■ لا يزال يحلو لبعض اليساريّين أن يرفعوا البطاقة الحمراء في وجه من يرى في الديمقراطية قضية ملحة في العملية النضالية، للوصول إلى وطن حر وديمقراطي. البطاقة الحمراء هنا هي تهمة جاهزة في جيب «الحَكَم» مكتوب عليها أنك من «الزمرة المعجبة والمروجة لأفكار الغرب»، وأنك «تتماهى مع أفكار المستشرقين وتخدم سياسات الولايات المتحدة ومصالحها».
الرد البسيط وغير المعقد، على هؤﻻء الرفاق الأعزاء، ذوي الأحكام القاطعة بطبعهم، يكمن في المفارقة التالية:على الرغم من أن التاريخ الحديث للولايات المتحدة (والغرب عموما)، غارق في الدعاية للحرية والديمقراطية اللتين تبشر بهما، إﻻ أنّ أمريكا منذ أن سيطرت على مفاصل الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، لم يُشهَد لإداراتها المتعاقبة سوى دعمها المطلق لنظم اﻻستبداد والقمع في المنطقة. عدا عن دعمها المطلق لإسرائيل (الديمقراطية لذاتها والعنصرية القمعية ضد الآخر).
لقد عملت أمريكا جاهدة لدعم نظم الاستبداد العربية وأجهزتها الأمنية المدرّبة، بغرض صدّ وإبعاد أي تطور ديمقراطي في المنطقة العربية قد يشكل تهديداً لمصالحها، بل بالإمكان القول إن الغرب عموماً خان تاريخياً طبقة البرجوازية العربية، وشوه تطوّرها الطبيعي، ومنع هذه الطبقة من التمثيل السياسي لصالح قوى التسلط وممثلي قوى ما قبل الرأسمالية، وﻻحقا قوى الكمبرادور ورأس المال المتحالف مع الحكم التسلطي والعسكري، وهي القوى التي احتكرت النفوذ والسلطة السياسية على نحو شبه كامل، عن طريق الوراثة أو التوريث وهما سيّان.
الموقف الأمريكي المعادي للبرجوازية الوطنية والديمقراطية السياسية ظهر جلياً في أمريكا اللاتينية والجنوبية أيضاً، وفي غيرها من المناطق، بل إنّ أمريكا تورطت أحياناً بشكل مباشر ومفضوح ضد ثورات ذات طابع ديمقراطي وزعمائها مثل؛ مصدق وأليندي وتشافيز (والأخير فشلت محاولته الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري ونجح في الوصول إليها عبر صناديق الاقتراع ووسائل الديمقراطية البرجوازية).
أين نحن؟
السؤال الجوهري هنا: هل تعيش الدول العربية في ظل نمط وعلاقات إنتاج رأسمالية متكاملة، لتصبح عندها الديمقراطية البرجوازية رجعية، أو ضربا من التاريخ وأداة من أدوات الرأسمال في تحرير العبيد والفلاحين ليصبحوا عمالاً يستغلهم الرأسمال؟ أم إننا نعيش في ظل نمط علاقات ما قبل التطور الرأسمالي المكتمل، أو نمط من التطور المشوه، أو المسخ الفاسد، أو المتأخر، بعيداً عن أن يكون رأسماليا كلاسيكيا كما في الدول المتقدمة، صناعة وإنتاجا، حيث تصبح الديمقراطية لديها «رجعية ومزيفة»؟
في مراحل التطور التاريخي السابقة للرأسمالية، أو الرأسمالية المشوهة، أو الخداج، أو المتأخرة، تكون الديمقراطية البرجوازية ثورية، وأكثر نضالية وواقعية مما يسميه بعض الثوريين من مسميّات كالديمقراطية الشعبية، والاشتراكية وغيرها، تبريراً لرفضهم للديمقراطية البرجوازية، اعتمادا على الفهم الضيق للشعار الماركسي حول «ديكتاتورية البروليتاريا».
السؤال المطروح الراهن، وهو موجه لأولئك الثوريين: هل من الممكن النظر إلى تحقيق الديمقراطية البرجوازية باعتبارها مهمة ملحة في مواجهة التسلط في بلداننا، بدل الاكتفاء بالادعاء بأنها محض ترف غربي ومستورد ﻻ يناسبنا، وهو ما تدّعيه أيضاً النظم التسلطية التي تتستر أحيانا بالأصولية الدينية لتبرير شرعيتها؟
نحن في مرحلة تاريخية عاثت فيها أنظمة الحكم العربية فساداً في بلدانها، وأجهضت النمو والتطور الطبيعي للأوطان، حتى نحو الحداثة والرأسمالية الناضجة، وخلقت أنماطاً مشوهة للإنتاج وعلاقاته، وعززت البناء الفوقي اللازم لاستمرار هيمنتها على أسس من الإغراق في التخلف. وكذلك سخرت الفكر الديني الأشد تطرفاً لهذا الغرض (مقابل الفكر الدينيّ الصوفي أو الوطني). كل ذلك تم ويتم بتحالف، ومن موقع التبعية، مع القوى الإمبريالية، التي بدورها ضمنت لهذه الأنظمة عروشها وحكمها، طالما أنّها تخدمها وتحقق لها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. لقد فشلت الأنظمة العربية كافّة بتلاوينها المختلفة في القضية الوطنية، وفشلت في التصدي للعدوانية الإسرائيلية، وآخرها العدوان الهمجي على غزة.
لقد جاءت حركة الجماهير العربية المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلدان الربيع العربي مفاجئة للجميع، وأرعبت الغرب الداعم تاريخيا لأنظمة اﻻستبداد والحكم الفردي المطلق العربية، سواء قامت على الأساس الملكي الوراثي أو الجمهوري المزور، والمزين بنسبة نجاح تصل إلى ما يقارب المئة بالمئة. لقد فاجأت حركة الشارع العربي الوﻻيات المتحدة والرجعية على حد سواء، بقدر ما فاجأت اليسار العربي والمعارضة التي لم تكن جاهزة لقيادة حركة الجماهير.
رياح التغيير كانت جامحة عابرة للحدود. لم تتحرك القوى الاستعمارية والرجعية لاحتواء حركة الربيع العربي فحسب، بل تحركت كذلك كافة قوى اﻻستبداد وحكم الفرد والعائلة والعشيرة والعسكر وقوى الإسلام السياسي، الأقوى نفوذا في الشارع.
كما تحركت كذلك الأنظمة القومية المتناقضة مع أمريكا في سياستها الخارجية وفي مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها كانت من بعيد فاقدة لثقة شعوبها، خائفة دوما من الجماهير، وقامعة لحرياتها وطاقاتها الخلاقة حتى في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الوطن. لم تسمح هذه الأخيرة للجماهير بأن تناضل ضد المحتل كما فعلت المقاومة اللبنانية الباسلة في تحرير أراضيها التي لا ينكر أحد أن سوريا دعمتها، طالما بقيت المقاومة ضد الاحتلال بعيدة عن الأراضي السورية.
والمثير للاهتمام والاستغراب هنا حقيقة أن امتداد رياح التغيير لتصل بعض الأنظمة الاستبدادية «الحليفة» القائمة على حكم وتقديس الرئيس الفذ، فاقت قدرة بعض الرفاق على الاستيعاب، فظهروا مدافعين عن هذه الأنظمة وأساليبها البشعة في قمع الحركة الجماهيرية، حتى عندما كانت سلمية وتنادي بالإصلاح. هنا أضحت المسألة عندهم مؤامرة ﻻ ربيعا عربياً. وتبنوا، بل تطابقت مواقفهم مع موقف النظام، متناسين أن التحالف مع قوى قومية في معركة يحكمها تناقض خارجي، لا يلغي النضال والانحياز للجماهير في نضالها السياسي والمطلبي ضد السلطة الحاكمة (التناقض الداخلي).
المؤسف أن أصوات بعض المتمركسين ارتفعت لتبرير قمع الجماهير وذبحها، وجهود النظام السوري والرجعية العربية وعسكرة الصراع، التي قادت إلى أن تؤول الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه الآن. بعض هذه الأصوات علت جهارا لتقول إن ما جري في الربيع العربي أُعدّ في واشنطن ونفّذ في بلداننا، والبعض حوّل المعركة إلى معركة فكرية ضد الإخوان المسلمين، حتى في البلدان التي لم يكونوا بها في السلطة، وقد أعماه عداؤه المطلق لبعض قوى الإسلام السياسي المتفوّق، كما يبدو، على عدائه للأنظمة الحاكمة منذ عقود والتي عاثت في الأرض فسادا. والأشد إثارة للحزن أن بعض هذه الأصوات كان ولا يزال، ومن باب المزايدة أو العجز أو الجمود العقائدي، يتذرع بحجة رفضه المبدئي للديمقراطية البرجوازية، لأنها زائفة ومن صنع الرأسمالية، وأنه ورفاقه لن يرضوا للجماهير بأقل مما سموه بالديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية التشاركية أو الاشتراكية.
لقد فوت اليسار العربي فرصة الانسجام مع حركة الشارع، ولعب دور تاريخي في المساهمة في تنظيم حركة الجماهير، ولربما فوت الفرصة أيضا لقيادتها بالتحالفات المناسبة، ولو مع قوى دينية خارج السلطة في تحالف ميداني، على أساس المهام الملحة، من أجل الديمقراطية وصناديق الاقتراع، بدل إقحام الجماهير بمعارك دون كيشوتيه، تحرفها عن الشعار الذي صدحت به حناجرها في القاهرة وتونس «الشعب يريد إسقاط النظام» و»يسقط يسقط حكم العسكر» و»خبز وحرية وعدالة اجتماعية».
لا أدري إذا كان قد فات الأوان على موضوع هذه الكتابة، فالمعركة محتدمة وقد وصلت المأساة – الملهاة إلى أن دولاً عربية لا تكاد تكون معروفة على الخريطة الجغرافية أو السياسية، بدأت تشن حربا على دول عربية أخرى بتواطؤ واضح مع أمريكا بحجة محاربة «داعش». والأنكى أن ذلك يخطط له ليستمر على مدار عدة سنوات ـ وهو ما يساوي زمنيا المدة التي تمت بها هزيمة ألمانيا النازية وليس «داعش». زعماء الدول العربية لم يعلموا شعوبهم بالحرب. فمثلا كان رئيس وزراء الأردن يصرح قبل مدة قصيرة أن الأردن لن يخوض معارك الآخرين.
الكوميديا هي أن رئيس الدولة المعتدى عليها، وهي سوريا، الذي يعول عليه أحد الكتاب الأردنيين بأنه سيلجم الدوائر السورية التي تغمز باتجاه التحالف، يعتبر أن قصف الطائرات لبلده خطوة في الاتجاه الصحيح، إذا قام التحالف بمجرد إعلامه بذلك فقط. لقد أضحت البلدان العربية تقسم طائفيا وعرقيا ويمينا ويسارا وشمالا وجنوبا، وتنتهك الأعراض وتؤخذ السبايا، وما يزال البعض من الثوريين يتجاهل أن الاشتراكية نشأت ووجدت من أجل الإنسان وحريته ورفاهه.
أساس الإرهاب ليس فكرياً، بل طبقيا. فهو ينشأ ويتطور في ظل التمايز الطبقي، ونهب الثروات وإفقار الريف، وينمو في ضواحي البؤس والشقاء، في ظل دول تحكمها عائلات حاكمة تنهب وتجمع الثروات الخيالية، وتعادي الديمقراطية لأنها ستكون أداة في أيدي الجماهير للخلاص منها وإلى الأبد. إن الفكر ليس إلا انعكاساً للواقع، ومحاربة الفكر الإرهابي ﻻ تكون إلا بالنضال السلمي ضد الاستبداد والحكم المطلق والتمايز الطبقي عبر الديمقراطية والحرية، وضد العسكرة والقتل.
تريد الدكتاتورية لصوت السلاح أن يقعقع وللدماء أن تسيل حماية واستمرارا لحكمها وبقائها، وبذلك ربما ترهب الجماهير وتبعدها عن شعارها في الربيع العربي العظيم: «خبز وحرية وعدالة اجتماعية».
ليس هناك أدنى شك بأن الأنظمة العربية الحاكمة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن دفع بعض الحركات والجماعات والعرقيات والطوائف إلى البحث عن الانفصال. لقد فشل معظم الأنظمة العربية على مدى أكثر من ستين عاماً في بناء دولة لكل مواطنيها، مما جعل شرائح واسعة من مجتمعاتها تتطلع إلى الانفصال. كثيرون فشلوا في خلق دول بالمعنى الكامل للكلمة مما جعلها دائماً مهددة بالتفكك والانهيار كما يحدث الآن في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا.
فبفضل طريقة الحكم القائمة على الدوائر الضيقة والمقربين جداً وحرمان الناس من المشاركة السياسية حتى في إدارة البلديات تمكنت بعض الأنظمة بشقيها العسكري والإسلامي من تفتيت مجتمعاتها وقطع كل الروابط البسيطة التي كانت تجمع بينها، فزاد التعصب القبلي والطائفي والعشائري وحتى العائلي، بحيث أصبحنا ننظر إلى سايكس وبيكو على أنهما ملاكان رائعان، لأنهما على الأقل لم يتلاعبا بطوائفنا ومذاهبنا وعوائلنا وقبائلنا ونسيجنا الاجتماعي والثقافي الداخلي، كما لعبت أنظمتنا الأقلوية بمختلف أشكالها.
يقول المثل الشعبي: «الثلم الأعوج من الثور الكبير». بعبارة أخرى، فإن تلك الأنظمة المسماة دولاً زوراً وبهتاناً لم تضرب «لرعاياها» مثلاً يُحتذى في بناء الدولة والحفاظ عليها وجعلها قبلة جميع العرقيات والطوائف والمكونات التي تتشكل منها. ماذا تتوقع من أي شعب عربي إذن عندما يرى نظامه يحكم على أسس قبلية وطائفية ومناطقية؟ هل تريده أن ينزع باتجاه الاندماج أم باتجاه الانتماء الضيق وربما الانفصال والانسلاخ؟
فطالما أن هذا النظام أو ذاك جهوي أو طائفي بامتياز، فلا بأس أن يحافظ الناس على طائفيتهم وعصبيتهم ويتمسكوا بهما. كيف نطالب الشعوب العربية بأن تتقارب من بعضها البعض وتتوحد إذا كانت أنظمتنا (القومية والإسلامية) تمعن في طائفيتها ومذهبيتها وقبليتها المقيتة؟ وبالتالي فإن الانفصاليين والمتمردين على الدولة المركزية العربية لا يستحقون أبداً تهمة الخيانة، فالخائن الحقيقي ليس الذي يطالب بالانفصال كصرخة ضد التهميش والعزل والإهمال والظلم والغبن والمحاباة والأبارتيد العرقي والطائفي والمناطقي، بل أولئك الذين دفعوه إلى الكفر بالوحدة الوطنية المزعومة؟
لكن مع كل ذلك، فالانفصال وتفتيت الأوطان ليس حلاً أبداً، وخاصة للطوائف والجماعات والأعراق التي كفرت بالدولة المركزية. فالزمن ليس زمن الدويلات والكانتونات العرقية والطائفية والمذهبية، بل زمن التجمعات والتكتلات الكبرى. فالقوى التي تهيمن على العالم كلها اتحادات وليس دويلات. الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، الهند كلها تجمعات كبرى مكونة من أعراق ومذاهب وأديان مختلفة. والسؤال الأهم: هل نجحت أي جماعة انفصلت عن الدولة الأم في بناء دول يٌحتذى بها؟ لقد صارع جنوب السودان عقوداً وعقوداً كي ينفصل عن الشمال، ونجح أخيراً في الانفصال والاستقلال في دولة جنوب السودان. لكن ماذا أنتجت الدولة الجديدة؟ هل ازدهرت اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً؟ أم إنها ازدادت تخلفاً؟ ألم يصبح جنوب السودان منذ الاستقلال مثالاً للصراعات القبلية والسياسية والجهوية؟
لقد ظن الجنوبيون أن كل شيء سيصبح على ما يرام بمجرد إعلان الانفصال عن الشمال دون أن يدروا أن دولتهم الجديدة نقلت معها كل أمراض الشمال السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا يعني أن الحل لا يكمن في الانفصال أبدا، بل في معالجة الأسباب التي تدعو الناس إلى الانفصال. هل يختلف الديكتاتور سيلفا كير عن الجنرال البشير؟ بالطبع لا، فهذا الفرع من ذاك الأصل. كل الطبقة السياسية التي تتحكم بجنوب السودان الآن هي نسخة طبق الأصل عن الطبقة الحاكمة في الشمال. وطالما ظلت تتصرف بعقلية الشمال، سيبقى الوضع على حاله، وربما يتفكك الجنوب ذاته.
لقد نجح الأكراد بدورهم في الاستقلال عن العراق، وأصبح لهم سفارات وقنصليات واقتصاد خاص وبرلمان. لكن هل يختلف نظام الحكم في المناطق الكردية عن النظام الحاكم الذي استقل عنه في بغداد، أم إنه أيضاً يحمل كل أمراضه السياسية والسلطوية بشكل مصغر؟
لا يمكن أبداً أن نحل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتقسيم الأوطان وتفتيتها إلى كانتونات ودويلات ومحميات صغيرة. هذا ليس حلاً، بل إمعانا في تدمير الأوطان وشرذمتها. بدل أن نشرذم بلادنا ونقطعها إرباً إرباً، تعالوا نحتكم إلى الديمقراطية الحقيقية القادرة على جمع كل المتناقضات والطوائف والمذاهب والأعراق وصهرها في بوتقة المواطنة. فعندما يشعر الجميع بأنهم مواطنون، بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وأعراقهم، لن يفكر أحد منهم أبداً بالانفصال أو الاستقلال، بل سيدافعون جميعاً عن الوطن يداً واحدة.
اجعلوا بلادنا دولاً لكل أبنائها!
تعالوا نتقاسم الثروات والسلطات بدل تقسيم الأوطان!
مع التركيز الإعلامي الحالي على «داعش»، يزعم بعض الخبراء أن الأزمة السورية، التي تدخل حاليا عامها الرابع، قد تحولت إلى )عرض جانبي هامشي).
والحقيقة هي أن سوريا لا تزال في قلب الأزمة التي تزلزل الكيان السياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وما لم تخرج الديمقراطيات الغربية مع حلفائها الإقليميين بسياسة حيال سوريا، فإن آمال العودة حتى إلى نوع ما من الاستقرار هناك سوف تكون آمالا بائسة. فتنظيم «داعش» هو النتيجة، في حين أن سوريا هي السبب.
حتى بالنظر إلى الأمر من زاوية عسكرية ضيقة فإن الحرب ضد «داعش» سوف تكون لها معان طفيفة خارج السياق الأوسع للمستنقع السوري. والسبب الكامن وراء ذلك في منتهى البساطة: بسط تنظيم «داعش» سيطرته، إما بصورة مباشرة أو من خلال التعاون مع حلفائه من الجهاديين، على ما يقرب من أربعين في المائة من الأراضي السورية، بدءا من البوكمال في الجنوب، على الحدود مع العراق المجاور، وحتى الحدود السورية – التركية، مرورا بميادين، ودير الزور، والرقة، ومنبج. وإذا ما سقطت بلدة كوباني فسوف يتسنى لتنظيم «داعش» تأمين حالة من التواصل الجغرافي في ما بين حلب، أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان، وكردستان العراق من ناحية الشرق.
وعلى العكس من بقية الجماعات المتشددة، ومن بينها تنظيم «القاعدة» على سبيل المثال، يحاول تنظيم «داعش» التحول إلى وضعية الدولة ذات التعبير الإقليمي. وبالتالي، فإن هزيمة ذلك التنظيم تعني دفعه إلى خارج المناطق التي يسيطر عليها. ومن الناحية العسكرية، فإنه يمكن التعبير عن ذلك من خلال المقولة الشهيرة «الأعمدة الثلاثية: الاستيلاء، والتطهير، ثم السيطرة».
عند مرحلة ما، سوف ينجح شخص ما، ربما يكون الجيش العراقي، أو القوات الكردية، أو الجيش التركي، أو حتى الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها، في الاستيلاء على المناطق الخاضعة حاليا لسيطرة تنظيم «داعش». وسوف يشرعون بعدها في تطهير تلك المناطق من الوجود الداعشي. ولكن ما عساهم يفعلون عند الوصول إلى العمود الثالث: السيطرة؟
لا يمكن تسليم مثل تلك السيطرة إلى جماعات متشددة أخرى حتى لو لم تكن في مثل بشاعة تنظيم «داعش» من حيث إن ذلك سيلقي بظلال شديدة السوء على سكان المناطق المتضررة. وسوف يكون من المحال كذلك السماح للأكراد بالسيطرة على تلك المناطق لأن ذلك قد يعني ظهور دويلة تخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني (PKK) على مرمى حجر من الحدود التركية، وهو أمر لن تسمح به أو تتحمله أي حكومة في أنقرة.
أما الخيار الآخر، وهو تسليم المناطق مرة أخرى إلى ما تبقى من نظام الرئيس بشار الأسد، فإنه قد يثير المزيد من الإشكاليات.
اليوم، يسيطر الرئيس الأسد على أربعين في المائة من الأراضي السورية في دمشق وأجزاء من ضواحيها بالإضافة إلى الشريط الساحلي مع ما يقرب من خمسين في المائة من سكان البلاد في فترة ما قبل الحرب. وهناك عشرون في المائة تقبع تحت سيطرة القوات المعارضة لنظام الأسد، في حين أن ربع السكان يتألفون من المشردين والنازحين إلى البلدان المجاورة أو في داخل سوريا نفسها.
يقترح البعض في واشنطن وإسرائيل عقد صفقة ما مع الرئيس الأسد ومساعدته على إعادة بسط سيطرته على الأقاليم المستعادة من تنظيم «داعش». وتكمن المشكلة في أن أولئك الذين خلعوا عن رقابهم قبضة الأسد لن يخضعوا لسلطانه مجددا. وبمزيد من الأهمية، ليس لدى الأسد ما يكفيه من الأسباب لإعادة بسط سيطرته بفعالية.
والآن، ليس لدى أحد النفوذ القهري أو الحجة المقنعة للمطالبة بالسلطة الفعلية في سوريا. فإذا ما اعتلى أي من اللاعبين في لعبة الموت تلك سدة الحكم، ولأي سبب كان، فسوف ينازعه عليه الآخرون بشدة.
يقول بعض الخبراء إن سوريا باتت دولة ميتة بلا أمل في إنعاشها قلبيا على غرار متلازمة لازاروس. والطرح يفيد بأن سوريا، مثلها مثل باقي الدول في الشام، قد اتخذت موضعها على الخريطة من خلال الإمبريالية الغربية، لكنها لا تعكس التنوع العرقي والديني وطموحات المنطقة المعقدة.
قبل عشر سنوات، اقترح السيد جوزيف بايدن، النائب الحالي للرئيس الأميركي، أن يتحول العراق إلى ثلاث دويلات. واليوم، يلعب رفاقه بطائرة ورقية مماثلة فوق سوريا.
حقيقي أن أفضل طريقة لخوض الحرب هي القتال على أساس الوضع الحالي، من دون نظرة مستقبلية، مع التركيز الأساسي على هزيمة وتدمير العدو.. ومع ذلك، لا تعتبر الحرب ذات فائدة إلا إذا نجحت في تغيير حالة الوضع الراهن من خلال خلق حالة جديدة تصب في مصلحة المنتصرين.
والمحاربون الحكماء، في حين أنهم لا يتشتت انتباههم جراء المخاوف «مما يمكن أن يحدث بعدئذ»، فإنهم، مع ذلك، يولون بعض التفكير إلى الشكل المحتمل لحالة توازن القوى في ما بعد انقضاء الحرب.
واليوم، فإن أيا من الخيارات المطروحة للنقاش لا يُرجح له أن يخرج بنتائج مفيدة، حيث لا يمكن ترك تنظيم «داعش» في محل السيطرة، ولا يمكن نقلها كذلك إلى أشكال «أخف عنفا» من «داعش».. فاستبدال نظام حكم جهادي متطرف بآخر ماركسي لينيني تحت عباءة حزب العمال الكردستاني (PKK) سوف يكون بمثابة قفزة سريالية كالمستجير تماما من الرمضاء بالنار. كما أن استدعاء سيطرة الإبادات الجماعية لنظام الأسد إلى السلطة مجددا لن يكون من قبيل التصرفات اللائقة، على أدنى تقدير.
وتستمر فكرة تقسيم سوريا، وبالنسبة لتلك القضية التي تهم دولا أخرى في المنطقة، فهي تلقى المزيد من السخرية اللاذعة والاعتقادات الراسخة لدى الأوساط الغربية من أن العرب عاجزون عن حكم أنفسهم من دون العنف والإرهاب.
إن اعتبار سوريا دولة اصطناعية لا يعني شيئا البتة، حيث إن كل دولة تشرق عليها الشمس هي بالفعل دولة مصطنعة، بدءا من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا مرورا بأستراليا والهند، فلا توجد دولة قومية أبدا سقطت من السماء تامة التشكيل والبناء. والخيار الواقعي الوحيد يكمن في تصور إحياء الدولة السورية في سياق جديد تماما. وأحد الحلول سوف يكون إقامة «ملاذات آمنة» تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة تتلامس على الحدود مع تركيا ولبنان والأردن والعراق، مما قد يوفر أساسا يمكن من خلاله تعزيز الحوار الدولي الذي يهدف إلى تقاسم السلطة بهدف استعادة الدولة السورية. وسوف توجه الدعوة للحضور إلى أولئك الذين، داخل معسكر الأسد، لا يزالون يؤمنون بسوريا الموحدة. وسوف يلعب الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي دور الوسطاء من أجل الوصول إلى تسوية وطنية.
دعونا نعتبرها حربا لتحرير سوريا ولاستعادة موضعها كدولة إقليمية حتى تكون الحملة ضد تنظيم «داعش» ذات فحوى.
من دون حل المعضلة السورية، فلن يدفع أي قدر من القصف الجوي أو حتى غزو القوات البرية بمنطقة الشرق الأوسط بعيدا عن حافة الكارثة. وبعبارة أخرى، إنها سوريا، أيها الغبي
بعد 5 أسابيع من القتال في مدينة كوباني الكردية، بدأت سيكولوجيا الترويع والذعر التي يبثها تنظيم «داعش» في التراجع والتفكك. كان التنظيم الإرهابي يحسب أنه سيجتاح المدينة بسرعة، على ما جرى عندما انهارت المدن العراقية أمامه، وتبخر 60 ألف جندي عراقي كانوا في الموصل، وفروا تاركين وراءهم كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة!
صمود الأكراد المفاجئ في كوباني، جعل «داعش» تضع كل ثقلها في المعركة؛ ليس لأنها تريد توسيع رقعة سيطرتها إلى الحدود التركية فحسب، بل لأنها أدركت أن عجزها عن اجتياح المدينة، سيشكل بداية لانهيارها وتهاوي صورتها القائمة على البطش وإثارة الذعر.
الآن، هناك كثير من الحسابات بدأت تتبخر مع دخان الحرائق المندلعة في كوباني، في مقدمها حسابات تركيا التي راهنت على أن الخوف الدولي من ذبح المدينة سيدفع واشنطن إلى الموافقة على شروط رجب طيب إردوغان للانضمام إلى «التحالف الدولي»، التي تنبع من أحلامه باستنهاض دور عثماني معاصر لتركيا في الإقليم!
اصطدمت شروطه برفض إقليمي ودولي، فمطالبته بإقامة منطقة حظر للطيران شمال سوريا، تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن سيواجه بالفيتو الروسي، وحزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذي يقاتل في كوباني هدد بالتحول إلى قتال تركيا إذا بسطت سيطرتها على تلك المنطقة، أما اشتراطه إسقاط بشار الأسد فيلقى رفضا أميركيا ضمنيا، ينطلق من الاقتناع بأن تشكيل المعارضة القادرة على ملء الفراغ يجب أن يسبق إسقاط الأسد، ثم إن روسيا وإيران تعارضان إسقاطه.
منذ إطلاق الرهائن الأتراك من القنصلية التركية في الموصل بطريقة ملتبسة، نشرت تقارير كثيرة في أنقرة وخارجها عن رفض إردوغان دخول التحالف الدولي أو القيام بأي عمل ينقذ كوباني، ففي النهاية هذه مدينة كردية «وإردوغان مستعد ليقطع عنها حتى الهواء» كما يقول الأكراد، ولهذا استمر في منع دخول الأكراد لدعم رفاقهم وأغلق قاعدة أنجرليك أمام المقاتلات الأميركية، في حين اتهمته الصحف التركية بأنه سمح بفتح مكتب اتصال لـ«داعش» في إسطنبول!
المفاجأة التي بدأت تقلب الموازين وتسقط الحسابات جاءت من المقاتلين الأكراد، ذلك أن سيكولوجيا الترويع الداعشي تتهاوى أمامهم في كوباني، وتتراجع «داعش» أمام البيشمركة التي استطاعت استيعاب الهجوم الإرهابي في مناطقها بالعراق.
مباشرة بعد سقوط الموصل، تدفقت المساعدات العسكرية على البيشمركة ليرتفع صراخ أنقرة التي أعلنت أن «تسليح الأكراد قنبلة موقوتة ستفجر المنطقة»، بينما يصر إردوغان دائما على وصف الأكراد بالإرهابيين، لكن صمود «الحزب الديمقراطي التركي» و«وحدات حماية الشعب» في كوباني بدأ يخلط الأوراق ويعيد الحسابات.
الأسبوع الماضي، فاجأتنا واشنطن بالحديث عن «الخيار الكردي»، بعدما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن اجتماع عقده أحد كبار المسؤولين مع وفد من حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» في باريس، وقد أحيط الاجتماع بأهمية كبيرة، مما يدعو إلى التساؤل:
هل يدخل الأكراد بديلا من تركيا في التحالف الدولي، وخصوصا بعد الوقائع الميدانية في أربيل حيث استبسل البيشمركة، ثم في كوباني حيث أثبت الأكراد فاعلية وجدارة وتميزوا بأداء قتالي مثير رغم تدني مستوى تسلحهم؟
لقد أصيبت تركيا بالحمى، فكان الاتصال الهاتفي بين باراك أوباما وإردوغان العائد من أفغانستان، ثم بدأت التحولات، أولا عندما قامت الطائرات الأميركية بإلقاء كميات من الأسلحة والذخائر والإمدادات الطبية إلى الأكراد في كوباني، ثم بعد أقل من ساعتين عندما أعلن وزير الداخلية التركي أن أنقرة التي كانت تمنع عبور المقاتلين لدعم كوباني، ستسمح للأكراد بالعبور لمساندة رفاقهم.
المضحك أن أنقرة حاولت حفظ ماء وجهها بالقول إن الطائرات الأميركية التي ألقت المساعدات في كوباني لم تحلق فوق الأراضي التركية، وإن الأكراد الذين جاءوا من سوريا فقط مسموح لهم بالعبور إلى كوباني لكن من دون أسلحة، بينما يمنع عبور أي مقاتلين من جنسيات أخرى، أي الأكراد الأتراك ورجال البيشمركة الذين قرروا الذهاب إلى كوباني!
جون كيري ألقى مياها باردة على الحمى التركية عندما أعلن أن إلقاء المساعدات العسكرية في كوباني لا يعني تغييرا في الموقف السياسي الأميركي من المسألة الكردية، لكن التطور المثير في الموقف الأميركي حيال «الخيار الكردي» يفرض بالضرورة طرح أسئلة ضرورية وخبيثة، لعل أبرزها:
- إذا كانت واشنطن تطرح «الخيار الكردي» بديلا من تركيا في التحالف الدولي وتشيد بالمقاتلين الأكراد، فإلى أين يمكن أن يقود هذا مستقبلا من الناحية السياسية، وخصوصا على خلفية طموحات الأكراد (25 مليونا) إلى إقامة دولتهم، بعدما حصلوا في العراق على حكم ذاتي، وأقاموا في شمال سوريا ما يشبه الكانتون!
- بعد أقل من 4 أيام على طرح شعار «الخيار الكردي»، أعلن الأكراد السوريون من دهوك إقامة إدارة ذاتية لمناطقهم أطلقوا عليها اسم «روجافا» أي غرب كردستان، ويريدون إجراء انتخابات نيابية وتشكيل قوات للدفاع، بينما تقول صحيفة «التايمز» إن النقاشات في دهوك ركزت على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وهو ما يمثل شحذا لسكاكين التقسيم!
- لماذا لم تحصل المعارضة السورية التي ذبحت وتذبح منذ 4 أعوام تقريبا بالطائرات ومدافع الميدان وحتى بالسلاح الكيماوي، على أي دعم أو تسليح أميركي كما يحصل مع الأكراد اليوم، هذا سؤال ضروري: لماذا تعامت واشنطن عن سقوط 200 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى وملايين المشردين وعن دمار سوريا التي حولتها مذابح النظام، رحما ولدت منه «داعش» وأخواتها؟
- ولماذا انهالت شحنات السلاح على البيشمركة بسرعة في أربيل التي تنادي علنا بقيام الدولة الكردية؟
- ولماذا التمسك بالأسد، هل في انتظار المعارضة المقتدرة أم في انتظار أن تمهد الفوضى المسلحة لترسيم التقسيم على الأرض؟
- ولماذا جرى تسليم العراق إلى نوري المالكي أي إلى إيران، وطال التعامي عن سياساته الإقصائية والكيدية أعواما، وهو ما عمق الكراهيات التي من رحمها سيخرج «الدواعش» في العراق؟
في كوباني يمكن التقاط أطراف خيوط لعبة جهنمية تدفعني إلى التساؤل:
هل يمكن إعادة الحلم الكردي بالدولة إلى قمقم المعارضة الإقليمية المزمنة تركية وإيرانية وعراقية وسورية؟ وهل يمكن تصور بقاء الأسد إلا في سويا مقسمة، وهل يمكن أن يصلح حيدر العبادي ما أفسد المالكي في العراق... وهل تصمد الجغرافيا والحدود أمام سعير النيران وهياج الرغبات التقسيمية؟
الحروب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لا تصيب الهدف مباشرة، إذ إنها لا تستخدم الوسائل الناجعة القادرة على اقتلاع المشكلة من جذورها، إلا أنها أيضا لا تستند إلى صدقية أخلاقية، فهي تجمع تحالفا من الدول المتناقضة في منطلقاتها ومبرراتها وسط ارتباك دولي وإقليمي.
اجتاحت "داعش" شمال العراق وغربه وأجزاء مقدرة من سوريا بشكل مذهل وأعادت رسم خريطة البلدين وبدا للتحالف بقيادة الولايات المتحدة من الوهلة الأولى صعوبة هزيمة جماعة لها ملجأ آمن في سوريا والعراق، فيما تشير التقديرات إلى أن "داعش" لديها من (10 - 17) ألف مقاتل شرس منهم (3) آلاف اجتاحوا شمال العراق في يونيو/حزيران الماضي.
فضلا عن صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على الأقل في الوقت الراهن، فإن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تؤكد أن تصويب الهدف عبر الأداة العسكرية لا يحقق القضاء على "داعش".
فما هي فرص الحل العسكري؟ وما تناقضات التحالف الدولي والإقليمي وإشكالاته الأخلاقية؟ ما هي الصعوبات التي تعترض نهج التعرية الفكرية لعقيدة "داعش"؟ لماذا يغفل التحالف أسلوب وأداة التعرية الفكرية رغم فشل الحملات العسكرية المماثلة في أفغانستان والعراق؟
شروخ وإشكالات أخلاقية
يعاني التحالف الدولي ضد "داعش" من إشكالات أخلاقية تفت من عضده، وهي إشكالات تصب في صالح تنظيم "داعش" نفسه وتمده بما يحتاج من مبررات يسوّق بها حربه التي يصفها بالمقدسة ضد التحالف.
"فضلا عن صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على الأقل في الوقت الراهن، فإن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تؤكد أن تصويب الهدف عبر الأداة العسكرية لا يحقق القضاء على "داعش""
لعل أبرز هذه الشروخ الأخلاقية، مزايدات بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الذي خلط أوراق "داعش" بأوراق "حماس" فقال إن "داعش" تقطع الرؤوس و"حماس" تُطلق النار علينا. وقال في آخر اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة إن الخطر المتحقق من جماعات الإسلام المتشدد هو ذاته، بغض النظر إن كانت "حماس" أو "داعش".
نتنياهو اعترف في نفس الوقت بدور لإسرائيل في التحالف الدولي ضد "داعش"، وقال إنه يؤيد جهود الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤكدا استعداد إسرائيل للدعم والمساعدة في كل شيء وبأي طريقة، ودخول إسرائيل أمر سيستثمر فيه تنظيم "داعش".
بيد أنه في ذات الوقت صرح شيخ الأزهر أحمد الطيب بأن عناصر "داعش" "مجرمون يخدمون الصهيونية، ويصدرون صورة شوهاء عن الإسلام، وهم صنائع استعمارية تعمل في خدمة الصهيوينة".. الرئيس السوري بشار الأسد الذي لم يرع في شعبه إلا ولا ذمة وجد فرصة سانحة ليرمي "داعش" بدائه وينسل ويعرض خدماته على التحالف، باعتباره جزءا من الحل.
ويؤمن بعض الغربيين والأميركيين بأن هدف مكافحة الإرهاب أكثر معقولية بطبيعته من هدف تحقيق الاستقرار السياسي في دولة من دول المنطقة مثل سوريا. يقول مالكوم ريفنكد وزير خارجية بريطانيا السابق في حكومة المحافظين ورئيس لجنة الشؤون الأمنية في مجلس العموم البريطاياسر محجوب الحسينني (البرلمان): يجب سحق "داعش" ويجب ألا نشعر بالحرج حول كيفية عمل ذلك، حتى لو اقتضى الأمر التعاون مع النظام السوري وقال "أحيانا تضطر لعقد علاقة مع أشخاص بغيضين من أجل التخلص من أشخاص أبغض".
ليس النظام السوري فحسب، فكثير من الأنظمة الإقليمية التي هرولت للمشاركة في التحالف في الخفاء وفي العلن، أنظمة قمعية لا تؤمن بالديمقراطية ومع ذلك ظلت تجد الدعم والمساندة الكاملة من الولايات المتحدة ولم تعد الشعوب في تلك الدول تحفظ للولايات المتحدة أي نوع من الصدقية، و"داعش" تستثمر في هذه الثغرة الأخلاقية وتجد الأنصار ممن اكتووا بنيران بطش تلك الأنظمة.
الولايات المتحدة نفسها تمسك بتلابيبها قضايا أخلاقية تورطت فيها خلال حروبها في أفغانستان ضد طالبان، وفي العراق ضد نظام الرئيس صدام حسين، فالحرب على الإرهاب ضد طالبان صاحبها سجن غوانتانامو الشهير الذي انتهكت فيه حقوق الانسان، ورغم أن الرئيس أوباما كان قد وعد في حملته الانتخابية لفترة رئاسته الأولى بإغلاق المعتقل سيئ السمعة إلا أنه لم يفعل حتى الآن وقد قطعت فترة رئاسته الثانية شوطا مقدرا.
الولايات المتحدة أيضا ما زالت تطاردها فضيحة سجن أبو غريب في العراق وما جرت فيه من انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في العراق، ورأت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن معظم المقاتلين البارزين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية -ومنهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي- كانوا متطرفين يسعون لمهاجمة أميركا، وأن المدة التي أمضوها في السجون الأميركية داخل العراق زادت من وتيرة تطرفهم ومنحَتهم الفرصة لحشد ولتجنيد متطرفين آخرين.
"عقلاء في الغرب يشيرون إلى فعالية الأداة الفكرية في محاربة "داعش" مقابل خطل الآلة العسكرية المدمرة، فالأخيرة إن حققت نجاحا وهذا أمر مشكوك فيه فسيكون مؤقتا أما النهج الفكري فإن نجاحه سيكون حتما مستداما "
غير الشروخ والتصدعات الأخلاقية التي تعتري التحالف، فإن ارتباكا ساد في غمرة الاستعداد لانطلاقة العمليات العسكرية ضد "داعش" حين كال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن اتهامات طالت تركيا والإمارات والسعودية بدعم الإرهاب ممثلا في تنظيم الدولة المستهدف بالتحالف. ورغم أن بايدن اعتذر لاحقا لتلك الدول، فإن تلك التصريحات الصادرة من نائب رئيس الدولة القائدة للتحالف تُعد خللا كبيرا في جدار التحالف المتأهب للانقضاض على "داعش".
داخل الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر الدول حماسا للعمل العسكري، يدور جدل كبير حول جدوى قيادة حملة عسكرية للقضاء على تنظيم الدولة والسبب هو التجربة المريرة لقوات البلدين في حربي أفغانستان والعراق. فعندما ذهب الرئيس أوباما للكونغرس قبل عام للسماح له بعملية عسكرية ضد نظام بشار الأسد بعد الهجوم الكيميائي على الغوطة قرب دمشق تردد النواب كثيرا في الموافقة. وفي بريطانيا خسر رئيس الوزراء ديفد كاميرون وقتها بتصويت اليمين واليسار ضد هذا التدخل في سوريا.
حتى تلك الحادثة المريعة حين قطع تنظيم "داعش" رأس الصحفي الأميركي جيمس فولي في أغسطس/آب الماضي والتي جعلت الكثيرين في الكونغرس يتحدثون عن العمل العسكري، فإن ذلك لم يعط مبررا لتجاهل دروس جورج بوش في العراق.
ويرى السيناتور ليندسي غراهام عضو اللجنة العسكرية بالكونغرس في مقابلة مع قناة CNN أن الخطة التي تتبعها واشنطن لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام غير مجدية. وقال: "كلما انتشر فيروس إيبولا في أفريقيا أصبحنا أكثر عرضة للخطر وهو الأمر ذاته بالنسبة للإسلام المتطرف في الشرق الأوسط". وفي بريطانيا قال النائب المحافظ كين كلارك إن التدخلات العسكرية السابقة في العراق وأفغانستان أوجدت وضعا أسوأ من الذي كان قبلها.
مرتكزات الغرب الفكرية
العقلاء في الغرب يشيرون إلى فعالية الأداة الفكرية في محاربة "داعش" مقابل خطل الآلة العسكرية المدمرة، فالأخيرة إن حققت نجاحا وهذا أمر مشكوك فيه بدرجة كبيرة جدا، فسوف يكون مؤقتا وغير مستدام، أما نهج محاربة تنظيم "داعش" فكريا فإن نجاحه سيكون حتما مستداما ويأتي على قاعدته الفكرية المختلة من جذورها.
ولأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة صاحب المصلحة الحقيقية في محاربة "داعش"، فإن عليه الانتباه إلى أن أنظمة إقليمية تريد محاربة "داعش" ولكن من منطلقات أخرى، فتلك الأنظمة المنبوذة شعبيا والتي لا تبقى في الحكم إلا بمساعدة الغرب، في حاجة لتخويف الغرب وإشعاره بحاجته إليها في محاربة الإرهاب المتمثل في "داعش"، فهي ليست صاحبة مصلحة أصيلة في محاربة "داعش" إذ إنها وسيلة لجلب الدعم لسلطتها غير الشرعية.
وإن كان التحالف يحتاج إلى مقاولين من الباطن في حالة اعتماد الخيار العسكري، حيث تقدم تلك الأنظمة أبناء شعوبها وقودا للمعارك الأرضية بينما تتولى الدول الكبرى الحرب الجوية، فإن الحرب الفكرية تحتاج أيضا لمقاولين من الباطن، بيد أنه من المؤكد أن تلك الأنظمة المستبدة لن تكون هي المقاول في هذه الحالة، إذ لا مصلحة لها في هذا النوع من الحرب بل إن نجاح هذا النهج سيكون خصما على بقائهم في السلطة. المثقفون المعتدلون ومن يفهمون الدين الإسلامي على حقيقته، أفرادا ومنظمات مجتمع مدني هم من يستطيعون القيام بالدور المساعد والفاعل في نجاح الحرب الفكرية.
والأمر الأكثر أهمية أن يُنحي الغرب والولايات المتحدة جانبا نظرية صراع الحضارات للمفكر الأميركي صامويل هنتنغتون وهي لا تصلح لأن تكون أساسا لحوار وتعايش بين الثقافات والحضارات. وكما هو معلوم فقد ركز هنتنغتون على التحديات التي تواجه الحضارة الغربية وخاصة من الحضارتين الإسلامية والصينية.
"ما لم تتغير النظرة الغربية نحو الإسلام وتتخلص من الأفكار المسبقة والنظريات المختلة، فإن أي تفكير في حوار فكري يقضي على التطرف والانحراف الديني بين المسلمين، سيكون حرثا في البحر"
وبعد هجمات "11 سبتمبر/أيلول 2001" كتب هنتنغتون مقالة شهيرة في عدد مجلة النيوزوييك السنوي في ديسمبر/كانون الأول 2001 بعنوان "عصر حروب المسلمين" مؤكدا أن نظريته قد تحققت، وأن حروب المسلمين ستشكل الملمح الرئيسي للقرن الحادي والعشرين.
الإشكال أن هنتنغتون أغفل القراءة الموضوعية لحقيقة الدين الإسلامي وحضارته، وفي مقابل ذلك ركّز على قراءة الأوضاع السياسية التي تقوم فيها تلك الأنظمة المستبدة بالدور الأساسي، ولذا بنى نظريته على إفرازات تلك الأنظمة المأزومة وليس على رؤية موضوعية للقيم الاجتماعية والحضارة الإسلامية التي لا تمثلها بالضرورة تلك الأنظمة السياسية.
ولذا فإن خطل نظرية صراع الحضارات يقوم على أن الخلافات الثقافية يجب أن تُفهم, والثقافة (بدلا من النظام السياسي) يجب أن يتم القبول بها كطرف وموقع للحروب.
مهددات الحرب الفكرية
ما لم تتغير النظرة الغربية نحو الإسلام وتتخلص من الأفكار المسبقة والنظريات المختلة، فإن أي تفكير في حوار فكري يقضي على التطرف والانحراف الديني بين المسلمين، سيكون حرثا في البحر، فالمشكلة المهمة بالنسبة للغرب وفقا لأفكار هنتنغتون المختلة، ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام نفسه.
ومن ناحية أخرى فإن أوروبا لها قناعة بأنها ظلت تحت تهديد مستمر من الحضارة الإسلامية لمدة ما يقرب من ألف سنة، منذ دخول العرب إسبانيا وحتى الحصار التركي لفيينا، وهذا قال به برنارد لويس، وهو أستاذ جامعي معاصر بريطاني الأصل تخصص في دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون الأميركية. وقد تخصص في تاريخ الإسلام والتفاعل بين الإسلام والغرب.
إن أفكارا ومقولات مثل ما قال به هنتنغتون وغيره، بأن حدود الإسلام دموية وكذا أحشاءه -وهي العبارة التي وردت في مقالة لهنتنغتون عام 1993 وقد أثارت ردود فعل كبيرة- هي التي تعيق التواصل الفكري مع الحضارة الإسلامية، فلا بد من طرد هذه الأفكار بعيدا واستبعادها في حال المعالجات الفكرية.
أين تقع الغارات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي في سوريا من معادلة الصراع الراهن؟ ما هو التأثير الذي تتركه هذه الغارات على الجماعات المسلحة المستهدفة؟ ثم هل استفاد الجيش السوري من هذا المتغير الدولي؟ وأخيرا، ما هو أفق المستقبل، وإلى أين نحن ذاهبون؟
المجموعات المسلحة
إن أولى الأسئلة التي جرت إثارتها، في القطر السوري وخارجه، دارت حول ماهية الأهداف التي يجري العمل على تحقيقها عبر الغارات الجوية.
لقد أعلن رسميا بأن تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" هدفان رئيسيان للقصف الدولي، إضافة لتنظيم "خراسان"، الذي يقال إنه متمركز في الشمال.
هذا الشق من الأهداف بدا إشكاليا نوعا ما. أو لنقل بدا كذلك في التحليل العسكري التقني البحت، إذ كيف يُمكن لقصف جوي تدمير مجموعات متحركة، يُمكنها التخفي، أو حتى الانتشار بين منازل المدنيين.
"تقع غالبية مخازن السلاح الرئيسية لدى المجموعات المسلحة تحت سطح الأرض، وقد لا يكون هناك من سبيل لتدميرها عبر القصف الجوي دون التسبب في خسائر مدنية، على الرغم من أن هذا التدمير ممكن تماما من الناحية الفنية"
من جهة أخرى، تستخدم هذه المجموعات شبكات من الأنفاق في التنقل بين المناطق، وتخزين الأسلحة، وأمور أخرى.
وفي التجربة السورية، كما يعلم الجميع، فإن مواجهة هذه الأنفاق، قد جرى من خلال حفر أنفاق مضادة، أو عن طريق اقتحامها وتفجيرها من الداخل، أو عبر إغراقها بالمياه، كما حدث في ريفي دمشق وحمص. وفي الأحوال كافة، لم يكن القصف الجوي طريقا لتدميرها.
ومن الزاوية العسكرية، فإن استمرار الأنفاق يعني الاحتفاظ بالأفراد، وغرف العمليات، وصنوف مختلفة من الأسلحة. وهذا يعني ببساطة الاحتفاظ بعناصر الحرب.
وغير بعيد عن قضية الأنفاق، تقع غالبية مخازن السلاح الرئيسية لدى المجموعات المسلحة تحت سطح الأرض، وقد لا يكون هناك من سبيل لتدميرها عبر القصف الجوي دون التسبب في خسائر مدنية، على الرغم من أن هذا التدمير ممكن تماما من الناحية الفنية، إن بالنسبة للطائرات القاذفة أو المتعددة المهام.
وفي الأصل، فإن السيطرة على مخازن الأسلحة أو تدميرها من مسؤولية أسلحة الهندسة والمشاة والقوات الخاصة. وهذا أيضا لا يتحقق إلا بجهد استخباري. أو بعد السيطرة على كامل المنطقة أو البلدة التي توجد فيها هذه المخازن.
أما على صعيد المنشآت الثابتة، الموجودة فوق الأرض، فهي في الغالب منشآت عامة، جرى تغيير وظيفتها من قبل المجموعات المسلحة. وقد تم إخلاء الكثير منها منذ الإعلان عن احتمال شن الغارات الجوية الدولية.
وهناك قضية أخرى ترتبط بعزل أو تشتيت عناصر المجموعات المسلحة المستهدفة. وهذه القضية تحديدا هي التي يجري الحديث عنها على نحو يومي.
والواقع أنه من الصحيح والمنطقي تماما، في المبادئ العسكرية، أن تبدأ أي حملة جوية أو برية بتقطيع أوصال القوات وبعثرتها، وإغلاق الممرات الرئيسية، فيزيائيا أو بالوسائط النارية، وقطع شرايين الإمداد.
وهذا الأمر، ربما تحقق بدرجة ما، لكنه يبقى في إطار نسبي، كوننا بصدد جماعات غير نظامية، تعمل ضمن وحدات صغيرة.
وثمة مسألة ذات صلة أساسية بهذا الأمر، وهي أن مصادر إمداد المجموعات المسلحة عموما مرتبطة باستمرار تواصلها مع دول الجوار، من خلال المعابر والمنافذ التي تسيطر عليها، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية، وهذه الأخيرة منتشرة بالعشرات، مع كل من العراق وتركيا ولبنان والأردن. وكثير منها غير معبد، ولا وجود عمرانيا له، وقد يكون جبليا أو جرديا. وكل من يعيش في سوريا يدرك هذا الأمر، على أي حال.
إن مقاربة موضوع هذه المنافذ ذات طبيعة مركبة، يتقدم بُعدها الأمني الميداني على بُعدها العسكري، وذلك فضلا عن أبعادها السياسية والقانونية. وهي الأصل في الموضوع.
الجيش السوري
ودعونا الآن نطرح السؤال التالي: هل حدث تحول في أنشطة الجيش السوري إثر الغارات الجوية الدولية ضد المجموعات المسلحة المستهدفة؟
ربما ما زال الوقت مبكرا للإجابة على هذا السؤال. ورغم ذلك، ثمة شيء جديد يرتبط بطلعات الطيران الحربي السوري، حيث أدخل في بنك أهدافه، في الفترة الأخيرة، مواقع كثيرة في المحافظات الشرقية. كما كرر في وقت لاحق قصفه لتنظيم "الدولة الإسلامية" في محيط مدينة عين العرب (كوباني)، بريف حلب.
إن تعاظم قصف الطيران السوري لمواقع تنظيم "الدولة الإسلامية" في مناطق الجزيرة قد يكون له علاقة بالتطورات التي حصلت في العراق منذ مطلع يونيو/حزيران الماضي، كونه تزامن معها على نحو واضح.
وقد تواصل هذا القصف منذ ذلك الحين، بالتوازي مع التطورات التي حدثت في الموقف الدولي تجاه نشاط هذا التنظيم في العراق وسوريا. وهنا، حدث ما يُمكن وصفه بانسجام الأمر الواقع بين المسارين السوري والدولي.
وقد تحدثت بعض التقارير عن تنسيق سوري أميركي حول تنظيم "الدولة الإسلامية"، يتم عبر العراق، وربما دول أخرى أيضا. ولكن سواء حدث هذا التنسيق أم لا، فإن تكامل الأمر الواقع قد تم بالفعل. وهذه هي المسألة الأكثر دلالة في الحسابات السياسية.
ويُمكن القول، بهذا المعنى، إن سوريا قد كسبت سياسيا من الحملة الدولية على تنظيم "الدولة الإسلامية".
"يُمكن القول إن الجيش السوري قد استفاد على نحو عام من التطور الجديد في الموقف الدولي، الذي أضعف خصومه، وساهم في تشتيت قدراتهم، على الرغم من عدم تسجيل أي تحول في أولوياته أو خارطة انتشاره"
أما على صعيد المعارك الأرضية، فلا تبدو ثمة صلة بين حركة الجيش السوري والحملة الجوية الدولية، فليس هناك تغيير يُمكن رصده في خارطة الانتشار، أو سلم الأولويات.
وقد يكون الأمر الجديد هو المعارك التي دارت مؤخرا في ريفي دير الزور والحسكة، واستعاد فيها الجيش السوري عددا من البلدات.
أما في أرياف درعا والقنيطرة، حيث يتركز ثقل جماعات أخرى مستهدفة من الحملة الجوية الدولية، فإن معارك الجيش ما زالت على وتيرتها المعتادة.
وحتى "الآن"، لم تستهدف هذه المنطقة من قبل الطيران الدولي، على الرغم من أن الأردن أعلن مرارا ضربه "أهدافا متحركة"، على الحدود. وهذا المسار، قد يتحول لاحقا إلى غارات على أهداف متقدمة في ريف درعا.
وخلافا لحالات التواري -التي قام بها كل من تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" في عدد من المناطق- فإن الوضع في القنيطرة بقي على حاله، حيث ما زالت النصرة تحديدا متمركزة في مواقعها، بما فيها تلك الواقعة على خط الحدود.
وخلاصة، يُمكن القول إن الجيش السوري قد استفاد على نحو عام من التطور الجديد في الموقف الدولي، الذي أضعف خصومه، وساهم في تشتيت قدراتهم، على الرغم من عدم تسجيل أي تحول في أولوياته أو خارطة انتشاره.
المنطقة العازلة
بعد ذلك، فإن السؤال الرئيسي هو: أين تتجه الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا؟
هناك أربعة سيناريوهات لمسار هذه الحملة:
الأول، توسيع التحالف ليشمل أطرافا جديدة. وهذا خاضع لموافقة واشنطن، التي ترفض حتى "الآن" مشاركة دول مثل إيران.
الثاني، إقامة تحالف مواز للتحالف الدولي الراهن تكون ركيزته دول منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم روسيا والصين وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزيا وأوزبكستان، وتتمتع فيها كل من الهند وباكستان وإيران ومنغوليا بوضع مراقب. كما تشارك أفغانستان في عمل المنظمة من خلال ما يعرف بمجموعة "منظمة شنغهاي للتعاون-أفغانستان". ولهذه المنظمة أنشطة أمنية وعسكرية مشتركة، وتنفذ مناورات حربية في أكثر من منطقة.
وفي حال إقامة التحالف الدولي الموازي فستكون سوريا ذاتها جزءا منه.
الثالث، استمرار الوضع الراهن على مدى سنوات، في استعادة للنموذج الباكستاني، ولكن في سياق معزز بقوات على الأرض، قوامها آلاف العناصر المسلحين أميركيا، ممن تزكيهم المعارضة السورية، المصنفة في التقييم الأميركي بالمعتدلة.
وهذه العناصر سوف توكل لها مهمة مزدوجة، هي دحر تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، وإخراجهما من مختلف المناطق السورية، وإدامة الحرب ضد الجيش السوري والقوى الحليفة له، المنتشرة هي الأخرى في معظم المحاور والجبهات.
السيناريو الرابع، يتمثل في اصطدام الولايات المتحدة بسوريا، وحلفائها الروس والإيرانيين، وانتهاء القبول السوري الضمني بالوضع الراهن.
وهنا ستدخل سوريا والمنطقة مرحلة جديدة، تتقدم فيها خيارات وتسقط أخرى، بالضرورة. وقد تتوج بحرب إقليمية لا يُمكن لأحد السيطرة عليها، أو التنبؤ بمساراتها.
وغير بعيد عن ذلك يُمكن اعتبار الدعوة لإقامة منطقة حظر جوي على أية رقعة من سوريا بمثابة مدخل آخر للحرب الإقليمية.
إن فرض منطقة حظر جوي في أي رقعة من العالم، يعني بالمفهوم العسكري منظومة واسعة من الأعمال الحربية. إنه توصيف آخر للعدوان.
وكما منطقة الحظر الجوي، كذلك فإن الدعوة لإقامة منطقة عازلة على جزء من الأراضي السورية تُمثل طريقا سريعا نحو الحرب الشاملة في الشرق الأوسط. إنها ببساطة بمثابة الصاعق الذي سيفجر مخزن الديناميت ويسقط السقف على رؤوس الجميع.
وفكرة المنطقة العازلة هذه ليست بالجديدة تماما، إذ سبق وجرى التداول بشأنها عام 2012، وكان الاقتراح حينها يشير إلى منطقة إعزاز في الشمال السوري.
"يجب التأكيد على أن المقدمات الخاطئة لن تأتي بنتائج صائبة أو مجدية. وأن الحديث عن منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة هو بالضرورة حديث عن التقسيم وقرع لطبول الحرب. وإن أحدا لا يتمنى وضع الشرق الأوسط على طريق حرب جديدة"
وفي العام الماضي طرحت إسرائيل هذه الفكرة، داعية إلى تطبيقها على شريط طولي يقع في الجزء المحرر من الجولان السوري المحتل. وقد طرح الإسرائيليون حينها تفاصيل عسكرية وإدارية كثيرة حول طبيعة هذه المنطقة، التي أريد بها استعادة تجربة مماثلة في جنوب لبنان، دامت من أواخر سبعينيات القرن العشرين حتى الخامس والعشرين من مايو/أيار عام 2000.
وعلى الرغم من ذلك، لم يذهب الإسرائيليون كثيرا خلف هذه الفكرة، بسبب نصائح قيل إنها وصلتهم من دول غربية مختلفة، وكذلك نتيجة لقناعتهم بأن هذا المسار قد يجلب عليهم ويلات، وقد ينتهي بحرب غير محسوبة العواقب.
إن إقامة منطقة عازلة -بقوة الأمر الواقع- على جزء من أراضي دولة ذات سيادة، يُمثل انتهاكا فاضحا وشنيعا لميثاق الأمم المتحدة.
وبالنسبة للوضع السوري الراهن فإن هذه المنطقة قد تكون بداية تقسيم فعلي للدولة السورية الحديثة، تماما كما قسمت بالأمس القريب سوريا الكبرى.
وعلى الصامتين تجاه الخطوة أن يعترفوا صراحة -دونما أية مواربة- بأنهم ضد سيادة الوطن، وضد وحدته الترابية وضد عيشه المشترك، وأن دمشق وقاسيون وبردى لم تعد تعني لهم شيئا، وأن البرغماتية انتهت إلى بيع وضيع للذات والأهل والوطن.
وبعد، ماذا بقي للبيع في سوق السياسة الإقليمية، الكاسد والمهترئ؟
مرة أخرى، يجب التأكيد على أن المقدمات الخاطئة لن تأتي بنتائج صائبة أو مجدية. وأن الحديث عن منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة هو بالضرورة حديث عن التقسيم وقرع لطبول الحرب. وإن أحدا لا يتمنى وضع الشرق الأوسط على طريق حرب جديدة، لأن فيه ما يكفي من الصراعات والأزمات، وشلالات الدم.
إننا نعيش مرحلة انتقالية حساسة وحرجة، ومستقبل هذا الشرق، وأمن مجتمعاته يتوقف على الطريقة التي سوف تدار بها هذه المرحلة، وتلك مسؤولية مشتركة تعني الجميع. والثابت والأكيد في ذلك كله أن أية رهانات خارج منطق الأشياء لن تجلب الأمن والاستقرار لهذه المنطقة وشعوبها.
لماذا حرص تنظيم «داعش» على ترويج فيديو لمقاتليه يرتكبون جريمة رجم امرأة حتى الموت بمشاركة الأب؟ هذا الفيديو سيبقى واحدا من أكثر الفيديوهات بشاعة، وإساءة للمسلمين، وفي نفس الوقت يدلنا، لا على وحشية التنظيم، فهذا أمر سبق تأسيسه، بل على قدرته على البقاء ظاهرا على سطح الإعلام، واستخدام الإعلام الاجتماعي لأغراضه، ودليلا على نجاحه على التفوق، وحصوله على أعلى الموضوعات التي تناقش. لقد حققت بشاعته ما يريده إعلاميا.
هدفه أن يصدم الناس بأقصى، وأقسى ما يمكن من صور لقطع الرؤوس، وقتل المدنيين العزل جماعيا، وملاحقة النساء ورجمهن. لم يسبق حتى لتنظيم القاعدة، الذي قَص شريط العنف المصور، أن تمادى كما يفعل مقاتلو «داعش».
هذا العنف والوحشية لا تباع لعامة الناس للتدليل على شراستهم، إنما ترافق عملية إقناع بأنهم الإسلام الصحيح، وأنهم النظام البديل، وأنهم قادرون على تجنيد المزيد من خلال التحدي، والتغيير، والترويج لتفسيره الخاص بالإسلام. الفيديو الصادم يوضح قدرة المتطرفين على إقناع الأب الجاهل، أنه عندما يرجم ابنته ستذهب بعد قليل إلى الجنة، مطهرة من آثامها، ويستطيعون إقناع الفتاة بالقبول لأنها تكفر عن ذنوبها بقبولها بالقتل رجما.
هذا الفيديو نشره أتباع «داعش» لكنهم لم يحرصوا على الحديث عن ما جرى في مدينة الرقة السورية عندما جمعوا الأهالي في ساحة قرب الملعب البلدي لرجم فتاة صغيرة، إلا أن المواطنين رفضوا المشاركة في الجريمة، حيث رجمها مقاتلون من تنظيم داعش، ومع أن الخبر ظهر من التنظيم، إلا أنه لم يوزع الفيديو، مدركا أن تمرد الأهالي عليه واستنكارهم ليس بالمادة الدعائية المناسبة.
لكن يجب ألا نقلل من نجاح دعايته. فإذا كان التنظيم قادرا على التغرير بالأب وابنته ليرتكبا الجريمة، فليس صعبا عليه إقناع المزيد من الآلاف السذج للالتحاق به أو تأييده ودعمه، عندما يشاهدون أعماله، ويسمعون أقواله. ومع أن السياسيين يتحدثون بلا انقطاع عن ملاحقة المتشددين من الدعاة، ومطاردة الفكر المنحرف، لكن نظرة واحدة على المواقع الاجتماعية وفيديوهات الـ«يوتيوب»، تبين جليا أن المنتصر في المعركة هو «داعش»، وبمسافة بعيدة.
ولم تعد أرض سوريا والعراق الساحة الواعدة لمن يتم تجهيزه للقتال بعد، بل اليمن. فمواجهة الحوثيين هي الصرخة الجديدة لدعوة الشباب للقتال في اليمن، والهدف بطبيعة الحال بناء جيش أكبر في اليمن لتنظيم القاعدة، وفصائله. ولن يكون صعبا التسلل إلى اليمن من الحدود الواسعة، والتضاريس الوعرة، وخاصة أن الدولة في حالة انهيار أو توشك، نتيجة تحالف الرئيس المعزول علي عبد الله صالح مع ميليشيات الحوثيين الموالية لإيران.
لا يفترض أن ننظر إلى «داعش» بمقاييسنا الأخلاقية والدينية، فهي جماعة قررت أن تهز العالم، بأكثر مما فعلته «القاعدة»، وما نراه من أفعال سيستمر لسنين طالما أن الحل دائما يصل متأخرا. فمعظم ذخائر الدول المتحالفة ذهبت لقتال «داعش» في بلدة صغيرة مثل كوباني، فماذا عن مئات المدن والقرى المنتشرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟
الحقيقة، لا توجد جيوش كافية لقتال المتطرفين المنتشرين في أنحاء المنطقة، ولن يقل عددهم مهما اشتد القصف وأصبح أكثر دقة، وذلك بسبب قدرة التنظيم على نشر دعايته وتجنيد المزيد. لهذا فالمعركة خاسرة ما لم توجد نشاطات مكثفة من كل الحكومات لوقف دعاية المتطرفين ومحاسبة المتعاطفين معهم، من «داعش» و«القاعدة» ومتطرفي الإخوان المسلمين، حتى يمكن الوصول إلى مرحلة قطع أوكسجين الدعاية، وخنق التطرف.
توسعت اللعبة الدولية الإقليمية التي تنتج حروباً ومآسي في المنطقة، نتيجة الصراع على النفوذ فيها، وأخذت التعقيدات التي تتسم بها تزيد من تشابك عوامل إدامة هذا الصراع، إذ ينتظر أن يستمر مسلسل تهديد أمن دول كثيرة ووحدتها وحدودها، كما هو حاصل في سورية والعراق واليمن وليبيا، في ظل تهديد أمن الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر، لانعكاسات لعبة الحديد والنار والدماء عليها.
تشابكت الأولويات في المنطقة، من الحرب على «داعش» وغيرها تحت عنوان مكافحة الإرهاب، فيما تتأرجح العلاقات الدولية والإقليمية مع إيران، بين التفاوض على ملفها النووي الذي يبقى من مهلة إنجازه شهر، وبين الصراع معها على تزايد انفلاشها الإقليمي وتدخلها أكثر في التركيبة السياسية والاجتماعية لعدد من الدول تحت عنوان تصدير الثورة.
يسجل المتابعون للعبة الأمم هذه عوامل جديدة دخلت بقوة قد تطيل أمد الصراع في الشرق الأوسط:
1 - أن المتضررين من اتفاق غربي - إيراني على الملف النووي يسعون الى تأخير إنجازه، وهؤلاء يتوزعون بين إسرائيل، وروسيا والصين والمتشددين الإيرانيين، فتل أبيب ليست متأكدة من أن هذا الاتفاق يضمن أمنها، انطلاقاً من السياسة الإيرانية والحدود اللبنانية والسورية. وموسكو تريد الإبقاء على احتمال إغراق واشنطن مجدداً في الحروب الدائرة في المنطقة، طالما الخلاف ما زال قائماً بينها وبين الغرب على أوكرانيا. كذلك بكين التي ترغب بألا يأتيها التركيز الأميركي على النفوذ في منطقة المحيط الهادىء متخففاً من الأزمات العالمية الأخرى، طالما الخلاف ما زال على أشده بين الصين وحلفاء أميركا في تلك المنطقة (اليابان وفيتنام) على ملكية عشرات الجزر الغنية بالنفط والثروات. أما المتشددون الإيرانيون فيخشون من أن يؤدي أي اتفاق الى إضعاف نفوذهم في طهران لمصلحة الرئيس حسن روحاني والإصلاحيين... والفرقاء غير المتحمسين لإنجاز الاتفاق على الملف النووي، يعتمدون على طول نفس المفاوض الإيراني وقدرته على الصمود تمهيداً لإضعاف الخصوم.
2 - ثمة اعتقاد في دوائر ضيقة في الإقليم، أن الغرب والدول المناهضة للنفوذ الإيراني لا تمانع في سياسة التوسع الإيراني في المنطقة طالما أنها لا تهدد حدود دول الخليج، لإغراق طهران بكلفة وأثمان انفلاشها الإقليمي، سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وهذا ما يفسر رد الفعل الخليجي غير الخائف مما حصل في اليمن وقبله العراق، ما دامت القوى الحليفة لطهران والمدعومة منها، تدخل في حرب مع «القاعدة» و «داعش» والإرهاب، كما هو حاصل في اليمن وفي سورية أيضاً. ولعل هذا ما يفسر اكتفاء المسؤولين الخليجيين بإبداء «الأسف» لما يحصل في اليمن مقابل رفع الصوت أكثر حيال التدخل الإيراني في سورية. وفي المقابل، تعتبر طهران ان هذا التوسع الجديد يعزز موقعها التفاوضي مع خصومها الدوليين والإقليميين، ليخففوا من خسائرهم. وهذا ما ينطوي عليه قول روحاني عن احتلال الحوثيين مزيداً من المناطق في اليمن بأنه «جزء من النصر المؤزر والباهر».
3 - إن استعار حرب خفض أسعار النفط بات جزءاً من حلبة الضغوط المتبادلة على الصعيدين الدولي والإقليمي، بما يوحي لخبراء في هذا المجال بأن واشنطن ودول الإقليم أخذت تمعن في اعتماد «القوة الناعمة» في المواجهة الشرسة الدائرة على جبهات عدة، فرفع الانتاج من قبل دول نفطية كبرى مثل المملكة العربية السعودية وانخفاض استيراد بعض الدول لأسباب اقتصادية أو لفائض لديها (مثل أميركا) خفض سعر البرميل الى ما يقارب 80 دولاراً أميركياً بعد أن كان أكثر من 100 دولار العام الماضي، في شكل يؤثر في مداخيل دول مثل روسيا التي احتسبت موازنتها للعام المقبل على أساس المئة دولار، وإيران كذلك. كما يؤثر في الصين التي تتزود بالنفط الإيراني مقابل بضائع ومنتجات تتزود بها منها طهران، التي يعاني اقتصادها أصلاً من العقوبات الاقتصادية الغربية... في اختصار: إذا بقي سعر النفط عند حدود 80 دولاراً، بحسب قول الخبراء، فإن العنصر الاقتصادي يصبح عاملاً مهماً في لعبة الأمم الدائرة.
توحي العوامل الثلاثة المذكورة أننا أمام لعبة الوقت وعض الأصابع. وهي تحمل مخاطر متبادلة في توقع النتائج. وفي الانتظار تبقى دماء السوريين، لا سيما العلويين منهم، والميليشيات العراقية المقاتلة في سورية ومقاتلي «حزب الله» اللبناني، فضلاً عن المغرر بهم من مقاتلي «داعش» في العراق وسورية وغيرهم، وقوداً لتمرير الزمن قبل اتخاذ قادة الدول قراراتهم.
يطرح استمرار الضربات الجوية المكثفة على «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، من دون الحدّ من انتشاره وكبح جماحه والسيطرة على مقدراته التي تساعده في الامتداد والتوسع والاكتساح، يطرح ذلك علامات استفهام كثيرة يحار العقل في الإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تثيرها بقوة.
فهل هذا الأمر الجلل مبيَّتٌ بليل؟ وهل التلازم بين مواصلة شن الضربات الجوية من الطيران الحربي لقوى التحالف الدولي، وبين استيلاء «داعش» على مساحات إضافية من الأرض، خطة مدبرة؟ وهل التركيز على منطقة واحدة دون غيرها من المناطق التي استولى عليها «داعش» ويتحرك فيها، وهي بلدة عين العرب (كوباني) فوق التراب السوري، هو تدبيرٌ متفق عليه لتحقيق هدف لا يزال مجهولاً حتى الآن؟ وهل الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود التحالف بكل قوتها، عاجزة حتى الآن، عن تدمير «داعش»، أو على الأقل تطويقه داخل منطقة محصورة لا يتعداها إلى مناطق أخرى؟ وهل يمكن العقل أن يصدق أنها يبلغ بها العجز وقلة الحيلة إلى هذه الدرجة المحيرة والمثيرة لألف سؤال؟ وهل «داعش» «قوة عظمى» تقصر الإمكانات العسكرية والاستخباراتية المهولة لدى الولايات المتحدة الأميركية، عن احتوائها والسيطرة عليها؟
إن هذه الحرب غير المفهومة والملغومة التي تجري فوق الأراضي العراقية والسورية، تجعل المراقب يشكّك في صدقية السياسة التي تنهجها الولايات المتحدة الأميركية في الإقليم، ويرتاب في واقعية الحسابات التي تعتمدها من أجل الوصول إلى الهدف المعلن حتى الآن، وهو تدمير التنظيم الإرهابي «داعش»، كما يشكّك في الأهداف الخفية من تشكيل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، أو لنقل لمحاربة فصيل واحد من الإرهاب دون فصائل أخرى عدة.
إن من يصف هذا الوضع الغامض بأنه لغز من الألغاز، لا يجانبه الصواب، فهذا الوصف هو أقل مما ينبغي أن يقال عن هذه الحرب التي لا صفة واضحة لها ولا عنواناً معروفاً، ولا هدفاً محدداً. ولذلك يميل المرء إلى القول إن هذه ليست حربنا نحن العرب، فلا مصلحة محققة وملموسة ومباشرة لنا فيها في المدى المنظور، وإن كنا نقف من الإرهاب بكل أشكاله موقف الرفض والإدانة والصمود في وجهه والتصدي له ومحاربته. ولكنها حرب تخوضها الولايات المتحدة الأميركية لمصلحتها الخفية عنا، ولدوافع لا نستطيع الاطمئنان إلى موضوعيتها وصدقيتها وجديتها.
لقد عرفت منطقتنا حروباً عدة، منذ العقد الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم، وعاش العرب أزمات طاحنة وزلازل سياسية وتقلبات عنيفة ومتغيرات حاسمة كانت لها عواقب شديدة التأثير في الحياة العربية على المستويات كافة، سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وفكرياً، وثقافياً. ولكن ما يجري اليوم على الأرض يختلف اختلافا كبيراً عما جرى خلال قرن من الزمن. لقد وجد العرب أنفسهم مجبرين على الاشتراك في التحالف الدولي من دون أن يكونوا على بينة كاملة من الهدف الرئيس الذي يسعون إلى تحقيقه في إطار هذا التحالف الذي سمّي دولياً، وما هو بدولي بالمعنى الدقيق للمصطلح، لأن الدول المشاركة فيه مشاركة فعلية، دول محدودة للغاية، من دون أن يكون هناك غطاء سياسي دولي بقرار واضح وصريح من مجلس الأمن.
أليس ما يجري اليوم في سورية والعراق، وفي اليمن وفي لبنان، وفي ليبيا وفي الصومال، يدعونا إلى التساؤل عما يخطط للعرب، وينفذ ضد مصالحهم، ويدفع بهم نحو المجهول؟ ذلك أن محاربة الإرهاب لا تتم بهذه الطريقة، ولا ينفع أن تسلط الأضواء على بؤرة واحدة للإرهاب، وأن تشن الضربات الجوية على فصيل إرهابي واحد، ولا توقف تمدّده وخطره، وتترك بؤر أخرى عفنة من الإرهاب، تهدد سلامة الجسد العربي، وتعيث فساداً في الأرض العربية، وتصرف أنظار العرب عن متابعة ما يجري في فلسطين المحتلة من عدوان وجرائم ضد الإنسانية، حيث يوجد اليوم المسجد الأقصى في خطر حقيقي محدق به، محاصر له، متربص به، وحيث تتآمر الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية مع إسرائيل لمنع الفلسطينيين من الحصول على قرار من مجلس الأمن لتحديد جدول زمني لقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والنظام الحاكم في سورية يواصل قتل الشعب وتدمير المدن والقرى بوحشية تامة وبدعم روسي وإيراني وتدخّل مباشر لقوات إيرانية وعراقية ولبنانية ومحاربين من جنسيات أخرى مختلفة، وميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران تعيث في اليمن فساداً، ولبنان دولة من دون رئيس، بسبب الإرهاب الذي يمارسه «حزب الله» تنفيذاً للأوامر الصادرة عن النظام الإيراني الطامع في الامتداد من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط، وليبيا غارقة في مستنقع لا أحد يعلم متى الخروج منه، والعرب، على وجه الإجمال، ولا نقول الحصر حتى لا نقع في المبالغة، تائهون في متاهات السياسة الدولية التي فرضت عليهم الدخول في غياهبها؟
لا أحد من العرب اليوم يعرف معرفة مدققة أين نحن ذاهبون؟ الولايات المتحدة الأميركية، والقوى الكبرى، تعرف في أي اتجاه تسير قافلة العرب. والذين يزعمون منا أنهم يعرفون مصير العرب في هذه المرحلة، وفي المراحل المقبلة، ينطبق عليهم المثل «يهرفون بما لا يعرفون».
ألم يحن الوقت بعد ليستيقظ العرب والمسلمون، وليلتفتوا إلى أمورهم، ويصلحوا أحوالهم، ويصححوا الأخطاء التي وقعوا فيها، ويتعاملوا مع الواقع الذي يعيشونه بعيون مفتوحة، وبعقول مفكرة، وبإرادات حرة مستقلة مصممة على بناء الذات، وحماية الوجود، والدفاع عن المصالح العليا، وعن المستقبل؟
سنتكلم هنا عن السياسة وعن الواقع وليس عن الأمنيات .
طالعنا منذ يومين الرئيس التركي أوردوغان عن اقتراحه للجانب الأميركي بالسماح لإدخال 200 مقاتل من أكراد العراق مع سلاحهم الثقيل إلى عين العرب , كوباني.
ولكن ! هل هذا الكلام كان كل الإقتراح ! أم هناك بنود أخرى لم يأتي الرئيس التركي على ذكرها !؟
الأتراك يعلمون تماما أن قيام كيان كردي في جنوب تركيا سيكون سكينا في خاصرتها , كلما أرادت أمريكا أن تزعج تركيا لأي سبب من الأسباب فإن هذا السكين سيقوم بما يتوجب عليه حسب تعليمات الأميركان " نتكلم هنا في الواقع وعن طريقة تفكير الأتراك وكيف ينظرون إلى قيام الكيان الكوردي " .
واستجابة للضغوط وتهدئة للأكراد الأتراك اضطر إلى الإعلان عن السماح بمرور الـ 200 مقاتل كوردي مع أسلحتهم عبر الأراضي التركية .
ولأن أوردوغان وتركيا لن يسمحوا بقيام الكيان الكوردي " طبعا مع ماتحمله مسألة دخول مقاتلين أكراد من أكراد كوردستان العراق إلى عين العرب , كوباني من تواصل بين أكراد العراق وسوريا ومناطق الجنوب التركي ذي الأغلبية الكوردية " .
ليلة الأمس خرج علينا العقيد " عبد الجبار العكيدي " معلنا عن خطط لإرسال 1300 مقاتل من الجيش الحر , وطالب بدعم هؤلاء المقاتلين من قبل الدول الغربية .
بكل تأكيد العقيد العكيدي لايمكنه القيام بهكذا تصريح بدون الإتفاق مع الجانب التركي , خصوصا وأنهم سيدخلون عين العرب , كوباني عبر الأراض التركية .
وعلى الأغلب أن يكون الطرف التركي هو من اقترح هذا الإقتراح على العقيد العكيدي والجيش الحر .
وبهذا تكون تركيا قد منعت الأكراد من الإستفراد بعين العرب , كوباني , وأخرجت هذه السكين من خاصرتها , و "ربما " أمنت دعما عسكريا للجيش الحر ببعض الأسلحة النوعية .
في السياسة لايوجد شيئ نهائي ولاشيئ مؤكد , فهي رمال متحركة .
منذ بدء الثورة السورية، ظهر أن منظور اليسار أضيق من أن يفهم ما يجري، حيث تاه في الفارق بين ما كان يجري التوهم بأنه تموضع النظام السوري عالمياً وحراك الطبقات، التي أخذت تتململ ومن ثم تحاول التغيير، بمعنى أنه فشل في الإجابة على سؤال: هل إن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل يسمح بأن يكون النظام في موقع معاداة الإمبريالية الأميركية، أو أنه انخرط في "العولمة" عبر تطبيق السياسات، التي يفرضها عادةً صندوق النقد الدولي، ومن ثم إن الخلاف مع أميركا خصوصاً هو نتاج اختلاف سياسات، وليس نتيجة تناقض مصالح؟ هذا التكوين الاقتصادي هو الذي كان يؤسس لتفاقم الأزمة المجتمعية، وتراكم الاحتقان، ومن ثم أفضى إلى الثورة، حيث فرضت الفئة الحاكمة تعميم اللبرلة، وتطبيق شروط صندوق النقد الدولي، حتى من دون تفاهم رسمي معه.
عدم الفهم هذا أسَّس لموقف داعم للنظام، انطلاقاً من "الممانعة" التي يبديها تجاه "المخططات الإمبريالية". وبالتالي، كان "المبدأ" الذي يحكم هذا اليسار هو اعتبار الإمبريالية الأميركية العدو الرئيسي، ومن ثم دعم كل من يقف في تعارضٍ، أو تناقضٍ، معها. لكن، لم يصمد هذا المنطق أمام تزايد التعقيد في الواقع السوري، وبات يقود إلى عكس ما بدأ منه. فهذه "البساطة" (أو لنقل السطحية) في التحليل لا تصمد أمام تعقيدات الواقع دائماً.
كانت كل القوى، التي تقف مع النظام السوري ضد الثورة، والتي أسست رؤيتها على "معاداة الإمبريالية"، مع تنظيم القاعدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001، ومع النظام العراقي، ضد الإمبريالية، التي زحفت من أجل احتلال أفغانستان والعراق. وكانت ضد الدور الإيراني في العراق منذ الاحتلال، واتهمتها بأنها عملت عبر ميليشياتها على تدمير العراق، وفرض سيطرة طائفية على السلطة، التي أنشأها الاحتلال الأميركي.
ولقد دعمت تلك القوى الثورات في تونس ومصر واليمن والبحرين، لأنها ضد نظم تابعة للإمبريالية الأميركية، ومن المنظور نفسه، وقفت مع النظام السوري كونها تصنفه "ممانعة" و"مقاومة". وبالتالي، باتت الثورة "مؤامرة إمبريالية" (أميركية)، تنفّذها مجموعات إرهابية أصولية، بدعم سعودي قطري. وكان الحديث يجري عن "الجهاديين" الذين أسسوا تشكيلاتٍ، بعد عام من الثورة، ومنهم جبهة "النصرة"، التي هي فرع للقاعدة، ثم "داعش" التي باتت بديلاً للقاعدة. بمعنى أن الصراع في سورية بالنسبة إليهم بات بين نظام "وطني" و"ممانع" و"الجهاديين" مدعومين من أميركا والسعودية وقطر. هنا، انقلب الموقف من "الجهاديين"، الذين كان يطبّل لهم، حين كانوا "يقاتلون" أميركا (كما كان يجري توهم أنهم يقاتلونها). باتوا العدو، الذي يريد إسقاط نظام "ممانع"، و"يدعم المقاومة"، لكن، هذه المرة، انطلاقاً من أنهم أدوات أميركية. بالتالي، لم يعودوا ضد أميركا، كما جرى التنظير سابقاً، بل أداة بيدها.
"
الموقف الذي تريده السلطة، أصلاً، سيربك (اليسار الممانع) الذي يكسر كل منطقه، الذي كرره طوال سنوات ثلاث عن (المؤامرة الإمبريالية)، وكون (النصرة) و(داعش) أداة المؤامرة
"
الآن، أميركا تحشد ضد "داعش" و"النصرة"، وتؤلف تحالفاً دولياً من أجل هزيمتهما، ولقد بدأت الحرب ضدها، في العراق أولاً، والآن في سورية. بالتالي، يبدو أن "الرابط" الذي جرت الإشارة إليه بين أميركا وداعش لم يعد قائماً، وتقدمت أميركا للحرب ضد داعش، ولقد بدأتها. ما هو الموقف الممكن لكل داعمي النظام السوري، الذين طبلوا لقتال النظام ضد المجموعات الإرهابية، خصوصاً "النصرة" و"داعش"؟ النظام طلب التحالف، فبالنسبة إليه ليست أميركا العدو، لا الرئيسي ولا الثانوي، بل لقد اختلف معها نتيجة "تطاولها"، بالدعوة إلى تغيير شكل السيطرة على السلطة، بالدعوة لحكم "الأغلبية" (بمعناها الديني). وها هو يهلل للحرب "المشتركة" بين القوات الأميركية و"الجيش العربي السوري" ضد الإرهاب.
الفكرة الجوهرية، التي قامت عليها سياسات تلك القوى، أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، وهذا ما جعلها تدعم "الجهاديين" سابقاً. الآن، بعد أن أصبح هؤلاء "الجهاديون" العدو ضد نظام "وطني" و"ممانع"، كيف يمكن أن يستوعب العقل الأحادي الأمر. يقوم هذا العقل على مبدأ إما/ أو، مع/ ضد. الآن يتقاتل "ضدان"، أين سيكون موقفها؟ العودة إلى تأييد "الجهاديين"، أو تغيير كلية الفهم بالتخلي عن أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي؟ في كلا الحالين، سينهار كل المنطق، الذي تأسست المواقف عليه، لأنه يفرض أن يكونوا مع أميركا أو مع "داعش". أن يتخلوا عن أن داعش هي "صنيعة" أميركا، ومن ثم يجري كسر "الممانعة" بالتحالف مع أميركا، أو أن يظلوا متمسكين بـ "الممانعة"، ويكشفوا "تحالفهم" مع "داعش". ميل السلطة هو نحو أميركا، لأن كل خوفها يتمحور حول الخشية من "ضربة أميركية"، كما كان منذ بدء الثورة، ولأنها لعبت بـ"داعش"، من أجل الوصول إلى ذلك. لكن هذا الموقف الذي تريده السلطة، أصلاً، سيربك "اليسار الممانع"، الذي يكسر كل منطقه، الذي كرره طوال سنوات ثلاث عن "المؤامرة الإمبريالية"، وكون "النصرة" و"داعش" أداة المؤامرة.
رسم هؤلاء معادلة بسيطة، تنطلق من: إمبريالية (أميركا)/ ضد إمبريالية، وكان الضد هو السلطة السورية. لهذا، جرى اعتبار ما يجري مؤامرة، وباتت "داعش" (وهي التجسيد العملي لخطاب السلطة، الذي أطلقته منذ اللحظة الأولى) امتداداً لهذه الإمبريالية. لهذا، بات الصراع هو: السلطة/ "داعش" (طبعاً و"النصرة")، ومن ثم باتت الإمبريالية ضد "داعش". يفرض هذا الأمر كسر أحد الخطين هذين، الأول: أميركا/ السلطة، والثاني "داعش"/ السلطة. كما سنرى، انقلبت الأولوية في التحديد من الإمبريالية إلى السلطة، وبات الاختيار بين الإمبريالية أو "داعش".
"
السلطة تتخلى عن ممانعتها بالدعوة إلى تحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها
"
في كلا الحالين، سيظهر أن كل الخطاب، الذي كرره هذا اليسار (وكل خطاب السلطة كذلك)، كخطاب كاذب، لأن المؤامرة كانت تحققها المركب: الإمبريالية/ "داعش". السلطة تتخلى عن ممانعتها بالدعوة إلى تحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها. لكن، ما هو خيار "اليسار الممانع"؟ الوقوف على الحياد؟ وهذا يسقط المنطق، الذي أقاموا كل تصوراتهم عليه، والذي يفرض أن تكون مع طرف ضد الآخر. أو أن يقفوا ضد الطرفين؟ أيضاً، هذا يسقط منطقهم، الذي حرّم على الآخرين اتخاذ موقف ضد "داعش" و"النصرة" وأميركا. وأصلاً، كان يمكن لهم أن يتخذوا هذا الموقف منذ البدء، بحيث لا يكونون إما مع السلطة أو مع الثورة، من خلال رؤية الصراع الطبقي الواقعي وتعقيدات التناقضات العالمية. اللحظة، الآن، تعلن انهيار كل المنظور، الذي أسس هؤلاء مواقفهم عليه، وتوضح كم كانت الشكلية والسطحية مسيطرة، بحيث وضعوا العالم في "معسكرين"، لا غير، وأسسوا كل الصراعات على أساسهما، ليظهر، الآن، تهافت هذا المنظور، وخطل كل تلك المواقف، بحيث باتوا مجبرين عل اتخاذ موقف دمّر أساس منظورهم. ولهذا، وجدنا كيف ينشق "المعسكر" الذي بنوه في الخيال، بين روسيا وإيران وحزب الله، الرافضين التدخل الإمبريالي الأميركي (مثل الإخوان المسلمين السوريين بالضبط)، والسلطة السورية، التي رحبت بـالحرب "المشتركة" ضد الإرهاب. أين سيقفون؟ متاهة تكشف عن هزل التحليل، وانحراف المنطق، وأيضاً غياب الأخلاق.
الأزمة هي في العقل الأحادي نفسه، الذي هو التعبير عن سيادة المنطق الصوري، المغرق في السطحية. والذي يبسط الأمور إلى ثنائيات متعادية، فيتوه حين تتشابك الصراعات، وتتعدد التناقضات. ولأن الواقع متعدد التناقضات، بالضرورة، يلون إلى النهاية. إذن، هنا، سيندثر هذا اليسار "الممانع"، لأنه سقط في الوحل. ثنائيته وسطحيته قادتاه إلى ذلك. لكن، سنسجل أنه لعب دوراً تشويهياً كبيراً، ودافع عن سلطة مافياوية مجرمة، وبرّر لها كل القتل والتدمير، الذي مارسته، وكل الوحشية، التي ظهرت فيها. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا يمكن غفرانه.
1- "دواعش" الكُرد:
يجولون، أفراداً وجماعات، بين سيارات البث الفضائي على الحدود التركية السورية، قبالة مدينة عين العرب "كوباني" وعيونهم تقدح شرراً، ثم ما أن يقف أي مراسل تلفزيوني، أمام الكاميرا، استعداداً لنقل أخبار المعركة المحتدمة هناك، حتى يتحلقوا حوله، ويصوروه، ويسجلوا أقواله، بأجهزتهم الهاتفية، ليترجمها لهم، أحد ما، لاحقاً، ويعودوا، ليحاسبوه على أي كلمة لم تعجبهم، بالاعتداء اللفظي غالباً، والجسدي أحياناً.
هم أكراد غاضبون، بفعل المعركة التي يخوضها بنو جلدتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ويتصرفون بردة فعل متطرفة، نحو العرب، والمسلمين عموماً، ويظنون أن "التشبيح" و"البلطجة" يصلحان أسلوباً لتوجيه وسائل الإعلام.
في حمأة الغضب، ينسى "الشبيحة" الكرد، أو يتناسون، أن "داعش" ليس حزباً قومياً عربياً، كي يعتدوا على العرب انتقاماً منه، ويتجاهلون، أنه يقتل كل من يختلف معه، بلا اعتبار للانتماء القومي، أو الديني، وأن في صفوفه، مقاتلين كرداً، أحدهم، يقود معركة عين العرب، ويقف خلفه مئات المسلحين القادمين من شتى أصقاع الأرض.
الردة الشوفينية الكردية هذه، تنعكس، أيضاً، على مواقع التواصل الاجتماعي، في شبكة الإنترنت، بصراخ هستيري، يتنصل من الإسلام، ويستحضر أساطير الكرد الأولين؛ "نحن أبناء الشمس والنار".
تُرى؛ بماذا كان سيختلف، هؤلاء، عن "الدواعش"، لو أتيحت لهم قوة كقوتها؟ إنهم، يمارسون الإرهاب الأعمى ضد أناس يؤيدون قضيتهم. محامون فاشلون لقضية عادلة، كنت أقول، كلما رأيتهم يتهجمون على الصحافيين، أو قرأت ما يكتبون، وفي ظني، أن ما يحدث مجرد سلوكيات فردية، تسيء لكفاح الكرد القومي التاريخي، من أجل حقهم في تقرير المصير، على أرض وطنهم.
لكن، الأمر أبعد وأخطر، على ما اتضح لي من قرائن أخرى، بينها تجربة تهديد شخصي تعرضت له، واضطرني إلى مغادرة عين العرب؛ فهؤلاء، وباختصار، ينتمون إلى أحزاب كرديةٍ بات قادتها يتصرفون، وفق منطق ميكافيلي، يتناقض مع مبرر وجودها، كقوى ثورية تحررية، وما عادوا يتحرّجون من التنسيق والتعاون الأمني مع نظام بشار الأسد، وبيعه خدمات تضر بالثورة السورية، بينما يتعاون بعض رفاقهم مع إسرائيل نفسها.
2- فتش في عين الغرب:
ما زال تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" يخطف أضواء العالم، أو لعلها هي التي تخطفه، حتى ليبدو كأنه العنوان الوحيد للإرهاب، في هذه المنطقة من العالم، وكأن القوى الأخرى المتصارعة، كلها، حمائم، لا تفعل سوى الغناء للسلام.
نظام بشار الأسد، وحزب الله، وجماعة الحوثي، وكتائب أبو الفضل العباس، وسواهم، يفعلون يومياً مثل الذي يفعل "داعش"، وأكثر. يجتاحون المدن، ويقتلون، ويعذبون الناس. لكن، من دون أن يفاخروا بقطع الرؤوس، أمام الكاميرات، فلا يكترث المجتمع الدولي بجرائمهم الوحشية، ولا يُجيش الجيوش، للحرب عليهم، بل إن الولايات المتحدة الأميركية، ودول أوروبا الغربية، تؤازر، أحياناً، بعض هؤلاء، وأمثالهم، ضد آخرين، وفق ما يتسق مع مصالحها، وطبعاً تحت شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان.
خذ مثلاً، ومرة أخرى، هذا الذي يحدث، الآن، في عين العرب "كوباني"، وكيف أن التحالف الدولي يكرس قوته، لنصرة قوى كردية، كان الغرب يصنّفها، ولا يزال، في قوائم الإرهاب. طائراته تقصف مواقع "داعش"، وتدحر مقاتليه، عن وسط المدينة، ثم تغيب، فيتقدمون من جديد. وبين الكر والفر، تعود لتلقي بالأسلحة، والذخائر، إلى المقاتلين الكرد، من الجو، فيحدث أن تسقط صناديق المساعدات، بالخطأ، بين أيدي مقاتلي "داعش"!
هل قالوا بالخطأ؟ ومن يدري، إن كانت الحقيقة كذلك فعلاً، أو أن المراد إطالة أمد المعركة المستمرة منذ ثمانية وثلاثين يوماً، إلى أن تنجر تركيا إليها، وتتورط في ما يهدد استقرارها. فتش في عين الغرب، قلت على شاشة "الجزيرة"، وأقول، الآن، إن شئت أن ترى، من تكون قرتها التي يجب أن تظل وحدها، آمنة مستقرة، بينما يتفتت كل جوارها، ويقتتل.