المُسحجون والشبيحة.. ظواهر لـ "فساد" الأنظمة
من قال إن الشعوب العربية لا تفتح فمها إلا عند طبيب الأسنان أو لحظة إدخال الطعام في فيها، قد ظلمها كثيرًا.. فقد امتهنت شريحة لا بأس بها من الشعوب، ظاهرة باتت مقيتة جدًا، يُطلق عليها اسم أو صفة "التسحيج"؛ والتي باتت براءة اختراع خالصة لا يُتقنها إلا فئة من الشعوب التي ولّت أمورها لمن بات الحليم في عصر حكمه حيرانًا، وقَلَبَتْ زمرته الآية وحاربت لأجل عبودية مستدامة.
فقد دبّت كالنار في الهشيم تلك الظاهرة، (التسحيج)، بالأوساط الشعبية العربية، وبدأ الناس أفرادًا وجماعات بممارسة تلك العادة السيئة ليلًا نهارًا، وجهارًا، كلما وقع مسؤول في حفرة أو زارته وعكة صحية لكي تُزيل عنه بعضًا من السيئات التي اكتسبها بسبب سوء إدارته لمصالح شعبه "المُسحج" ثُلثه أو ما يزيد، أو لأمر يُراد منه منفعة أو حاجة هنا أو هناك.
لا أدري إن ظلمت شعوبنا العربية في إلصاق صفة "التسحيج" لها، إلا من رحم ربي وهم قلة يومئذ، ولكن بالنظر في وإلى تاريخ تلك الظاهرة فسنجد أنها ظهرت على الساحة العربية عقب الثورات المُضادة لثورات "الربيع العربي"، التي بدأت (ثورات الربيع) من تونس ولم تنتهِ في سورية، "والمسحجون"؛ هم ذاتهم "الشبيحة" الذين دافعوا ويدافعون عن الأنظمة ظالمة وظالمة (لا يوجد نظام مظلوم)، وكانوا في الساحات يخرجون مؤيدين للأنظمة، التي انقلبت على كل معاني وقيم الحرية وحقوق الرأي وصادرت كل ما يمكن أن يخلخل عروش طغيانها..
وفي المعاجم اللغوية فإن الشبّيحة، مفردها شبِّيح؛ وهو مصطلح عامي يُطلق على الأفراد الذين يستخدمون العنف والتهديد باستخدام القوة لخدمة شخص نافذ (رجال النظام) وذلك لابتزاز وإرهاب الناس (الشعوب)، والعمل الذي يقومون به "التشبيح"، وأصل الكلمة عربي فصيح هو الشَبْح أي ربط الإنسان بين وتدين لجلده، أي أن الشبيح هو الجلاد الذي يقوم بالعمل الجسدي تنفيذًا لأمر.. ولكنه في عصر التكنولوجيا يجلد فكر وأفكار الناس ويبث سمومه عبر إعلام موجه لأغراض أريد بها باطل.
ومصطلح الشبيحة أطلق على المجموعات التي انتشرت في نهاية الثمانينات، وكانوا وقتها يُسمون بـ "ظاهرة المدن الحدودية"، والتي كانت تُؤدي أعمال تهريب وتتبع عصابات انخرطت في مهنة غير قانونية، وفي منتصف التسعينات ولاحقًا أصبح مصطلح التشبيح يطلق على كل عمليات التهريب أو البلطجة.
وارتبط المصطلح أكثر وأتيح استخدامه بعد الثورة السورية المستمرة منذ 7 سنوات، بينما تقول مجموعات المعارضة بعد بدئها بمشروع إسقاط النظام إنه مصطلح محلي يطلقه أهل المنطقة الساحلية في سورية، على مجموعة من القوات المسلحة غير النظامية (أنصار النظام ومؤيدوه).
عُمومًا، يُعتبر هذا المصطلح في سورية، كما في عديد الدول العربية، مشابهًا لكلمة "بلطجية"؛ التي استخدمت لوصف جماعات موالية للنظام في مصر، لكن الطبيعة التنظيميّة والتعبويّة والعملياتيّة للشبّيحة وما يُعتقد أنهم نفّذوه من أعمال دمويّة ضدّ المتظاهرين في سورية عام 2011، تجعل البعض يُطلقون عليهم "فرق المَوت".
ولكن مع تطور وسائل التكنولوجيا وظهور مواقع التواصل الاجتماعي ذهب الشبيحة والمسحجون وبدأوا مرحلة جديدة لا تخلو من خبث زلمهم في الأنظمة، وشرعوا ببث سمومهم بين الشعوب يمنة ويسرة، وأصبحوا في كل وادٍ يهيمون، (...)، ينشرون تصريحات وبوستات ومشاركات يُمجدون فيها النظام القائم بالدم والقمع على حساب الحريات والحقوق المشروعة دوليًا ومحليًا، ويضعون ذلك في سياق أكذوبة العصر؛ "محاربة الإرهاب"، وشمّاعة الجميع؛ "نظرية المؤامرة"، اللواتي أطحن بالكثير من الثورات وأزهقن الأرواح والدماء حتى يبقى النظام قائمًا.
ولكن المحزن المبكي في هذه المرحلة أن تشاهد "رجلًا" ألهمه الله طريق الصواب ويتبع شيطانه إلى طريق آخر و"يُصَلِّي" على بلاط الأمراء؛ نعم هم بعض الشيوخ (علماء دين) وعلماء السلاطين، الذين ما أن يعتلوا منبرًا إلا وهللوا لـ "القائد العظيم" وكأن النساء لم يلدن له نظيرًا أو شبيهًا؛ وهو كذلك ولكن في الظلم وقتل الحريات وخلق الفئات عديمة الفكر والفائدة.
وفي تقسيم المسحجون ينطبق قولُ الخليل بن أحمد: "الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه (هذا ليس مُسحج أو شبيح ولكنه من عامة الشعب مغلوب على أمره أو مُغيب في السجون وربما تحت التراب)، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه".
الحديث عن ظواهر فساد النظام؛ والتي لا تقتصر على ظاهرتي "التسحيج" و"التشبيح"، يقودنا إلى تقرير أعدته مؤسسة "فريدوم هاوس" (أميركية ترصد واقع الديمقراطية والحريات في جميع دول العالم)، والذي عكس أوضاع الحريات والحقوق السياسية والمدنية في العالم العربي، وخلص إلى أنها تُعاني من "حالة النكوص" انتشرت في بلدانه بعد عامين تقريبًا على اندلاع ثورات "الربيع العربي"، وأشار إلى بدء تبخر الآمال في حصول انتقال سياسي سلس، يحقق العدالة الاجتماعية ويؤسس لديمقراطية ناشئة عبر هذه الدول.