عن الاستثمار الأميركي في الدور الإيراني
ثمة كثير من الأسئلة التي قد تبدو محيّرة وإشكالية في تفسير طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، من هذه الأسئلة، مثلاً، لماذا سلمت الولايات المتحدة العراق لإيران، عبر القوى والميليشيات الطائفية والمسلحة التي تتبع لها، بعد أن أسقطت نظام صدام حسين (2003)؟ ثم كيف تساهلت الولايات المتحدة (وإسرائيل طبعاً) مع البرنامج النووي الإيراني وهو يبنى أمام ناظريها، في حين أنها لم تتسامح البتة مع البرنامج النووي العراقي، بل إنها حرصت على أجراء مفاوضات مضنية مع إيران توصلت في نهايتها إلى اتفاق معها في هذا الشأن، في ظل إدارة أوباما (2015)؟ أيضاً، ما الذي جعل الإدارة الأميركية تسمح أو تسكت عن صعود نفوذ إيران في سورية، بل وهيمنتها على البلد (قبل التدخل الروسي في أيلول 2015)، بحيث بات نفوذ إيران يشمل مجمل المشرق العربي من العراق إلى لبنان مروراً بسورية؟
ان محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، أو محاولة التفكير بها، تحيلنا، أو تسهل لنا، فهم محركات السياسة الأميركية في الصراع السوري، ومسؤوليتها السياسية والأخلاقية عن مآلاته المأسوية.
والحال فإن تفحص السياسة الأميركية العملية في هذا الشأن، وبمعزل عن التصريحات والمواقف الإعلامية والسياسية المتباينة، بدءاً من اعتبارها أن الأسد فقد شرعيته وأن عليه أن يرحل وصولاً إلى اعتباره جزءاً من الحل، ومن تشجيعها العمل العسكري إلى تخليها عن أصحابه، تفيد بأن الولايات المتحدة حافظت طوال السنوات السبع الماضية على اتباع نهج مفاده، أولاً، عدم تمكين أي من الطرفين، أي النظام والمعارضة، من تحقيق الغلبة على الأخر، والحفاظ على ديمومة الصراع في سورية، لا حسمه. ثانياً، جعل سورية منطقة تصارع بين القوى الدولية والإقليمية الأخرى، بوضعها في مواجهة بعضها، لا سيما روسيا وإيران وتركيا، وبالتالي تركها تستنزف بعضها. ثالثاً، توظيف صعود إيران من العراق إلى سورية، في استنزاف وابتزاز حكومات المنطقة، وهو الدور الذي لعبته إيران، عن جدارة وتصميم، بما في ذلك جهدها في تصدّع البني الدولتية والاجتماعية في المشرق العربي، مقدمة في ذلك خدمة مجانية لإسرائيل، لم تقدمها لها أية دولة أخرى في تاريخها.
رابعا، إعطاء الأولوية لأمن إسرائيل، بتشكيل بيئة إقليمية آمنة لها لعقود، نتيجة التشققات السياسية والاجتماعية الحاصلة في دول المشرق العربي، وضمن ذلك نتيجة اختفاء ما يسمى الجبهة الشرقية.
بيد أن النهج الأميركي إزاء إيران بات يشهد بعض التغيرات، في الآونة الأخيرة، وإن كانت غير حاسمة بعد، وهذا لا يتعلق فقط بمحاولة فض الاتفاق النووي، الموقع مع إيران، أو فرض مزيد من العقوبات عليها، وإنما هو يشمل تقليم أظافرها في سورية، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بالطرق السياسية والعسكرية، من خلال الحديث عن إقفال «الكرادور» من إيران إلى لبنان، مروراً بالعراق وسورية، واعتبار شرق الفرات والجنوب السوري خطاً أحمر على إيران، والقوات الحليفة لها، بل وحتى تحجيم نفوذها في سورية، بواسطة الدور الروسي والتركي، كما بواسطة التواجد العسكري الأميركي المباشر شرق الفرات، ومن خلال الضربات الصاروخية والقصف الجوي، وهو الأمر الذي حصل مراراً.
الجديد في الأمر، أيضاً، يمكن تمثله بتفعيل الدور الإسرائيلي في الصراع السوري، فبعد أن كان هذا الدور يقتصر على ضربات متفرقة، ومحدودة الأثر، بات يشمل ذلك توجيه ضربات قوية، وتدمير قواعد بأكملها.
في هذا الإطار يمكن فهم الضربة القوية التي وجهتها إسرائيل ضد أهداف في الأراضي السورية، أواخر الشهر الماضي، قرب مدينة حماة، والتي أدت إلى تدمير كامل لقاعدة إيرانية كبيرة، تحتوي مخازن أسلحة، وعن ذلك كتب المحلل الإسرائيلي آفي يسسخاروف (تايمز أوف إسرائيل 4/5): معتبراً ما حصل بمثابة «هزّة أرضية غامضة– 2.6 درجة على سلم ريختر»، وبرأيه فقد «بدأت الظروف التي تقف وراء سلسلة من الانفجارات تتضح... صواريخ مخترقة للخنادق، والتي لا تنفجر عند ارتطامها بالأرض وإنما عميقاً داخل الأرض، أصابت قواعد في منطقتي حماة وحلب... القاعدة التي هوجمت في منطقة حماة تابعة للواء 47 في الجيش السوري... المرصد السوري لحقوق الإنسان (ومقره في لندن) ذكر أن 26 شخصاً لقوا مصرعهم في الهجوم، من بينهم إيرانيون.
تقرير آخر تحدث عن 38 قتيلاً. أيا كان الحال، من الواضح أن الهجوم غير اعتيادي في جوانب عدة... كل هذا بدأ يبدو كأنه عملية إسرائيلية أميركية منسقة للحد من أنشطة الجيش الإيراني في سورية– وفي نفس الوقت نقل رسالة إلى موسكو بأن الضوء الأخضر الذي أعطته روسيا لإيران للتموضع عسكرياً في سورية غير مقبول في القدس وواشنطن».
كما يأتي ضمن ذلك قيام إسرائيل بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على عدة أهداف عسكرية في سورية، منها مطاران عسكريان (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا، وذلك في فبراير الماضي. ومعلوم أن إسرائيل قامت في السنوات الخمس الماضية بتوجيه عديد الضربات لقوات إيرانية أو تابعة لها، استهدفت مخازن وقوافل أسلحة، وقادة في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
ولعل كل ذلك يفسر الحديث عن احتمالات حرب إيرانية- إسرائيلية، لكن مشكلة هكذا استنتاج أن إيران، التي اعتادت على الصوت العالي، غير مستعدة للرد على إسرائيل، وتعمدها التصارع معها عن بعد، فقط، في لبنان أو سورية، لأن الرد على إسرائيل أي استهدافها، يعني نقل المعركة إلى إيران ذاتها. وهذا سبب كاف لابتلاع إيران الضربات الإسرائيلية المتوالية، التي اعتادت عليها منذ سنوات.
هكذا ثمة نهج أميركي (وإسرائيلي) جديد في مواجهة إيران، لكنه لم يصل إلى حد كسر يد نظامها، ولا إعادته إلى داخل حدوده، بمعنى أن الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في دور إيران في المنطقة وتصديع بنيانها السياسي والاجتماعي ما زال قائماً، خصوصاً أن نظام إيران مستعد لتقديم هذه الخدمة.
لذا وفي عودة إلى أسئلتنا الأولى، ثمة سؤال أخير، ينبغي طرحه هنا، وهو هل إن عوائد سياسة أيران في العراق وسورية، خدمت إسرائيل أم أضرّت بها؟ الإجابة عن هذا السؤال تفسر الإجابة عن التساؤلات الأولى.