إن المتابع والملاحظ لمواقف إسرائيل من الوضع في سوريا وتحديدا من تزايد النفوذ الإيراني فيها، يرى بوضوح مدى خيبة الأمل الإسرائيلية من سياسة ترامب تجاه إيران في سوريا.
وقد جاءت الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية لتعزز هذا الموقف، والذي ظهر من خلال تصريحات شخصيات كالوزير نفتالي بينت ومحللين إسرائيليين كبار أقروا بعدم فهم حكومة إسرائيل ماذا يريد ترامب.
إن المصلحة الإسرائيلية تقتضي عدم انسحاب الأمريكان من سوريا وهو ما حاول نتنياهو شرحه دون فائدة في مكالمته الأخيرة مع ترامب قبل أيام، فإسرائيل ترى أن الحل لمشكلتها مع النفوذ الإيراني في سوريا يكمن في تفاهمات أمريكية روسية لا يمكن تحقيقها دون أمرين أساسيين وهما- تأجيل أمريكا لانسحاب قواتها من سوريا لفترة ما، واستمرار إسرائيل في إثبات تأثيرها في الساحة السورية من خلال الضربات الجوية التي تنفذها في سوريا بين الحين والآخر.
لقد كانت مشكلة الكيماوي الأخيرة فرصة ذهبية للمصلحة الإسرائيلية، حيث سعت إسرائيل من وراء الكواليس إلى إنجاز ما يمكن اعتباره مقايضة الكيماوي بالنفوذ الإيراني، أي عدم توجيه ضربة قوية للنظام السوري بحجة استخدامه الكيماوي أو توجيه ضربة رمزية له لا تؤثر عليه ولا على استمرار بقائه وهو ما أصبح مصلحة مشتركة للروس والأمريكان والإسرائيليين أيضا، ولكن في مقابل أن يعمل الروس بشكل أو بآخر على موائمة النفوذ الإيراني في سوريا مع مصالح إسرائيل، والتي تقتضي عدم امتلاك إيران لقدرات حقيقية تسمح لها بفتح جبهة على حدود الجولان وتكرار تجربة حزب الله في لبنان، ويبدو أن هذا الأمر لم يحدث أو على الأقل لم تظهر مؤشرات حتى اللحظة لوجوده.
قد تعزز هذه الحالة الموقف القائل إن ما يحدد سياسة أمريكا هو مصالحها في المنطقة، والتي تبدو أنها تعارضت وتجاوزت مصلحة إسرائيل هذه المرة، يضاف الى ذلك مزاج ترامب المتقلب و الذي لم يخدم هو أيضا مصلحة إسرائيل في سوريا.
كما أن أمريكا ترى أن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا مكلف جدا وعلى حلفائها دفع ثمن ذلك، ويبدو أنها تقدر أنه ما زال بالإمكان السيطرة على هذا التهديد، أو أن استمراره يعزز من تبعية حلفائها لها، ويصدق هذا الأمر مع السعودية أكثر منه بكثير مع إسرائيل .
وهكذا تشعر إسرائيل المدللة أنها وحيدة وهي ليست كذلك فيما أسماه عاموس جلعاد مسار خطير يؤدي إلى تصادم مع إيران بسبب الموضوع السوري، ولا يعني ذلك حدوث حرب شاملة في المدى القريب أو المباشر فإيران لم تستكمل بعد بناء قدراتها في سوريا، واللعبة في سوريا لم تنته بعد، ولا يبدو أن إسرائيل ستنتقل من سياسة الضربات المحدودة في سوريا إلى سياسة المواجهة الشاملة مع إيران .
الآن، وبعدما أتم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تهديداتهم بالرد على الاعتداء الكيميائي الذي نفذه نظام بشار الأسد على المدنيين في دوما، يمكن السؤال عن الجدوى، وما إذا كان رد الفعل عملياً موجها إلى النظام السوري أم إلى حليفه الروسي الذي بدأ يزعج الغرب بتمدّده خارج قواعده.
بدايةً، من الواضح أن حجم الرد وتداعياته العسكرية محدودان، وذلك القصد الأساسي من الضربة الثلاثية التي لا تريد الانجرار إلى معركة موسعة أو إشعال حرب عالمية ثالثة. وبالتأكيد، لم يكن القصد منها إسقاط نظام الأسد، والذي يمكن القول إنه لم يكن أساساً الهدف من الضربة التي أرادت توجيه رسائل أخرى إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تحديداً.
الضربة الغربية، وإن قالت إنها استهدفت مخزون الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، وهو أمر غير مؤكد، خصوصاً أنه كان أمام هذا النظام متسع من الوقت لإخفاء أسلحته أو نقلها، إلا أنها ليست موجهة لهذه الترسانة، وهي تدرك أنها قد تكون أصبحت في حمى القوات الروسية العاملة على الأرض السورية. ولا هي تأتي رداً مباشراً على استخدام الأسلحة الكيميائية في دوما، خصوصاً أنه منذ قصف مطار الشعيرات العام الماضي استخدم النظام السوري والروس السلاح الكيميائي في أكثر من مناسبة، من دون أن يستدعي ذلك رداً غربياً على شاكلة غارات أو حتى مزيد من العقوبات، فالقتل بالنسبة إلى الغرب لا اعتراض عليه في الداخل السوري، ولو بأسلحة كيميائية التي قد تتطلب مواقف أكثر حدّة من على المنابر الدبلوماسية، من دون أن يعني ذلك الانخراط في مواجهة إسقاط النظام "غير الأخلاقي".
القضية أبعد من الاعتداء الكيميائي على دوما، على الرغم من أنه كان المحرّك للتحرّك الغربي، والذي كان قد بدأ في البحث عن كيفية توجيه صفعةٍ إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد هجوم كيميائي آخر بعيد آلاف الكيلومترات عن سورية، وذلك بعد محاولة تسميم الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، وابنته يوليا في بريطاينا بغاز الخردل، وهو ما يعد هجوماً كيميائياً روسياً داخل الأراضي الأوروبية، الأمر الذي يستدعي رداً على موسكو لا يمكن أن يكون مباشراً. قد تكون الساحة السورية المكان الأنسب لتصفية الحسابات مع موسكو، وتوجيه رسائل سياسية وعسكرية إلى فلاديمير بوتين إنه لا يمكن له اللعب مجدّداً في الساحتين، الدولية والإقليمية، وأن هناك قوى عالمية لا بد أن يبدأ الرئيس الروسي بأخذها في الحسبان عند أي تحرّك سياسي له في المستقبل، سياسياً كان أو عسكرياً. وعلى هذا الأساس، كان الإعلان عن تشكيل التحالف الثلاثي الجديد (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، والذي يبدو أنه سيأخذ على عاتقه من الآن فصاعداً الوقوف في وجه تعاظم القوة الروسية عالمياً، والبداية قد تكون من سورية، إذ كانت مؤشرات التصريحات الأولى الآتية من الدول المشاركة في العملية تركز على العودة إلى العملية السياسية في سورية، غير التي أنشأتها روسيا، واستفردت فيها خلال السنتين الماضيتين، بل المسار الأساسي المصادق عليه عالمياً، أي "جنيف 1".
بات المسعى الغربي واضحاً، والرسالة وصلت إلى بوتين، وذلك باعتراف السفير الروسي في واشنطن، أناتولي أنطونوف، الذي رأى أن الضربات هي "إهانة لرئيس روسيا"، وهو ربما الهدف الأساسي للضربة، وبناء عليه أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، "إتمام المهمة بنجاح".
اللغة العربية غنية وساحرة وآسرة، وفيها من القدرات والإمكانيات لتسخير المعاني والمفاهيم بشكل مدهش. وكما قيل، صدقاً وحقاً، في الأثر إن من البيان لسحراً؛ ولا مشهد يحظى بهذا الوصف مثل المشهد الإعلامي السياسي العربي.
ولا أحد لديه القدرة على التفنن باللعب بالكلمات والألفاظ وتوظيفها لتهييج الرأي العام. الحديث الآن عن الاعتداء الغاشم من قوى الشر على سوريا، وأن الاعتداء بمثابة انتهاك صارخ لشرف الأمة وعرضها؛ كلام كبير جداً، ويكاد المتلقي يصدق هذا الكلام لولا أنه يدرك تماماً أنه غير مقصود، وأن قائله وأنصاره اقترفوا الجريمة تلو الأخرى ضد شعبهم وشعوب المنطقة. أو ليس القوى القومية الثورجية هي ذاتها التي كانت تهلل وتطبل وتتراقص على أنغام التدخل العسكري الناصري في اليمن، وبعد ذلك الاحتلال السوري للبنان، وتهديد نظام البعث بالتدخل العسكري ضد الأردن، ومجازره ضد القوى الفلسطينية في لبنان، والغزو الصدامي للكويت، وتبعات ذلك التي لا نزال تعاني منها؟! لم تنطق هذه الألسنة بالانتقاد ولا الشجب ولا الامتعاض.
بشار الأسد، وأبوه من قبله، تفننا في اغتيال وتهجير واعتقال الشعب السوري؛ كل ذلك دون عقاب صريح من المجتمع الدولي، بل تحت حماية صريحة منه، ولم «يتحرك» هذا المجتمع إلا بـ«ضربات» مسرحية معدة ومنسقة سلفاً، وتم فيها كسر عنصر المفاجأة والمباغتة، ففقدت عنصر الفاعلية، وبالتالي لم يكن هناك أي ضرر للنظام، وعلى العكس استغلها إعلامه ليروج لانتصاره، كما فعل من قبله صدام حسين في «أم المعارك»، والإرهابي حسن نصر الله في «النصر الإلهي»، ليكتفي الخطاب الإعلامي المقاوم باستحداث مصطلحات خالدة، مثل: العلوج البرغش والحشرات والجرذان، لوصف كل المعترضين على جرائم الأنظمة بحق شعوبهم.
الحقيقة المرة التي لا يرغب في مواجهتها القومجية العرب أن سوريا تتعرض للإبادة اليوم على أيدي النظام السوري؛ النظام الطائفي الأقلوي البغيض، الذي سن في العالم سنة الجمهورية الوراثية داخل الطائفة والعائلة الواحدة، وأتى بحماية غير عربية وطائفية من إيران وميليشياتها الإرهابية في المنطقة، وعلى رأسها تنظيم «حزب الله»، ولم يكن ذلك وليد اللحظة، فالنظام أعلن انسلاخه عن الإجماع العربي الذي أيد العراق في حربه ضد إيران، وكان النظام السوري الوحيد الذي أيد إيران، وطبعاً عرف بعد ذلك السبب، وهو الطائفية المشتركة التي تبينت تبعاتها لاحقاً.
ارتكب النظام مجموعة من الجرائم ضد شعبه وشعوب المنطقة يسيل لها الجبين، وكل ذلك يحصل وسط الصمت العربي المطبق (وكذلك المجتمع الدولي الذي أدار وجهه عن جرائم الأسد، ومنح له الخط الأخضر لاحتلال لبنان بالكامل، مقابل المشاركة في قوات تحرير الكويت ومؤتمر مدريد للسلام). وبدأت أطماع النظام تزداد، وأصبح يغتال الشخصيات السورية واللبنانية والفلسطينية التي تغرد خارج سربه، الواحد تلو الآخر كأسراب الحمام المتساقطة. كل ذلك وسط مباركة عربية صامتة. الصواريخ التي ضربت بعض مواقع جيش الأسد في سوريا لم تكن أشد إيلاماً من مذابح الأسد في حماة أو تدمر ودير الزور وحمص وحبل وجسر الشغور وغيرها. المشهد السوري «الحالي» لا يمكن الحكم عليه وحده دون مراجعة كاملة لجرائم نظام مارس بحق شعبه كل الجرائم المتخيلة التي تفوق الوصف والشرح.
قتل السوري على يد نظامه، والسكوت عن ذلك لمدة تزيد على أربعة عقود هي الجريمة العار التي يتحملها كل العرب، فلا يمكن أن يكتب النصر لنظام هزم شعبه وأذله وأهانه وقتله وشرده وجرحه ونكل به بكل الوسائل. عندما تدرك هذه الحقيقة، ويتم الخلاص من هذا السرطان، وقتها تكون لسوريا الكرامة والعزة، لأن المواطن فيها يكون قد تحرر.
خرجَ العربُ عن صمتهِم أخيرًا بعد أنْ كانَ ضميرهُم مُحتجزًا في غرفِ قلوبهِم القاسية والضيّقة، نطقُوا سُفهًا، وخرجنا وراءَهم نتفقد صِدْق كلماتهم المُنّمقة، وزيْفَ مشاعرهم، فوجدْنا أنّها مسرحيةٌ يصفّق فيها المنافقون لبعضهِم البعض بعد أن يسأمَ الحضورُ ويتركَ المسرحَ فارغًا إلاّ من الكِذْبات والأقنعة.
خرجَ العربُ عن صمتهم، وانهالتْ علينا عباراتُ التّنديد بالحربِ ومخاطرِها وكأنَّ الشّعب السوريّ كانَ يعيشُ رخاءً وأمانًا على يد الأسد والروس والإيرانيين. كَثُر شعراء الرثاء في جمال سوريا، ورائحة ياسمينها المُعتّق والحزين، وقرّر المشاهيرُ الذين لم نسمعْ لهم صوتًا منذُ بداية الثورة، أن يكسِروا حاجزَ صمتهم هم أيضًا، بعدَ سبعٍ سنواتٍ من الخوف على شعبيّتهم، كتبُوا يناجون الرّب طالبينَ منه أن يكونَ مع سوريا، راسمين إلى جانبِ هذا الدعاء قلبًا مكسورًا، يعبّرُ عن حالتهم الحزينة، أمّا "القومجيُّون المُمانعون" فقد كان السَّبيلُ لمعرفةِ نفاقهِم سهلًا، فيكفي أن تقرأَ محاضراتهم عن الشّرف والأخلاقِ والضمير وخيانة الأوطان، لتعرفَ في أيّ مستنقعٍ هُم يسبحون.
حتى الأنظمة العربية التي تخلّت عن الثورة السورية وادّعت التزامَها الحياد، خرجَ مسؤولوها ليندّدوا بما أسمَوْه: "العدوان الأمريكيّ على السيادة السورية"، تلك السيادة التي لم يبقَ عدوانٌ واحتلالٌ في العالم إلاّ وانتهكَها بفضلِ أحمقٍ، سلّم بلاده للروس وخرجَ يضحكُ تارةً كالأبله وهو يجرب أسلحته الصّدئة على شعبه، وتارةً أخرى يطمرُ رأسَه في التراب كالنَّعام.
سوريا التي عانتْ ولا تزالُ من صمتِ السّاسة وبائعي الوطنيّات ومِن مدّعي الحِياد العرب، ومن خذلان المثقفين وممَّن ينعتُون أنفسهم بالإنسانيين، وممّن أطلقوا على الثورة اسم: "الحرب الأهلية" في محاولةٍ منهُم لتحييدِ أنفسهم عمّا يحدث، باعتبارِهِ شأنًا داخليًّا، ها هيَ اليوم تعيشُ حبًّا من نوعٍ آخر، ها هي اليوم تلقى وابلًا من الخوفِ والدموع، وتستفيقُ على عواطف وضمائر فقدنا منها الأمل وشيّعناها لمثواها الأخير منذ زمن.
هؤلاء المروّجُون للضّربة على أنّها ضربةٌ على سوريا كلّها، يريدونَ منّا أن نصدّق خوفهُم وحرصهُم على الشّعب السوريّ، وتأثرهم لمُصابِه وهمُ الصامتون على الاحتلال الروسيّ، والسّاكتون عن المجرم الإيرانيّ، هؤلاء الذينَ يدّعون حبًّا لشعب سوريا بعد أنْ سمعوا بضربةٍ أمريكيةٍ مُحتملةٍ على مواقع النّظام، وضَعْ -عزيزي القارئ- عدّةَ خطوطٍ حمراء على عبارةِ مواقع النظام، أخذوا ينعتُون كلَّ فَرِحٍ بالضربة الأميركية بالخائن، وكأنّ الفَرِحَ بها والمهلّلَ لها، لا يعلمُ أنّها لم تأتِ لتنتصرَ لأطفالِ دوما، أو لتُزيحَ الأسد عن كرسيّه، وأنّها مجردُ تصفيّةِ حساباتٍ ومصالحَ بين بلديْن، وأنّ كلّ من تمنّى لهذه الضربة أن تحدُث، إنّما يريدُ أن يرى ذلك اليوم الذي ينهارُ فيه النظام وأسلحتُه ومن معه، ويذهبوا إلى الجحيم الذي صيّروا سوريا إليه.
أمامَ عنتريّات المؤيدين الذين كتبُوا تهديداتٍ لترمب يُعلنونَ فيها تفجيرَهُم للبيت الأبيض في حال قرّر ضرب سوريا، وأمامَ منشوراتٍ بائسةٍ عن ياسمين الشّام الحزين، حدثت الضربة الأشبهُ بألعابٍ ناريّةٍ وبمسطرةِ أستاذٍ على يد تلميذٍ مُعاقَبْ، فخرجَ المؤيدون للنّظام، الرافضون "للعدوان" الأمريكيّ إلى الساحات، فرحينَ بانتصارهِم ولشدّةِ حماسهم الوطنيّ حملوا معهم الأعلام الروسية والإيرانية وأخذوا يرقصونَ الدّبكة ويتفاخرونَ بصمودِ قائدهم الذي كان مختبئًا في جحرٍ ينتظر إشارة من الدّب الروسيّ لينقذه. فَسُحقًا لمن يدّعي رفضَه لعدوانٍ أمريكيّ وهو يرتمي في أحضانِ الاحتلال الروسيّ والإيرانيّ.
أمّا أنتم أيّها العربُ الواصلون متأخرينَ دائمًا عن العالم بغفوةٍ وخيبة، سوريا الآن لم تعُدْ بحاجةٍ لعباراتِ التّأبين التي تكتبونها، فقدْ شبعتْ مِن نفاقكم واكتوتْ بنارِ خذلانكم، سوريا اليوم تريدُ منكم أن تكفُّوا عن وضعِ اسمِها في منشوراتكُم، فكم كانتْ تفتقد لدموعكم المزيّفة تلك، عندما كان الأسد والروس يقصفونَ الشّعب ويبيدونه بكافة الأسلحة المحرّمة.
أمَّا نحن، فسنبقى يتامى كثورتنا، نجرّب أن نتحايلَ على الذكرى بالتّناسي وعلى اليأس بالادّعاء، لنعود ونرتطم بخيبتنا مرات ومرات. فيا ربَّ الثأر هَبْنا أملًا ننفضُ به خذلانا، ومعجزةً نتّوكأ عليها، وحُلمًا نَمسكُه فلا يفلتُ منّا. حتى لو كانَ هذا الأملُ مشهدًا من مسرحيةٍ، يُسدلُ ستارها بمَحيِّ الأسد ونظامِه عن وجهِ البسيطة.
إن مرض السرطان عرف بأنه المرض الذي ينشأ بخلية واحدة تنقسم لوحدها إلى خليتين منفصلتين وتبدأ بعدها بالتغذية على الشعيرات الدموية وفتك صاحبها شيئاً فشيئاً حتى الانهزام. إنه تماماً كَالسرطان الذي نشأ في المنطقة العربية في الآونة الأخيرة والذي تمركز في سوريا، وراح ينقسم إلى عدة خلايا، وكل خلية تتغذى على أصحابها من شتى الأطراف.
بدأ السرطان السوري الخبيث منذ ما يقارب ثمانية أعوام، وراح ضحيته مئات ألاف الضحايا، إنّه لم يفرّق بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل. بل إنه أخذ ضحيته وأحزن عليها آلاف العائلات، ولكن الغريب في الأمر، هو ما حصل عند الناجين من السرطان. من الجدير بالذكر أن الناجين من هذا المرض الفتاك، أُصيبوا بمرض آخر، لنقول إنه مرض نفسي لا عضوي، وعلينا وضع خطين تحت كلمة نفسي لأنها أخطر مما يجول في أذهاننا. دعونا أن نقول إنه نوع من أنواع الفصام الذهنية كالبارانوية وغيرها، حيث الناجي يميل إلى العدائية والحقد وربما يدفعه ذلك إلى القتل في كثير من الأحيان.
في هذا العام رُميت الغوطة الدمشقية بغاز السارين السام وراح فيها ضحايا كثيرة، ولكن العجب أن بعض الناجين من الضحايا في البقعة السليمة في دمشق، راحوا يرقصون فرحاً وطرباً وأقاموا حفلات الشواء فرحاً بنجاتهم أو شماتة بمرضى السرطان الساريني. وبعد أيام قليلة، توجّه الأشقر الأمريكي إلى صنع مسرحيّة دراميّة من نوعها الأول، كان فيها هو السوبر مان، الذي يأتي من فوق أسطح الأبنية الممشوقة ويساعد الأبرياء والمساكين، وكانت خطته تقوم على ضرب المعامل العسكرية الفارغة وهنا أيضاً يتوجّب أن نضع خطين تحت كلمة فارغة، لأن الضربة هذه لا تسمن ولا تغني من جوع، ظهر بعد الضربة الأمريكية العديد من الشامتين، أحد أفراد الشعب كتب على صفحته الشخصية (أخيراً قد اقترب محو دمشق من الخارطة).
في محنة الغوطة وحلب وقبلها العديد، كنت أشعر بالإقياء بعد كل مرة أتصفح فيها صفحات الأخبار، وبعد الضربة الأمريكية شعرت بالإقياء أيضاً، لمن يطبّلون ويهلّلون لترمب المشاكس الذي لو أراد أن ينصرنا لجاء قبل الضربة الكيماوية الموجهة على الغوطة وليس بعدها، كيف وهو ذاته من قتل أطفال منذ أسابيع عند إعداد حفلة تخرج حفظة القرآن الكريم، فعن أي ناصر نتحدث؟
النصر من عند الله وحده، كفى سخرية وتهريجاً، كفى تصفيقاً للعدو، فأمريكا إن لم تكن العدو الأول، فهي صديق العدو.. وصديق العدو بالطبع عدو آخر. أصبح العالم السوري أو ربما ينطبق القول عن العالم العربي بشكل عام أيضاً أنه أصبح كمستشفى كبيرة للغاية، تضم مئات الألاف من المصابين بالسرطان العربي الخبيث وملايين من الشامتين وآلاف من المرضى النفسيين الذين يمارسون عدائيتهم على المرضى الآخرين، يطلقون حقدهم عبر منشورات منشودة تطالب بإبادة دمشق ومن قال أن الضربة تمسّ النظام وليس الشعب فهو كاذب، كلانا نعلم جيدا ماهيّة النظام الأمريكي وردّة فعله من منطقة الشرق الأوسط.
الشعب في حالة حرب حقيقية مع بعضها البعض، فالحروب التي تشن في التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي يجب عدم الاستهانة بها مطلقاً، فالمجرم يبدأ إجرامه بكلمة ليتبعه فعل، وما أكثر أشباه المجرمين من حولنا، جميعنا مشروع مجرم إن استمر الأمر على نحو هذا الحقد والغلّ الكامن في باطننا. الشعب السعودي يشتم القطري والإماراتي يشتم المصري والمصري يشتم الأردني والأردني يشتم الفلسطيني والفلسطيني يشتم اللبناني والسوري يشتم العالم كله ووصل لمرحلة شتم السوري أيضا، فلأي مرحلة من الانحطاط قد وصلنا؟؟
وأما عن أولئك الأطباء من أنحاء الشعوب الذين يمارسون إنسانيتهم ويفكرون بمنطق بحت ويسعون لعلاج الأطراف كلها في مستشفى الحياة الخالية من التجهيزات الحديثة والتي تحتاج إلى أرطال من التخدير والتعقيم في أدمغة المرضى ومع ذلك يعملون بشتى طاقاتهم، فلهم وحدهم ترفع القبعة.
صمودٌ عظيم... إصرارٌ وثباتٌ أسطوريٌ عبرَ خمس سنوات.. إرادةٌ وتصميمٌ وعزيمةٌ هي وسامُ شرف على صدر كلّ سوري خرجَ يطالبُ بالحرية والكرامة... انتصارٌ تاريخيٌ في الإنسانية والأخلاق لشعب ثائر.. هزيمةٌ نكراءٌ في ميزان تكافئ القوى لدول واجهت قطعةً جغرافيةً صغيرةً لا تتجاوزُ مساحتُها 110 كم² عبر سنوات من الحصار والتجويع والقصف والغارات الجوية واستخدام مختلف أنواع الأسلحة المحرمة دولياً والغازات السامة.
نعم.. استطاعَ النظامُ المجرم بسطَ سيطرته على الغوطة، ولكن بعد صمود ست سنوات ذاق فيها الأسد وميليشياته ألوان العذاب. بعد سنوات من المعارك البطولية التي خاضها ثوار الغوطة، انتهت مرحلةٌ عظيمةٌ من مراحل الثورة، انتهت بثبات أبناء الغوطة واستمرارهم في ثورتهم، خرج الاحتلال الروسي بعد كل هذه السنوات متفاجئين بصمود الغوطة المحاصرة.. مكروهين عالمياً.. ومعهم كل العرب والفصائل الذين تواطأوا معهم.. وصمتوا على عدوانهم.. وباعوا ضميرهم وأشقاءهم.. وحالهم حال أبي رغال.. الذي تآمر مع أبرهة الأشرم على أشقائه العرب في هجوم أصحاب الفيل على مكة.. ولكن هم الذين دفعوا دنانير الذهب والفضة للمحتل المعتدي.
بوتين وأذنابه تفننوا في سفك دماء أطفال الغوطة، ومطاردتهم حتى في مدارسهم، ومستشفياتهم المعدمة التي كانوا يرقدون على أسرتها، لم يجد مقاتلين يقاتلهم، ولا قواعد صواريخ ليضربها ولا بنوك أهداف ليجهز عليها. الجيش الروسي أحد اقوى الجيوش في العالم عجز لسنوات أن يتقدم متراً واحداً في شرق دمشق، "UR77" العربة الروسية التي تعتبر فخر الصناعة الروسية أو "عربة خراطيم المتفجرات" وفق تعابير أهل الغوطة الأبطال الصامدين، جبنت عن دخول المدن خوفاً ورعباً لأنها لا تعرف، ولن تعرف، من أي فوهة أو خندق سيخرج لها الصناديد الرجال في زمن عز فيه الرجال، وكثر فيه أرباعهم، ونحن نتحدث هنا عن قادة الجيوش العربية وجنرالاتها الذين يفتخرون بأنهم تخرجوا من أرقى الأكاديميات العسكرية الغربية مثل "ويست بوينت" الأمريكية و"ساند هيرست" البريطانية حيث علموهم الرعب والخوف، وزرع بوتين في نفوسهم مقولة أن روسيا لن تهزم.
أبطال الغوطة تعلموا في أكاديميات الكرامة وعزة النفس والشجاعة والإيمان بالله وحتمية النصر والثقة بالقدرات الذاتية، والفوز بالشهادة، والتطلع إلى الانتقال من دار الفناء الى دار البقاء، عبر أقصر الطرق إلى الشهادة، والقتال حتى نيلها، ولهذا سادوا وارتقوا إلى أعلى درجات الشرف، وهبط الآخرون الى أدنى درجات الذل والهوان.
بوتين انهزم لأنه لم يواجه جيوش عربية جرارة وقادة متكرشون متحمسون يعلقون نياشين وهمية علقها على صدروهم زعماء متخاذلون.. وبوتين انهزم لأنه حارب أحفاد بدر الدين الحسني ومحمد الأشمر وحسن الخراط وتوفيق سوقية، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين وأبو عبيدة الجراح، وطارق بن زياد، وكل رموز العروبة والإسلام الذين دخلوا التاريخ من أوسع ابواب الشجاعة والمروءة والإيمان بالنصر حتى نالوه، أو استشهدوا من أجله، وكانوا هم الفائزون في الحالين.
أكثر من خمسة سنوات من الصمود لم يصرخ أهل الغوطة، ولم يتسولوا وقفا لإطلاق النار مثلما يريد جيش الإسلام بممثله محمد علوش في اتفاق القاهرة حيث كانوا ينتظرون بلهفة رايات استسلامهم، إنما كان أبناء الغوطة رافعين رؤوسهم، لا يستعينوا إلا بالله وليهم وناصرهم، وتجاهلوا، او احتقروا كل الجيوش وجنرالاتها ومئات المليارات التي جرى انفاقها على تسلحيها. الأنفاق على أطراف دمشق كانت أسطورة ثبات الغوطة.. والصواريخ فيها كانت تحرق جنود الأسد وسط دمشق، والمقاتلون الأشداء خرجوا من الغوطة وما زالوا صامدون مثل الرماح، فالخراب في الحجر أما النفوس فما زالت عامرة بالإيمان والثقة بالنصر، والتطلع للشهادة.
عاش المحتل الروسي حالة رعب لم يعيشها منذ خسارتهم المؤزّرة في أفغانستان، وممن؟! ومن أين؟! من الغوطة الصغيرة في حجمها، الكبيرة برجالها وأبطالها، فأطفالها يولدون جبابرة، ونساؤها الولادات يرضعنهم حليب البطولة والشهامة، والشجاعة وهي كلمات انقرضت من قاموس الكثير من الزعماء العرب وقادة جيوشهم. نكتب بعاطفة.. نعم.. لأنه لا يوجد وقت لصف الكلام، ويجب أن نرتقي لمستوى الحدث، ونقولها للمرة الالف.. نكتب بفخر بأشقائنا وشقيقاتنا وأبنائنا وأحفادنا الذين سطروا حروف وخطوط هذه الملحمة الجهادية النضالية على أعتاب دمشق الفيحاء.
روسيا احتلت الغوطة، ولكن بعد حرق الأبرياء، فطائراتهم لم تقتل إلا الأطفال فقط، لم تدمر قاعدة صاروخية واحدة، فالجيش الذي يصف نفسه ويصفه حلفاؤه، وداعميه في الغرب، بأنه يطبق أعلى المعايير في الدقة والأخلاقيات لم يقتل إلا الأطفال وبيت العجزة والمدارس والمستشفيات، أما "الإرهابيون" من رجال الغوطة الصناديد فلم يقتلوا غير الجنود ولم يدمروا غير "UR77"، وخير دليل هو تلك الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للأسير وكيف تعامل مقاتلي الغوطة معه، وهنا الفارق الواسع في القيم.
يستغرب الكثيرون مني كيف أقول أننا انتصرنا بينما المعارك انتهت بسيطرة الاحتلال الروسي وميليشيات الأسد على أرض الغوطة، نعم انتصرنا بصمودنا في وجه آلة القتل، وخسر العدو بفشله في تحقيق أهدافه من الحرب على غوطة الصمود وثأره من المجاهدين عبر قتل المدنيين والعزل بشكل ينم عن عقلية تعشق القتل وسفك الدماء وتتلذذ بأشلاء المدنيين. فكيف لا نقول انتصرنا وكل ما جناه العدو من تلك الحرب هو تشويه صورته أمام الرأي العام العالمي وعدم مقدرته على تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنها من حربه على الغوطة، سوى تهجير أهلها الأصليين عنها.
كيف لا نقول انتصرنا وقد تأثر الوعي العالمي إيجابياً لصالح قضيتنا بفعل الحرب التي شنها العدو على الغوطة وبدأ العالم يستفيق، وبدا الجميع ينظر إلى ثورتنا بنظرة غير تلك النظرة التي كانت قبل الحرب وبات الكل يدرك أن ثورتنا هي ثورة تحرر وطني لا تسعى للقتل لمجرد القتل ولا لسفك الدماء لمجرد التسلية والعبث، لكنها ثورة يقاتل أبناءها بشرف وتتقن فن الثورة من أجل أهداف معلومة وواضحة وهي تحرير الأرض والإنسان. ست سنوات والعدو يواصل قصف وضرب الغوطة برًا وجوًا سعى خلالها بكافة الطرق للسيطرة على مناطق في غرب الغوطة لكنه عجز عن ذلك. نعم انتصر الدم والإرادة على السيف، لمجرد المقارنة بين حال الغوطة وثوارها وبين العدو وجيشه هذا بحد ذاته نقطة تحسب لصالح شعبنا، فكيف لا نعتبر ذلك أمرًا يحسب لصالحنا ونحن نقاتل بوسائل بدائية من صنع يدوي بعتاد بالكاد يستطيع الصمود في وجه أقوى دبابات في العالم فضلا عن عدم المقدرة على مجابهة الطيران بكافة أشكاله.
استهلك العدو مخزوناً ضخماً جداً من الذخيرة المخصصة لسلاح الجو فضلاً عن استخدام أسلحة محرمة دوليًا صبت حممها على رؤوس المواطنين في الغوطة في محاولة منه لتحقيق الغايات التي وضعها من أجل تلك الحرب. اتبعت قوات الأسد سياسة "الأرض المحروقة" في مواجهة ثوار الغوطة الشرقية، بالرغم من عدم تكافؤ القوى بين الأطراف، إلا أن ثوار الغوطة أثبتوا دهاء عسكري قل نظيره، فعلى الرغم من تدمير البنى التحتية نجح الثوار في المعارك الدفاعية والهجومية.
مبارك انتصارك يا غوطة الشام، بالرغم من الإمكانيات البسيطة، فقد أرقت مضاجع الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وميليشيا الغيث وغيرها من المرتزقة والمأجورين، وخرج أبناؤها مرفوعي الرأس بعد أن حطموا بصخورها جماجم رابع قوة عسكرية في العالم، وذلك بإرادة وعزيمة ما لانت.
ليس الأسد هدف ما تتخذه واشنطن من تدابير عسكرية، وتمارسه من ألاعيب نفسية، مذ قصفت دوما ببراميل مليئة بغاز السارين. ولا يستهدف الحشد العسكري الغربي الضخم والمؤكد، والاشتراك العربي في العمل العسكري المرجح، بشار الأسد وحده، بل يستهدف التحالف الدولي الذي يتكون تحت أنظارنا بعد سبعة أعوام من الانكفاء الغربي عن الصراع على سورية، إعادة علاقات القوى وموازينها إلى حجمها الحقيقي، وإحداث انقلابٍ فيها داخل سورية وخارجها، يطاول بالدرجة الأولى روسيا وتحالفها مع إيران الذي يجب وضع حدود له، بعد أن ترك ينفرد بواحدةٍ من أخطر أزمات العالم. ويبدو أن الوقت حان لتكبيل يديه، لأسباب منها تحالفه مع إيران، وتطلعه إلى استعادة ما كان للسوفييت من مواقع ونفوذ في منطقة العرب حاسمة الأهمية استراتيجيا، وهو محظور أعلن الأميركيون عام 1992 أنهم سيكرسونه، في سيناريو عمّموه ضم سبع نقاط، يقول أحد بنوده إن عودة روسيا إلى ما كان للاتحاد السوفييتي من مناطق ونفوذ ممنوعة، ولو أدى الأمر إلى استخدام القوة، فكيف إن كانت العودة تتم، منذ عامين ونيف، بالتحالف مع إيران، الدولة المارقة التي شحنت العالم العربي بفيضٍ من المذهبية والطائفية، منذ انتصار ملالي طهران عام 1979، وعملت لتفكيك مجتمعاتها وللسيطرة عليها من الداخل، بقوة فئات تابعة لها، نظمتها ودربتها وسلحتها ومولتها وكلفتها باحتلال مجتمعاتها من الداخل، بالنيابة عن حرسها الثوري.
بعد تظاهر روسيا بالاستسلام للأمم المتحدة، وبالتخلي عن تعيين اللجنة التي ستكلف بوضع دستور لسورية، وباحترام مناطق خفض التوتر المنفصلة عن الأسدية، استأنفت موسكو سياسة استخدام القوة للانفراد بسورية ومشكلاتها، وكثفت جهودها لضم تركيا إلى تحالفها مع طهران، في محاولة لإحداث انقلابٍ غير مسبوق في علاقات القوى الدولية، يتخطّى الوضع السوري إلى الوضع الدولي برمته، نتيجته المؤكدة إضعاف الولايات المتحدة والغرب، ونجاح الكرملين في وضع أسس جدية لتقويض حضورهما ونفوذهما في الشرق الأوسط، بقوة الابتزاز العسكري الروسي/ الإيراني وتحدي قوته المشتركة وتعاونه. هذا النهج هو ما ستبادر واشنطن إلى كبحه، قبل أن يستفحل ويترسخ. وبما أن نتائجه تمسّ مصالح الغرب بمجمله، وعلاقات القوى بين روسيا وإيران وبينه، فإن الرد عليه سيكون بتفعيل التحالف الغربي عسكريا، ومشاركة دوله الكبيرة، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، والدول العربية المهددة روسيا وإيرانيا.
من جانب آخر، بلور بوتين مبدأً يقوم على استخدام القوة بدل الدبلوماسية وسيلة لفرض علاقات دولية تجعل من روسيا ندّا للولايات المتحدة، على الرغم من أنها ليست ندّا لها في الاقتصاد والتقنية والانتشار الاستراتيجي والتأثير الثقافي والتقدم الاجتماعي والسيطرة الكونية.. إلخ، فإن نزعت ورقة القوة من يده، أعيدت روسيا إلى موقعها في الصف الثاني من الدول، ولم يعد في مقدورها تحدّي سيطرة الغرب الدولية، وفقدت علاقاتها الخارجية شحنتها الخطيرة، واقتنع اقتصادها بدور التابع. هل اختار الغرب نزع ورقة القوة من روسيا في سورية، لإقناع إيران أن تحالفها مع موسكو لا يحميها، ومن الأفضل لها الابتعاد عنها، وفتح حوار مع الغرب يجنّبها معركة قادمة معه، من المحال أن تربحها ستكون كارثية بالنسبة لملاليها؟
هذه هي رهانات الغرب التي تريد انتزاع ورقة سورية من يد موسكو، وتكريس دوره باعتباره دورا مقرّرا في الصراع على سورية، وما وراءها من بلدان المنطقة. إنها رهانات لا تقتصر على إطلاق بضعة صواريخ هنا أو هناك، ولن تتوقف خلال أيام أو أسابيع.
كما كان متوقعاً لم تكن الضربة العسكرية لمواقع النظام السوري أكثر من ذلك: ضربة محدودة في حجمها العسكري، وفي هدفها السياسي. ليس لها هدف سوري أبعد من استهداف البنية التحتية للسلاح الكيماوي للنظام. وليست جزءاً من استراتيجية سياسية تجاه الوضع السوري. لا علاقة مباشرة لها بالشعب السوري وتضحياته. ولا حتى بالرئيس السوري الذي يقال أنه قبيل الضربة ترك القصر الرئاسي إلى قاعدة حميميم الروسية ليحتمي بها.
كما يُلاحظ تتردد كثيراً في الساعات الأخيرة صفة السوري. لكن سورية، بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية، لم تعد أكثر من ساحة للصراع بين الكبار والصغار. كل فعل هناك، وكل خطوة، وكل ضربة لأهداف لا علاقة لغالبيتها بسورية، ولا بمصالح الشعب السوري. حتى الضربة الأخيرة استخدمت سورية كساحة، لكن هدفها هو روسيا وما تفعله في سورية وخارج سورية. هكذا، أرادها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون. الشعب يدفع ثمن ذلك من حياته وحقوقه واستقراره، بل ومن دمه. الرئيس الأسد نفسه لم يعد أكثر من حجر شطرنج، أو ورقة تفاوضية تتناقلها أيدي الروس والإيرانيين. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يصفه بالحيوان والطاغية ومجرم الحرب. وكذلك تفعل رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي. لكن كل منهما يبتعد من استهدافه مباشرة. كأن الغرب يتعامل أيضاً مع الأسد كورقة تفاوضية مع الروس. هناك من يحاول حمايته من القتل أو السقوط. لكن لا أحد يعرف كيف سيكون مصيره النهائي.
في مثل هذا المشهد الفانتازي، من الطبيعي أن هدف الضربة العسكرية للدول الثلاث لم يكن تحجيم القدرات العسكرية لنظام الأسد. فهذه القدرات لم تعد عنصراً وازناً في التوازنات التي تتحكم في المشهد السوري. وهي قدرات فشلت في كل حال في حماية الرئيس ونظامه قبل دخول الروس. أيضاً، لم يكن هدف الضربة حماية الشعب السوري من النظام وحلفائه. لو كان هذا هو الهدف، أو أحد الأهداف، لأعلنت الدول الثلاث موقفاً سياسياً واضحاً لوقف نزف الدم السوري بسلاح كيماوي أو سواه، ومن ضرورة مغادرة الميليشيات الأجنبية كشرط لأي حل سياسي للأزمة السورية. ولو كانت مصلحة الشعب السوري من أهداف الضربة لجعلت الدول الثلاث من رحيل الأسد شرطاً آخر للحل السياسي. على عكس كل ذلك تلتزم الدول الثلاث قبل وبعد الضربة بالصمت حيال شكل الحل السياسي وشروطه، أو مصير الأسد.
ينحصر هدف الضربة العسكرية داخل إطار التجاذب الغربي الروسي، وتحديداً الأميركي - الروسي. وهو تجاذب يحاول كل طرف تفادي انزلاقه إلى مواجهة مباشرة. هذا ما قاله الرئيس ترامب، ورئيسة الوزراء تيريزا ماي في خطاب كل منهما لشعبيهما عن الضربة. كانت ماي مباشرة عندما قالت أن الهدف ليس تغيير النظام في سورية. ماذا عن رئيس النظام؟ لم تقل شيئاً عن ذلك. تركت الباب مفتوحاً. ماذا عن قتل السوريين على مدى أكثر من سبع سنوات الآن بأسلحة غير كيماوية؟ التزمت الصمت حيال ذلك أيضاً. ماذا عن وجود الميليشيات الأجنبية في سورية؟ صمت ثالث لا يقل صمماً للآذان.
إذا كان الهدف ليس حماية الشعب السوري من رئيسه، ولا من الحلفاء الأجانب لهذا الرئيس، وليس وقف القتل الجماعي بغير أسلحة كيماوية، وليس إعلان موقف واضح من الميليشيات الأجنبية، فما هو الهدف في هذه الحال؟ هذا ما أجاب عنه دونالد ترامب في خطابه. يقول: «في عام 2013، وعد الرئيس الروسي بوتين وحكومته بأنهما سيضمنان تدمير كل الأسلحة الكيماوية السورية. ومن ثم، فإن هجمات الأسد الكيماوية الأخيرة، وردنا عليها هذا المساء، هما نتيجة مباشرة لفشل روسيا في الوفاء بما وعدت به». بعبارة أخرى، ضربة البارحة العسكرية هي رسالة مباشرة إلى فلاديمير بوتين. فالأخير خدع الأميركيين (بحسب ترامب) في اتفاق تدمير ترسانة السلاح الكيماوي السورية الذي أبرمه مع الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما. لم يكتفِ بوتين بذلك، بل أرسل غازاً ساماً إلى بريطانيا الشهر الماضي لقتل عميل روسي مزدوج. وهو ما يعني أن الرئيس الروسي يتحدى الغرب في شكل سافر ليس فقط في سورية، ولا في أوكرانيا، بل حتى في قلب أوروبا الغربية. وهو ما استدعى أن تكون الضربة - الرسالة جماعية متزامنة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وإلا فحجم الضربة، ومحدودية أهدافها لا يستدعي مشاركة ثلاث دول عظمى، إحداها الدولة الأعظم.
حرصت الدول الثلاث على عدم الاقتراب في ضربتها من المواقع الروسية تفادياً لأي رد فعل روسي. وقد استجابت روسيا لذلك تماماً، إذ لم يتجاوز رد فعل موسكو حدود التنديد اللفظي لما أسمته العدوان الغربي. أما النظام السوري فقد رفع عقيرته بأسلوب بليد في وصفه الضربة بـ «العدوان الثلاثي»، وذلك في محاولة بائسة لاستدعاء ما حصل لمصر عام 1956. مأساة هذا النظام ورئيسه ليست مع التاريخ وحسب، بل مع سورية، ومع نفسه قبل أي شيء آخر. قبل الضربة الأخيرة، هناك الضربات الإسرائيلية لمواقع سورية وإيرانية بين الحين والآخر. الأجواء السورية باتت مستباحة وفق ضوابط تضعها روسيا وليس النظام. وهذا النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه حال سورية. عادت كرة أخرى ساحة لتجاذبات وصراعات إقليمية ودولية لا قبل للنظام، ولا لسورية بها. بدلاً من توظيف الموقع الاستراتيجي لسورية من أجل سورية وأهل سورية، جعل الأسد من ذلك منصة لقوى أجنبية روسية وإيرانية وميليشيات مذهبية. لم يدرك حتى اللحظة أنه بهذا بدد رصيد سورية الاستراتيجي ليصبح رصيداً للآخرين. ومعه، بدد الإرث الذي ائتمنه عليه أبوه. كم كتب عن دور حافظ الأسد في إنقاذ سورية من كونها ساحة للعب الآخرين إلى لاعب في ساحات الآخرين. وكم سيكتب عن دور بشار الأسد الكارثي في النكوص بسورية إلى ما كانت عليه؟ المدهش أن الرئيس السوري لا يزال مع ذلك يسيطر عليه وهْم أنه انتصر على الثورة. لذلك، يقول أنه ليس في حاجة إلى استخدام الكيماوي. ما يعني أنه استخدمه عام 2013 عندما كان على حافة السقوط. أي إن أرواح الناس وحقهم في الحياة ليست معياراً يردعه عن استخدام هذا السلاح، وإنما أطماعه ومصالحه وتحالفاته الأجنبية. لا غرابة وحال الرئيس ونظامه على هذا النحو أن انتهى الأمر بسورية إلى ما انتهت إليه. تقصف بمئات الصواريخ في ليلة واحدة لإيصال رسالة إلى بوتين وليس حتى إلى الأسد!
يستنكر الرئيس الأمريكي ترامب الهجمات الكيميائية التي نفذها نظام الأسد السوري في الغوطة الشرقية التي تُعتبر إحدى المناطق الخاضعة لقرار وقف إطلاق النار وفقاً لقرارات اجتماع أستانة، ويزعم ترامب أن الأسد سيدفع ثمن ذلك بأكبر شكل ممكن وصرّح بأنه سيتخذ قراراً ينص على معاقبة الأسد خلال 24 أو 48 ساعةً، لكن لا يمكن الاعتماد على التصريحات والمزاعم الأمريكية لأن القرارات التي يتخذها ترامب لا تحمل أي أهمية حتى بالنسبة إلى الأسد.
يتعاون الأسد وترامب وكأنهما يستهزئان بالضمير العالمي، فالأسد لن يدفع ثمن أي شيء، وتصريحات ترامب عبارة عن محاولة لاكتساب المزيد من الوقت و التخفيف من الضغط العالمي الموجه لأمريكا.
هل مرّت فترة طويلة على مقتل 400 مدني في الغوطة الشرقية؟ وكذلك على وصف المستشار الرسمي لمجلس الأمم المتحدة لما يحدث في الغوطة الشرقية بعبارة "شعب الغوطة رأى الجحيم بأم عينه بسبب هجمات الأسد"؟ هل مرّت فترة طويلة على اكتشاف إصابة العديد من الأشخاص بمرض السرطان ومقتل العديد من الأطفال بسبب قلة الطعام والدواء؟ أو على اكتشاف إصابة أكثر من 600 طفل بأمراض التهاب المفاصل والسل والتسمم الغذائي؟.
هل مرّت فترة طويلة على مطالبة روسيا باجتماع مجلس الأمن الدولي من أجل النقاش حول المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في الغوطة الشرقية؟ ما عدد الأيام التي مرّت على اتخاذ قرار وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية من قبل الأمم المتحدة؟ الجواب هو أربعون يوماً فقط، وبعد مرور أربعين يوماً عاد الأسد وعادت الهجمات الكيميائية والمجازر الجماعية، وعند رؤية أن الأسد لم يدفع ثمن الأرواح التي تسبب في مقتلها قبل أربعين يوماً فإن احتمال معاقبة الأسد في الوقت الحالي يبدو بعيداً، لأن الأسد ينفذ الهجمات الكيميائية والمجازر الجماعية منذ سبعة سنوات وذلك ليس أمراً جديداً بالنسبة إلى العالم.
وفي هذا السياق إليكم بعض التصريحات الصادرة عن جهات رسمية عالمية منذ بداية الأزمة السورية:
"استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا" -باراك أوباما- 21 أغسطس/آب 2012.
"استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية سيؤدي إلى خروج المارد من المصباح" 21 مارس/آذار 2013.
"رصدت الجهات الأمريكية استخدام الأسلحة الكيميائية بما فيهم غاز السارين من قبل قوات الأسد، وقد أفاد الرئيس الأمريكي أوباما مسبقاً بأن استخدام الأسلحة الكيميائية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا وبالتالي أنه سيقوم بتغيير قوانين اللعب، ونفذ هذا التغيير على أرض الواقع، لذلك الآن أمريكا لديها خيارات عديدة حول التدخلّ العسكري في سوريا" -مستشار الأمن القومي الأمريكي (رودس)- 14 مايو/أيار 2013.
"القوات العسكرية الأمريكية جاهزة للتدخّل العسكري مع تلقّي الأوامر من الرئيس الأمريكي أوباما" -وزير الدفاع الأمريكي- 24 أغسطس/آب 2013.
"تم تنفيذ الهجمة الكيميائية الأكبر في القرن الحادي والعشرين في سوريا، ورأى العالم ذلك بأم عينه، امتلأت المشافي بالقتلى، وفقد المئات من الأطفال أرواحهم على أيدي حكومتهم، ولم يقف العالم في وجه هذه الهجمة، وبناء على ذلك يجب على الدولة الأمريكية تنفيذ عملية عسكرية في سوريا واتخاذ الخطوات اللازمة للوقوف في وجه احتمال تكرّر هذه الهجمات" 31 أغسطس/آب 2013.
"سأطالب الكونغرس الأمريكي بالسلطة العسكرية من أجل تنفيذ تدخّل عسكري في سوريا" 1 سبتمبر/أيلول 2013.
"أعلن الرئيس الأمريكي أوباما أن استخدام الأسلحة الكيميائية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا، ولذلك يجب على أمريكا أن لا تتراجع عن تنفيذ قرار التدخّل العسكري لأن التراجع عن هذا القرار سيعطي الأسد فرصةً لإعادة تنفيذ الهجمات الكيميائية في سوريا" -رئيس الوزراء البريطاني (كاميرون)- 4 سبتمبر/أيلول 2013.
"طالب الرئيس الروسي بوتين الحكومة الأمريكية بتقديم الأدلّة حول استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية إلى مجلس الأمن الدولي" 4 سبتمبر/أيلول 2013.
أما بالنسبة إلى تركيا فإن الأسد هو قاتل مأجور، ويجب التفاوض مع روسيا وإيران من أجل دفع الأسد إلى إيقاف هدر الدماء في سوريا، لكن يمكن التفاوض مع روسيا وإيران؟ وهل هناك أي فائدة من التفاوض مع فرنسا وألمانيا بدلاً من روسيا وإيران؟
الأسد عبارة عن مجرّد بيدق في طاولة الشطرنج التي تديرها روسيا وإيران، لذلك يجب التفاوض مع الأخيرتين نظراً إلى أنهما الداعم الأكبر للأسد ومرسلي الأسلحة الكيميائية إلى سوريا، ونظراً إلى حسن العلاقات الدبلوماسية التركية-الروسية في الوقت الحالي يجب أن لا نواجه أي عائق أمام إيقاف سفك الدماء في سوريا.
«لن نتدخل في موضوع معاقبة الدول الغربية لنظام الأسد بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، لكننا في الوقت ذاته لن نقبل بوجود إيراني (طويل الأجل) داخل سورية». هذا كان تعليق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو قبل يومين في اتصال هاتفي بينه وبين الرئيس بوتين عشية إعلان الرئيس ترامب عبر حسابه في «تويتر» بقرب الضربة المرتقبة ضد نظام الأسد. ومع ذلك ومع تعدد الضربات الإسرائيلية للمعسكرات والتجمعات الإيرانية في السنوات الثلاث الأخيرة، يصر نظام طهران بأنه باقٍ في سورية. ليس ذلك فقط بل يستمر في تقديم الدعم المالي الكبير لنظام بشار الأسد وكأن مصارف العالم ومحافظه الاستثمارية تغرق من ضخامة الاحتياطات النقدية الإيرانية.
نعم، نجحت إيران نسبياً في لبنان عبر تأسيس ميليشيا «حزب الله» واعتقدوا أن بإمكانهم فعل ذلك في أي مكان، غير أن «حزب الله» حالة فريدة ومختلفة بسبب طبيعة لبنان ذاتها وتعدد الطوائف والانقسامات، إضافة إلى الحالة الاقتصادية المريضة على الدوام، ساعد نجاح «حزب الله» في لبنان أيضاً وجود الحروب المتكررة مع إسرائيل على رغم تفوق الأخيرة عسكرياً، إذ تمكن الحزب من الإسهام المباشرة في انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني قبل 20 عاماً. في كل الأحوال نجاح الحزب عموماً ولو كان موقتاً هو نجاح للبنانيين المنخرطين في قواته وليس لإيران.
من هنا نسأل؛ هل ستجد إيران في العراق أو سورية أو في اليمن وقطر والبحرين حزباً يملك صفات وهوية وعقيدة «حزب الله» في لبنان؟ بمعنى آخر هل يمكن تطبيق نموذج «حزب الله» في أي بلد عربي آخر؟ هنا تتضح سياسة حكومة طهران وطموحاتها المتهورة وابتعادها بسنوات ضوئية من فهم الواقع السياسي والجغرافي، نحن نرى ما يحدث لموكلهم في اليمن ونتذكر ما حدث في البحرين بل وحتى العراق ذو الأغلبية الشيعية، بدأ يتململ من إيران ويتمنى العودة إلى أحضان العرب، ثم حتى لو افترضنا عدم تدخل إسرائيل في تواجد إيران داخل سورية، هل سيقبل الشعب السوري العريق بالهيمنة الفارسية الدائمة بعد الوصول لحلول تنهي الحرب الأهلية القائمة؟ رهان إيران التي يغلب على سلوكها لون ونكهة التمدد الفارسي وليس الشيعي، على بعض المرتزقة العرب هنا أو هناك، هو رهان خاسر طال الزمن أم قصر. المثير للدهشة أن من بين كتاب الرأي والمحللين العرب من يعتقد بأن إيران تنتصر فعلاً وأنه لا بد من التعامل معها بما يشبه التحالف والتعاون من دون أن يتغير سلوكها، بدلاً من مواجهتها.
أول من أمس (الخميس)، وقبيل الضربة الصاروخية التي ستنطلق من البوارج الأميركية والبريطانية والفرنسية المتمركزة قرب سواحل سورية الغربية يتأمل الفرد منا الوضع في الداخل السوري ودور إيران ومصيرها في هذه الدولة العربية الأصيلة. إنها تذكرني بذلك الطالب المشاغب الغبي الذي يقف أمام بعض الطلبة الفتوة في صراع عنيف عند خروجهم من فناء المدرسة، لا هو قادر على تخفيف حدة التوتر بين الفرقاء لأن وجوده أصلاً جزء من المشكلة، ولا هو قادر على المشاركة في الدفاع أو الهجوم. سيصبح وجوده سواء أثناء القصف أم حتى بعد ذلك كما «الأطرش بالزفة».
أما في الداخل الإيراني فقد هوت بالأمس قيمة العملة الإيرانية إلى المزيد من الانحدار، وطالب بعض أعضاء البرلمان الإيراني باستقالة محافظ البنك المركزي وكأنه هو من يضع السياسات النقدية الإيرانية. قبل ذلك بيومين يخرج الدكتور مهدي ذاكريان وهو أستاذ العلوم في «الجامعة الإسلامية الحرة» وعبر وكالة «إيسنا» الطلابية، ليذكّر حكام بلاده بأن ولي العهد السعودي يقوم بخطوات عظيمة لإرساء مستقبل السعودية ونموها. هذا بالطبع خلاف ما تردد الحكومة هناك ومن يدافع عنها من العرب. يتمنى هذا الأستاذ بحسرة لو أن بلاده استثمرت اتفاقها النووي مع دول الغرب قبل ثلاث سنوات بذات الطريقة والوسائل التي تقوم بها السعودية بدلاً من هدر الأموال على ميليشيات ومرتزقة الخارج.
قد تستمر إيران قليلاً في إثارة النعرات ودعم من ينوب عنها هنا أو هناك، لكن هذا النموذج لم يعد مثمراً. نقول ذلك بسبب ضعف وتردي الحال داخل الجمهورية الإسلامية وقرب انفجار الملايين هناك ضد هذه السياسة غير المسبوقة في أي دولة منذ تأسيس منظومة الأمم المتحدة.
الحرب بالوكالة مصيرها الفشل ولا يمكن أن نتناسى ما حاولت الولايات المتحدة بقوتها وتفوقها أن تحققه في فيتنام عندما دعمت حكومة فيتنام الجنوبية. صحيح أنها اضطرت في ما بعد إلى خوض الحرب الفيتنامية بجيشها لكنها في النهاية فشلت.
أطماع خامنئي قد تكون أسوأ من أطماع هتلر كما نبه الأمير محمد بن سلمان عن ذلك في أكثر من لقاء صحافي، لكن ذلك لا يعني تشبيه هذا الرجل بذاك، فهتلر يقود الجيش الألماني بعظمته وصناعاته المتفوقة في ذلك الوقت ويحرك هذا الجيش في كل اتجاه، بخلاف خامنئي الذي لا يجرؤ على وضع جندي إيراني واحد للمشاركة في أي من مغامراته الآنفة الذكر. لهذا السبب وغيره لا يرى ولي العهد السعودي أن إيران تشكل خطراً حقيقياً ومباشراً على بلاده، على رغم تعاون بعض المرتزقة معها. الأمير كان واضحاً في ذلك عندما استبعدها من قائمة الدول القوية عسكرياً في المنطقة.
قل لي من تصاحب أقول لك من أنت، من هم أصدقاء خامنئي وحلفاؤه هذه الأيام. لا أحد سوى بدر الدين الحوثي وحكومة تميم بن حمد آل ثاني والسيد حسن نصر الله في لبنان. هل أخطأت في العدد؟ لا يوجد خطأ، هم هؤلاء فقط من يرتبط بإيران وكأننا نتحدث عن فرقة «سوبرانوز» مع الأسف. تركيا تتلاعب بهم وروسيا لا تريدهم في سورية بل حتى بقية دول الاتفاق النووي الأوروبية ضاقت بهم ذرعاً على رغم بعض المصالح المشتركة بعد توقيع ذلك الاتفاق. إذاً، عن أي دولة نتحدث هنا، بل هل بإمكان عاقل أن يسمي إيران التي نعرفها اليوم دولة؟ إن لم تحدث ثورة في الداخل فسيتم شطب كل هذه الطموحات بالقوة عندما يتضح للعالم أن هذه الحكومة لا يمكن الوثوق بها وأن تركها تتدخل هنا وهناك لا بد أن يتوقف. قد تأتي هذه القوة من المصدر ذاته الذي يدمر ما يخيل لقاسم سليماني بأنها قواعد عسكرية في سورية كل شهر أو شهرين بضربات صاروخية فتاكة، وقد تأتي من جهة أخرى.
سبق أن واجه العالم الوضع الذي يواجهه الآن بعد «كيماوي دوما» أكثر من مرة، على مدى الأعوام السبعة التي مرت على المجزرة السورية. وفي أكثر من مناسبة تداعت الحكومات الغربية لتدرس رد فعلها على ارتكابات نظام بشار الأسد. وطالما رسمت «خطوطاً حمراء» لإلزام هذا النظام بعدم تجاوزها، من بينها «الخط» الشهير لباراك أوباما، والخط الذي أعلن عنه الآن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال متحدث باسمه بعد الغارة الكيماوية على أطفال دوما: «الرئيس أكد مراراً وتكراراً أنه إذا حدث تجاوز للخط الأحمر، وثبت مَن الفاعل، فإن ذلك سيقود إلى رد». إضافة طبعاً إلى تهديدات دونالد ترمب بأن هناك «ثمناً كبيراً» لا بد أن يدفعه الشركاء في «جريمة دوما»، الذين يشملون - حسب ترمب - بشار الأسد، وفلاديمير بوتين، وقادة «الحرس الثوري» في إيران.
«الخط الأحمر» في قاموس المسؤولين في الدول الغربية، يعني تحديداً استخدام السلاح الكيماوي، المحظور استخدامه دولياً. بكلام آخر، يستطيع النظام السوري أن يقتل شعبه بالبراميل المتفجرة وأن يقصفهم بالطائرات، ويدمر البيوت فوق رؤوسهم، كما يستطيع أن يهجّرهم، ليعيد رسم الخريطة الديموغرافية للبلد كما يروق له، بحيث يحتفظ بالمناطق «المفيدة»، ويدفع المناطق الأخرى إلى المهاجر أو إلى المقابر... كل ذلك فعله بشار الأسد، وكله كان تحت عين المجتمع الدولي وسمعه، ولم يحرك أحد ساكناً... في الأسابيع الأخيرة فقط تم تهجير أكثر من نصف مليون سوري من بيوتهم في الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري، حيث تنتظرهم بالتأكيد مجازر مقبلة.
«الكيماوي» وحده هو الذي يحرك «ضمير العالم»؛ مع أنه ليس من المبالغة القول، وبأسى بالغ، إن كثيرين من السوريين قد «يفضلون» الموت موتاً سريعاً بهذا الكيماوي، بدلاً من الوقوع في قبضة مخابرات النظام السوري، حيث يشتغل المختصون باقتلاع الحناجر والأظافر، أو بدل أن يتحولوا إلى عاهات متنقلة نتيجة القصف العشوائي الذي لم يسلم منه حي في سوريا.
صور ضحايا أطفال «الكيماوي» التي تبثها الشاشات هي التي تحرك سياسات قادة العالم الغربي. ردود فعل فورية على تلك الصور من قادة وكتّاب وأصحاب رأي؛ لكن ردود الفعل تبقى مرتبطة بحدث، أو بجريمة واحدة، مثلما حصل في دوما؛ لكنها تفتقد خطة متكاملة لمواجهة ما يجري في سوريا. أفضل مثال على التخبط في السياسات الغربية ما حصل في الفترة القصيرة الأخيرة، بين إعلان الرئيس ترمب رغبته في سحب قواته (نحو ألفين) من سوريا: «لأن لا شغل لنا هناك»، ثم انقلابه على ذلك، ورغبته في معاقبة الأسد بعد «كيماوي دوما». مع أن الكل يعرف أن الكيماوي ليس أفظع ما ارتكبه الرئيس السوري، الذي سبق منذ بداية الاحتجاجات ضد حكمه أن وصف معارضيه بـ«الجراثيم»، ودعا إلى تنظيف «المستنقعات» منهم! وكيف يمكن تنظيف «المستنقعات» إلا باستخدام الغازات السامة؟
منذ عام 2011، لم يشأ أي مسؤول في عواصم الغرب أن يرفق تهديداته لبشار الأسد بمشروع سياسي يفتح نافذة أمل في وجه السوريين، لإنقاذهم من النظام المجرم الذي ابتلوا به. هكذا سمعنا تكراراً كلاماً من نوع: «على الأسد أن يرحل»، أو: «لا يحق لنظام يقتل شعبه أن يبقى في الحكم»، وذلك على لسان رؤساء غادروا كلهم السلطة الآن، فيما بشار لا يزال مقيماً مع عائلته في قصره. من باراك أوباما إلى نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، وصولاً إلى ديفيد كاميرون، مروراً بوزراء ومسؤولين آخرين، لم تكن المواقف المتشددة هي ما يفتقر إليه هؤلاء؛ بل كان غياب، أو عدم الرغبة، في وضع سياسة عملية تسمح بتحويل تلك التهديدات إلى واقع. وعندما أيقن النظام السوري وداعموه أن خطة إزاحته غير موجودة، انصرفوا إلى تعزيز نفوذهم ونشر هيمنة الأسد ونظامه على الأرض، فيما أخذت مساحة انتشار قوات المعارضة تتقلص. منذ «خط» باراك أوباما عام 2013، بعد هجوم على الغوطة الشرقية بغاز السارين، استخدم النظام السوري أسلحة كيماوية ضد المدنيين 85 مرة، حسب إحصاء «هيومان رايتس ووتش». ولأن الرد كان دائماً محدوداً، كما فعل ترمب بعد الهجوم الكيماوي على خان شيخون في العام الماضي، أو أن الرد لم يكن موجوداً أصلاً، أصبحنا أمام الوضع الذي نواجهه اليوم؛ نظام مستعد لارتكاب أي عمل، بما في ذلك تكرار استخدام أسلحة محرمة دولياً، لمجرد إثبات أنه قادر على فعل ذلك من دون أن يواجه أي عقوبة. ببساطة لأنه يعرف أنه باقٍ، بعدما أصبح مصيره مرتبطاً بمصير كل من روسيا وإيران. ويعرف أيضاً أنه حتى لو كانت هناك خطة جدية لإسقاطه، وهي طبعاً غير موجودة في ذهن أي مسؤول غربي، فإنها أصبحت مستحيلة التنفيذ لأنها صارت تعني مواجهة مباشرة وبالغة التكاليف مع طهران، والأخطر من ذلك، مع موسكو أيضاً. وهو ما يختلف جذرياً اليوم عما كان عليه الحال مع انطلاق الثورة من درعا عام 2011. في ذلك الوقت لم يكن هناك «داعش» أو «نصرة» أو ما يشبههما في سوريا، كما لم يكن قد تبلور قرار إيراني بدعم مسلح للنظام السوري، حتى أن وسائل الإعلام الإيرانية كانت تدعو إلى فتح قنوات الحوار بين النظام والمعارضة. ولم تكن روسيا قد اتخذت قرارها بالتدخل في سوريا، وهو القرار الذي لم يتخذه الكرملين إلا في عام 2015، عندما أصبح واضحاً أن قوة إيران وميليشياتها لم تعد كافية وحدها لإنقاذ النظام السوري.
فوتت القوى الغربية كل الفرص لإسقاط النظام السوري. لم يكن الأمر في حاجة إلى تدخل عسكري مباشر كما حدث في العراق لإسقاط نظام صدام حسين. وبالتالي فإن حجة التراجع عن دعم المعارضة السورية لأن الغرب لم يكن مستعداً لتكرار «الخطأ العراقي» ليست حجة واقعية؛ لأن المعارضة لم تكن تطالب أصلاً بتدخل عسكري مباشر. كل ما كانت تطلبه هو الدعم السياسي وتوفير الحاجات العسكرية لتتمكن من مواجهة وسائل القمع التي يستخدمها النظام... قبل أن تدخل إيران وروسيا على خط الأزمة، وتتحول من أزمة داخلية إلى حرب تهدد بمواجهة واسعة ذات أبعاد إقليمية ودولية خطيرة.
يتطور الموقف في سورية من سيّئ إلى أسوأ في كل يوم، ولم يبق توصيفٌ في قواميس الخراب إلا وتم إطلاقه على هذه الأرض التي حملت من المعاني الإنسانية ما جعل البلدان الأخرى تغار منها، وتنظر إليها بعيون الحسد.
سورية اليوم بلد ملعون في لسان السياسة، ومكان يثير الرعب لدى الرأي العام الذي تصل إليه منذ سبعة أعوام أخبار المجازر والتهجير الديموغرافي وصورهما على شكل موجاتٍ اكتسحت العالم، ولم يحل دونها بحر أو برد أو جوع.
هرب السوريون من القتل، ومات كثيرون منهم على طرق النجاة، لكن ذلك لم يمنع آخرين من عبور الدروب نفسها، غير مكترثين بما ينتظرهم من أهوال في البر والبحر. منذ الأيام الأولى للثورة، لجأ النظام إلى القتل سلاحاً من أجل أن يحسم الموقف لصالحه. ولكن حين لم يتمكّن من إعادة الناس إلى بيت الطاعة زاد في منسوب القتل، وصار ينوّع في الأساليب والأشكال، مستنداً إلى دعم إيران وروسيا. الأولى أمدته بالرجال والمال، والثانية وفرت له كل ما ينقصه، بالإضافة إلى مظلة دولية، وحمته من المساءلة القانونية إلى حد أنها مارست حق النقض (الفيتو) 12 مرة في مجلس الأمن الدولي، لتحول دون إصدار قراراتٍ ما كانت لتوقف عمليات القتال في جميع الأحوال.
مرة واحدة خاف النظام، حين تلقى تهديداً أميركياً بضربة عسكرية بعد استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في نهاية أغسطس/ آب على 2013. في ذلك الوقت، بلغ خوف النظام حداً قبل فيه التخلي عن ترسانته من الأسلحة الكيميائية بالكامل، وقايضها بتراجع الولايات المتحدة عن توجيه الضربة، وهذا ما حصل فعلاً، ولعب الروس في حينها دور الضامن للنظام أمام المجتمع الدولي، وتعهدوا في حينه أن يسلم النظام كل ما في حوزته من أسلحة محرّمة دولياً. ولم ينفع ذلك في شيء، لأن المجرم ظل مصمماً على ارتكاب الجريمة تلو الأخرى، وبالتالي لم يدم التزام النظام طويلاً، حيث استمر يستخدم الأسلحة الكيميائية بجرعاتٍ أقل وبنوعيات مختلفة. وكانت عملية خان شيخون في العام الماضي محطة رئيسية دفعت الإدارة الأميركية الجديدة إلى توجيه ضربة شبه تحذيرية لقاعدة الشعيرات العسكرية، تركت مفعولاً رادعاً على الرغم من محدودية تأثيرها.
لا يستطيع النظام أن يستخدم السلاح الكيميائي إلا بعلم الروس الذين باتوا يعرفون أدق التفاصيل والأسرار في محيط النظام منذ عام 2015، ولو لم يكن الروس راضين على هذه الأفعال المشينة التي تشكل جرائم صريحة ضد الإنسانية، لما امتلك الأسد الجرأة للتصرّف بمفرده، وتجلى التبني الروسي لجرائم الأسد من خلال التغطية عليها دولياً، والدفاع عنها في مجلس الأمن الدولي.
الغريب هو الصمت العالمي على استهتار روسيا والنظام السوري، وهو ما جعل النظام يتمادى في القتل، حتى صار حال السوريين عصياً على الوصف، وسورية أصبحت تقارن بالجحيم. ولو أن الأطراف الدولية أبدت جدّية في حماية المدنيين، لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، خصوصاً أن الدول الكبرى التي تمتلك الإمكانات اللازمة لردعه كانت قادرةً على تدمير بقية مخزونه من الأسلحة الكيميائية.
يتحرّك العالم اليوم ضد جرائم الأسد، وهناك بداية موقف دولي لمعاقبة النظام بسبب الجريمة الجديدة التي اقترفها في الغوطة يوم السبت الماضي، ولكن الرهان الفعلي أن يتطوّر الموقف إلى تشكيل جبهة لإجبار روسيا وإيران على إيقاف المجزرة نهائياً، وإذا استطاعت الولايات المتحدة الضغط على روسيا من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات، فسيكون ذلك أول محاولةٍ جديةٍ من أجل إيجاد حل لسورية، وغير ذلك سوف يستمر النظام بالقتل من دون عقاب.