجه نحو فكرة الدولة لا فكرة الفصيل. ولذلك، عندما أُعلنت “ردع العدوان”، لم تنطلق من فراغ؛ كانت ذروة لمسار طويل كان بوسعه أن يتعثر مرات عديدة، لكنه ظل يتقدم نحو لحظة الحسم.
كان الانهيار العسكري للنظام يتسارع على الجبهات، لكن ما لم يكن مرئياً للعلن في ذلك الوقت هو أن قيادة “ردع العدوان” كانت تخوض معركة موازية على جبهة أخرى: جبهة تفكيك إرادة القتال داخل صفوف النظام نفسه. فمع كل كيلومتر كانت القوات تتقدمه على الأرض، كانت قنوات الاتصال السرية تنفتح مع ضباط وقادة ألوية في جيش الأسد، في محاولة لحقن الدم وتحويل الهزيمة العسكرية المحتومة إلى انهيار بلا معارك عبثية.
لم تكن هذه الاتصالات جزءاً من صفقة دولية أو امتداداً لضغوط خارجية، بل قراراً داخلياً صيغ في غرف العمليات، هدفه تحييد خطوط الدفاع قبل الوصول إليها، وتخيير الضباط بالاستسلام او الموت، وإعطائهم فرصة للنجاة من معركة يعرف الجميع أنها خاسرة.
كثيرون استجابوا. وسلّم قادة ألوية مواقعهم دون طلقة، وفتحت بعض المراكز أبوابها قبل وصول وحدات التحرير إليها بساعات، ولعب هذا المسار دوراً حاسماً؛ فالجبهات التي كان يفترض أن تكون “خطوط الصدّ” لحماية نظام الأسد، تهاوت خلال ساعات لأن من كان ينبغي أن يقاتل فيها اختار الانسحاب خوفا من الموت أو بعد التفاهم مع غرفة عمليات ردع العدوان، وذلك بعدما تلقّى ضمانات واضحة بالأمان.
وكثيرون من جنود النظام وضباطه أيضا رفضوا التسليم والاستسلام، فكان مصيرهم الموت تحت جحافل الثوار وطائرات الشاهين، وضربات المقاتيلن الذي أتوا من كل حدب وصوب، حيث كان تقدمهم سريعا على كل الجبهات، خاصة أن الجانب النفسي لدى المقاتلين في الطرفين لعب دورا اسياسيا في حسم الكثير من المعارك.
هنا تحديداً تسارعت وتيرة الانهيار، ليس بفعل تفوق ميداني فقط، بل لأن قيادة “ردع العدوان” أدركت أن إسقاط النظام لا يكون دائماً بكثافة النيران، بل أحياناً بالسياسة والإقناع، ومع امتداد هذا المسار عبر الجبهات، تحوّل انهيار قوات الأسد من ظاهرة موضعية إلى تسلسل متتابع، ساهم بشكل مباشر في تقليص كلفة المعركة البشرية وفتح الطريق أمام سقوط النظام بوقت أقصر مما توقعه حتى أقرب خصومه.
بعد عام على سقوط النظام، ما زال الصراع يدور بين سرديتين: سردية تحاول نسب الحدث إلى الخارج، وسردية أخرى تقول إن ما جرى كان لحظة الانتصار السوري الأولى التي تمت بقرار سوري وإرادة سورية، وجاءت نتيجة أعوام من البناء الداخلي، والتخطيط الطويل، والعمل المؤسساتي الذي لم يكن مرئياً إلا لمن عاش في تلك الجبهات.
الرواية التي تربط السقوط بقرار دولي تبدو سهلة ومريحة؛ فهي تختصر تعقيد اللحظة، وتمنح القوى الكبرى دوراً متخيلاً اعتادت أن تنسبه لنفسها. لكنها، في وجه الحقيقة، لا تقوم على وقائع، فالمعركة التي انطلقت من إدلب، وتوسعت نحو حلب وحماة وحمص والجنوب، ووصلت إلى قلب دمشق، لم تُكتب في واشنطن ولا في أنقرة. كُتبت على خطوط النار، وفي غرف العمليات التي أُعيد بناؤها حجراً فوق حجر.
ولعل الدرس الأكبر الذي تبقى معركة “ردع العدوان” تقدمّه اليوم هو أن القرار السوري – حين تتراكم أدواته وتتوحد قيادته – قادر على أن يغيّر المعادلات التي تبدو ثابتة. أما الروايات الأخرى لن يغيّر من حقيقة أن السوريين، لأول مرة منذ عقود، استطاعوا استعادة زمام المبادرة دون انتظار إشارة من أحد، وأن ما سقط في تلك الأيام الأحد عشر لم يكن نظاماً فحسب، بل الفكرة التي تقول إن سوريا لا تتحرك إلا حين يقرر الآخرون ذلك.
٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥
في لحظة فارقة تعيشها سوريا، تحاول فيها الدولة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع ترسيخ مشروع وطني جامع، يعود الخطاب الطائفي ليتسلل مجدداً عبر مواقف أطلقها رجال دين بارزون من الأقليات، في مقدمتهم الشيخ حكمت الهجري في السويداء وغزال غزال في مناطق الساحل السوري.
ورغم صمتهم الطويل إزاء الانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد لعقود، فإنهم اليوم يتقدمون بمطالب تحمل في جوهرها مشاريع انفصالية تحت غطاء حماية "المكون" أو الدفاع عن "الخصوصية الطائفية".
التناقض الصارخ: صمت الأمس وصخب اليوم
منذ عام 2011، سكت معظم رموز الطوائف عن المجازر والقمع الذي مارسه النظام السابق، حتى حين كان الضحايا من عموم السوريين، بمن فيهم أفراد من طوائفهم، ورغم المجازر في درعا، وحمص، وحلب، والغوطة، وغيرها، لم يصدر عن حكمت الهجري أو غزال غزال موقف واضح أو إدانة صريحة، بل كانوا لوقت قريب في صف الجلاد ومن مؤيديه.
اليوم، ومع تغيّر المعادلة السياسية، وتصاعد خطاب الوحدة والانفتاح، يخرج هؤلاء بمواقف متشنجة تروّج للامركزية والانفصال، وتدّعي أن السلطة الجديدة قد تشكل خطراً على طوائفهم، وكأن سوريا تُعاد صياغتها على أسس طائفية لا وطنية.
خطاب الطائفة بدل خطاب الدولة
خطورة ما يُطرح من قِبل الهجري وغزال لا تكمن فقط في محتوى التصريحات، بل في التوقيت والهدف عبر التركيز على خصوصية الطائفة بدلًا من المواطنة، والمطالبة بحكم ذاتي أو إدارة منفصلة، والحديث عن مظلومية جماعية متأخرة ومغلوطة، كل ذلك يعيدنا إلى مربّع الانقسام، ويُضعف من قدرة الدولة على صناعة مشروع جامع لا يُقصي أحدًا.
غطاء ديني لمشاريع مشبوهة
حين يستخدم رجل دين منبره لإثارة المخاوف الطائفية، أو للدعوة إلى اعتصامات تُرفع فيها شعارات طائفية، فإنه لا يمارس حقه في التعبير فقط، بل يوفّر مظلة روحية لمشاريع سياسية مشبوهة قد تهدد وحدة البلاد.
الشيخ حكمت الهجري لم يتردد في التلويح بخيار العزلة، فيما غزال غزال لم يُخفِ دعمه لدعوات مشبوهة تطالب بإطلاق سراح مجرمين صنّفهم القضاء كمشاركين في جرائم حرب، مقدّماً ذلك على أنه دفاع عن "العلوية".
خطورة هذا الخطاب
تقويض مشروع الدولة: حين يُقال إن المكوّن يحتاج إلى حماية خارج الدولة، فإن ذلك يعني نزع الثقة من المؤسسات، وإعادة إنتاج الطائفية: وهي البيئة نفسها التي غذّت الحرب والانقسام، كذلك فتح الباب لتدخلات خارجية: من خلال تصوير المجتمع السوري كموزاييك هشّ قابل للتفكيك.
التسامح لا يُقابل بالتحريض
السلطة الجديدة، منذ وصولها، أبدت مرونة كبيرة في التعامل مع مختلف المكوّنات، وأكدت التزامها بالمصالحة والعدالة واللامركزية الإدارية ضمن وحدة الدولة، وبرزت مشاهد غير مسبوقة، مثل حماية قوى الأمن لتظاهرات في الساحل رغم الشعارات الطائفية، وتكريس خطاب رسمي يحترم الجميع، لكن هذه اليد الممدودة لا يمكن أن تقابل بخطابات تقسيمية وتجييش داخلي باسم الطائفة. لا أحد فوق الدولة، ولا أحد أحق من الآخر في سوريا الجديدة.
الحاجة إلى خطاب وطني جامع
سوريا اليوم تحتاج إلى أصوات توحّد لا تفرّق، تبني لا تهدم، وعلى رجال الدين، إن أرادوا لعب دور في هذه المرحلة، أن يكونوا جسور تواصل لا جدران عزل، فلا حرية لمشروع يُقام على الخوف، ولا حماية لطائفة تأتي على حساب السلم الأهلي.
إن ما يطرحه رجال مثل حكمت الهجري وغزال غزال، وإن بدا نابعًا من قلق مشروع، إلا أنه يحمل في طيّاته ملامح تفكيك وتهديد للسلم الأهلي، والحل لا يكون بالخوف أو بالمساومات الطائفية، بل بإعادة بناء الثقة على أساس المواطنة والعدالة، وعلى الدولة، والمجتمع، والنخب الواعية، الوقوف في وجه كل خطاب يُعيد إنتاج الانقسام تحت أي ذريعة كانت.
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥
في مشهد غير مألوف في الذاكرة السورية، قامت وحدات قوى الأمن الداخلي بحماية وتأمين تظاهرات خرجت في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص، شارك فيها المئات من أبناء الطائفة العلوية، ورفعت شعارات بعضها ذو طابع طائفي، وبعضها يحمل مضامين سياسية حادة، طالت النظام الجديد ووحدة السوريين.
وبينما بدا المشهد محاطاً بضمان أمني دقيق لتجنّب أي صدام أو اعتداء، سارع كثير من السوريين إلى المقارنة بين هذا "التسامح الرسمي" وتلك "القبضة الحديدية" التي واجه بها نظام الأسد البائد أولى التظاهرات الشعبية في ربيع عام 2011.
رسالة أمنية واضحة: حرية التعبير للجميع... دون تمييز طائفي
يرى متابعون أن ما قامت به قوى الأمن الداخلي من تأمين كامل للمظاهرات العلوية، ومنع أي احتكاك أو صدام، بعث برسالة واضحة مفادها أن الدولة السورية الجديدة تتعامل بمفهوم الأمن الوطني لا الأمن السلطوي، وأن حرية التعبير لا تُقمع مهما كان مصدرها أو خلفيتها، شريطة عدم تجاوز القانون والمسّ بالسلم الأهلي.
هذا السلوك، وفق مراقبين، يعكس تحوّلاً جوهرياً في ذهنية المؤسسات الأمنية، التي كانت – لعقود – أداة في يد السلطة لقمع الحريات والتنكيل بالمعارضين، دون أي اعتبار للمطالب الشعبية أو التظاهرات السلمية.
النظام البائد: براميل على الأحياء وصيدنايا شاهد حي
في المقابل، لا يمكن نسيان كيف واجه نظام الأسد البائد تظاهرات درعا، ودوما، وحمص، وحماة، .... وغيرها في عام 2011، حيث اختار الرد بالنار والاعتقال والتعذيب، بدل الاستماع للمطالب الشعبية، فتمّ إطلاق الرصاص على المتظاهرين، والزجّ بعشرات الآلاف في أقبية التعذيب، وارتكبت مجازر موثّقة، بينما امتلأت سجون صيدنايا وفرع فلسطين بضحايا الرأي والكرامة.
فحين طالب السوريون بالحرية والكرامة، أُطلق عليهم الرصاص الحي، وهُدمت منازلهم، وأُحرقت أحياؤهم. أما اليوم، فقد جرى تأمين مظاهرات رفعت مطالب سياسية حادة، بعضها تضمّن انتقادات صريحة للرئيس والمؤسسات، دون أن يُسجّل أي تدخل عنيف.
كيف قرأ السوريون حماية التظاهرات العلوية مقارنة بسنوات القمع؟
هذا التحول في تعاطي الدولة مع التظاهرات، وخاصة تلك التي خرجت من البيئة التي لطالما ارتبطت تاريخياً بالنظام البائد، أثار موجة من ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر فيها سوريون من خلفيات متعددة عن قراءتهم لما جرى، مقارنين بين ما حدث اليوم، وما جرى في عام 2011 حين واجه نظام الأسد البائد الحراك الشعبي بالحديد والنار.
فراس طلاس: لولا الثورة لما حلمتم بالتظاهر
قال رجل الأعمال والمعارض السوري فراس طلاس: "كنت أتمنى أن يهتف متظاهرو الساحل وريف حماة: حرية للأبد غصباً عنك يا أسد، لولا الحرية التي نالها السوريون لما تجرأوا حتى على التفكير بالتظاهر". وحيّا شباب الأمن العام على ما أسماه “التحمل والمسؤولية الوطنية”.
عبد الرحمن الإسماعيل: كنا أهدافاً مشروعة لرصاص الشبيحة
ذكّر عبد الرحمن الإسماعيل بماضي القمع قائلاً: "كنا نحلم ألا يرانا عناصر الأمن أثناء تظاهرنا في زمن البعث، كنا أهدافاً مشروعة لبنادقهم وسكاكينهم"، مؤكداً أن مشهد حماية الأمن للمتظاهرين اليوم هو دين في رقاب الجميع لدماء الشهداء.
عهد زرزور: شكراً للثورة... علمتموهم الكرامة
الكاتبة عهد زرزور كتبت: "شكراً للثورة السورية العظيمة، علّمت الناس الكرامة وقدسية الصوت"، موجهة التحية لمليون شهيد ومئات آلاف المعتقلين والمهجّرين، مشددة على أن ما يحدث اليوم هو من صنيع ثوار 2011.
ماجد شمعة: قناة الإخبارية تنقل التظاهرات… حدث نادر
الصحفي ماجد شمعة عبّر عن دهشته من أن قناة الإخبارية السورية غطّت الحدث، وقال: "بعكس إعلام بشار الأسد الذي أمضى 14 سنة ينكر التظاهرات، الدولة الجديدة تدرك أن الشفافية قوة لا ضعف".
ملاذ الحمصي: تظاهر نعم... لكن لا لتمجيد القتلة
قال الناشط ملاذ الحمصي إن التظاهر حق مشروع، وإن حماية الأمن له تعكس صورة الدولة التي نطمح لها، لكنه حذّر من أن مطالب الإفراج عن مجرمي حرب تورطوا بقتل مئات الآلاف ليست سوى محاولة لتزييف الحقائق.
عبد الله الموسى: الدولة حامية لا قاتلة
معاون وزير الإعلام عبد الله الموسى اعتبر أن ما جرى اليوم تأكيد على المسار الصحيح، وقال: "الأمن يحمي احتجاجات متباينة المطالب، والمسؤولون يستمعون حتى لمن يرفع شعارات خاطئة"، وبين أن "ما حدث على الأرض اليوم أكّد شعارات الثورة: حق التظاهر – الدولة الحامية لا القاتلة"
عبد الوهاب أبو علي: الثورة تحققت في مشهد اليوم
الناشط الثوري عبد الوهاب أبو علي قال: "شاهدنا اليوم مسؤولاً رفيعاً يستمع للمتظاهرين، وأمن عام يمنع الصدام رغم تحطيم سياراته"، مضيفاً: "نطالب بالمحاسبة القانونية لأصحاب الخطاب الطائفي، ورفض الفتنة".
زياد المحاميد: رجل الأمن صار أيقونة وطنية
رأى مدير وكالة سانا زياد المحاميد أن الصورة الأبرز اليوم هي لرجل الأمن الذي "يجسد الوطنية والأخلاق"، وقال: "ما حدث ليس مجرد إجراء أمني بل فعل وطني يكرّس احترام الدولة لكرامة المواطن".
مالك أبو عبيدة: ليست كل مظاهرة بريئة
قال الناشط مالك أبو عبيدة إن التظاهر السلمي حق، لكن رفع شعارات طائفية مستفزة في بعض التظاهرات يعيد جراحاً لم تلتئم، محذراً من محاولات بعض الجهات إشعال الفتنة وخلق مشهد مشابه لأحداث دامية.
أنس الدغيم: الفارق شاسع بين هتافنا وهتافهم
علّق الشاعر أنس الدغيم قائلاً: "عندما تظاهرنا تحت رصاصهم، هتفنا: الشعب السوري واحد، أما اليوم فيتظاهرون تحت حمايتنا ويهتفون: الدم العلوي واحد... حسبكم هذا التفاوت بيننا".
محمد جفا: نبني دولة لا سلطة
قال المهندس محمد جفا: "التعامل مع المظاهرات يجب أن يكون مسؤولاً وشفافاً، لأننا نبني دولة تحترم الإنسان، لا سلطة تخشاه، والإعلام يجب أن يكون جزءاً من هذا التحوّل لا تابعاً له".
سيلفا كوريا: خذوا معكم وردة وماء وصورة غياث
دعت الناشطة سيلفا كوريا المتظاهرين إلى "حمل علم الوطن وصورة غياث مطر ووردة وعبوة ماء"، كرمز لما بدأته الثورة، وأضافت: "قد نكون انتصرنا جميعاً حين فهمنا المعنى الحقيقي للحرية".
حسام جزماتي: أنتم ترفعون شعاراتنا
وعلّق الكاتب حسام جزماتي قائلاً: "ما الذي قلناه في 2011 سوى ما ترفعونه اليوم؟ نحن سبقناكم إلى هذا، ودفعنا الثمن، واليوم تحصدون ثماره".
مازن علوش: في سوريا الجديدة لا يُطلق فيها النار على المتظاهرين
وقال مازن علوش مسؤول العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، إن سوريا الجديدة هي تلك التي لا يُطلق فيها النار على المتظاهرين، ولا تُسفك فيها الدماء، ولا تُدهس فيها الأصوات بالدبابات، ولا تُملأ فيها الأقبية بالشباب لأنهم عبّروا عن رأيهم كما كانت زمن النظام البائد.
وبين أن سوريا التي يعلو فيها صوت القانون، وتحكمها أخلاق الدولة لا سطوة السلاح، ويُصان فيها حق الناس في التعبير مهما كان الاختلاف في الآراء، متوجهاً بالشكر والتقدير لعناصر وضباط وزارة الداخلية على ما أظهروه اليوم من تعاملٍ أخلاقي ومسؤول مع جموع المتظاهرين، وعلى ضبط النفس رغم ما تعرّضوا له من أذى وشتائم وتجاوزات. لقد قدّموا نموذجاً راقياً لسلوك رجل الأمن الذي يحفظ كرامة الناس ويؤمّن سلامتهم دون عنف أو قمع.
والثابت أن ما جرى اليوم في مدن الساحل السوري وحمص لم يكن مجرد مشهد احتجاجي، بل لحظة مفصلية تكشف عمق التحولات التي تمرّ بها الدولة السورية، وشكل العلاقة الجديد بين السلطة والمجتمع، فبينما كان النظام البائد لا يرى في السوريين سوى أعداء محتملين، تأتي اليوم مؤسسات الدولة لتقول إنها الضامن لحق التعبير، والحامية لحريات المواطنين، مهما كانت هويتهم أو خلفيتهم.
٦ نوفمبر ٢٠٢٥
لم يكن مقطع الفيديو الذي انتشر خلال الأيام الماضية على منصات التواصل الاجتماعي في سوريا مجرد مشهد عابر، بل كان كاشفاً لحساسية مرحلة تُحاول فيها البلاد إعادة بناء معنى الدولة والقانون والاحترام المتبادل.
فقد ظهر رجل يقود سيارة في أحد شوارع دمشق وهو يخاطب شرطي مرور بكلمات متعالية قائلاً: "أنا استخبارات ولاك"، جملة قصيرة، لكنها حملت أثقال تاريخ طويل من التسلط والاستقواء الذي عرفه السوريون خلال عقود حكم النظام البائد.
المشهد كان كفيلاً بإثارة موجة واسعة من ردود الفعل لأن السوريين الذين دفعوا دمائهم طيلة سنوات من القهر والتشرد لن يقبلوا العودة ولو خطوة إلى الوراء حيث دولة الاستبداد والاستقواء على الضعفاء وفرض سلطة الأمن المتعالية على الشعب.
ومما يؤكد وعي السوريين، تحول الفيديو إلى مساحة نقاش مفتوح حول قيم الدولة، واحترام المؤسسات، وحدود الصلاحيات، والحق في المساواة أمام القانون، ورأى عدد كبير من السوريين الذين تداولوا المقطع أن ما حدث ليس مجرد تجاوز فردي من شخص ادعى الانتماء إلى جهاز أمني، بل هو تذكير حي بممارسات ظلت لسنوات إحدى أدوات القمع وترسيخ الخوف.
لم يجد كثيرون صعوبة في ربط الواقعة بعبارات مألوفة من مرحلة النظام البائد، مثل: "ما بتعرف مين أنا" و "نحن الدولة"، كان هذا الأسلوب انعكاساً لمنظومة كاملة عملت على وضع الأجهزة الأمنية فوق القانون، وعلى جعل بعض أفرادها يشعرون أنهم غير قابلين للمحاسبة، واليوم، حين تعود هذه اللغة للظهور ولو في مشهد واحد، فإن رد الفعل الشعبي يحمل قدراً من الحساسية والرفض الطبيعي، لأنه يلامس جرحاً لم يلتئم بعد.
ومن جانب آخر، أثنى آلاف السوريين على سلوك شرطي المرور الذي ضبط نفسه وتعامل مع الموقف بقدر عالٍ من الهدوء والمهنية، ما اعتُبر مثالاً لسلوك رجل الدولة الذي لا ينجرّ إلى الاستفزاز ولا يسمح للانفعال بأن يحكم تصرفاته.
وفي سياق الرد الرسمي، وبعد انتشار الفيديو، أعلنت وزارة الداخلية أنها أوقفت المعتدي فوراً وأحالته إلى القضاء، ليتم اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّه، ودعت إلى تعزيز ثقافة احترام رجل المرور والالتزام بالقانون، مؤكدة أن "لا أحد فوق القانون تحت أي ظرف"، وهذا ماينشده السوريون جميعاً ويطمحون لتطبيه فعلياً وعلى الجميع.
بهذا الموقف، بدا واضحاً أن مؤسسات الدولة تحاول إرسال رسالة مباشرة مفادها أن السلوكيات التي ترمز إلى مرحلة الاستبداد ليست موضع تساهل، وأن القانون هو الإطار الناظم للجميع مهما كانت صفته أو ادعاؤه.
تكمن أهمية الحادثة في أنها فتحت نقاشاً ضرورياً: كيف تُبنى دولة القانون؟ وكيف تُستعاد الثقة بين المواطن ومؤسسات الأمن والشرطة؟، والإجابة لا تكمن فقط في العقوبات القانونية، بل أيضاً في: تعزيز مكانة شرطي المرور كعنصر مدني مسؤول عن حماية السلامة العامة لا مجرد "مُنظِّم سير".
كذلك بمواجهة ثقافة الاستعلاء بكل أشكالها، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو أمنية، وإعادة تعريف الانتماء للمؤسسات الأمنية على أنه خدمة عامة لا امتيازاً فوق المجتمع، فما أثاره هذا الفيديو لم يكن مجرد موجة غضب عابرة، بل خطوة إضافية في مسار طويل لإعادة تشكيل علاقة السوريين مع الدولة.
واليوم، يتفق كثيرون على أن سوريا الجديدة لن تُبنى ما لم يكن القانون هو المرجعية المطلقة، والمساواة مبدأ لا يُستثنى منه أحد، وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذه الواقعة، فهو أن التحول الحقيقي يبدأ من التفاصيل الصغيرة… من كلمة تُقال، أو سلوك يُرفض، أو شرطي مرور يؤدي واجبه باحترام.. فيُعيد تعريف معنى الدولة.
٣ نوفمبر ٢٠٢٥
قال "فضل عبد الغني" مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال بعنوان "عزل المتورّطين وانتهاج عدالة انتقالية بشأن الضحايا"، إن انهيار الأنظمة الاستبدادية يشكّل تحدّياً بالغاً للمجتمعات في مساري التحوّل المؤسّسي وتحقيق العدالة، وفي السياق السوري، وبعد أكثر من نصف قرن من سيطرة نظام الأسد، تغدو كيفية معالجة إرث الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان بالتوازي مع بناء مؤسّسات ديمقراطية مسألةً بالغة الأهمية.
ينطلق هذا المقال - الذي نشره موقع العربي الجديد - من فكرة مفادها بأنَّ إقصاء المتورّطين في الانتهاكات الجسيمة من مؤسّسات الدولة ضرورة قانونية وأخلاقية متجذّرة في مبادئ القانون الدولي وآليات العدالة الانتقالية. فالتحوّل الحقيقي لا يكفيه تغيير النظام، بل يقتضي تفكيك البنى التي مكّنت من ارتكاب الفظائع وإعادة تأسيس مؤسّسات تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. ومن دون معالجة حضور الجناة داخل هياكل الدولة، تفقد بقية أدوات العدالة الانتقالية فاعليتها، ما يفرغ العملية من مضمونها ويقوّض مسار الانتقال برمّته.
يبدأ الإطار النظري للإصلاح المؤسّسي في سياقات ما بعد الاستبداد بإدراك كيف تُحوّل الأنظمة القمعية مؤسّسات الدولة من حامية للمواطنين إلى أدوات قمع، وتمثّل الحالة السورية مثالاً بيّناً على التسييس والفساد المُمنهجَين اللذين استشريا في معظم مؤسّسات الدولة، إذ تمدّدت الأجهزة الأمنية لتغدو أداةً للقمع الوحشي تعمل بوصفها ذراعاً تنفيذية مباشرة، وفرضت السلطة التنفيذية هيمنتها على السلطتَين التشريعية والقضائية، فجرّدت القضاء من استقلاله وحوّلته أداةً سياسيةً لإصدار أحكام تعسفية وقمع المعارضة.
"من دون معالجة حضور الجناة داخل مؤسّسات الدولة، تفقد العدالة الانتقالية معناها وفاعليتها
ولا يقتصر هذا الانهيار البنيوي لنزاهة المؤسّسات على أفعال أفرادٍ معزولين، بل يشمل شبكات واسعة من التواطؤ، وتؤكّد الدراسات المقارنة للأنظمة القمعية أنَّ بقاء هذه الأنظمة يعتمد على منظومات من المتعاونين تتجاوز مرتكبي الجرائم المباشرين لتطاول هياكل مؤسّسية واجتماعية متعدّدة. وتتضمن شبكة التواطؤ عناصر من الأجهزة الأمنية والعسكرية، وقضاة شرعنوا القمع بأحكامٍ تعسّفية، وموظّفين حكوميين سهّلوا الانتهاكات بإجراءاتٍ إدارية، فضلاً عن شخصيات اقتصادية وثقافية وفنية قدّمت دعماً رمزياً واجتماعياً للنظام. ويولّد هذا التواطؤ المتعدّد الطبقات ما يمكن تسميته "غطاء اجتماعيّاً" يطبع الانتهاكات، ويمنحها مظهراً من القبول يمكّن من استمرارها.
ويقتضي تحويل المؤسّسات الاعترافَ بأنَّ الانتهاكات لم تكن محصّلة قرارات فردية معزولة اتخذها قادة النظام فحسب، بل نتاج منظومة واسعة من التواطؤ شملت عشرات الآلاف داخل جهاز الدولة. ومن ثمّ، يتطلّب الإصلاح المؤسّسي نهجاً شاملاً لا يكتفي بمساءلة الجناة المباشرين، بل يطاول البنية التحتية التي مكّنت ارتكاب الانتهاكات المنهجية. وتنبع الضرورة الأخلاقية لهذا الإصلاح من الإقرار بأنَّ إبقاء المتّصلين بانتهاكات الماضي في مواقع النفوذ يعيد إنتاج ثقافة مؤسّسية مسؤولة عن تسهيل الانتهاكات، ويحول دون حدوث تحول حقيقي، ويهدّد استقرار أي انتقالٍ ديمقراطي.
ويُرسِي القانون الدولي أسساً واضحة لاستبعاد المتورّطين في انتهاكات حقوق الإنسان من المناصب العامة استناداً إلى مبدأ ضمان عدم التكرار. ويتجاوز هذا المبدأ، الذي يكتسب وزناً خاصاً عقب فترات الانتهاكات الجماعية، مجرّد وقف الانتهاكات إلى إلزام الدول بإعادة هيكلة مؤسّساتها على نحوٍ يحول دون تكرار الفظائع. ويُجسِّد عزل المتورّطين من المواقع الرسمية تطبيقاً مباشراً لهذا الالتزام، إذ إنَّ استمرارهم يرسّخ الثقافة المؤسّسية التي سهّلت الانتهاكات ابتداءً.
ويتجلّى هذا الإطار القانوني في عدد من الصكوك والفقه الدولي والإقليمي، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يوجب على الدول اتخاذ تدابير تشريعية ودستورية وإدارية تكفل إعمال الحقوق وحماية الأفراد من الانتهاكات، مع جواز فرض قيود ضرورية ومشروعة في سياقات ما بعد النزاع بشرط احترام ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة. كما قضت هيئات قضائية إقليمية بوجوب قيام الدول بإعادة تنظيم أجهزتها والهياكل التي تُمارَس من خلالها السلطة العامة بما يضمن الاحترام الكامل والفعّال لحقوق الإنسان. وفي الاجتهاد الأوروبي لحقوق الإنسان، ثبّتت أحكام في قضايا بارزة أنّ تدابير "التطهير" متى نُفِّذت وفق ضمانات المحاكمة العادلة تتفق مع معايير حقوق الإنسان، بل قد تُعدّ لازمة في بعض السياقات لصون الأنظمة الديمقراطية من أخطار الفساد البنيوي.
وفي إطار العدالة الانتقالية، تبرز عمليات التدقيق والتطهير أداتَين محوريتَين لإصلاح مؤسّسات الدولة. فالتدقيق هو تقييم للنزاهة والملاءمة الوظيفية يهدف إلى التأكّد من أهلية الأشخاص لتولّي المناصب العامة في النظام الجديد بما ينسجم مع قيمه ومعاييره. أمَّا التطهير، المشتق من "lustratio"، فيرمي إلى تنقية المؤسّسات من إرث السلطوية عبر إبعاد من رسّخوا ثقافتها القمعية. وتخدم هاتان الآليتان غايات متكاملة: استعادة ثقة الجمهور بإقصاء المتورّطين، وتحويل المؤسّسات المسيئة إلى كيانات وطنية حامية للحقوق، وتفكيك البنى التي أتاحت وقوع الجرائم، والحيلولة دون ارتدادٍ سلطوي بأشكال جديدة.
ويُعدّ التمييز بين التدقيق وبين المتابعة الجزائية مسألةً حاسمة لفهم شمول الإصلاح المؤسّسي، إذ إنَّ التدقيق إجراءٌ إداري/سياسي لا يستهدف إيقاع عقوبات جنائية، بل يركّز في الصلاحية الأخلاقية والوظيفية لشغل المنصب العام. ويملأ هذا التمييز فجوة الإفلات من المساءلة التي قد لا تُعالجها الإجراءات القضائية وحدها، من خلال عزل أشخاص لا تبلغ أفعالهم عتبة الإدانة الجنائية، لكنَّها مع ذلك تقوّض ثقة الجمهور وتهزّ شرعية الدولة الديمقراطية.
التحوّل الديمقراطي لا يكتمل ما لم يُستعاد القضاء إلى استقلاله، والإدارة إلى نزاهتها
يتجاوز البعد الأخلاقي للعزل الإداري نطاق الالتزامات القانونية ليشمل واجباتٍ أساسية تجاه الضحايا ومشروع المصالحة الاجتماعية الأوسع. فبالنسبة إلى ملايين المتضرّرين، يُعدّ استمرار وجود المتورّطين في الجرائم داخل مؤسّسات الدولة تذكيراً يومياً ومؤلماً بالظلم، بما يكرّس ما يسمّيه باحثون في حقل العدالة الانتقالية بـ"الإيذاء الثانوي". ويغذّي هذا الوضع مشاعر الألم والغضب ويُظهر بوضوح أنَّ معاناة الضحايا لم تحظَ باعترافٍ كافٍ. في المقابل، يشكّل العزل الإداري لهؤلاء الأفراد تعويضاً رمزياً وعملياً في آنٍ معاً ينطوي على اعترافٍ رسمي بمعاناة الضحايا واستعادةٍ لكرامتهم وتأكيدٍ لمكانتهم مواطنين ذوي حقوق.
وتتجلّى الصلة بين التطهير المؤسّسي وبناء السلم الاجتماعي في منع دورات الانتقام وترميم الثقة العامة في مؤسّسات الدولة، فعندما تفشل السلطات في إقصاء الجناة المعروفين أو مساءلتهم، يتولّد فراغٌ خطير في منظومة العدالة يفتح الباب أمام الانتقام الفردي ويُمهّد لدوراتٍ جديدة من العنف تُهدّد الاستقرار وتُقوّض آفاق المصالحة الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، تُعدّ عملية التدقيق المنهجية والشفافة أداةً أساسيةً لبناء السلام، إذ تُظهر للمجتمع أن لا أحد فوق القانون وتُقوّض ثقافة الإفلات من العقاب التي غذّتها الأنظمة السابقة.
وعليه، ينبغي فهم الإصلاح المؤسّسي بوصفه متشابكاً عضوياً مع كرامة الضحايا واحتياجاتهم، فالاعتراف بالمعاناة، عبر إبعاد الجناة عن مواقع السلطة، خطوةٌ لازمة لاستعادة الثقة والشرعية في المرفق العام. ويُقرّ هذا النهج بأنَّ العدالة الانتقالية لا يمكن أن تنجح إذا أبقت على الهياكل البشرية التي مكّنت الانتهاكات؛ لأنَّ ذلك يبعث رسائل متناقضة عن غياب القطيعة مع الماضي، ويُهدّد المشروع الانتقالي من خلال الإبقاء على البنية التي سمحت بحدوث الفظائع.
١٨ أكتوبر ٢٠٢٥
قال "فضل عبد الغني" مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال نشره على موقع "تلفزيون سوريا"، إن تطبيع العلاقات بين سوريا وروسيا، بعد سنوات من التدخل العسكري غير القانوني في سوريا، يمثّل تحديات غير مسبوقة للقانون الدولي والعدالة الانتقالية؛ فمنذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 وحتى سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، خلّف التدخل العسكري الروسي انتهاكات موثّقة غيّرت بصورة جذرية الإطار القانوني الناظم لأي علاقات ثنائية مستقبلية.
ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قتلت القوات الروسية 6993 مدنياً، بينهم 2061 طفلاً و984 امرأة، وارتكبت 363 مجزرة، واستهدفت ما لا يقل عن 1262 منشأة مدنية حيوية. كما عرقلت روسيا آليات المساءلة الدولية عبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن ثماني عشرة مرة لحماية نظام الأسد ومنع إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ووفق "عبد الغني" تُنشئ هذه الأفعال التزامات قانونية ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني وبالقواعد الآمرة في القانون الدولي العام، بما يتجاوز الموازنة الدبلوماسية التقليدية، ويجعل أي مقاربة للتطبيع مشروطة بالمساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبالتعويض الشامل للضحايا، وبضمانات فعّالة لعدم التكرار.
إن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.
المساءلة والالتزامات المترتبة بموجب القانون الدولي
يمثّل مبدأ المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني شرطاً تأسيسياً لأي تطبيع سوري-روسي؛ ويُرسِي القانون الدولي التزامات واضحة على الدول المسؤولة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك من خلال مسؤولية القيادة والمسؤولية الجنائية الفردية.
وتشكل الانتهاكات الموثّقة المنسوبة إلى القوات الروسية، ومنها الاستهداف المتعمد للمدنيين، والهجمات المنهجية على المرافق الطبية والتعليمية، واستخدام أسلحة محظورة دولياً، خروقاً جسيمة لاتفاقيات جنيف تستدعي التزامات إلزامية بالتحقيق والملاحقة.
ويتجاوز إطار المساءلة حدود الاعتراف السياسي إلى آليات ملموسة للمقاضاة، إذ يقرّر مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، الراسخ في العرف الدولي، إخضاع القادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا أو أمروا أو أشرفوا على تلك الهجمات لإجراءات التحقيق والملاحقة.
وينبثق هذا الالتزام من القاعدة المقررة في المادة الأولى المشتركة لاتفاقيات جنيف التي توجب على جميع الدول «احترام» الاتفاقيات و«كفالة احترامها في جميع الأحوال»، بما ينشئ التزامات مباشرة على الدولة المرتكِبة، والتزاماتٍ على الدول الأخرى بصفتها أطرافاً ثالثة، كما ينهض مبدأ «التحقيق أو التسليم» في الجرائم الأشد خطورة (aut dedere aut judicare) كمعيار إجرائي لازم لتجسيد هذه الالتزامات.
كما تُعدّ مسألة تسليم المجرم بشار الأسد محوراً في هذا الإطار؛ فوفق الفقرة (و) من المادة 1 من اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، تُستثنى من الحماية كلُّ شخصية تتوافر بشأنها أسبابٌ جدية للاشتباه في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. كما يؤكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3074 (الدورة 28 لعام 1973) أن على الدول الامتناع عن منح اللجوء لمن تتوافر أسبابٌ جدية للاعتقاد بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. وبناءً على ذلك، فإن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.
إطار للانتصاف وجبر الضرر
يمثّل الالتزام بتقديم جبرٍ كاملٍ عن الأفعال غير المشروعة دولياً مبدأً أساسياً في القانون الدولي، كرّسته المحكمة الدائمة للعدل الدولي بوضوح في قضية مصنع تشورزوف، التي قررت أن الجبر «يجب، قدر الإمكان، أن يمحو جميع عواقب الفعل غير المشروع وأن يعيد الحالة إلى ما كانت عليه على الأرجح لو لم يقع ذلك الفعل». وبالنسبة لضحايا الانتهاكات المنسوبة إلى التدخل الروسي في سوريا، ينهض من هذا المبدأ إطارٌ متعدد الأبعاد يشمل ردّ الحقوق، والتعويض، وإعادة التأهيل، والترضية، وضمانات عدم التكرار.
ينبغي أن يتناول إطار الجبر الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن العمليات العسكرية الروسية؛ ويقتضي ردّ الحقوق إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الانتهاكات، بما في ذلك إلغاء الاتفاقات القسرية وإعادة الأراضي والممتلكات المصادَرة.
ويُعد ردّ الحقوق الشكل الأمثل للجبر متى كان تطبيقه ممكناً، غير أنّ حجم الدمار الواسع في سوريا الذي تسببت به روسيا يستلزم تدابير تعويضية مكمِّلة. ويجب أن يغطي عنصر التعويض الأضرار القابلة للتقييم المالي، بما يشمل الخسائر المادية المباشرة كتدمير الممتلكات وفقدان مصادر الدخل، والخسائر غير المادية مثل الأذى النفسي، وفقدان الفرص التعليمية، وتفكك الروابط الأسرية.
وتُعدّ تدابير إعادة التأهيل ركناً رئيساً في منظومة الجبر، إذ تستلزم توفير خدمات طبية ونفسية وقانونية واجتماعية متكاملة تكفل تعافي الضحايا واستعادة قدرتهم على الاندماج. وتؤكد المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الحق في الانتصاف والجبر أنّ لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني حقوقاً واجبة النفاذ في تعويضٍ مناسب وفعّال وسريع يتناسب مع جسامة الانتهاكات. وينشأ عن ذلك التزامٌ على روسيا بوضع برامج عملية تُقدَّم من خلالها خدمات دعم شاملة للفئات المتضررة.
ويقتضي عنصر الترضية الاعتراف الرسمي بالانتهاكات والتعبير الصريح عن الأسف وتقديم اعتذارٍ علنيّ لا لبس فيه؛ ولا يقف هذا عند حدود المجاملة الدبلوماسية، بل يُعدّ التزاماً قانونياً مترتباً على مسؤولية الدولة عن الفعل غير المشروع دولياً.
ومن ثمّ يتعيّن على روسيا الإقرار الرسمي بالمسؤولية وتقديم اعتذارٍ علنيّ واضح عن الانتهاكات المرتكبة خلال تدخلها العسكري، لما لذلك من وظيفة رمزية وعملية معاً، إذ يثبت معاناة الضحايا ويُرسّي قاعدة واقعية لتفعيل بقية تدابير الجبر.
ويستوجب بُعدُ إعادة الإعمار في إطار الجبر مساهمةً مباشرةً من روسيا في ترميم وإعادة بناء البنية التحتية التي دمّرتها العمليات العسكرية، بما في ذلك مرافق الطاقة وشبكات النقل والمنشآت الطبية والمدارس وسائر المرافق الحيوية التي استهدفت بصورة منهجية.
وهذا الالتزام يُعدّ فرصةً اقتصادية، والأهم، أنه مسؤوليةً قانونيةً ناشئةً عن الفعل غير المشروع دولياً، ما يفرض أن تتقدّم جهودُ الإعمار وفق نهجٍ يرتكز إلى حقوق الضحايا، ويكفل مشاركتهم الفاعلة في تحديد الأولويات وطرائق التنفيذ، بما يضمن فعالية الإجراءات واستدامتها ويحول دون تكرار الانتهاكات.
إن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً.
منظومة العدالة الانتقالية وضمانات عدم التكرار
يشكّل تكامل آليات العدالة الانتقالية ركناً أساسياً في أي إطار لتطبيع العلاقات السورية-الروسية. ويقتضي القانون الدولي أن تنهض ضمانات عدم التكرار بوظيفتين متلازمتين: وقائية وإصلاحية؛ بما يعزّز الأداء المؤسسي المستقبلي ويعالج في آنٍ واحدٍ الانتهاكات السابقة.
وتستلزم هذه الضمانات إنشاء ترتيبات فعّالة تحول دون تكرار الاعتداءات على المدنيين والمرافق الحيوية، وإقرار إصلاحات قانونية ومؤسسية تكفل الامتثال لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتماد آليات تحقق مستقلة لمراقبة تنفيذ الالتزامات الدولية، إلى جانب تدابير ملموسة في مجالي نزع السلاح وتقليص التدخلات العسكرية المستقبلية.
وتُعدّ عمليات تقصّي الحقائق عنصراً محورياً في منظومة العدالة الانتقالية، إذ تكرّس حق الضحايا في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات التي تعرّضوا لها. وقد أنشأت السلطات السورية هيئة وطنية للعدالة الانتقالية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة، ويقتضي تعاون روسيا مع هذه الهيئة إتاحة الوصول إلى السجلات والوثائق العسكرية ذات الصلة، وتمكين الإدلاء بشهادات العسكريين الروس المشاركين في العمليات. وتستند هذه الالتزامات إلى قواعد قانون المعاهدات ومبادئ القانون الدولي الإنساني العرفي التي تُلزم الدول بالتحقيق في الانتهاكات وضمان احترام القانون الإنساني.
ويمثّل حفظ الوثائق ومواصلة التحقيق التزاماتٍ مستمرة لا يجوز إنهاؤها باتفاقات سياسية؛ فالبيانات الشاملة التي راكمتها لجنة التحقيق الدولية المستقلة والشبكة السورية لحقوق الإنسان وغيرهما على مدى أربعة عشر عاماً تُعدّ أدلة فاعلة لآليات المساءلة المستقبلية.
ومن ثمّ ينبغي لأي إطارٍ للتطبيع أن يحمي جهود التوثيق ويعزّزها، مع ضمان إتاحة الأدلة للإجراءات القضائية الوطنية والدولية. ويشمل ذلك صون سلسلة حيازة الأدلة المادية، وحماية شهادات الشهود، والحفاظ الآمن على الأرشيف الرقمي لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني باعتبارها جزء من التاريخ والسردية الوطنية.
خاتمة
لا يمكن للسلطات السورية مقاربة تطبيع العلاقات السورية-الروسية عبر قنوات دبلوماسية تقليدية في ضوء حجم وشدة الانتهاكات الموثّقة خلال التدخل العسكري الروسي؛ ويُرسِي القانون الدولي شروطاً غير قابلة للتفاوض تسبق أي علاقة طبيعية، تتمثل في: مساءلة لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجبرٍ كامل يعالج الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تكبّدها الضحايا السوريون، وضماناتٍ قوية لعدم التكرار، ودعمٍ فعّال لآليات العدالة الانتقالية التي تضع حقوق الضحايا في صميمها.
وتنبع هذه المتطلبات من قواعد آمرة لا يجوز التنازل عنها بتسويات سياسية أو ترتيبات دبلوماسية. ومن ثمّ فإن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً. وأي إطار يتجاوز هذه الشروط سيعزز الإفلات من العقاب، ويقوّض سيادة القانون، ويحرم آلاف الضحايا وعائلاتهم من العدالة.
١٦ أكتوبر ٢٠٢٥
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو لم تمرّ كحدث بروتوكولي عادي، بل أشعلت موجة من الغضب الشعبي والرفض العميق في أوساط واسعة من السوريين، خصوصًا أولئك الذين ذاقوا ويلات القصف الروسي، أو فقدوا أحبّاءهم تحت أنقاض منازلهم التي سوّاها الطيران الروسي بالأرض.
لكن، ما الذي يجعل هذه الزيارة تحديدًا تثير كل هذا الكمّ من الألم والغضب والجدل؟ ولماذا لا يكفي التبرير السياسي أو الضرورة الواقعية لطمس الذاكرة؟
ما جرح كثيرين لم يكن فقط مضمون الزيارة، بل طريقتها: الابتسامات، والمزاح العلني بين الشرع وبوتين. هذا المشهد بحد ذاته كان كافيًا لإثارة الغضب، كما كتب أحد النشطاء، لأن من كان على الطرف الآخر من تلك المصافحة هو الرجل الذي أمر طيرانه لعقدٍ من الزمن أن يمطر سماء سوريا بنيران الموت.
من يرى في بوتين “قاتل أطفالنا ومجرم حرب” لن يقبل أن تُعامل يداه وكأنها يد صديق أو شريك في السلام. حتى لو كانت هناك مصلحة سياسية مرجوّة من هذه العلاقة، فكان يجب أن تكون الزيارة مدروسة بمقدار الألم، ومشحونة بنبرة تليق بضحايا المجازر، هكذا وصف العديد من السوريين مشاعرهم.
يستطيع السوريون فهم الواقعية السياسية، وأن لا عدو ولا صديق أبدي، بل المصالح المتبادلة هي ما تحكم العالم، ولكن الكثير منهم ما زال إلى هذه الساعة يلملم ركام بيته الذي دمره الروس، ويجد في زواياه آثار دماء أحبابه وأهله. يقول الكثير منهم إنّه عتاب المحب لحبيبه، وكذلك هم عاتبون على الرئيس الشرع، حيث كان يجب أن تكون كلماته مدروسة وتعابير وجهه تُظهر الغضب.
بعض المبرّرين للزيارة يستندون إلى مفهوم “الواقعية السياسية”، وإلى أن الدولة السورية الجديدة مضطرة لبناء تحالفات مع قوى فاعلة في الإقليم، تمامًا كما فعلت قوى وجهات أخرى (مثل حماس) حين لجأت إلى إيران.
لكن ما لم يفهمه هؤلاء، أن الدم لا يُمحى بالابتسامات، وأن الذاكرة الوطنية لا تُمسَح باسم البراغماتية. وكما كتب أحد السوريين:
“إن كنتَ قد شتمت حماس حين صافحت قاتلًا في طهران، فلا تمدح الشرع ومصافحته مع قاتل آخر في موسكو.”
ومرة أخرى يتفهم السوريون حاجة الوطن لفتح صفحة مع الجميع، لكن هذا لن يكون على حساب ذاكرتهم وآلامهم، وليس مطلوبًا منهم أن ينسوا الموت الذي أذاقتهم إياه موسكو وطائراتها، وإن ثمن الدم السوري يجب أن يكون أثقل من كل حسابات المصالح، أو على الأقل يجب ألا يُمنح القاتل براءة مجانية على الهواء مباشرة.
واحدة من أصدق العبارات التي انتشرت على وسائل التواصل كانت: “لا تفرح ولا تهلل، الزيارة سياسة دولة، لكن واجب الشعوب أن تُبقي الوعي حيًا احترامًا لعشرات آلاف الضحايا.”
النائبة في مجلس الشعب الجديد، نور الخطيب، نشرت يوم أمس إحصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان حول الجرائم التي نفذتها روسيا في سوريا، وقالت:
“قتلت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في 30 أيلول 2015 وحتى سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 ما لا يقل عن 6993 مدنيًا، بينهم 2061 طفلًا و984 سيدة، إضافة إلى 363 مجزرة، واعتداءات على 1262 مركزًا حيويًا مدنيًا، منها 224 مدرسة و217 منشأة طبية.”
وأضافت نور: “هذه الأرقام لا يمكن تجاوزها في أي مقاربة للعلاقات بين الدولتين، لأنها تمثل ذاكرة الضحايا وحقوقهم التي لا تسقط بالتحولات السياسية، فالانفتاح الدبلوماسي لا يلغي مسؤولية التعامل الجاد مع مآسي الماضي، بل يفترض أن يكون خطوة باتجاه احترام حقوق الضحايا وضمان كرامتهم كأولوية في أي مسار سياسي جديد.”
الإعلامية السورية، صِبا ياسر مدور، عبرت استغرابها من حالة الاحتفاء المفرط والمشوه وغير المبرر التي انفجرت بين بعض السوريين حول زيارة الرئيس إلى موسكو، ونوهت أن هذه الزيارة ليست انتصاراً ولا فتحاً مبيناً وليس تسليماً منهم للأسد، هي جزء من الفروضات السياسية القاهرة في الوقت الراهن، وشعرت بالأسف أن العديد من السوريين أثبتوا افتقادهم للحساسية الإنسانية تجاه عائلات الشهداء الذين سقطوا في القصف الروسي على مدى 9 سنوات.
في المقابل، ثمّة تيار آخر يطرح بمنتهى الصراحة "لم يعد لدينا رفاهية المقاطعة، وسوريا اليوم بحاجة إلى علاقات وابتسامات ومصافحات وعناق مع القوى الكبرى كي تنهض من ركام الانهيار".
هذا الخطاب لا يُنكر الجريمة، بل يضع “مصلحة البلد” و”حسابات المستقبل” أولًا. وأصحاب هذا الرأي لا يبررون جرائم بوتين، لكنهم يعتبرون أن سياسة النَفَس الطويل تتطلب مرونة وانفتاحًا، بل وربما تحالفًا مع من كانوا بالأمس خصومًا.
بلغة مغايرة، ويراها البعض واقعية، عبّر آخرون بقولهم: “روسيا عدو، نعم. لكنك لن تعيد بناء وطن من الحقد والغضب فقط. فسوريا تحتاج كل شيء ولا تملك شيئًا، لذلك يسعى الشرع لرسم شكل سياسي جديد مع روسيا مبني على تجاهل الماضي والعمل على المستقبل”.
يضيف آخرون: “ربما في عالم مثالي، لا نصافح القتلة. لكن في هذا العالم ستتعامل مع الذئاب بشكل مباشر، وأحيانًا يكون طريق الخلاص مليئًا بالمصافحات التي نكرهها.”
ويرى بعض من يبرر الزيارة أنها جاءت في مرحلة دقيقة من مسار الدولة السورية الجديدة، التي تسعى لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية بعد عقدٍ من العزلة والصراع. فروسيا، رغم مسؤوليتها عن جزء كبير من المأساة السورية خلال حقبة النظام السابق، ما تزال لاعبًا دوليًا ذا ثقل في ملفات الإعمار والطاقة والأمن الإقليمي.
وتعتبر دمشق أن الانفتاح على موسكو خطوة ضرورية لضمان توازن في علاقاتها مع القوى الغربية والإقليمية، خصوصًا في ظل التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة.
كما يرى مراقبون أن الزيارة تحمل رسالة مزدوجة: الأولى موجهة إلى الداخل السوري لتأكيد قدرة الدولة على الانفتاح دون ارتهان، والثانية إلى الخارج لإعادة تموضع سوريا كدولة مستقلة لا تدور في فلك أي محور.
هذا المسار الذي سلكته الدولة الجديدة يظل محفوفًا بالتحديات الأخلاقية والسياسية، إذ يتعين على القيادة السورية أن توازن بين مصالح الدولة وواجبها تجاه العدالة وحقوق الضحايا، حتى لا تتحول السياسة الواقعية إلى شكل جديد من التطبيع مع القتلة.
كل طرف في هذا الجدل له منطقه، لكن لا أحد يملك أن ينزع عن الناس حقهم في الغضب. من فقدَ ابنه وأحبابه في قصفٍ روسي له الحق في أن يصرخ حين يرى الابتسامات. ومن يعيش تحت خط الفقر له الحق في أن يطالب بعلاقات تُخرج البلد من مأساتها.
وهنا يطالب السوريون أن يعرف الرئيس أحمد الشرع والدولة الجديدة كيف يوازنون بين كرامة وآلام ضحايا القصف الروسي، وبين ضرورات المرحلة، ويجب ألا يُمحى من الذاكرة، وأن تُكتب للأجيال القادمة والتي بعدها وبعدها أن روسيا ستبقى عدوًا إلى يوم القيامة.