بين التمنيّات التي شاعت سوريّاً وعربياً ودولياً، والأهداف التي حدّدتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لضرباتها، كانت هناك هوّة واسعة وعميقة هي التي لا تنفكّ روسيا وإيران ونظام بشار الأسد تدفع إليها بسورية والشعب السوري. لم يكن أصحاب التمنيّات واقعيين لأن الغربيين مخططي الضربات كانوا واضحين في أنهم لا يسعون إلى تقويض النظام وهزمه في الصراع المسلّح، ولا يريدون مواجهة أو حرباً مفتوحة مع روسيا أو إيران. أي إبقاء اللعبة الدولية- الإقليمية في معادلتها الراهنة التي تجيز القتل والتدمير بكل أنواع الأسلحة، من دون تجاوز «الخطوط الحمر».
تصرّفت واشنطن بعد استخدام السلاح الكيماوي على أنها مُستَفزّة، وعندما تأهّبت للردّ بدت موسكو مُستَفزّة أيضاً. استنفر الأميركيون بريطانيا وفرنسا فضاعف الروس استنكاراتهم، ولن يُخفِ الفرنسيون والبريطانيون حذراً بات اعتيادياً وضروريّاَ حيال خيارات دونالد ترامب، ما استوجب اتصالات أميركية- روسية لتبادل التوضيحات (منذ اتفاق لافروف- كيري عام 2013 الذي وثّق بالقرار 2118 تُعتبر روسيا ضامنة لانضباط النظام «كيماويّاً» ومنذ التدخّل المباشر باتت مسؤولة عن ممارساته)، كذلك لتبادل التحذيرات (إذا قُتل جندي روسي أو قُوّض النظام لا تستطيع روسيا الامتناع عن الردّ)، وهكذا جرى تقليص الأهداف، موقتاً، وهو ما دفعت إليه باريس وأيّدته لندن ومعهما وزير الدفاع جيمس ماتيس، كما أنه ينسجم مع التوجّهات الفعلية لترامب بمعزل عن تغريداته النارية.
هذا التقليص «الموقّت» للأهداف أتاح لروسيا فتح المجال الجوي السوري للضربات الثلاثية، لكنه لم يمنع مواصلة حشد القطع الحربية في المتوسّط، أولاً لأن التفاهمات بين الأميركيين والروس لا تُبنى على الثقة، وثانياً لأن الدول الثلاث تتحسّب لردود إيرانية- أسدية (بموافقة روسية ضمنية) قد تعاود استخدام السلاح الكيماوي، في إدلب مثلاً، أو تستهدف مباشرة قوات التحالف الدولي في شمال سورية. وطالما أن الدول الثلاث لم تصمم ضرباتها للتدخل في مجريات الصراع الداخلي أو لإزاحة الأسد، يمكن عزو تقليص الأهداف إلى أسباب عدة، منها عدم اتفاق الدول الثلاث على استراتيجية واضحة، واستمرارها في التزام «خطة فيينا» (2015) التي صيغت في القرار 2254 واعترفت ضمناً بدور روسي أساسي وحيوي، لكن روسيا أخلّت به وتواصل تغيير قواعد اللعبة، إما للانفراد بإدارة الأزمة وحلّها أو لابتزاز الولايات المتحدة وحلفائها وجلبهم إلى تسوية تشمل سورية وغيرها من الملفات.
إذا كانت الضربات انطوت على «رسائل» سياسية وحتى عسكرية فهي تتعلّق طبعاً بإيران ونظام الأسد، وكلّها موجّه أولاً وأخيراً إلى روسيا. لعل أهمّ «الرسائل» أن على موسكو أن تحدّد خياراتها، وأن الدول الثلاث مستعدّة للتعاون معها لإنهاء الحرب في سورية، في سورية فحسب، في الأطر المتفق عليها، وبالتالي فلا داعي لافتعال هجمات كيماوية لاستدراجها إلى مساومات أخرى. أما الخيارات التي يجب توضيحها وحسمها فتراوح بين الممكن والصعب، وهي مترابطة في أي حال، كما أنها رهن الإرادة السياسية لفلاديمير بوتين. فالخيارات الممكنة روسياً بادرت باريس إلى بلورتها في نقطتين: 1) وقف إطلاق النار في عموم سورية، و2) خطة خروج من الأزمة بإيجاد حلٍّ سياسي مستدام. في الأولى تركت روسيا النظام وإيران وتركيا يتلاعبون بـ «ما بعد داعش» جاعلين «مناطق خفض التصعيد» مرحلة جديدة في الصراع. وفي الثانية أعطت موسكو إشارات عدة إلى أنها تسعى إلى تغليب «مسار سوتشي» على «مسار جنيف» ولا تزال تعمل على تقزيم الحل السياسي بتجريده من أي أفق انتقالي.
أخطر الخيارات الصعبة المطلوب من روسيا حسمها هو الوجود الإيراني في سورية. وفي الآونة الأخيرة لم تعد موسكو تسمع في مختلف المحافل العلنية والمغلقة سوى هذا العنوان، إيران، وسط زحمة استحقاقات تقود جميعاً إلى تعقيد موقفها. فالاتصالات التي سبقت الضربات الثلاثية، وإجماع القمة العربية في الظهران على إدانة التدخلات الإيرانية، واعتزام الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي، وحرب اليمن مرفقة بإطلاق الحوثيين صواريخ على السعودية، ومساعي تطوير العلاقات مع دول الخليج، فضلاً عن متطلّبات إنهاء الحرب في سورية... كل ذلك وضع روسيا، شاءت أم أبت، في خانة الانحياز إلى إيران ومشروعها التوسّعي. وبطبيعة الحال فهي تلقّى بوتين رسالة الضربات التي تخيّره بين أن تبادر روسيا إلى معالجة هذا الوجود الإيراني، أو تتيح لإسرائيل التعامل معه بدعم من الدول الثلاث وربما بمشاركتها، باعتبار أن كل العواصم التي تواصلت مع إيران أبلغتها أنه كان عليها ضبط برنامجها الصاروخي وسياستها الإقليمية منذ وقّعت على الاتفاق النووي لئلا يتسببان في التأزيم المرتقب على خلفية المآخذ الأميركية على ذلك الاتفاق.
مشكلة بوتين مع حربه في سورية أن لديه حلفاء يريدون استمرارها ويواصلون منحه أوراقاً تعزّز نفوذه وتشجّعه على انتظار مساومة مع الولايات المتحدة. ومع افتراض أن الخصوم الغربيين يسعون فعلاً إلى إنهاء الحرب إلا أنهم لا يسهّلون الأمر عليه، بل يطرحون شروطاً ولا يلوّحون له بثمن مقابل قد يغريه بالتخلّي عن «أوراق» حلفائه. هذا لا يعني أن بوتين أدار جيداً الوجود/ الاحتلال الروسي في سورية، فهو دافع عن بقاء الأسد في السلطة وطالب الجميع بقبوله مع أن أعوانه قالوا مراراً أن الأسد لا يعني شيئاً بالنسبة إلى روسيا، وبعدما غيّرت العواصم المعنيّة موقفها تسهيلاً لحلٍّ سياسيٍ ما وجدت أن بوتين يدعوها إلى التكيّف مع صيغة «إيران + الأسد»، ثم أن النظام طالب دولاً أوروبية اتصلت به بالتعامل معه بشروطه، خصوصاً تجديد الاعتراف بـ «شرعيته» وإعادة فتح سفاراتها، مقابل التعاون في شأن الإرهاب وحصصٍ في مشاريع إعادة الإعمار. وبعدما سُحب بقاء الأسد أو عدمه من التداول، أطلق بوتين مساومة على مضمون الحل السياسي وطبيعة الحكم المقبل واستطاع في سوتشي فرض «الدستور + الانتخابات» كأجندة تفاوضية جديدة.
في كل الظروف والمراحل ظلّت قضية الوجود الإيراني دائماً على الطاولة ولم تكن لدى بوتين أي اقتراحات للتعامل معها، بل حاجج بأن إيران تدخّلت بدعوة من النظام. وعلى رغم أن ثمة تفاهمات مع الأميركيين، كما هو شائع، على أن لا تكون المعابر الحدودية مع العراق في أيدي الإيرانيين إلا أن بوتين لم يطبقها بحزم بل ترك حليفيه يتصرّفان كالعادة، فيكون وجود قوات النظام رمزياً والقوات التابعة لإيران أكبر عدداً وأكثر قدرةً على التحكّم بالمواقع. كما أن اتفاق «خفض التصعيد» في الجنوب الشرقي وقّع مع موافقة روسية على اشتراط إسرائيل منطقة عازلة وخالية من الإيرانيين بعمق حدّدته المعلومات الأولية بـ40 كلم ولم يستطع الروس تطبيقه بسبب الرفض الإيراني. ومع أن بوتين اهتمّ شخصياً بمجريات معركة الغوطة الشرقية إلا أنه لم يمانع عملياً مشاركة الإيرانيين، ولم يتمكّن مفاوضوه الروس من إنجاز اتفاقات تضمن بقاء السكان. ثم حصل أخيراً القصف بالغازات السامة في دُوما، وقد يكون النظام والإيرانيون دفعوا بهذا الهجوم للتعجيل باستسلام «جيش الإسلام»، لكنهم ما كانوا ليتصرّفوا بهذا السلاح من دون موافقة بوتين.
وسط المعادلات المتشابكة وضعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكرة في ملعب الرئيس الروسي، إذ آن الأوان للبحث في مستقبل مغامرته السورية واستُنفد الجدل على مصيرَي حكم آل الأسد والوجود الإيراني المتلازمَين. لم يعد متاحاً له الحفاظ على الأسد وإيران معاً إذا كان يرغب في تعاون الأميركيين والأوروبيين معه. وعدا أنه غير قادر على التحكّم بحركة الإيرانيين، فإن بقاءهم مع الأسد يحبط أي نهاية للحرب وأي حلٍّ سياسي، حتى بالشروط الروسية المجحفة للشعب السوري. أما إقصاء أحدهما فيقصي الآخر، وهذا يقتضي تورّطاً روسياً واسعاً لا يريده. صحيح أن أجندات الولايات المتحدة وحلفائها وخياراتهم المحدودة لا تقلق بوتين، ومع إدراكه حاجته إليهم فإنه يرفض التعامل مع شروطهم. وإذا كان لوّح مراراً بخيار إخراجهم من سورية فهذا يستدعي أيضاً مزيداً من التورّط الروسي.
نحن كأناس أحرار، أو يجدر بنا أن نكون أحرارا، سيكون هدفنا الإنساني الأول، غالبا، هو أن نحيا في سلم وأمن بعيدين عن كل ما من شأنه أن يحرمنا من هذا الهدف، ومن ثم يتأتى لنا أن نطور درجاتنا في الإنسانية فنساعد الآخرين كي يحيوا في سلم واستقرار نفسيين. لم ترج هاته الأفكار في خلدي من قبل أبدا، وحان الوقت ربما لأسأل لماذا، هل أنا كعربي لست أهلا لأن أكون إنسانا؟ بلى، أظن أنه من حقي ذلك وغصبا عن كل معارض، لكن هيهات، كان ذلك قبلا وليس اليوم.
بينما كنت أؤدي فريضتي كأي مسلم، وبعد التسليم والدعاء، يتبادر إلى مسمعك "يا ناس ساعدونا من شان الله"، فتاة يمكن أن تعرف من صوتها أنها لا تتعدى سن السادسة عشرة، صوتها الممزوج بقطرات العسل ولهجتها الشامية تلك، تبعث قلبك على الرحمة والرأف لحال المسكينة، تدعو على بشار وتسألنا دفع الإيجار، فتسمع رنين الدراهم وهي تودع جيوب أصحابها منتقلة لسد احتياجات الفتاة وعائلتها ربما، سررت بموقف المصلين، ورغم أنهم محتاجون إلا أنهم يقتسمون.
لكن ما حز في نفسي هو وقوفها بارتجال أمام الرجال، يمكن أن تسموه قدرا إن شئتم، لكنه قطعا ليس كذلك، أنا لا أفقه في السياسة إلا ما يفقهه الأدبي في الفيزياء، لكنني ومع ذلك صنفت "بشار" الذي لن أذكر لقبه احتراما لحيوان سكن الغابة وما حكم بقانون الغاب قط، صنفته ذئبا بريئا من دم يوسف، لكنه مذنب في حق ملايين الشهداء والجرحى. كل نظرة من عيون تلك الطفلة تحاسب بشار وكل عربي منا.. الكرسي، السلطة والنفوذ، محركات دمرت معاني الإنسانية قبل أن تطمس معها معالم الدين أيضا. أيمكن للإنسان أن يضحي بملايين الأبرياء إرضاء لكرسي سلطة؟ حسنا، لنقل أن نظاما فسد وانقاد لطاعة تكالبات خارجية تنهش في الجسد العربي، أما حق للأنظمة الأخرى أن تشد بأيدي اخوتها وتنقذ ما يمكن انقاذه والخروج بأقل الأضرار؟ حتى من قطعان الجواميس تعلمت كيف تتحد، فتراها تغالب أسودا وتماسيحا وتنتصر، إلا قطيعنا العربي هذا، أنظمة وشعوبا، كنا خرافا متفرقة وكان الغرب ذئبا، أصبحنا نردد "أنا ومن بعدي الطوفان"، لكن الطوفان لم يبق على أحد منا.
ما رد فعلك بعد أن يتم ترحيلك من أرضك، أن تطمس هويتك، ذكرياتك، حاضرك، وأيضا مستقبلك؟ كنت أود توجيه السؤال لتلك الصغيرة، لكن حالها كان يجيب عن نفسه، ستسأل المسكينة الناس أن يغدقوا عليها من كرمهم، تذكرهم برابط الأخوة في الدين والتاريخ والهوية، فلا زال أناس في قلبهم مثقال ذرة من إنسانية استطاعوا النجاة بسلامة قلوبهم، يساعدون بما أمكن، وباقون لا يحركون ساكنا رغم قدرتهم على فعل ذلك. كلما تذكرت الفتاة وملامحها أحسست بتأنيب ضمير، لم كل هاته التعقيدات؟ أمن الضروري أن تعيش فينا الطبقية إلى الأبد؟ وما الدافع لفتاة كباقي الفتيات تملك دفترا ورديا مثقلا بالأحلام، يتحول بين ليلة وضحاها لدفتر تخطيطات من أجل ضمان لقمة العيش، ما دافعها أن تلجأ لبلد لا يقل تعقيدا عن سياسة بلدها، ولمدينة صغيرة تكاد تنعدم فيها فرص العيش كمدينتي؟
كلما تساءلنا وجدنا أن السياسة مصطلح مخرب لكل ما له صلة بالإنسانية، لربما الحل الوحيد والأوحد في ظل شتات الدين في البلاد العربية، هو أن نقف وقفة رجل واحد، أو بالأحرى إنسان واحد، ونقاتل طاغوت السياسة وشبحها الأسود الذي تربص وأطاح بالشعوب واحدا تلو الآخر، وننتفض ولو مرة واحدة بعيدا عن التنديدات والشعارات الفارغة التي تمتص حماسنا فتذهب مواقفنا سدى. وتصيح تلك الفتاة الصغيرة "أجل، أنا عربية سورية وأفتخر" فتعيش هاته الشامية آنفة وشامخة كما عاش أهلوها السابقون.
حدثت الضربة العسكرية الأميركية البريطانية الفرنسية ضد مواقع للنظام في سورية تتعلق بالأسلحة الكيميائية، سواء بالبحوث أو التصنيع أو التخزين، أو المطارات التي خرجت منها الطائرات التي ألقت صواريخها المحملة بالأسلحة الكيميائية، فقد أصرَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولحقته رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، وكذلك لحقه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على "معاقبة" النظام لاستخدامه الأسلحة الكيميائية. انتهت الضربة، واُعلن أنها استهدفت السلاح الكيميائي، حيث إن هذه الدول لا تريد تغيير النظام، ولا التدخل في "الحرب الأهلية"، وحتى لا تريد إضعاف النظام عبر تدمير ما تبقى من قدراته العسكرية (سلاح الطيران).
شهدنا في دمشق الرقص والفرح، وإعلان الانتصار، على الرغم من أن المواقع التي ضُربت بدت مدمرة. وكان النظام، كذلك روسيا، قد أعلنا عن إسقاط عدد من الصواريخ التي أُطلقت، من دون الاتفاق على عددها. بالتالي ظهر أن السلاح الروسي القديم يستطيع إسقاط صواريخ من نوع كروز، ربما هذا يفيد روسيا لتصدير هذا السلاح، ما دامت سورية باتت سوق استعراض للسلاح الروسي، لكن هذا ما قدّمه النظام لمشايعيه لكي يقول إنه انتصر، وأن يسمح لهم بالفرح والرقص. وكما حدث بعد ذلك، حيث أعلن التلفزيون السوري إسقاط ستة صواريخ أُطلقت على مطار الشعيرات، ثم تبين أنه لم تكن هناك صواريخ حسب ما أعلن النظام ذاته. وبالتالي سيكون الإسقاط السابق نتيجة التوهم ذاته، لكن في وضعٍ كانت هناك صواريخ كروز تدك بعض مواقعه.
بغض النظر عن هذه الجزئية، فإن الرقص والفرح وإعلان الانتصار ستكون "أموراً طبيعية"، ليس لأنه قد تم إسقاط صواريخ، فهذه هي ملهاة، أو وسيلةُ تلهٍ للمشايعين، بل لأن النظام وتابعيه فهموا أن هذه الدول التي قامت بـ "العدوان الثلاثي" لا تريد تغيير النظام كما فعلت في العراق، وحتى لا تريد تدمير طائراته التي تقصف بالكيميائي، ولا زالت تقصف الشعب كل يوم. وهذا جيد بالنسبة له ولهم، لأنه يعني أن هذه الدول تُطلق يده في قتل الشعب السوري، وهي بالأساس لا تستهدفه، فلا تريد تغييره عبر القوة التي خاف منها. هذا يستحق الفرح والرقص وإعلان الانتصار، بالضبط لأن النظام باقٍ ومشرَّع له قتل الشعب السوري، ليس فقط من إيران وروسيا وعصاباتهما، بل من هذه الدول التي قامت بـ "العدوان الثلاثي" لكي تُعلن انتصاره على شعبه.
سمحت هذه الدول للنظام بأن ينقل طائراته إلى مناطق آمنة، كما فعلت أميركا حينما قصفت مطار الشعيرات، ولم تتعرّض للمطارات إلا التي يُعتقد أن فيها سلاحا كيميائيا. وهي بذلك أبقت قوة القتل التي يستخدمها، وظهر أنها حريصةٌ على ذلك. ويعني هذا الأمر أنها لا زالت تريد من النظام أن يقتل أكثر، وأن يدمر أكثر. لهذا قال وزير خارجية بريطانيا، بوريس جونسون، إن "الحرب في سورية ستستمر". بالتالي، كانت الضربة الصاروخية تتعلق بأسباب أخرى، تمثلت في "رفع الإحراج" عن ترامب الذي لا يريد أن يكون مثل سلفه باراك أوباما بإعلانه خطوطا حمرا ثم عدم الالتزام بها. لهذا قصف مطار الشعيرات قبل عام، وكان لا بدّ له أن يقصف الآن بعد استخدام الكيميائي في دوما. كما أنه يريد إظهار أنه المقرّر في سورية وليس روسيا، وهذا في إطار "المكاسرة" بينهما، حيث ترى أميركا أن روسيا "تتنمَّر".
ما هو مهم هنا أن أميركا بالتحديد حريصةٌ على استمرار النظام، وعلى استمرار قصفه وتدميره وقتله، لأنه يقوم بما كانت تريد أن تقوم به هي، أي أنه ينفذ إرادتها هي. وهذا يعني أن أميركا لم تكن بحاجةٍ، من هذه الزاوية، لقصف النظام، ما دام يفعل ذلك، لكنه أحرجها باستخدامه السلاح الكيميائي. لهذا ضربته من دون أن تضعفه.
بالتالي، كل حديث عن فبركة تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي لا معنى له. لقد فعلها النظام.
تثير العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا في سوريا قبل أيام، واستهدفت بعض المواقع التابعة لنظام بشار الأسد، أسئلة كثيرة تتعلق بأهدافها، والنتائج التي ترتبت أو يمكن أن تترتب عليها.
الهدف العام لهذه العملية كان واضحاً، وهو ضرب القدرات الكيماوية العسكرية للنظام السوري، لكنه لم يكن محدداً بدقة، إذ تراوح التعبير عنه في تصريحات أميركية وبريطانية وفرنسية بين إضعاف هذه القدرات، وتقويضها، كما أن ما فُهم من تغريدات الرئيس دونالد ترامب، ومن بعض ما ذكرت وسائل إعلام أنه قاله في اجتماعات مع مسؤولين أميركيين، كان موحياً بعملية أكبر وأكثر تأثيراً في مسار الصراع وميزان القوى الإقليمي والدولي في سوريا.
غير أن المواقع التي ضُربت في النهاية تدل على أن العملية التزمت منهج الحد الأدنى، فبدت رمزية لا تختلف إلا كمياً عن تلك التي استهدفت مطار الشعيرات العسكري في 7 أبريل 2017، رداً على الهجوم الكيماوي في منطقة خان شيخون. الاختلاف الأساسي بين العمليتين يكمن في أن الأخيرة ثلاثية الأطراف بخلاف سابقتها، وأن تسعة مواقع استُهدفت خلالها وليس موقعاً واحداً، وإن كان عدد الصواريخ المستخدمة لم يزد كثيراً؛ إذ وصل إلى 105 صواريخ وفق بيان البنتاجون مقابل 59 في عملية الشعيرات.
لذا بدت العملية العسكرية الثلاثية أصغر من أن تحقق نتائج مهمة، مثلما كان الأمر بالنسبة لعملية الشعيرات التي لم تترك أثراً في معادلات الحرب في سوريا، ولم تغير شيئاً في قواعد اللعبة التي تمسك روسيا بأهم مفاتيحها، أو في توجهات النظام السوري وحلفائه بشأن مواصلة السعي إلى حسم الصراع عسكرياً.
غير أن السؤال الذي لم يُطرح في هذا السياق، رغم أهميته الفائقة، يتعلق بطبيعة العملية العسكرية الأخيرة، وهو: هل كان ممكناً أو وارداً أن تحقق هذه العملية نتيجة مغايرة إذا استهدفت المزيد من المواقع، واستمرت لفترة أطول، أو حتى إذا شملت مواقع تتجاوز تلك المتصلة بالقدرات الكيماوية العسكرية؟ ومغزى هذا السؤال أننا إزاء عملية عسكرية مُعلنة مسبقاً ينتفي فيها عنصر المفاجأة، الأمر الذي أتاح الاستعداد لها، وإخلاء مواقع كان ضربها متوقعاً، وإعادة نشر أسلحة ومعدات كان سهلاً توقع استهدافها. كما أن الفرق الزمني بين تهديد الرئيس ترامب بشن عملية عسكرية وتنفيذها، والذي وصل إلى ثلاثة أيام ونيف، أعطى فرصة أكثر من كافية لدعم منظومة الدفاع بمساعدة روسية كثيفة في المناطق المتوقع استهداف مواقع فيها، سعياً لتقليل الخسائر.
وذلك ما حدث بالفعل، الأمر الذي جعل الخسائر في النهاية طفيفة إلى حد يُثير الشك حتى في تحقيق الحد الأدنى من أهداف العملية، بما في ذلك إضعاف القدرات الكيماوية العسكرية لنظام الأسد، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أعلن أنها تقلل إمكانات استخدام هذه القدرات في الحرب السورية.
لم يخسر نظام الأسد شيئاً يتعذر تعويضه، بل ربما كسب سياسياً ومعنوياً. كما لم تخسر إيران، إذ لم تستهدف العملية مواقع تابعة لها أو لحلفائها الموجودين في سوريا. أما روسيا، فثمة جدل حول ما إذا كانت قد خسرت بالنظر لتصريحات صدرت من بعض مسؤوليها حول الرد على أي عملية عسكرية أميركية في سوريا. فثمة من يرى أن كبرياء روسيا جُرح، ومن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتقد أن هيمنتها على سوريا كُسرت ولو جزئياً، وأن هذه هي الرسالة المقصودة من مشاركة فرنسا وبريطانيا في الهجوم، رغم أن أميركا تستطيع شن أكبر منه منفردة.
لكن هناك من يرى، بالمقابل، أن ضآلة نتائج العملية تجعل الخسارة الأميركية الفرنسية البريطانية هي الأكبر، لأنها تكشف ضعف قدرة الدول الثلاث على التأثير في مسار الصراع على سوريا.
وأياً يكون الأمر، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بعد العملية العسكرية، مثلما كان الحال قبلها، في غياب أي عمل جاد لإنهاء الحرب التي دمرت مقدراته، ومادام وطنه ساحة لصراعات دولية وأطماع إقليمية يقف العرب متفرجين عليها وغير قادرين على التأثير فيها. ومع ذلك، ربما يكون البيان الختامي الصادر عن قمة الظهران الأحد الماضي بداية لمراجعة جادة للمواقف العربية، على نحو قد يفتح الباب أمام توافق على تحرك مشترك لإنقاذ سوريا وشعبها.
نهاية الأسبوع الماضي تحدث العالم بأسره عن الضربات العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على سوريا. وبينما يواصل أطراف الأزمة في سوريا بعد العملية حربهم الإعلامية على جبهات مختلفة، يلفت انتباه المتابعين الاهتمام الكبير بعدم استهداف روسيا في العملية، وموقف موسكو "الليّن".
تطور آخر بقي في ظل الجدل الدبلوماسي حول استخدام السلاح الكيميائي والعملية العسكرية، وهو حملات أحادية الجانب في إطار الحرب الإيرانية الإسرائيلية. مع أن هذا التطور معقد وهام بقدر الحرب السورية على الأقل.
الملفت في الأمر أن الأهداف الإيرانية في سوريا تعرضت لهجومين جويين أولهما قبل أيام من ضربات الحلفاء، وثانيهما بعد الضربات مباشرة. في الغارات الأولى تبين أن الفاعل إسرائيل، لكن يبدو أن منفذ الهجوم الثاني، جنوب حلب، "مجهول" حاليًّا.
من خلال هذه الحملات، تبدي إسرائيل أنها تركز على "شؤونها" فحسب، دون الالتفات إلى ما يفعله الآخرون. ما يجذب الانتباه في الهجوم الثاني هو أنه نُفذ دون حصول أي تداخل مع الضربات الجوية للحلفاء.
يبدو أن المقاتلات الإسرائيلية تجاوزت رادارات نظام الأسد وروسيا، التي تحمي الأجواء السورية، ووصلت أهدافها بسهولة.
إذا كانت روسيا تلتزم الصمت عندما تكون إيران مستهدفة فالمشهد مثير للاهتمام. وهذا يشير إلى أن العلاقات الإيرانية الروسية هشة أكثر مما يُعتقد. الأمر الذي يجعل إيران هدفًا سهلًا.
تقدم إيران على مبادرات مختلفة في عدد من البلدان، وليس سوريا فحسب. يمكننا الحديث عن ليبيا والعراق والخليج العربي ولبنان وباكستان وأفغانستان.
دعم المجموعات المسلحة والشبكات الدينية وتعزيزها اقتصاديًّأ عبر عمليات سرية/ مكشوفة ذات كلفة عالية يتطلب نفقات كبيرة للغاية.
يشكل حزب الله، الذي أصبح جزءًا من الحرب السورية، مثالًا للمجموعات الفعالة والمكلفة ماليًّا. لبنان مقبل على انتخابات خلال الفترة المقبلة. ونجاح حزب الله فيها يقتضي إنفاق مبالغ نقدية كبيرة.
كما أن إيران تتحمل نفقات المسلحين النشطين علاوة على مصاريف أسر قتلى وجرحى الحزب في الحرب السورية.
تتعرض إيران لضغوط اقتصادية كبيرة سواء في الداخل أو في الخارج جراء نفقاتها الأمنية المتزايدة. وبالنظر إلى الأخبار المتداولة، لن يكون مدهشًأ أن تستغل الولايات المتحدة وحلفاؤها السياسات الإيرانية في سوريا ذريعة من أجل اتخاذ قرار بفرض عقوبات جديدة على طهران.
لن تنهي "نزهة" الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القتالية في سورية الصراع المحتدم بين الدول المتصارعة على فرض نفوذها وانتزاع حصصها من الأرض السورية، كما أنها لم تهدف أساساً إلى وضع نهاية للصراع القائم منذ سبع سنين، بين النظام السوري والمعارضة الشعبية التي ثارت ضده بسبب الممارسات القمعية التي أثقلت على الناس معيشتهم، وضيقت عليهم أسباب استملاك حقوقهم، بوصفهم مواطنين أحرارا في بلدهم، وتركت تلك "النزهة" للنظام وكل من روسيا وإيران دراسة خيارات الرد على "العبث الأميركي - الغربي المسلح" داخل الأراضي السورية، حسب وصف محور روسيا والنظام وإيران العملية المسلحة التي تحدثت عنها الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع حلفائها الفرنسيين والبريطانيين، وإنزال أشد العقوبات على الحاضنة الشعبية للثورة السورية، من مبدأ أنه في جميع المواجهات والدروس المتبادلة بين المحورين، الروسي والأميركي، ستكون الخسائر والضحايا "سورية الهوية".
ويعتبر النظام السوري الضربات العسكرية ضده، إسرائيلية كانت أم أميركية أم أوروبية، والتي لا تستهدف إسقاطه نظام حكم، ولا تعلن انتهاء صلاحية بشار الأسد رئيسا، مجرد "مطبّات" عابرة في مسيرة حربه على ما تبقى من حواضن الثورة، مكانياً وسكانياً، تبعاً للمصلحة المشتركة مع إيران التي ترفض مطالب السوريين بحل سياسي انطلاقاً من بيان جنيف1،
وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع السوري، ومنها 2118، 2254، وفي الوقت نفسه، يعتمد النظام على ثبات الموقف الروسي المساند له، مستثمراً الخلافات الدولية التي تغرق فيها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، ومع الدول الأوروبية التي تفرض عليها عقوبات مالية واقتصادية، وتحاصرها دبلوماسياً وسياسياً من ناحية ثانية، ما يترك المجال، حسب اعتقاد النظام، لفرصة استمرار سياسته في إطالة أمد الواقع الحالي، متجاهلاً أنه، مع حلفائه، أتاح لنظرية "الفوضى الخلاقة" أن تتجسّد واقعياً في سورية، ما يتيح المجال للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد اعتماداً على التفجير الذاتي للدول (وهذا ما روجته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عام 2005)، وعلى ما أحدثته التدخلات الخارجية وأدواتها من مليشيات وفصائل في الواقع السوري اليوم، وهو الأمر الذي أفشل مراهنات النظام وحلفائه على استثمار هذه الفوضى التي أحدثها، عبر السنوات السبع الماضية، لإعادة إنتاج نفسه ودوره الوظيفي في الشرق الأوسط الجديد، خصوصا مع وجود المصالح الأميركية في دحر التمدّد الإيراني في المنطقة، وأنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، كانت الغائب الحاضر، وصاحبة القرار النهائي في قطف الثمار لحالتي الحرب والسلام في المنطقة.
وهذا ما يفسر حالة الهلع التي أصابت كلا من النظام السوري وروسيا وإيران، عند أول إشارة إلى جدية التعامل مع انتهاك النظام قرار حظر استخدام السلاح الكيميائي، ليس بسبب الضربة العسكرية التي يمكن لملمة آثارها، كما يفترض النظام دائماً، وإنما لما يريده الحلف الأميركي من الحلف الروسي الإيراني التركي الذي قارب على وضع اللمسات الأخيرة للحل في سورية، ضارباً عرض الحائط بما أنتجه اجتماع باريس في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، على هامش مؤتمر عن المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سورية، وضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، ونتج عنه ما سميت "اللا ورقة" لتكون محور التفاوض بين طرفي النزاع السوريين (المعارضة والنظام)، والتي تعبر عن رؤية هذه المجموعة لما يجب أن تكون عليه جلسات التفاوض البينية، لإنهاء حالة التلاعب وكسب الوقت خلال جولات التفاوض التي وصل عددها إلى تسع، إضافة إلى جلسات التفاوض التقني وورشات العمل، كما أنها وضعت ملامح جديدة لسورية ما بعد الحرب، وفق خريطة طريقٍ تتجاوز المصطلحات الخلافية والمرجعيات غير الوطنية لكلا الطرفين، ويمكن القول إن من شأن تلك الرؤية أن تسقط نظام الحكم القائم شكلاً ومضموناً، وتؤسس لسورية دولة رئاسية برلمانية غير مركزية، وتمنح كل المواطنين حقوقا متساوية فردية وجمعية.
التعاطي السلبي والمعادي مع حالة التدخل السياسي المباشر للمحور الأميركي الغربي، من خلال تجاهل ثم رفض اللا ورقة المقترحة، والتي جاءت لتسحب البساط من تحت مبادرة موسكو، المتفق عليها مع طهران وأنقرة عبر ما سمي مؤتمر سوتشي، وتفاقم الخلافات بين المحورين بشأن الخرائط المعلنة عن تقاسم النفوذ لمحور روسيا وشركائها في أستانة، وتجاهل المصالح والرغبات الأميركية والغربية وإسرائيل، في إبعاد إيران عن الحدود السورية مع كل من "إسرائيل" والعراق، واستكانة النظام، بفعل شراكته مع كل من موسكو وطهران، لهذه المخططات من جهة، وكذلك موافقة أطراف في المعارضة على هذا التقسيم، بفعل تسليمها الكامل لما تقتضيه مصالح تركيا منه، من جهة مقابلة، هيأ الفرصة لخروج واشنطن أخيراً عن صمتها، وتعاطيها مع جريمة استخدام السلاح الكيميائي هذه المرة، بما يمكن أن ينهي حالة التمرد الروسي على قرارات المجتمع الدولي، ويقوّض الوجود الإيراني في سورية، ويقلل من أهمية تحالفاتها مع مليشيا حزب الله، قبل أن تكون التهديدات والنتائج هدفها المباشر النظام السوري، وتهذيب سلوكه وإعادته إلى طاولة المفاوضات وفق الجدول الأممي الذي يريده المجتمع الدولي الذي أنتج نحو 17 قراراً، ولم يأخذ أيٌّ منها طريقه إلى التنفيذ.
الحصار الحقيقي الذي ينتهجه الرئيس ترامب لكل من روسيا وإيران هو بإخضاعهم إلى آلية مفاوضات جديدة، لا تكون فيها روسيا بيضة القبان في ميزان التسوية السورية، ولا تغيب فيها المصالح الإسرائيلية على حساب تحجيم إيران وردعها، بينما يأخذ الحصار شكلاً آخر مع النظام والمعارضة، اللذين يشكلان الحلقة الأضعف في الصراع الحالي، ما يستوجب على كل طرف أن يعيد حساباته داخلياً وخارجياً، لإقناع المجتمع الدولي بصلاحية تمثيل كلٍّ منهما للجهة التي يدّعي أنه يمثلها من مؤيدين ومعارضين وما بينهما.
مهما صار بسوريا، هل يستطيع الروس والإيرانيون، تكريس: الأسد إلى الأبد، أو الأسد أو لا أحد، وهي من شعارات النظام الأثيرة على حيطان دمشق وبقيه الحيطان، أو المتبقي منها، السورية؟
هل يمكن القفز على حقائق مكتوبة بمداد من رماد ودم ودموع، عن ملايين النازحين والهاربين والمهجّرين؟ عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والمسجونين؟ عن عشرات المليارات من الخسائر على شكل عمران مخرّب وزرع مُهان، وغير ذاك كثير؟
الأهم، هل يمكن للإمبراطور الروسي، فلاديمير الرهيب، أو الشاه المعمم، خامنئي، أن يمسح من أفئدة السوريين وكثير من العرب جراح الغضب والحقد الغائرة بفعل همجيات التنكيل والقتل الطائفي التي جرت منذ 2001 إلى اليوم؟
هل يمكن أن يغفر العالم كله -العاقل منه والمنصف- أن نظام بشار ورعاته، هم من حرث الأرض وحفر الحُفَر التي تكاثر بها الماء الآسن الذي جلب بعوض «القاعدة» وملاريا «داعش»؟
تبقى القضية السورية، في نهاية المطاف، بالدرجة الأولى، من شأن جيران سوريا وشركائها في الإقليم الكبير، الشرق الأوسط.
الرئيس الأميركي ترمب، قال بعد انطلاق الغارات الأميركية البريطانية الفرنسية على مخازن الموت الكيماوي الأسدي، إن قضية سوريا هي قضية أهل المنطقة، ويجب أن يسعوا هم لحلّها، وبصراحة، وبعيداً عن تفسير المغزى من كلامه، هو صادق.
وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في مؤتمر صحافي بالرياض مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قال أمس (الثلاثاء): «نُجري نقاشاً مع الولايات المتحدة بشأن إرسال قوات إلى سوريا، في إطار التحالف الإسلامي، ونفعل هذا منذ بداية الأزمة السورية». وتابع أن السعودية سبق أن اقترحت الفكرة على الرئيس السابق باراك أوباما.
جاء هذا بعد يوم أو يومين من نهاية المناورات العسكرية الضخمة لقوات التحالف الإسلامي في شرق السعودية «درع الخليج 1».
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن إدارة الرئيس دونالد ترمب تسعى لتشكيل قوة عربية في سوريا. كما تحدث تقرير الصحيفة الأميركية عن اتصالات فعلية لهذا الغرض مع مصر.
تزامن ذلك مع تأكيد سعودي للوقوف مع الشعب السوري كما «الحفاظ على وحدة واستقلال سيادة سوريا»، حسب بيان الحكومة السعودية في اجتماعها الأسبوعي برئاسة الملك سلمان. طبعاً الإشارة هنا واضحة بخصوص «وحدة واستقلال» التراب السوري.
إنْ حصل ذلك التدخل، فهو ليس تدخلاً سعودياً فردياً، بل ضمن خطة وضمانات دولية، وتحت مظلة تحالف إسلامي ضخم بالتشارك مع أميركا.
هل يتمّ ذلك؟
لم تنقذ الضربة التي قام بها تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا السياسة الغربية في سورية، ولم تخرجها من الطريق المسدود والفشل المستمر منذ سبع سنوات. وما ضاعف من تهافت الرد الغربي على كيميائي الأسد وروسيا إصرار ممثلي هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، على تأكيد أن الضربة المشتركة لا تهدف إلى التدخل في "الحرب الأهلية" السورية، ولا إلى تغيير النظام، ولا حتى إلى معاقبة الأسد الذي استخدم السلاح المحرّم، وإنما تقتصر على "إنزال العقاب" بالمؤسسات والمواقع والبنى المرتبطة بإنتاج الأسلحة الكيميائية واستخدامها. أي باختصار، ما أريد لها أن تكون ضربة تقنية ترد على استخدام وسيلة حربٍ محرّمةٍ، لا على مضمون هذه الحرب ومجرياتها.
لكن تجدّد الحديث، في اليوم التالي مباشرة، عن مبادرةٍ فرنسيةٍ لإيجاد حل سياسي، والإعلان عن الإعداد لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وقف الأعمال القتالية والدخول في مفاوضات جدية من دون شروط، والدعوة إلى تسليم المقاتلين من المعارضة أسلحتهم، يشير إلى أنها لم تكن بريئة سياسياً، كما أراد أن يصورها الفاعلون. كانت بالأحرى رسالةً موجهة بشكل واضح للروس الذين يقودون اللعبة في سورية، ويملكون زمام المبادرة فيها، أن الحرب لا يمكن أن تنتهي كما تريدها موسكو وحلفاؤها، بفرض الأمر الواقع بالقوة، وإنهاء أي مفاوضاتٍ سياسية جدية، كما لا يمكن لاحتلال المناطق وتفريغها من سكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية أن يكون نهاية المطاف. هي ضربةٌ على الطاولة، تعبّر عن رفض الثلاثي الغربي طبيعة الحل الذي يريد أن يفرضه ثلاثي أستانة، ويكرّس فيه تقاسم الاحتلال الروسي الإيراني السيطرة على البلاد، من وراء الواجهة الواهية لنظام الأسد الذي لم يعد موجوداً أصلاً من دون دعم الروس والإيرانيين. العودة إلى المفاوضات التي عمل التحالف الروسي الإيراني الأسدي المستحيل لتقويضها، وفرض الحل العسكري هو كلمة السر الوحيدة لهذه الضربة الرمزية، ومن ورائها رفض الحل الأحادي أو الانفراد الروسي بالحل، خصوصاً إذا كان يعني الشراكة مع النظام الإيراني.
لكن، ليس مؤكداً أن تقنع هذه الضربة الاستعراضية الروس والإيرانيين، وتابعهم الأسد، بالكف عن المناورة للانفراد بحل المسألة السورية لصالحهم، أي بإخراج كل الأطراف الأخرى الدولية، وقبل ذلك، الشعب السوري نفسه، من المعادلة. وإذا لم يكن الطابع الرمزي للضربة جزءاً من تفاهم مشترك روسي غربي على إيجاد مخرج من الحرب، يمكن لها، بالعكس، أن تزيد من مخاطر تقويض صدقية هذه الدول، وتثبيت عجزها عن مواجهة تحدّي مجموعة أستانة لها، وفشلها في إحداث أي تغيير أو تأثير في مجرى الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.
لا يوجد في نظري أي سبب كي يتخلى الروس والإيرانيون بمحض إرادتهم عن الأسد، أي أن يقدموه من دون مقابل للغرب الذي وضعه في السلطة ورعاه، قبل أن يتمرّد على أسياد أمره، ويستنجد بطهران، ثم يسقط بين أيدي موسكو، بسبب أخطائه السياسية، ورفضه أي إصلاح، ويتشبث بالسياسة الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية، والأزمة الدولية التي نجمت عنها. فالأسد يشكل، في وضعه الراهن، "رئيساً" لسورية، معترفاً به في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، دمية فاقدة للسيادة والمقدرة والأهلية، يحرّكها حُماتها من الخارج، وغير قادرة على حماية نفسها، أفضل ستارة يمكن للروس والإيرانيين العمل من ورائها لتحقيق مآربهم، من دون تحمل أي مسؤولية عن الجرائم الكبرى التي تجري، بمساعيهم الشريرة وتحت أنظارهم في سورية المنكوبة، فهو ورقة التوت التي تغطي على عورة سياستهم وأهدافها الاحتلالية غير المشروعة، ومخلب القط الذي يستخدمونه فزاعةً لرفع تكلفة التنافس على سورية. وبينما يعزّز وجود الأسد وإصراره على البقاء في الحكم موقف الروس والإيرانيين الذين يتحكّمون بتقرير مصير سورية وشعبها، اليوم، ويزيد بالتالي من رصيدهم الاستراتيجي، يشكل استمراره، وما يرافقه من مجازر دموية، واستهتار متعمد بقرارات مجلس الأمن، ورفض للمفاوضات أو التسويات الداخلية، تحدياً كبيراً للعواصم الغربية، ودليلاً على فشلها الدائم، وعجزها عن التأثير في الأحداث، وتقويضاً لمركزها السياسي القيادي في المنظومة الدولية.
لا يحتاج الأسد إلى أرضية أخلاقية أو سياسية لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وقتل الشعب وتشريده وتدمير بلاده للإبقاء عليها مزرعة شخصية عبودية، فمشروعه قائم أصلاً على انعدام الضمير وإعدام السياسة وتجفيف ينابيعها. كما لا يحتاج بوتين وخامنئي إلى أي أخلاقيةٍ إنسانيةٍ أو قانونيةٍ لاستخدام سورية ورقة ضغطٍ ومسرح استعراض للقوة في مواجهة الدول الخصم المنافسة. فمثل هذا المشروع لا يتحقق أصلاً إلا بشرعنة الاحتلال، ومصادرة حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتجريده من حقوقه وسيادته على وطنه، وفرض نظام دميةٍ عليه يخدم الاحتلال، ويبرّر أعماله.
لكن الغرب الذي يدّعي رفض مشروع الاحتلال هذا، ويدافع عن حكم القانون وميثاق الأمم المتحدة، كما يدّعي التمسك بالمسؤولية عن فرض احترامهما وردع منتهكيهما، وفي مقدمهم بشار الأسد الذي لا يكفّ الروس عن التأكيد، على حق، بأنه كان رجل واشنطن والغرب، قبل أن يكون رجلهم، يحتاج إلى حد أدنى من مطابقة الأقوال مع الأفعال، لنيل الصدقية والمحافظة على الاعتبار والاحترام. فلا ينتظر أحد من طهران المتمرّدة على النظام والتقاليد والأعراف الدولية، ولا من موسكو التي لا تخفي الطابع الانتقامي لسياستها الغربية، لكن الوضع يختلف مع الدول الغربية التي بنت هيمنتها العالمية على التأكيد على مبادئ الحق والقانون، وأعلنت تأييدها التحولات الديمقراطية وحرية الشعوب، في الوقت الذي تنظر فيه مكتوفة اليدين إلى مأساة السوريين المستمرة، في أكثر صورها بشاعةً وشناعة، منذ سبع سنوات متواصلة، مع الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية وتجويع المدنيين وحصارهم، وقصف المشافي والمرافق العامة، وتفجير المدن وتهديمها على رؤوس ساكنيها، لإجبارهم على إخلائها، وتحطيم حاضنة الثورة الاجتماعية.
ليس لدى الأسد أي حافز يحثه على أن يتراجع عن خياراته الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة والأزمة الدولية التي نجمت عنها، فهو يعرف أنه انتهى، ولم يعد قادراً على البقاء إذا ما اختار العودة إلى الحالة الطبيعية، وأن استمرار الحرب، الداخلية والإقليمية والدولية، هي فرصته الوحيدة لكسب الوقت، وتجنّب الموت الحتمي السياسي أو المادي معاً.
وليس لدى الإيرانيين أيضاً، وهم يسعون إلى مشروعٍ لا يقل جنونيةً عن مشروع الأسد في البقاء في الحكم إلى "الأبد"، وهو تحويل سورية إلى منصةٍ خاصة لبسط هيمنتهم الإقليمية، أي مصلحة في وقف الحرب، أو العمل على تسويةٍ سورية داخلية، أو حتى الحد من الاستخدام المتكرّر للأسلحة المحرّمة دولياً، وفي مقدمها الأسلحة الكيميائية التي ليس لها مثيل في ترويع المدنيين، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم ومدنهم، وتفريغ المناطق من سكانها وإعادة هندستها الديمغرافية والسياسية، ففي هذه العملية وحدها تكمن فرصة طهران لتثبيت وجودها المادي في بلدٍ يبعد عنها آلاف الأميال، ولا تملك فيه أي مرتكز ثابت للنفوذ والقوة.
أما الروس، فليس لديهم أفضل من الأسد الفاقد للسلطة والشرعية، والمحكوم بالإعدام السياسي مع وقف التنفيذ، ممسحةً للجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية، وشبحاً يواجهون من ورائه الدول الغربية التي لا يستطيعون مواجهتها مباشرة، وليس من مصلحتهم الدخول في مواجهةٍ شاملة معها.
لن تنتهي هذه المأساة الدموية، ما لم يُزح الستار عن مسرح هذه اللعبة الجريمة. وليس الستار هنا سوى الأسد الذي يتخفّى وراء شبحه اللاعبون الحقيقيون، ويستخدمون وجهه الشاحب، قناعاً يخفون تحته أهدافهم ورهاناتهم الحقيقية، أي ما لم تنكشف حقيقة اللعبة، وتُعرَّى الأدوار التي تقوم بها جميع الأطراف. من دون ذلك، سوف يحتاج الغرب ضربات مستمرة كثيرة، وربما فقدان ما تبقى له من صدقيةٍ استراتيجية، قبل أن ينجح في وضع حد لهذه اللعبة الدموية التي هو الشريك الرئيسي فيها.
السؤال: هل يريد الغرب بالفعل وضع حد للعبة الموت الدموية هذه؟ من المحتمل أن لا يكون لدى الغرب اليوم سياسة بديلة لسياسة مهاوشة موسكو ومناكفتها، لنقل مركز اهتمامها من أوروبا إلى الشرق، واستنفاد طاقتها التوسعية هناك، فالبديل الوحيد عن سياسة إشعال الحروب والنزاعات وإدارتها هو إزالة أسبابها، وتغيير الشروط التي تولدها، ما يقتضي التعاون على صياغة جدول أعمال مختلف للسياسة الدولية، يتصدى، قبل أي شيء آخر، لمعالجة مشكلات الفقر والمرض والتخلف والتهميش الجماعي وتدهور البيئة وتنامي الجريمة وتدهور شروط الحياة السياسية والقانونية على امتداد المعمورة، وفي إثرها انحسار الثقة وفقدان الأمل واليأس من العالم والشك بالمستقبل.
من الواضح أن هذا ليس جدول أعمال الرئيس ترامب. وهو ليس، بالتأكيد، جدول أعمال بوتين أو خامنئي. وإذا استمرت الأمور في العالم على هذا المنوال، يخشى أن لا يتأخر الوقت كثيراً قبل أن يصبح كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية الذي يعيش في جزيرة منعزلة من صنعه، ولا يهمه مستقبل أحد، ولا مصير المجموع، أي المعمورة بأكملها، هو النموذج السائد والمحتذى في معظم أصقاع العالم.
بعد تغريدات نارية، وتحشيدات كبيرة مع حلفائه الغربيين، قصف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مواقع تابعة لنظام بشار الأسد، مع كل من بريطانيا وفرنسا، وذلك في ردّه الذي طال انتظاره على قصف الأسد دوما بأسلحة كيميائية قتلت 150 شخصاً، بينهم أطفال ونساء، واختنق عشرات.
لا تبدو الضربة الأميركية، الجراحية كما وصفها بعضهم، خارجةً عما كان متوقعاً لها، فالكل يعلم أن ترامب لا يبدي حماسةً كبيرةً للتدخل بشكل أكبر في الصراع السوري، وهو الذي أعلن، قبل وقوع الهجوم الكيميائي، رغبته بسحب قواته من سورية، على الرغم من تحفظات كبار القادة العسكريين في إدارته، كما أنه ما زال يحاول أن يكبح جماح عجلة التحقيقات التي تسير بقوة نحو إدانة فريقه في السماح للتدخل الروسي في الانتخابات التي أوصلته إلى البيت الأبيض.
الضربة العسكرية التي شاركت بها أميركا وبريطانيا وفرنسا، وحظيت بمباركة دولية، لم تُصمم لإسقاط نظام الأسد، كما أعلنت الدول الثلاث، ولم تكن معنية بدكّ القواعد الجوية والمطارات والمواقع العسكرية للنظام التي غالباً ما تستخدم في شن هجمات على المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، بل ركزت على محاولة إضعاف البنية التحتية لمنظومة الأسلحة الكيميائية التي في حوزة النظام، بمعنى أن المجتمع الدولي لا يعتقد أن الوقت قد حان لإسقاط نظام طاغية الشام.
يقول ترامب، في تغريدة له على "تويتر" فجر السبت، عقب الضربة "لقد أنجزت المهمة"، من دون أن يوضح طبيعة هذه المهمة. هل يعتقد أن تدمير مخزون الأسد من السلاح الكيميائي سيجعله عاجزاً عن الحصول على كمياتٍ جديدة من هذا السلاح في ظل رعاية روسيا وإيران؟ هل يعتقد ترامب أن الأسد، حتى وإن عجز عن الحصول على كيميائي لضرب شعبه، لن يلجأ إلى قصف هذا الشعب بالسلاح التقليدي؟ وقد أوقعت ضربة واحدة ببراميل متفجرة على مدينة سورية ضحايا أكثر بكثير ممن سقطوا جرّاء استخدام الكيميائي، فلماذا هذا الاستخدام محرّم وغيره من السلاح لا؟
ليست هذه السطور بصدد الإجابة على هذه التساؤلات التي باتت تطرح بقوة، ولكن أي ضربة لنظام الأسد لا تنهيه، ولا تخرجه من لعبة الحكم، ستقوّيه، وتقوي داعمَيه، روسيا وإيران، بل إن ضرباتٍ كالتي حصلت السبت الماضي أثبتت من جديد أن المجتمع الدولي ما زال يرى في الأسد رئيساً لسورية، وأن الأسد إذا ما تخلى عن سلاحه الكيميائي، فإن المجتمع الدولي لا يمانع من إعادة تلميع وجه هذا النظام القبيح.
قد تؤشر الضربة العسكرية الثلاثية على مواقع النظام السوري إلى رغبة أميركية وغربية بإعادة التوازن للصراع في سورية من خلال التصدي للنفوذين، الروسي والإيراني. لكن حتى هذه الرسالة التي قرأها بعضهم لا تبدو دقيقة، خصوصاً وأن الضربات لم تستهدف مواقع تابعة لإيران في دمشق ومحيطها، كما أنها تجنّبت الوجود الروسي في سورية، ناهيك عن أن التواصل الأميركي الروسي لم ينقطع قبل الضربة وفي أثنائها، وأفيد بأن واشنطن أخفت قائمة الأهداف عن موسكو، وليس معلوماً مدى دقة هذا الكلام.
لقد ربط ترامب أي ضربة عسكرية لنظام الأسد باستخدام النظام السلاح الكيميائي، وهي رسالة بالغة الخطورة، يبدو أن الأسد استلمها منذ قصف أميركا مطار الشعيرات قبل عام، عقب قصف النظام بلدة خان شيخون بالكيميائي. وبالتالي، قد نشهد حرباً ضروساً يستعد لها النظام ومليشياته على مدينة إدلب، وهي التي توعد بها مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، في زيارته سورية التي سبقت الضربة الغربية.
تنذر هذه الرسالة الخطيرة التي تلقاها نظام الأسد وحلفاؤه بموقعةٍ دمويةٍ جديدةٍ بانتظار الشعب السوري في إدلب، وربما في القلمون قبل ذلك. ووقتها، لا يبدو أن ترامب وحلفاءه الغربيين سيكونون معنيين بالتصدّي لدموية الأسد، إذا أحجم عن استخدام الكيميائي ضد إدلب أو غيرها.
بالنسبة لأميركا، ما يعنيها من سورية تحديداً، بالإضافة إلى مناطق وجودها الغنية بالنفط، هو الحد من النفوذ الإيراني في سورية، ويبدو أن إدارة ترامب التي ترفض التورّط في نزاعات الشرق الأوسط ستترك هذه المهمة لسلاح الجو الإسرائيلي الذي باغت دمشق بضربة على مطار التيفور، يبدو أنها أصابت قوات إيرانية هناك.
الضربات العسكرية على نظام الأسد، والتي لا تضع تنحية الأسد وإبعاده عن السلطة هدفاً لها، ستعمل على تقويته، فالمجتمع الدولي الأعور لم يعد يمانع كثيراً ببقاء هذا السفاح على رأس النظام، ولعل ما قاله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خير دليل على ذلك، فهو لا يرى في بقاء الأسد مشكلة، فالمهم أن لا يكون دمية بيد إيران.
في سلسلة مقالاتنا السابقة تحت عنوان "أوركسترا الشيطان" تحدثنا بشيء من التفصيل عن ماهية اللعبة الجارية في الشرق الأوسط اليوم وخاصة في سوريا ومصر والعراق. النتيجة التي خلصنا إليها والتي تثبتها الأيام بشكل قاطع هي أن اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط هو إسرائيل والتي أسميناها بالملحن الذي يكتب النوتات الموسيقية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتلعب بدورها قائد الأوركسترا لتدير عمل العازفين وتحدد أدوارهم بما يتناسب مع النوتة التي تضعها إسرائيل.
استنادا لهذه النتيجة فإننا خلصنا للقول بأن تفسير أي سلوك تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط يستند بالدرجة الأولى إلى مصالح إسرائيل وليس إلى مصالح الدولة الأمريكية. لذلك فإن كثيرا من الباحثين والمحليين الذين يحاولون تفسير التصرفات الأمريكية في الشرق الأوسط من خلال المصالح الأمريكية غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى تفسيرات ساذجة وسطحية وغير مقبولة منطقيا.
اليوم، وفي ظل الحشد الأمريكي الغربي لضرب سوريا بسبب الهجوم الكيميائي المفترض على دوما، سنعود لاستخدام هذه المعطيات من أجل تحليل وتفنيد الظروف المحيطة والمرافقة بما يضمن الخروج بتحليل قريب للمنطق. إن تاريخ العاشر من شباط لعام 2018 هو الفيصل.
أولا: قواعد اللعبة قبل العاشر من شباط / فبراير:
إن بقاء بشار الأسد في السلطة حتى اليوم رغم كل الفظائع التي ارتكبها بحق سوريا والسوريين لم يكن ليتم بدون وجود غطاء وفرته له إسرائيل من خلال استخدام نفوذها الهائل في واشنطن. لقد كان واضحا جدا بأن الولايات المتحدة الأمريكية حالت عبر سنوات الصراع المسلح في سوريا دون وصول أي نوع من أنواع السلاح النوعي للمعارضة السورية لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر من دول مثل تركيا أو السعودية أو قطر.
ولو نظرنا الى هذا السلوك الأمريكي لما استطعنا تفسيره إلا بالخضوع المطلق لنفوذ اللوبي الصهيوني الذي يعمل لتحقيق مصالح إسرائيل. أما هدف إسرائيل فهو بالتأكيد ليس حماية نظام الأسد محبة به، وإنما من أجل تدمير سوريا من خلال الحفاظ على حالة دائمة من التوازن بين الأطراف المتصارعة بما يضمن عدم انتصار أي طرف وصولا إلى بلد مدمر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا تحت قيادة نظام الأسد. إن الوصول لمثل هذه النقطة يعني ضمانا لأمن إسرائيل على مدى عشرات السنوات القادمة.
عندما وصلت سوريا للمستوى المطلوب "تقريبا" من التدمير والتشتت والتشرذم، تم رفع الغطاء عن المعارضة السورية وكسر التوازن الموجود في الساحة لمصلحة النظام وحلفائه. وبذلك تمكن هؤلاء من سحق المعارضة المسلحة في حمص وحلب دون أن تتلقى الأخيرة أي دعم يذكر. نعود للتأكيد هنا: الهدف هو سوريا مدمرة تحت قيادة النظام "مع أو بدون الأسد".
إسرائيل ليست غافلة بالطبع عن التمدد الإيراني والروسي في سوريا. أما بالنسبة للتدخل الإيراني فقد تم السماح به والتغاضي عنه إسرائيليا لأنه ضروري من أجل تمكين بشار الأسد من الصمود في وجه المعارضة. وفي الحقيقة لا مجال أبدا للحديث عن بقاء النظام في سوريا حتى الأن لولا التدخل من إيران وميليشاتها بقوة لصالحه منذ بدايات الأزمة السورية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوجود الإيراني في سوريا قد يشكل مصدر إزعاج لإسرائيل لكنه قابل للتحمل وللمعالجة من أجل تحقيق أهداف أكبر - والحديث هنا يطول-. أما بالنسبة لروسيا فلا خشية منها على العموم وإننا نكاد نجزم أن قدوم روسيا إلى سوريا تم بضوء أخضر أمريكي نتيجة لضغط إسرائيلي من أجل إنقاذ بشار الأسد في لحطة كان نظامه فيها أيلا للسقوط.
ونعود هنا لنؤكد مرة أخرى بأن سماح الأمريكان للروس بالتغلغل في سوريا لا يمكن أن يفسر بأي شكل من الأشكال في مصلحة الدولة الأمريكية، وإنما لمصلحة إسرائيل وبضغط منها والهدف هو إعادة التوازن للمسرح السوري ودعم صمود الأسد.
قاعدة اللعبة الذهبية الضمنية بين الأسد وبين إسرائيل هو التالي: بقاء الأسد في السلطة مقابل ضمان أمن إسرائيل والسماح لها بأن تضرب أينما تشاء وفي أي وقت تشاء. وقد التزم الأسد بهذه المعادلة طويلا مما جعل سماء سوريا مرتعا للطائرات الإسرائيلية التي تقصف وتنصرف وكأنها في نزهة ممتعة.
ثانيا: قواعد اللعبة بعد العاشر من شباط / فبراير 2018
إن إسقاط الدفاعات الجوية السورية لمقاتلة إسرائيلية في هذا التاريخ هو الذي غير قواعد اللعبة وقلبها رأسا على عقب. قلنا وقتها بأن الرد الإسرائيلي سيكون قاسيا ضد الأسد، فيما ظن البعض بأن حدود الرد توقفت عند قصف إسرائيل لبعض مواقع النظام في سوريا في اليوم ذاته ومن ثم دعوتها للتهدئة وعدم التصعيد.
في الحقيقة، إن دعوة إسرائيل للتهدئة آنذاك لم يكن يعني أنها اكتفت بالرد، ولكن السبب الرئيسي هو عدم رغبة إسرائيل بالانخراط بنفسها في أي صراع في الوقت الذي تملك فيه إمكانية تجيير قوة الولايات المتحدة الأمريكية لصالحها كيفما تشاء. إن إسقاط المقاتلة الإسرائيلية هو السبب المباشر والرئيسي في رفع الغطاء عن الأسد لعدم التزامه بقواعد اللعبة.
ورفع الغطاء عن الأسد هو السبب المباشر لما يجري اليوم من تحضيرات أمريكية وغربية لقصف سوريا دون الالتفات حتى لوجود روسيا التي طالما تم اتخاذها بعبعا لا يمكن تخطيه. أما اليوم، وبعد أن رفع الغطاء عن الأسد، يغرد دونالد ترمب على تويتر ساخرا من روسيا وقوتها: "روسيا تعهدت بإسقاط جميع الصواريخ التي سوف تطلق على سوريا. إذن استعدي يا روسيا لأن صواريخ جديدة وذكية آتية".
وإذا كان هذا هو السبب المباشر، فلا يجب أن ننسى مجموعة كبيرة من الظروف الدولية المتوترة أصلا بما فيها مسالة تحقيقات مولر واحتمالية عزل الرئيس ترمب إضافة لمسالة تسميم العميل الروسي في بريطانيا وغيرها. إلا أن كل هذه الظروف لم تكن كافية للتفكير في شن هجوم واسع على الأسد لولا رفع الغطاء الإسرائيلي عنه.
أخيرا نود أن نشير إلى نقطة مهمة تتعلق في شكوكنا حول دور النظام السوري في كيميائي دوما. هذه الشكوك ليست بسبب عدم قدرة أو عدم رغبة النظام الذي يملك سجلا حافلا وموثقا في استخدام هذه الأسلحة، ولكن في المنطق وراء استخدامها في منطقة كانت قاب قوسين أو أدني من أن تصبح تحت سيطرته، وهذا ما تم بالفعل في اليوم التالي. فأي منطق يكمن إذن في استخدام النظام لأسلحة كيميائية تحرض العالم ضده في وقت هو ليس في حاجة لمثل هذا الاستخدام.
إن معالجتنا لهذه النقطة بالذات مهم جدا. فاذا كان هذا الهجوم مدبرا من جهات أخرى من أجل اتهام النظام فيها، فهذا يعني أن قرار إسقاط الأسد قد تم اتخاذه بالفعل، وموضوع الهجوم الكيميائي هو الذريعة.. فهل يتم بالفعل إسقاط الأسد أم فقط إعادته إلى حظيرة الطاعة التي زلت قدمه قليلا عنها في العاشر من فبراير الماضي.. الأيام القليلة القادمة كفيلة بالإجابة.
الرسالة السياسية الأولى التي يريدها ترامب من الضربة القادمة في سوريا هي موجهة الى كوريا الشمالية، التي يستعد زعيمها للجلوس أمام ترامب، ومفادها أن أمريكا قادرة على نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، وهذه مسألة ستكون غاية في الأهمية خلال الشهر القادم.
الرسالة الثانية، هي موجهة إلى روسيا، ومفادها أن روسيا بكل ما استعرضته من قوة، إضافة لكلامها عن صناعات عسكرية تفوق الخيال، كل ذلك لن يجعلها تستطيع الوصول إلى مستوى القوة الأمريكية، وأن الذهاب نحو سباق تسلح جديد لا يفيد الروس بتاتا.
وأما الضربة الحقيقية، فهي ستكون للبنية التحتية التي أنشأتها إيران في سوريا، وهي مجمل القواعد والأنفاق والمطارات التي بُنيت قبل الأزمة السورية وبعدها، وتتركز قديما إلى الغرب من دمشق، وبعض مناطق القنيطرة، إضافة الى ما استحدث من منشآت إيرانية خلال الأعوام الماضية، يضاف إليها تدمير بنية تحتية وقواعد للنظام، تتركز في محيط دمشق، وجبل قاسيون، بالإضافة إلى مركز الأبحاث في (جمرايا).
ما بعد الضربة العسكرية هناك حركة سياسية نشطة، ستشمل الملف الفلسطيني، وستتركز على إضعاف الدور الإيراني، ولكن الحرب في سوريا لن تضع أوزارها بشكل كامل، فمسألة إخراج تنظيم القاعدة وداعش من المدن وحصر الطرفين في المستطيل الصحراوي، هي مجرد مقدمة لتغيير سياسي جوهري.
نعم ترامب سيسحب أمريكا القديمة من سوريا، ويضع أمريكا الجديدة.
قصفت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بعض المواقع في العاصمة السورية دمشق، بعد منتصف ليلة السبت 14 أبريل/ نيسان.
أعلنت الدول الثلاث أنها دمرت بعض الأهداف الاستراتيجية في هجوم جاء ردًّا على ارتكاب النظام السوري مجزرة بالسلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية.
لكننا لا نعلم ما مدى نجاح الضربات في إزالة الخطر الكيميائي الذي تتحدث عنه الدول المذكورة.
وعلى الرغم من أن العملية المدعومة من جانب فرنسا وبريطانسا اقتصرت على ما سلف ذكره، إلا أن أصداءها وتداعياتها مستمرة.
الخارجية التركية أعلنت في بيان لها عن "ترحيبها" بالعملية الأمريكية ضد الأسد. نعم، اللغة الدبلوماسية تكون متحفظة. تتحرك الدول بما يتناسب مع أهدافها على المدى القريب والبعيد، وليس بموجب العواطف.
لهذا أعتقد أن لبيان الخارجية هذا، الذي أثار استياء البعض منا، تبرير منطقي. على سبيل المثال، دور الوساطة الذي سعت إلى أنقرة بين الولايات المتحدة وروسيا في الأزمة الأخيرة قد يكون واحدًا من أسباب صدور البيان.
فتركيا، بتصرفها الأخير هذا، أظهرت أن موقفها المشترك مع روسيا وإيران في بداية الأزمة هو خيار استراتيجي وليس علاقة تبعية.
ولم تقع أنقرة في الخطأ الذي ارتكبته في عهد رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، من اتباع موقف ملتزم بشكل كامل مع الولايات المتحدة.
لكن بصفتي صحفي يتابع المستجدات منذ سنين، ومواطن ليس مجبرًا على التصرف بطريقة دبلوماسية، فأنا لا أرحب بالضربات العسكرية على سوريا كما فعلت الخارجية التركية.
لأنه على الرغم وجود الكثير من الذرائع المكشوفة والخفية لضرب النظام السوري، غير أني على ثقة تامة بأن أي منها لا يتعلق بمجازر الأسد، أو بالآلام التي يعانيها السوريون.
أعتقد أن شيفرة العملية العسكرية ضد سوريا تكمن في تصريح أدلى به رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق مايك بومبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية، حول الصورة المشهورة لأردوغان وبوتين وروحاني، وقال فيه: "يمكننا أن نكون جزءًا من المباحثات".
ولهذا سيكون هناك ضربات مشابهة في الأيام القادمة يلجأ إليها ترامب الموصوف بأنه "غر" في الملف السوري، وماكرون الساعي للتغطية على الاضرابات، وماي التي تحاول التكفير عن خطيئة البريكست.
لكن ما لا شك فيه هو أن حل الأزمة السورية سيأتي عن طريق مبادرة من بلدان المنطقة، وليس من خارجها.