قدمت الولايات المتحدة الأميركية سلاحاً للمقاتلين الأكراد في كوباني- عين العرب، ستحاول هذه السطور أن تجيب عن سبب الدعم السريع للمقاتلين الأكراد، في حين ما زالت الولايات المتحدة متردِّدة في تقديم دعم حاسم للمعارضة السوريَّة المسلّحة.
أربَعةُ أسبابٍ أساسيَّة مُتداخلة فيما بينها (مرتَّبة هنا حسب الأهميَّة)، جَعلت مأساة كوباني- عين العرب، تحتلُّ المَنابر الإعلاميَّة ومُقدّمات النّشرات الإخباريَّة، وتثيرُ اهتمام المُجتمع الدولي أكثر من المدن السوريَّة الأخرى التي تتعرض للقصف اليومي بالبراميل والطائرات والأسلحة الثقيلة:
أوّلاً: ثمَّة ميلٌ واضحٌ في الأوساط الغربيَّة، في تعاطفٍ انِتقائي مع قضايا الأقليَّات الإثنيّة والمذهبيَّة في المشرق العربي، ومُحقّةٌ تلك الشكوى من ازدواجيَّة الحساسيَّة الإنسانيَّة الغربيَّة، إذْ أنَّ مجزرة مٌروِّعة إذا ارتُكِبَت بحق عرب السنّة الأرياف، ستكونُ غيرَ قادرةٍ على تحريك ركُود المجتمع الدولي، مثل اقتحام كتائِب جهاديَّة طائفيَّة قرى علويَّة في الساحل السوري، أو اقتحام جبهة النصرة قرية معلولا، ذات الرمزيّة الدينيّة المسيحيّة الآراميّة، أو قرية كسب ذات الغالبيَّة السكانيَّة الأرمنيَّة، أو اقتحام داعش مدينة "كوباني- عين العرب"، حيث الأكثريَّة السكانيّة الكرديَّة. إذن، ثمّة قناعةٌ تبسيطيَّةٌ في الوعي العام الغربي، يسهلُ فيها التّماهي بين الإسلام السنُّي وما يسمّى الإرهاب العالمي.
" ثمَّة خطاب سياسي معارض سوري يفتقر إلى الدقة الصارمة، بخصوص الفرز الحاسم تجاه الكتائب الإسلامية الجهادية المقاتلة "
ثانياً: الأداءُ السياسي الركيك والمبتذل للمعارضة السياسيَّة السوريَّة، والمواقف المتخبّطِة وغير المدروسة تجاه التنظيمات الجهاديَّة المتطرّفة. رجل دينٍ معروفٌ باعتداله، مثلاً، أشادَ أكثر من مرّة بنضال رجال جبهة النصرة، وأعضاء في المجلس الوطني السوري كانوا يعتبرون "جبهة النصرة جزءاً أساسيَّاً من الثورة السوريَّة". طبعاً، لا يهمُّ إن كانت جزءاً أم لا، لكن الحديث، هنا، عن المراهقة السياسيَّة وعدم معرفة مخاطبة الرأي العام الغربي، كما أنَّ الحدود، حتّى الآن، غير واضحة، والعلاقات غامضة بين جماعات سياسيَّة كثيرة داخل المعارضة، والتنظيمات الجهادية داخل سورية. إذن، ثمَّة خطاب سياسي معارض سوري يفتقر إلى الدقة الصارمة، بخصوص الفرز الحاسم تجاه الكتائب الإسلامية الجهادية المقاتلة.
ثالثاً: عددُ الأكراد الضخم في أوروبا، وخبرتُهم في التّنظيم والاحتِجاج والتّواصل، وتَشكِيل شبكات تنسيق اجتماعي وتكافُل أهليّ ضخمة، بالإضافة إلى معرفة ساحات الاحتجاج العامة، وقنوات التأثير في مراكز القرار السياسي الحسَّاسة، وصياغةُ خطابٍ معقول موجَّه إلى الرأي العام الغربي. المأساةُ هي مُنتج، ويحصلُ التعاطف معها، في حال وجود خبرة في إدارة هذا المنتج وتسويقه، والتسويق السيئ كافٍ لتدمير المنتج الممتاز. مثلاً، خرجت عشرات المظاهرات في الدول الأوروبيَّة من أجل كوباني، في حين لم تستطع الثورة السوريَّة أن تجمع في أوروبا أو في الدول العربية المُجاورة أكثر من ألف إنسان، علماً أنَّ رسوماً كاريكاتورية مسيئة للإسلام لفنَّان مَغمور أمرٌ كافٍ لاندلاع مظاهرات مليونيَّة في كل الدول الإسلامية.
رابعاً: الإخلاص الواضح في العلاقة التاريخيَّة بين الولايات المتحدة والأكراد، والتجربة العراقيَّة مثالٌ حيّ وواقعي، لا عُقد مُمانعاتيَّة، أو ثقافيَّة، من قبيل "استعمار" أو "إمبرياليَّة". العلاقة الكرديَّة الأميركيَّة هي علاقة مَصلحة واضحة، لا لبسَ فيها ولا غموض. وجدير بالذكر، في هذه المناسبة، أنَّ سلاحاً أعطته الولايات المتّحدة للجيش العراقي أصبح بيد داعش، بعدما هرب الجيش العراقي من الموصل، وترك كلّ أسلحته، في عملية انسحاب غامضة ومفاجئة، تتهم إيران بتسهيلها وتشجيعها، وذلك لتقوية نفوذ "داعش" والتشويش على مسألة بشار الأسد. وهنالك سهولة في تحوُّل تيارات الإسلام السياسي من سلفيَّة إلى جهاديَّة إلى قاعديَّة. إذن، من حق الولايات المتحدة أن تسلِّح الأكراد بثقة أكبر من تسليح باقي الفصائل العربية أو الإسلامية المقاتلة.
التجربة الكردية في التعامل مع الولايات المتحدة، والبراعة في تسويق القضايا، وحشد الرأي العام، العالمي والمحلي، يجب أن تكون درساً إعلامياً وسياسياً للمعارضة السورية. ولكن، ما يحصل، الآن، هو الآتي: فشل في تسويق المأساة السورية، وتنديد بنجاح الأكراد في تسويق مأساة كوباني، والتي هي، بلا شك، جزء من المأساة السورية.
يمر اسم خان الشيح في وسائل الإعلام، في معرض الحديث عن المناطق التي يستهدفها الجيش السوري في ريف دمشق، من دون إيضاحات عن هويته، وما حدث فيه ويحدث. وقلما يشار إلى أنه مخيم للاجئين الفلسطينيين، وفيما ينال مخيم اليرموك حظاً وافياً من التغطية الإعلامية والاهتمام السياسي، يُذكر خان الشيح على أنه مجرد بلدة في الغوطة الغربية.
وإذا كان إعلام "الممانعة" حريصاً على عدم الإشارة إلى خان الشيح مخيماً فلسطينياً، وهو الإعلام الذي يتلطّى دوماً خلف يافطات تبنّي القضية الفلسطينية ودعم المقاومة، فإن الإعلام المعارض لا يزيد عن التعامل معه كمنطقة جغرافية. ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينيتان لا تذكرانه، بتاتاً، في بياناتها، ولا حتى التنظيمات الفلسطينية غير المنضوية في المنظمة، أو المشاركة في السلطة، على اختلاف توجهاتها.
وتسليط الضوء على ما يحدث في خان الشيح مهمة ضرورية، لأهميته على خارطة المخيمات الفلسطينية في سورية، ولجسامة ما حدث ويحدث فيه. هو أحد أقدم المخيمات الفلسطينية في سورية، ومن أكبرها. أقيم عام 1948، غالبية سكانه من عشائر الجليل الأعلى، (25 كيلومتراً جنوب غرب دمشق)، ويبعد عن فلسطين المحتلة 60 كيلومتراً، يزيد عدد سكانه على 22 ألفاً، جلهم من الفلسطينيين، خلافاً لمخيمات يكاد يشكل السوريون نصف سكانها.
يعمل أهالي خان الشيح في الزراعة والتجارة والأعمال الحرة، مع نسبة تعليم وازنة، وقد انتسب أبناؤه إلى الفصائل الفلسطينية منذ نشأتها، وكان لحركة فتح نصيب الأسد من المناصرين، في حين شهدت السنوات الأخيرة حضوراً متنامياً لحركة حماس. واستشهد كثيرون من أبناء المخيم في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، من أبرزهم الضابط في جيش التحرير الفلسطيني، العميد عطية عوض، أحد أبطال التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي اعتقله نظام الأسد الأب، في خضم الصراع مع قيادة منظمة التحرير في تلك المرحلة، من دون أن يكشف عن مصيره حتى الآن.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 ، بقي المخيم بعيداً عن الأحداث، فيما شهدت مناطق قريبة منه تظاهرات مناوئة للنظام، مثل جديدة عرطوز وعرطوز وقطنا وكناكر، إلا أن خان الشيح فقد سبعة من شبابه، استشهدوا برصاص الجيش الإسرائيلي، في مسيرتي العودة في ذكرى النكبة وذكرى النكسة في العام نفسه على الشريط الحدودي مع الجولان السوري المحتل. ومع انتقال الثورة إلى الطور المسلح، استقبل المخيم نازحين من المناطق المجاورة، ليشهد في صيف 2012 موجة نزوح كبيرة، تكاد تعادل نصف سكانه، إثر عمليات عسكرية في منطقة جنوب دمشق، ليستقبل في المدارس والبيوت والمزارع عائلات من اليرموك والحجر الأسود وسبينة والسيدة زينب. تلا ذلك أول وجود للجيش النظامي في المخيم، عبر نصب حاجز وتمركز دبابات وجنود وسط شارعه الرئيسي، وكانت مناطق قريبة قد بدأت تشهد نشاطاً عسكرياً، اعتمد على نازحي الجولان السوري المحتل، كما دخلت فصائل إسلامية في العمليات العسكرية التي كانت ترتكز على مهاجمة حواجز الجيش ونقاطه الثابتة.
" لم يمض وقت طويل، حتى بدأ المخيم يتعرض للقصف العشوائي الذي أسفر عن سقوط ضحايا ودمار وحركة نزوح متدرجة من داخله "
مطلع عام 2013، وبعد عمليات مباغتة للمعارضة المسلحة، انسحب الجيش السوري من المخيم، وشهدت المواقع العسكرية المجاورة هجمات للمعارضة، ما أدى إلى إغلاق طريق خان الشيح، واعتماد السكان على أوتوستراد السلام الموازي في تنقلاتهم. لم يمض وقت طويل، حتى بدأ المخيم يتعرض للقصف العشوائي الذي أسفر عن سقوط ضحايا ودمار وحركة نزوح متدرجة من داخله. وبعد أشهر قليلة، كان ثلاثة أرباع سكان خان الشيح قد غادروه، مع تطور قصف النظام، ليعتمد على إلقاء البراميل المتفجرة من الطائرات بصورة رئيسية، وقد طال هذا القصف الأموات بعد الأحياء، حين استهدفت المقبرة الغربية للمخيم، ما أدى إلى تحطم الشواهد ونبش القبور.
ربما كان خان الشيح من أكثر المواقع التي تتعرض للقصف بالبراميل المتفجرة في الأراضي السورية، وتبدو هذه الوحشية مستغربة، مع بقعة هي ليست من معاقل المعارضة المسلحة المهمة، ولا تملك أهمية استراتيجية. أدى هذا القصف العشوائي البربري إلى سقوط عشرات القتلى من المدنيين، وإلحاق دمار كبير في العمران، وخفف من وقع هذا القصف الطبيعة المنبسطة غير المكتظة للمخيم، وخلو أبنية كثيرة من السكان.
لم يتعرض خان الشيح لحصار فعلي، لكن النظام أغلق طريق أوتوستراد السلام في وجه أبناء المخيم، وهم الذين كانوا يعانون الأمرين من حواجز هذا الطريق، بدءاً من الإذلال إلى الاعتقال والموت تحت التعذيب (بلغ عدد القتلى تحت التعذيب من أبناء المخيم عشرات) إلى إطلاق النار العشوائي على السيارات العامة والخاصة، وما يسفر عنه ذلك من سقوط قتلى، أحياناً. وحين لجأ أهالي المخيم، أو من بقي منهم، إلى استخدام طريق بلدة زاكية الأطول، صارت حافلات نقل الركاب تتعرض لإطلاق النار والقصف من حواجز النظام التي واصلت عمليات الاعتقال التي لم توفر النساء وكبار السن.
لم يعرف خان الشيح تشكيل ميليشيات مسلحة موالية للنظام، كما حصل في مخيم اليرموك، كما لم ينخرط أبناؤه في كتائب المعارضة، وحافظ على حياد إيجابي، إلا أنه لم يسلم، أيضاً، من ممارسات عناصر غير منضبطة من الجيش السوري الحر، بدءاً بأعمال السلب والنهب، وانتهاءً بالمضايقات، وصولاً إلى تصفيات جسدية.
ليس لمخيم خان الشيح أهمية استراتيجية في العمليات العسكرية، فهو بعيد عن العاصمة، وما من مواقع عسكرية رئيسية فيه. ولم يكن يشكل تهديداً لأحد، كما أنه ليس طريق عبور لمقاتلي القنيطرة ودرعا نحو الغوطة الغربية، ولم تأت السيطرة عليه، في سياق خطةٍ عسكرية مدروسة، فبلدة دروشا المجاورة له بيد النظام، تليها بلدات أخرى جميعها بيد النظام، ولا تشكل حالياً بيئة حاضنة للمعارضة المسلحة، وصولاً إلى دمشق، وما من تواصل جغرافي مع المعقلين الأساسيين للمعارضة في داريا والمعضمية التي وقعت اتفاق مصالحة أخيراً، مع الإشارة إلى أن إمكانية التوصل إلى هدنة مع النظام، في خان الشيح، ضعيفة، كون المقاتلين المنتشرين فيه لا ينتمون إليه.
مخيم كان قائماً في خان الشيح في سبيله إلى الاندثار، معظم سكانه غادروه، لا إلى مناطق أكثر أمناً في دمشق ومحيطها فحسب، فهذه مجرد محطة، هناك من توجه إلى لبنان مؤقتاً، لكن النسبة الأكبر، وخصوصاً الشباب، تسلك طرق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، بمراكب الموت أو على دروب الاعتقال، وفيما يتحطم مجتمع بكامله، لا نسمع صوتاً يدين، أو يوجه نداء استغاثة، لا من المنظمات الدولية والإنسانية، ولا من المعارضة السورية، ولا من "الممثل الشرعي الوحيد".
بعد تدخل الولايات المتحدة عسكرياً لحماية بشار الأسد من السقوط، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، وبعد تشكيل تحالف لهذا الغرض بمشاركة عدد كبير من دول ما يسمى أصدقاء سوريا، انتقل «المجتمع الدولي» إلى مرحلة جديدة من عقاب الشعب السوري على ثورته ضد الديكتاتورية العميلة في دمشق، وذلك بإصدار قرار لا يقل شناعة عن جرائم بشار الأسد، بتقليص المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين، بحيث سيؤثر القرار سلباً على أربعة ملايين شخص تقريباً.
كما لم تتأخر أميركا بقصفها للمدن السورية، لم تتأخر الأمم المتحدة في إجراءاتها العقابية للشعب السوري، فقد بدأت بالفعل في منتصف الشهر الجاري بتخفيض المساعدات الغذائية بنسبة %40 وقالت «إليزابيث راسموسن» المديرة المساعدة لبرنامج الأغذية العالمي «لقد بدأنا بتقليص المساعدة الغذائية هذا الشهر، وإن برنامج الأغذية العالمي سيواصل توزيع المساعدات الغذائية على العدد نفسه من الأشخاص، لكن الكمية ستخفض بسبب التمويل غير الكافي».
في الأردن ادعت «جويل عيد» أن مؤسستها قامت بدراسة أوضاع الأسر السورية، وأن الدراسة حددت المستحقين الفعليين لمساعدات برنامجها، كما سيتم تخفيض المعونة في لبنان بنسبة تتراوح ما بين 20 إلى %30، بينما حرم اللاجئون في تركيا من المساعدات بشكل كامل.
كل ذلك ولم يقم الائتلاف الوطني السوري بأي تصرف من شأنه أن يرفع الحيف عن اللاجئين السوريين، واقتصر الأمر على مجرد تصريح هزيل لنصر الحريري أمين عام الائتلاف حيث انتقد القرار الجديد ووصفه «باللاواقعي» ودعا الحريري إلى إعادة النظر بالقرار.
لم يصدر أي بيان رسمي عن الائتلاف بشجب القرار السابق، والتذكير بالالتزامات الأخلاقية والقانونية للأمم المتحدة تجاه الشعب السوري، أو الطلب إلى «أصدقاء سوريا» بزيادة المخصصات الغذائية والمالية للمحتاجين. حتى إن هادي البحرة رئيس الائتلاف، دعا أصدقاء الشعب السوري إلى مساعدة السوريين في مخيمات اللجوء دون أن يتطرق بشكل مباشر للقرار الجائر الذي اتخذه «المجتمع الدولي» بحق من يدعي «البحرة» تمثيلهم.
كنا نتوقع، ولو فقط لتبييض الوجه أمام الإعلام أن يدعو «البحرة» إلى اجتماع عاجل لأعضاء الائتلاف لتدارس الكارثة الإنسانية التي ستحل بالسوريين، خاصة على أبواب الشتاء. وأن توجه المعارضة رسائل رسمية للأمم المتحدة وأمينها العام وبرنامج الغذاء العالمي، ورؤساء دول أصدقاء سوريا جميعهم وتطالبهم بتوضيح القرار بشفافية وأن يشرحوا للشعب السوري كيف نقصت المساعدات المالية لبرنامج الغذاء، ومن المسؤول عن ذلك.
كما توقعنا أن يطير رئيس الائتلاف أو على الأقل العضوان محمد قداح ونصر الحريري إلى الأردن للتضامن مع اثني عشر ألف عائلة طالها القرار الجديد، فحرمهم من الغذاء والدواء. وقد ذكرت العضوين السابقين بالاسم كونهما يدعيان تمثيل درعا في الائتلاف، حيث يسكن معظم مهجري حوران في الأردن.
كما توقعنا أن يتنازل أعضاء الائتلاف جميعهم عن جزء من راتبهم للاجئين السوريين في المخيمات كإشارة رمزية لدول العالم الناقمة على الفقراء السوريين. وتوقعنا أن يستأجر الائتلاف استديو تلفزيونيا لمدة يوم أو يومين ويستقبل فيه تبرعات الشعوب العربية والإسلامية وكل أولئك المتضامنين، وتوجيهها إلى المخيمات. شيئاً من ذلك لم يحدث، وربما لن يحدث، ولم يخجل أعضاء الائتلاف من كل تلك الصفحات والمبادرات التي أطلقها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لمساعدة اللاجئين السوريين، خاصة في الأردن. ومع ذلك فهم يصرون على تمثيلنا وإنا لكارهون.
منذ أسابيع، والقادة السياسيون والأمنيون من أميركا والتحالف يتحفوننا بتصريحات يومية مفادها أن الضربات الجوية لن تكون كافية للقضاء على تنظيم الدولة، فيما خرج آخرون يتحدثون عن تقدم للتنظيم في العراق رغم تلك الضربات، وصولا إلى تهديهم للعاصمة بغداد.
وإذا كان الوضع في العراق بذلك المستوى من البؤس رغم وجود جيش عراقي، ومن ورائه ميليشيات شيعية جرى تجميعها عبر عمليات حشد طائفية غير مسبوقة، فكيف سيكون الحال في سوريا فيما عدا مسألة عين العرب أو كوباني التي تتعثر سيطرة تنظيم الدولة عليها؛ أولا بسبب شراسة القصف الأميركي، وثانيا بسبب الأكراد المدافعين عنها، والذين يقاتلون بطريقة شبه عقائدية أيضا.
نقول ذلك؛ أولا لأن أحدا في سوريا لن يتورط في قتال تنظيم الدولة، باستثناء حفنة غير مؤثرة، وبالطبع لأن الموقف الأميركي لم يعد يتردد في القول إن تغيير بشار الأسد ليس أولوية الآن (لن يكون كذلك في يوم من الأيام كما يبدو)، وثانيا لأن العرب السنّة في العراق باستثناء قلة لا تبدو في وارد قتال تنظيم الدولة أيضا، بينما يكرر حيدر العبادي خطاب المالكي وسلوكه في آن، وبينما تتحدث المنظمات الحقوقية الدولية عن حملة قمع بالغة الشراسة تقوم بها المنظمات الشيعية ضد العرب السنّة؛ قتلا وتهجيرا في المناطق التي يدخلونها.
من هنا تبدو الحرب طويلة الأمد، إذ يدرك الجميع أنه من دون قوات برية تتحرك على الأرض، فلن يكون هناك انتصار يذكر على تنظيم الدولة، أو الدولة الإسلامية، لاسيَّما أننا إزاء حالة تجمع ما بين الدولة والتنظيم، ولا تبدو معنية بالبنى التحتية، ولا بأية خسائر أخرى، وهي تقاتل قتالا لا تراجع فيه على الإطلاق. الأهم من ذلك أن قتال التنظيم ضد أميركا وإيران في آن، بات يمنحه رغم الأخطاء الكبيرة في الممارسات شعبية كبيرة في أوساط الجماهير الإسلامية، فيما يتدفق عليه المزيد من المقاتلين، بما في ذلك من الغرب نفسه. ولا يختلف عاقلان على أن أميركا عدو كبير للأمة، فيما وضعت إيران نفسها في مربع عداء يتقدم حتى على أميركا عند كثيرين، لاسيَّما بعد غطرستها الجديدة في اليمن بعد سوريا والعراق. هكذا يخوض أوباما حربا صعبة، لا يملك معها إلا الخروج بين حين وآخر، هو ومساعدوه ليقولوا إنها ستكون طويلة، في محاولة لتبرير الفشل في الحسم، وحين يجتمع بقادة عسكريين من 22 دولة، فهو لا يملك ما يقوله في واقع الحال، ما يعني أنه قد يضطر بمرور الوقت إلى التورط البري، وهذا سيكون محدودا على نحو يزيد الخسائر ويعزز التورط، ويؤدي إلى أن يترك أوباما لخلفه مصيبة كبيرة، كتلك التي تركها له جورج بوش بحماقاته الشهيرة.
وفي حين يبدو أوباما في ورطة عميقة، فإن إيران ليست في وضع أفضل، إذ تضيف إلى نزيفها في العراق وسوريا نزيفا جديدا لا يقل سوءا في اليمن، والذي ستكون كلفة الانتصار فيه باهظة (أعني لجهة الحفاظ عليه)، وسيتكرر سيناريو العراق، حيث سيمنح الشعب اليمني المهان بغطرسة الحوثيين حاضنة شعبية للقاعدة وأي أحد يحمل السلاح ضد الحوثيين. والنتيجة أن هذه الحرب ستطول وتطول، ومن دون صفقة إقليمية تعود إيران من خلالها إلى الرشد وتقبل بتسوية الوضع في سوريا والعراق واليمن ولبنان، فإن نزيفها سيتواصل، ويبدو أنه سيتواصل بالفعل حتى لو نجح التحالف الدولي في ضرب التنظيم في صيغته كدولة، لأن رحلة العودة إلى الرشد (في حالة إيران) لا تبدو قريبة كما يشير الخطاب المتداول، مع أن كلام نائب نصرالله عن «تنازلات مؤلمة» يعكس لغة جديدة تنطوي على نبرة يأس، وأقله تعب، لم نعهدها من التحالف الإيراني.
مأساة كبيرة تدفع الأمة ثمنها من أبنائها ومقدراتها، لكنها معركة فرضت عليها، بل فرضتها الغطرسة الإيرانية التي رفعت في البداية شعار المقاومة، فيما هي تستجدي الآن الغرب من أجل بشار، كما عكس ذلك تصريح عبداللهيان (الفضيحة) الذي سكت عنه أدعياء الممانعة، والذي قال فيه إن سقوط الأسد يعني «القضاء على أمن إسرائيل».
لا أحد بوسعه التكهن بتفاصيل المشهد التالي، إذ إننا أمام حرب خلطت جميع الأوراق، والسبب أننا إزاء أمة أرادت أن تصحو وتستعيد حريتها وتحررها، فما لبثت أن ووجهت بأنظمة الثورة المضادة، وبأميركا وبإيران في آن معا، لكن الخاتمة ستكون خيرا، وإن طالت المعاناة وكثرت التضحيات، لأن الشعوب الحرة ما تلبث أن تفرض إرادتها بمرور الوقت.
من يَشتري بالحديد يُباع بالقضامي
يسمي هنري كيسينجر ذلك "دورة الأخبار" أو دوّامتها. والأصحّ إعصارها. أسبوع وأنت في كل حواسك تخشى سقوط حلب ثم تفيق في اليوم التالي فإذا التي سقطت هي صنعاء. ولكن، مَن يهمّه أمر صنعاء، ومَن يعرف على وجه الضبط أين تقع، ومَن يعرف إذا كان الحوثيون شيعة أم سنَّة، زُيوداً أم شواقع؟
لا يهم. سوف تَعرف. ينبغي عليك أن تعرف. هذه البقعة من الأرض التي لم تستطع أن تتوحّد في ألف عام، تتشقّق الآن في ألف يوم. تتّحد في التفكك. ولم يعد شيء بعيداً في هذه البقع والبقاع. "داعش" في بريتال و"المنار" تنقل مؤتمر عبدالملك الحوثي بالبث المباشر. ولا رئيس في بعبدا، ولا حكومة في صنعاء، ولا مجلس شعب في مصر، ولا جيش في ليبيا، ولا اطمئنان في أي مكان.
دوامة الأخبار محصورة في هذه البقاع، وليست "أوكرانيا" سوى حفلة جانبية على الهامش side-show لا يتذكرها أحد. ليس الآن. فالآن، روسيا غائبة عن السمع، لم تتبلّغ بعد أن الطائرات الأميركية حلّقت فوق سيادة سوريا والعراق مئات المرات، فيما تمضي "داعش" في توسيع دولة الخلافة صعوداً نحو جبال الأكراد التي كانت تُسمى في الماضي شمال العراق، وفيما تتنزّه "جبهة النصرة" في الجولان.
يقول كيسينجر، وهو يُنهي عامه الحادي والتسعين بكتاب آخر "النظام العالمي"، ان دوّامة الأخبار المتسارعة لا تترك للسياسيين اليوم فرصة التأمّل والتعمّق. ولا للصحافيين والكتّاب. قرأت في الأسابيع الاخيرة أكثر من 20 توقُّعاً متناقضاً لمجرى الأحداث، غالباً في صحيفة واحدة. لم يصحّ أي منها. التوقُّعات عن الرئاسة أشعرتنا بالانقباض. لاحَقَت الصحافة السياسيين، والسياسيون لاحقوا الدوّامة، والدوّامة دارت في مكانها.
تهترئ أعصاب الناس ويشعرون بذلٍّ عميق، كأنما الخوف لا يكفي، ولا القلق، ولا الإرهاب.
أخجل بالقول إنني أكتب من جنيف، ضرّتها بيروت ذات زمن، وتوأم باريس في الشرق. ليس هناك من زعماء هنا، ولكن هناك حياة سياسية شبه كاملة. نحن عندنا أحزاب كثيرة ولا شبَه لحياة سياسية. لدينا دستور لا يُحكم به ولا يُحتكم إليه. لدينا سياسيون بوَفرة ورجال الدولة كم هُم قلائل. لاهون والدنيا من حولنا تنزاح، والخرائط تهترئ، والمجهول ينعق كالغراب على الأعتاب والأبواب والحدود.
هذه الحالات القصوى في حاجة إلى رجال رؤية. رجل الدولة يفكّر لقرن ويخطّط لنصف قرن. وكلاهما عهده ويومه. رجل السياسة لا يرى سوى لحظته وأنَاه.
نحن نحترق. كل شيء نُحرقه. الكلام عن المستقبل صار إهانة. والدعوة إلى المصالحة صارت "أبو ملحم". والتفكير في الفقراء والبسطاء والعاديين صار سخافة. أرجو ألا يخطر لجنابك أنني سوف أقارن مع سويسرا لمجرد أنني أرى كيف يعيش البشر، وأنهم يختلفون على اقتلاع شجرة أو ارتفاع مبنى. صحيح أنني لم أزل ساذجاً، لكنني تخطَّيت المراهقة الفكرية. وصرت أعرف أنه عندما كان يُقال إن "لبنان هو سويسرا الشرق"، أنه يحمل لعنة الشرق إلى الأبد. وأنه مجرد جزء عالي الجبال كثير الأنهار، من "المسألة الشرقية". سوف ينتهي الشرق، أما "المسألة الشرقية" فانظر إلى كوباني. انظر إلى حلب. انظر إلى الموصل وجوار بغداد. وإلى سائر المشرق.
العالم الحاضر خال من السياسيين الأُلى. لا غلادستون أو دزرائيللي كما في القرن التاسع عشر، ولا دين أتشيسون أو جورج مارشال، كما في القرن العشرين، يقول كيسينجر. تعلّم لبنان من فرنسا الانتدابية، لأن يكون وزير الخارجية واجهة الدولة، مثلما رئيس الوزراء واجهة الحكومة. فالأول يمثّل الثوابت، والثاني يُدير التحولات ويُسايس المصاعب.
يروي المؤرّخ الفرنسي جان لاكوتور أنه كان في حفل استقبال عندما وصل موريس كوف دو مورفيل، وقال له: "لن تصدّق هذا يا لاكوتور. لقد عُيِّنت منذ ساعة وزيراً للخارجية". أحد أقرب رجال ديغول ونبلاء فرنسا، لا يصدق أنه مُنح الكي دورسيه، كرسي الكاردينال دو ريشوليو ومهمات تاليران وألفونس دو لا مارتين (ذاته) وريمون بوانكاريه وسواهم.
يعبِّر كيسينجر عن ندَمه لقوله مرة: "يجب أن نطرد الاتحاد السوفياتي من الشرق الأوسط". يقول ان الفكرة، أو النيّة، لم تكن خطأ على الإطلاق، الخطأ كان في الإباحة بها وفي طريقة التعبير. إذا كان ثُلثا السياسة تغافُلا وثُلثها فِطنة كما قال معاوية، فإن ثُلثي الديبلوماسية صياغة. لا ماذا تقول، بل كيف تقوله. لذلك، لكل مؤتمر لجنة صياغة، ولذلك سُمّيت صناعة الذهب صياغة. نال إدوارد سعيد تقديراً لا بدّ أنه يستحقه لكتابه "الاستشراق"، لكن البروفسور المأخوذ بحميّة القضية الفلسطينية وظلاماتها، أهمل إيجابيات البحوث الاستشراقية. وها نحن نتذكر اليوم – إذا كنا قد نسينا – كتابات جاك بيرك عن تحريم الانتحار في الإسلام والنزعة الانتحارية عند المسلمين. أمَّة تطلب الحياة بالانتحار، والجنّة بالقتل.
هل هناك تسمية أخرى لما يحدث اليوم، من حدود تركيا الشمالية إلى حدود لبنان الشرقية؟ لم تُوقظ الأحداث الفتنة، فهي تظاهرت بالنوم. لكنها أيقظت المسألة الشرقية حفرة حفرة وكهفاً كهفاً. وكان الأستاذ فاروق الشرع يشير إلينا بشيء من الامتعاض ويقول "يجب حل المسألة اللبنانية أولاً". أنت سيّد العارفين، ردّ الله غُربتك. تعقيدات "المسألة اللبنانية" لا تُقاس بالمسألة السورية والمسألة العراقية ولا خصوصاً بالمسألة التركية. "كلنا في الهمّ شرق"، على ما قال أميرنا شوقي. الصناعات الأخرى يمكن أن تسمّيها أي شيء. حدادة، بويا.
يقول كيسينجر ان أول ما خطَر له عندما سمع بنبأ مهاجمة برج التجارة أن الذين دبّروا الهجوم هم منظمات المخدّرات في أميركا الجنوبية: "لكن عندما عرفت بالطابع الانتحاري للهجوم، أدركت أنهم من الشرق الأوسط". طالما اتهمنا المستشرقين بالعمالة لأنهم حاولوا إطلاعنا على حقائقنا وكشف طباعنا.
فجّرت سوريا "المسألة الشرقية" في منطقة مرَّت بها إمبراطوريات الزمان. أرض شاسعة من اليابسة والبحار والأنهار، وحَّدت الله وفرّقت الناس إلى أديان ومذاهب ومِلل ونِحل وأعراق وأنساب وأفخاذ ولهجات وجيم تميم وجيم مصر.
كان عبدالله القصيمي صاحب عناوين كثيرة تُستعار دائماً في وصف الأهوال والأحوال، منها "العرب ظاهرة صوتية" و"العالم ليس عقلاً" ومنها أيضا قوله: "كان وضع العرب عجيباً محرجاً. فهم لا يقدرون على الانفصال عن الماضي أو التنكّر له، ولا يقدرون كذلك، على أن ينفصلوا عن الحياة. والحياة والماضي لا يجتمعان في الزمن، فظلّوا معلّقين في الجسر المعلّق بينهما".
الأمة معلّقة اليوم. عواصم فقَدت حكوماتها، وأوطان فقَدت دولها، ومجتمعات فقَدت حياتها المدنية وقوانينها. إيران في باب المندب من طريق صنعاء، وتشيِّع واحداً من كبار ضباطها في دمشق. والتحالف الدولي يقصف جواً في سوريا والعراق، فيما تلتقط الدبابات التركية خلف الحدود، الأنفاس والصوَر التذكارية.
قال الرئيس حسني مبارك ثم صمَت، ثم قال الملك عبدالله الثاني ثم صمَت، ان طهران تريد إقامة قوسٍ يصل إلى العراق. لا. إنهم في الحديدة في الطريق إلى باب المندب. وكان الرئيس اليمني عبد ربه قد قال للزميل غسان شربل قبل عام: "إذا وصل الإيرانيون إلى باب المندب لن يعودوا في حاجة إلى القنبلة النووية".
في كتابه "برقيات" يروي مايكل هار، أشهر مراسلي حرب فيتنام، انه كانت على جدار غرفة النوم في شقته في سايغون، خريطة قديمة تركها المستأجِر الذي قبله. كانت الخريطة تمثّل الأرض نفسها، أي "الهند الصينية" سابقاً كما سمّاها الفرنسيون. لكن معظم الأسماء تغيّرت وبُدّلت. ثمة من عبَث بالحدود وبالداخل أيضاً. والخريطة على جدران غرفة النوم ضرَبها الاهتراء وغيّرت هويّاتها وسكّانها الحروب والهزائم. الكاتب عبدالرحمن الراشد يقول: وداعاً لليمن الموحّد، أو الواحد. لقد مهّد لتفكّكه الفريق علي عبدالله صالح الذي، مثل سائر الرؤساء العرب، أقام يمناً حول نفسه. اشترى الولاءات القبَلية بالحديد وباعه بالقضامي.
الأكيد أن «داعش» ليست صنيعة أي من الأطراف المحلية السورية أو الدولية. ومن المؤكد أنها لم تنشأ بغفلة عن أي من هذه الأطراف. كما أنه كان من الصعب جداً توقّع أو تكهن نشوء تنظيم جائح كـ «داعش»، وأن يتحول إلى حالة أيديولوجية اجتماعية عامة في مناطق واسعة من المنطقة خلال فترة قصيرة. ومع ذلك، لم تكن «داعش» نتاجاً تلقائياً للمجتمع السوري. فالمجتمع السوري لم يكن قبل انطلاق الانتفاضة السورية بيئة منتجة للتطرف الديني أو المذهبي، لكنه كان قابلاً للتحول إلى مثل هذه البيئة لكونه مجتمعاً أقرب إلى حالة التجمع السكاني منه إلى حالة المجتمع المنظّم مدنياً أو سياسياً، مع خواء تام من أي معرفة سياسية.
وبُعيد انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011، أصبح الجمهور السوري، من ساهم منه في هذه الانتفاضة ومن لم يساهم، عرضة لتدخل أطراف خارجية من المفترض أن تكون أكثر دراية منه بقواعد الصراع السياسي. ومع استمرار العنف المفرط من جانب النظام تجاه الجمهور المنتفض، أصبح، هذا الجمهور، لقمة سائغة لهذه الأطراف.
سياسات النظام المكابِرة والارتجالية، ونظرته المتعالية إلى مجريات الأمور، جعلته أسير ممارساته القمعية الشديدة، بحيث ما عاد في مقدوره التخفيف من الإفراط في العنف أو حتى التوقف عن إطلاق النار على معارضيه على رغم إصدار الرئيس السوري، في ذاك الحين، أمرين متتاليين بعدم إطلاق النار على المتظاهرين.
وبعد أن استخدم بعض الأشخاص السلاح في مواجهة النظام، نتيجة استمرار ممارساته القمعية العنفية، ونتيجة تهييج خارجي غير معلن، ارتفعت في حينه الأصوات والدعوات من خارج البلاد لرد عنف النظام بعنف مماثل. ظهرت هذه الأصوات بقوة على القنوات التلفزيونية، بل تم استحضارها وتكريسها كممثلة للثورة السورية أو للإرادة السورية.
هذا السياق، الذي بات معروفاً للجميع، وأمور أخرى تندرج ضمنه، أدت إلى حالة من الانفلات الأمني عمّت الكثير من المناطق السورية، القريبة والبعيدة من مركز العاصمة، التي خرجت عن سيطرة السلطة وسُمّيت بالمناطق المحررة. وكان لا بد لحالة الانفلات الأمني هذه من أن تتحول إلى حالة مطلقة من الفوضى العامة تحت غطاء الصراع الثوري، الذي برّر لها كل شيء طالما هناك إمكانية للادعاء أنها في مواجهة النظام السوري.
هذه الفوضى المطلقة، الخارجة عن أي ضوابط أو نواظم، وعن أي قيم، أخلاقية كانت أو ثورية، تم تعزيزها وتكريسها بمال سياسي ذي طابع ديني إسلامي، من حكومات أو من أفراد. كان هذا المال يُدفع في البداية من دون أي شروط لأي مدّعٍ أنه سيقاتل النظام. وفي ما بعد نشأ معيار التديّن السنّي كشرط لإغداق المال الوفير، إلى أن أضيف معيار تمايزي جديد هو القوة والسطوة. فصارت المجموعات والأشخاص الذين يدّعون الأسلمة في حياتهم وفي «جهادهم»، ويدّعون قيامهم بهجمات ظافرة على النظام هم المحظيين بالدعم المالي والمعنوي.
هذه الفوضى شكّلت البيئة المناسبة لنشوء مجموعات متطرفة عدة، تقوم بإعدام الأسرى والتنكيل بالجثث وقطع الرقاب وخطف النساء والمدنيين وتسليح الأطفال، من دون أن يسمى ذلك جريمة طالما هو ضمن سياق «الثورة السورية ضد بشار الأسد». أي أن هذه المجموعات كانت تقوم تماماً بالأفعال التي تقوم بها «داعش» الآن.
الفوضى لا يمكنها أن تدوم أو تطول. فالاجتماع البشري، كائناً ما كان، يميل في شكل طبيعي إلى الانتظام. وكذلك حال الفوضى السورية... فهي تحمل في كينونتها الحاجة إلى انتهائها والانتقال إلى حالة منظومية. وبسبب عدم وجود متدخل خارجي ينظم تلك المناطق «المحررة»؛ وربما لا توجد أي نية عند الأطراف الخارجية لمثل هذا الانتظام، لكون أي انتظام سيميل إلى الانفلات من التبعية المطلقة إلى استقلال نسبي، لهذا كان لا بد من ظهور إحدى المجموعات التي تحمل على عاتقها هذه المهمة، فكانت «داعش».
تمايزت «داعش» منذ نشوئها عن بقية المجموعات الأخرى الشبيهة بأنها تحررت من تبعيتها للنظام السوري. فلم تنشأ كمجموعة معارضة أو مناوئة للنظام، ولم يكن إسقاط النظام من بين أهدافها الرئيسة. فلم تقبل أن تتحدد به أو تتعرف به، بل أرادت أن تتحدد بذاتها وتتعرف بقوتها ومقدرتها، فحققت الانتصار.
أكتب مقالي هذا استجابة لعبارة «أن أحداً لا يمكنه تفسير ما جرى. حتى الذهاب بفكرة المؤامرة إلى أقصاها لا يسعف في التفسير. فلا السؤال عن الجهات الممولة يكفي، ولا عن دول سهلت وسلحت» الواردة في المقال الرائع للصديق حازم الأمين في هذه الجريدة بعنوان: (رحلة «الجهاد» السهلة إلى سورية... ربما هذه هي، 12-9-2014).
ليس مبرراً لنا في هذا الزمن أن نتفاجأ بمجريات التاريخ البشري، فوسائل الاتصال أتاحت لنا تبادل الخبرات والمعارف والمعلومات التي من المفترض أن تمكّننا من معرفة الخطوط العريضة لمسار التاريخ. فالتجارب البشرية التي تأسست عليها علوم السياسة والاجتماع تفيدنا بأن الفوضى العامة والمطلقة يمكن أن تنتج أي شيء من بين خلاياها الجذعية، فيكون «واقعياً» و «حقيقياً». لكن بالتأكيد، من المستحيل التنبؤ بظهور تنظيم باسم «داعش» وقوته.
الخلايا الجذعية لمساحات الفوضى السورية كانت التطرف العقائدي والتطرف العنفي والتطرف الجرمي. فعشرات الآلاف قُتلوا وسُلبوا وخُطفوا للتمرين أو للهو على أيدي مجموعات جرمية «ثورية»، وتمت تغطية جرائمهم باسم «الثورة» أو تحت اسم الأخطاء الضرورية والطبيعية للثورة. فكانت هذه المساحات عشوائية بكل معنى الكلمة، وكان لا بد لقانون الاصطفاء الطبيعي، وفق نظرية النشوء الداروينية، من أن يبقي على من يمتلك مقومات الحياة ويسيطر على هذه العشوائية، وأن يزيح من تنقصه بعض هذه المقومات، فكان «داعش» هو الكائن الذي استحق الحياة.
ليس مشروعاً لنا أن نتفاجأ بظهور تنظيم مثل «داعش» في بيئة ممنوع فيها الكلام السياسي، والكلام الوطني. ممنوع أن توجد فيها النخب، ممنوع أن يوجد فيها السلمي. بيئة ترفض بالمطلق مفهوم الدولة ومفهوم الاجتماع، بل ترفض مفهوم الإنسان. لكن سيتفاجأ بالتأكيد كل من ثبّت نظره على النظام، وعلى مدى الضرر الذي يلحق به، من دون أن يلتفت ولا مرة إلى موقع الخطوات «الثورية، معتمداً المبدأ الخاطئ: عدو عدوي صديقي. والذي رفض التحفظات على عشوائية استخدام السلاح، بل شرعن كل تسلح بحجة عتي النظام وبطشه. والذي اتهم كل من سمّى ما يجري بغير اسم الثورة بأنه معاد للثورة ومواجه لمسيرة التاريخ. والذي أسهب في التنظير «الثوري» مستنتجاً أن الثورات تكون بهذا الشكل، مستشهداً بحكايات ثورية عالمية.
في أغلب الأحيان يكون تَفاجُئنا بظاهرة ما دليل خطئنا في تقدير الأمور أكثر منه عدم واقعية الظاهرة. من هنا أعتقد أن ظاهرة «داعش» تتطلب منا ليس الاعتراف بخطأ التقدير فحسب، بل بتحملنا مسؤولية ظهورها ولو بشكل نسبي، وأنه لا يمكننا الاعتماد على انفعالاتنا بتبرير مسؤولية ما نقوله. كذلك لا يمكننا الاكتفاء بتحميل النظام السوري كل الآثام، فهذه خاصية للشيطان الذي يوسوس في صدور المؤمنين فيجعلهم ينحرفون عن الصراط المستقيم، ويكفي لعنه أو رجمه لإزالة كل ذنوبهم. لكن في الثقافة والسياسة فلا يكفي اللعن والرجم لإزالة الأخطاء.
هذا المبحث لا يحتمل كل هذا الاختصار الذي قاربته به، فهو مملوء بتفاصيل رئيسة تحتاج الى إسهاب ضروري حتى تتضح صورة نشوء «داعش» في سورية. ولكن يبقى في استطاعتي القول دائماً: كان يمكننا أن نكون الآن من دون «داعش».
معركة كوباني تجر الرئيس باراك أوباما من قدميه ورغماً عنه إلى الحرب السورية. حاول جاهداً، طوال السنوات الثلاث الماضية ان يتجنب هذا الانزلاق، وأن يعتمد على التهديدات والخطب النارية ضد نظام بشار الأسد. لكن الرئيس السوري كان طوال هذه المدة يغلي هذه الخطب ويشرب ماءها، لأنه كان يعرف من اي معدن صُنعت عظام باراك أوباما.
ظل الأمر على هذه الحال الى ان اقتحم تنظيم «داعش» المشهدين السوري والعراقي وبدأ مرحلة محو الخرائط. هذا تنظيم لا شك في وحشيته وسلوكه الإرهابي. وأمام هذا الخطر الممتد من العراق الى سورية، والذي اصبح يهدد بالوصول الى ربوع اخرى مثل لبنان وتركيا، ويقلق دول الإقليم كلها، لم يعد ممكناً ولا مسموحاً ان يبقى الرئيس الأميركي متفرجاً. اضطر اوباما ان يراجع حساباته وأوراقه، وأن يعيد قراءة نصائح مستشاريه ووزرائه السابقين، وعلى الأخص هيلاري كلينتون وليون بانيتا، اللذين اصبحت انتقاداتهما لرئيسهما بسبب تأخره في اطفاء النار السورية روايات للتندر في الإعلام الأميركي.
كانت ولادة «داعش» ورعايته في حضن استخبارات بشار الأسد فرصة ليهدد النظام السوري بهذا التنظيم حكومات العالم وأجهزتها الأمنية، وليقول لها: الخيار امامكم الآن بيني وبين «داعش». كان يمكن لهذه اللعبة المكشوفة ان تسير في خطها المرسوم، لولا ان «داعش» تخطى الحدود المقبولة وبدأ موسم الذبح على الشاشات والمواقع الإلكترونية. هنا خرجت اللعبة عن حدّها وصار العالم في مواجهة وحش متمرد، باتت مواجهته والقضاء عليه مطلباً اقليمياً قبل ان يكون دولياً.
كان حلم الرئيس السوري ان يبقى تنظيم «داعش» ومثله «جبهة النصرة» أدوات في يده، يخيف بها الغرب من جهة، ويترك لها من جهة اخرى المجال لخوض معارك السيطرة والنفوذ على اجزاء من الأرض السورية مع التنظيمات المعارضة الأخرى. وهي على كل حال عادة نظام دمشق في تقسيم الخصوم وتفكيك صفوف المعارضين، ثم الجلوس في قصر المهاجرين للتفرج على صراعاتهم.
لكن هذا الحلم يتبدد اليوم مع دخول القوات الأميركية وقوات حلفائها ساحة المعركة مباشرة. لا تستطيع هذه القوات ان تخوض حربها مع «داعش» نيابة عن الأسد، كما يتمنى. الموقف الإقليمي والدولي يعتبر ان نجاح المعركة مع الإرهاب في سورية لا يمكن ان يكتمل الا بسقوط نظام بشار الأسد. من هنا اصرار المستشارين العسكريين للرئيس الأميركي على المواجهة العسكرية مع قوات هذا النظام، ووضع خطط لإعادة بناء مؤسسات الدولة السورية، الى جانب مشاركة القوات الأميركية في المعارك الدائرة في العراق.
ومع أن الهدف الأساس لقوات التحالف اليوم هو ضمان نجاح المعركة مع «داعش» في العراق ولو اقتضى الأمر دخول قوات برية وإعادة تأهيل الجيش العراقي وتحسين علاقاته مع المناطق السنّية، فإن هناك إجماعاً بين العسكريين الأميركيين على أن هذا الفوز لن يكتمل إلا بالقضاء على هذا التنظيم في مناطق نشأته في سورية وبقيام منطقة عازلة تحمي الأكراد وتوقف زحف مهجّريهم الى اراضي تركيا، وهو احد المطالب الرئيسية لرئيسها اردوغان.
نهاية نظام صدام حسين بدأت من باب الحماية الدولية للإقليم الكردي في شمال العراق. وها هو التاريخ يكرر نفسه، بطريقة اكثر دموية وبشاعة. انها مواجهة مع التنظيمات الإرهابية لن تنتهي الا بتسوية في سورية يدفع ثمنها بشار الأسد.
هل كان هذا ما قصده نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، عند استقباله المبعوث الدولي الخاص الى سورية ستيفان دي ميستورا، عندما قال إن الحل السياسي ينقذ سورية وشعبها، و»إن على الجميع أن يتوقعوا تنازلات مؤلمة في هذا الإطار»؟
لا تزال التسريبات والمعلومات شحيحة عن نتائج وكواليس اجتماع واشنطن (الأسبوع الماضي) لأكثر من أربعين قائداً عسكرياً، يمثلون الدول المتحالفة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، فيما كشف تقرير مهم لمراسل "العربي الجديد" في واشنطن عن إحدى أبرز القضايا التي تمّ طرحها في الاجتماع، وتتمثّل في الانتقال نحو الحرب البريّة، لكن بجنود عرب بدلاً من الأميركيين، وهو ما ردّ عليه القادة العسكريون العرب (وفق التقرير) بأنّهم لا يحملون تفويضاً سياسياً حوله.
على الرغم من أنّ هنالك إقراراً من السياسيين الأميركيين بمحدودية تأثير الضربات الجوية إلى الآن، وبالشك في نجاعة الاعتماد على الجيش العراقي والبشمركة، أو حتى تدريب وتأهيل 10 آلاف مقاتل من الجيش السوري الحرّ، إلاّ أنّ الإدارة الأميركية لا تزال تواجه معضلة حقيقية في الانتقال نحو الخطة البرية، ولا يتوقع أن يضحّي الرئيس باراك أوباما بوعوده ومواقفه التي التزم بها مع الأميركيين، ويورّط الولايات المتحدة في حرب بريّة جدية.
إذاً، لا يوجد أمام الإدارة الأميركية سوى الاستمرار في الاستراتيجية الراهنة مع تطويرها، عبر تكثيف الغارات الجوية وزيادة المدرّبين والخبراء الأميركان، والرهان على المجموعات المحلية، وعلى استنزاف التنظيم على المدى الطويل، حتى لو تطلّب الأمر أعواماً، أو التحوّل نحو ترجمة القصف الجوي بريّاً، ما يدفع إلى التفكير في الدول المرشّحة لمثل هذا الدور، أيّ المشاركة في الحرب البرية، مع عدم وجود رغبة أميركية بالتورط.
ربما كان الموقف التركي في أزمة كوباني نموذجاً مهمّاً ومفتاحاً لفهم ديناميكية الأزمة الراهنة، فعلى الرغم من كل الضغوط على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلاّ أنّه لم يتدخل عسكرياً، ولم يضع حتى القواعد الجوية في خدمة القوات الأميركية إلى الآن، وتجنّب فتح صراع عسكري مباشر مع داعش، لأنّ المصالح التركية في سورية لا تتّسق مع هذه الضغوط الشديدة.
الإخفاق الأميركي والحديث عن الحرب البرية، انعكس على السجالات والنقاشات الداخلية الأردنية، في الأيام الماضية. فعند الحديث عن قوات عربية، من الواضح أنّ المقصود، بدرجة رئيسة، الأردن، الذي، وإنْ أعلن عن مشاركته في الضربات الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلاّ أنّ هنالك حسابات أكثر تعقيداً وصعوبة وحساسية، تدخل في اعتبارات "مطبخ القرار" في عمان، عند التفكير بأيّ دور أردني محتمل في الأراضي السورية، أو العراقية.
إلى الآن، ينظر الأردن إلى دوره ضمن المربع التقليدي، سواء في الدعم اللوجستي العسكري أو حتى الاستخباراتي الأمني، وتدريب العراقيين والسوريين، وتسهيل عمل قوات التحالف. على الرغم من ذلك، حاولت نخبة سياسية رسمية التلميح إلى احتمالية مثل هذا السيناريو، بالتأكيد على خطر هذا التنظيم على الأمن الوطني، وحق الأردن في الدفاع عن نفسه، قبل أن يأتي الخطر إليه، لكن هذا الموقف السياسي والإعلامي المبطّن كان خجولاً وضعيفاً، وليس صريحاً في المشهد السياسي والإعلام.
"
الأكثرية الساحقة من الأردنيين ترى تنظيم "داعش" إرهابياً وخطراً على الأمن الوطني
"
أيّ قرار بمشاركة أردنية عسكرية بريّة سيأخذ في الاعتبار قضايا جوهرية وأساسية، في مقدمتها عدم القدرة على تبرير، أو تفسير، أن يكون الجندي الأردني بديلاً عن الجندي الأميركي والغربي. فإذا كانت الولايات المتحدة ليست مستعدة لوضع أبنائها في مواجهة تنظيم المفخخات والذبح والانتحاريين، فالأردنيون لن يتقبّلوا هذه الفكرة أيضاً.
الأمر الآخر أنّ هنالك انقساماً لا يزال في أوساط الرأي العام الأردني تجاه الحرب الراهنة وشرعيتها، ومشاركة الجيش الأردني فيها، على الرغم من أنّ الأكثرية الساحقة من الأردنيين (كما أظهر استطلاع رأي لمركز الدراسات الاستراتيجية الأردنية أخيراً)، ترى في هذا التنظيم إرهابياً وخطراً على الأمن الوطني. لكن، على الطرف الآخر من المعادلة، لا توجد ثقة بالولايات المتحدة، ولا بأهدافها من هذه الحرب، ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً.
استطلاع الرأي العام نفسه أظهر، أيضاً، أنّ هنالك نسبة مهمة تتجاوز الـ30% من الأردنيين ليست حاسمة في تعريفها لتنظيم الدولة الإسلامية والموقف منه، ونسبة أكبر تزيد على الـ50% من جبهة النصرة، ما يعني أنّ هنالك مساحة رمادية كبيرة في مواقف الأردنيين، تجعل الرأي العام غير مهيئٍ ولا مُعدٍّ لمثل هذه المغامرة السياسية والعسكرية الكبيرة.
ما يعزز المحددات السابقة، أنّ المعادلة الداخلية الأردنية تبدو، اليوم، في حالة من الضعف والتفكك، وهنالك فجوة متنامية كبيرة في الثقة بين الحكومة والشارع. وكشفت الزوبعة الشعبية والإعلامية المثارة حول ما يسمى بـ"ذهب هرقلة"، أنّ مصداقية الدولة في الحضيض، كما يعترف مسؤولون أردنيون على مستوى رفيع. وإذا كان الأمر كذلك، فليس أمراً سهلاً، أو ممكناً، أن تفكّر الدولة باتخاذ قرار جدلي إشكالي حساس، بالدخول في الحرب البرية، في مثل هذه الظروف!
ثمّة مَن يرى في الأزمة الاقتصادية الخانقة سبباً يدفع "مطبخ القرار" إلى القبول بهذا الدور، في مقابل دعم مالي كبير وعريض للأردن، إلاّ أنّ ذلك ربما يأتي بنتائج عكسية لدى الرأي العام، خصوصاً إذا أتت المشاركة بعشرات، أو مئات، الصناديق التي تحوي جثث جنود أردنيين قتلوا على أيدي هذا التنظيم، فمثل هذا المشهد بمثابة كابوس، لأي صانع قرار!
تدور منذ زمن حرب غير معلنة على اللاجئين السوريين في لبنان. وهي حرب خبيثة، وصاخبة، ولئيمة، وجبانة في الوقت نفسه.
خبثها في أنها تخفي عنصريتها بحجة الخوف من تحول اللاجئين السوريين الى مقيمين دائمين، وصخبها آت من اليافطات التي علقتها اكثر من خمسة وأربعين بلدية في أنحاء مختلفة من لبنان تمنع فيها تجول السوريين والعمال الأجانب ليلا، ولؤمها مجبول بلغة عنصرية مليئة بنتؤات لهجة لبنانوية لم تعد تصلح إلا لسلة القمامة، أما جبنها فهو الموضوع.
لم نتكلم عن ضرب العمال السوريين وإهانتهم في الشوارع، كما لم نشر إلى وحشية الإجراءات الأمنية على الحدود اللبنانية-السورية التي تجعل من عبور السوريين إلى لبنان ملحمة من الألم والذلّ، فهذه مسائل امتلأت بها وسائل الإتصال الإجتماعي، بحيث لم يعد لمفهوم الفضيحة الأخلاقية أي معنى في لبنان.
إنها حرب جبانة بكل المقاييس، جبنها آت من اجتماع ثلاثة عوامل:
الأول هو الفوبيا الطائفية اللبنانية التي اتخذت شكل الحقد الأعمى على «الغرباء». في زمن الهيمنة السورية، حين كان حذاء ضباط النظام الاستبدادي موضوعا على رؤوس رجال الطبقة الحاكمة، وحين كان الوزراء والنواب يذهبون زاحفين الى عنجر لاستجداء رضى غازي كنعان وخليفته رستم غزالي، وجد هذا الحقد في الفلسطينيين وسيلة لتصريف غرائزه العدوانية، من حرب المخيمات الوحشية، الى حصار المخيمات، الى الاذلال اليومي، الذي وصل حد منع الفلسطينيين من ادخال حجر باطون من أجل أن يضعوا عليه رؤوس موتاهم في القبور! هذه الفوبيا، تجددت مع بداية تحلل القبضة السورية ووجدت في السوريين متنفسا لأحقادها. من الشعار الشهير الذي رُفع خلال انتفاضة الإستقلال: «ما بدنا كعك بلبنان إلا الكعك اللبناني»، في اشارة واضحة الى ضرورة طرد العمال السوريين من لبنان،و الى هيستيريا الخوف من السوريين التي تملأ المدن، وتتحول الى لغة شفهية تعلن عنصريتها بلا مواربة.
الثاني هو العجز الذي يضرب مفاصل السلطة اللبنانية، ويجعلها غير قادرة على طرح أي حل لمشكلات اللاجئين السوريين في لبنان. فأمام نجاح النظام الاستبدادي المتوحش في سوريا في تطبيق شعاره: «الأسد أو نحرق البلد»، كان واضحاً أن أعداد اللاجئين سوف تتزايد بشكل كبير، وهذا ما أشارت اليه كل التقارير. لكن السلطة اللبنانية كانت مصابة بالعماء والصمم، ورفضت بكل وضوح انشاء مخيمات لللاجئين السوريين، بحجة خوف الطوائف اللبنانية الكريمة من تحولهم الى فلسطينيين جدد. فكانت النتيجة أن نشأ في لبنان حوالي ألفي مخيم عشوائي، لا قدرة لأحد على ضبطها أمنيا من جهة، وتشتت الإغاثة وعدم فاعليتها من جهة ثانية.
الثالث هو الحماقة، فحين تجتمع الفوبيا بالعجز، ينتج عنهما تصرفات حمقاء تقود الى تحويل الناس الى كتل من الأحقاد مؤهلة للإنفجار في أي لحظة. وعلامة الإنفجار الكبرى بدأت في عرسال مع قيام «النصرة» و»داعش» باختطاف جنود لبنانيين واعدام ثلاثة منهم بطريقة وحشية، وتمتد اليوم الى الشمال مع اصطياد جنود من الجيش، ولا يعلم أحد الى أين قد يمضي بنا هذا المسلسل.
المأزق السياسي الذي وجد فيه لبنان نفسه إزاء المسألة السورية متشعب ومعقّد. لم يعد النقاش حول اجتياح جنود حزب الله لمناطق في سوريا مجدياً، فالقرار ايراني، وحزب الله ليس سوى منفذ. لكن ما فات قيادات حزب الله ملاحظته هو أن عددا كبيرا من اللاجئين السوريين في عرسال جاء بعد اجتياح القصير ويبرود من قبل جنود حزب الله، بما يخلّفه ذلك من أحقاد، وأن هذه الأحقاد تتنامى بفعل تصاعد الخطاب الطائفي السني- الشيعي، وخصوصاً بعد الصعود الكاسح ل «داعش» في العراق وسوريا. كما أن خطاب الحزب يهمل حقيقة أن الحدود حين تفتح للتدخل العسكري، فإنها لن تبقى مفتوحة من جانب واحد.
إن الربط بين مسألة إنسانية كمسألة اللاجئين وبين الإرهاب الأصولي، يقود الى الهاوية، لأنه ينتهي الى ممارسة عقاب جماعي نشهد اليوم فصولا صارخة منه، والعقاب الجماعي سوف يقود الى ردات فعل كارثية.
لكن هناك مشكلة حقيقية، يجيبون.
وهذا صحيح، مليون ونصف مليون لاجىء في بلد لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين نسمة، هو مشكلة كبرى تنوء بها أي دولة، وهي تتطلب معالجة عقلانية وأخلاقية وإنسانية، قبل أن تتحول، مع التوقعات التي تقول بأن عدد اللاجئين السوريين مرشح للقفز الى مليوني نسمة، الى كارثة.
حين نقول معالجة عقلانية فإننا نأخذ في الإعتبار العلاقات المعقدة بين شعبين هما من نسيج واحد، لكن الزمن جعل من علاقتهما ميزانا للخطأ الذي ابتلتنا به ديكتاتورية آل الأسد، بوحشيتها وقمعها وإذلالها للبنانيين والسوريين.
ذل الهيمنة جاء ليحوّل الدونية التي كان يشعر بها السوريون الذين شكلوا اليد العاملة الرخيصة التي بَنَت بيروت والمدن اللبنانية الأخرى، الى شعور وهمي بالتفوق، صاحبه إحساس لبناني عام بالمهانة والإذلال من عنجهية ولصوصية الآلة المخابراتية السورية. لكن سرعان ما بدأ ميزان المشاعر ينقلب بعد خروج الجيش السوري من لبنان، لنصل مع الكارثة التي حلت بالشعب السوري الى لحظتنا الراهنة المشحونة بعنصرية لبنانية كريهة.
ليس الآن مجال تحليل هذه العنصرية التي تجد جذورها في البنية الطائفية للسياسة اللبنانية، ولكننا في مجال التحذير من أن هذه الممارسات تهدد البلاد بانفجار لا سابق له، سوف يدفع ثمنه الجميع.
لا أدري إذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية الممزقة بين محورين اقليميين متصارعين، والمشغولة بنهب ما تبقى من لبنان، والتي عجزت عن انتخاب رئيس للبلاد، وتركت كل القضايا معلّقة، من المعلمين الى الكهرباء الى آخره، تمتلك حداً أدنى من الشعور بالمسؤولية أمام خطر اجتماعي داهم يهدد بانفجار كل شيء.
ورغم اقتناعي بأن هذه الطبقة عاجزة وجبانة ولا حول لها، وأنها سبب المشكلة التي علق فيها لبنان، فإن واجب الجميع رفع الصوت والتنبيه الى مخاطر العنصرية التي باتت تهديداً داهماً.
نقطة البداية هي إدانة هذا السيل العنصري وايقافه فوراً، كي يتسنى للعقلاء البحث في حلول تحفظ كرامة اللاجئين أولا، وتؤمّن حدا أدنى من الأمان الذي يستطيع ايقاف التدهور.
كلنا سوريون، حين يتعلق الأمر بالمبادئ الأخلاقية، وكلنا سوريون حين ننظر الى مستقبل هذه البلاد التي لا مستقبل لها إلا في الحرية وكرامة المواطن.
الأكراد: فن الرهان على الخطأ
تروي الحكاية الشعبية أن عربيا أطنب في مدح شمائل صديق كردي. ثم استدرك قائلا: «لكن للأكراد علة واحدة». فرفع الكردي قبضته، وسدد لكمة قوية إلى الصديق العربي سائلا بحدة: «وما هي؟!». أجاب العربي وهو يتأوه من الألم: «هذه هي» مشيرا إلى قبضة الصديق.
هل الأكراد مشروع شعب منسحبٍ بسرعة، من عدة أقوام وشعوب مجاورة؟ قبل أن أتلقى لكمة قاضية، أجيب بأن الأكراد عاشوا. وتعايشوا بأمان وسلام، مع العرب مئات السنين، بحيث يستحيل الانسحاب منهم، بسرعة التوقيت الأميركي لساعة طالباني. وبارزاني. وكوباني.
كان الأكراد الجالية الأجنبية الصديقة التي تمكنت من إقامة دولة كردية على أرض العالم العربي. بل غدا البطل صلاح الدين الأيوبي رائد وحدة عربية حقيقية! عندما وحد مصر وسوريا. وانقض على الممالك الصليبية. فحرر القدس، مقدما السابقة التاريخية للفلسطينيين. ففلسطين يستحيل تحريرها بصاروخ تنك. التحرير يجب أن يكون مهمة مشروع قومي عربي. يبدأ بوحدة مصر وسوريا. وليس فقط بوحدة الضفة وغزة.
سوابق التعايش التاريخي الحميم بين الأكراد والعرب على الأرض العربية تحت راية الدين الواحد، لا تجيز للشوفينية العنصرية المعاصرة، أن تمارس فن ارتكاب الأخطاء الساذجة والخطيرة، كمحاولة أكراد الحدود تذكير أكراد الداخل «المستعربين» منذ مئات السنين، بضرورة استعادة كرديتهم.
هذه المحاولات العقيمة أدت، في «الطوشة» الكردية السورية في أوائل القرن الميلادي الجديد، إلى طرح النظام السوري نفسه موئلا وحاميا لعروبة السوريين. وكان رفع الأكراد لرايات «سورية لا عربية ولا كردية» بمثابة انفصال كردي عن المعارضة السياسية السورية، وتعبير تمهيدي عن الرغبة العنصرية في سلخ مساحات من الأرض السورية، لضمها إلى كردستان عراقية. أو كردستان سورية في الشمال.
كان إيواء كردستان العراق لعشرات ألوف العرب العراقيين الهاربين من جحيم الدولة الداعشية، بادرة كردية نبيلة في وقت الشدة. لكن اجتياح قوات الـ«بيشمركة» الكردية لمناطق سنية عراقية، وخاصة في أقاليم نينوى. تكريت. ديالى. كان يجب أن يترافق بإعلان رسمي كردي واضح وأكيد، عن حسن النية الكردية. وعن العزم على الانسحاب، وخاصة من كركوك، حالما ينتهي الصراع مع «داعش».
وكان من الواجب على أميركا أوباما، وقوات التحالف العربي/ الدولي، وحكومة حيدر العبادي، الإعلان عن إلزام قوات الـ«بيشمركة» والميليشيات الشيعية العراقية، بالانسحاب، ومنع أي ممارسة لتهجير العرب بالقوة.
رضي العراقيون العرب، من سنة وشيعة، بدستور يمنح كردستان العراق شرعية الوجود، كبادرة حسن نية ورغبة، في إنهاء صراع دموي طويل مع الأكراد. وبضغط من الأميركيين، أُرسي تقليد يتولى بموجبه كردي رئاسة الجمهورية (جلال طالباني. ثم فؤاد معصوم). ووصل استغلال الانحياز الأميركي المطلق للأكراد، إلى احتلالهم منصبي وزير الخارجية ورئيس أركان الجيش العراقي، في حكومة نوري المالكي. وبدا الوزير هوشيار زيباري في تصريحاته منحازا ومدافعا، عن تصرفات وسياسات المالكي!
قد يكون النزاع العربي/ الكردي مؤجلا الآن، ريثما يتم الحسم مع «داعش». بيد أن أكراد سوريا فقدوا فرصة ذهبية، لدعوة المعارضات السورية المسلحة، إلى المشاركة في معركة عين العرب (كوباني) ضد «داعش». والاقتصار على «تكريد» المعركة، حدا بتركيا إلى منع قوات النجدة الكردية، من الوصول إلى كوباني.
أعود إلى بدايات تشكيل العراق التاريخي، مع بُناته من العرب السنة، فأقول إن الأقوام الآرية (الكرد. الفرس. الترك) قبلت بالأسلمة. ورفضت العروبة التي اكتفت بخلخلة ثقافاتهم بالتقاليد. واللغة. والحروف. والأسماء العربية، فيما كان سهلا على هؤلاء العرب تعريب وأسلمة الشام، بحكم كون سكانها من الأقوام السامية الشقيقة التي سبقتهم في الهجرة إليها، من شبه الجزيرة العربية.
وهكذا، استقرت سوريا على العروبة، فيما بقي العراق ساحة صراع بين العرب الساميين والأقوام الآرية. وكان من أدوات الصراع الدين. الطائفة. المذهب. العرق (الإثنية). السياسة. السلطة. النيابة... وسجل الأكراد عدة ثورات لاهبة في القرن العشرين، احتجاجا على عدم إنصافهم في الاتفاقات السرية بين بريطانيا وفرنسا.
بعد رحيل الملك الهاشمي الحكيم فيصل الأول باني العراق المعاصر، اختلت اللعبة السياسية في أيدي الإنجليز، فقاد رئيس الأركان العراقي بكر صدقي (كردي) انقلابا عسكريا اتخذ منحى يساريا، بالتعاون مع ساسة أمثال كامل الجادرجي وحكمت سليمان. لكن الضباط القوميين تمكنوا من قتل بكر صدقي (1937).
أتقن الأكراد فن الرهان على الخطأ، بحيث وصل صراعهم مع العرب إلى الاستقواء بالقوى الإقليمية والخارجية. سقطت جمهورية مهاباد الكردية التي أقامها ستالين، بعد الحرب العالمية الثانية، على أراض إيرانية. روسية. فنقل رئيسها «الجنرال الأحمر» مصطفى بارزاني بارودته من الكتف الروسي. وأسندها إلى الكتف الشاهنشاهي!
بعد الانقلاب الجمهوري في العراق (1958)، قاتلت فرق سورية مع الجيش العراقي ميليشيا الـ«بيشمركة» البارزانية. وفي العصر الصدامي، نجحت وساطة الجزائر المدعومة أميركيا (1975) بمصالحة صدام مع الشاه، على حساب الأرض العربية!
تنازل صدام لإيران، عن الجرف القاري في شط العرب! في مقابل «تنازل» الشاه عن حليفه البارزاني الذي نقل بارودته إلى الكتف الأميركي. استعاد صدام كردستان. فسحبت «البراغماتية» الأميركية جنرالها «الأحمر» فتوفي مغموما في «ضيافة» كارتر (1979).
في متابعتي الطويلة، كشاهد على عصر عربي متقلب، غدا مسلسل المشهد العراقي الطويل أمامي، كمسرح إغريقي حافل بأبطال البكائية (التراجيديا) الأسطورية الذين لم يعرفوا يوما الوحدة الوطنية والقومية. كنت أشكو لصديقي فيصل حسون (نقيب الصحافة العراقية في عصر عبد الكريم قاسم) ميل النفس العراقية إلى العنف والقوة. وقِصَرَ أنفاسها عن الحوار. كان ينفي بهدوء واسترخاء، عن العراقيين (بمن فيهم الأكراد) التهمة.
لم أعتذر لفيصل حسون. فلم أكن أدري أن حافظ الأسد سيورث نجله بشار مسرح الدم الذي دشنه بمجزرة حماه (1982)، ليحوله الابن الوارث إلى بحر من دماء أكثر من ربع مليون انسان.
لم تعرف الطبقة السياسية العراقية، في كل العهود كيف يمكن فتح حوار حقيقي وجدي مع الأكراد، من أجل حل سلمي يرضي طموحهم السياسي. وكان عرضُ صدام على الأكراد إقامة منطقة حكم ذاتي ضيق، بمثابة مهزلة متسترة على حكمه الدموي.
في المقابل، انتهز أكراد العراق كل صراع داخلي، وكل نزاع عربي/ فارسي، للتحالف مع إيران! فيما انتهز أكراد إيران المناسبة ذاتها، للتحالف مع عراق صدام. كان الرد الإيراني لامباليا. فقتل نظام الخميني ألوف الأكراد. ثم اغتال زعماء الأكراد الإيرانيين خلال الحرب مع صدام.
سقط في الصدام الكردي/ الكردي في التسعينات ألوف القتلى. واستنجد مسعود بارزاني بقوات صدام، لحماية أربيل من قوات جلال طالباني. لكن حقنَ صدام أنوف أكراد حلبجة بالغاز السام يبقى وصمة عار على جبين نظامه (يقال إن إيران الخميني شاركت أيضا في قصف حلبجة بالغاز).
هجمةُ «داعش» السورية على بلدة عين العرب (كوباني) تنطوي على قدر كبير من الانتقام، من هجمة الأكراد على «داعش» العراقية. وقوف العرب العراقيين والسوريين، متفرجين على المجزرة الداعشية/ الكردية، من دون الضغط على تركيا للتدخل لوقفها، دليل على مدى القلق العربي إزاء غموض موقف الأكراد السوريين. هل يريدون البقاء في سوريا؟ أم يريدون الالتحاق بكردستان العراقية؟
تلقت سوريا الطبيعية (الشام) لكمات عديدة. فتمزقت إلى دويلات (سوريا. لبنان. الأردن. إسرائيل التي تحاول ابتلاع كامل فلسطين). وها هي «داعش» وبشار يستكملان مخطط التمزيق والتفتيت في سوريا. عرف النظام العربي الخليجي كيف يكسب قدرا من ثقة أكراد كردستان العراق. ففتح نوافذ إعلامه للرأي الكردي، من دون أي حساسية. ولعل أكراد برزاني بالذات يبنون جسورا فوق هذه النوافذ، وصولا إلى علاقة متوازنة ودائمة مع العرب لا تستطيع إسرائيل و«داعش» تخريبها.
زلزال المنطقة... والجنرال وقت!
كل من يتابع عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وأخواته في سورية والعراق يدرك جيداً ان «القصة طويلة» جداً وأن لها ما لها وما عليها من ذيول وتبعات ونتائج وردود فعل وانعكاسات كثيرة تدعو إلى القلق والدهشة والاستغراب، إن لم نقل في بعض الأحيان، الى السخرية من أسلوب المواجهة والعقلية التي تدار بها الأمور وكيفية معالجة قضية خطيرة مثل هذه القضية الحساسة والدقيقة والمكشوفة أمام أعين العالم كله.
ففي مثل هذه الحال هناك نظريات مختلفة ومتناقضة حول أسلوب المواجهة العسكرية، فمنها ما يعتبر ان الوقت هو العامل الأساس في حسم المعركة باستخدام عنصر المفاجأة والضربات السريعة الموجعة والمكثفة كمّاً ونوعاً، كما فعلت إسرائيل في حرب 5 حزيران (يونيو) ١٩٦٧، وما قامت به مصر وسورية في حرب 6 تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٧٣، في مقابل نظرية تقوم على التدرج في العمليات مهما استغرق وقتها والتأني في توجيه الضربات مهما طال الزمن!
وبكل أسف، فإن من الواضح ان قيادة العمليات في التحالف اختارت النظرية الثانية، إن في الأحاديث المسهبة عن الحرب وتفاصيلها المملة وتحديد أماكن الضربات التي ستستهدف، وكأنها تقول لـ «الداعشيين»: إننا قادمون وسنضرب هنا وهناك، فابحثوا عن مخابئ لكم ولأسلحتكم وانتشروا خارج أماكن تجمعاتكم؟ كما ان غالبية التصريحات تؤكد ان العملية ستستغرق سنوات عدة، وبعضها حدد ١٠ سنوات وآخر ذهب بعيداً ليتحدث عن 40 سنة، وكأنه يقول: «أبشروا بطول سلامة يا إرهابيين، وتحملوا يا عرب ما سيحلّ بكم طوال هذه السنوات العجاف، إن لم تفنوا قبلها».
ومع الاعتراف بعدم جواز الجزم بصوابية الخيارات العسكرية من جانب من لا اختصاص له، وأنا منهم، فإن من البديهي القول إن أهل المنطقة أدرى بشعابها وقضاياها وحساسياتها، وإنهم هم الذين يدفعون الثمن من أمنهم واستقرارهم وثرواتهم وأرواحهم ويحملون الأوزار مهما كانت النتائج، كما ان الأوضاع لا تحتمل الإطالة والاستمرار في الحرب على المدى الطويل. فالمنطقة تعيش الآن في سباق مع الزمن ولا تحتمل سير السلحفاة التي تصل متأخرة أو قد لا تصل أبداً في الوقت المناسب.
فأهل المنطقة يريدون الحسم السريع لأنهم أكثر إدراكاً لأوضاعها المعقدة والحساسيات والحسابات المتعلقة بها... وأكثر تفهماً لنبض الرأي العام وأسلوب مجابهة جماعات متطرفة باتت تملك السلاح المتطور والمال الوفير والخبرة العسكرية، بعدما انضم إليها مئات الضباط والجنود المدربين والمنشقين عن الجيشين العراقي والسوري، إضافة الى مئات المتطوعين من أنحاء العالم. وعلينا ألا نتجاهل أيضاً قدرة هؤلاء في التفنن باستخدام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديث التي تصل الى كل بيت والتركيز على أساليب التجييش العاطفي والديني والإرهاب والتخويف و «البروباغندا» بشتى أنواعها وأشكالها.
ولا يختلف اثنان على ان «الجنرال وقت» هو عامل أساس في حسم المعركة، أي معركة، مع احترام نظريات جنرالات التحالف. هذا ما تعلمناه من دروس التاريخ وتجارب الآخرين، علماً ان هذه الحرب الجديدة تتطلب اعتباراً أكثر له ودقة في التعامل معه لأسباب متعددة أهمها انها حرب غير تقليدية، بل هي مزيج من حرب العصابات وعمليات الكر والفر والقدرة على التخفي والانتشار بين السكان واتخاذهم دروعاً بشرية لا بد من ان تتسبب بالإحراج في وقوع ضحايا من المدنيين والنساء والأطفال، وهو ما سيسعى إليه الإرهابيون لتأليب الرأي العام.
يضاف الى ذلك ان «داعش» وأخواته تحارب في أرض غير أرضها، بل هي أرض محتلة، ولا تبالي بالدمار ولا بهدم مدن وقرى لا تخصها، ولا تهتم بمصير أهلها الذين أُجبروا على النزوح أو الرضوخ لأوامرها، كما انها استولت على أسلحة ومعدّات حديثة لم تدفع ثمنها ولا تجد صعوبة في الحصول على غيرها من مستودعات الجيشين العراقي والسوري، إن لم تأتها من مصادر أخرى.
ومن هنا يأتي استغراب التصريحات التي تتحدث عن سنوات، والاستهزاء بطلعات جوية متفرقة وبأوقات متباعدة لتقصف مركزاً أو مركزين للإرهابيين، أو تطاول رتلاً من مسلحيهم لتعود الى قواعدها سالمة من «نزهتها» وتنتظر الأوامر للقيام بمهمات أخرى في اليوم التالي أو بعده. ومع الاعتراف مرة أخرى بعدم الاختصاص العسكري والاستراتيجي، فإن من المنطقي القول إن مثل هذه الحروب تتطلب شن ضربات متتالية ومركزة ودقيقة من دون انقطاع لتشل حركة الإرهابيين وتمنعهم من التمدد والتقدم، إضافة الى استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحديد أماكن تمركز القيادات ومراكز الإدارة والتحكم لضربها وإجبارها على التنقل وكشف تحركاتها.
أما ما جرى حتى هذه اللحظة، فمن المؤكد انه لن يؤدي الى حسم الأمور، بل ربما زادها تعقيداً، فالحوادث الراهنة تشبه الى حد بعيد زلزالاً يهز المنطقة بأسرها، ما يتطلب مجابهة على مستوى أخطاره وتهديداته، إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها أو أن أصحاب الحل والربط لديهم تصور آخر لحسم الأمور لم يرد الإعلان عنه لو كشف تفاصيله.
هذا الزلزال هو ارتداد طبيعي لزلزال ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ الذي تبنت فيه «القاعدة» تفجيرات نيويورك وواشنطن، وكان من نتائجه ضرب القضايا العربية، وفي مقدمها قضية فلسطين وإقدام الولايات المتحدة على احتلال أفغانستان والعراق وتدمير ركائز الدولتين وإعادتهما عشرات السنين الى الوراء وهز الكيانات العربية والإسلامية.
فهل المقصود من قيام «داعش» وخلافته المزعومة استكمال سيناريو الهدم وتفتيت الدول العربية وتدمير البنى التحتية وإشعال نار فتن وحروب قد تستمر عشرات السنين؟ الرد المنطقي على هذا السؤال يتركز على حقائق أرض الواقع. فماذا جنى العرب والمسلمون من الزلزال الأول غير الدمار وضرب الأمن والاستقرار وهدر الثروات العربية؟ والى ماذا يمكن ان يؤدي الزلزال الجديد، الأكثر خطورة وتأثيراً، وماذا يفيد ما يسمى بالجهاد المزعوم قطع رأس أميركي أو بريطاني أو فرنسي، أو حتى عربي مسلم أو مسيحي، غير تشويه صورة الإسلام وتهديد حياة ملايين المسلمين؟ وماذا ستجر علينا هذه الظاهرة غير الدمار والمذابح وهيمنة الدول الأجنبية على المنطقة وخيراتها وقراراتها وإطلاق يد القوى الإقليمية، أي تركيا وإيران وإسرائيل في فرض إرادتها ونفوذها على العرب أصحاب الأرض والتاريخ والمصير وأسياد المنطقة عبر العصور؟
أليس هذا ما نشهد فصوله اليوم وتتكشف خفاياه يوماً بعد يوم، بعدما سقط القناع؟ وأي مكسب يمكن ان يحصل عليه العرب والمسلمون من هذه الخلافة المزعومة وغيرها؟ بل أي ثمن سيدفعون لاحقاً من حروب وفتن ودمار وضياع وتفتيت؟ الأمر واضح لكل عاقل، لكن هناك من يراهن على مجهول لن يأتي، أو على مفاجأة لن تحصل وسط شكوك وعلامات استفهام حول الوحش «فرانكنشتاين» ومن اخترعه ومن أوجده ولماذا وكيف انقلب على أصحابه؟
وهل يمكن ان نصدق ان النيات صادقة أو ان القصد شريف من كل ما حدث؟ أو ان من يتحرك باسم الإسلام صادق في دعواه؟ وحتى لو صدقنا جدلاً أنه صادق، هل اختار السبيل الصحيح والصراط المستقيم وامتثل لمبادئ الإسلام السمح واختار العمل بهدوء وحكمة وتعقل لنشر دعوته، بدلاً من لجوئه إلى الذبح والإرهاب والقتل وقمع الحريات والتكفير وإجبار الآمنين على النزوح من ديارهم وإرهاب أتباع دينهم قبل غيرهم من أتباع الديانات والطوائف الأخرى وخوض غمار حروب عبثية، يعرف دعاتها ونعرف جميعاً انها خاسرة وستجر عليهم وعلينا الويلات؟
إنّها أسئلة مشروعة تتطلب دراسة أوسع والبحث بعمق في الخفايا والأبعاد والأسرار والنوايا والغايات والمآرب والخلفيات والممارسات وأهدافها، لكن الأمر المؤكد ان الإطالة ستنجم عنها نتائج عكسية قد تؤدي إلى انتشار الارهاب واتساع رقعة المواجهة وازدياد التعاطف معه. ولهذه الأسباب وغيرها لا بد من معالجة الداء من أعماقه واجتثاث جذور المِحنة ومسبباتها ووضع خطط سياسية واقتصادية واجتماعية لإعادة تأهيل المجتمعات والقضاء على الفساد والالتفات إلى إعادة الإعمار لتحيي الآمال وتوفر فرص عمل شريف لملايين الشباب العاطلين الذين تُستغَل محنتهم لغسل أدمغتهم وتوريطهم في الإرهاب.
ولا بد من إيجاد حلول عاجلة لأزمة انتشار اللاجئين والنازحين نتيجة الحروب، وهي أيضاً تشكل التربة الصالحة للاستغلال ونشر التطرّف والأحقاد. ولا بد أيضاً من إزالة أسباب النزوح بإيجاد حلول عادلة وسريعة للحروب والأزمات التي تنخر في جسد الأمة على امتداد العالم العربي، مع وجوب إحلال السلام في المنطقة وفرض الحل العادل لقضية فلسطين على أساس منح الشعب الفلسطيني جميع حقوقه المشروعة وأولها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ووقف الإجرام الاسرائيلي ومنع أي تعرض للمسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، لأن أي تهديد يتعرض له (الأقصى) سيشعل نار حرب لا حدود لها وتضاعف من حدة التوتر وتنشر نيران التطرّف.
فالحل لا يمكن ان يكون عسكرياً فقط ومواجهة الارهاب الجديد بالحلول الأمنية وحدها والمعالجة لا يمكن ان تكون تقليدية وبطيئة ولا تصل الى الجذور ويشارك فيها الجميع، من القمة الى القاعدة ومن البيت الى المدرسة والجامع ومن الدولة الى الأفراد وأصحاب الرأي، وفي مقدمهم رجال الفكر والإعلام.
نعم لا مجال للعمليات التجميلية والتكبير والتصغير وحشو الـ «بوتوكس» واستخدام المسكنات والمهدئات، بل لا بد من عملية جراحية عاجلة تستأصل السرطان المنتشر في الجسد العربي وتجتث معه جذوره ومسبباته، وأي تباطؤ أو تأخر، أو تأخير متعمد، سيؤدي الى ما لا تحمد عقباه ولا نملك بعدها إلا رحمة الله، وهو الرحيم العليم.
سكوت الولايات المتحدة، عن أسباب ظهور الأصوليات، والعوامل التي استدعت ردود الفعل المتطرفة من قبل تلك الحركات، يطرح أكثر من سؤال حول المواجهة التي تقودها .
العرب مفيد نجم [نُشر في 20/10/2014، العدد: 9713، ص(9)]
كنا نسأل فيما مضى إلى أين تقودنا أنظمة الاستبداد والفساد، حتى جاءت الانتفاضات العربية التي أطاحت بالعديد من تلك الأنظمة، لكننا الآن وأمام هذا التحشيد العسكري والإعلامي الغربي ضد ما يسمى بدولة العراق والشام الإسلامية، والإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة هنا وهناك، أصبحنا نسأل إلى أين تقودنا الولايات المتحدة الأميركية والغرب معها في حروبهم التي يراد لها فيما يبدو ألا تنتهي.
من غير المعقول أو المنطقي الحديث عن إرهاب “داعش”، والسكوت عن إرهاب الجماعات الشيعية المتطرفة التي تقاتل في سوريا وترتكب أبشع الجرائم الطائفية بحق الشعب السوري. ومن غير المعقول الحديث عن مكافحة الإرهاب وهذا التهافت الذي تبديه دول الغرب لمحاربته، في حين لم يتوقف النظام السوري عن ارتكاب الجرائم الفظيعة وبكافة أشكال الأسلحة حتى المحرمة دوليا منها، دون أن يتدخل هذا العالم لإنقاذ الشعب السوري من هذه المحرقة الجماعية التي تفتك بالبشر والحجر، أو على الأقل يقدم للسوريين ما يدافعون به عن أنفسهم ويوقفون فيه آلة القتل والدمار عن ارتكاب مزيد من الجرائم، ولو من باب ما يدّعونه من قيم إنسانية.
سكوت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها ساسة الغرب، عن الأسباب التي قادت إلى ظهور هذه الأصوليات، وعن العوامل الموضوعية التي استدعت ردود الفعل المتطرفة من قبل تلك الحركات، يطرح أكثر من سؤال حول أهداف هذه المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة، وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات خطيرة على العلاقة بين الغرب والإسلام.
لقد كان من المنطقي أن تمارس الولايات المتحدة وشركاؤها في مكافحة الإرهاب سياسة مزدوجة في تعاملهم مع الارهاب، لأن الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الشيعية التي تقاتل إلى جانب النظام في سوريا ونظام الأسد لا يختلف عما تمارسه داعش والجماعات المتطرفة السنية الأخرى. إن القضاء على التطرف يحتاج، أولا، إلى التخلص من الأنظمة التي وفرت أسباب صعود هذا التطرف، وفي مقدمتها جرائم نظام الجريمة في سوريا، ونظام الفساد الطائفي في العراق اللذين وفرا البيئة المعززة لظهور التطرف، وساهما في توسعه واشتداده.
لم تكن الولايات ومعها الغرب وأجهزة استخباراتهم في المنطقة بعيدة عن مراقبة ما كان يحدث من تمدد واستقواء لتلك الحركات وفي طليعتها الدولة الإسلامية (داعش)، كما لم يكن بعيدا عنها معرفة الأسباب الكامنة وراء صعودها، والتي كانت توفر الظروف المناسبة لمزيد من التطرف والاستقطاب الطائفي في المنطقة، لكنها لم تفعل شيئا لمواجهة هذا الخطر الداهم، في وقت كان يمكن أن يتحقق بكلفة أقل وبزمن قياسي أقصر بكثير من الزمن الذي يفترضه القادة الأميركيون للقضاء على داعش، ومن دون أن يتبعه هذا التضخيم الكبير لخطر الجماعات الإسلامية المتطرفة، حتى تحولت إلى نوع من “الفوبيا” التي أصبحت تتجاوز حدود هذه الظاهرة إلى مفهوم الإسلام بصورة عامة.
وسط هذا الضجيج العسكري والإعلامي يكاد الحديث عن القاعدة وخطرها يتلاشى حتى كأنها أصبحت جزءا من الماضي، فهل كانت الحرب عليها هي الفصل الأول في هذه الحرب الأميركية، بينما الحرب على داعش هي الجزء الثاني منها، والسؤال الأهم هنا لماذا جاء هذا الصعود الغريب والمثير للريبة لقوة الدولة “الداعشية” بعد الانتفاضات العربية التي دخلت سوريا معها في مرحلة الاستعصاء نتيجة التدخل الخارجي إلى جانب النظام، وتجاهل العالم للمحرقة الرهيبة للشعب السوري، حتى تحولت هذه الانتفاضات إلى أشبه ما يكون بنزع صمام الأمان، الذي انفجرت على إثره كل تناقضات الواقع الكامنة وصراع المصالح الذي تقوده الجماعات المتطرفة دون أي تدخل دولي للحؤول دون تغول تلك الجماعات، وانعدام الاستقرار في المنطقة والذي سينعكس سلبا على الاستقرار في العالم.
قد يرى البعض أن مسؤولية هذا الوضع تعود إلى غياب النظام الدولي وتخلي إدارة الرئيس أوباما عن دورها القيادي في هذا النظام، لكن الوقائع التي حدثت وتحدث تقود إلى عكس هذا الاستنتاج، لأن من يريد القضاء على التطرف يجب عليه، أولا، القضاء على أسبابه ومحاربة الأنظمة التي ساهمت في تعزيز قوته وتمكينه ماديا وعسكريا، سواء من خلال تسهيل عملية سيطرته على مصادر النفط أو السلاح المتطور، كما حدث في مطار الطبقة والفرقة السابعة في محافظة الرقة السورية، أو كما حدث في الموصل وهو ما يكشف عن التواطؤ المكشوف من قبل نظامي دمشق وبغداد، بهدف التغطية على جرائم نظام الأسد باعتبارها جزءا من محاربة الإرهاب، وليست حربا على شعب خرج يطالب بالحرية.
إن أميركا التي تركت العراق تحت سيطرة الجماعات الطائفية الفاسدة وربيبة إيران، ها هي تترك، ومعها القوى الدولية الأخرى، اليمن لقمة سائغة لمطامع الجماعات الحوثية ومن خلفهم إيران على الرغم من وجود قرار دولي ينص على معاقبة الطرف الذي يحول دون تنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية هناك. كذلك الحال في ليبيا المتروكة لمصيرها الدموي مع سيطرة القوى الإسلامية المتطرفة عليها ومحاولتها فرض أجندتها الخاصة على الجميع، دون أن يكون هناك تدخل فاعل لاستعادة الدولة سلطتها والبدء بعملية بناء مؤسسات الدولة القادرة على إخراج ليبيا من أزماتها.
كل هذا وغيره يجعلنا نتساءل عن الأهداف الحقيقية الكامنة وراء حروب أميركا التي يبدو أنها لن تنتهي في المنطقة، وعن الأسباب التي جعلتها تتخلى عن مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية حتى نضجت ظروف تدخلها الذي فيما يبدو طويل الأجل وهو ما يجعلنا نسأل مرة أخرى عما تريده أميركا من حروبها في المنطقة.