أعلنت حركة "أحرار الشام" الإسلاميّة يوم 10أيلول/سبتمبر الماضي عن تعيين هاشم الشيخ المكنى بـ"أبو جابر" أميرا وقائدا عاما للحركة، و"أبو صالح الطحان" قائدا عسكريا عاما. وجاءت هذه التعيينات بعد ساعات على مقتل قادة بارزين في الحركة من ضمنهم مؤسسها حسان عبود المكنى بـ"أبو عبد الله الحموي" وقائدها العسكري "أبو طلحة" وأعضاء بارزون في مجلس الشورى كـ"أبو يزن الشامي" و"أبو عبد الملك" في مقر اجتماعهم السريّ بالقرب من قرية رام حمدان في ريف ادلب. تعد هذه الحادثة غير مسبوقة في مشهد الأزمة السورية، فلأول مرة تفقد حركة معارضة أكثر من 30 من أهم قياداتها في يوم واحد، ما يستدعي البحث في التداعيات التي ستترتب على ذلك.
أحرار الشام: نموذج جهادي جديد
تأسست حركة (كانت تسمى كتائب) أحرار الشام يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر2011 بعد انتقال الثورة السورية إلى العمل المسلح من قبل حسان عبود، وهو أحد السجناء المفرج عنهم من سجن صيدنايا بعد انطلاق الثورة. ولم يمض أشهر على تأسيسها حتى حققت أحرار الشام حضورا عسكريا وتنظيميا، فجذبت المقاتلين اليها، وزاد عدد منتسبيها لتصبح من أقوى فصائل المعارضة المسلحة. الأمر الذي شجع تنظيمات عسكرية أخرى؛ كحركة الفجر الإسلامية وجماعة الطليعة الإسلامية وكتائب الإيمان على الاندماح معها تحت مسمى "حركة أحرار الشام الإسلامية".
اتسمت حركة أحرار الشام بقدر من الانطوائيّة، إذ لم تنضم إلى أي من الأطر العسكرية والسياسية للمعارضة السورية (الجيش الحر/هيئة الأركان–المجلس الوطني/الائتلاف)، وفضلت التنسيق مع الفصائل ذات التوجه السلفي أو السلفي الجهادي. واعتبرت الحركة نفسها جزءا من ثورة الشعب السوريّ ضد الاستبداد والظلم، لكنها لم تشترك معها في جميع أهدافها ومبادئها وعلى رأسها؛ النظام الديمقراطي وآلياته كونه، وبحسب فهمها، "يتعارض" مع الشريعة وأحكامها. كما رفضت، وما تزال، الاعتراف بعلم الثورة والانضواء تحت رايتها الجامعة.
وعلى الرغم من انتمائها للسلفية الجهادية، لم تصطدم أحرار الشام، إلا في حالات قليلة، بالمجتمعات المحليّة التي توطنت واستقرت فيها نظراً لـ"مرونتها" وابتعادها عن سلوكيات متشددة. كما حرصت الحركة على تشيكل أجسام قضائية سميت "هيئات شرعية"، ضمتها وفصائل أخرى لحل الخلافات والنزاعات على المستوى الفردي والفصائلي.
وكان للحركة دور إغاثي ومجتمعي كبير إلى جانب دورها العسكريّ، واضطلعت بإدارة مدن وبلدات عدة خرجت عن سيطرة النظام وأهمهما مدينة الرقة قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها مطلع عام 2014. وقد ساهم نشاطها العسكري وأداء مقاتليها في مواجهة قوات النظام ونشاطها الإغاثي والمجتمعي الواسع وبنيتها التنظيمية المتينة (مقارنة بباقي الفصائل الإسلامية والجيش الحر) في جذب كثير من المقاتلين والكتائب والألوية الصغيرة للانضمام إليها والقتال تحت رايتها إلى درجة أصبحت الحركة أقوى فصائل المعارضة المسلحة وأكثرها تنظيما. وكنتيجة لذلك، ولعوامل إضافية أخرى كالتراجع المستمر لمؤسسات المعارضة السياسية والعسكريّة، وتغيير موازين القوى على الأرض بدخول حزب الله والميليشيات العراقية، وتهديد تنظيم "داعش"، اختار كل من لواء التوحيد، وجيش الإسلام، وألوية صقور الشام الابتعاد عن هيئة الأركان العسكريّة والاندماج مع أحرار الشام وفصائل اخرى في إطار سياسي وعسكري موحد سمي "الجبهة الإسلاميّة".
وقد توضح لاحقا، لاسيما بعد إصدار " مشروع أمة" (وهو ميثاق أصدرته الجبهة الإسلامية يعرف بالجبهة وأهدافها واستراتيجيتها ويحدد مواقفها من قضايا العلمانية، الديمقراطية، الدولة المدنية، القضية الكردية، المهاجرون، الأقليات) أن الحركة استطاعت فرض توجهاتها السياسية و"مواقفها الأيديولوجية" على باقي الفصائل خاصة بعد تعيين أميرها أبو عبد الله الحموي مسؤولاً للمكتب السياسي للجبهة الإسلامية. طمحت قيادة الجبهة ولاسيما بعد إصدار الميثاق إلى اندماج عسكري وتشكيل بديل سياسيّ عن الائتلاف وهيئة الأركان لكن هذه الخطوة لم تحصل لأسباب عديدة منها؛ قصور المشروع السياسي وغياب الإجماع الداخلي عليه، الاتفاق الشكلي بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية على استمرار الاعتراف بالائتلاف ممثلا وحيدا للمعارضة، فضلاً عن ضغوط عربية وإقليمية على قيادات الجبهة حالت دون ذلك.
ساهمت العوامل السابقة، وقابلية الحركة للمراجعات الفكرية والسياسيّة في إحداث تغييرات فكرية وسلوكية هامة خلال عام 2014 من أبزرها:
• انضمام الأحرار للمواجهة المسلحة ضد داعش مطلع عام 2014 على الرغم من تحفظات قياداتها على بعض الفصائل المشاركة، والخلاف حول هدف المواجهة النهائي، خاصة وأن قيادة الحركة كانت تفضل تحجيم التنظيم لا القضاء عليه، وإلزامه بقبول مبادرات التحكيم.
• التوقيع على ميثاق الشرف: توافقت عليه غالبية الفصائل السورية المسلحة، ويتضمن مبادئ عامة مستقاة من شعارات الثورة السورية الأولى كتحقيق الحرية والعدل والأمن للمجتمع السوري بنسيجه الاجتماعي المتنوع وبكافة أطيافه العرقية والطائفية، والمحافظة على وحدة التراب السوري مع الترحيب باللقاء والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية المتضامنة مع الثورة.
• تأييد مبادرة " واعتصموا": أعلنت فصائل سوريّة مطلع آب/ أغسطس 2014، وبمبادرة من بعض طلاب العلم الشرعيّ في سورية، وبعد اجتماعات عدة التوقيع على مبادرة سميت " واعتصموا"، تهدف إلى توحيد الفصائل والجبهات في مجلس واحد لقيادة الثورة السورية. وقد شارك الأحرار في الاجتماعات التحضيرية، وأعلنوا تأييدهم لها في 21 آب/ أغسطس 2014 لكن مجلش شورى الحركة لم يتخذ قرارا نهائيا، وكانت هذه المسألة مدرجة على اجتماع قادة الصف الأول ومجلس الشوري يوم التفجير.
تداعيات مقتل قادة الحركة
إن خسارة حركة أحرار الشام لأكثر من 30 من قيادات الصف الأول والثاني فيها سيؤثر دون شك على وضعها الداخلي وعلى علاقاتها بفصائل المعارضة المسلحة، وخاصة الإسلامية منها، والتي تشكل معها الجبهة الإسلامية، فضلاً عن تأثيره على محاولاتها الاندماج و التوحد مع فصائل أخرى.
• التداعيات على بنية الحركة واستمراريتها:
حركة أحرار الشام هي حصيلة اندماج فصائل عدة. وقد حرص أميرها السابق أبو عبد الله الحموي ومنذ تأسيسها على أن تكون مجاميع وسرايا مقاتلة تجتمع على فكرة الجهاد وتتبع لقيادة مركزية ومجلش شورى موحد مع تمتعها بصلاحيات عسكرية وإدراية واسعة، وتستشار في تزكية "أميرها الميداني".
وتعكس البنية التنظيمية لأحرار الشام بعضا مما طرحه أبو مصعب السوري (مرجع هام للحركة) عن "سرايا المقاومة الإسلامية"؛ فهي نظام عمل جهادي مؤسساتي متعدد المستويات يجمع فصائل ومجاميع عدة، وليست تنظيما جهاديا تقليديا مرتبطا بالأمير المركزي وقد ينهار أو يضعف بمقتله كما حصل في التجارب الجهادية المختلفة. وبناء عليه، فإن الحركة وإن كانت ستتأثر بغياب أبرز قادتها العسكريين والسياسيين والشرعيين، فإنها قادرة بحكم بنيتها التنظيمية المرنة على امتصاص الصدمة واختيار قيادة جديدة تحظى بإجماع وقبول داخلي. لكن ما يخشى منه ضمن الحركة، أن لا تنجح هذه القيادة في إدارة الاختلافات والتباينات الفكرية حول مسائل وقضايا تتعلق بهوية الحركة، وحدود الانفتاح على فصائل الجيش الحر، والعلاقة مع الفصائل الجهادية، والتعاون الإقليمي، والموقف من التحالف الدولي لقتال داعش بشكل قد يؤدي إلى حصول انشقاقات أو انفصال بعض الألوية والفصائل المبايعة عنها.
• التداعيات على الجبهة الإسلامية:
طالما نظرت قيادة أحرار الشام إلى الجبهة الإسلامية على أنها مشروعها الذاتي، وظهرا صلبا يؤمن لها الحماية والتحصين ضد أخطار محتملة داخلية وخارجية لاسيما ضد تنظيم الدولة. لكن الجبهة وإن نجحت نسبيا في زيادة مستوى التنسيق بين فصائلها الأساسية على المستوى المناطقي كما جرى في حلب، أو مبادرة القضاء والقيادة الموحدة في الغوطة الشرقية، إلا أنها فشلت في مسعى الاندماج الكامل بين فصائلها كما طرح ميثاقها.
في المدى المتوسط، يبدو الحفاظ على الجبهة الإسلاميّة صعبا في ظل الظروف التي تمر بها الأزمة السورية والحراك الإقليمي والدولي المرافق لها، لاسيما بعد الإعلان عن التحالف الدوليّ وبدء عملياته في سورية، وتركيز الفصائل المسلحة على البعد المناطقي المحلي من جهة، والعلاقة مع التحالف الدولي من جهة أخرى كدافع للتوحد أو زيادة التنسيق أكثر من التركيز على التوجهات الفكرية والمشروع السياسي الموحد. وبناء عليه قد تتحول الجبهة الإسلاميّة إلى عنوان سياسي وإعلامي فقط إذا لم تنجح القيادة الجديدة لحركة أحرار الشام والتي تشكل ثقلا في الجبهة من إعادة تفعيل نشاطها العسكري. وفي هذا السياق يُنظر إلى مسعى القيادة السابقة للاندماج مع لواء التوحيد وجيش المجاهدين باعتباره خطوة هامة يقع على كاهل القيادة الجديدة إعادة طرحها لإعادة إحياء الجبهة وضم قوى جديدة إليها لمواجهة أخطار محدقة كتهديد تنظيم الدولة و قوات النظام. ويتطلب ذلك، إزالة الرواسب والتباينات السابقة حول طريقة إدارة عمل الجبهة على الصعيدين العسكري والسياسي مع باقي فصائلها وخاصة ألوية صقور الشام وجيش الإسلام وهما فصيلان رئيسان كانا قد اتخذا قرارا بداية شهر آب/ أغسطس 2014 بالاندماج الكامل سياسيا وعسكريا، لكنه ما يزال مجمدا.
والجدير بالذكر أن الزعيم الجديد للأحرار أبو جابر كان من أوائل من دخلوا في مواجهة مع تنظيم الدولة عندما عندما كان أميرا للحركة على مسكنة في ريف حلب الشرقي. وقد تعهد في كلمته عند اختياره بمتابعة قتال الدولتين في إشارة إلى الموقف من تنظيم الدولة.
• التداعيات على مبادرة واعتصموا:
شكلت مبادرة " واعتصموا" امتحانا كبيرا لحركة أحرار الشام لتحديد هويتها بشكل نهائي؛ هل هي حركة ثورية سورية أم حركة سلفية جهاديّة؟. أيدت قيادة الحركة المبادرة لكن مجلس الشورى لم ينجح باتخاذ قرار حاسم بشأن الانضمام إليها. فالمبادرة، وفق رؤية الحركة، جاءت في سياق إقليمي ودوليّ يهدف إلى تشكيل قوة تدخل بقيادة موحدة تساعد التحالف الدولي في هزيمة تنظيم الدولة والتطرف الإسلامي، وهو عنوان عريض تخشى أن تصنف الحركة تحته في ظل مساعي دولية وإقليمية سابقا لإدراجها على لائحة المنظمات الإرهابيّة. في المقابل طرح الداعية السلفي الأردني إياد القنيبي مبادرة "الاصطفاف السني"، ويطالب بضرورة اتحاد "إخوة المنهج" في إشارة إلى تنظيم الدولة والنصرة وأحرار الشام وباقي فصائل السلفية الجهادية وتجاوز خلافاتهم لقتال من "يحاربون بالوكالة عن النظام الدولي" في إشارة إلى الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى الراغبة في الانضمام للتحالف الدولي. وقد استحوذت مبادرة القنيبي، وإن رفضت ضمنيًا في مواقف وتصريحات لبعض القادة القتلى، على مساحة من النقاش ضمن أوساط الحركة.
يمكن القول إن مبادرة واعتصموا رسخت وجود تيارين متباينين داخل الحركة على قرار يعتبرونه مصيريا وفارقا. الأول: منفتح، يطالب بالانضمام للمبادرة لاحتواء التغيرات في الإقليم والنظام الدولي ولكي لا ينتهي " المشروع الجهادي" في الكهوف والجبال، ويجادل بأن الحركه هي مشروع جهادي لا تنظيم وأن التعاون مع الفصائل السورية ضد ما يسمونه "صيالة" واعتداء تنظيم الدولة هو الطريق الأفضل للحفاظ على "المشروع الجهادي في الشام" وأن سورية كساحة جغرافية متأثرة بالقوى الإقليمية تفرض على الحركة التلاقي مع هذه القوى لا بل ومع قوى دولية عبر قنوات غير مباشرة إذا ما تقاطعت المصالح. ومن أبرز شخصيات هذا التيار شرعيو الجبهة ومنهم ابو عبد الملك الشرعي و أبو يزن الشامي الذي كتب قبل مقتله " إننا نملك رصاصتين في جعبتنا: الأولى الجبهة الاسلامية وقد اطلقناها، والثانية الانفتاح على الأمة".
الثاني: منغلق؛ يرى أحرار الشام حركة سلفية جهادية تقاتل لإعلاء سلطان الله وتحكيم الشريعة وإرساء الحكم الإسلامي الراشد. لا يمانع أنصاره في المرونة والانفتاح على الآخر لخدمة المشروع الجهادي لكنهم يرفضون أي مشروع يتعارض مع مبادئ الحركة وأهدافها، والدخول في أي تحالف دوليّ وإقليمي مع قوى " يكفرونها".
لطالما سعت القيادة السابقة للأحرار التوفيق بين التيارين، لكنها عجزت عن اتخاذ قرار واضح بشأن المبادرة والتعاون مع التحالف الدولي. وبناء عليه، فإنه من المرجح أن تقلد القيادة الجديدة سابقتها في سلوكها التوفيقي دون أن تمتلك القدرة على الانضمام لهذه المبادرة خشية انشقاقات واختلالات داخل الحركة. ويعزز من هذا الموقف قيام قوات التحالف الدوليّ باستهداف مواقع جبهة النصرة في اليوم الآول من بدء الضربات الجوية في سوريّة.
بالمحصلة، ستبقى حركة أحرار الشام حتى وإن تراجعت فاعليتها العسكرية من أقوى الفصائل العسكرية السوريّة التي تواجه قوات النظام ومقاتلي تنظيم الدولة. ومن المتوقع أن تسهم مراجعاتها في إعادة النظر بتوجهاتها السياسية وطروحاتها الأيديولوجية، لتصبح على المدى المتوسط قوة ثورية مسلحة، وليست حركة سلفية جهادية. إلا أنه ونظرا لعوائق داخلية وخارجية، فإن هذا التوجه قد لا يكون ممكناً في الظروف الحالية، وستسعى الحركة ما أمكن للتركيز على احتواء خلافاتها الداخلية والحفاظ على بنيتها التنظيمية قبل الانضمام لأي مشروع قائم.
في حزيران (يونيو) 1919، أرسلت الحكومة التركية الى مؤتمر فرساي رئيس الوزراء الدامات فريد باشا، بهدف إقناع المجتمعين بأهمية التنسيق مع بلاده. وقدم فريد باشا الى قادة المؤتمر مذكرة سياسية تتضمن مختلف المطالب التي تتمنى بلاده تحقيقها. وكانت، في مجملها، تركز على ضرورة المحافظة على الحدود الجغرافية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف.
وجاء في المذكرة ما حمل الرئيس الاميركي وودرو ويلسون، ورئيس الحكومة البريطانية ديفيد لويد جورج، ورئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو... على إعلان استنكارهم وغضبهم. والسبب أن تركيا، الدولة المهزومة في الحرب العالمية الأولى، طالبت المجتمعين في قصر فرساي بالامتناع عن توزيع أراضيها على الأكراد والأرمن واليونانيين! كما شددت المذكرة أيضاً على أهمية الاحتفاط بولاية الموصل وديار بكر والجزء الأكبر من ولاية حلب.
وكان من الطبيعي أن تُقابَل تلك المطالب بالرفض القاطع، مع تبرير معلن خلاصته: إن الامبراطورية المسلمة فشلت في إنصاف الأقليات المنضوية تحت لوائها، وخصوصاً الأقليات المسلمة.
ومن المفيد التذكير بأن ولاية الموصل في العهد العثماني كانت تمتد من زاخو، جنوب شرقي الأناضول، مروراً بداهوك وأربيل والغوش وكركوك والسليمانية... حتى جبال زاغروس، التي تشكل الحدود مع ايران.
وعلى رغم اختلاف الأزمنة والقادة، فإن أنقرة اليوم تسعى الى إقناع الدول الغربية بضرورة اعتماد سياستها في منطقة تعتبرها امتداداً طبيعياً لجغرافيتها القديمة.
وكما شكك زعماء مؤتمر فرساي بنيّات الدولة العثمانية... كذلك شككت واشنطن اليوم بمطامع الرئيس رجب طيب اردوغان الذي يربط تعاونه العسكري للمشاركة في محاربة «داعش» بالعمل أولاً على إسقاط نظام بشار الأسد.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة وقائع سياسية تعكس الى حد كبير الخلاف الاميركي- التركي حول مستقبل سورية. والمَثل على ذلك ما صرَّح به نائب الرئيس الاميركي جو بايدن الذي ألقى على تركيا مسؤولية إبراز «داعش»، وإظهاره بمظهر الجهة المتفهمة. وكان بايدن بهذا التلميح يشير، مداورة، الى عملية إنقاذ الرهائن الأتراك وما رافقها من تفاسير مريبة.
والملاحظ أن ذلك الخلاف قد تجدد عقب محاصرة مدينة عين العرب (كوباني)، ومطالبة واشنطن بالإسراع في نقل مساعدات عسكرية الى الأكراد المعزولين والمهددين في الداخل. وتبيَّن لاحقاً أن أنقرة تجاهلت نداء الادارة الاميركية لأنها كانت تتوقع من الرئيس باراك اوباما إعلان موقف نهائي حيال الحرب الأهلية في سورية.
يقول المراقبون إن الدولة التركية الحديثة تتوقع من سورية والعراق وإيران معاملة شبيهة بالمعاملة التي طلبها فريد باشا من باريس قبل مئة سنة.
وقد حظي هذا الاستنتاج بموافقة الدول التي تعاملت مع رئيس وزراء تركيا الحالي أحمد داود اوغلو، مُنَظّر مرحلة الانفتاح على فضاء الشرق الأوسط.
والثابت أن اردوغان استبعد صديقه ورفيق دربه عبدالله غل، واستعاض عنه بمستشاره اوغلو. والسبب أن غل رفض مبدأ تقسيم سورية خوفاً من انتقال العدوى الى بلاده... وأنه سعى الى منع تدهور العلاقات السياسية مع مصر، خصوصاً بعدما ادّعت أنقرة أن دفاعها عن الاسلام السنّي يفوق دفاع القاهرة.
ومن أجل تأمين هذا النهج السياسي، قرر اردوغان القيام بخطوات تكتيكية من شأنها إضعاف جارتيه، سورية والعراق. وعليه، فضَّل التعامل مع الاسلاميين المعتدلين في سورية... ومع التركمان والسنّة في شمال العراق... ومع مسعود بارزاني في كردستان، رئيس الحزب الديموقراطي.
وبما أن اردوغان يحاول تقليد ملهمه التاريخي كمال اتاتورك، فقد طلب من الاميركيين التعاون في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد. كما طلب اعتماد بلاده، العضو في حلف شمال الأطلسي، المرجعية والبوصلة السياسية في المنطقة.
قبل اجتماع القادة العسكريين لدول التحالف في واشنطن، زارت الناطقة باسم الخارجية الاميركية، ماري هارف، رئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو في أنقرة. واستعرضت معه مختلف جبهات القتال ضد «داعش»، على أمل إقناعه بضرورة الدفاع عن مدينة عين العرب المعرَّضة للاجتياح. وشعرت بالاستياء والإحباط بسبب تحفظه وانتقاده لأداء الجيوش العربية التي تملك أفضل الأسلحة الهجومية، والتي تدربت على مكافحة الارهاب مدة طويلة من الزمن. وأبلغها أن مسألة الأكراد تشكل «كعب أخيل»، أي نقطة الضعف بالنسبة الى حكومته.
وكان بهذا التلميح يشير الى التظاهرات الضخمة التي حشدتها جماعة عبدالله اوجلان - حزب العمال الكردستاني - في أنقرة وسائر المدن الكبرى. وقد واجهتها الدولة بإعلان حظر التجول وإنزال الجيش الى الشوارع بغرض فرض التهدئة ومنع الشغب.
كتبت الصحف الاوروبية تتهم اردوغان بالتحايل وخداع المجتمع الدولي، خصوصاً عندما وعد بإعادة مليون ونصف المليون كردي الى المواقع التي هربوا منها في سورية. ووصفت هذا الوعد بأنه «ابتزاز فاضح يرمي الى تطويع هذه الفئة من الأكراد المحسوبين على نظام الأسد».
وتزعم جماعة عبدالله اوجلان أن الرئيس التركي تساهل جداً في موضوع مقاومة «داعش» ومحاصرة كوباني، لأنه ربح من جهة أخرى أكراد سورية الذين منعوه من فرض منطقة عازلة تشبه المنطقة العازلة لأكراد العراق (1991). وهو يتصور أن قيام هذه المنطقة سيقود تلقائياً الى تقسيم سورية، أو الى انهيار النظام لمصلحة المعارضة المعتدلة التي جعلت اسطنبول مركزاً لنشاطاتها.
وفي هذا الأسبوع، صدت قوات البيشمركة الكردية هجمات لتنظيم «الدولة الاسلامية»، وسط أنباء عن تحصّن «الخليفة» أبو بكر البغدادي في قضاء الحويجة. وقد شاركت قوات الجو الاميركي في عملية القصف، بعدما انتشرت معلومات استخبارية تشير الى وجوده في تلك المنطقة. ثم تبين لاحقاً أن «داعش» هو الذي عمَّم هذه الأنباء المضلِلة بغرض إحداث بلبلة داخل كردستان، ومنع العرب والأجانب من العمل فيها.
وتشير المعلومات الى وجود نحو ثلاثين ألف لبناني في مدن كردستان. وقد ازدادت أعدادهم عقب التسهيلات التي منحتها حكومة مسعود بارزاني، والخدمات المصرفية والسياحية والإعمارية التي شهدتها أربيل والسليمانية وداهوك وكركوك. وتتركز مختلف القطاعات في أربيل حيث تظهر يافطات: بنك بلوم (لبنان والمهجر)، وبنك عودة، وبنك بيبلوس، وبنك البحر المتوسط، وفرنسبنك، وبنك بيروت والبلدان العربية، وبنك انتركونتننتال، الخ.
أما الشركات التجارية والصناعية والخدماتية فكثيرة، بينها: وكالات السجاير، اندفكو (شفيق افرام) جان فتال، أولاد جورج أبو عضل، يارد، وردة، دار الهندسة، خطيب وعلمي، شركة زوزيك، الشركة العربية للمقاولات (ميقاتي). كذلك قام اللبنانيون بتأسيس فنادق عدة من الدرجة الأولى، إضافة الى فتح مطاعم تقدم المازة مثل «الصفدي» و «الأفندي».
ومن زوار أربيل الدائمين الرئيس السابق الشيخ أمين الجميل والدكتور سمير جعجع. وقد زار البطريرك الماروني بشارة الراعي أربيل لتقديم الشكر الى المسؤولين في كردستان على حسن استقبالهم لمسيحيي الموصل.
وبين الأخبار، التي طغت على أخبار «داعش» هذا الأسبوع، كان الهجوم الثاني الذي قام به الحوثيون على الحديدة، عقب استيلائهم على العاصمة صنعاء. وبما أنهم لا يتحركون، ولا يتمددون، إلا بإذن طهران وتوجيهاتها السياسية، فإن سيطرتهم على معظم المحافظات اليمنية الشمالية تُعتَبَر المدخل الوسيع لإحكام قبضتهم على كل اليمن الشمالي.
ويعزو المراقبون توقيت هذه الخطوة الى التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة لتركيا، الدولة الطامحة الى عقد معاهدة سلام مع «داعش»، والى إسقاط نظام الأسد. وفي الحالين، تكون ايران هي الخاسر الأكبر.
لهذه الأسباب وسواها، يرى المحللون أن تحويل اليمن الى ساحة جديدة للصراع الايراني - السعودي - الاميركي - الخليجي سيضمن للجمهورية الاسلامية الاستيلاء على أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
قبل أربعة أشهر، طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من الحكومة الايرانية أن تتعامل مع الشعب اليمني على أساس المنطق والمساواة، من دون أن تفرِّق بين شيعي وسنّي. ورداً على ذلك التصريح، أعلنت الحكومة الايرانية أنها لا تريد سوى الخير للشعب اليمني. كذلك دعم المرشد الأعلى علي خامنئي التمدد الحوثي، الذي وصفه الرئيس حسن روحاني بأنه «نصر باهر... وشجاعة كبيرة».
وعلى ضجة هذا الاختراق، استيقظ اليمن الجنوبي ليطالب أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون بضرورة إعلان استقلال الجنوب عن الشمال. كما طالب الرئيس السابق علي سالم البيض باستعادة المقعد في المنظمة الدولية، الذي حصل عليه في 12 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1967.
اسطنبول – «القدس العربي»: تتصاعد بشكل متسارع حدة المصاعب والتحديات التي تواجه الحكومة التركية في ظل موجة احتجاجات دموية شهدتها البلاد هددت بانهيار «مسيرة السلام» مع الأكراد، بالتوازي مع توسع سيطرة «داعش» على الحدود السورية مع تركيا، وسط خشية أنقرة من محاولات دولية لتوريطها في عملية برية ضد التنظيم دون تلبية مطالبها بإقامة منطقة عازلة تساهم في إسقاط النظام السوري.
وبعد أكثر من عامين من مفاوضات «غبر مباشرة» بين الحكومة وعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني يبدو أن»مسيرة السلام» تواجه أصعب تحدياتها عقب الاحتجاجات الواسعة التي قادها الحزب داخل البلاد ضد الهجمات التي يشنها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مدينة عين العرب «كوباني» ذات الأغلبية الكردية، في سوريا، والمطالبات بتدخل الجيش التركي لحماية المدينة من السقوط في يد التنظيم الذي بات يسيطر على معظم أحيائها.
وبحسب رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو» فإن الإحتجاجات الواسعة التي قادها الأكراد في البلاد أدت إلى مقتل 33 مواطنا وعنصرين من الشرطة، وإصابة 135 شرطيًّا بجروح، وإحراق 531 سيارة شرطة، و631 سيارة مدنية، إضافة إلى تخريب 1122 مبنى؛ بينها 214 مدرسة، ومراكز تعليم القرآن الكريم، ومتاحف ومكتبات، وأعلنت مصادر طبية في وقت لاحق وفاة أحد الجرحى مما رفع إجمالي عدد قتلى الأحداث إلى 36 قتيلاً.
وعلى الرغم من توقف الاشتباكات منذ عدة أيام إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان الحكومة واصلوا توعدهم بملاحقة المسؤولين عن الأحداث وتقديمهم للمحاكمة بتهم التسبب في وفاة مدنيين وقتل رجال شرطة، بالإضافة إلى إثارة الشغب والإخلال بالأمن العام، وسط اتهامات لأطراف خارجية بالعمل على استغلال الأحداث لـ»زعزعة استقرار البلاد ونشر الفوضى».
واعتبر أردوغان أن الاحتجاج من أجل (كوباني) هو «مجرد ذريعة لإستهداف الوحدة الوطنية في تركيا» متهماً حزب «العمال الكردستاني» وحزب «الشعوب الديمقراطي» بالوقوف وراء هذه الأحداث، فضلا عن حزب المعارضة الرئيسي «الشعب الجمهوري»، وبعض وسائل الإعلام في الداخل والخارج، و»القوى الظلامية التي تقوم بعمليات عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي».
وتحاول الحكومة التركية بشكل متواصل التفريق بين المواطنين الأكراد وعناصر حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره منظمة «إرهابية» في محاولة لنزع شرعية تمثيل الحزب عن المواطنين الأكراد، وحشد الدعم لـ»مسيرة السلام» التي تهدف للتوصل إلــى حل نهائي للقضية الكردية ومنحهم المزيد مـــن الحقوق والحريات، بعد عشرات السنوات من القتال أدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص.
وفي هذا الإطار قال أردوغان: «هؤلاء يُظهرون للعالم بأسره كم هم همجيون، عبر إحراق مدارس، ومتاحف، ومكتبات، وكتب، ويفعلون ذلك بصورة متعمدة، كي لا يتعلم الأكراد، ويبقون جاهلين، ولكي لا يذهب الأطفال الأكراد إلى المدارس، لأنهم إذا درسوا فلن يقعوا فريسة لمكائدهم، واستغلالهم».
وهدد الرئيس التركي منظمي الإحتجاجات بشكل غير مسبوق، قائلاً: «تركيا ليست دولة ترضخ أمام حفنة منهم، لقد أضرموا النار في الممتلكات، لكنهم سيدفعون الثمن غاليًا، ونحن سنبني ما هو أجمل مما دُمر»، مضيفاً: «لا نرضخ لهؤلاء الذين يلعبون دور المطية في يد جهات دولية قذرة، بذريعة كوباني، وسنحاسبهم على ذلك».
وتعتقد العديد من الأوساط التركية ان أطرافاً دولية تهدف من خلال اثارة الإحتجاجات الداخلية والهجوم الإعلامي على تركيا واتهامها بدعم التنظيمات الإرهابية إلى دفع أنقرة للدخول في التحالف الدولي وشن حرب برية ضد «داعش» في سوريا بشكل منفرد، وهو ما يجعل الحكومة التركية تتردد في الالتحاق بالتحالف الذي يشن هجمات جوية ضد التنظيم منذ نحو الشهرين في سوريا والعراق.
وفي تصريحات أخرى، اعتبر أردوغان أن «اللعبة التي تُحاك ضد تركيا في الوقت الراهن واضحة للجميع» متعهداً بمواصلة «نضاله وكفاحه من أجل خدمة تركيا وشعبها»، بحسب قوله، لافتاً إلى أن هدف الإحتجاجات «تعطيل مسيرة السلام التي تهدف إلى إنهاء أعمال العنف والإرهاب التي شهدتها تركيا على مدار عقود».
وقال: «بعض الصحف، والمجلات الدولية قالت بلهجة مشتركة، إن مسيرة السلام الداخلي في تركيا تنتهي (…) إننا لا نضحي بمسيرة السلام من أجل الإرهاب، والمنظمات الإرهابية، ومكائدها الدموية، إن مسيرة السلام، هي مسيرة «أخوة»، وإن شاء الله تركيا ستؤسس لأخوة (77) مليون مواطن فيها».
وأعلن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي «بشير أطلاي»، الخميس أن الأيام المقبلة ستشهد حركة متسارعة، في مسيرة السلام الداخلي، نافياً ما سماها «الإشاعات» التي تحدثت عن إمكانية نقل «عبد الله أوجلان»، من معتقله إلى معتقل آخر.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينغ «أن المسألة ليست مسألة كوباني بل هي الرغبة في القيام بتمرد طالما فشلوا في تحقيقه، ولن يوفقوا في تحقيقه بعد الآن، بل سنقلب الدنيا على رؤوسهم». وجه صلاح الدين دميرطاش زعيم حزب «الشعوب الديمقراطي» المعارض (ذو الغالبية الكردية) انتقادات للحكومة التركية، مؤكدا أن حزبه لم يطلب تدخل الجيش التركي، من أجل إنقاذ مدينة «كوباني» السورية، بل طلب «فتح ممر لعبور المقاتلين الأكراد من تركيا»، من أجل المساهمة في الدفاع عن المدينة، على حد قوله.
ونفى دميرطاش في كلمته أمام الكتلة النيابية لحزبه، مسؤولية الحزب عن أحداث الشغب التي رافقت المظاهرات، وحذر من أنه في حال سقوط كوباني، فإن المدينة ستشهد مجازر، معتبرا أن «الحكومة التركية ستكون مسؤولة عن ذلك نظرا لعدم فتحها ممرا لعبور المقاتلين الأكراد».
من جهته اعتبر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن «مسيرة السلام الداخلي» مستمرة «بإرادة الحكومة التركية، وليس برغبة أي تنظيم، والأكراد والأتراك تربطهم أواصر تاريخية قديمة جمعت بينهم على هذه الأرض».
وترأس أوغلو، الخميس، اجتماعاً لمناقشة التطورات في «مسيرة السلام الداخلي» بعد الأحداث التي شهدتها البلاد، في مقر رئاسة الوزراء في العاصمة أنقرة، بمشاركة وزير الداخلية فاكان ألا والدفاع عصمت يلماز وحقان فيدان، رئيس هيئة الاستخبارات، والمهندس الأول للمفاوضات.
وشملت المرحلة الأولى من «عملية السلام» وقف عمليات حزب «العمال الكردستاني» وانسحاب عناصره خارج الحدود التركية، وقد نفذ شق كبير منها، فيما تتضمن المرحلة الثانية عددا من الخطوات الرامية لتعزيز الديمقراطية في البلاد، وصولا إلى مرحلة مساعدة أعضاء المنظمة الراغبين في العودة إلى البلاد، على العودة، والإنخراط في المجتمع.
وتقول الحكومة التركية انها استقبلت 200 ألف لاجئ، فروا نتيجــــة هجوم «داعش» على مدينة عين العرب (كوباني) بدون أي مســــاءلة، وقال أوغلو: «تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي قدمت أكثر المساعدات الملموسة من أجل كوباني، ومدت يد العون للمدنيين فيها، حيث فتحت أبوابها أمامهم، واستضافت 200 ألف لاجىء قادم منها».
إسماعيل جمال
صحيح أن السياسة والاستراتيجيات عمليات معقدة ومتشعبة، إلا أن نظرة سريعة إلى التحالف الدولي الذي يستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا جواً تؤكد ببساطة أنه يصب، بطريقة أو بأخرى، في مصلحة النظام السوري وحلفائه تحديداً. دعكم من سخافات انتهاك السيادة السورية. فلا أخلاق في السياسة. صحيح أن طائرات التحالف تنتهك الأجواء السورية بمفهوم القانون الدولي، لكنها تقصف ألد أعداء النظام الذين اسقطوا العديد من مطاراته ومواقعه، ومرغوا أنوف جيشه بالتراب. ألا تتذكرون ما فعله تنظيم الدولة بجنود الأسد في الرقة والطبقة؟ ألم تروا طوابير الجنود العراة الذين استعرضهم التنظيم كنوع من الإهانة للأسد في الرقة، ثم أعدمهم جميعاً بطريقة وحشية؟ ألا تتذكرون مناظر قطع الرؤوس الرهيب لقوات الأسد في أكثر منطقة؟
هل كانت تلك المشاهد المريعة مجرد لعب عيال، أم إنها كانت ضربة نجلاء لكبرياء الجيش السوري ونظامه؟ ألم يثر جماعة النظام على القيادة وحمّلوها مسؤولية سقوط المطارات وإهانة الجنود والضباط على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية؟
فماذا ستكون ردة فعل النظام وجماعته إذن عندما يرون طائرات التحالف تدك مواقع وأرتال القوات التي أهانت الجيش السوري، وقطعت رؤوس العديد من جنوده؟ لا شك أنهم سيشعرون بالتشفي والفرحة، وسيقولون: عدو عدوي صديقي.
لقد نزلت ضربات التحالف الدولي على مواقع تنظيم الدولة في سوريا برداً وسلاماً على نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين وحزب الله وروسيا. وبالرغم من التصريحات الروسية الخجولة حول عدم شرعية التحالف، فلا شك أن الروس والإيرانيين سعداء في قرارة انفسهم وهم يرون الطائرات الأمريكية والعربية تدك مواقع تنظيم الدولة في سوريا والعراق. ولا شك أنهم يرددون المثل الإيراني الشهير: «لا تقتل الأفعى بيدك، بل اقتلها بيد عدوك». وهذا ما يحصل فعلاً في سوريا والعراق.
دعكم من التحليلات الرغبوية. المهم ما يحصل على الأرض. ألم يستغل النظام السوري عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا لتكثيف عملياته العسكرية الرهيبة ضد المناطق الثائرة؟ ألم يلجأ في حي جوبر إلى استخدام أسلحة روسية لم يسبق لها مثيل في التدمير، بينما أعين العالم كلها منصبة على عمليات التحالف ضد تنظيم الدولة في شمال وشرق سوريا والعراق؟ ألم تزدد همجية الجيش السوري مرات ومرات؟ ألم يلجأ إلى سياسة الأرض المحروقة تماماً، حتى لو أزال مناطق بأكملها عن الخارطة؟ بعبارة أخرى، فإن القصف الدولي لتنظيم الدولة جاء بمثابة غطاء للنظام السوري كي يفعل ما يشاء في المناطق الخارجة عن سيطرته. ولا شك أنه ينجح. لاحظوا أن النظام استعاد الكثير من المناطق أثناء القصف الدولي لتنظيم الدولة. وهو يبلي بلاء حسناً في ريف دمشق وحتى حلب، بينما الكل مشغول بعمليات التحالف ضد تنظيم الدولة.
ليس صحيحاً أن تنظيم الدولة يواجه فقط حرباً جوية غير مجدية، وأن لا أحد مستعدا أن يواجهه على الأرض. ألا تقوم قوات النظام السوري وحزب الله وإيران بمواجهة تنظيم الدولة براً، بينما تقصفه طائرات التحالف جواً. والنتيجة أن الجيش السوري يسيطر على كل المناطق التي يتركها تنظيم الدولة. بعبارة أخرى، فإن الطائرات الأمريكية والعربية تقوم بإضعاف التنظيم جواً تاركة المجال للقوات السورية كي تنهكه براً، ومن ثم تسيطر على المناطق التي تركها، خاصة وأنه ليس هناك أي قوات للجيش الحر تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركه انسحاب تنظيم الدولة من هذه المنطقة أو تلك. فقوات الجيش الحر التي تزعم أمريكا أنها ستدربها لن تكون جاهزة قبل أشهر. وفي هذه الأثناء يكون الذي ضرب، ضرب، والذي هرب، هرب كما يقول المثل الشعبي. بعبارة أخرى، يكون الجيش السوري قد استعاد المناطق التي فقدها بدعم جوي أمريكي وعربي. باختصار، فإن الحملة الدولية على تنظيم الدولة تتم عملياً بالتعاون بين أمريكا جواً ونظام الأسد وإيران براً، ينما يدفع العرب كلفة الحملة العسكرية لصالح تعزيز نظام الأسد .تلك هي نتيجة التحليلات الغربية الواقعية.
ويؤكد روبرت فيسك في صحيفة «الاندبندنت» أنه «في اللحظة التي تحركت فيها الولايات المتحدة، ووسعت حملتها ضد تنظيم الدولة لتشمل سوريا، حصل بشار الأسد على دعم عسكري وسياسي أكثر من أي قائد آخر، فبانفجار القنابل في مناطق شمال وشرق سوريا يمكن للأسد الاعتماد الآن على دعم روسيا والصين وإيران وأمريكا، وحزب الله والأردن ودول الخليج للحفاظ على نظامه. ويشير الكاتب إلى أن الأسد يمكنه الآن الجلوس في بيته في دمشق ليفكر كيف تقوم أقوى دولة في العالم، التي حاولت ضربه العام الماضي باستهداف أعدائه.و يضيف فريديريك بيشون الكاتب والمحلل السياسي «لوكالة فرانس برس» في تقرير نشره موقع «شؤون خليجية» أنه بالنسبة إلى بشار الأسد، فإن وضعه ممتاز من الناحية السياسية والجيوسياسية، لأن واشنطن ولندن ستجدان نفسيهما في الخط نفسه إلى جانب دمشق. ويعتبر الباحث في معهد بروكينغز «تشارلز ليستر» أن النظام السوري سيخرج أكثر قوة.
وينتهي موقع «شؤون خليجية» إلى نتيجة مفادها أن دول الخليج تتحمل فاتورة التحالف الدولي ليس من أجل القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن من أجل القضاء على المعارضة السورية وإعطاء قبلة الحياة لنظام بشار الأسد، الذي نجح حتى الآن في السيطرة على الأماكن التي انسحب منها تنظيم الدولة.
البعض يأمل أن تطال ضربات التحالف لاحقاً مواقع النظام السوري، مما سيقلب الطاولة رأساً على عقب. لكن ذلك يبقى في إطار التكهنات والتمنيات الرغبوية حتى الآن على الأقل.
لم يكن الفريق قاسم سليماني قائد «الحرس الثوري» الإيراني حاضراً في الاجتماع الذي دعا اليه الرئيس باراك أوباما القادة العسكريين لـ 22 دولة غربية وعربية وشرق أوسطية لمناقشة الحملة على تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وبحث أفضل الوسائل لمتابعة الحرب على هذا التنظيم وكسبها.
كان سليماني في ذلك الوقت يتابع المعركة على الارض في العراق حيث ينتشر عناصر «داعش»، فيما كانت طائرات دول التحالف المشاركة في الحرب تقصف مواقع التنظيم من الجو. بالمعنى الاستراتيجي لا يمكن ان يعني هذا سوى ان أميركا وإيران تخوضان اليوم معركة واحدة ضد عدو واحد، وان كانت الدولتان تخجلان، حتى الآن، من المجاهرة بذلك، لما له من انعكاسات سلبية على سمعة البلدين وصدقيتهما لدى حلفائهما في المنطقة.
مع ذلك، لم يعد الإعلام الإيراني يتردد في نشر صور سليماني، الذي كان يندر الاعلان في السابق عن وجوده في مواقع المعارك التي تديرها إيران وحلفاؤها، سواء في العراق او سورية او لبنان. هكذا ظهرت صور سليماني على شاشة التلفزيون الإيراني الى جانب المقاتلين الاكراد في شمال العراق، فيما كان أحد مستشاري المرشد علي خامنئي يؤكد ان وجود الجمهورية الاسلامية ودعمها هو الذي حال دون سقوط بغداد. «وبمساعدة الجمهورية الاسلامية وخبرتها ومشورتها تمكن الشعب العراقي من وقف تقدم «داعش». واضاف ان سليماني تعرض لخطر «الاستشهاد» ليضمن بقاء الحدود الايرانية مع العراق في أمان.
تقدّم «داعش» في مناطق شمال العراق بعد سقوط الموصل بصورة مفاجئة وسريعة في مطلع حزيران (يونيو) الماضي تحوّل الى ورقة في يد إيران. إذ فيما كانت الدول الاقليمية والغربية تتردد حيال التدخل وتبحث الخطط لمواجهة الانقلاب الجديد في موازين القوى على الارض، كان الايرانيون أول من وصل الى أرض المعركة لمساعدة قوات «البيشمركا» وحماية أربيل وسائر المناطق الكردية من تقدم «داعش». ويعترف اكراد العراق انه لولا هذا العون الإيراني لكانت أربيل اليوم هي كوباني العراقية.
في هذه الاثناء، توصل الإيرانيون الى صفقة مع ادارة باراك اوباما دفع ثمنها رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، الذي تمّ تحميله مسؤولية فشل الجيش العراقي في حماية الموصل. اشترط اوباما لمساعدة العراقيين ان يتم إبعاد المالكي، لكن التدخل الاميركي الخجول ترك الساحة فارغة فملأها الايرانيون. ادركوا ان الفرصة سانحة للوقوف في الصف ذاته الى جانب الحرب الكونية ضد الارهاب، متمثلاً في تنظيم «داعش». طوى الايرانيون بذلك صفحة محاسبة المالكي، رجلهم السابق في بغداد، عن سياسته الخرقاء والطائفية التي سمحت بنمو هذا التنظيم الارهابي، وحوّلت الجيش العراقي الى ميليشيا يغلب عليها الطابع الشيعي، ما جعل قياداته تنسحب من مسؤولياتها في الدفاع عن محافظة نينوى باعتبارها «محافظة سنّية». وبدل ان تكون طهران في موقع المتّهم نتيجة نفوذها في بغداد ايام المالكي، تريد الآن ان يُنظر اليها على انها المنقذ للعراق من شرور «داعش»، وهو ما أكده رئيس «المجلس» الايراني علي لاريجاني بقوله انه لو لم تتدخل ايران في العراق لكان الوضع في هذا البلد قد خرج عن السيطرة بالكامل.
تنتقد ايران الحلف الدولي القائم اليوم ضد تنظيم «داعش». ويعتبره علي خامنئي محاولة أميركية لزيادة الهيمنة وتوسيع الوجود العسكري الاميركي في المنطقة. غير ان الحقيقة وراء هذا الستار الكثيف من الغبار ان الايرانيين، المسؤولين عن صنع «داعش» وعن نموّه، والذين تتحمل سياساتهم (من بغداد الى صنعاء مروراً بدمشق وبيروت) المسؤولية عن توفير البيئة الحاضنة له في أماكن وجوده، هم الذين يستثمرون اليوم الحرب على هذا التنظيم، ويضعون أنفسهم في موقع الحليف الضروري فيها.
افتقدت ثورة السوريين، منذ بداياتها، مرجعية سياسية ومفهومية وحزبية، إذ عرفت بأنها حالة ثورية عفوية، أو بمثابة حالة انفجارية، يفسرها اجتماع القهر والغضب والتوق للخلاص، عند معظم السوريين، كما تفسرها عقود من المحو والتهميش، واحتكار السياسة والسلطة والمجال العام من قبل النظام.
هذا الوضع سيفسّر، أيضاً، التطورات الحاصلة في ما بعد، وضمنها صعوبة انتظام السوريين في هيكلية سياسية معينة، وتعذّر خضوعهم لمرجعية فكرية محددة، واختلافهم على كل شيء، وتالياً تقوّض ادراكاتهم لذاتهم وتفرّق دروبهم في صراعهم مع نظامهم وفي ما يخص اجتهاداتهم حول مستقبلهم، على رغم كل الأهوال التي أحاقت بهم، وما زالت.
طوال الأعوام الماضية، واجه السوريون اختبارات عدة، ربما كان أولها ما يتعلق بطبيعة الثورة، أو الطريق الأنسب للتخلص من النظام، وهو ما تم حسمه بتغليب الشكل العسكري على غيره من الأشكال الكفاحية، الشعبية او المدنية.
وبغض النظر عن اعتبار ذلك بمثابة رد فعل على انتهاج النظام لأقصى اشكال العنف ضد السوريين، وثورتهم، إلا أن هذا التحول لم يحدث بنتيجة تطور تدريجي في عمل الثورة، ولا بنتيجة وعي ذاتي، وإنما بدفع من أطراف خارجية. وبالمحصلة فإن هذا الأمر، بغض النظر عن ضرورته، من عدم ذلك، لم يلق اجماعاً من النشطاء الفاعلين في الثورة، أو محركيها في عامها الأول، كما اثر بطريقة سلبية على نظرة مختلف مكونات المجتمع السوري لها، سيما ان الأمر لم يتوقف فقط على العسكرة، وتركيز المواجهة ضد النظام، وإنما كانت له ارتدادات أخرى.
لا تتعلق المسألة هنا بالمفاضلة بين الثورة الشعبية السلمية والثورة المسلحة، لأن الثورة السلمية لا يمكن ان تنجح في سورية، أيضاً، لسبب بسيط مفاده ان النظام يعتبر البلد بمثابة مزرعة خاصة، فهذه بالنسبه له «سورية الأسد إلى الأبد»، ولا مكان فيها لمفهوم الشعب، ولا للسياسة، والطريق الوحيد المعتمد عنده لمواجهة الخروج على هذه المعادلة هو انتهاج اقصى العنف والقمع. وقد نتج من ذلك مصرع حوالى 500 شخص في الشهر الواحد، في الأشهر الثماني الأولى من الثورة السلمية، برصاص أجهزة الأمن والشبيحة. ومعلوم أن هذا العدد ارتفع بعدها الى 2000 ثم إلى 4000 شهرياً، مع استخدام النظام للقصف من المدفعية والطائرات، بحسب معطيات «مركز توثيق الانتهاكات في سورية» (www.vdc-sy.info).
اذاًً الأمر هنا يتعلق تحديداً بكيفية العمل في ظل غياب الشروط المناسبة للثورة، سلمية او مسلحة، وخلق الظروف التي تسمح بمراكمة تلك الشروط والامكانات والخبرات، للتحول المتدرج من مستوى معين إلى غيره. وعلى سبيل المثال، فإن الثورة التي لا تستطيع تنظيم عصيان مدني، أو فك علاقة مجتمعها بأجهزة النظام/الدولة لا يمكن لها التحول دفعة واحدة الى ثورة مسلحة.
الأهم من ذلك أن الدفع نحو الثورة المسلحة جرى بدفع خارجي، وبوعود سخية بالدعم، وهو ما لم يحصل، بل إن هذين، أي الدفع المبكّر والمتسرع، وغير المدروس، نحو العسكرة، ومحدودية الدعم المالي والتسليحي، أديا إلى تعميق ارتهان ثورة السوريين بالداعمين الخارجيين، وتالياً الاشتغال وفقا لأجندتهم السياسية، ما أضر بالثورة وبالمجتمع السوريين. طبعاً هذا الكلام لا علاقة له بالتشكيلات المسلحة التي انبثقت نتيجة الانشقاق من الجيش النظامي لرفضها الأوامر، ولا بجماعات الحماية المحلية في بعض قرى واحياء المدن، والتي فرضتها ردود الفعل، على عنف النظام، وانما يخص الجماعات التي جرى تفريخها بدعم خارجي، ووفق اجندة معينة لا تراعي إمكانات السوريين، ولا درجة تطور ثورتهم وخبراتهم.
وقد انبثق من المعطى السابق، أي التعويل على الثورة المسلحة، وتالياً على الدعم الخارجي، توهم إمكان استجلاب تدخل دولي وإقليمي في الشأن السوري، حتى أن ثمة يوماً أطلق عيه اسم «جمعة التدخل الخارجي». في هذا الإطار لا نقلل من الإشارات التي وجهتها بعض الدول، في إشاعة هكذا وهم، وقيام سفراء دول اجنبية بزيارة المتظاهرين في ساحات الاعتصام في حماة وحمص، وتصريحات رجب طيب اردوغان رئيس الحكومة التركية وقتها، والرئيس حالياً، بأن حلب خط أحمر، وانه لن يسمح بتكرار تجربة حماه. بيد أن كل ذلك لم يتحقق منه أي شيء، لا حظر جوي ولا إيجاد مناطق امنة، ولا دعم تسليحي مناسب، لوقف الغارات الجوية المدمرة على الأقل، وبالعكس فقد اعطي النظام فرصة لتدمير البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، وتهجير ملايين السوريين. والفكرة هنا أن «الدول الصديقة»، اجنبية او عربية، لم تفعل شيئاً لوقف مأساة السوريين، وإنقاذهم، وان الطبقة السياسية المتحكمة بالثورة السورية ظلت على مراهناتها، ولم تراجع مسارها على ضوء هذا الخذلان الخارجي. ومن الواضح ان هكذا مراهنة ادخلت الثورة في حسابات ودفعتها إلى انتهاج استراتيجيات تفوق قدرتها على التحمل، وأكبر من امكاناتها، الأمر الذي اوقعها بمشكلات عديدة، دفع ثمنها السوريون باهظاً، من عمرانهم واستقرارهم ومن سلامة مسار ثورتهم، وهذا ينسحب حالياً على الاضطراب في الموقف من الضربات الجوية الموجهة ضد داعش.
ايضاً في الاختبار المتعلق بظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة، العنيفة والتكفيرية، بدا ان ثمة تضعضعاً في اجماعات السوريين، إذ هناك من اعتبر هذه الجماعات جزءا من معسكر اسقاط النظام، وثمة من رأى فيها، نبتا غريباً عن السوريين، وعن ثورتهم ومعتقداتهم، وأنها تشكل خطراً على سورية المستقبل والبيئات الشعبية الحاضنة للثورة، كما بينت ممارساتها في المناطق التي تسيطر عليها. في الغضون يبدو ان البعض نسي، في غمرة حماسه لإسقاط النظام، أن هذه الجماعات لا تعترف بالثورة، ولا تحسب نفسها عليها، ولا تقاتل النظام بسبب الاستبداد والفساد، وقضايا الحرية والديموقراطية، وانما لأسباب أخرى، ذات طبيعة دينية وطائفية.
وقصارى القول، يبدو أن ثورة السوريين باتت اليوم، في مظهرها الأغلب، خارج السياسة، وفي إطار الصراع الهوياتي والديني، وهو اكثر شيء يضر السوريين وثورتهم ومستقبلهم، وأكثر شيء يفيد النظام، وهو الأمر الذي يفترض بهم العمل على مواجهته وتصحيحه.
كعادته يقوم رئيس حزب التقدمي الإشتراكي اللبناني وليد جنبلاط بإطلاق تصريحات خارج دائرة ما يسمى في الغرب «الصحيح قوله سياسيا» Political Correctness حيث تلتزم كل الأطراف بقول ما «يجب قوله» وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالمحرّمات السياسية العنصرية والدينية والإجتماعية.
ففي مقابلة تلفزيونية معه اعتبر جنبلاط أن «جبهة النصرة» ليست تنظيماً إرهابياً، وقال إن عناصرها هم مواطنون سوريون.
الزعيم الدرزي الشهير اخترق متعمداً التصنيفات الأمريكية والعالمية التي تقرّر مصائر وأقدار الأنظمة والجماعات فتدفع ببعضها إلى بوابة جهنم الإرهابية وتجعلها نهباً لمن انتهب، أو تخرجها إلى جنّة الكيانات السياسية المرضيّ عنها في العالم فترفل بأثواب الطمأنينة وينال زعماؤها، حتى لو كانوا مجرمي حرب كبار، جوائز السلام!
يحبّ وليد جنبلاط، من حين لآخر، أن يلاعب النظام العالمي المليء بالتناقضات والفجوات السوداء والأكاذيب الصارخة، وينبّه الناس بذلك إلى أن الإمبراطور الأمريكي الذي يحدّد من هو الإرهابي ومن هو المتمتع بالشرعيّة الدولية، ليس إلا امبراطوراً عارياً لكنّ العالم إما يتجاهل الأمر أو يدّعي أنه لا يراه.
لا يحتاج الوضع السوري إلى محلل عبقري ليمسك المرء بتناقضات أمريكا الفاضحة فيه، وخصوصا فيما يتعلق بتصنيفاتها للإرهابي وغير الإرهابي، فطيرانها الذي يجوب أجواء سوريا بترحيب من النظام السوري نفسه، وبتنسيق «موضوعيّ» معه، وهو النظام المسؤول عن مقتل مئات آلاف البشر ومآسي نزوح الملايين منهم، فإن الضغط الأمريكي انصبّ على تركيا لتقديم الدعم لحزب «الاتحاد الديمقراطي»، ذراع حزب العمال الكردستاني التركي في سوريا، رغم أن حزب العمال المذكور هو أيضاً «إرهابي» حسب قوائم حلف الأطلسي وأوروبا وأمريكا.
وبما أن الحال كذلك، فالسؤال هو، ما دام تصنيف الإرهاب يمكن طيّه في شمال شرق سوريا مع حزب العمال الكردستاني، ويمكن طيّه في التعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد، فماذا يمنع من سحب القياس المنطقي إلى «جبهة النصرة».
يقيم الفيلسوف الشهير سلافوي جيجيك مقارنة بين طفلة أمريكية قتل أبوها في أفغانستان تعلن امتنانها لتضحيته بنفسه لأجل بلاده، ثم يتخيل فتاة عربية مسلمة تردد أمام الكاميرا الكلمات نفسها حول أبيها المقاتل في طالبان (أو «النصرة» في الحالة التي ندرسها)، ويؤكد أن رد فعل الغربيين على ذلك سيكون أن الأصوليين الإسلاميين لا يتورعون عن التلاعب بعواطف الأطفال خاتماً استقراءه بالقول إن أكثر من مليوني أصولي يميني أمريكي يمارسون الإرهاب على طريقتهم معتبرين أن المسيحية (كما يفهمونها) تجعلهم يؤمنون أن كل ما يقومون به قانوني.
لكن الإشكالية الكبرى ليست في المقولة التي لخصها جورج بوش الإبن بالقول «من ليس معنا فهو ضدّنا»، ولا في انجرار الإعلام العالمي إلى الترداد الببغائي لما تقرره وتقوله أمريكا (وخلاصتها العنصرية: إسرائيل) حول من هو الإرهابي ومن هو «المقاتل من أجل الحرية» (كما قرّرت الآن مع الحالة الكرديّة في تجميد لاعتباراتها الرسمية أو في انتقائية تفسيرها لقرار مجلس الأمن حول «المقاتلين الأجانب»).
الإشكالية المؤلمة هي في اعتناق قطاعات واسعة من العرب والمسلمين للأفكار الأمريكية الرائجة عنهم، بحيث تكون الدولة التي تقتل 2100 فلسطيني بالمدافع والصواريخ والقذائف بلداً يدافع عن نفسه ضد إرهاب «حماس»، التي يصبح «التخابر» معها وليس مع العدو الإسرائيلي إجراماً يستدعي الإطاحة برئيس منتخب، ويغدو قتل أكثر من مئتي ألف سوري أمراً يمكن تناسيه ومصافحة القتلة، فيما أن ذبح شخص أمريكي أو أوروبي (وهي جريمة نكراء لا شكّ فيها) سبباً لتحشد الجيوش واستنفار أجهزة استخبارات العالم.
ولمن لا يعلم فإن أسئلة جنبلاط الساخرة من العالم ليست غائبة حقاً عن أذهان رجال السياسة الغربيين، الذين يعرفون أن الخالد في السياسة هو المصالح وليس المبادئ وأنها هي التي تقرر وليس قوانين البشرية التي لا تكفّ أمريكا عن تطويعها لمصالحها كلما أرادت ذلك، واسألوا سادة العراق عن «حصانة» الجندي الأمريكي، وعندها تعرفون لماذا صعد نجم أبو بكر البغدادي!
في الختام، وبغض النظر عن رأي السيد جنبلاط، لا بد أن نسجل ان من حق التنظيمات المعارضة استخدام كافة الوسائل لمواجهة الدكتاتورية، ولكن على هذه التنظيمات الابتعاد عن اسلوب الانظمة المستبدة ومراعاة حقوق الانسان وعدم اللجوء للخطف والنحر.
أزمات الشرق تزداد تعقيدا لأسباب متنوعة، وتنذر بتحول المنطقة نحو المزيد من التوتر الداخلي والاحتراب العرقي والطائفي. كما ان حالة الاستقطاب السياسي تتوسع لتدخل المنطقة واحدة من اشد حقبها التاريخية سوادا. فما من بلد الا ويعاني من ازمات سياسية او امنية، وما من شعب الا ويشعر بالاحباط والتخوف مما يخبئه المستقبل.
في المقام الاول تزداد هوية ما يسمى «الدولة الاسلامية» غموضا، وما اذا كانت القيادات الداعشية المعلنة هي التي تحدد هويتها وسياساتها، ام ان هناك «تحالفا» غير معلن يخطط لمشروع سياسي ايديولوجي أوسع مما يمثله مشروع «الدولة الاسلامية» للوهلة الاولى. وحين تتخذ الدول الاقليمية الكبرى مواقف تتسم بالغموض الشديد، وحين توغل السياسة الغربية في الضبابية والاهداف، وعندما يتم تهميش الشعوب الى المستوى الحالي من غياب الارادة او القدرة على التأثير، فان الوضع يستدعي تفكيرا جادا لاستنطاق الواقع والسعي للتعرف على ملامح ما هو مقبل من الامور والتطورات. فمثلا عندما اعلنت الولايات المتحدة عزمها على استهداف «داعش» في سوريا والعراق، كان واضحا غياب التوافق الغربي على ذلك. فبريطانيا لم تنضم لامريكا الا بعد ايام من بدء العمليات العسكرية، وتركيا ما تزال مترددة في اتخاذ موقف واضح في التدخل المباشر لضرب «داعش»، بل تسعى لتوسيع اهداف التحالف ليشمل استهداف النظام السوري نفسه. اما دول الخليج بقيادة السعودية فقد شاركت بخجل بعد ان خشيت ردة فعل امريكية غاضبة بسبب الاعتقاد السائد بان تلك الدول تقف وراء تصاعد التطرف والارهاب متمثلا بظاهرة داعش. وبلغت أزمة الثقة ذروتها بعد ان اطلق ريتشارد بايدن، وزير الخارجية الامريكي، علنا انزعاجه من «دعم الحلفاء» لتنظيم الدولة الاسلامية وذكر السعودية والامارات وتركيا بالاسم. ولتحاشي المزيد من التوتر في العلاقات بين امريكا وهذه الدول بادر بايدن بـ «الاعتذار» عما قال، ولكن ذلك الاعتذار لم يلغ حقيقة ما ذكر، ولم يخفف من الشكوك العميقة المتبادلة بين واشنطن والعواصم الخليجية.
ساحتان ساخنتان ساهمتا في تلبد اجواء العلاقات بين امريكا والتحالف الخليجي – التركي: تطورات الوضع اليمني في جنوب الجزيرة العربية وتوسع نفوذ «الدولة الاسلامية» في شمال العراق وسوريا. وفي الحالين يمكن استحضار العامل المذهبي ليساعد على تحليل الوضع، ولكنه ليس العامل الحقيقي في ما يجري، بل يمثل غلاف الازمة وظاهرها.
اما الجوهر فتتفاعل فيه عوامل بعضها يرتبط بالاصرار على حماية الاستبداد والتخلف في العالمين العربي والاسلامي، وبعضها ذو صلة بالاحتلال الجاثم على صدور الامة اكثر من ستة عقود، والبعض الثالث لا ينفك عن الخشية من قيام نظام سياسي اسلامي يوفر للمسلمين بديلا للنظام الغربي الذي تعترضه صعوبات جمة. ولذلك تجتمع اطراف عديدة تجمعها هذه العوامل لتقود الحملات العسكرية والاعلامية غير المحدودة بهدف اشغال الشعوب وتهميشها وتصفير دورها في النهضة او البناء الحضاري المنشود. فمنذ بدايات الاسلام كان هناك تعددية فقهية وفكرية ضمن الاطار الاسلامي الجامع للامة، وقد استطاعت شعوبها التعايش ضمن هذا الاطار الجامع مع احتفاظ كل طرف بخصوصيته العرقية او المذهبية، بل الدينية احيانا. فقد عاش المسيحيون واليهود في كنف الدولة الاسلامية التي احترمت الجميع ووفرت الحماية له.
ويسطر التاريخ في اسفاره ان يهود اسبانيا فضلوا الرحيل مع المسلمين بعد سقوط الاندلس لينعموا بالامن الذي تمتعوا به في ظل الحكم الاسلامي. ولذلك فما هو مطروح اليوم ليس استعادة تلك الروح التي هيمنت على الاطار السياسي الاسلامي قرونا، بل التشبث بمسمى خاو من المضمون، يتبنى الاسلام ظاهرا ويمارس ما يناقضه في الواقع والتصور والاهداف. وبدلا من تطوير اداء المشروع الاسلامي بما يواكب التطورات الانسانية والاجتماعية في مضامير الحكم والادارة، تم الجمود على ما اسماه العالم الكبير، الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله «فقه البداوة» الذي جمد على النص وصادر العقل الذي يعتبر ضرورة في قضايا العقيدة والفقه الاجتهادي.
وخلال المائة عام الاخيرة تعايش الغربيون مع نمط الحكم المؤسس على فقه البداوة الذي يركز على قشور الدين والمظاهر الخارجية لاتباعه، وتجاهل جوهره المتمثل اولا بالتوحيد الخالص ونبذ الشرك الحقيقي (اي إشراك غير الله في الربوبية والحكم) وثانيا بالحرية التي منحها الله للانسان حتى في مجال اختيار العقيدة، واعمار الارض وقداسة النفس الانسانية التي كرمها الله، واقامة العدل الذي هو الهدف الاساس ي للرسالات السماوية، والشورى.
هذه القضايا التي تمثل جوهر الدين واضحة لدى رواد ما يسمى «الاسلام السياسي» الذي سخرت كافة الجهود الغربية ومن انظمة الحكم العربية لمواجهته واسقاط مشروعه. ولذلك استهدفت كافة التجارب المؤسسة وفق هذا المنهج، بينما لم يعترض الغربيون على انماط الحكم التي حصرت اهتمامها بالتركيز على المظاهر العامة من ارتداء الثوب القصير او اطلاق اللحى او بتر الاطراف او قطع الرقاب.
ولوحظ صمت الغربيين على ممارسات داعش في العراق وسوريا اكثر من عامين، ولم يتحركوا الا عندما تحدت الغربيين وقطعت رقاب خمسة منهم في الاسابيع الاخيرة. الصراع اذن له ابعاد اخرى يساهم الغربيون في رصدها ووضع السياسات المتلائمة معها، بعيدا عن الاعتبارات الانسانية او الاهتمام بترويج الديمقراطية وحقوق الانسان في الدول العربية والاسلامية. ولذلك يعتبر الفصل الحالي من الصراع أخطر كثيرا مما سبق. فالغرب يرى في توسع دائرة الالتزام الديني الموجه لاقامة منظومة سياسية – ثقافية تختلف في جوهرها عن ثقافة الغرب المادية بجفافها الروحي، امرا خطيرا واستهدافا لمشروعه التوسعي المدعوم باحدث اشكال السلاح وانواعه.
في خضم الانشغال بتطورات الوضع في العراق وسوريا يتركز الاهتمام على موازين القوى الميدانية، فتسقط هذه المدينة بايدي هذا الطرف او ذاك، ويتم التصفيق للطرف المنتصر من قبل مؤيديه. ولكن الصورة الاشمل يجب ان تتضح لدى من يهمه امر هذه الامة. فحين تنتشر ظاهرة العنف والتطرف الى الكثير من بلدان المسلمين فمن الضرورة بمكان استيعاب المشهد السياسي في جانبه الاستراتيجي للتعرف على القوى التي تسعى لاعادة تشكيل بلاد المسلمين بما يخدم مصالحها ويفتت الامة ويضعف شوكتها. وحين يستهدف بلد كبير كاليمن بالعنف الاعمى والتفجيرات الانتحارية هذا يعني ان قوى الثورة المضادة تسعى لاعادة ذلك البلد للمربع الاول من العنف وعدم الاستقرار وغياب الحرية واعداده للتدخلات الاجنبية. ومن المؤكد ان السعودية لا تريد على حدودها بلدانا كبرى كالعراق واليمن وهما تتمتعان بالحرية والاستقرار في ظل ممارسة ديمقراطية متطورة. كما انها لا تريد لمصر، البلد العربي الأكبر، امنا مؤسسا على الحرية والديمقراطية. المشكلة ان السعودية ليست وحدها التي تخطط ضد التغيير في العالم العربي، بل ان الغربيين انفسهم متورطون في ذلك. وما يجري اليوم في سوريا والعراق واليمن من تصعيد عسكري وامني يؤكد وجود تحفز من هذه الدول لتكريس الازمات وتصعيدها.
وما يضاعف الازمة ان هذه الامة باتت بدون رعاة او مفكرين او اصحاب قرار، وترك الحبل على الغارب لجيل ضائع من الشباب دفعه الحماس للالتحاق بقوافل الموت التي لن تتوقف حتى تأتي على الاخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، وهذا فساد لا يحبه الله ولا ترتضيه الانسانية. فلا بد من يقظة عاجلة لوقف هذا التداعي الديني والاخلاقي والسياسي، لان البديل سقوط مروع الى هاوية التمزق والقتل العبثي والقتل على الهوية والحروب التي يستعر اوارها من باكستان والعراق وسوريا الى الصومال ونيجيريا وشمال افريقيا. فهل هذا ما نريده؟
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
نعم هي أخطر أيام بشار الأسد، والأكيد أن مجرم دمشق لن يخرج هذه المرة من الأزمة بمثل الفرص التي كان سيخرج بها منذ اندلاع الثورة، والحسابات الآن ليس فيما سيخسره، أو يكسبه، بل فيما قد يخسره حلفاؤه الروس، والإيرانيون تحديدا.
ارتباك الأسد، وكذبه، لحظة الإعلان عن بدء انطلاق ضربات التحالف الدولي - العربي الجوية في سوريا، وإلى الآن، أمر واضح، فالأسد أراد أن يقول إنه حليف للمجتمع الدولي، وشريك في الحرب على الإرهاب، وذلك حفظا لماء الوجه أمام طائفته، خصوصا أن حزب الله يقاتل السوريين نيابة عنه، والجنرال الإيراني قاسم سليماني يشرف على أمن دمشق، بينما يتحرك المجتمع الدولي الآن لردع «داعش»، فما دور الأسد؟ وما الذي يفعله تحديدا؟ اليوم نحن أمام واقع ضربات جوية دولية - عربية مستمرة بسوريا وسط دعم دولي متزايد، والحديث الآن بات عن تدخل بري، وإمكانية إقامة مناطق آمنة، وها هو الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، المتردد بالانضمام للتحالف ضد «داعش»، يلمح إلى إمكانية مساهمة قواته في إنشاء منطقة آمنة بسوريا حال حصول اتفاق دولي، حيث يقول إردوغان إنه «لا يمكن القضاء على مثل هذه المنظمة الإرهابية بالغارات الجوية فقط. القوات البرية تلعب دورا تكميليا. يجب النظر للعملية كوحدة واحدة».
وهذه هي القناعة التي باتت تتشكل الآن، مع وضوح الصورة حول أن «داعش» هي الأسد، والعكس، ولا مجال للحلول في سوريا، أو القضاء على الإرهاب بوجود الأسد الذي لولا جرائمه وأفعاله لما ظهرت «داعش»، وغيرها، وهذا ما أرعب الأسد وجعله يستشعر الخطر الآن، ولذا ناقض إيران وحزب الله، وروسيا، فالأسد يدرك أن ما بعد الضربات الدولية مختلف تماما عما قبلها. ولذا تظهر الآن ورطة وليد المعلم الذي ناقض نفسه، وفي ثلاثة أيام، فبعد أن أعلن النظام الأسدي، كذبا، أنه تم إخطارهم بالضربات وأنه يوافق على محاربة الإرهاب، قال المعلم إن إخطارهم لا يعني الموافقة، ثم عاد بالأمس ليقول إن النظام الأسدي مع أي جهد لمحاربة الإرهاب!
ومن هنا، فإن ورطة الأسد حقيقية، وخصوصا بعد إقرار مجلس الأمن الدولي، وبالإجماع، قرارا تاريخيا تحت بند الفصل السابع، والذي يعني حق استخدام القوة، يقضي بحق التصدي للمقاتلين الأجانب الذين يقاتلون إلى جانب المجموعات الإرهابية بسوريا، ومن شأن هذا القرار، رقم 2178، أن يخول المجتمع الدولي، وتحديدا أميركا، حق التدخل بالأزمة السورية عسكريا، سواء بعهد أوباما، أو من يأتي بعده، أي أن الأبواب قد شرّعت، والقصة الآن قصة تفسير القرار الأممي، لا أكثر ولا أقل، خصوصا أنه لا اختلاف بين «داعش» وجبهة النصرة وحزب الله، وكافة الميليشيات الشيعية التي تقاتل دفاعا عن الأسد، فجميعها منظمات إرهابية، ولا علاقة لها بسوريا.
ولذا فإنها أخطر أيام الأسد.
أصبح التدخل الأميركي في سوريا أمرا واقعا بعد الغارات التي طالت تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في الأراضي السورية كما يصرح المسؤولون الأميركيون. ولكن هل يتعلق الأمر بـ"داعش" فقط؟
معلوم أن الإدارة الأميركية تستفيد من التدخل في العراق لتغيير موازين القوى في "العملية السياسية"، بحيث تضعف التأثير الإيراني الذي هيمن بشكل كامل في سنوات حكم نوري المالكي، وهي بذلك "تحاصر" إيران في مرحلة التفاوض حول برنامجها النووي، وربما دورها الإقليمي، بحيث تستطيع عبر ذلك الوصول إلى تفاهم تسعى الولايات المتحدة إليه في ظل رؤيتها لوضع الخليج في المرحلة القادمة، ولموقع إيران في هذه الرؤية، وبالتالي حدود التوافق الممكن لدورها هناك.
وقد كان واضحا أن تدخلها لم يكن بهدف "تدمير داعش" بالضبط، ولا حماية الأكراد بعدما زحفت داعش للسيطرة على أربيل، فهذه كلها تكتيكات مفهومة لكي تتدخل.
"تستفيد الإدارة الأميركية من التدخل في العراق لتغيير موازين القوى بهدف إضعاف التأثير الإيراني الذي هيمن بشكل كامل في سنوات حكم المالكي، وهي بذلك "تحاصر" إيران في مرحلة التفاوض حول برنامجها النووي"
وإذا كان الأمر واضحا في العراق، فما المغزى من التدخل في سوريا، وماذا تريد أميركا بالضبط، خصوصا بعد أن أهملت الملف السوري طيلة السنوات التالية لاندلاع الثورة؟
كانت الإدارة الأميركية تعالج الوضع في تونس ومصر، وتدفع دول الخليج لمعالجة وضع اليمن والبحرين، وفرنسا لتولي ملف ليبيا، حين اندلعت الثورة في سوريا، وقد عمدت إلى الدفع لتحقيق تغيير سريع في تونس ومصر قبل أن تتجذر الثورة ولا يعود بالإمكان ضبطها والالتفاف عليها، وبدا لها أنها نجحت. لكن انفلات وضع الثورات بالشكل الذي ظهرت فيه في الأشهر الأولى، والذي أذهل العالم، جعلها تبدو "غير معنية" بما يجري في سوريا.
ورغم أن تصريحات أوباما حول الوضع السوري لم تشر في المراحل الأولى من الثورة إلى ضرورة رحيل بشار الأسد كما فعل في تونس ومصر، وأن دور الأميركي حينها بدا وكأنه يتمثل في لجم اندفاع فرنسا وتركيا إلى "فعل شيء"، وكان يعني ذلك التدخل العسكري. ورغم كل الكلام عن "المؤامرة الأميركية" كان الموقف الأميركي يبدو غير مبال على الإطلاق، فأميركا لن تتدخل عسكريا، ولن تدعم أيا من الأطراف، وهي تقدم كلاما عاما في تصريحاتها.
حينها كانت أميركا منخرطة في إعادة بناء رؤيتها بعد أن توصلت بعد سنتين من الأزمة المالية التي وقعت في سبتمبر/أيلول 2008، إلى أنه لا أمل في تجاوز الأزمة، ومن ثم يجب التكيف معها، والعمل على "إدارتها".
وقد توصلت إلى إستراتيجية أعلنها باراك أوباما في 6 يناير/كانون الثاني سنة 2012، تنطلق من نقل الأولوية إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وبالتالي تقليص القدرات العسكرية وضبط إمكانيات التدخل، اعتمادا فقط على الطيران في منطقة "الشرق الأوسط"، وارتأت أيضا أن عليها إعادة موضعة تحالفاتها وتقليص مطامحها.
هذا المخاض الذي عاشته أميركا طيلة سنة 2011 جعلها تبدو غير مبالية بالوضع السوري، وحتى لمسارات التحول في تونس ومصر بعد أن ركنت لإستراتيجية وضعتها تهدف إلى إشراك الإسلاميين في السلطة، وتركت أمور اليمن وليبيا لـ"حلفائها".
بداية سنة 2012 أعلن باراك أوباما أن على روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية في سوريا كما حدث في اليمن، وبعد الارتباك الروسي في التعامل مع الوضع السوري، توصل الطرفان ضمن مجموعة العمل الخاصة بسوريا إلى مبادئ جنيف1 في 30 يونيو/حزيران 2012.
"تظن أميركا أنها من خلال الغارات الجوية على "داعش"، ومحاولة فرض سيطرة قطاعات من "الجيش الحر" على مناطقها تستطيع أن تستميل طرفا في السلطة يقبل بـ"الحل السياسي""
ومع ذلك ظل الدور الأميركي "باردا" متكئا على الفيتو الروسي الصيني، في ظل الحديث حول خلاف في تفسير مبادئ جنيف فيما يتعلق بوضع بشار الأسد الذي بدا أنه حُسم في أبريل/نيسان 2013 لمصلحة أن تكون الهيئة الانتقالية التي يجب تشكيلها كاملة الصلاحية بما في ذلك صلاحيات الرئيس، وهذا ما حرك الدور الأميركي المباشر، حيث عملت أميركا على ترتيب وضع المعارضة بما يجعلها تقبل بمبادئ جنيف1 وبالرعاية الروسية، وكذلك الأمر بالنسبة للدول الإقليمية التي كانت لديها مطامح في سوريا.
هدد باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية بعد استخدام السلطة لأسلحة كيميائية في 21 أغسطس/آب 2013 (رغم أنها لم تكن المرة الأولى). حُل الأمر بموافقة السلطة على تسليم أسلحتها الكيميائية، وبتضمين بيان مجلس الأمن الدعوة لعقد جنيف2 الذي عُقد في يناير/كانون الثاني 2014، دون أن يتوصل إلى نتائج، حيث ظهر واضحا أن السلطة لا توافق على مبادئ جنيف1 أصلا وأن روسيا لم ترتب وضع السلطة بما يجعلها قابلة بالحل المطروح، ومن ثم غرقت روسيا في أزمة أوكرانيا ولم تخرج منها بعد.
الآن -مستغلة وضع العراق- وجدنا أن أميركا تعود للتدخل في سوريا، ماذا تهدف من ذلك؟ هل يتعلق الأمر فعلا بداعش؟
أظن أن داعش هي "المشجب" كما في العراق، وأن الأمر يتعلق بوضع الدولة السورية، فبعد لا مبالاة طويلة بعد أن فشلت إدارة بوش في تغيير النظام بعد اغتيال رفيق الحريري، ومحاولة تطبيع بعد استلام أوباما الرئاسة، ثم دور "هامشي" كما أشرنا للتو، وتسليم بأحقية روسيا في سوريا، ها هي أميركا تستغل الفراغ الذي لم تستطع روسيا ملأه لكي تعمل على تغيير موازين القوى، ربما من خلال تحقيق التغيير في بنية السلطة (الأمر الذي فشل الروس في تحقيقه).
ربما تظن الإدارة الأميركية أنها من خلال الغارات الجوية على "داعش"، ومحاولة فرض سيطرة قطاعات من "الجيش الحر" على المناطق التي تحت سيطرة داعش، تستطيع أن تستميل طرفا في السلطة يقبل بـ "الحل السياسي" (ربما كذلك وفق مبادئ جنيف1). فالإدارة الأميركية لا تريد إنهاء الدولة، بل تعتقد بأنه يجب أن تبقى، لكن بدون بشار الأسد، ومن ثم يمكن أن يدمج "الجيش الحر" في بنيتها تحت عنوان "الحرب ضد داعش".
بطبيعة الحال سيعتمد تحقق هذا الأمر على مدى تأثير الضربات الجوية على بنية السلطة، ما دامت هذه الضربات لن تطال "جيش السلطة"، ولا حتى مطاراته التي تنطلق منها الطائرات التي ترمي البراميل المتفجرة، أو مدى مقدرة الإدارة على إقناع طرف في السلطة بضرورة التخلص من بشار الأسد وتسهيل أمر تحقيق مرحلة انتقالية.
في هذه الحالة تكون أميركا قد كسبت سوريا بعد أن فقدت الأمل بذلك منذ فشل محاولة التغيير (2005/ 2006) وبعد أن باتت في طريقها إلى "مغادرة الحلبة الشرق أوسطية" على ضوء أزمتها وتموضعها العالمي الجديد. لكن ما أهمية ذلك وسوريا باتت مدمرة؟ وخصوصا أن القدرة على التأثير المستمر على الوضع لن يكون متاحا لها نتيجة تراجع تأثيرها بفعل التموضع المشار إليه من قبل؟
"الآن تحاول أميركا استعادة موقعها في المنطقة بعد أن ظهر أنه يضعف نتيجة تركيزها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لكنها لحظة لا تمتلك فيها القدرة على التدخل الفعلي نتيجة حصر مجهودها في تلك المنطقة"
لا شك في أن تغيير وضع النظام في دمشق بتأثير أميركي يعني "قلب المعادلة" في لبنان، ومن ثم محاصرة حزب الله، خصوصا بعد أن أرهق بأعداد القتلى، وتصاعد التوترات ضده، لكنه يعني كذلك تقليص وجود إيران وحصرها ضمن حدودها بعد أن تمددت إلى البحر المتوسط، ويصب ذلك في سياق السياسة ذاتها التي اتبعتها الإدارة الأميركية في العراق، وربما أيضا ترتيب الوضع مع الدولة الصهيونية، التي تعيش إرباكات تقلبات الوضع في المنطقة وفي الاقتصاد العالمي. لكن السؤال الأساسي هنا يتعلق بقدرة أميركا على ذلك دون استخدام قواتها البرية؟ أو هل سيقود بالتالي تدخلها إلى إطالة أمد الصراع في سوريا؟
ربما يعتمد ذلك على إمكانية خروج فئة من داخل السلطة لكي تكسر البنية التي خاضت الحرب ضد الشعب "إلى النهاية" كما صرح رامي مخلوف منذ بدء الثورة، وتقبل "الحل السياسي"، حيث ليس من الممكن تغيير السلطة دون أن يأتي من داخلها ما دام الأمر يتعلق بضربات جوية.
نحن الآن في لحظة محاولة أميركا استعادة موقعها في المنطقة بعد أن ظهر أنه يضعف نتيجة تركيزها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لكن في لحظة لا تمتلك فيها القدرة على التدخل الفعلي نتيجة حصر مجهودها في تلك المنطقة التي باتت تحظى بالأولوية كما أشرنا، الأمر الذي منعها من تحريك قوات برية ليس بالإمكان كسب الحرب دونها.
ويبدو أنها تراهن أولا على وهن وضع المنطقة ذاتها، خاصة في سوريا والعراق وحتى إيران وحزب الله، ومن ثم يكون هذا المستوى من التدخل قادرا على تحقيق هدف سياسي "كبير"، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وثانيا على فشل الروس في ترتيب الوضع وتبيان ضعف مقدرتهم، ومن ثم غرقهم في "المستنقع الأوكراني"، في وضع ربما بات يظهر أنه في حاجة إلى حل.
وتبقى الولايات المتحدة الأميركية في بحثها عن حل جديد تائهة بين القدرة والإرادة، بين الحلول السياسية والخيارات العسكرية. فهل تتمكن أخيرا من تحقيق "الحل السياسي" الذي ما زالت تؤكد أنه الخيار في سوريا؟
عندما اجتمع قادة عسكريون من احدى وعشرين دولة، في قاعدة «اندروز» الجوية، لتقويم أداء «التحالف ضد داعش»، كانت المعطيات تفيد بأن عشرين منهم يعتقدون أن قائد «التحالف»، مضيفهم الاميركي، تأخر في تحديد نياته، ثم إنه لم يوضحها بعد. فالتنظيم الارهابي بدأ اجتياحاته في العاشر من حزيران (يونيو)، ولم يعلن باراك اوباما عزمه على «التحرك» إلا في العاشر من أيلول (سبتمبر). جميع هؤلاء القادة يدركون أن «داعش» فرض عليهم سباقاً لم يعترفوا به بعد، اذ أظهر ضباطه قدرات عسكرية تضاهي وحشيته وتفوقها. فقبل بدء الغارات الجوية تحركوا بسرعة قياسية فأنجزوا خلال ثلاثة شهور ما يستغرق إلغاؤه سنين. وفيما لا يزال «التحالف» يحاول بلورة أهدافه وبناء خطّته وقدراته، يمضي «داعش» في التمدّد جغرافياً فيضاعف الصعوبات أمام «التحالف» والإرباكات في صفوفه. اذاً، فالعدو هو الذي يقود الحرب ويتحكّم بالمسار.
بات الجنرالات يعرفون، بمن فيهم الاميركي، أن الضربات الجوية محدودة الفاعلية والنتائج، ومن شبه المؤكّد أنهم لا يعرفون جيداً ما هي حقيقة الوضع على الأرض في «دولة داعش»، بين العراق وسورية. قبل أقلّ من عام، كان أي هجوم من الجيش العراقي أو أي فصيل في المعارضة السورية يجبر التنظيم على الانكفاء. أما اليوم فلا أحد يريد مواجهته، حتى أن الاميركيين سجّلوا باندهاش أن محاولة عراقية للتقدّم في الأنبار «توقفت بعد كيلومتر واحد». اذاً، فالعدو مدرك أنه متفوّق في حرب برية، حتى أن أحداً لم يجرؤ على مساندة المقاومة الكردية في عين العرب (كوباني)، لكن الجميع يتبرّع يومياً بتوقعات عن سقوط وشيك للمدينة، التي قال جون كيري إن فك الحصار عنها ليس «هدفاً استراتيجياً» للحرب.
الحرب؟ لا يزال القادة العسكريون في «التحالف» يتساءلون هل إن دولهم مدعوة الى حرب؟ فهم لم يلمسوا من الجانب الاميركي أن هذا ما هم في صدده. هذا «تحرك عسكري» بالنسبة الى اوباما وليس حرباً، هدفه «إضعاف» التنظيم الارهابي «وفي النهاية القضاء عليه». لا يزال اوباما مصرّاً على أنه ليس «رجل حرب»، لكنه لدولة شغوفة بالحروب، وهناك أطنان من التقارير والمذكرات تبيّن له أن خذلان اميركا المجاهدين الأفغان ضد السوفيات استولد «القاعدة»، وأن «داعش» ثمرة غزو العراق واحتلاله، وربما تخبره حالياً أن «داعش» تلقّى تهديده بـ «إضعافه» كما سبق أن تلقّى بشار الأسد دعوته اليه لـ «التنحّي»، اذ فهم هذا وذاك أنه يستطيع البقاء لكن مع بعض المتاعب، فثمة وظيفة لوجودهما وبقائهما. ومنذ اللحظة الأولى كان مفهوماً أن الحاجة ماسّة الى قوات على الأرض، فالمعارك البريّة هي التي ستحسم. لكن «داعش»، الذي استوعب تجربة «القاعدة» واستفاد منها الى أقصى حدّ، كان أكثر درايةً بهشاشات كثيرة يتستّر عليها الجميع، فالجيشان العراقي والسوري لا يحتاجان الى اعادة تأهيل فحسب، بل انهما مكشوفان كجيشين فئويين وبالتالي غير مؤهلين موضوعياً لخوض حرب لا يراد لها أن تتحوّل فصلاً رئيساً في صراع سنّي - شيعي سعت ايران وتسعى لاستدراج «التحالف» الدولي اليه.
لدى «التحالف» مشكلتان يمكن اعتبارهما «عضويتين» أو «بنيويتين». فحتى اللحظة، ووفقاً للمقاربة الاوبامية، لا يزال تحالفاً من أجل «اللاحرب». المشكلة الأولى اسمها «اميركا»، فلا حرب من دون قيادة اميركية، لكن العلّة تكمن في هذه القيادة المكروهة وغير الموثوق بها من طرفي الصراع المباشرين ومجتمعاتهما. أما المشكلة الاخرى فنجدها في أن الحرب تبدو كأنها مصمّمة لتُخاض بنهج واحد لا غير، ولذا تشعر واشنطن بأن هناك من استدرجها وقيّدها في آن، اذ لا تزال جوانب كثيرة غامضة في وقائع الانهيار المفاجئ والسريع للجيش العراقي قبيل سقوط الموصل، وفي ظروف اصدار الأوامر للانسحاب من دون قتال، وفي مسارعة حكومة نوري المالكي وهي في ذروة التعبئة الشيعية الى طلب تدخل الولايات المتحدة (لا الأمم المتحدة) تفعيلاً للاتفاق الأمني والاستراتيجي بين البلدين (2008)، وكذلك في مبادرة ايران الى إبداء رغبتها في مؤازرة اميركا وعندما عرضت الأخيرة شروطها للتنسيق والتعاون تراجعت الأولى مفضّلة مسار «التفاهمات» غير العلنية (اطاحة المالكي، مساعدة الأكراد، تمرير ايران شروطها عبر حيدر العبادي...) لكنها واظبت على القول بلسان الرئيس حسن روحاني وغيره أن اميركا لن تستطيع محاربة الارهاب «من دون ايران».
وعلى رغم أن واشنطن أبدت استعداداً مؤكداً للمساعدة، فإنها ظلت تمانع التورّط، وعندئذ جاء ذبح الصحافيين الاميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف بمثابة محاصرة أخيرة لأوباما، لكنه طلب تحالفاً واسعاً وحافظ على أحد أبرز الشروط، وهو استمالة المجتمع السنّي والحصول على تأييده. بديهي أن في ذلك «فيتو» مبطناً على مشاركة قوات ايرانية أو قوات الاسد أو «جيش المالكي»، لذا وضعت ايران «فيتو» غير معلن على أي تدخل تركي أو عربي. في المقابل، حصلت طهران ودمشق على تعهّد اميركي بعدّم تعرّض الضربات الجوية لقوات الاسد. وعندما ردّت أنقرة بربط مشاركتها في «التحالف» بشرطين هما «اقامة منطقة عازلة» و «اسقاط نظام الاسد»، اتخذ الـ «فيتو» الايراني لهجة شديدة وواكبته تصريحات حكومية من دمشق وأخرى من حيدر العبادي في ما اعتبر أول تجاهل من جانبه لأعضاء سنّة في حكومته لا يعارضون دوراً تركياً، ما يعني ثباتاً على «نهج المالكي» أظهره العبادي أيضاً في استغرابه «اعتذار» نائب الرئيس الاميركي من تركيا والسعودية والإمارات بشأن اتهامه لها بدعم الارهاب.
وهكذا أجرى الاقليم خلطاً لأوراق «التحالف»، على وقع الغزو «الداعشي» لعين العرب (كوباني)، وعلى نحو يفضي الى مزيد من التردّد في دائرة صنع القرار الاميركي. هنا تقدّمت طهران لتبديد الشكوك في واشنطن، عبر تصريحات لحسين أمير عبداللهيان بأن اطاحة نظام الاسد و «محور المقاومة» «عبر الارهابيين» (ومن يدعمهم) ستنعكس «عواقب وخيمة» على «أمن اسرائيل». تلك رسالة واضحة تلقاها الاميركيون وتعاملوا مع الهجوم على عين العرب كحدث جانبي طارئ، علماً أن العالم نظر اليه كرمز للعجز الدولي ومؤشر الى هزيمة أولى لـ «تحالف» ليس مفكّكاً ومرتبكاً فحسب، بل أخفق حتى في إثبات ادعاءاته، إذ أخفق في دعم الموقع الوحيد الذي وفّر فيه السكان الأكراد قوة مقاتلة على الأرض. كان اللوم الاميركي لتركيا (على عدم مساعدتها الأكراد) ليكون مبرّراً لو أن أنقرة أعلنت مواقف طارئة ومفاجئة، لكن خلاف الطرفين على «المنطقة العازلة» و «إسقاط الأسد» يعود الى بدايات الأزمة في 2011، وقد تفاقم بعدما أيقنت تركيا أن الاميركيين ليسوا مهتمّين بالتداعيات السورية عليها (النازحون والاكراد، مع تكاثر الأعداء على حدودها)، وأنهم يميلون الى مقاربة روسيا - ايران - اسرائيل لمعالجة الأزمة بالإبقاء على الأسد ونظامه. لا شك في أن تخبّط تركيا لم يساعدها في تغيير الموقف الاميركي، بل أظهر تفضيلها تمكين «داعش» من احتلال عين العرب على دعم الأكراد في دفاعهم عن المدينة.
أحدثت تصريحات جو بايدن عن تورّط «حلفاء اميركا» في دعم «داعش» لغطاً، وكان يمكن اتهاماته أن تكتسب صدقية لو أنه ومسؤولي ادارته تبنوا السياسات الصحيحة وفي الوقت الصحيح حيال العراق وسورية. ذاك أن اعتراف اوباما بالخطأ في تقدير خطورة «داعش» ينطوي على أخطاء في إهمال المعارضين للأسد والمالكي. هذه الأخطاء تتضاعف لأن الاميركيين مرّروا تورّط ايران وأتباعها («حزب الله» والميليشيات العراقية وجماعة الحوثي) في تخريب سورية والعراق واليمن، فضلاً عن تدخلها في البحرين وفلسطين، بل سكتوا عنه عمداً كما لو أنه في سياق مقبول. ثم إن واشنطن لم تكشف يوماً ولو جزءاً يسيراً مما تعرفه عن علاقة ايران بـ «القاعدة» أو علاقة النظام السوري بما أصبح «داعش» و «جبهة النُصرة». لذلك تحصد اميركا التشكيك من «الحلفاء»، ولا سيما تركيا، تحديداً لأنها ذاهبة الى حرب يتشارك طرفان في توجيهها: «داعش» وايران.
نبهت طهران على لسان نائب وزير خارجيتها للشؤون العربية والأفريقية حسين أمير عبد اللهيان، واشنطن من أن إسقاط نظام بشار الأسد، ليس من مصلحة الولايات المتحدة أو إسرائيل، مما يعد بادرة حسن نيات منها تجاه تل أبيب، حيث أصبحت طهران وفقا لكلام مسؤوليها حريصة على أمن إسرائيل، التي تتخوف من الفوضى على حدودها الشمالية مع سوريا «الجولان المحتل» بحال حصول انهيار مفاجئ في صفوف قوات الأسد، يؤدي إلى تضعضع في هيكليات النظام وما تبقى من مؤسساته، يصعب من بعده ملء الفراغ السياسي والأمني الذي يحاول الجميع تحاشيه.
قلق طهران الجدي على ما يبدو في هذه المرحلة على مستقبل النظام في دمشق، نابع من تناقض التصريحات الأميركية في الحرب على «داعش»، فقد حذر عبد اللهيان في تصريحه، من أن تأخذ حرب واشنطن وحلفائها الأوروبيين والإقليميين على «داعش» بعدا آخر، يساعد قوات المعارضة على الاقتراب أكثر من دمشق، أو إعادة التوازن العسكري مع النظام، في الأماكن التي سوف ينحسر فيها وجود تنظيم «داعش» تحت ضربات التحالف الجوية لصالح مقاتلي الجيش السوري الحر.
هذا ما دفع طهران إلى لفت نظر تل أبيب، بأن أي انعكاس سلبي للعمليات العسكرية ضد «داعش» على قوات الأسد، سيتحول إلى كابوس أمني على حدودها، في إشارة واضحة وصريحة، بأن خلايا المقاتلين المتشددين «داعش» و«القاعدة» الموجودين جنوب سوريا، سوف يصبحون على تماس مباشر معها، بحال اضطرت قوات الأسد إلى الانسحاب من هذه المناطق جراء تقدم قوات المعارضة، لتصبح إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع «التنظيمات الجهادية السنية» التي يصعب ضبطها.
منذ اندلاع الثورة السورية لا تخفي تل أبيب خشيتها من أن تتبنى بعض فصائل المعارضة العسكرية (المتشددة أو المعتدلة) الموجودة على حدودها مع الجولان المحتل، العمل المقاوم من أجل استعادته، وفقا للنموذج اللبناني، وهي التي حظيت بحدود هادئة طوال حكم آل الأسد، أي منذ توقيع اتفاقية الهدنة سنة 1974
وهذا ما سيعطي هذه الفصائل شرعية وطنية ويؤمن لها حاضنة شعبية عربية وإسلامية «سنية» تتمكن من خلال شعارات المقاومة والتحرير من دغدغة مشاعر الشعوب العربية، باعتبار أن فلسطين هي قضيتهم المركزية، التي انقلب التراجع الرسمي العربي في دعمها، لصالح طهران خلال الثلاثين سنة الماضية، وجرت محاولات لاستعادتها في حرب غزة الأخيرة، حيث تطابق الموقف العربي على المستويين الشعبي والرسمي، على أولوية دعم الصمود الفلسطيني في غزة وحماية مقاومتها.
كان باستطاعة عبد اللهيان أن يبقي نية بلاده مهادنة واشنطن وتل أبيب طي الكتمان، إلا أن الإعلان عن هذه النية، هو بمثابة تبليغ علني وصريح لحلفائه في المنطقة، أن مصالح طهران هي الثابت، وأن المواقف مهما كانت مبدئية واستراتيجية وعقائدية، تخضع للمتحولات السياسية، التي لا تراعي المحرمات في سبيل الحفاظ على المكتسبات