تنحو المواجهات في سوريا، إلى مواجهات بين القوى الكبرى مباشرة وليس بالوكالة. الغارة على مطار T.4 أحالت المستور معلوما. إسرائيل كشفت عمليا أنّها ضربت المطار؛ لأنّ إيران تستخدمه في تخزين وإطلاق طائرات بلا طيار، في حين كانت قبلا لا تعترف مطلقا، حتى ولو ثبت أنّها هي التي اعتدت. بدورها، إيران أكدت عبر علي ولايتي أقرب المستشارين للمرشد آية الله علي خامنئي «أنّ بلاده ستردّ»، وتولّى بهرام قاسمي الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية التأكيد بأنّ «الردّ الضروري سيكون عاجلا أو آجلا».
التهديدات المُتبادلة بين طهران وتل أبيب تؤشر إلى أن المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية واقعة اليوم قبل الغد. لكن سواء كانت إيران البادئة لأنها يجب أن تردّ، أو إسرائيل لأنها لم تتعوّد السكوت على هجوم عليها، فالسؤال الواقعي: من يمكنه ضبط تدحرج «كرة النار» عند نقطة تحول دون وصولها إلى حيث لا يجب أن تصل أي الحرب الشاملة، التي حكما ستغيّر كل المعادلات خصوصا بين موسكو وواشنطن، لأنهما ستُحشران في كيفية حماية كل واحدة منهما لحليفتها؟
لا شك أن مسؤولية موسكو ستكون الأكبر. وستكون هي الأكثر إحراجا، لأنّها متحالفة مع طهران ولا يمكنها التفريط بها من جهة، ومن جهة أخرى لا تستطيع ولا تريد فك علاقاتها المتينة مع إسرائيل، خصوصا على الصعيد العسكري في سوريا. لذلك لا بد من أن تكون العاصمتان على تواصل مستمر لوضع حدّ لتبريد الأجواء وعدم تدهورها، لأنها إذا بدأت في سوريا فمن يضمن عدم تمدّدها إلى لبنان أولا ومن ثمَّ إلى إيران ثانيا؟
الغارة الإسرائيلية على الموقع الإيراني في مطار T.4 دفعت حكما بالمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية إلى الواجهة. إسرائيل أكدت بالغارة ومن خلال الصور التي نشرتها بعد ذلك حول المواقع الإيرانية في سوريا، أن «النشاطات الإيرانية في سوريا مكشوفة أمامها»، وأن هدف هذا النشاط تحويل سوريا إلى «جبهة أمامية». انتهى زمن السكون والمساكنة السورية – الإسرائيلية ومعها الإيرانية، والاكتفاء بإشعال جبهة الجنوب اللبناني. لذلك فإن أي رد إيراني على الغارة لا بد أن يطال إسرائيل مباشرة وإلا لا معنى للرد الذي تبقى مسؤوليته محجوبة في «حرب الظلال».
إسرائيل أكدت عبر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن «الجنرال قاسم سليماني موجود في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأنّه يخطّط لعملية انتقامية». إذا صحّ هذا التوجه الإيراني فإنه يعني حكما أن إيران التي احتفلت بعيد الجيش ليست حذرة فقط وإنما قلقة وخائفة، فهي لا يمكنها الصمت ولا ضمان عدم تحوّل أي عملية محدودة ومحدّدة إلى «حرب صواريخ» شاملة في وقت لا تبدو فيه إيران مستعدة لخوض مثل هذه الحرب، وهي الغارقة في «حروب» سوريا مباشرة، والعراق واليمن بطريقة غير مباشرة حتى الآن.
السؤال الكبير، لو وقعت عملية إيرانية ضدّ إسرائيل، فهل تكون في دفع «حزب الله» إلى الدخول في حرب مهما قيل عن إمكاناته واستعداداته، غير قادر عليها ولا على مواجهة جمهوره في الجنوب اللبناني الذي سيدفع الثمن غاليا وأكثر مما حصل بكثير في الحرب السابقة؟ وماذا سيقول لقواعده الشعبية والمسلّحة لتبرير إشعال هذه الحرب التي من الواضح للجميع أنها ستكون بأمر إيراني مباشر وليس لتحرير الأرض اللبنانية؟
أمام إيران وإسرائيل مواعيد لا يمكن القفز فوقها، خصوصا أن الولايات المتحدة الأميركية شريكة في بعضها. «نصف الإسرائيليين خائفون من الحرب القريبة». اعتادت إسرائيل على تسويق وبيع خوفها دائما. المأزق أن إسرائيل تحتفل بالذكرى السبعين لقيامها والفلسطينيين بالذكرى السبعين للنكبة، وكل ذلك على وقع «الموعد الترامبي» حول الاتفاق النووي مع إيران في الفترة نفسها تقريبا.
أبعد من ذلك، إنَّ إيران لا يمكنها إلا العمل لتفادي حرب واسعة والاكتفاء بعمليات محدودة، لأنها «ترقص» في الداخل على وقع خلافات مُعلنة، إلى درجة أن المرشد خامنئي أصبح مضطرا للطلب من أجهزة الاستخبارات الإيرانية «النأي بنفسها عن الانقسامات الداخلية». وذلك بعد أن أصبح التنافس بين مختلف الأجهزة علنيا.
ويبدو أن إسرائيل وجدت أخيرا في نظام بشار الأسد، «عقدة أخيل» الإيرانية. لذلك هددت بالرد على أي هجوم إيراني بشكل «يقوّض سيطرة نظام الأسد». معنى ذلك أن إسرائيل ستركّز في ردّها العسكري على قصف مواقع للجيش الأسدي كما «الحرس الثوري» سواء في حلب أو دير الزور أو دمشق.
الخطر الظاهر والكامن في الوقت نفسه في سوريا، أنّها تحوّلت برأيي الخبراء إلى «مختبر لحروب القرن الواحد والعشرين». أي أنها «حروب تتناسل ولا يمكن وقف تناسلها إلا عندما تستنفد القوى الكبرى المُشاركة فيها وسائلها بعد حصولها على ما خططت له منذ البداية». الحرب في سوريا برأي هؤلاء الخبراء تبدو كأنها تماثل حرب إسبانيا التي شكلت مختبرا للحرب العالمية الثانية والحرب الكورية في القرن العشرين مختبرا للحرب الباردة.
ترجمة هذا التحوّل، أنَّ روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، لن تُوقف الحرب في سوريا حتى تحصل كل واحدة منها على «حصتها» حتى ولو اقتضى الأمر الدخول في مواجهة مباشرة مع أحد الأطراف أو أكثر. من الواضح أنّ إيران في قلب هذه المواجهة لأنها هدّفت على هدف ولم تأخذ في حساباتها موضع «أقدامها» الغارقة في وحول خارجية وداخلية معا، وأنّ إسرائيل ليست وحدها من ستكون سعيدة في «ليّ يدها إن لم يكن كسرها». فروسيا أيضا يهمّها تخفيض «الشهية الإيرانية». أما الولايات المتحدة الأميركية فسيسعدها «كسر يدها» والأقسى أنّ محيطها الجغرافي سيكون متأهبا ومغتبطا إذا ما حُجّمت طموحاتها وأُجبرت على الانكفاء إلى الداخل.
أكبر إساءة إلى مرحلة تاريخية، تختلف كثيراً عن هذه المرحلة، أنْ يُشبّه البعض الضربة الثلاثية الأخيرة، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، لموقع «كيماوي» بقي ينتج أسلحة محرمة دولياًّ لطالما استخدمها نظام بشار الأسد بموافقة روسية وتشجيع إيراني ضد الشعب السوري والأطفال السوريين، بعدوان عام 1956 على مصر، حيث كانت حرب السويس مواجهة قومية مع غزاة ومحتلين.
ومما تجدر الإشارة إليه بدايةً هو أنه حتى الآن فإن أي جهة، بما في ذلك الروس والإيرانيون ونظام بشار الأسد نفسه لم تستطع إثبات أن هذه الضربة الثلاثية، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، قد أسفرت ولو عن قتيل أو جريح واحد، وأنها كانت ضربة «نظيفة»، كما يقال في المصطلحات العسكرية، واقتصرت على تدمير منشأة دأبت على مدى أكثر من سبع سنوات متلاحقة على إنتاج ربما «أطنان» من أسلحة الدمار الشامل التي أزهق بها هذا النظام القاتل المجرم أرواح عشرات الألوف من السوريين من فئة «معينة» ومحددة معظمهم من الأطفال والنساء وربما ليس من بينهم ولا حتى مقاتل واحد من المعارضة الوطنية التي يلصق بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه ومساندوه وأعوانه التهمة «الإرهابية»!
ربما أنَّ كثيرين من الذين أشبعوا أنفسهم نحيباً وتحسراًّ على تدمير هذه المنشأة، التي كانت متخصصة في صناعة الموت وتشويه أجساد الأطفال السوريين بالمواد الحارقة، لا يعرفون أنَّ الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين عندما وجّهوا هذه الضربة الأخيرة، التي لم يثبت أنها أدت إلى مقتل سوري واحد، لا عسكرياً ولا مدنياً، كانوا ينفذون قراراً دولياًّ يجيز اللجوء إلى العمل العسكري إذا أسيء استخدام الأسلحة «الكيماوية» والأسلحة الفتاكة حتى خلال الحروب والمواجهات العسكرية المحدودة والشاملة.
لقد كان متوقعاً قبل توجيه هذه الضربة «التحذيرية» التي أغلب الظن أن المقصود بها، كما قال مندوب روسيا الاتحادية إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة فلاديمير سافرونكوف، هو «إهانة» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تمادت قواته في استعراض عضلاتها في سوريا ضد الشعب السوري والأطفال السوريين لإثبات أن روسيا الاتحادية قد استعادت مكانة ونفوذ الاتحاد السوفياتي السابق عندما كان في ذروة غروره وعنجهيته وأرسل صواريخه «الاستراتيجية» المدمرة إلى كوبا الواقعة جغرافياً في الخاصرة الأميركية الرقيقة.
وحقيقة أنه ما كان على الرئيس فلاديمير بوتين، الذي هناك الكثير مما يُحسب له وما يُحسب عليه، أن يذهب بعيداً في تطلعاته الإمبراطورية وأن يحول بلداً عربياًّ هو سوريا، التي كانت أول دولة في هذه المنطقة تفتح أبوابها لروسيا السوفياتية وكان ذلك في عام 1949 في عهد حسني الزعيم، إلى حقل تجارب لأسلحته الفتاكة وصواريخه وبخاصة وهو يعرف تمام المعرفة أن هناك مثلاً يقول: «على قدْ غطاك مِدْ رجليك»، وأن أوضاع روسيا الاقتصادية المشرفة على الانهيار لا تسمح له بكل هذا التحدي للولايات المتحدة ومعها بالطبع حلفاؤها الأوروبيون وداعموها في هذه المنطقة الشرق أوسطية والعالم بأسره.
وهنا فإن المفترض أن بوتين يعرف بحكم «خدمته» في «كي جي بي» أنَّ نهاية الاتحاد السوفياتي وانهياره كان سببها الأول غزوه الاحتلالي لأفغانستان وتمدده أكثر من اللزوم في العالم وبخاصة في أوروبا الشرقية وكل هذا كان في ظل أوضاع اقتصادية متهاوية وبقيادة حزب هو الحزب الشيوعي الذي كان قد نخره الفساد وغدا مع الوقت متورماً «سرطانياً» فكانت نهايته على يد ميخائيل غورباتشوف وبعده بوريس يلتسين تلك النهاية المأساوية التي كانت في الوقت ذاته نهاية دول أوروبا «الشيوعية» كلها... كلها ومن دون استثناء حتى ولا دولة واحدة!
وهكذا وعوْدٌ على بدء، كما يقال، فإنَّ أسوأ ما قيل من قبل «الأُميين» سياسياً وتاريخياًّ والمنحازين انحيازاً أعمى إلى نظام بشار الأسد، الذي كان بدأه أبوه حافظ الأسد بانقلاب عسكري على «رفاقه» في عام 1970، وحيث، كما هو معروف، أرسل ليس معظم لا بل كل رموزهم القيادية إلى زنازين المزة إلى أن فارقتهم أعمارهم هناك، هو تشبيه هذه الضربة الثلاثية بـ«العدوان الثلاثي» على مصر في عام 1956... فهذا تجنٍّ على الحقائق وتعدٍّ جاهلي على أحداث التاريخ التي لا تزال حاضرة في أذهان كثيرين من الذين عاشوا تلك المرحلة التي غدت متقدمة لكنها لا تزال غير بعيدة.
كان العدوان الثلاثي، البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي، على مصر عام 1956 رداًّ على تأميم قناة السويس ومحاولة لإسقاط نظام رأت هذه الدول الثلاث أن توجهاته تشكل خطراً عليها في هذه المنطقة «الاستراتيجية» كلها. والمعروف أن العرب بغالبيتهم، إنْ لم يكن كلهم، قد اعتبروا أن تلك الحرب كانت حربهم وأن تلك المعركة كانت معركتهم، وهكذا فقد حرك بعض الدول العربية بعض قطاعاتها العسكرية لإسناد الجيش المصري، وهذا بالإضافة إلى أن أعداداً كثيرة من المتطوعين العرب قد توجهوا إلى أرض الكنانة للقتال كـ«فدائيين» في تلك المواجهة القومية. وهنا تقتضي الأمانة الإشارة إلى أن من بين هؤلاء عدداً من الأمراء السعوديين في مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله.
لم يكن النظام القائم في مصر عام 1956 وعلى رأسه جمال عبد الناصر، قد ارتكب حتى ولا موبقة واحدة من هذه الموبقات التي ارتكبها نظام بشار الأسد ونظام والده لا في سوريا ولا في خارجها منذ عام 1970 حتى الآن. ولم يكن، أي الرئيس المصري الأسبق، قد أرسل جيش مصر لقتال دولة عربية دعماً لدولة إقليمية غير عربية على غرار ما فعله حافظ الأسد عندما أرسل قواته العسكرية للقتال إلى جانب إيران الخمينية ضد دولة عربية هي العراق التي كان جيشها أول الواصلين إلى جبهة الجولان في حرب عام 1973 مع إسرائيل وفي كل الحروب السابقة.
ثم، وهذا يجب أن يقال للذين يشبّهون الضربة الثلاثية الأخيرة، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، لمنشأة نظام بشار الأسد «الكيماوية» بالعدوان الثلاثي على مصر، إنه لم يسجَّل على أرض الكنانة أيٌّ من كل هذه الموبقات والجرائم التي ارتكبها هذا النظام السوري إنْ في عهد «الوالد» وإن في عهد «الابن»، في لبنان أولاّ ضد الفلسطينيين وثانياً ضد اللبنانيين. ولعل ما يجب أن يكون معروفاً هو أن دويلة ضاحية بيروت الجنوبية التي على رأسها حسن نصر الله «المقاتل في فيلق الولي الفقيه» قد أنشأتها المخابرات السورية بالتعاون مع المخابرات الإيرانية، وهذا يعني أنه تجنٍّ ما بعده تجنٍّ أن تُشبه هذه الضربة التي استهدفت أسلحة محرمة دولياًّ بحرب سببها تأميم قناة السويس، كانت في حقيقة الأمر بمثابة حرب على الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج.
إن المعروف أنَّ الولايات المتحدة، وكان رئيسها في ذلك الحين هو جنرال الحرب العالمية الثانية دوايت آيزنهاور، قد وقفت في حرب السويس عام 1956 إلى جانب مصر وإلى جانب الأمة العربية، أمّا الآن فإنها بمشاركتها في هذه الضربة الثلاثية الأخيرة فإنها قد لجأت إلى هذا العمل العسكري استهدافاً لأسلحة «كيماوية» قد أسيء استخدامها، واستهدافاً للوجود الروسي والإيراني الاحتلالي في سوريا، وأيضاً «إهانةً» للرئيس فلاديمير بوتين، كما قال المندوب الروسي في الأمم المتحدة.
وعليه فإنه ما لا شك فيه أن هذه الضربة الثلاثية هي ضربة تحذيرية للروس أولاً وللإيرانيين ثانياً ولنظام بشار الأسد ثالثاً، ولعل ما يؤكد هذا أن الولايات المتحدة قد أعلنت، خلافاً لتوجهات الرئيس دونالد ترمب السابقة، بقاء قواتها في سوريا من دون تحديد أي موعد لانسحابها، وهذا يعني أن الأزمة السورية قد دخلت مساراً جديداً، وأنه إن لم يتم إنعاش الحل السياسي وفقا لـ«جنيف1» والمرحلة الانتقالية، فإنه غير مستبعد أن تكون هناك مواجهة عسكرية يقدّر البعض أنها قد تأخذ هيئة الحرب العالمية الثالثة ولكن بشكل غير شكل الحربين العالميتين السابقتين.
يتفاءل بعض المحللين بأن يكون التفاهم الروسي الأميركي على تخفيف حجم وفاعلية الضربات الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لأهداف تتعلق بتصنيع الأسلحة الكيماوية في سوريا، قد تم بصفقة سرية تخلت فيها روسيا عن تشبثها بالنظام، وربما تكون وافقت على بقائه مع تغيير جذري في قياداته، ولا أستبعد أن تكون الأطراف جميعاً قد اتفقت على حفظ ماء الوجه للولايات المتحدة بعد سيل التغريدات والتهديدات من خلال تضييق حجم الضربات، والتحديد الدقيق للأهداف، واختيار ساعة من الفجر في دمشق موعداً لها، حيث الناس نيام، وقد تم تفريغ المنشآت وضمان عدم إصابة أحد.. ما يجعل الضربة استعراض قوة أكثر من كونها عقاباً يؤلم النظام، أو يوقع خسائر بشرية عند المدنيين.
وقد فهم الروس أن الضربة كانت موجهة لهم، واعتبرها مندوبهم في مجلس الأمن إهانة لبوتين، بينما اعتبرها أنصار النظام نصراً مبيناً، وأقاموا الأفراح والاحتفالات تعبيراً عن النشوة بكونها لم تستهدف النظام حتى لو هدمت بنى ومنشآت، وقد فهموا أن النظام باق، وأن الغضب الدولي كان بسبب استهتار النظام بقوانين حظر الأسلحة الكيماوية فقط، وذلك يعني إطلاق يده باستخدام ما يشاء من أسلحة أخرى دون مساءلة.
وبوصفي مواطناً سورياً، أعلن أنني أتمنى ألا أرى جندياً أجنبياً في بلادي، وطالما وددت أن يبقى الصراع السوري شأناً سورياً داخلياً، ومهما أسرف النظام في العنف وفي قتل الشعب، فإنه لن يقوى على إبادته، ولو حدث واستولى على سوريا كلها، بافتراض خروج روسيا وإيران والمليشيات الطائفية، فإن بقاء النظام سيكون محالاً، ولن تستطيع التنظيمات الدينية المتطرفة بمختلف ولاءاتها، طمس أهداف الشعب في الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية.
لقد كان التهديد قبل شن الضربات الأخيرة موجهاً لروسيا وإيران، لكن الضربات تحاشت هذا الصدام الذي كان مرشحاً لتصعيد يشمل المنطقة كلها، وربما كان سيضع العالم على شفا حرب عالمية ثالثة.
لكن السؤال المهم: ما الذي حققته الضربات على الصعيد السياسي للقضية السورية؟ وهل فهم الروس أنهم لا يستطيعون تغيير النظام الدولي الأحادي القطب، وليس بوسعهم التفرد بسوريا والمنطقة، وأن الولايات المتحدة هي القوة الأعظم عسكرياً في العالم؟ وهل فهمت الدول العظمى الأخرى أن أي استهتار بمكانة أميركا سيعرضها لمثل الإهانة التي تلقتها روسيا؟ وهل فهمت إيران أنها تحت السيطرة الأميركية، ولن تكون قوة إقليمية تتفرد بأي بلد خارج القواعد الأساسية للحراك الدولي؟
لقد كسب ترامب حضوراً أقوى أمام ناخبيه، وحاول ماكرون إعادة حضور ما لفرنسا في منطقة كانت على مدى القرن العشرين تعتبرها ساحة نفوذها السياسي، وتمكنت ماي من أن تبرز كزعيمة حازمة في بريطانيا وقوة أوربية لا يستهان بها رغم خروجها من الاتحاد الأوربي.
لكن الذين غابوا عن الحدث الكبير هم الثوار السوريون، ولئن كان النظام يحتفل بالنصر لنجاته من التهديد مرحلياً، فإن المعارضة التي تنتظر مسعى دولياً حاسماً لإيجاد حل، لا ترى أفقاً واضحاً ما لم يتم سحب أوراق رعاية المفاوضات من روسيا المنحازة للنظام، وما لم تقم الدول التي تعتبر نفسها صديقة للشعب السوري بمهمة إدارة التفاوض بنفسها للوصول به إلى حل مقبول.
ولا يمكن الوصول إلى حل يقبل به الشعب ويعود من خلاله المهجرون إلى وطنهم، وينتهي معه الاقتتال، إلا بوقف كل التدخلات الخارجية، وإنهاء الأحلام الانفصالية، وإقامة هيئة حكم انتقالي تشارك فيها كل الأطياف والمكونات الوطنية، لإنهاء الديكتاتورية التي قادت سوريا إلى الجحيم والدمار الشامل.
أشار وزير الدفاع الألماني الأسبق كارل تيودور غوتنبرغ، في لمحة ساخرة، إلى أن قرار الحكومة الألمانية الأخير بدعم الضربات الأميركية والبريطانية والفرنسية ضد سوريا بالخطاب السياسي وليس بالأسلحة والصواريخ، يؤكد حالة الامتياز الجدلي التي تتمتع بها الحكومة الألمانية الحالية، الأمر الذي قد يتفق معه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولكن بصورة غير مريحة على الإطلاق. بيد أن المستشارة أنجيلا ميركل والمنهج الهيجيلي الجدلي الذي تعتمده حيال القضايا الجيوسياسية يبدو أكثر عقلانية ومنطقية من استعداد نظرائها الغربيين لحمل السلاح والانطلاق إلى الحرب.
ويعتبر بيان المستشارة الألمانية، بشأن الضربات التي تمت صباح السبت الماضي ضد منشآت الأسلحة الكيماوية التابعة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، من أوجه الدعم المباشر الذي لا لبس فيه. كما أن البيان يُلمح إلى العذر الألماني بعدم المشاركة المباشرة في الغارات الجوية المشار إليها؛ يعتبر كلاً من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، على خلاف ألمانيا الاتحادية، من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة - أي أنها الدول التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن التأكد من متابعة القواعد الدولية في هذا الصدد. إنه إحجام بارع الدهاء عن تحمل مسؤولية القيادة العالمية في موقف لا يمكن لألمانيا أن تحتل فيه موضع القيادة بحال. وكانت غارات السبت الماضي، بعد كل شيء، نتيجة مباشرة لتغريدة الرئيس دونالد ترمب الأسبوع الماضي، التي تعهد فيها بأن الصواريخ «في الطريق». وشرعت الإدارة الأميركية، في أعقاب هذه الفورة العنيفة، في البحث عن مساعدة الحلفاء (على الرغم من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يكن في حاجة إلى تحفيز)، غير أن الرئيس ترمب كان في أمس الحاجة إلى أتباع، وعلى الأخص أنه لم يطلب تفويضاً من الكونغرس على اتخاذ مثل هذا الإجراء كما تقتضي الأمور.
ولم يكن بوسع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الرفض بحال؛ فلقد كان الرئيس ترمب مسانداً لها على طول الطريق في أعقاب محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج السابق، وكان لزاماً على ماي أن تُظهر قدراً معتبراً من الامتنان والالتزام، على اعتبار أن بشار الأسد متهم باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد شعبه. ولم يكن يلزم الرئيس ماكرون الانضمام إلى تلك الجوقة، غير أنه يسعى جاهداً لترسيخ علاقاته مع الرئيس الأميركي وبأفضل مما يستطيع أي زعيم أوروبي آخر. كما أنه يسعى كذلك لإبراز صورته الشخصية كزعيم من أكبر زعماء السياسة الخارجية.
عانت ميركل الأمرين حتى تتسق مع الرئيس الأميركي وفشلت في إخفاء استيائها من سياساته. وكان إرسال بضع مقاتلات من سلاح الجو الألماني للمشاركة في الضربات الأخيرة سيعتبر محاولة رخيصة نسبياً للدخول تحت مظلة الرئيس الأميركي؛ فلقد أشاد الرجل أيما إشادة بلندن وباريس للمضي قدماً على السبيل التي رسمها بنفسه. غير أن المستشارة الألمانية فوتت على نفسها هذه الفرصة. وكما هي الحال دائماً، كانت اعتبارات ميركل ذات طبيعة محلية في المقام الأول. لم ترغب ميركل قط في تأمين المكانة الدولية الرفيعة لنفسها على حساب الأوضاع المحلية الداخلية الأكثر اضطراباً، وهي لا تزال تعتمد هذه السياسة من دون تغيير يُذكر.
أما ماي، فقد ساندت الرئيس ترمب على الرغم من المعارضة في بريطانيا ضد الضربات على سوريا. كما تحرك الرئيس ماكرون، كذلك، ضد رغبة جانب من أبناء الشعب الفرنسي في هذا القرار. لكن ميركل فضلت الاتساق مع الرأي العام الداخلي في بلادها.
تمكنت ميركل أخيراً، وبشق الأنفس، من تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة بعد انتخابات عامة غير حاسمة في سبتمبر (أيلول) الماضي. وكان آخر شيء تحتاجه المستشارة الألمانية في الأيام الأولى من الائتلاف الحكومي شديد الهشاشة الذي كونته هو إثارة حالة من الجدل العارمة بشأن جر الجيش الألماني فيما يمكن أن يتحول إلى مواجهة عسكرية كبيرة بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية. وحذر الرئيس الألماني الحالي فرانك فالتر شتاينماير الأسبوع الماضي، الذي مد يد العون بشكل أساسي وكبير لميركل، من تشكيل الائتلاف الحكومي الجديد عن طريق حزبه القديم، حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، من «حالة العزلة السريعة» بين الغرب وروسيا. وأوضحت ميركل، هي ومسؤولون آخرون من الحكومة الألمانية، الأمر تماماً، بأنهم ليسوا من الأصدقاء المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكنهم في الوقت نفسه غير راغبين تماماً في اجتزاء أي قطعة ساخنة من أي حرب كانت ضد بلاده. ولا يبدو ذلك من قبيل التناقض مع الذات كما يبدو للوهلة الأولى.
تعرضت ميركل للانتقادات العنيفة من اليمين واليسار على حد سواء في بلادها؛ إذ وصف السياسي يورغن تريتين من حزب الخضر الألماني، «الترحيب» الرسمي الألماني بشن الضربات على نظام الأسد بأنه أمر غير محتمل. ومن زاوية اليسار الألماني تعد الدبلوماسية هي السبيل الوحيدة الناجعة في تسوية الصراع السوري. وعلى الطرف الآخر من الطيف السياسي الألماني، نجد صقور اليمين مثل غوتنبيرغ وأنصار التعاون الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة، من أمثال زعماء الحزب الديمقراطي الحر المؤيد للمال والأعمال، الذين أدانوا التقاعس الألماني الواضح عن المشاركة في العمليات الأخيرة ضد سوريا، واصفين الأمر بأنه سوف يُلحق مزيداً من الضرر في علاقات بلادهم مع الولايات المتحدة.
ورغم ذلك، من السهولة بمكان التملص من هذه الانتقادات؛ إذ ينبغي على اليسار الألماني الشعور بالسعادة لتقاعس ميركل بصرف النظر عن التصريحات التي أدلت بها؛ فذلك التقاعس الرسمي هو أكثر ما يصبو إليه الناخبون. ومن شأن الساسة الموالين للولايات المتحدة ملاحظة أن ميركل تعبر بشكل لا لبس فيه عن المعسكر السياسي الذي تنتمي إليه. وكما صرح ساعدها الأيمن في الحكومة، وزير الاقتصاد الحالي بيتر ألتماير لصحيفة «بيلد» الألمانية اليومية: «إن لم ننفذ الضربات بأنفسنا فلا يعني ذلك أننا ننأى بأنفسنا تماماً عنها». وألمانيا، على سبيل المثال، تشرف حالياً على تدريب قوات البيشمركة الكردية المعارضة لنظام بشار الأسد.
وهناك عامل محلي آخر نادراً ما يذكره أحد. منذ عام 2014، تقدم أكثر من 513 ألفاً و213 مواطناً سورياً بطلبات الحصول على اللجوء في ألمانيا. والسواد الأعظم منهم من معارضي بشار الأسد، لكن حتى وإن كانت هناك أقلية منهم تؤيد الرجل، فلن يكون من الحكمة أبداً أن تنخرط ألمانيا في الحرب الأهلية السورية أو أن تقدم الإسناد العسكري المفتوح لأي من الأطراف المتناحرة على أرض الصراع هناك. وبالمقارنة مع ألمانيا، لم تقبل الدول المشاركة في ضربات السبت الماضي ضد سوريا أي لاجئين سوريين، كما فعلت ألمانيا؛ إذ سمحت الولايات المتحدة بدخول 3024 لاجئاً سورياً فقط إلى أراضيها خلال العام الماضي. وكان من شأن بضع قنابل ألمانية قليلة تسقط على منشآت بشار الأسد العسكرية أن تكلف دافعي الضرائب الألمان أقل بكثير مما تكلفهم سياسة قبول اللاجئين السوريين التي تعتمدها حكومة بلادهم. غير أنني أؤيد وأقدر جهود اللاجئين أكثر من ضربات القنابل، وليس فقط لأجل الأسباب الإنسانية وإنما لأجل تجربة الاندماج والاستيعاب التي لم تجرؤ أي دولة أخرى على خوضها كما فعلت ألمانيا. توصف أنجيلا ميركل بأنها من أساتذة الحلول الوسط المخضرمين في أوروبا. ويعد موقفها حيال سوريا مستقراً في موضع ما بين الاستقرار الداخلي والحاجة إلى التلميح بالولاء المستمر للولايات المتحدة وتحالفها الغربي الكبير. ومن المنطقي أن يصب توازن الحلول الوسط في صالح القضايا المحلية الألمانية. وبعد كل شيء، كان هجوم البلدان الغربية الكبرى الثلاث على نظام بشار الأسد رمزياً أكثر منه فعلياً؛ إذ لم يسفر الهجوم عن تغيير يُذكر في الانتصارات التي حققها جيش الأسد في الغوطة الشرقية، وإن بقي لدى نظام الأسد أي أسلحة كيماوية في مخازنه، فمن غير المرجح أن يتم تخزينها في مواقع معروفة وواضحة مثل تلك التي تعرضت للغارات الأخيرة.
وعندما يتعلق الأمر بالإيماءات الرمزية، فإن الكلمات لها التأثير نفسه للصواريخ. ويشعر الشعب الألماني، وكاتب هذا المقال، بقدر من السرور أن زعيمة البلاد تدرك هذه الحقيقة تماماً.
بين التمنيّات التي شاعت سوريّاً وعربياً ودولياً، والأهداف التي حدّدتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لضرباتها، كانت هناك هوّة واسعة وعميقة هي التي لا تنفكّ روسيا وإيران ونظام بشار الأسد تدفع إليها بسورية والشعب السوري. لم يكن أصحاب التمنيّات واقعيين لأن الغربيين مخططي الضربات كانوا واضحين في أنهم لا يسعون إلى تقويض النظام وهزمه في الصراع المسلّح، ولا يريدون مواجهة أو حرباً مفتوحة مع روسيا أو إيران. أي إبقاء اللعبة الدولية- الإقليمية في معادلتها الراهنة التي تجيز القتل والتدمير بكل أنواع الأسلحة، من دون تجاوز «الخطوط الحمر».
تصرّفت واشنطن بعد استخدام السلاح الكيماوي على أنها مُستَفزّة، وعندما تأهّبت للردّ بدت موسكو مُستَفزّة أيضاً. استنفر الأميركيون بريطانيا وفرنسا فضاعف الروس استنكاراتهم، ولن يُخفِ الفرنسيون والبريطانيون حذراً بات اعتيادياً وضروريّاَ حيال خيارات دونالد ترامب، ما استوجب اتصالات أميركية- روسية لتبادل التوضيحات (منذ اتفاق لافروف- كيري عام 2013 الذي وثّق بالقرار 2118 تُعتبر روسيا ضامنة لانضباط النظام «كيماويّاً» ومنذ التدخّل المباشر باتت مسؤولة عن ممارساته)، كذلك لتبادل التحذيرات (إذا قُتل جندي روسي أو قُوّض النظام لا تستطيع روسيا الامتناع عن الردّ)، وهكذا جرى تقليص الأهداف، موقتاً، وهو ما دفعت إليه باريس وأيّدته لندن ومعهما وزير الدفاع جيمس ماتيس، كما أنه ينسجم مع التوجّهات الفعلية لترامب بمعزل عن تغريداته النارية.
هذا التقليص «الموقّت» للأهداف أتاح لروسيا فتح المجال الجوي السوري للضربات الثلاثية، لكنه لم يمنع مواصلة حشد القطع الحربية في المتوسّط، أولاً لأن التفاهمات بين الأميركيين والروس لا تُبنى على الثقة، وثانياً لأن الدول الثلاث تتحسّب لردود إيرانية- أسدية (بموافقة روسية ضمنية) قد تعاود استخدام السلاح الكيماوي، في إدلب مثلاً، أو تستهدف مباشرة قوات التحالف الدولي في شمال سورية. وطالما أن الدول الثلاث لم تصمم ضرباتها للتدخل في مجريات الصراع الداخلي أو لإزاحة الأسد، يمكن عزو تقليص الأهداف إلى أسباب عدة، منها عدم اتفاق الدول الثلاث على استراتيجية واضحة، واستمرارها في التزام «خطة فيينا» (2015) التي صيغت في القرار 2254 واعترفت ضمناً بدور روسي أساسي وحيوي، لكن روسيا أخلّت به وتواصل تغيير قواعد اللعبة، إما للانفراد بإدارة الأزمة وحلّها أو لابتزاز الولايات المتحدة وحلفائها وجلبهم إلى تسوية تشمل سورية وغيرها من الملفات.
إذا كانت الضربات انطوت على «رسائل» سياسية وحتى عسكرية فهي تتعلّق طبعاً بإيران ونظام الأسد، وكلّها موجّه أولاً وأخيراً إلى روسيا. لعل أهمّ «الرسائل» أن على موسكو أن تحدّد خياراتها، وأن الدول الثلاث مستعدّة للتعاون معها لإنهاء الحرب في سورية، في سورية فحسب، في الأطر المتفق عليها، وبالتالي فلا داعي لافتعال هجمات كيماوية لاستدراجها إلى مساومات أخرى. أما الخيارات التي يجب توضيحها وحسمها فتراوح بين الممكن والصعب، وهي مترابطة في أي حال، كما أنها رهن الإرادة السياسية لفلاديمير بوتين. فالخيارات الممكنة روسياً بادرت باريس إلى بلورتها في نقطتين: 1) وقف إطلاق النار في عموم سورية، و2) خطة خروج من الأزمة بإيجاد حلٍّ سياسي مستدام. في الأولى تركت روسيا النظام وإيران وتركيا يتلاعبون بـ «ما بعد داعش» جاعلين «مناطق خفض التصعيد» مرحلة جديدة في الصراع. وفي الثانية أعطت موسكو إشارات عدة إلى أنها تسعى إلى تغليب «مسار سوتشي» على «مسار جنيف» ولا تزال تعمل على تقزيم الحل السياسي بتجريده من أي أفق انتقالي.
أخطر الخيارات الصعبة المطلوب من روسيا حسمها هو الوجود الإيراني في سورية. وفي الآونة الأخيرة لم تعد موسكو تسمع في مختلف المحافل العلنية والمغلقة سوى هذا العنوان، إيران، وسط زحمة استحقاقات تقود جميعاً إلى تعقيد موقفها. فالاتصالات التي سبقت الضربات الثلاثية، وإجماع القمة العربية في الظهران على إدانة التدخلات الإيرانية، واعتزام الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي، وحرب اليمن مرفقة بإطلاق الحوثيين صواريخ على السعودية، ومساعي تطوير العلاقات مع دول الخليج، فضلاً عن متطلّبات إنهاء الحرب في سورية... كل ذلك وضع روسيا، شاءت أم أبت، في خانة الانحياز إلى إيران ومشروعها التوسّعي. وبطبيعة الحال فهي تلقّى بوتين رسالة الضربات التي تخيّره بين أن تبادر روسيا إلى معالجة هذا الوجود الإيراني، أو تتيح لإسرائيل التعامل معه بدعم من الدول الثلاث وربما بمشاركتها، باعتبار أن كل العواصم التي تواصلت مع إيران أبلغتها أنه كان عليها ضبط برنامجها الصاروخي وسياستها الإقليمية منذ وقّعت على الاتفاق النووي لئلا يتسببان في التأزيم المرتقب على خلفية المآخذ الأميركية على ذلك الاتفاق.
مشكلة بوتين مع حربه في سورية أن لديه حلفاء يريدون استمرارها ويواصلون منحه أوراقاً تعزّز نفوذه وتشجّعه على انتظار مساومة مع الولايات المتحدة. ومع افتراض أن الخصوم الغربيين يسعون فعلاً إلى إنهاء الحرب إلا أنهم لا يسهّلون الأمر عليه، بل يطرحون شروطاً ولا يلوّحون له بثمن مقابل قد يغريه بالتخلّي عن «أوراق» حلفائه. هذا لا يعني أن بوتين أدار جيداً الوجود/ الاحتلال الروسي في سورية، فهو دافع عن بقاء الأسد في السلطة وطالب الجميع بقبوله مع أن أعوانه قالوا مراراً أن الأسد لا يعني شيئاً بالنسبة إلى روسيا، وبعدما غيّرت العواصم المعنيّة موقفها تسهيلاً لحلٍّ سياسيٍ ما وجدت أن بوتين يدعوها إلى التكيّف مع صيغة «إيران + الأسد»، ثم أن النظام طالب دولاً أوروبية اتصلت به بالتعامل معه بشروطه، خصوصاً تجديد الاعتراف بـ «شرعيته» وإعادة فتح سفاراتها، مقابل التعاون في شأن الإرهاب وحصصٍ في مشاريع إعادة الإعمار. وبعدما سُحب بقاء الأسد أو عدمه من التداول، أطلق بوتين مساومة على مضمون الحل السياسي وطبيعة الحكم المقبل واستطاع في سوتشي فرض «الدستور + الانتخابات» كأجندة تفاوضية جديدة.
في كل الظروف والمراحل ظلّت قضية الوجود الإيراني دائماً على الطاولة ولم تكن لدى بوتين أي اقتراحات للتعامل معها، بل حاجج بأن إيران تدخّلت بدعوة من النظام. وعلى رغم أن ثمة تفاهمات مع الأميركيين، كما هو شائع، على أن لا تكون المعابر الحدودية مع العراق في أيدي الإيرانيين إلا أن بوتين لم يطبقها بحزم بل ترك حليفيه يتصرّفان كالعادة، فيكون وجود قوات النظام رمزياً والقوات التابعة لإيران أكبر عدداً وأكثر قدرةً على التحكّم بالمواقع. كما أن اتفاق «خفض التصعيد» في الجنوب الشرقي وقّع مع موافقة روسية على اشتراط إسرائيل منطقة عازلة وخالية من الإيرانيين بعمق حدّدته المعلومات الأولية بـ40 كلم ولم يستطع الروس تطبيقه بسبب الرفض الإيراني. ومع أن بوتين اهتمّ شخصياً بمجريات معركة الغوطة الشرقية إلا أنه لم يمانع عملياً مشاركة الإيرانيين، ولم يتمكّن مفاوضوه الروس من إنجاز اتفاقات تضمن بقاء السكان. ثم حصل أخيراً القصف بالغازات السامة في دُوما، وقد يكون النظام والإيرانيون دفعوا بهذا الهجوم للتعجيل باستسلام «جيش الإسلام»، لكنهم ما كانوا ليتصرّفوا بهذا السلاح من دون موافقة بوتين.
وسط المعادلات المتشابكة وضعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكرة في ملعب الرئيس الروسي، إذ آن الأوان للبحث في مستقبل مغامرته السورية واستُنفد الجدل على مصيرَي حكم آل الأسد والوجود الإيراني المتلازمَين. لم يعد متاحاً له الحفاظ على الأسد وإيران معاً إذا كان يرغب في تعاون الأميركيين والأوروبيين معه. وعدا أنه غير قادر على التحكّم بحركة الإيرانيين، فإن بقاءهم مع الأسد يحبط أي نهاية للحرب وأي حلٍّ سياسي، حتى بالشروط الروسية المجحفة للشعب السوري. أما إقصاء أحدهما فيقصي الآخر، وهذا يقتضي تورّطاً روسياً واسعاً لا يريده. صحيح أن أجندات الولايات المتحدة وحلفائها وخياراتهم المحدودة لا تقلق بوتين، ومع إدراكه حاجته إليهم فإنه يرفض التعامل مع شروطهم. وإذا كان لوّح مراراً بخيار إخراجهم من سورية فهذا يستدعي أيضاً مزيداً من التورّط الروسي.
نحن كأناس أحرار، أو يجدر بنا أن نكون أحرارا، سيكون هدفنا الإنساني الأول، غالبا، هو أن نحيا في سلم وأمن بعيدين عن كل ما من شأنه أن يحرمنا من هذا الهدف، ومن ثم يتأتى لنا أن نطور درجاتنا في الإنسانية فنساعد الآخرين كي يحيوا في سلم واستقرار نفسيين. لم ترج هاته الأفكار في خلدي من قبل أبدا، وحان الوقت ربما لأسأل لماذا، هل أنا كعربي لست أهلا لأن أكون إنسانا؟ بلى، أظن أنه من حقي ذلك وغصبا عن كل معارض، لكن هيهات، كان ذلك قبلا وليس اليوم.
بينما كنت أؤدي فريضتي كأي مسلم، وبعد التسليم والدعاء، يتبادر إلى مسمعك "يا ناس ساعدونا من شان الله"، فتاة يمكن أن تعرف من صوتها أنها لا تتعدى سن السادسة عشرة، صوتها الممزوج بقطرات العسل ولهجتها الشامية تلك، تبعث قلبك على الرحمة والرأف لحال المسكينة، تدعو على بشار وتسألنا دفع الإيجار، فتسمع رنين الدراهم وهي تودع جيوب أصحابها منتقلة لسد احتياجات الفتاة وعائلتها ربما، سررت بموقف المصلين، ورغم أنهم محتاجون إلا أنهم يقتسمون.
لكن ما حز في نفسي هو وقوفها بارتجال أمام الرجال، يمكن أن تسموه قدرا إن شئتم، لكنه قطعا ليس كذلك، أنا لا أفقه في السياسة إلا ما يفقهه الأدبي في الفيزياء، لكنني ومع ذلك صنفت "بشار" الذي لن أذكر لقبه احتراما لحيوان سكن الغابة وما حكم بقانون الغاب قط، صنفته ذئبا بريئا من دم يوسف، لكنه مذنب في حق ملايين الشهداء والجرحى. كل نظرة من عيون تلك الطفلة تحاسب بشار وكل عربي منا.. الكرسي، السلطة والنفوذ، محركات دمرت معاني الإنسانية قبل أن تطمس معها معالم الدين أيضا. أيمكن للإنسان أن يضحي بملايين الأبرياء إرضاء لكرسي سلطة؟ حسنا، لنقل أن نظاما فسد وانقاد لطاعة تكالبات خارجية تنهش في الجسد العربي، أما حق للأنظمة الأخرى أن تشد بأيدي اخوتها وتنقذ ما يمكن انقاذه والخروج بأقل الأضرار؟ حتى من قطعان الجواميس تعلمت كيف تتحد، فتراها تغالب أسودا وتماسيحا وتنتصر، إلا قطيعنا العربي هذا، أنظمة وشعوبا، كنا خرافا متفرقة وكان الغرب ذئبا، أصبحنا نردد "أنا ومن بعدي الطوفان"، لكن الطوفان لم يبق على أحد منا.
ما رد فعلك بعد أن يتم ترحيلك من أرضك، أن تطمس هويتك، ذكرياتك، حاضرك، وأيضا مستقبلك؟ كنت أود توجيه السؤال لتلك الصغيرة، لكن حالها كان يجيب عن نفسه، ستسأل المسكينة الناس أن يغدقوا عليها من كرمهم، تذكرهم برابط الأخوة في الدين والتاريخ والهوية، فلا زال أناس في قلبهم مثقال ذرة من إنسانية استطاعوا النجاة بسلامة قلوبهم، يساعدون بما أمكن، وباقون لا يحركون ساكنا رغم قدرتهم على فعل ذلك. كلما تذكرت الفتاة وملامحها أحسست بتأنيب ضمير، لم كل هاته التعقيدات؟ أمن الضروري أن تعيش فينا الطبقية إلى الأبد؟ وما الدافع لفتاة كباقي الفتيات تملك دفترا ورديا مثقلا بالأحلام، يتحول بين ليلة وضحاها لدفتر تخطيطات من أجل ضمان لقمة العيش، ما دافعها أن تلجأ لبلد لا يقل تعقيدا عن سياسة بلدها، ولمدينة صغيرة تكاد تنعدم فيها فرص العيش كمدينتي؟
كلما تساءلنا وجدنا أن السياسة مصطلح مخرب لكل ما له صلة بالإنسانية، لربما الحل الوحيد والأوحد في ظل شتات الدين في البلاد العربية، هو أن نقف وقفة رجل واحد، أو بالأحرى إنسان واحد، ونقاتل طاغوت السياسة وشبحها الأسود الذي تربص وأطاح بالشعوب واحدا تلو الآخر، وننتفض ولو مرة واحدة بعيدا عن التنديدات والشعارات الفارغة التي تمتص حماسنا فتذهب مواقفنا سدى. وتصيح تلك الفتاة الصغيرة "أجل، أنا عربية سورية وأفتخر" فتعيش هاته الشامية آنفة وشامخة كما عاش أهلوها السابقون.
حدثت الضربة العسكرية الأميركية البريطانية الفرنسية ضد مواقع للنظام في سورية تتعلق بالأسلحة الكيميائية، سواء بالبحوث أو التصنيع أو التخزين، أو المطارات التي خرجت منها الطائرات التي ألقت صواريخها المحملة بالأسلحة الكيميائية، فقد أصرَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولحقته رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، وكذلك لحقه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على "معاقبة" النظام لاستخدامه الأسلحة الكيميائية. انتهت الضربة، واُعلن أنها استهدفت السلاح الكيميائي، حيث إن هذه الدول لا تريد تغيير النظام، ولا التدخل في "الحرب الأهلية"، وحتى لا تريد إضعاف النظام عبر تدمير ما تبقى من قدراته العسكرية (سلاح الطيران).
شهدنا في دمشق الرقص والفرح، وإعلان الانتصار، على الرغم من أن المواقع التي ضُربت بدت مدمرة. وكان النظام، كذلك روسيا، قد أعلنا عن إسقاط عدد من الصواريخ التي أُطلقت، من دون الاتفاق على عددها. بالتالي ظهر أن السلاح الروسي القديم يستطيع إسقاط صواريخ من نوع كروز، ربما هذا يفيد روسيا لتصدير هذا السلاح، ما دامت سورية باتت سوق استعراض للسلاح الروسي، لكن هذا ما قدّمه النظام لمشايعيه لكي يقول إنه انتصر، وأن يسمح لهم بالفرح والرقص. وكما حدث بعد ذلك، حيث أعلن التلفزيون السوري إسقاط ستة صواريخ أُطلقت على مطار الشعيرات، ثم تبين أنه لم تكن هناك صواريخ حسب ما أعلن النظام ذاته. وبالتالي سيكون الإسقاط السابق نتيجة التوهم ذاته، لكن في وضعٍ كانت هناك صواريخ كروز تدك بعض مواقعه.
بغض النظر عن هذه الجزئية، فإن الرقص والفرح وإعلان الانتصار ستكون "أموراً طبيعية"، ليس لأنه قد تم إسقاط صواريخ، فهذه هي ملهاة، أو وسيلةُ تلهٍ للمشايعين، بل لأن النظام وتابعيه فهموا أن هذه الدول التي قامت بـ "العدوان الثلاثي" لا تريد تغيير النظام كما فعلت في العراق، وحتى لا تريد تدمير طائراته التي تقصف بالكيميائي، ولا زالت تقصف الشعب كل يوم. وهذا جيد بالنسبة له ولهم، لأنه يعني أن هذه الدول تُطلق يده في قتل الشعب السوري، وهي بالأساس لا تستهدفه، فلا تريد تغييره عبر القوة التي خاف منها. هذا يستحق الفرح والرقص وإعلان الانتصار، بالضبط لأن النظام باقٍ ومشرَّع له قتل الشعب السوري، ليس فقط من إيران وروسيا وعصاباتهما، بل من هذه الدول التي قامت بـ "العدوان الثلاثي" لكي تُعلن انتصاره على شعبه.
سمحت هذه الدول للنظام بأن ينقل طائراته إلى مناطق آمنة، كما فعلت أميركا حينما قصفت مطار الشعيرات، ولم تتعرّض للمطارات إلا التي يُعتقد أن فيها سلاحا كيميائيا. وهي بذلك أبقت قوة القتل التي يستخدمها، وظهر أنها حريصةٌ على ذلك. ويعني هذا الأمر أنها لا زالت تريد من النظام أن يقتل أكثر، وأن يدمر أكثر. لهذا قال وزير خارجية بريطانيا، بوريس جونسون، إن "الحرب في سورية ستستمر". بالتالي، كانت الضربة الصاروخية تتعلق بأسباب أخرى، تمثلت في "رفع الإحراج" عن ترامب الذي لا يريد أن يكون مثل سلفه باراك أوباما بإعلانه خطوطا حمرا ثم عدم الالتزام بها. لهذا قصف مطار الشعيرات قبل عام، وكان لا بدّ له أن يقصف الآن بعد استخدام الكيميائي في دوما. كما أنه يريد إظهار أنه المقرّر في سورية وليس روسيا، وهذا في إطار "المكاسرة" بينهما، حيث ترى أميركا أن روسيا "تتنمَّر".
ما هو مهم هنا أن أميركا بالتحديد حريصةٌ على استمرار النظام، وعلى استمرار قصفه وتدميره وقتله، لأنه يقوم بما كانت تريد أن تقوم به هي، أي أنه ينفذ إرادتها هي. وهذا يعني أن أميركا لم تكن بحاجةٍ، من هذه الزاوية، لقصف النظام، ما دام يفعل ذلك، لكنه أحرجها باستخدامه السلاح الكيميائي. لهذا ضربته من دون أن تضعفه.
بالتالي، كل حديث عن فبركة تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي لا معنى له. لقد فعلها النظام.
تثير العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا في سوريا قبل أيام، واستهدفت بعض المواقع التابعة لنظام بشار الأسد، أسئلة كثيرة تتعلق بأهدافها، والنتائج التي ترتبت أو يمكن أن تترتب عليها.
الهدف العام لهذه العملية كان واضحاً، وهو ضرب القدرات الكيماوية العسكرية للنظام السوري، لكنه لم يكن محدداً بدقة، إذ تراوح التعبير عنه في تصريحات أميركية وبريطانية وفرنسية بين إضعاف هذه القدرات، وتقويضها، كما أن ما فُهم من تغريدات الرئيس دونالد ترامب، ومن بعض ما ذكرت وسائل إعلام أنه قاله في اجتماعات مع مسؤولين أميركيين، كان موحياً بعملية أكبر وأكثر تأثيراً في مسار الصراع وميزان القوى الإقليمي والدولي في سوريا.
غير أن المواقع التي ضُربت في النهاية تدل على أن العملية التزمت منهج الحد الأدنى، فبدت رمزية لا تختلف إلا كمياً عن تلك التي استهدفت مطار الشعيرات العسكري في 7 أبريل 2017، رداً على الهجوم الكيماوي في منطقة خان شيخون. الاختلاف الأساسي بين العمليتين يكمن في أن الأخيرة ثلاثية الأطراف بخلاف سابقتها، وأن تسعة مواقع استُهدفت خلالها وليس موقعاً واحداً، وإن كان عدد الصواريخ المستخدمة لم يزد كثيراً؛ إذ وصل إلى 105 صواريخ وفق بيان البنتاجون مقابل 59 في عملية الشعيرات.
لذا بدت العملية العسكرية الثلاثية أصغر من أن تحقق نتائج مهمة، مثلما كان الأمر بالنسبة لعملية الشعيرات التي لم تترك أثراً في معادلات الحرب في سوريا، ولم تغير شيئاً في قواعد اللعبة التي تمسك روسيا بأهم مفاتيحها، أو في توجهات النظام السوري وحلفائه بشأن مواصلة السعي إلى حسم الصراع عسكرياً.
غير أن السؤال الذي لم يُطرح في هذا السياق، رغم أهميته الفائقة، يتعلق بطبيعة العملية العسكرية الأخيرة، وهو: هل كان ممكناً أو وارداً أن تحقق هذه العملية نتيجة مغايرة إذا استهدفت المزيد من المواقع، واستمرت لفترة أطول، أو حتى إذا شملت مواقع تتجاوز تلك المتصلة بالقدرات الكيماوية العسكرية؟ ومغزى هذا السؤال أننا إزاء عملية عسكرية مُعلنة مسبقاً ينتفي فيها عنصر المفاجأة، الأمر الذي أتاح الاستعداد لها، وإخلاء مواقع كان ضربها متوقعاً، وإعادة نشر أسلحة ومعدات كان سهلاً توقع استهدافها. كما أن الفرق الزمني بين تهديد الرئيس ترامب بشن عملية عسكرية وتنفيذها، والذي وصل إلى ثلاثة أيام ونيف، أعطى فرصة أكثر من كافية لدعم منظومة الدفاع بمساعدة روسية كثيفة في المناطق المتوقع استهداف مواقع فيها، سعياً لتقليل الخسائر.
وذلك ما حدث بالفعل، الأمر الذي جعل الخسائر في النهاية طفيفة إلى حد يُثير الشك حتى في تحقيق الحد الأدنى من أهداف العملية، بما في ذلك إضعاف القدرات الكيماوية العسكرية لنظام الأسد، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أعلن أنها تقلل إمكانات استخدام هذه القدرات في الحرب السورية.
لم يخسر نظام الأسد شيئاً يتعذر تعويضه، بل ربما كسب سياسياً ومعنوياً. كما لم تخسر إيران، إذ لم تستهدف العملية مواقع تابعة لها أو لحلفائها الموجودين في سوريا. أما روسيا، فثمة جدل حول ما إذا كانت قد خسرت بالنظر لتصريحات صدرت من بعض مسؤوليها حول الرد على أي عملية عسكرية أميركية في سوريا. فثمة من يرى أن كبرياء روسيا جُرح، ومن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتقد أن هيمنتها على سوريا كُسرت ولو جزئياً، وأن هذه هي الرسالة المقصودة من مشاركة فرنسا وبريطانيا في الهجوم، رغم أن أميركا تستطيع شن أكبر منه منفردة.
لكن هناك من يرى، بالمقابل، أن ضآلة نتائج العملية تجعل الخسارة الأميركية الفرنسية البريطانية هي الأكبر، لأنها تكشف ضعف قدرة الدول الثلاث على التأثير في مسار الصراع على سوريا.
وأياً يكون الأمر، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بعد العملية العسكرية، مثلما كان الحال قبلها، في غياب أي عمل جاد لإنهاء الحرب التي دمرت مقدراته، ومادام وطنه ساحة لصراعات دولية وأطماع إقليمية يقف العرب متفرجين عليها وغير قادرين على التأثير فيها. ومع ذلك، ربما يكون البيان الختامي الصادر عن قمة الظهران الأحد الماضي بداية لمراجعة جادة للمواقف العربية، على نحو قد يفتح الباب أمام توافق على تحرك مشترك لإنقاذ سوريا وشعبها.
نهاية الأسبوع الماضي تحدث العالم بأسره عن الضربات العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على سوريا. وبينما يواصل أطراف الأزمة في سوريا بعد العملية حربهم الإعلامية على جبهات مختلفة، يلفت انتباه المتابعين الاهتمام الكبير بعدم استهداف روسيا في العملية، وموقف موسكو "الليّن".
تطور آخر بقي في ظل الجدل الدبلوماسي حول استخدام السلاح الكيميائي والعملية العسكرية، وهو حملات أحادية الجانب في إطار الحرب الإيرانية الإسرائيلية. مع أن هذا التطور معقد وهام بقدر الحرب السورية على الأقل.
الملفت في الأمر أن الأهداف الإيرانية في سوريا تعرضت لهجومين جويين أولهما قبل أيام من ضربات الحلفاء، وثانيهما بعد الضربات مباشرة. في الغارات الأولى تبين أن الفاعل إسرائيل، لكن يبدو أن منفذ الهجوم الثاني، جنوب حلب، "مجهول" حاليًّا.
من خلال هذه الحملات، تبدي إسرائيل أنها تركز على "شؤونها" فحسب، دون الالتفات إلى ما يفعله الآخرون. ما يجذب الانتباه في الهجوم الثاني هو أنه نُفذ دون حصول أي تداخل مع الضربات الجوية للحلفاء.
يبدو أن المقاتلات الإسرائيلية تجاوزت رادارات نظام الأسد وروسيا، التي تحمي الأجواء السورية، ووصلت أهدافها بسهولة.
إذا كانت روسيا تلتزم الصمت عندما تكون إيران مستهدفة فالمشهد مثير للاهتمام. وهذا يشير إلى أن العلاقات الإيرانية الروسية هشة أكثر مما يُعتقد. الأمر الذي يجعل إيران هدفًا سهلًا.
تقدم إيران على مبادرات مختلفة في عدد من البلدان، وليس سوريا فحسب. يمكننا الحديث عن ليبيا والعراق والخليج العربي ولبنان وباكستان وأفغانستان.
دعم المجموعات المسلحة والشبكات الدينية وتعزيزها اقتصاديًّأ عبر عمليات سرية/ مكشوفة ذات كلفة عالية يتطلب نفقات كبيرة للغاية.
يشكل حزب الله، الذي أصبح جزءًا من الحرب السورية، مثالًا للمجموعات الفعالة والمكلفة ماليًّا. لبنان مقبل على انتخابات خلال الفترة المقبلة. ونجاح حزب الله فيها يقتضي إنفاق مبالغ نقدية كبيرة.
كما أن إيران تتحمل نفقات المسلحين النشطين علاوة على مصاريف أسر قتلى وجرحى الحزب في الحرب السورية.
تتعرض إيران لضغوط اقتصادية كبيرة سواء في الداخل أو في الخارج جراء نفقاتها الأمنية المتزايدة. وبالنظر إلى الأخبار المتداولة، لن يكون مدهشًأ أن تستغل الولايات المتحدة وحلفاؤها السياسات الإيرانية في سوريا ذريعة من أجل اتخاذ قرار بفرض عقوبات جديدة على طهران.
لن تنهي "نزهة" الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القتالية في سورية الصراع المحتدم بين الدول المتصارعة على فرض نفوذها وانتزاع حصصها من الأرض السورية، كما أنها لم تهدف أساساً إلى وضع نهاية للصراع القائم منذ سبع سنين، بين النظام السوري والمعارضة الشعبية التي ثارت ضده بسبب الممارسات القمعية التي أثقلت على الناس معيشتهم، وضيقت عليهم أسباب استملاك حقوقهم، بوصفهم مواطنين أحرارا في بلدهم، وتركت تلك "النزهة" للنظام وكل من روسيا وإيران دراسة خيارات الرد على "العبث الأميركي - الغربي المسلح" داخل الأراضي السورية، حسب وصف محور روسيا والنظام وإيران العملية المسلحة التي تحدثت عنها الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع حلفائها الفرنسيين والبريطانيين، وإنزال أشد العقوبات على الحاضنة الشعبية للثورة السورية، من مبدأ أنه في جميع المواجهات والدروس المتبادلة بين المحورين، الروسي والأميركي، ستكون الخسائر والضحايا "سورية الهوية".
ويعتبر النظام السوري الضربات العسكرية ضده، إسرائيلية كانت أم أميركية أم أوروبية، والتي لا تستهدف إسقاطه نظام حكم، ولا تعلن انتهاء صلاحية بشار الأسد رئيسا، مجرد "مطبّات" عابرة في مسيرة حربه على ما تبقى من حواضن الثورة، مكانياً وسكانياً، تبعاً للمصلحة المشتركة مع إيران التي ترفض مطالب السوريين بحل سياسي انطلاقاً من بيان جنيف1،
وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع السوري، ومنها 2118، 2254، وفي الوقت نفسه، يعتمد النظام على ثبات الموقف الروسي المساند له، مستثمراً الخلافات الدولية التي تغرق فيها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، ومع الدول الأوروبية التي تفرض عليها عقوبات مالية واقتصادية، وتحاصرها دبلوماسياً وسياسياً من ناحية ثانية، ما يترك المجال، حسب اعتقاد النظام، لفرصة استمرار سياسته في إطالة أمد الواقع الحالي، متجاهلاً أنه، مع حلفائه، أتاح لنظرية "الفوضى الخلاقة" أن تتجسّد واقعياً في سورية، ما يتيح المجال للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد اعتماداً على التفجير الذاتي للدول (وهذا ما روجته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عام 2005)، وعلى ما أحدثته التدخلات الخارجية وأدواتها من مليشيات وفصائل في الواقع السوري اليوم، وهو الأمر الذي أفشل مراهنات النظام وحلفائه على استثمار هذه الفوضى التي أحدثها، عبر السنوات السبع الماضية، لإعادة إنتاج نفسه ودوره الوظيفي في الشرق الأوسط الجديد، خصوصا مع وجود المصالح الأميركية في دحر التمدّد الإيراني في المنطقة، وأنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، كانت الغائب الحاضر، وصاحبة القرار النهائي في قطف الثمار لحالتي الحرب والسلام في المنطقة.
وهذا ما يفسر حالة الهلع التي أصابت كلا من النظام السوري وروسيا وإيران، عند أول إشارة إلى جدية التعامل مع انتهاك النظام قرار حظر استخدام السلاح الكيميائي، ليس بسبب الضربة العسكرية التي يمكن لملمة آثارها، كما يفترض النظام دائماً، وإنما لما يريده الحلف الأميركي من الحلف الروسي الإيراني التركي الذي قارب على وضع اللمسات الأخيرة للحل في سورية، ضارباً عرض الحائط بما أنتجه اجتماع باريس في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، على هامش مؤتمر عن المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سورية، وضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، ونتج عنه ما سميت "اللا ورقة" لتكون محور التفاوض بين طرفي النزاع السوريين (المعارضة والنظام)، والتي تعبر عن رؤية هذه المجموعة لما يجب أن تكون عليه جلسات التفاوض البينية، لإنهاء حالة التلاعب وكسب الوقت خلال جولات التفاوض التي وصل عددها إلى تسع، إضافة إلى جلسات التفاوض التقني وورشات العمل، كما أنها وضعت ملامح جديدة لسورية ما بعد الحرب، وفق خريطة طريقٍ تتجاوز المصطلحات الخلافية والمرجعيات غير الوطنية لكلا الطرفين، ويمكن القول إن من شأن تلك الرؤية أن تسقط نظام الحكم القائم شكلاً ومضموناً، وتؤسس لسورية دولة رئاسية برلمانية غير مركزية، وتمنح كل المواطنين حقوقا متساوية فردية وجمعية.
التعاطي السلبي والمعادي مع حالة التدخل السياسي المباشر للمحور الأميركي الغربي، من خلال تجاهل ثم رفض اللا ورقة المقترحة، والتي جاءت لتسحب البساط من تحت مبادرة موسكو، المتفق عليها مع طهران وأنقرة عبر ما سمي مؤتمر سوتشي، وتفاقم الخلافات بين المحورين بشأن الخرائط المعلنة عن تقاسم النفوذ لمحور روسيا وشركائها في أستانة، وتجاهل المصالح والرغبات الأميركية والغربية وإسرائيل، في إبعاد إيران عن الحدود السورية مع كل من "إسرائيل" والعراق، واستكانة النظام، بفعل شراكته مع كل من موسكو وطهران، لهذه المخططات من جهة، وكذلك موافقة أطراف في المعارضة على هذا التقسيم، بفعل تسليمها الكامل لما تقتضيه مصالح تركيا منه، من جهة مقابلة، هيأ الفرصة لخروج واشنطن أخيراً عن صمتها، وتعاطيها مع جريمة استخدام السلاح الكيميائي هذه المرة، بما يمكن أن ينهي حالة التمرد الروسي على قرارات المجتمع الدولي، ويقوّض الوجود الإيراني في سورية، ويقلل من أهمية تحالفاتها مع مليشيا حزب الله، قبل أن تكون التهديدات والنتائج هدفها المباشر النظام السوري، وتهذيب سلوكه وإعادته إلى طاولة المفاوضات وفق الجدول الأممي الذي يريده المجتمع الدولي الذي أنتج نحو 17 قراراً، ولم يأخذ أيٌّ منها طريقه إلى التنفيذ.
الحصار الحقيقي الذي ينتهجه الرئيس ترامب لكل من روسيا وإيران هو بإخضاعهم إلى آلية مفاوضات جديدة، لا تكون فيها روسيا بيضة القبان في ميزان التسوية السورية، ولا تغيب فيها المصالح الإسرائيلية على حساب تحجيم إيران وردعها، بينما يأخذ الحصار شكلاً آخر مع النظام والمعارضة، اللذين يشكلان الحلقة الأضعف في الصراع الحالي، ما يستوجب على كل طرف أن يعيد حساباته داخلياً وخارجياً، لإقناع المجتمع الدولي بصلاحية تمثيل كلٍّ منهما للجهة التي يدّعي أنه يمثلها من مؤيدين ومعارضين وما بينهما.
مهما صار بسوريا، هل يستطيع الروس والإيرانيون، تكريس: الأسد إلى الأبد، أو الأسد أو لا أحد، وهي من شعارات النظام الأثيرة على حيطان دمشق وبقيه الحيطان، أو المتبقي منها، السورية؟
هل يمكن القفز على حقائق مكتوبة بمداد من رماد ودم ودموع، عن ملايين النازحين والهاربين والمهجّرين؟ عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والمسجونين؟ عن عشرات المليارات من الخسائر على شكل عمران مخرّب وزرع مُهان، وغير ذاك كثير؟
الأهم، هل يمكن للإمبراطور الروسي، فلاديمير الرهيب، أو الشاه المعمم، خامنئي، أن يمسح من أفئدة السوريين وكثير من العرب جراح الغضب والحقد الغائرة بفعل همجيات التنكيل والقتل الطائفي التي جرت منذ 2001 إلى اليوم؟
هل يمكن أن يغفر العالم كله -العاقل منه والمنصف- أن نظام بشار ورعاته، هم من حرث الأرض وحفر الحُفَر التي تكاثر بها الماء الآسن الذي جلب بعوض «القاعدة» وملاريا «داعش»؟
تبقى القضية السورية، في نهاية المطاف، بالدرجة الأولى، من شأن جيران سوريا وشركائها في الإقليم الكبير، الشرق الأوسط.
الرئيس الأميركي ترمب، قال بعد انطلاق الغارات الأميركية البريطانية الفرنسية على مخازن الموت الكيماوي الأسدي، إن قضية سوريا هي قضية أهل المنطقة، ويجب أن يسعوا هم لحلّها، وبصراحة، وبعيداً عن تفسير المغزى من كلامه، هو صادق.
وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في مؤتمر صحافي بالرياض مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قال أمس (الثلاثاء): «نُجري نقاشاً مع الولايات المتحدة بشأن إرسال قوات إلى سوريا، في إطار التحالف الإسلامي، ونفعل هذا منذ بداية الأزمة السورية». وتابع أن السعودية سبق أن اقترحت الفكرة على الرئيس السابق باراك أوباما.
جاء هذا بعد يوم أو يومين من نهاية المناورات العسكرية الضخمة لقوات التحالف الإسلامي في شرق السعودية «درع الخليج 1».
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن إدارة الرئيس دونالد ترمب تسعى لتشكيل قوة عربية في سوريا. كما تحدث تقرير الصحيفة الأميركية عن اتصالات فعلية لهذا الغرض مع مصر.
تزامن ذلك مع تأكيد سعودي للوقوف مع الشعب السوري كما «الحفاظ على وحدة واستقلال سيادة سوريا»، حسب بيان الحكومة السعودية في اجتماعها الأسبوعي برئاسة الملك سلمان. طبعاً الإشارة هنا واضحة بخصوص «وحدة واستقلال» التراب السوري.
إنْ حصل ذلك التدخل، فهو ليس تدخلاً سعودياً فردياً، بل ضمن خطة وضمانات دولية، وتحت مظلة تحالف إسلامي ضخم بالتشارك مع أميركا.
هل يتمّ ذلك؟
لم تنقذ الضربة التي قام بها تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا السياسة الغربية في سورية، ولم تخرجها من الطريق المسدود والفشل المستمر منذ سبع سنوات. وما ضاعف من تهافت الرد الغربي على كيميائي الأسد وروسيا إصرار ممثلي هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، على تأكيد أن الضربة المشتركة لا تهدف إلى التدخل في "الحرب الأهلية" السورية، ولا إلى تغيير النظام، ولا حتى إلى معاقبة الأسد الذي استخدم السلاح المحرّم، وإنما تقتصر على "إنزال العقاب" بالمؤسسات والمواقع والبنى المرتبطة بإنتاج الأسلحة الكيميائية واستخدامها. أي باختصار، ما أريد لها أن تكون ضربة تقنية ترد على استخدام وسيلة حربٍ محرّمةٍ، لا على مضمون هذه الحرب ومجرياتها.
لكن تجدّد الحديث، في اليوم التالي مباشرة، عن مبادرةٍ فرنسيةٍ لإيجاد حل سياسي، والإعلان عن الإعداد لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وقف الأعمال القتالية والدخول في مفاوضات جدية من دون شروط، والدعوة إلى تسليم المقاتلين من المعارضة أسلحتهم، يشير إلى أنها لم تكن بريئة سياسياً، كما أراد أن يصورها الفاعلون. كانت بالأحرى رسالةً موجهة بشكل واضح للروس الذين يقودون اللعبة في سورية، ويملكون زمام المبادرة فيها، أن الحرب لا يمكن أن تنتهي كما تريدها موسكو وحلفاؤها، بفرض الأمر الواقع بالقوة، وإنهاء أي مفاوضاتٍ سياسية جدية، كما لا يمكن لاحتلال المناطق وتفريغها من سكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية أن يكون نهاية المطاف. هي ضربةٌ على الطاولة، تعبّر عن رفض الثلاثي الغربي طبيعة الحل الذي يريد أن يفرضه ثلاثي أستانة، ويكرّس فيه تقاسم الاحتلال الروسي الإيراني السيطرة على البلاد، من وراء الواجهة الواهية لنظام الأسد الذي لم يعد موجوداً أصلاً من دون دعم الروس والإيرانيين. العودة إلى المفاوضات التي عمل التحالف الروسي الإيراني الأسدي المستحيل لتقويضها، وفرض الحل العسكري هو كلمة السر الوحيدة لهذه الضربة الرمزية، ومن ورائها رفض الحل الأحادي أو الانفراد الروسي بالحل، خصوصاً إذا كان يعني الشراكة مع النظام الإيراني.
لكن، ليس مؤكداً أن تقنع هذه الضربة الاستعراضية الروس والإيرانيين، وتابعهم الأسد، بالكف عن المناورة للانفراد بحل المسألة السورية لصالحهم، أي بإخراج كل الأطراف الأخرى الدولية، وقبل ذلك، الشعب السوري نفسه، من المعادلة. وإذا لم يكن الطابع الرمزي للضربة جزءاً من تفاهم مشترك روسي غربي على إيجاد مخرج من الحرب، يمكن لها، بالعكس، أن تزيد من مخاطر تقويض صدقية هذه الدول، وتثبيت عجزها عن مواجهة تحدّي مجموعة أستانة لها، وفشلها في إحداث أي تغيير أو تأثير في مجرى الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.
لا يوجد في نظري أي سبب كي يتخلى الروس والإيرانيون بمحض إرادتهم عن الأسد، أي أن يقدموه من دون مقابل للغرب الذي وضعه في السلطة ورعاه، قبل أن يتمرّد على أسياد أمره، ويستنجد بطهران، ثم يسقط بين أيدي موسكو، بسبب أخطائه السياسية، ورفضه أي إصلاح، ويتشبث بالسياسة الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية، والأزمة الدولية التي نجمت عنها. فالأسد يشكل، في وضعه الراهن، "رئيساً" لسورية، معترفاً به في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، دمية فاقدة للسيادة والمقدرة والأهلية، يحرّكها حُماتها من الخارج، وغير قادرة على حماية نفسها، أفضل ستارة يمكن للروس والإيرانيين العمل من ورائها لتحقيق مآربهم، من دون تحمل أي مسؤولية عن الجرائم الكبرى التي تجري، بمساعيهم الشريرة وتحت أنظارهم في سورية المنكوبة، فهو ورقة التوت التي تغطي على عورة سياستهم وأهدافها الاحتلالية غير المشروعة، ومخلب القط الذي يستخدمونه فزاعةً لرفع تكلفة التنافس على سورية. وبينما يعزّز وجود الأسد وإصراره على البقاء في الحكم موقف الروس والإيرانيين الذين يتحكّمون بتقرير مصير سورية وشعبها، اليوم، ويزيد بالتالي من رصيدهم الاستراتيجي، يشكل استمراره، وما يرافقه من مجازر دموية، واستهتار متعمد بقرارات مجلس الأمن، ورفض للمفاوضات أو التسويات الداخلية، تحدياً كبيراً للعواصم الغربية، ودليلاً على فشلها الدائم، وعجزها عن التأثير في الأحداث، وتقويضاً لمركزها السياسي القيادي في المنظومة الدولية.
لا يحتاج الأسد إلى أرضية أخلاقية أو سياسية لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وقتل الشعب وتشريده وتدمير بلاده للإبقاء عليها مزرعة شخصية عبودية، فمشروعه قائم أصلاً على انعدام الضمير وإعدام السياسة وتجفيف ينابيعها. كما لا يحتاج بوتين وخامنئي إلى أي أخلاقيةٍ إنسانيةٍ أو قانونيةٍ لاستخدام سورية ورقة ضغطٍ ومسرح استعراض للقوة في مواجهة الدول الخصم المنافسة. فمثل هذا المشروع لا يتحقق أصلاً إلا بشرعنة الاحتلال، ومصادرة حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتجريده من حقوقه وسيادته على وطنه، وفرض نظام دميةٍ عليه يخدم الاحتلال، ويبرّر أعماله.
لكن الغرب الذي يدّعي رفض مشروع الاحتلال هذا، ويدافع عن حكم القانون وميثاق الأمم المتحدة، كما يدّعي التمسك بالمسؤولية عن فرض احترامهما وردع منتهكيهما، وفي مقدمهم بشار الأسد الذي لا يكفّ الروس عن التأكيد، على حق، بأنه كان رجل واشنطن والغرب، قبل أن يكون رجلهم، يحتاج إلى حد أدنى من مطابقة الأقوال مع الأفعال، لنيل الصدقية والمحافظة على الاعتبار والاحترام. فلا ينتظر أحد من طهران المتمرّدة على النظام والتقاليد والأعراف الدولية، ولا من موسكو التي لا تخفي الطابع الانتقامي لسياستها الغربية، لكن الوضع يختلف مع الدول الغربية التي بنت هيمنتها العالمية على التأكيد على مبادئ الحق والقانون، وأعلنت تأييدها التحولات الديمقراطية وحرية الشعوب، في الوقت الذي تنظر فيه مكتوفة اليدين إلى مأساة السوريين المستمرة، في أكثر صورها بشاعةً وشناعة، منذ سبع سنوات متواصلة، مع الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية وتجويع المدنيين وحصارهم، وقصف المشافي والمرافق العامة، وتفجير المدن وتهديمها على رؤوس ساكنيها، لإجبارهم على إخلائها، وتحطيم حاضنة الثورة الاجتماعية.
ليس لدى الأسد أي حافز يحثه على أن يتراجع عن خياراته الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة والأزمة الدولية التي نجمت عنها، فهو يعرف أنه انتهى، ولم يعد قادراً على البقاء إذا ما اختار العودة إلى الحالة الطبيعية، وأن استمرار الحرب، الداخلية والإقليمية والدولية، هي فرصته الوحيدة لكسب الوقت، وتجنّب الموت الحتمي السياسي أو المادي معاً.
وليس لدى الإيرانيين أيضاً، وهم يسعون إلى مشروعٍ لا يقل جنونيةً عن مشروع الأسد في البقاء في الحكم إلى "الأبد"، وهو تحويل سورية إلى منصةٍ خاصة لبسط هيمنتهم الإقليمية، أي مصلحة في وقف الحرب، أو العمل على تسويةٍ سورية داخلية، أو حتى الحد من الاستخدام المتكرّر للأسلحة المحرّمة دولياً، وفي مقدمها الأسلحة الكيميائية التي ليس لها مثيل في ترويع المدنيين، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم ومدنهم، وتفريغ المناطق من سكانها وإعادة هندستها الديمغرافية والسياسية، ففي هذه العملية وحدها تكمن فرصة طهران لتثبيت وجودها المادي في بلدٍ يبعد عنها آلاف الأميال، ولا تملك فيه أي مرتكز ثابت للنفوذ والقوة.
أما الروس، فليس لديهم أفضل من الأسد الفاقد للسلطة والشرعية، والمحكوم بالإعدام السياسي مع وقف التنفيذ، ممسحةً للجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية، وشبحاً يواجهون من ورائه الدول الغربية التي لا يستطيعون مواجهتها مباشرة، وليس من مصلحتهم الدخول في مواجهةٍ شاملة معها.
لن تنتهي هذه المأساة الدموية، ما لم يُزح الستار عن مسرح هذه اللعبة الجريمة. وليس الستار هنا سوى الأسد الذي يتخفّى وراء شبحه اللاعبون الحقيقيون، ويستخدمون وجهه الشاحب، قناعاً يخفون تحته أهدافهم ورهاناتهم الحقيقية، أي ما لم تنكشف حقيقة اللعبة، وتُعرَّى الأدوار التي تقوم بها جميع الأطراف. من دون ذلك، سوف يحتاج الغرب ضربات مستمرة كثيرة، وربما فقدان ما تبقى له من صدقيةٍ استراتيجية، قبل أن ينجح في وضع حد لهذه اللعبة الدموية التي هو الشريك الرئيسي فيها.
السؤال: هل يريد الغرب بالفعل وضع حد للعبة الموت الدموية هذه؟ من المحتمل أن لا يكون لدى الغرب اليوم سياسة بديلة لسياسة مهاوشة موسكو ومناكفتها، لنقل مركز اهتمامها من أوروبا إلى الشرق، واستنفاد طاقتها التوسعية هناك، فالبديل الوحيد عن سياسة إشعال الحروب والنزاعات وإدارتها هو إزالة أسبابها، وتغيير الشروط التي تولدها، ما يقتضي التعاون على صياغة جدول أعمال مختلف للسياسة الدولية، يتصدى، قبل أي شيء آخر، لمعالجة مشكلات الفقر والمرض والتخلف والتهميش الجماعي وتدهور البيئة وتنامي الجريمة وتدهور شروط الحياة السياسية والقانونية على امتداد المعمورة، وفي إثرها انحسار الثقة وفقدان الأمل واليأس من العالم والشك بالمستقبل.
من الواضح أن هذا ليس جدول أعمال الرئيس ترامب. وهو ليس، بالتأكيد، جدول أعمال بوتين أو خامنئي. وإذا استمرت الأمور في العالم على هذا المنوال، يخشى أن لا يتأخر الوقت كثيراً قبل أن يصبح كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية الذي يعيش في جزيرة منعزلة من صنعه، ولا يهمه مستقبل أحد، ولا مصير المجموع، أي المعمورة بأكملها، هو النموذج السائد والمحتذى في معظم أصقاع العالم.