ما بعد نزهة ترامب في سورية
لن تنهي "نزهة" الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القتالية في سورية الصراع المحتدم بين الدول المتصارعة على فرض نفوذها وانتزاع حصصها من الأرض السورية، كما أنها لم تهدف أساساً إلى وضع نهاية للصراع القائم منذ سبع سنين، بين النظام السوري والمعارضة الشعبية التي ثارت ضده بسبب الممارسات القمعية التي أثقلت على الناس معيشتهم، وضيقت عليهم أسباب استملاك حقوقهم، بوصفهم مواطنين أحرارا في بلدهم، وتركت تلك "النزهة" للنظام وكل من روسيا وإيران دراسة خيارات الرد على "العبث الأميركي - الغربي المسلح" داخل الأراضي السورية، حسب وصف محور روسيا والنظام وإيران العملية المسلحة التي تحدثت عنها الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع حلفائها الفرنسيين والبريطانيين، وإنزال أشد العقوبات على الحاضنة الشعبية للثورة السورية، من مبدأ أنه في جميع المواجهات والدروس المتبادلة بين المحورين، الروسي والأميركي، ستكون الخسائر والضحايا "سورية الهوية".
ويعتبر النظام السوري الضربات العسكرية ضده، إسرائيلية كانت أم أميركية أم أوروبية، والتي لا تستهدف إسقاطه نظام حكم، ولا تعلن انتهاء صلاحية بشار الأسد رئيسا، مجرد "مطبّات" عابرة في مسيرة حربه على ما تبقى من حواضن الثورة، مكانياً وسكانياً، تبعاً للمصلحة المشتركة مع إيران التي ترفض مطالب السوريين بحل سياسي انطلاقاً من بيان جنيف1،
وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع السوري، ومنها 2118، 2254، وفي الوقت نفسه، يعتمد النظام على ثبات الموقف الروسي المساند له، مستثمراً الخلافات الدولية التي تغرق فيها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، ومع الدول الأوروبية التي تفرض عليها عقوبات مالية واقتصادية، وتحاصرها دبلوماسياً وسياسياً من ناحية ثانية، ما يترك المجال، حسب اعتقاد النظام، لفرصة استمرار سياسته في إطالة أمد الواقع الحالي، متجاهلاً أنه، مع حلفائه، أتاح لنظرية "الفوضى الخلاقة" أن تتجسّد واقعياً في سورية، ما يتيح المجال للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد اعتماداً على التفجير الذاتي للدول (وهذا ما روجته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عام 2005)، وعلى ما أحدثته التدخلات الخارجية وأدواتها من مليشيات وفصائل في الواقع السوري اليوم، وهو الأمر الذي أفشل مراهنات النظام وحلفائه على استثمار هذه الفوضى التي أحدثها، عبر السنوات السبع الماضية، لإعادة إنتاج نفسه ودوره الوظيفي في الشرق الأوسط الجديد، خصوصا مع وجود المصالح الأميركية في دحر التمدّد الإيراني في المنطقة، وأنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، كانت الغائب الحاضر، وصاحبة القرار النهائي في قطف الثمار لحالتي الحرب والسلام في المنطقة.
وهذا ما يفسر حالة الهلع التي أصابت كلا من النظام السوري وروسيا وإيران، عند أول إشارة إلى جدية التعامل مع انتهاك النظام قرار حظر استخدام السلاح الكيميائي، ليس بسبب الضربة العسكرية التي يمكن لملمة آثارها، كما يفترض النظام دائماً، وإنما لما يريده الحلف الأميركي من الحلف الروسي الإيراني التركي الذي قارب على وضع اللمسات الأخيرة للحل في سورية، ضارباً عرض الحائط بما أنتجه اجتماع باريس في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، على هامش مؤتمر عن المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سورية، وضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، ونتج عنه ما سميت "اللا ورقة" لتكون محور التفاوض بين طرفي النزاع السوريين (المعارضة والنظام)، والتي تعبر عن رؤية هذه المجموعة لما يجب أن تكون عليه جلسات التفاوض البينية، لإنهاء حالة التلاعب وكسب الوقت خلال جولات التفاوض التي وصل عددها إلى تسع، إضافة إلى جلسات التفاوض التقني وورشات العمل، كما أنها وضعت ملامح جديدة لسورية ما بعد الحرب، وفق خريطة طريقٍ تتجاوز المصطلحات الخلافية والمرجعيات غير الوطنية لكلا الطرفين، ويمكن القول إن من شأن تلك الرؤية أن تسقط نظام الحكم القائم شكلاً ومضموناً، وتؤسس لسورية دولة رئاسية برلمانية غير مركزية، وتمنح كل المواطنين حقوقا متساوية فردية وجمعية.
التعاطي السلبي والمعادي مع حالة التدخل السياسي المباشر للمحور الأميركي الغربي، من خلال تجاهل ثم رفض اللا ورقة المقترحة، والتي جاءت لتسحب البساط من تحت مبادرة موسكو، المتفق عليها مع طهران وأنقرة عبر ما سمي مؤتمر سوتشي، وتفاقم الخلافات بين المحورين بشأن الخرائط المعلنة عن تقاسم النفوذ لمحور روسيا وشركائها في أستانة، وتجاهل المصالح والرغبات الأميركية والغربية وإسرائيل، في إبعاد إيران عن الحدود السورية مع كل من "إسرائيل" والعراق، واستكانة النظام، بفعل شراكته مع كل من موسكو وطهران، لهذه المخططات من جهة، وكذلك موافقة أطراف في المعارضة على هذا التقسيم، بفعل تسليمها الكامل لما تقتضيه مصالح تركيا منه، من جهة مقابلة، هيأ الفرصة لخروج واشنطن أخيراً عن صمتها، وتعاطيها مع جريمة استخدام السلاح الكيميائي هذه المرة، بما يمكن أن ينهي حالة التمرد الروسي على قرارات المجتمع الدولي، ويقوّض الوجود الإيراني في سورية، ويقلل من أهمية تحالفاتها مع مليشيا حزب الله، قبل أن تكون التهديدات والنتائج هدفها المباشر النظام السوري، وتهذيب سلوكه وإعادته إلى طاولة المفاوضات وفق الجدول الأممي الذي يريده المجتمع الدولي الذي أنتج نحو 17 قراراً، ولم يأخذ أيٌّ منها طريقه إلى التنفيذ.
الحصار الحقيقي الذي ينتهجه الرئيس ترامب لكل من روسيا وإيران هو بإخضاعهم إلى آلية مفاوضات جديدة، لا تكون فيها روسيا بيضة القبان في ميزان التسوية السورية، ولا تغيب فيها المصالح الإسرائيلية على حساب تحجيم إيران وردعها، بينما يأخذ الحصار شكلاً آخر مع النظام والمعارضة، اللذين يشكلان الحلقة الأضعف في الصراع الحالي، ما يستوجب على كل طرف أن يعيد حساباته داخلياً وخارجياً، لإقناع المجتمع الدولي بصلاحية تمثيل كلٍّ منهما للجهة التي يدّعي أنه يمثلها من مؤيدين ومعارضين وما بينهما.