مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٢ أكتوبر ٢٠١٤
عن نشأة «داعش» السورية و... مسألة التبرير

الأكيد أن «داعش» ليست صنيعة أي من الأطراف المحلية السورية أو الدولية. ومن المؤكد أنها لم تنشأ بغفلة عن أي من هذه الأطراف. كما أنه كان من الصعب جداً توقّع أو تكهن نشوء تنظيم جائح كـ «داعش»، وأن يتحول إلى حالة أيديولوجية اجتماعية عامة في مناطق واسعة من المنطقة خلال فترة قصيرة. ومع ذلك، لم تكن «داعش» نتاجاً تلقائياً للمجتمع السوري. فالمجتمع السوري لم يكن قبل انطلاق الانتفاضة السورية بيئة منتجة للتطرف الديني أو المذهبي، لكنه كان قابلاً للتحول إلى مثل هذه البيئة لكونه مجتمعاً أقرب إلى حالة التجمع السكاني منه إلى حالة المجتمع المنظّم مدنياً أو سياسياً، مع خواء تام من أي معرفة سياسية.

وبُعيد انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011، أصبح الجمهور السوري، من ساهم منه في هذه الانتفاضة ومن لم يساهم، عرضة لتدخل أطراف خارجية من المفترض أن تكون أكثر دراية منه بقواعد الصراع السياسي. ومع استمرار العنف المفرط من جانب النظام تجاه الجمهور المنتفض، أصبح، هذا الجمهور، لقمة سائغة لهذه الأطراف.

سياسات النظام المكابِرة والارتجالية، ونظرته المتعالية إلى مجريات الأمور، جعلته أسير ممارساته القمعية الشديدة، بحيث ما عاد في مقدوره التخفيف من الإفراط في العنف أو حتى التوقف عن إطلاق النار على معارضيه على رغم إصدار الرئيس السوري، في ذاك الحين، أمرين متتاليين بعدم إطلاق النار على المتظاهرين.

وبعد أن استخدم بعض الأشخاص السلاح في مواجهة النظام، نتيجة استمرار ممارساته القمعية العنفية، ونتيجة تهييج خارجي غير معلن، ارتفعت في حينه الأصوات والدعوات من خارج البلاد لرد عنف النظام بعنف مماثل. ظهرت هذه الأصوات بقوة على القنوات التلفزيونية، بل تم استحضارها وتكريسها كممثلة للثورة السورية أو للإرادة السورية.

هذا السياق، الذي بات معروفاً للجميع، وأمور أخرى تندرج ضمنه، أدت إلى حالة من الانفلات الأمني عمّت الكثير من المناطق السورية، القريبة والبعيدة من مركز العاصمة، التي خرجت عن سيطرة السلطة وسُمّيت بالمناطق المحررة. وكان لا بد لحالة الانفلات الأمني هذه من أن تتحول إلى حالة مطلقة من الفوضى العامة تحت غطاء الصراع الثوري، الذي برّر لها كل شيء طالما هناك إمكانية للادعاء أنها في مواجهة النظام السوري.

هذه الفوضى المطلقة، الخارجة عن أي ضوابط أو نواظم، وعن أي قيم، أخلاقية كانت أو ثورية، تم تعزيزها وتكريسها بمال سياسي ذي طابع ديني إسلامي، من حكومات أو من أفراد. كان هذا المال يُدفع في البداية من دون أي شروط لأي مدّعٍ أنه سيقاتل النظام. وفي ما بعد نشأ معيار التديّن السنّي كشرط لإغداق المال الوفير، إلى أن أضيف معيار تمايزي جديد هو القوة والسطوة. فصارت المجموعات والأشخاص الذين يدّعون الأسلمة في حياتهم وفي «جهادهم»، ويدّعون قيامهم بهجمات ظافرة على النظام هم المحظيين بالدعم المالي والمعنوي.

هذه الفوضى شكّلت البيئة المناسبة لنشوء مجموعات متطرفة عدة، تقوم بإعدام الأسرى والتنكيل بالجثث وقطع الرقاب وخطف النساء والمدنيين وتسليح الأطفال، من دون أن يسمى ذلك جريمة طالما هو ضمن سياق «الثورة السورية ضد بشار الأسد». أي أن هذه المجموعات كانت تقوم تماماً بالأفعال التي تقوم بها «داعش» الآن.

الفوضى لا يمكنها أن تدوم أو تطول. فالاجتماع البشري، كائناً ما كان، يميل في شكل طبيعي إلى الانتظام. وكذلك حال الفوضى السورية... فهي تحمل في كينونتها الحاجة إلى انتهائها والانتقال إلى حالة منظومية. وبسبب عدم وجود متدخل خارجي ينظم تلك المناطق «المحررة»؛ وربما لا توجد أي نية عند الأطراف الخارجية لمثل هذا الانتظام، لكون أي انتظام سيميل إلى الانفلات من التبعية المطلقة إلى استقلال نسبي، لهذا كان لا بد من ظهور إحدى المجموعات التي تحمل على عاتقها هذه المهمة، فكانت «داعش».

تمايزت «داعش» منذ نشوئها عن بقية المجموعات الأخرى الشبيهة بأنها تحررت من تبعيتها للنظام السوري. فلم تنشأ كمجموعة معارضة أو مناوئة للنظام، ولم يكن إسقاط النظام من بين أهدافها الرئيسة. فلم تقبل أن تتحدد به أو تتعرف به، بل أرادت أن تتحدد بذاتها وتتعرف بقوتها ومقدرتها، فحققت الانتصار.

أكتب مقالي هذا استجابة لعبارة «أن أحداً لا يمكنه تفسير ما جرى. حتى الذهاب بفكرة المؤامرة إلى أقصاها لا يسعف في التفسير. فلا السؤال عن الجهات الممولة يكفي، ولا عن دول سهلت وسلحت» الواردة في المقال الرائع للصديق حازم الأمين في هذه الجريدة بعنوان: (رحلة «الجهاد» السهلة إلى سورية... ربما هذه هي، 12-9-2014).

ليس مبرراً لنا في هذا الزمن أن نتفاجأ بمجريات التاريخ البشري، فوسائل الاتصال أتاحت لنا تبادل الخبرات والمعارف والمعلومات التي من المفترض أن تمكّننا من معرفة الخطوط العريضة لمسار التاريخ. فالتجارب البشرية التي تأسست عليها علوم السياسة والاجتماع تفيدنا بأن الفوضى العامة والمطلقة يمكن أن تنتج أي شيء من بين خلاياها الجذعية، فيكون «واقعياً» و «حقيقياً». لكن بالتأكيد، من المستحيل التنبؤ بظهور تنظيم باسم «داعش» وقوته.

الخلايا الجذعية لمساحات الفوضى السورية كانت التطرف العقائدي والتطرف العنفي والتطرف الجرمي. فعشرات الآلاف قُتلوا وسُلبوا وخُطفوا للتمرين أو للهو على أيدي مجموعات جرمية «ثورية»، وتمت تغطية جرائمهم باسم «الثورة» أو تحت اسم الأخطاء الضرورية والطبيعية للثورة. فكانت هذه المساحات عشوائية بكل معنى الكلمة، وكان لا بد لقانون الاصطفاء الطبيعي، وفق نظرية النشوء الداروينية، من أن يبقي على من يمتلك مقومات الحياة ويسيطر على هذه العشوائية، وأن يزيح من تنقصه بعض هذه المقومات، فكان «داعش» هو الكائن الذي استحق الحياة.

ليس مشروعاً لنا أن نتفاجأ بظهور تنظيم مثل «داعش» في بيئة ممنوع فيها الكلام السياسي، والكلام الوطني. ممنوع أن توجد فيها النخب، ممنوع أن يوجد فيها السلمي. بيئة ترفض بالمطلق مفهوم الدولة ومفهوم الاجتماع، بل ترفض مفهوم الإنسان. لكن سيتفاجأ بالتأكيد كل من ثبّت نظره على النظام، وعلى مدى الضرر الذي يلحق به، من دون أن يلتفت ولا مرة إلى موقع الخطوات «الثورية، معتمداً المبدأ الخاطئ: عدو عدوي صديقي. والذي رفض التحفظات على عشوائية استخدام السلاح، بل شرعن كل تسلح بحجة عتي النظام وبطشه. والذي اتهم كل من سمّى ما يجري بغير اسم الثورة بأنه معاد للثورة ومواجه لمسيرة التاريخ. والذي أسهب في التنظير «الثوري» مستنتجاً أن الثورات تكون بهذا الشكل، مستشهداً بحكايات ثورية عالمية.

في أغلب الأحيان يكون تَفاجُئنا بظاهرة ما دليل خطئنا في تقدير الأمور أكثر منه عدم واقعية الظاهرة. من هنا أعتقد أن ظاهرة «داعش» تتطلب منا ليس الاعتراف بخطأ التقدير فحسب، بل بتحملنا مسؤولية ظهورها ولو بشكل نسبي، وأنه لا يمكننا الاعتماد على انفعالاتنا بتبرير مسؤولية ما نقوله. كذلك لا يمكننا الاكتفاء بتحميل النظام السوري كل الآثام، فهذه خاصية للشيطان الذي يوسوس في صدور المؤمنين فيجعلهم ينحرفون عن الصراط المستقيم، ويكفي لعنه أو رجمه لإزالة كل ذنوبهم. لكن في الثقافة والسياسة فلا يكفي اللعن والرجم لإزالة الأخطاء.

هذا المبحث لا يحتمل كل هذا الاختصار الذي قاربته به، فهو مملوء بتفاصيل رئيسة تحتاج الى إسهاب ضروري حتى تتضح صورة نشوء «داعش» في سورية. ولكن يبقى في استطاعتي القول دائماً: كان يمكننا أن نكون الآن من دون «داعش».

اقرأ المزيد
٢١ أكتوبر ٢٠١٤
مصير الأسد على كف ... كوباني

معركة كوباني تجر الرئيس باراك أوباما من قدميه ورغماً عنه إلى الحرب السورية. حاول جاهداً، طوال السنوات الثلاث الماضية ان يتجنب هذا الانزلاق، وأن يعتمد على التهديدات والخطب النارية ضد نظام بشار الأسد. لكن الرئيس السوري كان طوال هذه المدة يغلي هذه الخطب ويشرب ماءها، لأنه كان يعرف من اي معدن صُنعت عظام باراك أوباما.

ظل الأمر على هذه الحال الى ان اقتحم تنظيم «داعش» المشهدين السوري والعراقي وبدأ مرحلة محو الخرائط. هذا تنظيم لا شك في وحشيته وسلوكه الإرهابي. وأمام هذا الخطر الممتد من العراق الى سورية، والذي اصبح يهدد بالوصول الى ربوع اخرى مثل لبنان وتركيا، ويقلق دول الإقليم كلها، لم يعد ممكناً ولا مسموحاً ان يبقى الرئيس الأميركي متفرجاً. اضطر اوباما ان يراجع حساباته وأوراقه، وأن يعيد قراءة نصائح مستشاريه ووزرائه السابقين، وعلى الأخص هيلاري كلينتون وليون بانيتا، اللذين اصبحت انتقاداتهما لرئيسهما بسبب تأخره في اطفاء النار السورية روايات للتندر في الإعلام الأميركي.

كانت ولادة «داعش» ورعايته في حضن استخبارات بشار الأسد فرصة ليهدد النظام السوري بهذا التنظيم حكومات العالم وأجهزتها الأمنية، وليقول لها: الخيار امامكم الآن بيني وبين «داعش». كان يمكن لهذه اللعبة المكشوفة ان تسير في خطها المرسوم، لولا ان «داعش» تخطى الحدود المقبولة وبدأ موسم الذبح على الشاشات والمواقع الإلكترونية. هنا خرجت اللعبة عن حدّها وصار العالم في مواجهة وحش متمرد، باتت مواجهته والقضاء عليه مطلباً اقليمياً قبل ان يكون دولياً.

كان حلم الرئيس السوري ان يبقى تنظيم «داعش» ومثله «جبهة النصرة» أدوات في يده، يخيف بها الغرب من جهة، ويترك لها من جهة اخرى المجال لخوض معارك السيطرة والنفوذ على اجزاء من الأرض السورية مع التنظيمات المعارضة الأخرى. وهي على كل حال عادة نظام دمشق في تقسيم الخصوم وتفكيك صفوف المعارضين، ثم الجلوس في قصر المهاجرين للتفرج على صراعاتهم.

لكن هذا الحلم يتبدد اليوم مع دخول القوات الأميركية وقوات حلفائها ساحة المعركة مباشرة. لا تستطيع هذه القوات ان تخوض حربها مع «داعش» نيابة عن الأسد، كما يتمنى. الموقف الإقليمي والدولي يعتبر ان نجاح المعركة مع الإرهاب في سورية لا يمكن ان يكتمل الا بسقوط نظام بشار الأسد. من هنا اصرار المستشارين العسكريين للرئيس الأميركي على المواجهة العسكرية مع قوات هذا النظام، ووضع خطط لإعادة بناء مؤسسات الدولة السورية، الى جانب مشاركة القوات الأميركية في المعارك الدائرة في العراق.

ومع أن الهدف الأساس لقوات التحالف اليوم هو ضمان نجاح المعركة مع «داعش» في العراق ولو اقتضى الأمر دخول قوات برية وإعادة تأهيل الجيش العراقي وتحسين علاقاته مع المناطق السنّية، فإن هناك إجماعاً بين العسكريين الأميركيين على أن هذا الفوز لن يكتمل إلا بالقضاء على هذا التنظيم في مناطق نشأته في سورية وبقيام منطقة عازلة تحمي الأكراد وتوقف زحف مهجّريهم الى اراضي تركيا، وهو احد المطالب الرئيسية لرئيسها اردوغان.

نهاية نظام صدام حسين بدأت من باب الحماية الدولية للإقليم الكردي في شمال العراق. وها هو التاريخ يكرر نفسه، بطريقة اكثر دموية وبشاعة. انها مواجهة مع التنظيمات الإرهابية لن تنتهي الا بتسوية في سورية يدفع ثمنها بشار الأسد.

هل كان هذا ما قصده نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، عند استقباله المبعوث الدولي الخاص الى سورية ستيفان دي ميستورا، عندما قال إن الحل السياسي ينقذ سورية وشعبها، و»إن على الجميع أن يتوقعوا تنازلات مؤلمة في هذا الإطار»؟

اقرأ المزيد
٢١ أكتوبر ٢٠١٤
هل سيشارك الأردن في الحرب البريّة؟

لا تزال التسريبات والمعلومات شحيحة عن نتائج وكواليس اجتماع واشنطن (الأسبوع الماضي) لأكثر من أربعين قائداً عسكرياً، يمثلون الدول المتحالفة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، فيما كشف تقرير مهم لمراسل "العربي الجديد" في واشنطن عن إحدى أبرز القضايا التي تمّ طرحها في الاجتماع، وتتمثّل في الانتقال نحو الحرب البريّة، لكن بجنود عرب بدلاً من الأميركيين، وهو ما ردّ عليه القادة العسكريون العرب (وفق التقرير) بأنّهم لا يحملون تفويضاً سياسياً حوله.

على الرغم من أنّ هنالك إقراراً من السياسيين الأميركيين بمحدودية تأثير الضربات الجوية إلى الآن، وبالشك في نجاعة الاعتماد على الجيش العراقي والبشمركة، أو حتى تدريب وتأهيل 10 آلاف مقاتل من الجيش السوري الحرّ، إلاّ أنّ الإدارة الأميركية لا تزال تواجه معضلة حقيقية في الانتقال نحو الخطة البرية، ولا يتوقع أن يضحّي الرئيس باراك أوباما بوعوده ومواقفه التي التزم بها مع الأميركيين، ويورّط الولايات المتحدة في حرب بريّة جدية.

إذاً، لا يوجد أمام الإدارة الأميركية سوى الاستمرار في الاستراتيجية الراهنة مع تطويرها، عبر تكثيف الغارات الجوية وزيادة المدرّبين والخبراء الأميركان، والرهان على المجموعات المحلية، وعلى استنزاف التنظيم على المدى الطويل، حتى لو تطلّب الأمر أعواماً، أو التحوّل نحو ترجمة القصف الجوي بريّاً، ما يدفع إلى التفكير في الدول المرشّحة لمثل هذا الدور، أيّ المشاركة في الحرب البرية، مع عدم وجود رغبة أميركية بالتورط.

ربما كان الموقف التركي في أزمة كوباني نموذجاً مهمّاً ومفتاحاً لفهم ديناميكية الأزمة الراهنة، فعلى الرغم من كل الضغوط على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلاّ أنّه لم يتدخل عسكرياً، ولم يضع حتى القواعد الجوية في خدمة القوات الأميركية إلى الآن، وتجنّب فتح صراع عسكري مباشر مع داعش، لأنّ المصالح التركية في سورية لا تتّسق مع هذه الضغوط الشديدة.

الإخفاق الأميركي والحديث عن الحرب البرية، انعكس على السجالات والنقاشات الداخلية الأردنية، في الأيام الماضية. فعند الحديث عن قوات عربية، من الواضح أنّ المقصود، بدرجة رئيسة، الأردن، الذي، وإنْ أعلن عن مشاركته في الضربات الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلاّ أنّ هنالك حسابات أكثر تعقيداً وصعوبة وحساسية، تدخل في اعتبارات "مطبخ القرار" في عمان، عند التفكير بأيّ دور أردني محتمل في الأراضي السورية، أو العراقية.

إلى الآن، ينظر الأردن إلى دوره ضمن المربع التقليدي، سواء في الدعم اللوجستي العسكري أو حتى الاستخباراتي الأمني، وتدريب العراقيين والسوريين، وتسهيل عمل قوات التحالف. على الرغم من ذلك، حاولت نخبة سياسية رسمية التلميح إلى احتمالية مثل هذا السيناريو، بالتأكيد على خطر هذا التنظيم على الأمن الوطني، وحق الأردن في الدفاع عن نفسه، قبل أن يأتي الخطر إليه، لكن هذا الموقف السياسي والإعلامي المبطّن كان خجولاً وضعيفاً، وليس صريحاً في المشهد السياسي والإعلام.
"
الأكثرية الساحقة من الأردنيين  ترى تنظيم "داعش" إرهابياً وخطراً على الأمن الوطني
"

أيّ قرار بمشاركة أردنية عسكرية بريّة سيأخذ في الاعتبار قضايا جوهرية وأساسية، في مقدمتها عدم القدرة على تبرير، أو تفسير، أن يكون الجندي الأردني بديلاً عن الجندي الأميركي والغربي. فإذا كانت الولايات المتحدة ليست مستعدة لوضع أبنائها في مواجهة تنظيم المفخخات والذبح والانتحاريين، فالأردنيون لن يتقبّلوا هذه الفكرة أيضاً.

الأمر الآخر أنّ هنالك انقساماً لا يزال في أوساط الرأي العام الأردني تجاه الحرب الراهنة وشرعيتها، ومشاركة الجيش الأردني فيها، على الرغم من أنّ الأكثرية الساحقة من الأردنيين (كما أظهر استطلاع رأي لمركز الدراسات الاستراتيجية الأردنية أخيراً)، ترى في هذا التنظيم إرهابياً وخطراً على الأمن الوطني. لكن، على الطرف الآخر من المعادلة، لا توجد ثقة بالولايات المتحدة، ولا بأهدافها من هذه الحرب، ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً.

استطلاع الرأي العام نفسه أظهر، أيضاً، أنّ هنالك نسبة مهمة تتجاوز الـ30% من الأردنيين ليست حاسمة في تعريفها لتنظيم الدولة الإسلامية والموقف منه، ونسبة أكبر تزيد على الـ50% من جبهة النصرة، ما يعني أنّ هنالك مساحة رمادية كبيرة في مواقف الأردنيين، تجعل الرأي العام غير مهيئٍ ولا مُعدٍّ لمثل هذه المغامرة السياسية والعسكرية الكبيرة.

ما يعزز المحددات السابقة، أنّ المعادلة الداخلية الأردنية تبدو، اليوم، في حالة من الضعف والتفكك، وهنالك فجوة متنامية كبيرة في الثقة بين الحكومة والشارع. وكشفت الزوبعة الشعبية والإعلامية المثارة حول ما يسمى بـ"ذهب هرقلة"، أنّ مصداقية الدولة في الحضيض، كما يعترف مسؤولون أردنيون على مستوى رفيع. وإذا كان الأمر كذلك، فليس أمراً سهلاً، أو ممكناً، أن تفكّر الدولة باتخاذ قرار جدلي إشكالي حساس، بالدخول في الحرب البرية، في مثل هذه الظروف!

ثمّة مَن يرى في الأزمة الاقتصادية الخانقة سبباً يدفع "مطبخ القرار" إلى القبول بهذا الدور، في مقابل دعم مالي كبير وعريض للأردن، إلاّ أنّ ذلك ربما يأتي بنتائج عكسية لدى الرأي العام، خصوصاً إذا أتت المشاركة بعشرات، أو مئات، الصناديق التي تحوي جثث جنود أردنيين قتلوا على أيدي هذا التنظيم، فمثل هذا المشهد بمثابة كابوس، لأي صانع قرار!

اقرأ المزيد
٢١ أكتوبر ٢٠١٤
حرب على اللاجئين السوريين

تدور منذ زمن حرب غير معلنة على اللاجئين السوريين في لبنان. وهي حرب خبيثة، وصاخبة، ولئيمة، وجبانة في الوقت نفسه.
خبثها في أنها تخفي عنصريتها بحجة الخوف من تحول اللاجئين السوريين الى مقيمين دائمين، وصخبها آت من اليافطات التي علقتها اكثر من خمسة وأربعين بلدية في أنحاء مختلفة من لبنان تمنع فيها تجول السوريين والعمال الأجانب ليلا، ولؤمها مجبول بلغة عنصرية مليئة بنتؤات لهجة لبنانوية لم تعد تصلح إلا لسلة القمامة، أما جبنها فهو الموضوع.
لم نتكلم عن ضرب العمال السوريين وإهانتهم في الشوارع، كما لم نشر إلى وحشية الإجراءات الأمنية على الحدود اللبنانية-السورية التي تجعل من عبور السوريين إلى لبنان ملحمة من الألم والذلّ، فهذه مسائل امتلأت بها وسائل الإتصال الإجتماعي، بحيث لم يعد لمفهوم الفضيحة الأخلاقية أي معنى في لبنان.
إنها حرب جبانة بكل المقاييس، جبنها آت من اجتماع ثلاثة عوامل:
الأول هو الفوبيا الطائفية اللبنانية التي اتخذت شكل الحقد الأعمى على «الغرباء». في زمن الهيمنة السورية، حين كان حذاء ضباط النظام الاستبدادي موضوعا على رؤوس رجال الطبقة الحاكمة، وحين كان الوزراء والنواب يذهبون زاحفين الى عنجر لاستجداء رضى غازي كنعان وخليفته رستم غزالي، وجد هذا الحقد في الفلسطينيين وسيلة لتصريف غرائزه العدوانية، من حرب المخيمات الوحشية، الى حصار المخيمات، الى الاذلال اليومي، الذي وصل حد منع الفلسطينيين من ادخال حجر باطون من أجل أن يضعوا عليه رؤوس موتاهم في القبور! هذه الفوبيا، تجددت مع بداية تحلل القبضة السورية ووجدت في السوريين متنفسا لأحقادها. من الشعار الشهير الذي رُفع خلال انتفاضة الإستقلال: «ما بدنا كعك بلبنان إلا الكعك اللبناني»، في اشارة واضحة الى ضرورة طرد العمال السوريين من لبنان،و الى هيستيريا الخوف من السوريين التي تملأ المدن، وتتحول الى لغة شفهية تعلن عنصريتها بلا مواربة.
الثاني هو العجز الذي يضرب مفاصل السلطة اللبنانية، ويجعلها غير قادرة على طرح أي حل لمشكلات اللاجئين السوريين في لبنان. فأمام نجاح النظام الاستبدادي المتوحش في سوريا في تطبيق شعاره: «الأسد أو نحرق البلد»، كان واضحاً أن أعداد اللاجئين سوف تتزايد بشكل كبير، وهذا ما أشارت اليه كل التقارير. لكن السلطة اللبنانية كانت مصابة بالعماء والصمم، ورفضت بكل وضوح انشاء مخيمات لللاجئين السوريين، بحجة خوف الطوائف اللبنانية الكريمة من تحولهم الى فلسطينيين جدد. فكانت النتيجة أن نشأ في لبنان حوالي ألفي مخيم عشوائي، لا قدرة لأحد على ضبطها أمنيا من جهة، وتشتت الإغاثة وعدم فاعليتها من جهة ثانية.
الثالث هو الحماقة، فحين تجتمع الفوبيا بالعجز، ينتج عنهما تصرفات حمقاء تقود الى تحويل الناس الى كتل من الأحقاد مؤهلة للإنفجار في أي لحظة. وعلامة الإنفجار الكبرى بدأت في عرسال مع قيام «النصرة» و»داعش» باختطاف جنود لبنانيين واعدام ثلاثة منهم بطريقة وحشية، وتمتد اليوم الى الشمال مع اصطياد جنود من الجيش، ولا يعلم أحد الى أين قد يمضي بنا هذا المسلسل.
المأزق السياسي الذي وجد فيه لبنان نفسه إزاء المسألة السورية متشعب ومعقّد. لم يعد النقاش حول اجتياح جنود حزب الله لمناطق في سوريا مجدياً، فالقرار ايراني، وحزب الله ليس سوى منفذ. لكن ما فات قيادات حزب الله ملاحظته هو أن عددا كبيرا من اللاجئين السوريين في عرسال جاء بعد اجتياح القصير ويبرود من قبل جنود حزب الله، بما يخلّفه ذلك من أحقاد، وأن هذه الأحقاد تتنامى بفعل تصاعد الخطاب الطائفي السني- الشيعي، وخصوصاً بعد الصعود الكاسح ل «داعش» في العراق وسوريا. كما أن خطاب الحزب يهمل حقيقة أن الحدود حين تفتح للتدخل العسكري، فإنها لن تبقى مفتوحة من جانب واحد.
إن الربط بين مسألة إنسانية كمسألة اللاجئين وبين الإرهاب الأصولي، يقود الى الهاوية، لأنه ينتهي الى ممارسة عقاب جماعي نشهد اليوم فصولا صارخة منه، والعقاب الجماعي سوف يقود الى ردات فعل كارثية.
لكن هناك مشكلة حقيقية، يجيبون.
وهذا صحيح، مليون ونصف مليون لاجىء في بلد لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين نسمة، هو مشكلة كبرى تنوء بها أي دولة، وهي تتطلب معالجة عقلانية وأخلاقية وإنسانية، قبل أن تتحول، مع التوقعات التي تقول بأن عدد اللاجئين السوريين مرشح للقفز الى مليوني نسمة، الى كارثة.
حين نقول معالجة عقلانية فإننا نأخذ في الإعتبار العلاقات المعقدة بين شعبين هما من نسيج واحد، لكن الزمن جعل من علاقتهما ميزانا للخطأ الذي ابتلتنا به ديكتاتورية آل الأسد، بوحشيتها وقمعها وإذلالها للبنانيين والسوريين.
ذل الهيمنة جاء ليحوّل الدونية التي كان يشعر بها السوريون الذين شكلوا اليد العاملة الرخيصة التي بَنَت بيروت والمدن اللبنانية الأخرى، الى شعور وهمي بالتفوق، صاحبه إحساس لبناني عام بالمهانة والإذلال من عنجهية ولصوصية الآلة المخابراتية السورية. لكن سرعان ما بدأ ميزان المشاعر ينقلب بعد خروج الجيش السوري من لبنان، لنصل مع الكارثة التي حلت بالشعب السوري الى لحظتنا الراهنة المشحونة بعنصرية لبنانية كريهة.
ليس الآن مجال تحليل هذه العنصرية التي تجد جذورها في البنية الطائفية للسياسة اللبنانية، ولكننا في مجال التحذير من أن هذه الممارسات تهدد البلاد بانفجار لا سابق له، سوف يدفع ثمنه الجميع.
لا أدري إذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية الممزقة بين محورين اقليميين متصارعين، والمشغولة بنهب ما تبقى من لبنان، والتي عجزت عن انتخاب رئيس للبلاد، وتركت كل القضايا معلّقة، من المعلمين الى الكهرباء الى آخره، تمتلك حداً أدنى من الشعور بالمسؤولية أمام خطر اجتماعي داهم يهدد بانفجار كل شيء.
ورغم اقتناعي بأن هذه الطبقة عاجزة وجبانة ولا حول لها، وأنها سبب المشكلة التي علق فيها لبنان، فإن واجب الجميع رفع الصوت والتنبيه الى مخاطر العنصرية التي باتت تهديداً داهماً.
نقطة البداية هي إدانة هذا السيل العنصري وايقافه فوراً، كي يتسنى للعقلاء البحث في حلول تحفظ كرامة اللاجئين أولا، وتؤمّن حدا أدنى من الأمان الذي يستطيع ايقاف التدهور.
كلنا سوريون، حين يتعلق الأمر بالمبادئ الأخلاقية، وكلنا سوريون حين ننظر الى مستقبل هذه البلاد التي لا مستقبل لها إلا في الحرية وكرامة المواطن.

اقرأ المزيد
٢١ أكتوبر ٢٠١٤
الأكراد: فن الرهان على الخطأ

الأكراد: فن الرهان على الخطأ
تروي الحكاية الشعبية أن عربيا أطنب في مدح شمائل صديق كردي. ثم استدرك قائلا: «لكن للأكراد علة واحدة». فرفع الكردي قبضته، وسدد لكمة قوية إلى الصديق العربي سائلا بحدة: «وما هي؟!». أجاب العربي وهو يتأوه من الألم: «هذه هي» مشيرا إلى قبضة الصديق.
هل الأكراد مشروع شعب منسحبٍ بسرعة، من عدة أقوام وشعوب مجاورة؟ قبل أن أتلقى لكمة قاضية، أجيب بأن الأكراد عاشوا. وتعايشوا بأمان وسلام، مع العرب مئات السنين، بحيث يستحيل الانسحاب منهم، بسرعة التوقيت الأميركي لساعة طالباني. وبارزاني. وكوباني.
كان الأكراد الجالية الأجنبية الصديقة التي تمكنت من إقامة دولة كردية على أرض العالم العربي. بل غدا البطل صلاح الدين الأيوبي رائد وحدة عربية حقيقية! عندما وحد مصر وسوريا. وانقض على الممالك الصليبية. فحرر القدس، مقدما السابقة التاريخية للفلسطينيين. ففلسطين يستحيل تحريرها بصاروخ تنك. التحرير يجب أن يكون مهمة مشروع قومي عربي. يبدأ بوحدة مصر وسوريا. وليس فقط بوحدة الضفة وغزة.
سوابق التعايش التاريخي الحميم بين الأكراد والعرب على الأرض العربية تحت راية الدين الواحد، لا تجيز للشوفينية العنصرية المعاصرة، أن تمارس فن ارتكاب الأخطاء الساذجة والخطيرة، كمحاولة أكراد الحدود تذكير أكراد الداخل «المستعربين» منذ مئات السنين، بضرورة استعادة كرديتهم.
هذه المحاولات العقيمة أدت، في «الطوشة» الكردية السورية في أوائل القرن الميلادي الجديد، إلى طرح النظام السوري نفسه موئلا وحاميا لعروبة السوريين. وكان رفع الأكراد لرايات «سورية لا عربية ولا كردية» بمثابة انفصال كردي عن المعارضة السياسية السورية، وتعبير تمهيدي عن الرغبة العنصرية في سلخ مساحات من الأرض السورية، لضمها إلى كردستان عراقية. أو كردستان سورية في الشمال.
كان إيواء كردستان العراق لعشرات ألوف العرب العراقيين الهاربين من جحيم الدولة الداعشية، بادرة كردية نبيلة في وقت الشدة. لكن اجتياح قوات الـ«بيشمركة» الكردية لمناطق سنية عراقية، وخاصة في أقاليم نينوى. تكريت. ديالى. كان يجب أن يترافق بإعلان رسمي كردي واضح وأكيد، عن حسن النية الكردية. وعن العزم على الانسحاب، وخاصة من كركوك، حالما ينتهي الصراع مع «داعش».
وكان من الواجب على أميركا أوباما، وقوات التحالف العربي/ الدولي، وحكومة حيدر العبادي، الإعلان عن إلزام قوات الـ«بيشمركة» والميليشيات الشيعية العراقية، بالانسحاب، ومنع أي ممارسة لتهجير العرب بالقوة.
رضي العراقيون العرب، من سنة وشيعة، بدستور يمنح كردستان العراق شرعية الوجود، كبادرة حسن نية ورغبة، في إنهاء صراع دموي طويل مع الأكراد. وبضغط من الأميركيين، أُرسي تقليد يتولى بموجبه كردي رئاسة الجمهورية (جلال طالباني. ثم فؤاد معصوم). ووصل استغلال الانحياز الأميركي المطلق للأكراد، إلى احتلالهم منصبي وزير الخارجية ورئيس أركان الجيش العراقي، في حكومة نوري المالكي. وبدا الوزير هوشيار زيباري في تصريحاته منحازا ومدافعا، عن تصرفات وسياسات المالكي!
قد يكون النزاع العربي/ الكردي مؤجلا الآن، ريثما يتم الحسم مع «داعش». بيد أن أكراد سوريا فقدوا فرصة ذهبية، لدعوة المعارضات السورية المسلحة، إلى المشاركة في معركة عين العرب (كوباني) ضد «داعش». والاقتصار على «تكريد» المعركة، حدا بتركيا إلى منع قوات النجدة الكردية، من الوصول إلى كوباني.
أعود إلى بدايات تشكيل العراق التاريخي، مع بُناته من العرب السنة، فأقول إن الأقوام الآرية (الكرد. الفرس. الترك) قبلت بالأسلمة. ورفضت العروبة التي اكتفت بخلخلة ثقافاتهم بالتقاليد. واللغة. والحروف. والأسماء العربية، فيما كان سهلا على هؤلاء العرب تعريب وأسلمة الشام، بحكم كون سكانها من الأقوام السامية الشقيقة التي سبقتهم في الهجرة إليها، من شبه الجزيرة العربية.
وهكذا، استقرت سوريا على العروبة، فيما بقي العراق ساحة صراع بين العرب الساميين والأقوام الآرية. وكان من أدوات الصراع الدين. الطائفة. المذهب. العرق (الإثنية). السياسة. السلطة. النيابة... وسجل الأكراد عدة ثورات لاهبة في القرن العشرين، احتجاجا على عدم إنصافهم في الاتفاقات السرية بين بريطانيا وفرنسا.
بعد رحيل الملك الهاشمي الحكيم فيصل الأول باني العراق المعاصر، اختلت اللعبة السياسية في أيدي الإنجليز، فقاد رئيس الأركان العراقي بكر صدقي (كردي) انقلابا عسكريا اتخذ منحى يساريا، بالتعاون مع ساسة أمثال كامل الجادرجي وحكمت سليمان. لكن الضباط القوميين تمكنوا من قتل بكر صدقي (1937).
أتقن الأكراد فن الرهان على الخطأ، بحيث وصل صراعهم مع العرب إلى الاستقواء بالقوى الإقليمية والخارجية. سقطت جمهورية مهاباد الكردية التي أقامها ستالين، بعد الحرب العالمية الثانية، على أراض إيرانية. روسية. فنقل رئيسها «الجنرال الأحمر» مصطفى بارزاني بارودته من الكتف الروسي. وأسندها إلى الكتف الشاهنشاهي!
بعد الانقلاب الجمهوري في العراق (1958)، قاتلت فرق سورية مع الجيش العراقي ميليشيا الـ«بيشمركة» البارزانية. وفي العصر الصدامي، نجحت وساطة الجزائر المدعومة أميركيا (1975) بمصالحة صدام مع الشاه، على حساب الأرض العربية!
تنازل صدام لإيران، عن الجرف القاري في شط العرب! في مقابل «تنازل» الشاه عن حليفه البارزاني الذي نقل بارودته إلى الكتف الأميركي. استعاد صدام كردستان. فسحبت «البراغماتية» الأميركية جنرالها «الأحمر» فتوفي مغموما في «ضيافة» كارتر (1979).
في متابعتي الطويلة، كشاهد على عصر عربي متقلب، غدا مسلسل المشهد العراقي الطويل أمامي، كمسرح إغريقي حافل بأبطال البكائية (التراجيديا) الأسطورية الذين لم يعرفوا يوما الوحدة الوطنية والقومية. كنت أشكو لصديقي فيصل حسون (نقيب الصحافة العراقية في عصر عبد الكريم قاسم) ميل النفس العراقية إلى العنف والقوة. وقِصَرَ أنفاسها عن الحوار. كان ينفي بهدوء واسترخاء، عن العراقيين (بمن فيهم الأكراد) التهمة.
لم أعتذر لفيصل حسون. فلم أكن أدري أن حافظ الأسد سيورث نجله بشار مسرح الدم الذي دشنه بمجزرة حماه (1982)، ليحوله الابن الوارث إلى بحر من دماء أكثر من ربع مليون انسان.
لم تعرف الطبقة السياسية العراقية، في كل العهود كيف يمكن فتح حوار حقيقي وجدي مع الأكراد، من أجل حل سلمي يرضي طموحهم السياسي. وكان عرضُ صدام على الأكراد إقامة منطقة حكم ذاتي ضيق، بمثابة مهزلة متسترة على حكمه الدموي.
في المقابل، انتهز أكراد العراق كل صراع داخلي، وكل نزاع عربي/ فارسي، للتحالف مع إيران! فيما انتهز أكراد إيران المناسبة ذاتها، للتحالف مع عراق صدام. كان الرد الإيراني لامباليا. فقتل نظام الخميني ألوف الأكراد. ثم اغتال زعماء الأكراد الإيرانيين خلال الحرب مع صدام.
سقط في الصدام الكردي/ الكردي في التسعينات ألوف القتلى. واستنجد مسعود بارزاني بقوات صدام، لحماية أربيل من قوات جلال طالباني. لكن حقنَ صدام أنوف أكراد حلبجة بالغاز السام يبقى وصمة عار على جبين نظامه (يقال إن إيران الخميني شاركت أيضا في قصف حلبجة بالغاز).
هجمةُ «داعش» السورية على بلدة عين العرب (كوباني) تنطوي على قدر كبير من الانتقام، من هجمة الأكراد على «داعش» العراقية. وقوف العرب العراقيين والسوريين، متفرجين على المجزرة الداعشية/ الكردية، من دون الضغط على تركيا للتدخل لوقفها، دليل على مدى القلق العربي إزاء غموض موقف الأكراد السوريين. هل يريدون البقاء في سوريا؟ أم يريدون الالتحاق بكردستان العراقية؟
تلقت سوريا الطبيعية (الشام) لكمات عديدة. فتمزقت إلى دويلات (سوريا. لبنان. الأردن. إسرائيل التي تحاول ابتلاع كامل فلسطين). وها هي «داعش» وبشار يستكملان مخطط التمزيق والتفتيت في سوريا. عرف النظام العربي الخليجي كيف يكسب قدرا من ثقة أكراد كردستان العراق. ففتح نوافذ إعلامه للرأي الكردي، من دون أي حساسية. ولعل أكراد برزاني بالذات يبنون جسورا فوق هذه النوافذ، وصولا إلى علاقة متوازنة ودائمة مع العرب لا تستطيع إسرائيل و«داعش» تخريبها.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
زلزال المنطقة... والجنرال وقت!

زلزال المنطقة... والجنرال وقت!

كل من يتابع عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وأخواته في سورية والعراق يدرك جيداً ان «القصة طويلة» جداً وأن لها ما لها وما عليها من ذيول وتبعات ونتائج وردود فعل وانعكاسات كثيرة تدعو إلى القلق والدهشة والاستغراب، إن لم نقل في بعض الأحيان، الى السخرية من أسلوب المواجهة والعقلية التي تدار بها الأمور وكيفية معالجة قضية خطيرة مثل هذه القضية الحساسة والدقيقة والمكشوفة أمام أعين العالم كله.

ففي مثل هذه الحال هناك نظريات مختلفة ومتناقضة حول أسلوب المواجهة العسكرية، فمنها ما يعتبر ان الوقت هو العامل الأساس في حسم المعركة باستخدام عنصر المفاجأة والضربات السريعة الموجعة والمكثفة كمّاً ونوعاً، كما فعلت إسرائيل في حرب 5 حزيران (يونيو) ١٩٦٧، وما قامت به مصر وسورية في حرب 6 تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٧٣، في مقابل نظرية تقوم على التدرج في العمليات مهما استغرق وقتها والتأني في توجيه الضربات مهما طال الزمن!

وبكل أسف، فإن من الواضح ان قيادة العمليات في التحالف اختارت النظرية الثانية، إن في الأحاديث المسهبة عن الحرب وتفاصيلها المملة وتحديد أماكن الضربات التي ستستهدف، وكأنها تقول لـ «الداعشيين»: إننا قادمون وسنضرب هنا وهناك، فابحثوا عن مخابئ لكم ولأسلحتكم وانتشروا خارج أماكن تجمعاتكم؟ كما ان غالبية التصريحات تؤكد ان العملية ستستغرق سنوات عدة، وبعضها حدد ١٠ سنوات وآخر ذهب بعيداً ليتحدث عن 40 سنة، وكأنه يقول: «أبشروا بطول سلامة يا إرهابيين، وتحملوا يا عرب ما سيحلّ بكم طوال هذه السنوات العجاف، إن لم تفنوا قبلها».

ومع الاعتراف بعدم جواز الجزم بصوابية الخيارات العسكرية من جانب من لا اختصاص له، وأنا منهم، فإن من البديهي القول إن أهل المنطقة أدرى بشعابها وقضاياها وحساسياتها، وإنهم هم الذين يدفعون الثمن من أمنهم واستقرارهم وثرواتهم وأرواحهم ويحملون الأوزار مهما كانت النتائج، كما ان الأوضاع لا تحتمل الإطالة والاستمرار في الحرب على المدى الطويل. فالمنطقة تعيش الآن في سباق مع الزمن ولا تحتمل سير السلحفاة التي تصل متأخرة أو قد لا تصل أبداً في الوقت المناسب.

فأهل المنطقة يريدون الحسم السريع لأنهم أكثر إدراكاً لأوضاعها المعقدة والحساسيات والحسابات المتعلقة بها... وأكثر تفهماً لنبض الرأي العام وأسلوب مجابهة جماعات متطرفة باتت تملك السلاح المتطور والمال الوفير والخبرة العسكرية، بعدما انضم إليها مئات الضباط والجنود المدربين والمنشقين عن الجيشين العراقي والسوري، إضافة الى مئات المتطوعين من أنحاء العالم. وعلينا ألا نتجاهل أيضاً قدرة هؤلاء في التفنن باستخدام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديث التي تصل الى كل بيت والتركيز على أساليب التجييش العاطفي والديني والإرهاب والتخويف و «البروباغندا» بشتى أنواعها وأشكالها.

ولا يختلف اثنان على ان «الجنرال وقت» هو عامل أساس في حسم المعركة، أي معركة، مع احترام نظريات جنرالات التحالف. هذا ما تعلمناه من دروس التاريخ وتجارب الآخرين، علماً ان هذه الحرب الجديدة تتطلب اعتباراً أكثر له ودقة في التعامل معه لأسباب متعددة أهمها انها حرب غير تقليدية، بل هي مزيج من حرب العصابات وعمليات الكر والفر والقدرة على التخفي والانتشار بين السكان واتخاذهم دروعاً بشرية لا بد من ان تتسبب بالإحراج في وقوع ضحايا من المدنيين والنساء والأطفال، وهو ما سيسعى إليه الإرهابيون لتأليب الرأي العام.

يضاف الى ذلك ان «داعش» وأخواته تحارب في أرض غير أرضها، بل هي أرض محتلة، ولا تبالي بالدمار ولا بهدم مدن وقرى لا تخصها، ولا تهتم بمصير أهلها الذين أُجبروا على النزوح أو الرضوخ لأوامرها، كما انها استولت على أسلحة ومعدّات حديثة لم تدفع ثمنها ولا تجد صعوبة في الحصول على غيرها من مستودعات الجيشين العراقي والسوري، إن لم تأتها من مصادر أخرى.

ومن هنا يأتي استغراب التصريحات التي تتحدث عن سنوات، والاستهزاء بطلعات جوية متفرقة وبأوقات متباعدة لتقصف مركزاً أو مركزين للإرهابيين، أو تطاول رتلاً من مسلحيهم لتعود الى قواعدها سالمة من «نزهتها» وتنتظر الأوامر للقيام بمهمات أخرى في اليوم التالي أو بعده. ومع الاعتراف مرة أخرى بعدم الاختصاص العسكري والاستراتيجي، فإن من المنطقي القول إن مثل هذه الحروب تتطلب شن ضربات متتالية ومركزة ودقيقة من دون انقطاع لتشل حركة الإرهابيين وتمنعهم من التمدد والتقدم، إضافة الى استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحديد أماكن تمركز القيادات ومراكز الإدارة والتحكم لضربها وإجبارها على التنقل وكشف تحركاتها.

أما ما جرى حتى هذه اللحظة، فمن المؤكد انه لن يؤدي الى حسم الأمور، بل ربما زادها تعقيداً، فالحوادث الراهنة تشبه الى حد بعيد زلزالاً يهز المنطقة بأسرها، ما يتطلب مجابهة على مستوى أخطاره وتهديداته، إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها أو أن أصحاب الحل والربط لديهم تصور آخر لحسم الأمور لم يرد الإعلان عنه لو كشف تفاصيله.

هذا الزلزال هو ارتداد طبيعي لزلزال ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ الذي تبنت فيه «القاعدة» تفجيرات نيويورك وواشنطن، وكان من نتائجه ضرب القضايا العربية، وفي مقدمها قضية فلسطين وإقدام الولايات المتحدة على احتلال أفغانستان والعراق وتدمير ركائز الدولتين وإعادتهما عشرات السنين الى الوراء وهز الكيانات العربية والإسلامية.

فهل المقصود من قيام «داعش» وخلافته المزعومة استكمال سيناريو الهدم وتفتيت الدول العربية وتدمير البنى التحتية وإشعال نار فتن وحروب قد تستمر عشرات السنين؟ الرد المنطقي على هذا السؤال يتركز على حقائق أرض الواقع. فماذا جنى العرب والمسلمون من الزلزال الأول غير الدمار وضرب الأمن والاستقرار وهدر الثروات العربية؟ والى ماذا يمكن ان يؤدي الزلزال الجديد، الأكثر خطورة وتأثيراً، وماذا يفيد ما يسمى بالجهاد المزعوم قطع رأس أميركي أو بريطاني أو فرنسي، أو حتى عربي مسلم أو مسيحي، غير تشويه صورة الإسلام وتهديد حياة ملايين المسلمين؟ وماذا ستجر علينا هذه الظاهرة غير الدمار والمذابح وهيمنة الدول الأجنبية على المنطقة وخيراتها وقراراتها وإطلاق يد القوى الإقليمية، أي تركيا وإيران وإسرائيل في فرض إرادتها ونفوذها على العرب أصحاب الأرض والتاريخ والمصير وأسياد المنطقة عبر العصور؟

أليس هذا ما نشهد فصوله اليوم وتتكشف خفاياه يوماً بعد يوم، بعدما سقط القناع؟ وأي مكسب يمكن ان يحصل عليه العرب والمسلمون من هذه الخلافة المزعومة وغيرها؟ بل أي ثمن سيدفعون لاحقاً من حروب وفتن ودمار وضياع وتفتيت؟ الأمر واضح لكل عاقل، لكن هناك من يراهن على مجهول لن يأتي، أو على مفاجأة لن تحصل وسط شكوك وعلامات استفهام حول الوحش «فرانكنشتاين» ومن اخترعه ومن أوجده ولماذا وكيف انقلب على أصحابه؟

وهل يمكن ان نصدق ان النيات صادقة أو ان القصد شريف من كل ما حدث؟ أو ان من يتحرك باسم الإسلام صادق في دعواه؟ وحتى لو صدقنا جدلاً أنه صادق، هل اختار السبيل الصحيح والصراط المستقيم وامتثل لمبادئ الإسلام السمح واختار العمل بهدوء وحكمة وتعقل لنشر دعوته، بدلاً من لجوئه إلى الذبح والإرهاب والقتل وقمع الحريات والتكفير وإجبار الآمنين على النزوح من ديارهم وإرهاب أتباع دينهم قبل غيرهم من أتباع الديانات والطوائف الأخرى وخوض غمار حروب عبثية، يعرف دعاتها ونعرف جميعاً انها خاسرة وستجر عليهم وعلينا الويلات؟

إنّها أسئلة مشروعة تتطلب دراسة أوسع والبحث بعمق في الخفايا والأبعاد والأسرار والنوايا والغايات والمآرب والخلفيات والممارسات وأهدافها، لكن الأمر المؤكد ان الإطالة ستنجم عنها نتائج عكسية قد تؤدي إلى انتشار الارهاب واتساع رقعة المواجهة وازدياد التعاطف معه. ولهذه الأسباب وغيرها لا بد من معالجة الداء من أعماقه واجتثاث جذور المِحنة ومسبباتها ووضع خطط سياسية واقتصادية واجتماعية لإعادة تأهيل المجتمعات والقضاء على الفساد والالتفات إلى إعادة الإعمار لتحيي الآمال وتوفر فرص عمل شريف لملايين الشباب العاطلين الذين تُستغَل محنتهم لغسل أدمغتهم وتوريطهم في الإرهاب.

ولا بد من إيجاد حلول عاجلة لأزمة انتشار اللاجئين والنازحين نتيجة الحروب، وهي أيضاً تشكل التربة الصالحة للاستغلال ونشر التطرّف والأحقاد. ولا بد أيضاً من إزالة أسباب النزوح بإيجاد حلول عادلة وسريعة للحروب والأزمات التي تنخر في جسد الأمة على امتداد العالم العربي، مع وجوب إحلال السلام في المنطقة وفرض الحل العادل لقضية فلسطين على أساس منح الشعب الفلسطيني جميع حقوقه المشروعة وأولها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ووقف الإجرام الاسرائيلي ومنع أي تعرض للمسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، لأن أي تهديد يتعرض له (الأقصى) سيشعل نار حرب لا حدود لها وتضاعف من حدة التوتر وتنشر نيران التطرّف.

فالحل لا يمكن ان يكون عسكرياً فقط ومواجهة الارهاب الجديد بالحلول الأمنية وحدها والمعالجة لا يمكن ان تكون تقليدية وبطيئة ولا تصل الى الجذور ويشارك فيها الجميع، من القمة الى القاعدة ومن البيت الى المدرسة والجامع ومن الدولة الى الأفراد وأصحاب الرأي، وفي مقدمهم رجال الفكر والإعلام.

نعم لا مجال للعمليات التجميلية والتكبير والتصغير وحشو الـ «بوتوكس» واستخدام المسكنات والمهدئات، بل لا بد من عملية جراحية عاجلة تستأصل السرطان المنتشر في الجسد العربي وتجتث معه جذوره ومسبباته، وأي تباطؤ أو تأخر، أو تأخير متعمد، سيؤدي الى ما لا تحمد عقباه ولا نملك بعدها إلا رحمة الله، وهو الرحيم العليم.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
ماذا تريد أميركا من حروبها في المنطقة

سكوت الولايات المتحدة، عن أسباب ظهور الأصوليات، والعوامل التي استدعت ردود الفعل المتطرفة من قبل تلك الحركات، يطرح أكثر من سؤال حول المواجهة التي تقودها .
العرب مفيد نجم [نُشر في 20/10/2014، العدد: 9713، ص(9)]
كنا نسأل فيما مضى إلى أين تقودنا أنظمة الاستبداد والفساد، حتى جاءت الانتفاضات العربية التي أطاحت بالعديد من تلك الأنظمة، لكننا الآن وأمام هذا التحشيد العسكري والإعلامي الغربي ضد ما يسمى بدولة العراق والشام الإسلامية، والإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة هنا وهناك، أصبحنا نسأل إلى أين تقودنا الولايات المتحدة الأميركية والغرب معها في حروبهم التي يراد لها فيما يبدو ألا تنتهي.

من غير المعقول أو المنطقي الحديث عن إرهاب “داعش”، والسكوت عن إرهاب الجماعات الشيعية المتطرفة التي تقاتل في سوريا وترتكب أبشع الجرائم الطائفية بحق الشعب السوري. ومن غير المعقول الحديث عن مكافحة الإرهاب وهذا التهافت الذي تبديه دول الغرب لمحاربته، في حين لم يتوقف النظام السوري عن ارتكاب الجرائم الفظيعة وبكافة أشكال الأسلحة حتى المحرمة دوليا منها، دون أن يتدخل هذا العالم لإنقاذ الشعب السوري من هذه المحرقة الجماعية التي تفتك بالبشر والحجر، أو على الأقل يقدم للسوريين ما يدافعون به عن أنفسهم ويوقفون فيه آلة القتل والدمار عن ارتكاب مزيد من الجرائم، ولو من باب ما يدّعونه من قيم إنسانية.

سكوت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها ساسة الغرب، عن الأسباب التي قادت إلى ظهور هذه الأصوليات، وعن العوامل الموضوعية التي استدعت ردود الفعل المتطرفة من قبل تلك الحركات، يطرح أكثر من سؤال حول أهداف هذه المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة، وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات خطيرة على العلاقة بين الغرب والإسلام.

لقد كان من المنطقي أن تمارس الولايات المتحدة وشركاؤها في مكافحة الإرهاب سياسة مزدوجة في تعاملهم مع الارهاب، لأن الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الشيعية التي تقاتل إلى جانب النظام في سوريا ونظام الأسد لا يختلف عما تمارسه داعش والجماعات المتطرفة السنية الأخرى. إن القضاء على التطرف يحتاج، أولا، إلى التخلص من الأنظمة التي وفرت أسباب صعود هذا التطرف، وفي مقدمتها جرائم نظام الجريمة في سوريا، ونظام الفساد الطائفي في العراق اللذين وفرا البيئة المعززة لظهور التطرف، وساهما في توسعه واشتداده.

لم تكن الولايات ومعها الغرب وأجهزة استخباراتهم في المنطقة بعيدة عن مراقبة ما كان يحدث من تمدد واستقواء لتلك الحركات وفي طليعتها الدولة الإسلامية (داعش)، كما لم يكن بعيدا عنها معرفة الأسباب الكامنة وراء صعودها، والتي كانت توفر الظروف المناسبة لمزيد من التطرف والاستقطاب الطائفي في المنطقة، لكنها لم تفعل شيئا لمواجهة هذا الخطر الداهم، في وقت كان يمكن أن يتحقق بكلفة أقل وبزمن قياسي أقصر بكثير من الزمن الذي يفترضه القادة الأميركيون للقضاء على داعش، ومن دون أن يتبعه هذا التضخيم الكبير لخطر الجماعات الإسلامية المتطرفة، حتى تحولت إلى نوع من “الفوبيا” التي أصبحت تتجاوز حدود هذه الظاهرة إلى مفهوم الإسلام بصورة عامة.

وسط هذا الضجيج العسكري والإعلامي يكاد الحديث عن القاعدة وخطرها يتلاشى حتى كأنها أصبحت جزءا من الماضي، فهل كانت الحرب عليها هي الفصل الأول في هذه الحرب الأميركية، بينما الحرب على داعش هي الجزء الثاني منها، والسؤال الأهم هنا لماذا جاء هذا الصعود الغريب والمثير للريبة لقوة الدولة “الداعشية” بعد الانتفاضات العربية التي دخلت سوريا معها في مرحلة الاستعصاء نتيجة التدخل الخارجي إلى جانب النظام، وتجاهل العالم للمحرقة الرهيبة للشعب السوري، حتى تحولت هذه الانتفاضات إلى أشبه ما يكون بنزع صمام الأمان، الذي انفجرت على إثره كل تناقضات الواقع الكامنة وصراع المصالح الذي تقوده الجماعات المتطرفة دون أي تدخل دولي للحؤول دون تغول تلك الجماعات، وانعدام الاستقرار في المنطقة والذي سينعكس سلبا على الاستقرار في العالم.

قد يرى البعض أن مسؤولية هذا الوضع تعود إلى غياب النظام الدولي وتخلي إدارة الرئيس أوباما عن دورها القيادي في هذا النظام، لكن الوقائع التي حدثت وتحدث تقود إلى عكس هذا الاستنتاج، لأن من يريد القضاء على التطرف يجب عليه، أولا، القضاء على أسبابه ومحاربة الأنظمة التي ساهمت في تعزيز قوته وتمكينه ماديا وعسكريا، سواء من خلال تسهيل عملية سيطرته على مصادر النفط أو السلاح المتطور، كما حدث في مطار الطبقة والفرقة السابعة في محافظة الرقة السورية، أو كما حدث في الموصل وهو ما يكشف عن التواطؤ المكشوف من قبل نظامي دمشق وبغداد، بهدف التغطية على جرائم نظام الأسد باعتبارها جزءا من محاربة الإرهاب، وليست حربا على شعب خرج يطالب بالحرية.

إن أميركا التي تركت العراق تحت سيطرة الجماعات الطائفية الفاسدة وربيبة إيران، ها هي تترك، ومعها القوى الدولية الأخرى، اليمن لقمة سائغة لمطامع الجماعات الحوثية ومن خلفهم إيران على الرغم من وجود قرار دولي ينص على معاقبة الطرف الذي يحول دون تنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية هناك. كذلك الحال في ليبيا المتروكة لمصيرها الدموي مع سيطرة القوى الإسلامية المتطرفة عليها ومحاولتها فرض أجندتها الخاصة على الجميع، دون أن يكون هناك تدخل فاعل لاستعادة الدولة سلطتها والبدء بعملية بناء مؤسسات الدولة القادرة على إخراج ليبيا من أزماتها.

كل هذا وغيره يجعلنا نتساءل عن الأهداف الحقيقية الكامنة وراء حروب أميركا التي يبدو أنها لن تنتهي في المنطقة، وعن الأسباب التي جعلتها تتخلى عن مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية حتى نضجت ظروف تدخلها الذي فيما يبدو طويل الأجل وهو ما يجعلنا نسأل مرة أخرى عما تريده أميركا من حروبها في المنطقة.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
دور المعاهدات في محاربة داعش: سورية وايران مثالا

في مقالتي السابقة ذكرت: ((وميدانياً وصلت الحرب مرحلة التعادل مع استمرار عملية القتل الجماعي دون احراز الانتصارات سوى الجزئية منها.)) دون الاشارة الى الاسباب الموضوعية لاستمرار الحرب ضد التحالف الداعشي. وهنا اجد الضرورة لشرح دور الاتفاقيات الدولية القائمة التي تلعب دوراً مهماً في هذا الخصوص:
اولاً: – في 16/6/2006 ، اي قبل الحرب الاهلية في سوريا بسنوات، وقعت ايران مع سوريا اتفاقية عسكرية ضد الخطر المشترك على الدولتين. بموجبها تستطيع ايران ارسال جيوشها النظامية الى سوريا للدفاع عنها من اي تدخل عسكري من قبل تركيا او من اية دولة اخرى. وفي 27/9/2014 صرح الرئيس رجب طيب اوردوغان ان (( القوات التركية قد تساهم في انشاء منطقة أمنة في سوريا في حالة قرار دولي على اقامة ملاذ آمن لللاجئين الذين يفرون من مقاتلي الدولة الاسلامية.)) واضاف: ((ان العمليات الجوية لن تكف في القضاء على داعش… لا يمكن القضاء على مثل هذه المنظمة الارهابية بالغارات الجوية وحدها … ان القوات البرية تلعب دوراً تكميلياً ويجب النظر للعملية كوحدة واحدة. )) اي انه اعلن عن استعداده لشن هجوم بري على جارته الجنوبية (( وذلك لاسقاط حكومة بشار الاسد التي فقدت شرعيتها.))
رداً على هذه التصريحات لاوردوغان اعلنت وزارة الخارجية السورية في 3/ 10/ 2014 عن اعتبار اي تدخل تركي عسكري في سوريا عدواناً عليها. ثم اكد عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية الايراني، في 9/10/2014 على هذا الاعلان حين صرح ان حكومته (( انذرت تركيا بالعواقب الوخيمة اذا اخترقت القوات التركية الحدود السورية.)) واعاد تحذيره بعد يومين في اجتماع في مؤسسة الدراسات الاستراتيجية في طهران. وبالطبع انه يبعث بهذه التحذيرات القوية ليذكر اوردوغان بنصوص معاهدة الدفاع المشترك لحكومته مع سوريا.
وفي 15/10/2014 تابعت وزارة الخارجية السورية بقولها ((إن المحاولات التركية لإقامة منطقة عازلة على الأراضي السورية تشكل انتهاكا سافرا لمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة ولقواعد القانون الدولي التي توجب احترام السيادة الوطنية للدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كما تشكل انتهاكا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بمكافحة الإرهاب وضرورة تجفيف منابعه ولاسيما القرارات 1373-2170-2178 ما يتطلب من المجتمع الدولي وخاصة مجلس الأمن التحرك السريع لوضع حد لانتهاكات الحكومة التركية التي تشكل تهديدا للأمن والسلم الإقليمي والدولي. )) اي ان الحكومتين السورية والايرانية تركزان على قرارات مجلس الامن والاتفاقات الشرعية بين الدولتين للرد على تركيا، لا لتهديدها فحسب بل لاظهارها بانها تعمل على تهديد سورياً خرقاً للطرق الشرعية التي تنظم العلاقات الدولية.
ثانياً:- في 8/10/1980 وقعت الدولة السوفياتية معاهدة السلم والصداقة مع سوريا. يشير البند السادس منها الى قيام الطرفين الساميين بالعمل المشترك لازالة الخطر على امن احد الطرفين. وبموجب هذه المعاهدة انشأ الاتحاد السوفياتي قاعدة عسكرية في ميناء طرطوس والتي بدونها لا تستطيع البوارج الحربية الروسية الدخول الى البحر المتوسط بسهولة. وبموجبها ايضاً قررت حكومة بوتين تجهيز سوريا بصوارخ ايس 300 المضادة للهجوم الجوي، وذلك بالرغم من توسلات نتنياهو في سفرته الى موسكو لاقناع الحكومة الروسية على تبديل قرارها المؤذي لاسرائيل.
رداً على التهديدات الفارغة للولايات المتحدة حول ضرورة محاربة داعش باستخدام المعارضة السورية ((المعتدلة)) اكد لافروف، وزير الخارجية الروسي في هيئة الامم المتحدة في 27/9/2014 ، اي في نفس اليوم الذي نطق اورغان بتصريحاته المدونة اعلاه، على (( ان محاربة الارهاب ينبغي ان تكون وفق القانون الدولي وان الولايات المتحدة تعتبر نفسها بطلة الديمقراطية وسيادة القانون وترفض المساواة بين سيادة الدول حسب ميثاق الهيئة .. وانها تحاول ان تقرر نيابة عن الجميع ما هو الخير وما هو الشر وترفض التعاون مع حكومة بشار الاسد في سوريا باعتباره ((يفتقد الشرعية)) وانها تستخدم القوة من جانب واحد في اي مكان في العالم واصبح التدخل العسكري هو القاعدة …الخ.)) وكل هذا تلميح بأن العدوان على سوريا او التدخل في شؤونها الداخلية دون موافقة بشار الاسد قد يحث الدولة الروسية ان تتحضر لتطبيق نصوص اتفاقيتها مع سوريا والاحتفاظ بطرطوس. وفعلاً بعثت روسيا عدداً من سفنها الحربية لترسو في طرطوس ترقباً لأي عدوان .
ثالثاً: – قبل الثورة السوفياتية باكثر من عشر سنوات وقع القيصر الروسي في 31/8/1907 معاهدة مع بريطانيا  The Anglo -Russian Convention
تستطيع روسيا بموجبها السيطرة ، في الحالات الضرورية، على القسم الشمالي من ايران ، حيث تقع طهران، في حين تستطيع بريطانيا السيطرة على الجنوب الشرقي منها، مع منطقة محايدة في الوسط. وبموجب هذه المعاهدة، مثلاً، احتلت الحكومة السوفياتية ، اثناء الحرب العالمية الثانية، شمال ايران. وفعلا اقيم مؤتمر بين جوزيف ستالين وتشرتشل وروزفيلت في طهران في 28/11/1943. وبعد الثورة الايرانية سنة 1979 الغت الحكومة الايرانية الجديدة هذه المعاهدة مع بريطانيا دون الغائها مع الاتحاد السوفياتي. ومازالت المعاهدة نافذة المفعول حتى كتابة هذه المقالة. فاي هجوم على ايران يعطي الحق لروسيا لتسيطر على النصف الشمالي منها. فحين تهدد امريكا او اسرائيل بالهجوم على ايران انهما تدركان سريان نصوص هذه الاتفاقية.
رابعاً:- ومن الجهة المقابلة ترتبط تركيا عسكرياً بحلف الاطلسي وان اي هجوم عليها من قبل ايران او روسيا يعطي الحق للحلف ان يتدخل للدفاع عنها. في الحقيقة اعتدى الجيش التركي (المسلم السني) على طالبان في افغانستان بموجب نصوص هذا الحلف. فالاتفاقات العسكرية مع المستعمرين بالنسبة لتركيا اهم بكثير من التوافه الدينية او الطائفية.
اذن يدرك جميع المهتمين بالحرب الداعشي بعدم امكانية دخول تركيا او امريكا عسكرياً في سوريا الا بموافقة حكومتها، وذلك بالرغم من تصريح مارتن دمبسي، قائد الجيش الامريكي، في 26/9/2014 بالحاجة الى (( 12الفاً الى 15 الف من المشاة لاستعادة الاراضي التي احتلها مقاتلو تنظيم الدولة الاسلامية في شرق سوريا,)) ولكنه اكد بصريح العبارة انه يقصد (( الخمسة الاف من مقالتلي المعارضة السورية)) الذين يقوم الضباط الامريكيون بتدريبهم حالياً. ولكون هذا العدد غير كاف لأنه يعادل فقط ثلث العدد المطلوب، اكد اوباما ان الحرب ضد الدولة الاسلامية ستطول لثلاث سنوات وان تحرير الموصل يحتاج الى سنة من التحضير والتدريب.
كل هذه التصريحات تؤكد على عدم تدخل امريكا بصورة جدية في الحرب عن طريق ارسال الجيوش البرية او (المارينز) لاحتلال سوريا. وكما هو مذكور اعلاه فان التدخل البري التركي سيؤدي الى اتساع الصراع القائم الى الحرب بين روسيا وحلف الاطلسي.
تشير كل هذه الحقائق الى استمرار الحرب الحالية ضد داعش في العراق وسوريا دون ان تتدخل فيها الدول العظمى ولا حتى ايران او تركيا بصورة واضحة. ولهذا يلاحظ المراقبون عدم تأثير القصف الامريكي على سير المعارك ويعتبره البعض بأنه لا يتعدى السخرية. ولهذا ايضاً صرح وزير الخارجية الامريكي جون كيري ان الدفاع عن مدينة كوباني في اقصى الشمال السوري ليس همّ ستراتيجي بالنسبة لامريكا. من الجهة الاخرى ان تصريح الرئيس الروسي ميدفيديف في 15/10/2014 بـ (( أن امريكا لم تعد مصرة على رحيل الاسد. )) وهجوم نائب الرئيس بايدن في محاضرته في جامعة هارفرد، مساء 4/10/ 2014، على رؤساء تركيا والسعودية والخليج واتهامهم بصرف البلايين لاسقاط الاسد تشير الى حدوث تفاهم بين روسيا وامريكا للتركيز على محاربة داعش بالتعاون مع الرئيس بشار الاسد.
هناك بالطبع قوى محلية، غير حكومية او حكومية سرية، قد تتدخل في صالح هذا الطرف او ذاك. فمثلاً يعمل حزب العمال الكردستاني لعبد الله اوجلان ارسال محاربيه للدفاع عن الاكراد في كوباني. فقامت تركيا بقصف مواقع هذا الحزب في 14/10/2014 لايقافه عند حده، دون الاهتمام بموت مفاوضات السلام بينها وبين الحزب الكردي. وهذا العدوان التركي سيعرقل تدخل الحزب الكردي وبالتالي سيطيل من امد الحرب القائمة ضد الداعشية – النقشبندية – البعثية . ( من الضروري التشديد على ان الحرب القائمة هي ليست ضد داعش وحدها بل ضد الجبهة الداعشية – النقشبندية – البعثية. ان تحية عزة الدوري للدولة الاسلامية بعد جرائمها في الموصل وسنجار تؤكد على قيام هذه الجبهة.)
في الحقيقة ان نصيب شعبنا الكردي اتعس مما يصوره الكثيرون . ففي الحرب القائمة هناك ثلاثة اطراف كردية متخاصمة. اذ هناك عدد كبير من اكراد العراق الوهابيين المنضمين في الكتل الدينية المتطرفة، مثل انصار السنة وغيرها، يحاربون الآن في كوباني تحت العلم الداعشي ضد ابناء جلدتهم وضد المؤيدين لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD في كوباني.
من الجهة الاخرى يجد مسعود البارزاني نفسه مشدود باكثر من سلسلة غليظة بالحكومة التركية. فهو ما زال يجمع الخاوة المليونية اليومية من الشاحنات التي تدخل من تركيا، عبر ابراهيم خليل، الى كل العراق. وهناك اكثر من عشرة الاف مقاولة بينه وبين الشركات التركية التي تعمل ضمن المنطقة التابعة لحكومة اربيل. ثم ان الاسواق الكردية في السليمانية واربيل ودهوك مشبعة بالمنتجات التركية بما في ذلك الاطعمة والمخضرات.
اما النفط الذي يبيعه مسعود الى تركيا فلا ينال منه دولاراً واحداً لأن الحكومة التركية تقول انها تشتري هذا النفط خلافاً للقوانين العراقية. ولهذا تحتفظ بقيمة المشتريات النفطية في مصرف تركي الى ان يصدر قانون النفط العراقي الجديد والذي قد يسمح لمسعود بتصدير النفط . كل هذا يكبل مسعود ويمنعه من مخالفة تركيا في الحرب القائمة ولا يستطيع دخولها الا بالطريقة التي تمليها عليه. لهذا يرفض الاكراد في سوريا والعراق القبول بتصريحاته الفارغة. علماً بان هناك الأن انشقاق جديد بين حزبه وحزب الطالباني وقد اكدت الاء الطالباني، العضوة في البرلمان العراقي، في 8/10/2014، على ذلك في تصريحاتها الرافضة ((لأي تدخل عسكري تركي في العراق.)) . والمعروف ان الحزب الطالباني لا يستطيع التلاعب بعلاقته الجيدة مع ايران لان مقاطعته لها تعني محاصرة الحزب من كل الاطراف.
اما التدخل الايراني في الحرب لصالح الحكومة العراقية او السورية فيبقى محدوداً وضعيفاً لأن ايران لا تنوي تاجيج خلافاتها مع الدول الخليجية، والسعودية خاصة، والتي تعادي الحكومتين في سوريا والعراق. وبالمقابل تتخوف الحكومات الخليجية من ارسال جيوشها الى سوريا لأنها تدرك بان ذلك سيزيد من توتر علاقاتها مع ايران.
ان ظروف الحرب الموضوعية، اذن، لا تبشر بانهاء المصيبة في القريب العاجل. وتدرك الجبهة الداعشية –النقشبندية – البعثية هذه الحقيقة ولهذا اخذ المقربون منها يطالبون الاعتراف بها ومفاوضتها ( راجع مثلاً القدس العربي في 14/10/2014 الصفحة 19) ولكل هذا ستستمر الحرب لمدة اطول من توقعات شعوبنا التواقة الى السلموالطمانينة.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
مفارقات التصريحات الإيرانيةحول الإسلام والمخابرات و«داعش»

كان عيدنا هذا العام مثل أعوام كثيرة مضت مُلطخاً بصراخ الضحايا ومُثقلاً بأوجاعهم مَشرقاً ومغرباً، فالإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي ما زالوا يتفرجون على جرائم إسرائيل وعنصريتها مُعجبين بتخاذل الأنظمة العربية أمام غطرستها خصوصاً بعدما هدّت مدارس وبيوت غزة على رؤوس ساكنيها فاختلط صراخ الضحايا بدمائهم، يقابل ذلك قسوة وابتذال السياسة الإيرانية التي أصبحت في تنافس محموم مع إسرائيل للهيمنة على المشرق العربي عبر تفكيك دوله الواحدة بعد الأخرى دون أن تَحسب لعواقب سياستها العمياء هذه حساباً، ودون أن ننتبه نحن لمأزق الطائفية الذي أغرق مجتمعاتنا في مستنقعاته القاتلة!
فالطائفية سلاح مشترك بيد إسرائيل وإيران لإبقائنا في حالة ضعف وتفكك. وإذا كانت شعوبنا قد دفعت وما تزال تدفع ثمن التخلف والاستبداد من حقوقها وحرياتها، فإن حديث علي خامنئي قبل أيام عن (الإسلام المحمدي) ما هو إلا محاولة بائسة لتجميل الوجه القبيح لنظامه الثيوقراطي العنصري. يقول خامنئي (إن الإسلام المحمدي الأصيل هو إسلام النقاء والتقوى والسيادة الشعبية) ونسيَ الولي الفقيه أن يُكمل كلامه: وخير مثال على النقاء والتقوى والسيادة الشعبية هو حليفنا نظام البعث بدمشق الذي حكم البلاد بسلطة الطوارئ وأجهزة المخابرات المرعبة لأربعين عاماً، وحين فشلت الدولة اقتصادياً أصبحت أكثرية السوريين في حالة فقر وتحت خط الفقر فلم يعد بوسعها تحمل الاستبداد والحرمان معاً!
خرج السوريون في مظاهرات سلمية مطالبين بأبسط حقوقهم، فما كان من أجهزة بشار الأسد المتحالفة مع جمهورية (النقاء والتقوى والسيادة الشعبية) الإيرانية، إلا أن تواجه المتظاهرين بالقتل والاعتقالات مُحوّلةً الرعب والموت مشهداً يومياً تختلط فيه دماء الضحايا بصراخ المرعوبين من براميل الموت المُتفجرة التي هدّت أحياءً كاملة على رؤوس ساكنيها قاتلةً آلاف السوريين الأبرياء لكنها لم تؤثر على عقل وضمير (المرشد الأعلى للثورة الإسلامية) الحليف والداعم الأساسي لنظام القتلة واللصوص بدمشق، والذي طلع علينا بهذه الرسالة المثقلة بالبهتان!
وحسب الوكالات 3 تشرين الأول/أكتوبر الجاري (دعا المرشد الأعلى علي خامنئي المسلمين إلى الوحدة والتفريق بين الإسلام الأصيل و(الإسلام الأمريكي) قائلاً إن هدف الاستعمار من ايجاد التنظيمات التكفيرية هو إشعال نيران الحروب الأهلية بين المسلمين، وجر مقاومتهم وجهادهم إلى الانحراف كي يوفروا لإسرائيل هامشاً من الأمن. مؤكداً على ضرورة التفريق بين الإسلام المحمدي الأصيل وبين الإسلام الأمريكي، قائلاً إن الإسلام الأصيل هو إسلام النقاء والتقوى والسيادة الشعبية أما الإسلام الأمريكي فهو تقمص العمالة للأجانب ومعاداة الأمة الإسلامية بزي الإسلام… الخ)!
إن عدد كلمات رسالة خامنئي لا تتجاوز تسعين كلمة لكنها ثقيلة الوطء حقاً لأنها تحتوي على أكثر من تسعين طناً من الكذب الذي لم يعد ينطلي على أحد، فخامنئي هو الرئيس الديني والدنيوي لنظامه الثيوقراطي، أي إنه متسلط على الشعب الإيراني المظلوم الذي عانى وما يزال من هذا النظام المضطرب الذي يريد تعميم اضطرابه على دول المنطقة واضعاً إيران في مواجهة مع جميع دول العالم تقريباً ما أدى إلى خسائر اقتصادية بعشرات مليارات الدولارات سنوياً حيث يدفع الشعب الإيراني الثمن تضخماً وهبوط عملة وأزمات تتراكم ولا أحد يعرف متى تنفجر!
ومن يعود إلى وقائع انتخابات 2009 وما فعلته أجهزة خامنئي بالتيار الإصلاحي الفائز بالانتخابات بقيادة موسوي وكروبي، يعرف كيف تم تزوير الانتخابات ليحل أحمدي نجاد محل موسوي الزعيم الإصلاحي الفائز! وتلك الوقائع ما تزال ماثلة في أذهان المراقبين وفي ذاكرة الشعب الإيراني المظلوم.
إن الإيرانيين هم آخر من يصدّق حديث خامنئي عن الإسلام المحمدي، فقد أُسقطت قيم الإسلام في نظامه لمصلحة أجهزة المخابرات وسطوتها غير المحدودة لدرجة لم يجد مكتب خامنئي تبريراً للرد على ضحايا المخابرات الإيرانية، داخلياً وخارجياً، سوى الترويج لمقولة غريبة مفادها (إن المخابرات الإيرانية تدافع عن مصالح إيران ولذلك فهي تملك صلاحيات مطلقة خارج سلطة الولي الفقيه وسلطة الحكومة)! وهذا ما لا يمكن فهمه، لأن السلطة الأمنية تابعة للسلطة السياسية وخاضعة للقوانين المرعية إذا كان خامنئي يتبع الإسلام المحمدي حقاً، لكنه تبرير رخيص لإنقاذ سمعة خامنئي المسؤول الأول عن تدمير العراق وتحويل سوريا ساحةً للموت والخراب!!
لا ندري حقاً عن أية تقوى وأي نقاء يتحدث خامنئي! فهو ونظامه قد نكّلوا بالمسلمين الشيعة قبل السنة، فإيران استغلت حرمان الشيعة العرب واضطهادهم لتستخدمهم في مخطّطها العنصري التوسعي، عبر أحزاب دينية فاسدة مصابة بعمى العقل وانعدام الضمير، ففي العراق كرّسوا نظاماً فاسداً ضعيفاً مفكّكاً لذلك أصبحت بلادنا فريسةً للإرهاب. وقبل سنوات قال الرئيس السابق نجاد: (للولايات المتحدة مشاكل في العراق وعليها الحديث مع إيران حول ذلك. وإذا انسحبت الولايات المتحدة من العراق فنحن جاهزون لسد الفراغ)! وقبل أسبوعين قال رفسنجاني: (أمريكا لن تقضي على داعش بدون مساعدة إيران) بينما أبواب العراق مفتوحة لقاسم سليماني وسواه من رجال المخابرات يدخلون ويخرجون دون استئذان من حكومة أو سواها!
وبفضل تخاذل الأحزاب الدينية الحاكمة أصبح للأجهزة الإيرانية سطوة كبيرة على الوضع الأمني بالعراق بينما الإرهاب قبل داعش وبعدها يقتل مئات العراقيين شهرياً لكننا وطوال عشر سنوات لم نسمع يوماً بأن الإيرانيين قد نبهوا السلطة العراقية على سيارة مُفخخة أو إرهابي يوشك أن يفجر نفسه في الكاظمية أو مدينة الصدر، بل أن كل الدلائل تشير إلى استغلال الأجهزة الإيرانية لنتائج الإرهاب للمزيد من الهيمنة على العراق دولةً واقتصاداً ومجتمعاً! أي إنها أول المستفيدين من استمرار الإرهاب.
وإذا عدنا للوراء قليلاً، نتذكر آلاف السيارات المُفخخة التي دخلت علينا من سوريا وبأشراف مخابرات بشار الأسد التي درّبت وموّلت هؤلاء الإرهابيين الذين قتلوا عشرات آلاف العراقيين الأبرياء في المدارس والمخابز والمساجد والشوارع العامة، وما كان بوسع الأسد ومخابراته الاستمرار بتلك الجرائم لولا موافقة ودعم سلطة خامنئي وأجهزة سليماني طبعاً، فأين يجسد خامنئي الإسلام المحمدي الذي يدعيه؟ في الجثث المتناثرة أشلاءً في شوارع العراق أم في مأساة الشعب السوري وتشريد ملايين العوائل البريئة داخل سوريا وخارجها! أين يجسد خامنئي إسلامه المحمدي المزعوم؟ في دفع وتوريط (حزب الله) بجرائم سلطة بشار الأسد أم بالبراميل المتفجرة التي أحالت المدن السورية إلى خراب يوجع القلب بينما تبقى جثث الضحايا من الأطفال وكبار السن تحت الأنقاض؟! هل هذا إسلام محمدي يا عمائم السوء أم جرائم عنصرية استعمارية غير مسبوقة ببشاعتها؟

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
والآن «داعش» تطير!

يبدو أن الإعلام، ومن دون أن يشعر، بات يخدم أهداف «داعش» الدعائية، وآخر هذه الخدمات كان التركيز على خبر تدرب مقاتلي التنظيم على قيادة «3 طائرات» مقاتلة! والحقيقة أن خبر طائرات «داعش» هذا لا يمكن أن يتجاوز حيّز موجز إخباري في صحيفة، أو سطرين في خبر.
وأهم ما في خبر طائرات «داعش»، إذا أردنا العمق، هو تحقيق صحافي يتساءل عن دور جيش صدام حسين في «داعش»، أما المبالغة في تصوير أن «داعش» تطير فإنه أمر يصب بخدمة التنظيم الإرهابي دعائيا. ولا شك أن «داعش» نجحت في تسخير الإعلام، الغربي والعربي، لخدمة دعايتها، والرقص على إيقاعها الدموي، من أشرطة جز الأعناق، ودحرجة الرؤوس بشكل وحشي مقيت، وصور لشعارات تكتب على جدران، إلى فيديوهات إحراق بعض جوازات سفر المنتمين للتنظيم الإرهابي، الذي بات يشعر الآن بقسوة ضربات التحالف الدولي ضده، مما دعا «داعش» إلى إعادة النظر بخطتها الدعائية، حيث باتت الآن أكثر حذرا بالتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمتها جيدا، وبإهمال أيضا من تلك المواقع نفسها، وخصوصا إدارة «تويتر» التي تساهلت مع خطاب «داعش» المتطرف والتحريضي.
ويتجلى حذر «داعش» الآن في حملاتها الدعائية من خلال توزيع كتيب على مقاتليها يشرح كيفية التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، والإنترنت، والحذر في تحميل تلك المواد الدعائية، وعليه وطالما أن «داعش» باتت حذرة بالتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، فمن باب أولى أن يكون الإعلام نفسه حذرا بالتعامل مع «داعش»، التي من الواضح أنها تؤمن بمقولة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الشهيرة بأن «نصف المعركة في الإعلام»! فخبر طائرات «داعش»، مثلا، مبالغ فيه، وهو خبر دعائي، ونفته القيادة المركزية الأميركية، هذا عدا عن صعوبة أن تقوم «داعش» بالطيران دون توافر مجال جوي، وخلافه، وهو أمر لا يمكن أن يتم دون ترتيب مع دولة ما، وهذه وحدها قصة أخرى، ولها تبعات!
ولذا فإن خبر طيران «داعش» هذا يعني أنه من الضروري أن يعيد الإعلام الآن، وتحديدا العربي، تقييم طريقة تعامله مع «داعش» وضرورة عدم خدمة أهدافها الدعائية، خصوصا أن الإعلام الغربي قد قرر عدم الاندفاع خلف دعاية «داعش»، وذلك بعد أشرطة قطع رؤوس الغربيين، حيث أدرك الإعلام الغربي أن هدف التنظيم الإرهابي من كل ذلك هو الدعاية. وعليه فإن الإعلام العربي هو الأولى الآن بعدم الوقوع بفخ دعاية «داعش» التي تهدف إلى بث الرعب في قلوب الناس في العراق وسوريا، واستمرار عملية استقطاب صغار السن للانضمام للتنظيم المتطرف، وهذا هو الخطر بعينه.

اقرأ المزيد
٢٠ أكتوبر ٢٠١٤
النظام السوري وضرب "داع


تدور في أوساط سورية معارضة متنوعة حوارات يومية عن الجهة التي ستفيد من ضرب "داعش". هناك رأي يقول إن النظام وإيران ستفيدان وحدهما من ذلك، بينما يقول رأي آخر إن الضربة ستكون محكمة سياسيّاً وعسكريّاً، كي لا يفيد منها أحد غير المشاركين فيها كالتحالف الدولي، وفي الوقت الملائم: الجيش الحر.
إذا كان من الصعب تحديد الجهة التي ستفيد من ضرب "داعش" في سورية، فإن هناك جهات عراقية أفادت من الضربات التي أصابت التنظيم الإرهابي، وغطتها عراقيّاً المرجعية الشيعية وهيئة علماء المسلمين، وأيدها الكرد، ومعظم أحزاب البرلمان والجيش.
أما في سورية ، حيث المعركة ضد الإرهاب تالية في أهميتها للمعركة ضده في العراق، كما قال أوباما، فثمة غموض في خطط التحالف والأحداث الميدانية، وهناك بلبلة ترتبت على سياسات أميركية تنتقل من الركود والسلبية إلى وضعٍ، يختلف في طبيعته وأبعاده ومقاصده، من غير المعلوم بعد إلى أين سيصل، وخلال أي زمن، مع أن مجرد دخول أميركا النشط إلى الصراع السوري يغير أدوار المنخرطين فيه، فكيف إن كان يثير الانطباع بأن سياساتها ستتحول من قوة عطالة إلى قوة عصفٍ، يرجح أن تبدل، أيضاً، أدوار الفاعلين ورهاناتهم في الساحة السورية: شاركوا في الحرب ضد الإرهاب، أم لم يشاركوا فيها.
 ثمّة ملاحظة عن هوية من سيفيد من ضربات التحالف، هي أن "داعش" حاضر بقوة في المناطق التي كان الجيش الحر قد حررها، وأخرجه من معظمها، وغير موجود أو ضعيف الوجود في مناطق النظام. والآن: هل يفيد ضرب "داعش" في مناطق قوته النظام، الذي أخرج منها، أم الجيش الحر الذي يقاتل "داعش"، ويفضي إضعافه إلى تقويته؟ وهل ضربه في مناطق النظام، حيث هو ضعيف، سيفيده مع أنه بالكاد موجود فيها! منطقيّاً: ستضعف ضربات التحالف "داعش"، وتقوي الجيش الحر، إذا عرفت قياداته وقواته كيف تبقى بعيدة عن صراعات الائتلاف والمعارضات السياسية، وبادرت إلى تنظم صفوفها وتعزيز أوضاعها، وعرفت كيف تفيد من الحرب ضد الإرهابيين، لكي تستعيد المناطق التي انتزعوها منه، وتسترد، أيضاً، من انضموا إليهم من عناصره. إذا ما حدث هذا، يرجح أن تتغير معادلات الصراع، وإن بصورة تدريجية، وأن يتراجع دور "داعش" بانحسار مساحات ومناطق سيطرته، وأن يبرز من جديد التناقض الذي كرسته الثورة بين البديل الديمقراطي والنظام، الذي تلاشى مع تراجع الجيش إلى 10% من مجمل الأرض السورية، يقع بين جيش النظام في الوسط والجنوب، و"داعش" في الشمال.
 من المستبعد، في الوقت نفسه، ذهاب عائد الحرب ضد "داعش" إلى النظام الذي تحالف معه، واستخدمه في مناطق وقع طرده منها، فطرد الجيش الحر من معظمها، وفرض عليه قتالاً يوميّاً على جبهتين، أرهقه وأضعفه. ثم، كيف يمكن لنظامٍ رفض العالم مشاركته في الحرب ضد "داعش" الإفادة من ضربه، إذا كانت أنشطته وأهدافه تتكامل، اليوم، أيضاً مع أنشطته وأهدافه، وكان إضعافه يعد بالضرورة إضعافاً له؟ وفي النهاية، كيف يقوي ضرب "داعش" النظام، إذا كان سيسقط رهانه الاستراتيجي على الإرهاب، لتبييض صفحته الدولية، وجعله خياراً إجباريّاً بالنسبة إلى العالم؟
 هناك، أخيراً، مشروع دولي لتسليح الجيش الحر وتدريبه، لن يتحقق في حالتين: إذا شارك النظام في الحرب ضد الإرهاب، أو أحبطت قيادات المعارضة المشروع الدولي، بنقل صراعاتها إلى صفوف الجيش الحر، وإبقائه أسير ضعفه وانقساماته، بدل توحيده وتقويته.

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٤
من قمع الثورة الوطنية إلى صراع المحاور الخارجية

أعلنت الثورات العربية، كحدث تاريخي، حضور الشعوب العربية. فعبرها، تحوّل الشعب من لفظ وشعار ورمز واستعارة إلى جماعات فاعلة عينية من الأفراد، يصنعون شعباً بفعلهم السياسي. لقد صدم دخول الناس الفضاء العمومي عديدين ممن كانوا يتزينون بالشعب، لفظاً أو شعاراً، فوقفوا ضده حين تحول إلى كائن عيني، حقيقي فاعل في السياسة.

يهمنا، هنا، أن حركة الشعب هذه من أجل الحرية والكرامة ضد الظلم، ولا سيما قمع المواطن، كإنسان، بواسطة أذرع الأمن الموجهة ضده، وليس لحمايته، والفساد كرمز لمعوقات العدالة الاجتماعية والتنمية، صرح وطني أصيل، شكّل نقيضاً لظاهرتين، شغلتا المنطقة العربية. هما: أولاً، التدخل العسكري الأجنبي الانتقائي، والذي غالباً ما موّه مصالحه الاستراتيجية والسياسية بشعارات الديمقراطية وبناء الأمة. وثانياً، الإرهاب، ولا سيما الذي تلصق به صفة الإسلام، ويتخذها بدوره لقباً. فالأخير لاذ بالصمت مدة عام وأكثر، وكأن حركة الجماهير السلمية للتغيير السياسي والاجتماعي السلمي أدهشته، هو أيضاً. ففي حينه، سحرت الثورات العربية، بسلميتها وعفويتها وألوانها، العالم أجمع، على الرغم من التضحيات والشهداء.

جاءت الثورات العربية بدون تصور حزبي سياسي لطبيعة المرحلة المقبلة، كما أنها لم تُستغل لإمساك طليعة سياسية منظمة بمفاصل الحكم، لتكسر النظام القديم وتفرض غيره، كما في حالتي الثورتين، البلشفية والإيرانية، اللتين استبدلتا نظاماً سلطوياً بآخر شمولي؛ ولا هي (أي الثورات العربية)، نجحت في تحقيق هدفها بإقامة نظام ديمقراطي. فقد ذهبت إلى الانتخابات مباشرة، وربما أبكر مما ينبغي، وذلك في ظل هيمنة جهاز الدولة القديم، وفي ظل صراع بين قوى دينية وعلمانية، في غياب حياة حزبية ديمقراطية.

يصعب حصر الأسباب التي أفشلت الرهان على أرقى وأنبل حراك سياسي عربي في القرن الأخير، وأقصد هذه الموجة من التغيير الثوري السلمي، والتي اجتاحت الوطن العربي منذ عام 2011، والتي حملت أمل الأجيال. ومن الواضح أن جهاز الدولة العسكري والبيروقراطي مدعوماً برجال الأعمال (الذين تحولوا بالمال إلى رجال الإعلام)، انقلب عليها في مصر، مستخدماً العنف المفرط، ومستغلّا الارتباك الشعبي من سلوك القوى التي شاركت في ثورة 25 يناير والأحزاب التي حيدت شباب الثورة بصراعاتها، ومستفيداً من عدم قدرتها على المشاركة في صياغة مستقبل البلاد، والتوافق على مبادئ دستورية، وعجزها عن تداول السلطة بالانتخاب. لقد استغل جهاز الاستبداد خوف الناس من الفوضى، لكي يضرب مشروع التحول الديمقراطي.

"سحرت الثورات العربية، بسلميتها وعفويتها وألوانها، العالم أجمع، على الرغم من التضحيات والشهداء"

كان وعد الديمقراطية الذي حملته الثورات فرصة الدولة العربية الوحيدة للتحرر من حالة السلطان والرعية، والتحول إلى دولة فعلاً، كتعبير عن شعب وحكومة شرعية. كانت هذه فرصة الكيانات السياسية العربية لأن تصبح دولاً.

ويجب أن يعترف النظام المصري، بفضل النظامين، السوري والليبي من قبله، بتغيير المسار، بواسطة تجرّؤهما على استخدام كم غير مسبوق من العنف، في مواجهة الشعب، هو أشبه بذلك المستخدم ضد عدوٍّ، في حرب وحشية، يجري فيها تجاوز قواعد الحروب وضوابطها وقوانينها، ولا سيما المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية، حتى لو كان الثمن التضحية بالدولة والمجتمع على مذبح السلطة. كانت هذه نقطة تحول مبكرة، ساهمت، بشكل فعلي، في تخويف فئات واسعة من الجمهور الواسع، خارج سورية وليبيا، من الثورات وثمنها، مع أن المسؤول عن رفع التكلفة هو الأنظمة. فاستعدادها للقتل وانعدام الروادع لديها، كحالة استعمار داخلي، هي من أسباب الثورة عليه.

وبتحريرها من أي كوابح، تحولت أجهزة الدولة الأمنية إلى عصابات. وبما أن نظام الاستبداد مستند، أصلاً، إلى قواعد اجتماعية قبلية، أو طائفية، متحالفة مع مصالح طبقية مختلفة، انقسم المجتمع، واضطر الشعب إلى الدفاع عن نفسه. وبما أنه لم يكن يراكم تجربة حركات سياسية عسكرية، تخوض الكفاح المسلح، نشأ خطر تحوّل مبادراته المحلية للدفاع عن الذات إلى فوضى مليشياوية، يصعب تحويلها إلى جيش تحرير وطني. بدأ هذا كله في سورية وليبيا. وهنا، أيضاً، فتح المجال، من جديد، لخطري التدخلات الأجنبية والإرهاب اللذين عادا يشغلان شعوب المنطقة ودولها.

لم تغب المحاور الدولية، تماماً، بالأصل، فقد لعبت إيران وروسيا دوراً في تشجيع النظام السوري على الصمود في وجه المطالب الشعبية، واستخدام العنف بشكلٍ لم يجرؤ زين العابدين بن علي، وحسني مبارك (ولا حتى شاه إيران في حينه) على مجرد التفكير فيه. وقد تدخلت قوى غربية وخليجية مباشرة في ليبيا، على شكل حظر جوي وضربات جوية ضد قوات القذافي، ولم يتبع ذلك تدخل بري. أما في سورية، فاقتصر الدعم على تسليح غير منتظم للمعارضة من بعض دول الخليج، ودعم إنساني غربي ظل متواضعاً وعاجزاً عن التعامل مع حجم الكارثة التي قاد إليها تحول النظام السوري إلى شن حرب تدمير واسع وتهجير وإبادة. وكان الخوف الغربي على استقرار الحدود مع إسرائيل، والخوف من الإرهاب "الإسلامي" الطابع من عوامل امتناع الغرب عن دعم الثورة السورية. في حين حظي النظام السوري بدعم غير محدود من روسيا وإيران، وشمل الدعم تدخلاً ميليشياوياً عسكرياً مباشراً ذا طابع طائفي سافر من العراق ولبنان. ولم يرغب الغرب في دخول صدام مع هذا المحور بدون أن يضمن النتائج، وشكل النظام القائم في سورية. فذهبت إيران بعيداً في استغلال التعددية الطائفية العربية للنفوذ السياسي والأمني، وفي تنظيم المليشيات الطائفية المسلحة، وفرضها على الدول العربية الضعيفة.

“ نظام الاستبداد مستند، أصلاً، إلى قواعد اجتماعية قبلية، أو طائفية، متحالفة مع مصالح طبقية مختلفة "

بقي الطابع الشعبي للثورة السورية قائماً، ولكنها أصبحت ثورة مسلحة، فبسبب طبيعة النظام الاستثنائية لناحية القمع والفساد وعدم القابلية للإصلاح، ظلت الثورة وجهة آلاف الشباب الذين انتقلوا من المظاهرات السلمية إلى أشكال أخرى من المشاركة. ولكن، بسبب الطابع غير المنظم وغير الخاضع لبنى وطنية سياسية عسكرية، وانتشار تبني الخطاب الإسلامي الشعبوي من المجموعات المسلحة، نشأت سهولة طمس الفرق بينها وبين القوى الإسلامية التي كانت فاعلة على الساحة بين العراق وسورية، بعد الاحتلال عام 2003، ثم في ظل النظام العراقي الجديد الذي اتخذ طابعاً طائفياً وتحالف مع إيران والولايات المتحدة في الوقت نفسه.

لم تجمع الثورة السورية صلة بالقوى المسلحة التي نشأت في ظل الاحتلال الأميركي، وعلى خلفية الصراع الطائفي، لاحقاً. وقد كانت، هي والثورات العربية الأخرى، نقيضاً لها، ولمزاجها واستراتيجيتها. وليس هذا طرحاً نظرياً عن فوارق، لا ترى بالعين المجردة. فقد وقعت اشتباكات حقيقية دامية، طوال عام ونيف بين التنظيم الذي يدّعى "دولة العراق والشام" وفصائل المقاومة السورية. ولم تسلم منه جبهة النصرة المحسوبة على القاعدة. وخلال ذلك العام، تصرف النظام السوري وحلفاؤه بتساهل براغماتي كامل تجاه حركة التنظيم من العراق إلى سورية، وتمدّده في سورية ذاتها، ما دام تمدده على حساب القوى المعارضة، وفي المناطق التي تسيطر عليها حصراً. وهو ما أثار اشتباه الشعب السوري وقواه السياسية أن التنظيم مدعوم من إيران.

لم تستمع أميركا إلى نداءات استغاثة الشعب من قصف النظام، ومقتل مئات آلاف المدنيين، ولا إلى الاستغاثة من ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. والحقيقة أنه مهما قيل عن معاناة بعض مدن العراق والجزيرة السورية من ممارسات التنظيم، فإنها لا تقارن، لا من حيث الحجم ولا القسوة، بما قام به النظام السوري ومليشياته. ولكن معاناة الشعوب من ممارسات النظامين، السوري والعراقي، ومن إرهاب تنظيم الدولة نفسه، تقزّمت أمام فيديو إعدام أميركيين وبريطاني. فبعدها بدأت الولايات المتحدة تطلب من الجميع، بمن في ذلك الشعبان، السوري والعراقي، التجنّد معها لمحاربة التنظيم. وقبل ذلك، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، فضلاً عن أن تحارب هي إلى جانب الشعبين السوري والعراقي.

ومن هنا، يثير هذا التجند العالمي نقاشاً في بلادنا. فلا شك أنه تنظيم خطير، يشكل نقيضاً للمدنية والعمران وحقوق الإنسان، كما توصلت إليها الحضارة الحديثة. وثمة قناعة منتشرة أن محاربته مصلحة عربية إسلامية شاملة. ولكن التركيز عليه فقط في سياق عمل مليشيات طائفية في العراق، وحرب إبادة يشنها النظام السوري على شعبه، والمقتلة الجارية على كل بقعة من الأرض السورية هو ما يثير، من جديد، تساؤلات المجتمعات العربية وحيرتها، بل وأسئلة وجودية، متعلقة بوجودها كمجتمعات وكدول.

"معاناة الشعوب من ممارسات النظامين، السوري والعراقي، ومن إرهاب تنظيم الدولة نفسه، تقزّمت أمام فيديو إعدام أميركيين وبريطاني"

سبق أن حاربت تحالفات دولية تنظيم القاعدة في أفغانستان، وفي ظل تلك الحرب، نشأ تنظيم طالبان باكستان، كما انتقل تنظيم القاعدة إلى العمل في مناطق التخوم في اليمن، وعلى حدود دول الصحراء في شمال أفريقيا وفي الصومال والعراق. ونشأ ذلك النوع من التنظيمات التي تجمع ما بين جهادية القاعدة الأممية ومحاولة طالبان تأسيس دولة... من هذا المزيج، تحدرت حالة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق والشام. فهو يستعين بالمقاتلين الأجانب خارج أي كيان وطني، ويستغل الفراغ الذي خلفته الدولة الوطنية في أزمة تعاملها مع فئات واسعة من شعبها (المحافظات العربية السنية في العراق، وثورة الشعب السوري) لفرض هيمنةٍ على السكان، تسميها هي دولة إسلامية. ويستغل هذا التنظيم النقمة على طائفية الأنظمة المتحالفة مع إيران، ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل، أيضاً، لتحول النقمة الطائفية إلى ما يشبه الأنظمة المتحالفة مع إيران، ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل، أيضاً، لتحويل النقمة الطائفية إلى ما يشبه الحروب الدينية.

بين التدخل الدولي من جهة والإرهاب من جهة أخرى، تُغيّب في المتاهة هذه حركة الشعوب العربية وقضاياها وتطلعاتها من جديد. والقضية، هنا، عميقة للغاية، فقائمة المطالب الشعبية العربية المعنونة بالحرية والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية، بإصلاح الأنظمة، أو تغييرها، تتضمن ما يعتبره العرب حلولاً للبيئة السياسية الاجتماعية التي أنتجت الطائفية السياسية والإرهاب، وأيضاً، التبعية والتدخل الأجنبي. وهذا بالضبط ما يجري تهميشه في هذه المرحلة، لصالح انقسامات أخرى.

وتبدو المداولات الجديدة لأول وهلة جيو-استراتيجية، تحل محل النقاشات الداخلية حول العدالة والحرية والتنمية وتقزمها. فمصالح الدول وحسابات في الربح والخسارة تتكلم، الآن. فمن ناحية يجري الحديث عن دول أخرى وأدوارها ومصالحها: إيران تركيا، والولايات المتحدة وروسيا، ويُشهَر الصمتُ عن الدول العربية وسيادتها واستقلالها؛ ومن ناحية أخرى، تهمش الدولة داخلياً بوصل التحالفات الدولية، مباشرةً، مع قضايا، مثل الأقليات الدينية والإثنية، كأنها قضايا قائمة بذاتها خارج حل قضايا الشعوب بمجملها، في إطار العدالة والديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية وغيرها، ما يقود إلى حلها خارج مفهوم الدولة وإطارها.

وسبق أن مر العراق بمثل ذلك، حين تعامل الاحتلال مع الطوائف والأقليات الإثنية خارج مفهوم الدولة، وخارج الحلول الشاملة للشعب العراقي ككل. ونتائج ذلك ماثلة أمامنا. ولكن الدول الغربية، المهتمة أساساً بأثر ما يبثه تنظيم الدولة على رأيها العام والانتخابات المقبلة، ثم بمصالحها الاستراتيجية، وأخيراً بمصائر دول وشعوب المنطقة، لا تبدو قادرةً على تغيير هذا النهج. ولا على طرح استراتيجية تحالفية مع الشعوب، للتخلص من داعش ونظام الاستبداد. ولهذا، يبدو ما يجري في كوباني، اليوم، منقطعاً تماماً عما جرى في حمص ودرعا وحلب وغيرها.

كانت الثورة الشعبية (أو الإصلاح الديمقراطي) فرصة الدولة العربية الوحيدة، وقمعها بالخيار العسكري الأمني، قلب الدولة إلى ساحة مواجهة بين محاور دولية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى