بين بطش بشار ودفع الإيجار!
نحن كأناس أحرار، أو يجدر بنا أن نكون أحرارا، سيكون هدفنا الإنساني الأول، غالبا، هو أن نحيا في سلم وأمن بعيدين عن كل ما من شأنه أن يحرمنا من هذا الهدف، ومن ثم يتأتى لنا أن نطور درجاتنا في الإنسانية فنساعد الآخرين كي يحيوا في سلم واستقرار نفسيين. لم ترج هاته الأفكار في خلدي من قبل أبدا، وحان الوقت ربما لأسأل لماذا، هل أنا كعربي لست أهلا لأن أكون إنسانا؟ بلى، أظن أنه من حقي ذلك وغصبا عن كل معارض، لكن هيهات، كان ذلك قبلا وليس اليوم.
بينما كنت أؤدي فريضتي كأي مسلم، وبعد التسليم والدعاء، يتبادر إلى مسمعك "يا ناس ساعدونا من شان الله"، فتاة يمكن أن تعرف من صوتها أنها لا تتعدى سن السادسة عشرة، صوتها الممزوج بقطرات العسل ولهجتها الشامية تلك، تبعث قلبك على الرحمة والرأف لحال المسكينة، تدعو على بشار وتسألنا دفع الإيجار، فتسمع رنين الدراهم وهي تودع جيوب أصحابها منتقلة لسد احتياجات الفتاة وعائلتها ربما، سررت بموقف المصلين، ورغم أنهم محتاجون إلا أنهم يقتسمون.
لكن ما حز في نفسي هو وقوفها بارتجال أمام الرجال، يمكن أن تسموه قدرا إن شئتم، لكنه قطعا ليس كذلك، أنا لا أفقه في السياسة إلا ما يفقهه الأدبي في الفيزياء، لكنني ومع ذلك صنفت "بشار" الذي لن أذكر لقبه احتراما لحيوان سكن الغابة وما حكم بقانون الغاب قط، صنفته ذئبا بريئا من دم يوسف، لكنه مذنب في حق ملايين الشهداء والجرحى. كل نظرة من عيون تلك الطفلة تحاسب بشار وكل عربي منا.. الكرسي، السلطة والنفوذ، محركات دمرت معاني الإنسانية قبل أن تطمس معها معالم الدين أيضا. أيمكن للإنسان أن يضحي بملايين الأبرياء إرضاء لكرسي سلطة؟ حسنا، لنقل أن نظاما فسد وانقاد لطاعة تكالبات خارجية تنهش في الجسد العربي، أما حق للأنظمة الأخرى أن تشد بأيدي اخوتها وتنقذ ما يمكن انقاذه والخروج بأقل الأضرار؟ حتى من قطعان الجواميس تعلمت كيف تتحد، فتراها تغالب أسودا وتماسيحا وتنتصر، إلا قطيعنا العربي هذا، أنظمة وشعوبا، كنا خرافا متفرقة وكان الغرب ذئبا، أصبحنا نردد "أنا ومن بعدي الطوفان"، لكن الطوفان لم يبق على أحد منا.
ما رد فعلك بعد أن يتم ترحيلك من أرضك، أن تطمس هويتك، ذكرياتك، حاضرك، وأيضا مستقبلك؟ كنت أود توجيه السؤال لتلك الصغيرة، لكن حالها كان يجيب عن نفسه، ستسأل المسكينة الناس أن يغدقوا عليها من كرمهم، تذكرهم برابط الأخوة في الدين والتاريخ والهوية، فلا زال أناس في قلبهم مثقال ذرة من إنسانية استطاعوا النجاة بسلامة قلوبهم، يساعدون بما أمكن، وباقون لا يحركون ساكنا رغم قدرتهم على فعل ذلك. كلما تذكرت الفتاة وملامحها أحسست بتأنيب ضمير، لم كل هاته التعقيدات؟ أمن الضروري أن تعيش فينا الطبقية إلى الأبد؟ وما الدافع لفتاة كباقي الفتيات تملك دفترا ورديا مثقلا بالأحلام، يتحول بين ليلة وضحاها لدفتر تخطيطات من أجل ضمان لقمة العيش، ما دافعها أن تلجأ لبلد لا يقل تعقيدا عن سياسة بلدها، ولمدينة صغيرة تكاد تنعدم فيها فرص العيش كمدينتي؟
كلما تساءلنا وجدنا أن السياسة مصطلح مخرب لكل ما له صلة بالإنسانية، لربما الحل الوحيد والأوحد في ظل شتات الدين في البلاد العربية، هو أن نقف وقفة رجل واحد، أو بالأحرى إنسان واحد، ونقاتل طاغوت السياسة وشبحها الأسود الذي تربص وأطاح بالشعوب واحدا تلو الآخر، وننتفض ولو مرة واحدة بعيدا عن التنديدات والشعارات الفارغة التي تمتص حماسنا فتذهب مواقفنا سدى. وتصيح تلك الفتاة الصغيرة "أجل، أنا عربية سورية وأفتخر" فتعيش هاته الشامية آنفة وشامخة كما عاش أهلوها السابقون.