لماذا يفضل الأسد وبوتين التوقيع بالأسلحة الكيميائية؟
لم تعد تحسب، ربما، المرات التي استخدم فيها نظام الرئيس السوري بشار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، كما لم تؤد كل أشكال التوثيق التي قامت بها منظمات الأمم المتحدة، والمنظمات الأخرى، لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لهذا النظام، ولم تنته دعوات إحالة قادته، وحلفائه الذين يشاركون أو يغطون جرائم الإبادة الجماعية المستمرة في سوريا، إلى المحاكم الدولية المختصة، إلى أي نتيجة حتى الآن.
وكما انتهت خطوط الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الحمراء لحظر استخدام النظام للسلاح الكيميائي في مجرور التاريخ، كذلك هبطت ردود فعل الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، (بعد ضربته اليتيمة المحدودة لمطار الشعيرات بعد قصف بلدة خان شيخون قبل عام بالضبط بغاز السارين) من التهديد للأسد بضربه إذا تجرأ مرة أخرى على استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، إلى درجة أن يقرر فجأة، ومن دون سابق إنذار، أن يترك سوريا بأكملها ويرحل بدعوى التكاليف العسكرية الكبيرة التي تتحملها بلاده هناك.
أما لماذا تحسس ترامب جيبه وتضايق من مصاريف جيشه في سوريا ولم يفعل ذلك في العراق أو أفغانستان أو على الحدود مع المكسيك أو في باقي أنحاء المعمورة التي تنتشر فيها القوات الأمريكية، بما فيها دول أوروبية لا تتعرض لتهديد، كألمانيا وبريطانيا مثلا، فهذا لغز من ألغاز السياسة الكبرى، والأمل الوحيد في فهم المسألة، ربما، هو ملاحظة أن المستفيد الأكبر من انسحاب كهذا ستكون روسيا (وحليفها الأسد الكيميائي بالضرورة)، وبعد ربط هذا بالمشهد المعقد لطرد واشنطن عشرات الدبلوماسيين الروس، ومعاقبة بعض المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما تستمر الدلائل تتوالى على تدخل موسكو الكبير في تأمين نجاح ترامب بالوصول إلى سدة الرئاسة، يتبادر للذهن أن سوريا هي التعويض الخفي المقدم لروسيا مقابل اضطرار ترامب لصد الاتهامات ضده حول تدخل روسيا في تنصيبه، وكذلك اضطراره لتصعيد العقوبات ضد الكرملين مجاراة لحلفائه الأوروبيين.
تأتي هذه المرايا المتعاكسة من المواجهات والصفقات الخفية في الوقت الذي يتضامن فيه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، مع بريطانيا في موضوع الجاسوس الروسي السابق الذي تعرض لتسميم بغاز الأعصاب، وهو الأمر الذي دفع كثيرين للتساؤل عن سبب منطقي يدفع بوتين، وهو على أهبة تسلم عهدة رئاسية جديدة لاتخاذ قرار خطير كهذا، وقد تم طرح هذا السؤال من قبل كثير من المدافعين عن روسيا وبوتين، فما الفائدة، برأيهم، التي سيجنيها القيصر من رفع درجة التوتر والتأهب إلى صيغة حرب باردة جديدة، ثم ألا يمكن أن أمريكا وبريطانيا، كما تقول موسكو، هما من نفذتا العملية الكيميائية لتأليب العالم ضد روسيا ورئيسها القوي؟
ثم، لماذا يقوم الكرملين بمحاولة التخلص من جاسوس «خائن» سابق بسلاح يكشف دور المخابرات الروسية في الأمر؟ أما كان الأفضل أن يتم الاغتيال بالطرق الخفية المتعارف عليها بين أجهزة الأمن في العالم والتي تمنع اكتشاف القاتل ولا تحرض ضده مخابرات الدول التي يتعرض فيها الجواسيس للاغتيال، وهو ما حصل في مرات سابقة حيث غض البريطانيون، وغير البريطانيين، أنظارهم عن عمليات القتل «الناعمة» التي لا تترك بصمات القاتل؟
تذكر قضية تكرار استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، ولاستخدام المخابرات الروسية للتسميم الكيميائي بتقليد معروف في الروايات البوليسية عن توقيع خاص يختاره القاتل ليكون إبلاغا عن قدراته الكبيرة في القيام بجريمته والإفلات من العدالة.
والحقيقة أن قصف الأسد، الذي أوقع مئات المصابين، وقتل العشرات بالسلاح الكيميائي في مدينة دوما عقابا على عدم استسلامها أول أمس، وكذلك تفسير محاولة اغتيال سيرغي سكريبال، وقبله اغتيال ألكسندر ليتفينينكو بالسلاح الكيميائي أيضا في لندن، إضافة إلى كونه توقيعا خاصا بالقاتل، يمكن أن يفسر تفسيرات عديدة، أحدها يرتبط طبعا بتقاليد الأنظمة الهمجية القديمة التي تعتبر العقاب الوحشي ضد الفرد الخارج على سلطة الحاكم أمثولة موجهة للشعب بأكمله وإعلان عام عن عاقبة التمرد والعصيان.