بعد 5 أسابيع من القتال في مدينة كوباني الكردية، بدأت سيكولوجيا الترويع والذعر التي يبثها تنظيم «داعش» في التراجع والتفكك. كان التنظيم الإرهابي يحسب أنه سيجتاح المدينة بسرعة، على ما جرى عندما انهارت المدن العراقية أمامه، وتبخر 60 ألف جندي عراقي كانوا في الموصل، وفروا تاركين وراءهم كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة!
صمود الأكراد المفاجئ في كوباني، جعل «داعش» تضع كل ثقلها في المعركة؛ ليس لأنها تريد توسيع رقعة سيطرتها إلى الحدود التركية فحسب، بل لأنها أدركت أن عجزها عن اجتياح المدينة، سيشكل بداية لانهيارها وتهاوي صورتها القائمة على البطش وإثارة الذعر.
الآن، هناك كثير من الحسابات بدأت تتبخر مع دخان الحرائق المندلعة في كوباني، في مقدمها حسابات تركيا التي راهنت على أن الخوف الدولي من ذبح المدينة سيدفع واشنطن إلى الموافقة على شروط رجب طيب إردوغان للانضمام إلى «التحالف الدولي»، التي تنبع من أحلامه باستنهاض دور عثماني معاصر لتركيا في الإقليم!
اصطدمت شروطه برفض إقليمي ودولي، فمطالبته بإقامة منطقة حظر للطيران شمال سوريا، تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن سيواجه بالفيتو الروسي، وحزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذي يقاتل في كوباني هدد بالتحول إلى قتال تركيا إذا بسطت سيطرتها على تلك المنطقة، أما اشتراطه إسقاط بشار الأسد فيلقى رفضا أميركيا ضمنيا، ينطلق من الاقتناع بأن تشكيل المعارضة القادرة على ملء الفراغ يجب أن يسبق إسقاط الأسد، ثم إن روسيا وإيران تعارضان إسقاطه.
منذ إطلاق الرهائن الأتراك من القنصلية التركية في الموصل بطريقة ملتبسة، نشرت تقارير كثيرة في أنقرة وخارجها عن رفض إردوغان دخول التحالف الدولي أو القيام بأي عمل ينقذ كوباني، ففي النهاية هذه مدينة كردية «وإردوغان مستعد ليقطع عنها حتى الهواء» كما يقول الأكراد، ولهذا استمر في منع دخول الأكراد لدعم رفاقهم وأغلق قاعدة أنجرليك أمام المقاتلات الأميركية، في حين اتهمته الصحف التركية بأنه سمح بفتح مكتب اتصال لـ«داعش» في إسطنبول!
المفاجأة التي بدأت تقلب الموازين وتسقط الحسابات جاءت من المقاتلين الأكراد، ذلك أن سيكولوجيا الترويع الداعشي تتهاوى أمامهم في كوباني، وتتراجع «داعش» أمام البيشمركة التي استطاعت استيعاب الهجوم الإرهابي في مناطقها بالعراق.
مباشرة بعد سقوط الموصل، تدفقت المساعدات العسكرية على البيشمركة ليرتفع صراخ أنقرة التي أعلنت أن «تسليح الأكراد قنبلة موقوتة ستفجر المنطقة»، بينما يصر إردوغان دائما على وصف الأكراد بالإرهابيين، لكن صمود «الحزب الديمقراطي التركي» و«وحدات حماية الشعب» في كوباني بدأ يخلط الأوراق ويعيد الحسابات.
الأسبوع الماضي، فاجأتنا واشنطن بالحديث عن «الخيار الكردي»، بعدما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن اجتماع عقده أحد كبار المسؤولين مع وفد من حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» في باريس، وقد أحيط الاجتماع بأهمية كبيرة، مما يدعو إلى التساؤل:
هل يدخل الأكراد بديلا من تركيا في التحالف الدولي، وخصوصا بعد الوقائع الميدانية في أربيل حيث استبسل البيشمركة، ثم في كوباني حيث أثبت الأكراد فاعلية وجدارة وتميزوا بأداء قتالي مثير رغم تدني مستوى تسلحهم؟
لقد أصيبت تركيا بالحمى، فكان الاتصال الهاتفي بين باراك أوباما وإردوغان العائد من أفغانستان، ثم بدأت التحولات، أولا عندما قامت الطائرات الأميركية بإلقاء كميات من الأسلحة والذخائر والإمدادات الطبية إلى الأكراد في كوباني، ثم بعد أقل من ساعتين عندما أعلن وزير الداخلية التركي أن أنقرة التي كانت تمنع عبور المقاتلين لدعم كوباني، ستسمح للأكراد بالعبور لمساندة رفاقهم.
المضحك أن أنقرة حاولت حفظ ماء وجهها بالقول إن الطائرات الأميركية التي ألقت المساعدات في كوباني لم تحلق فوق الأراضي التركية، وإن الأكراد الذين جاءوا من سوريا فقط مسموح لهم بالعبور إلى كوباني لكن من دون أسلحة، بينما يمنع عبور أي مقاتلين من جنسيات أخرى، أي الأكراد الأتراك ورجال البيشمركة الذين قرروا الذهاب إلى كوباني!
جون كيري ألقى مياها باردة على الحمى التركية عندما أعلن أن إلقاء المساعدات العسكرية في كوباني لا يعني تغييرا في الموقف السياسي الأميركي من المسألة الكردية، لكن التطور المثير في الموقف الأميركي حيال «الخيار الكردي» يفرض بالضرورة طرح أسئلة ضرورية وخبيثة، لعل أبرزها:
- إذا كانت واشنطن تطرح «الخيار الكردي» بديلا من تركيا في التحالف الدولي وتشيد بالمقاتلين الأكراد، فإلى أين يمكن أن يقود هذا مستقبلا من الناحية السياسية، وخصوصا على خلفية طموحات الأكراد (25 مليونا) إلى إقامة دولتهم، بعدما حصلوا في العراق على حكم ذاتي، وأقاموا في شمال سوريا ما يشبه الكانتون!
- بعد أقل من 4 أيام على طرح شعار «الخيار الكردي»، أعلن الأكراد السوريون من دهوك إقامة إدارة ذاتية لمناطقهم أطلقوا عليها اسم «روجافا» أي غرب كردستان، ويريدون إجراء انتخابات نيابية وتشكيل قوات للدفاع، بينما تقول صحيفة «التايمز» إن النقاشات في دهوك ركزت على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وهو ما يمثل شحذا لسكاكين التقسيم!
- لماذا لم تحصل المعارضة السورية التي ذبحت وتذبح منذ 4 أعوام تقريبا بالطائرات ومدافع الميدان وحتى بالسلاح الكيماوي، على أي دعم أو تسليح أميركي كما يحصل مع الأكراد اليوم، هذا سؤال ضروري: لماذا تعامت واشنطن عن سقوط 200 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى وملايين المشردين وعن دمار سوريا التي حولتها مذابح النظام، رحما ولدت منه «داعش» وأخواتها؟
- ولماذا انهالت شحنات السلاح على البيشمركة بسرعة في أربيل التي تنادي علنا بقيام الدولة الكردية؟
- ولماذا التمسك بالأسد، هل في انتظار المعارضة المقتدرة أم في انتظار أن تمهد الفوضى المسلحة لترسيم التقسيم على الأرض؟
- ولماذا جرى تسليم العراق إلى نوري المالكي أي إلى إيران، وطال التعامي عن سياساته الإقصائية والكيدية أعواما، وهو ما عمق الكراهيات التي من رحمها سيخرج «الدواعش» في العراق؟
في كوباني يمكن التقاط أطراف خيوط لعبة جهنمية تدفعني إلى التساؤل:
هل يمكن إعادة الحلم الكردي بالدولة إلى قمقم المعارضة الإقليمية المزمنة تركية وإيرانية وعراقية وسورية؟ وهل يمكن تصور بقاء الأسد إلا في سويا مقسمة، وهل يمكن أن يصلح حيدر العبادي ما أفسد المالكي في العراق... وهل تصمد الجغرافيا والحدود أمام سعير النيران وهياج الرغبات التقسيمية؟
الحروب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لا تصيب الهدف مباشرة، إذ إنها لا تستخدم الوسائل الناجعة القادرة على اقتلاع المشكلة من جذورها، إلا أنها أيضا لا تستند إلى صدقية أخلاقية، فهي تجمع تحالفا من الدول المتناقضة في منطلقاتها ومبرراتها وسط ارتباك دولي وإقليمي.
اجتاحت "داعش" شمال العراق وغربه وأجزاء مقدرة من سوريا بشكل مذهل وأعادت رسم خريطة البلدين وبدا للتحالف بقيادة الولايات المتحدة من الوهلة الأولى صعوبة هزيمة جماعة لها ملجأ آمن في سوريا والعراق، فيما تشير التقديرات إلى أن "داعش" لديها من (10 - 17) ألف مقاتل شرس منهم (3) آلاف اجتاحوا شمال العراق في يونيو/حزيران الماضي.
فضلا عن صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على الأقل في الوقت الراهن، فإن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تؤكد أن تصويب الهدف عبر الأداة العسكرية لا يحقق القضاء على "داعش".
فما هي فرص الحل العسكري؟ وما تناقضات التحالف الدولي والإقليمي وإشكالاته الأخلاقية؟ ما هي الصعوبات التي تعترض نهج التعرية الفكرية لعقيدة "داعش"؟ لماذا يغفل التحالف أسلوب وأداة التعرية الفكرية رغم فشل الحملات العسكرية المماثلة في أفغانستان والعراق؟
شروخ وإشكالات أخلاقية
يعاني التحالف الدولي ضد "داعش" من إشكالات أخلاقية تفت من عضده، وهي إشكالات تصب في صالح تنظيم "داعش" نفسه وتمده بما يحتاج من مبررات يسوّق بها حربه التي يصفها بالمقدسة ضد التحالف.
"فضلا عن صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على الأقل في الوقت الراهن، فإن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تؤكد أن تصويب الهدف عبر الأداة العسكرية لا يحقق القضاء على "داعش""
لعل أبرز هذه الشروخ الأخلاقية، مزايدات بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الذي خلط أوراق "داعش" بأوراق "حماس" فقال إن "داعش" تقطع الرؤوس و"حماس" تُطلق النار علينا. وقال في آخر اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة إن الخطر المتحقق من جماعات الإسلام المتشدد هو ذاته، بغض النظر إن كانت "حماس" أو "داعش".
نتنياهو اعترف في نفس الوقت بدور لإسرائيل في التحالف الدولي ضد "داعش"، وقال إنه يؤيد جهود الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤكدا استعداد إسرائيل للدعم والمساعدة في كل شيء وبأي طريقة، ودخول إسرائيل أمر سيستثمر فيه تنظيم "داعش".
بيد أنه في ذات الوقت صرح شيخ الأزهر أحمد الطيب بأن عناصر "داعش" "مجرمون يخدمون الصهيونية، ويصدرون صورة شوهاء عن الإسلام، وهم صنائع استعمارية تعمل في خدمة الصهيوينة".. الرئيس السوري بشار الأسد الذي لم يرع في شعبه إلا ولا ذمة وجد فرصة سانحة ليرمي "داعش" بدائه وينسل ويعرض خدماته على التحالف، باعتباره جزءا من الحل.
ويؤمن بعض الغربيين والأميركيين بأن هدف مكافحة الإرهاب أكثر معقولية بطبيعته من هدف تحقيق الاستقرار السياسي في دولة من دول المنطقة مثل سوريا. يقول مالكوم ريفنكد وزير خارجية بريطانيا السابق في حكومة المحافظين ورئيس لجنة الشؤون الأمنية في مجلس العموم البريطاياسر محجوب الحسينني (البرلمان): يجب سحق "داعش" ويجب ألا نشعر بالحرج حول كيفية عمل ذلك، حتى لو اقتضى الأمر التعاون مع النظام السوري وقال "أحيانا تضطر لعقد علاقة مع أشخاص بغيضين من أجل التخلص من أشخاص أبغض".
ليس النظام السوري فحسب، فكثير من الأنظمة الإقليمية التي هرولت للمشاركة في التحالف في الخفاء وفي العلن، أنظمة قمعية لا تؤمن بالديمقراطية ومع ذلك ظلت تجد الدعم والمساندة الكاملة من الولايات المتحدة ولم تعد الشعوب في تلك الدول تحفظ للولايات المتحدة أي نوع من الصدقية، و"داعش" تستثمر في هذه الثغرة الأخلاقية وتجد الأنصار ممن اكتووا بنيران بطش تلك الأنظمة.
الولايات المتحدة نفسها تمسك بتلابيبها قضايا أخلاقية تورطت فيها خلال حروبها في أفغانستان ضد طالبان، وفي العراق ضد نظام الرئيس صدام حسين، فالحرب على الإرهاب ضد طالبان صاحبها سجن غوانتانامو الشهير الذي انتهكت فيه حقوق الانسان، ورغم أن الرئيس أوباما كان قد وعد في حملته الانتخابية لفترة رئاسته الأولى بإغلاق المعتقل سيئ السمعة إلا أنه لم يفعل حتى الآن وقد قطعت فترة رئاسته الثانية شوطا مقدرا.
الولايات المتحدة أيضا ما زالت تطاردها فضيحة سجن أبو غريب في العراق وما جرت فيه من انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في العراق، ورأت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن معظم المقاتلين البارزين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية -ومنهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي- كانوا متطرفين يسعون لمهاجمة أميركا، وأن المدة التي أمضوها في السجون الأميركية داخل العراق زادت من وتيرة تطرفهم ومنحَتهم الفرصة لحشد ولتجنيد متطرفين آخرين.
"عقلاء في الغرب يشيرون إلى فعالية الأداة الفكرية في محاربة "داعش" مقابل خطل الآلة العسكرية المدمرة، فالأخيرة إن حققت نجاحا وهذا أمر مشكوك فيه فسيكون مؤقتا أما النهج الفكري فإن نجاحه سيكون حتما مستداما "
غير الشروخ والتصدعات الأخلاقية التي تعتري التحالف، فإن ارتباكا ساد في غمرة الاستعداد لانطلاقة العمليات العسكرية ضد "داعش" حين كال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن اتهامات طالت تركيا والإمارات والسعودية بدعم الإرهاب ممثلا في تنظيم الدولة المستهدف بالتحالف. ورغم أن بايدن اعتذر لاحقا لتلك الدول، فإن تلك التصريحات الصادرة من نائب رئيس الدولة القائدة للتحالف تُعد خللا كبيرا في جدار التحالف المتأهب للانقضاض على "داعش".
داخل الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر الدول حماسا للعمل العسكري، يدور جدل كبير حول جدوى قيادة حملة عسكرية للقضاء على تنظيم الدولة والسبب هو التجربة المريرة لقوات البلدين في حربي أفغانستان والعراق. فعندما ذهب الرئيس أوباما للكونغرس قبل عام للسماح له بعملية عسكرية ضد نظام بشار الأسد بعد الهجوم الكيميائي على الغوطة قرب دمشق تردد النواب كثيرا في الموافقة. وفي بريطانيا خسر رئيس الوزراء ديفد كاميرون وقتها بتصويت اليمين واليسار ضد هذا التدخل في سوريا.
حتى تلك الحادثة المريعة حين قطع تنظيم "داعش" رأس الصحفي الأميركي جيمس فولي في أغسطس/آب الماضي والتي جعلت الكثيرين في الكونغرس يتحدثون عن العمل العسكري، فإن ذلك لم يعط مبررا لتجاهل دروس جورج بوش في العراق.
ويرى السيناتور ليندسي غراهام عضو اللجنة العسكرية بالكونغرس في مقابلة مع قناة CNN أن الخطة التي تتبعها واشنطن لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام غير مجدية. وقال: "كلما انتشر فيروس إيبولا في أفريقيا أصبحنا أكثر عرضة للخطر وهو الأمر ذاته بالنسبة للإسلام المتطرف في الشرق الأوسط". وفي بريطانيا قال النائب المحافظ كين كلارك إن التدخلات العسكرية السابقة في العراق وأفغانستان أوجدت وضعا أسوأ من الذي كان قبلها.
مرتكزات الغرب الفكرية
العقلاء في الغرب يشيرون إلى فعالية الأداة الفكرية في محاربة "داعش" مقابل خطل الآلة العسكرية المدمرة، فالأخيرة إن حققت نجاحا وهذا أمر مشكوك فيه بدرجة كبيرة جدا، فسوف يكون مؤقتا وغير مستدام، أما نهج محاربة تنظيم "داعش" فكريا فإن نجاحه سيكون حتما مستداما ويأتي على قاعدته الفكرية المختلة من جذورها.
ولأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة صاحب المصلحة الحقيقية في محاربة "داعش"، فإن عليه الانتباه إلى أن أنظمة إقليمية تريد محاربة "داعش" ولكن من منطلقات أخرى، فتلك الأنظمة المنبوذة شعبيا والتي لا تبقى في الحكم إلا بمساعدة الغرب، في حاجة لتخويف الغرب وإشعاره بحاجته إليها في محاربة الإرهاب المتمثل في "داعش"، فهي ليست صاحبة مصلحة أصيلة في محاربة "داعش" إذ إنها وسيلة لجلب الدعم لسلطتها غير الشرعية.
وإن كان التحالف يحتاج إلى مقاولين من الباطن في حالة اعتماد الخيار العسكري، حيث تقدم تلك الأنظمة أبناء شعوبها وقودا للمعارك الأرضية بينما تتولى الدول الكبرى الحرب الجوية، فإن الحرب الفكرية تحتاج أيضا لمقاولين من الباطن، بيد أنه من المؤكد أن تلك الأنظمة المستبدة لن تكون هي المقاول في هذه الحالة، إذ لا مصلحة لها في هذا النوع من الحرب بل إن نجاح هذا النهج سيكون خصما على بقائهم في السلطة. المثقفون المعتدلون ومن يفهمون الدين الإسلامي على حقيقته، أفرادا ومنظمات مجتمع مدني هم من يستطيعون القيام بالدور المساعد والفاعل في نجاح الحرب الفكرية.
والأمر الأكثر أهمية أن يُنحي الغرب والولايات المتحدة جانبا نظرية صراع الحضارات للمفكر الأميركي صامويل هنتنغتون وهي لا تصلح لأن تكون أساسا لحوار وتعايش بين الثقافات والحضارات. وكما هو معلوم فقد ركز هنتنغتون على التحديات التي تواجه الحضارة الغربية وخاصة من الحضارتين الإسلامية والصينية.
"ما لم تتغير النظرة الغربية نحو الإسلام وتتخلص من الأفكار المسبقة والنظريات المختلة، فإن أي تفكير في حوار فكري يقضي على التطرف والانحراف الديني بين المسلمين، سيكون حرثا في البحر"
وبعد هجمات "11 سبتمبر/أيلول 2001" كتب هنتنغتون مقالة شهيرة في عدد مجلة النيوزوييك السنوي في ديسمبر/كانون الأول 2001 بعنوان "عصر حروب المسلمين" مؤكدا أن نظريته قد تحققت، وأن حروب المسلمين ستشكل الملمح الرئيسي للقرن الحادي والعشرين.
الإشكال أن هنتنغتون أغفل القراءة الموضوعية لحقيقة الدين الإسلامي وحضارته، وفي مقابل ذلك ركّز على قراءة الأوضاع السياسية التي تقوم فيها تلك الأنظمة المستبدة بالدور الأساسي، ولذا بنى نظريته على إفرازات تلك الأنظمة المأزومة وليس على رؤية موضوعية للقيم الاجتماعية والحضارة الإسلامية التي لا تمثلها بالضرورة تلك الأنظمة السياسية.
ولذا فإن خطل نظرية صراع الحضارات يقوم على أن الخلافات الثقافية يجب أن تُفهم, والثقافة (بدلا من النظام السياسي) يجب أن يتم القبول بها كطرف وموقع للحروب.
مهددات الحرب الفكرية
ما لم تتغير النظرة الغربية نحو الإسلام وتتخلص من الأفكار المسبقة والنظريات المختلة، فإن أي تفكير في حوار فكري يقضي على التطرف والانحراف الديني بين المسلمين، سيكون حرثا في البحر، فالمشكلة المهمة بالنسبة للغرب وفقا لأفكار هنتنغتون المختلة، ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام نفسه.
ومن ناحية أخرى فإن أوروبا لها قناعة بأنها ظلت تحت تهديد مستمر من الحضارة الإسلامية لمدة ما يقرب من ألف سنة، منذ دخول العرب إسبانيا وحتى الحصار التركي لفيينا، وهذا قال به برنارد لويس، وهو أستاذ جامعي معاصر بريطاني الأصل تخصص في دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون الأميركية. وقد تخصص في تاريخ الإسلام والتفاعل بين الإسلام والغرب.
إن أفكارا ومقولات مثل ما قال به هنتنغتون وغيره، بأن حدود الإسلام دموية وكذا أحشاءه -وهي العبارة التي وردت في مقالة لهنتنغتون عام 1993 وقد أثارت ردود فعل كبيرة- هي التي تعيق التواصل الفكري مع الحضارة الإسلامية، فلا بد من طرد هذه الأفكار بعيدا واستبعادها في حال المعالجات الفكرية.
أين تقع الغارات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي في سوريا من معادلة الصراع الراهن؟ ما هو التأثير الذي تتركه هذه الغارات على الجماعات المسلحة المستهدفة؟ ثم هل استفاد الجيش السوري من هذا المتغير الدولي؟ وأخيرا، ما هو أفق المستقبل، وإلى أين نحن ذاهبون؟
المجموعات المسلحة
إن أولى الأسئلة التي جرت إثارتها، في القطر السوري وخارجه، دارت حول ماهية الأهداف التي يجري العمل على تحقيقها عبر الغارات الجوية.
لقد أعلن رسميا بأن تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" هدفان رئيسيان للقصف الدولي، إضافة لتنظيم "خراسان"، الذي يقال إنه متمركز في الشمال.
هذا الشق من الأهداف بدا إشكاليا نوعا ما. أو لنقل بدا كذلك في التحليل العسكري التقني البحت، إذ كيف يُمكن لقصف جوي تدمير مجموعات متحركة، يُمكنها التخفي، أو حتى الانتشار بين منازل المدنيين.
"تقع غالبية مخازن السلاح الرئيسية لدى المجموعات المسلحة تحت سطح الأرض، وقد لا يكون هناك من سبيل لتدميرها عبر القصف الجوي دون التسبب في خسائر مدنية، على الرغم من أن هذا التدمير ممكن تماما من الناحية الفنية"
من جهة أخرى، تستخدم هذه المجموعات شبكات من الأنفاق في التنقل بين المناطق، وتخزين الأسلحة، وأمور أخرى.
وفي التجربة السورية، كما يعلم الجميع، فإن مواجهة هذه الأنفاق، قد جرى من خلال حفر أنفاق مضادة، أو عن طريق اقتحامها وتفجيرها من الداخل، أو عبر إغراقها بالمياه، كما حدث في ريفي دمشق وحمص. وفي الأحوال كافة، لم يكن القصف الجوي طريقا لتدميرها.
ومن الزاوية العسكرية، فإن استمرار الأنفاق يعني الاحتفاظ بالأفراد، وغرف العمليات، وصنوف مختلفة من الأسلحة. وهذا يعني ببساطة الاحتفاظ بعناصر الحرب.
وغير بعيد عن قضية الأنفاق، تقع غالبية مخازن السلاح الرئيسية لدى المجموعات المسلحة تحت سطح الأرض، وقد لا يكون هناك من سبيل لتدميرها عبر القصف الجوي دون التسبب في خسائر مدنية، على الرغم من أن هذا التدمير ممكن تماما من الناحية الفنية، إن بالنسبة للطائرات القاذفة أو المتعددة المهام.
وفي الأصل، فإن السيطرة على مخازن الأسلحة أو تدميرها من مسؤولية أسلحة الهندسة والمشاة والقوات الخاصة. وهذا أيضا لا يتحقق إلا بجهد استخباري. أو بعد السيطرة على كامل المنطقة أو البلدة التي توجد فيها هذه المخازن.
أما على صعيد المنشآت الثابتة، الموجودة فوق الأرض، فهي في الغالب منشآت عامة، جرى تغيير وظيفتها من قبل المجموعات المسلحة. وقد تم إخلاء الكثير منها منذ الإعلان عن احتمال شن الغارات الجوية الدولية.
وهناك قضية أخرى ترتبط بعزل أو تشتيت عناصر المجموعات المسلحة المستهدفة. وهذه القضية تحديدا هي التي يجري الحديث عنها على نحو يومي.
والواقع أنه من الصحيح والمنطقي تماما، في المبادئ العسكرية، أن تبدأ أي حملة جوية أو برية بتقطيع أوصال القوات وبعثرتها، وإغلاق الممرات الرئيسية، فيزيائيا أو بالوسائط النارية، وقطع شرايين الإمداد.
وهذا الأمر، ربما تحقق بدرجة ما، لكنه يبقى في إطار نسبي، كوننا بصدد جماعات غير نظامية، تعمل ضمن وحدات صغيرة.
وثمة مسألة ذات صلة أساسية بهذا الأمر، وهي أن مصادر إمداد المجموعات المسلحة عموما مرتبطة باستمرار تواصلها مع دول الجوار، من خلال المعابر والمنافذ التي تسيطر عليها، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية، وهذه الأخيرة منتشرة بالعشرات، مع كل من العراق وتركيا ولبنان والأردن. وكثير منها غير معبد، ولا وجود عمرانيا له، وقد يكون جبليا أو جرديا. وكل من يعيش في سوريا يدرك هذا الأمر، على أي حال.
إن مقاربة موضوع هذه المنافذ ذات طبيعة مركبة، يتقدم بُعدها الأمني الميداني على بُعدها العسكري، وذلك فضلا عن أبعادها السياسية والقانونية. وهي الأصل في الموضوع.
الجيش السوري
ودعونا الآن نطرح السؤال التالي: هل حدث تحول في أنشطة الجيش السوري إثر الغارات الجوية الدولية ضد المجموعات المسلحة المستهدفة؟
ربما ما زال الوقت مبكرا للإجابة على هذا السؤال. ورغم ذلك، ثمة شيء جديد يرتبط بطلعات الطيران الحربي السوري، حيث أدخل في بنك أهدافه، في الفترة الأخيرة، مواقع كثيرة في المحافظات الشرقية. كما كرر في وقت لاحق قصفه لتنظيم "الدولة الإسلامية" في محيط مدينة عين العرب (كوباني)، بريف حلب.
إن تعاظم قصف الطيران السوري لمواقع تنظيم "الدولة الإسلامية" في مناطق الجزيرة قد يكون له علاقة بالتطورات التي حصلت في العراق منذ مطلع يونيو/حزيران الماضي، كونه تزامن معها على نحو واضح.
وقد تواصل هذا القصف منذ ذلك الحين، بالتوازي مع التطورات التي حدثت في الموقف الدولي تجاه نشاط هذا التنظيم في العراق وسوريا. وهنا، حدث ما يُمكن وصفه بانسجام الأمر الواقع بين المسارين السوري والدولي.
وقد تحدثت بعض التقارير عن تنسيق سوري أميركي حول تنظيم "الدولة الإسلامية"، يتم عبر العراق، وربما دول أخرى أيضا. ولكن سواء حدث هذا التنسيق أم لا، فإن تكامل الأمر الواقع قد تم بالفعل. وهذه هي المسألة الأكثر دلالة في الحسابات السياسية.
ويُمكن القول، بهذا المعنى، إن سوريا قد كسبت سياسيا من الحملة الدولية على تنظيم "الدولة الإسلامية".
"يُمكن القول إن الجيش السوري قد استفاد على نحو عام من التطور الجديد في الموقف الدولي، الذي أضعف خصومه، وساهم في تشتيت قدراتهم، على الرغم من عدم تسجيل أي تحول في أولوياته أو خارطة انتشاره"
أما على صعيد المعارك الأرضية، فلا تبدو ثمة صلة بين حركة الجيش السوري والحملة الجوية الدولية، فليس هناك تغيير يُمكن رصده في خارطة الانتشار، أو سلم الأولويات.
وقد يكون الأمر الجديد هو المعارك التي دارت مؤخرا في ريفي دير الزور والحسكة، واستعاد فيها الجيش السوري عددا من البلدات.
أما في أرياف درعا والقنيطرة، حيث يتركز ثقل جماعات أخرى مستهدفة من الحملة الجوية الدولية، فإن معارك الجيش ما زالت على وتيرتها المعتادة.
وحتى "الآن"، لم تستهدف هذه المنطقة من قبل الطيران الدولي، على الرغم من أن الأردن أعلن مرارا ضربه "أهدافا متحركة"، على الحدود. وهذا المسار، قد يتحول لاحقا إلى غارات على أهداف متقدمة في ريف درعا.
وخلافا لحالات التواري -التي قام بها كل من تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" في عدد من المناطق- فإن الوضع في القنيطرة بقي على حاله، حيث ما زالت النصرة تحديدا متمركزة في مواقعها، بما فيها تلك الواقعة على خط الحدود.
وخلاصة، يُمكن القول إن الجيش السوري قد استفاد على نحو عام من التطور الجديد في الموقف الدولي، الذي أضعف خصومه، وساهم في تشتيت قدراتهم، على الرغم من عدم تسجيل أي تحول في أولوياته أو خارطة انتشاره.
المنطقة العازلة
بعد ذلك، فإن السؤال الرئيسي هو: أين تتجه الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا؟
هناك أربعة سيناريوهات لمسار هذه الحملة:
الأول، توسيع التحالف ليشمل أطرافا جديدة. وهذا خاضع لموافقة واشنطن، التي ترفض حتى "الآن" مشاركة دول مثل إيران.
الثاني، إقامة تحالف مواز للتحالف الدولي الراهن تكون ركيزته دول منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم روسيا والصين وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزيا وأوزبكستان، وتتمتع فيها كل من الهند وباكستان وإيران ومنغوليا بوضع مراقب. كما تشارك أفغانستان في عمل المنظمة من خلال ما يعرف بمجموعة "منظمة شنغهاي للتعاون-أفغانستان". ولهذه المنظمة أنشطة أمنية وعسكرية مشتركة، وتنفذ مناورات حربية في أكثر من منطقة.
وفي حال إقامة التحالف الدولي الموازي فستكون سوريا ذاتها جزءا منه.
الثالث، استمرار الوضع الراهن على مدى سنوات، في استعادة للنموذج الباكستاني، ولكن في سياق معزز بقوات على الأرض، قوامها آلاف العناصر المسلحين أميركيا، ممن تزكيهم المعارضة السورية، المصنفة في التقييم الأميركي بالمعتدلة.
وهذه العناصر سوف توكل لها مهمة مزدوجة، هي دحر تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، وإخراجهما من مختلف المناطق السورية، وإدامة الحرب ضد الجيش السوري والقوى الحليفة له، المنتشرة هي الأخرى في معظم المحاور والجبهات.
السيناريو الرابع، يتمثل في اصطدام الولايات المتحدة بسوريا، وحلفائها الروس والإيرانيين، وانتهاء القبول السوري الضمني بالوضع الراهن.
وهنا ستدخل سوريا والمنطقة مرحلة جديدة، تتقدم فيها خيارات وتسقط أخرى، بالضرورة. وقد تتوج بحرب إقليمية لا يُمكن لأحد السيطرة عليها، أو التنبؤ بمساراتها.
وغير بعيد عن ذلك يُمكن اعتبار الدعوة لإقامة منطقة حظر جوي على أية رقعة من سوريا بمثابة مدخل آخر للحرب الإقليمية.
إن فرض منطقة حظر جوي في أي رقعة من العالم، يعني بالمفهوم العسكري منظومة واسعة من الأعمال الحربية. إنه توصيف آخر للعدوان.
وكما منطقة الحظر الجوي، كذلك فإن الدعوة لإقامة منطقة عازلة على جزء من الأراضي السورية تُمثل طريقا سريعا نحو الحرب الشاملة في الشرق الأوسط. إنها ببساطة بمثابة الصاعق الذي سيفجر مخزن الديناميت ويسقط السقف على رؤوس الجميع.
وفكرة المنطقة العازلة هذه ليست بالجديدة تماما، إذ سبق وجرى التداول بشأنها عام 2012، وكان الاقتراح حينها يشير إلى منطقة إعزاز في الشمال السوري.
"يجب التأكيد على أن المقدمات الخاطئة لن تأتي بنتائج صائبة أو مجدية. وأن الحديث عن منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة هو بالضرورة حديث عن التقسيم وقرع لطبول الحرب. وإن أحدا لا يتمنى وضع الشرق الأوسط على طريق حرب جديدة"
وفي العام الماضي طرحت إسرائيل هذه الفكرة، داعية إلى تطبيقها على شريط طولي يقع في الجزء المحرر من الجولان السوري المحتل. وقد طرح الإسرائيليون حينها تفاصيل عسكرية وإدارية كثيرة حول طبيعة هذه المنطقة، التي أريد بها استعادة تجربة مماثلة في جنوب لبنان، دامت من أواخر سبعينيات القرن العشرين حتى الخامس والعشرين من مايو/أيار عام 2000.
وعلى الرغم من ذلك، لم يذهب الإسرائيليون كثيرا خلف هذه الفكرة، بسبب نصائح قيل إنها وصلتهم من دول غربية مختلفة، وكذلك نتيجة لقناعتهم بأن هذا المسار قد يجلب عليهم ويلات، وقد ينتهي بحرب غير محسوبة العواقب.
إن إقامة منطقة عازلة -بقوة الأمر الواقع- على جزء من أراضي دولة ذات سيادة، يُمثل انتهاكا فاضحا وشنيعا لميثاق الأمم المتحدة.
وبالنسبة للوضع السوري الراهن فإن هذه المنطقة قد تكون بداية تقسيم فعلي للدولة السورية الحديثة، تماما كما قسمت بالأمس القريب سوريا الكبرى.
وعلى الصامتين تجاه الخطوة أن يعترفوا صراحة -دونما أية مواربة- بأنهم ضد سيادة الوطن، وضد وحدته الترابية وضد عيشه المشترك، وأن دمشق وقاسيون وبردى لم تعد تعني لهم شيئا، وأن البرغماتية انتهت إلى بيع وضيع للذات والأهل والوطن.
وبعد، ماذا بقي للبيع في سوق السياسة الإقليمية، الكاسد والمهترئ؟
مرة أخرى، يجب التأكيد على أن المقدمات الخاطئة لن تأتي بنتائج صائبة أو مجدية. وأن الحديث عن منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة هو بالضرورة حديث عن التقسيم وقرع لطبول الحرب. وإن أحدا لا يتمنى وضع الشرق الأوسط على طريق حرب جديدة، لأن فيه ما يكفي من الصراعات والأزمات، وشلالات الدم.
إننا نعيش مرحلة انتقالية حساسة وحرجة، ومستقبل هذا الشرق، وأمن مجتمعاته يتوقف على الطريقة التي سوف تدار بها هذه المرحلة، وتلك مسؤولية مشتركة تعني الجميع. والثابت والأكيد في ذلك كله أن أية رهانات خارج منطق الأشياء لن تجلب الأمن والاستقرار لهذه المنطقة وشعوبها.
لماذا حرص تنظيم «داعش» على ترويج فيديو لمقاتليه يرتكبون جريمة رجم امرأة حتى الموت بمشاركة الأب؟ هذا الفيديو سيبقى واحدا من أكثر الفيديوهات بشاعة، وإساءة للمسلمين، وفي نفس الوقت يدلنا، لا على وحشية التنظيم، فهذا أمر سبق تأسيسه، بل على قدرته على البقاء ظاهرا على سطح الإعلام، واستخدام الإعلام الاجتماعي لأغراضه، ودليلا على نجاحه على التفوق، وحصوله على أعلى الموضوعات التي تناقش. لقد حققت بشاعته ما يريده إعلاميا.
هدفه أن يصدم الناس بأقصى، وأقسى ما يمكن من صور لقطع الرؤوس، وقتل المدنيين العزل جماعيا، وملاحقة النساء ورجمهن. لم يسبق حتى لتنظيم القاعدة، الذي قَص شريط العنف المصور، أن تمادى كما يفعل مقاتلو «داعش».
هذا العنف والوحشية لا تباع لعامة الناس للتدليل على شراستهم، إنما ترافق عملية إقناع بأنهم الإسلام الصحيح، وأنهم النظام البديل، وأنهم قادرون على تجنيد المزيد من خلال التحدي، والتغيير، والترويج لتفسيره الخاص بالإسلام. الفيديو الصادم يوضح قدرة المتطرفين على إقناع الأب الجاهل، أنه عندما يرجم ابنته ستذهب بعد قليل إلى الجنة، مطهرة من آثامها، ويستطيعون إقناع الفتاة بالقبول لأنها تكفر عن ذنوبها بقبولها بالقتل رجما.
هذا الفيديو نشره أتباع «داعش» لكنهم لم يحرصوا على الحديث عن ما جرى في مدينة الرقة السورية عندما جمعوا الأهالي في ساحة قرب الملعب البلدي لرجم فتاة صغيرة، إلا أن المواطنين رفضوا المشاركة في الجريمة، حيث رجمها مقاتلون من تنظيم داعش، ومع أن الخبر ظهر من التنظيم، إلا أنه لم يوزع الفيديو، مدركا أن تمرد الأهالي عليه واستنكارهم ليس بالمادة الدعائية المناسبة.
لكن يجب ألا نقلل من نجاح دعايته. فإذا كان التنظيم قادرا على التغرير بالأب وابنته ليرتكبا الجريمة، فليس صعبا عليه إقناع المزيد من الآلاف السذج للالتحاق به أو تأييده ودعمه، عندما يشاهدون أعماله، ويسمعون أقواله. ومع أن السياسيين يتحدثون بلا انقطاع عن ملاحقة المتشددين من الدعاة، ومطاردة الفكر المنحرف، لكن نظرة واحدة على المواقع الاجتماعية وفيديوهات الـ«يوتيوب»، تبين جليا أن المنتصر في المعركة هو «داعش»، وبمسافة بعيدة.
ولم تعد أرض سوريا والعراق الساحة الواعدة لمن يتم تجهيزه للقتال بعد، بل اليمن. فمواجهة الحوثيين هي الصرخة الجديدة لدعوة الشباب للقتال في اليمن، والهدف بطبيعة الحال بناء جيش أكبر في اليمن لتنظيم القاعدة، وفصائله. ولن يكون صعبا التسلل إلى اليمن من الحدود الواسعة، والتضاريس الوعرة، وخاصة أن الدولة في حالة انهيار أو توشك، نتيجة تحالف الرئيس المعزول علي عبد الله صالح مع ميليشيات الحوثيين الموالية لإيران.
لا يفترض أن ننظر إلى «داعش» بمقاييسنا الأخلاقية والدينية، فهي جماعة قررت أن تهز العالم، بأكثر مما فعلته «القاعدة»، وما نراه من أفعال سيستمر لسنين طالما أن الحل دائما يصل متأخرا. فمعظم ذخائر الدول المتحالفة ذهبت لقتال «داعش» في بلدة صغيرة مثل كوباني، فماذا عن مئات المدن والقرى المنتشرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟
الحقيقة، لا توجد جيوش كافية لقتال المتطرفين المنتشرين في أنحاء المنطقة، ولن يقل عددهم مهما اشتد القصف وأصبح أكثر دقة، وذلك بسبب قدرة التنظيم على نشر دعايته وتجنيد المزيد. لهذا فالمعركة خاسرة ما لم توجد نشاطات مكثفة من كل الحكومات لوقف دعاية المتطرفين ومحاسبة المتعاطفين معهم، من «داعش» و«القاعدة» ومتطرفي الإخوان المسلمين، حتى يمكن الوصول إلى مرحلة قطع أوكسجين الدعاية، وخنق التطرف.
توسعت اللعبة الدولية الإقليمية التي تنتج حروباً ومآسي في المنطقة، نتيجة الصراع على النفوذ فيها، وأخذت التعقيدات التي تتسم بها تزيد من تشابك عوامل إدامة هذا الصراع، إذ ينتظر أن يستمر مسلسل تهديد أمن دول كثيرة ووحدتها وحدودها، كما هو حاصل في سورية والعراق واليمن وليبيا، في ظل تهديد أمن الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر، لانعكاسات لعبة الحديد والنار والدماء عليها.
تشابكت الأولويات في المنطقة، من الحرب على «داعش» وغيرها تحت عنوان مكافحة الإرهاب، فيما تتأرجح العلاقات الدولية والإقليمية مع إيران، بين التفاوض على ملفها النووي الذي يبقى من مهلة إنجازه شهر، وبين الصراع معها على تزايد انفلاشها الإقليمي وتدخلها أكثر في التركيبة السياسية والاجتماعية لعدد من الدول تحت عنوان تصدير الثورة.
يسجل المتابعون للعبة الأمم هذه عوامل جديدة دخلت بقوة قد تطيل أمد الصراع في الشرق الأوسط:
1 - أن المتضررين من اتفاق غربي - إيراني على الملف النووي يسعون الى تأخير إنجازه، وهؤلاء يتوزعون بين إسرائيل، وروسيا والصين والمتشددين الإيرانيين، فتل أبيب ليست متأكدة من أن هذا الاتفاق يضمن أمنها، انطلاقاً من السياسة الإيرانية والحدود اللبنانية والسورية. وموسكو تريد الإبقاء على احتمال إغراق واشنطن مجدداً في الحروب الدائرة في المنطقة، طالما الخلاف ما زال قائماً بينها وبين الغرب على أوكرانيا. كذلك بكين التي ترغب بألا يأتيها التركيز الأميركي على النفوذ في منطقة المحيط الهادىء متخففاً من الأزمات العالمية الأخرى، طالما الخلاف ما زال على أشده بين الصين وحلفاء أميركا في تلك المنطقة (اليابان وفيتنام) على ملكية عشرات الجزر الغنية بالنفط والثروات. أما المتشددون الإيرانيون فيخشون من أن يؤدي أي اتفاق الى إضعاف نفوذهم في طهران لمصلحة الرئيس حسن روحاني والإصلاحيين... والفرقاء غير المتحمسين لإنجاز الاتفاق على الملف النووي، يعتمدون على طول نفس المفاوض الإيراني وقدرته على الصمود تمهيداً لإضعاف الخصوم.
2 - ثمة اعتقاد في دوائر ضيقة في الإقليم، أن الغرب والدول المناهضة للنفوذ الإيراني لا تمانع في سياسة التوسع الإيراني في المنطقة طالما أنها لا تهدد حدود دول الخليج، لإغراق طهران بكلفة وأثمان انفلاشها الإقليمي، سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وهذا ما يفسر رد الفعل الخليجي غير الخائف مما حصل في اليمن وقبله العراق، ما دامت القوى الحليفة لطهران والمدعومة منها، تدخل في حرب مع «القاعدة» و «داعش» والإرهاب، كما هو حاصل في اليمن وفي سورية أيضاً. ولعل هذا ما يفسر اكتفاء المسؤولين الخليجيين بإبداء «الأسف» لما يحصل في اليمن مقابل رفع الصوت أكثر حيال التدخل الإيراني في سورية. وفي المقابل، تعتبر طهران ان هذا التوسع الجديد يعزز موقعها التفاوضي مع خصومها الدوليين والإقليميين، ليخففوا من خسائرهم. وهذا ما ينطوي عليه قول روحاني عن احتلال الحوثيين مزيداً من المناطق في اليمن بأنه «جزء من النصر المؤزر والباهر».
3 - إن استعار حرب خفض أسعار النفط بات جزءاً من حلبة الضغوط المتبادلة على الصعيدين الدولي والإقليمي، بما يوحي لخبراء في هذا المجال بأن واشنطن ودول الإقليم أخذت تمعن في اعتماد «القوة الناعمة» في المواجهة الشرسة الدائرة على جبهات عدة، فرفع الانتاج من قبل دول نفطية كبرى مثل المملكة العربية السعودية وانخفاض استيراد بعض الدول لأسباب اقتصادية أو لفائض لديها (مثل أميركا) خفض سعر البرميل الى ما يقارب 80 دولاراً أميركياً بعد أن كان أكثر من 100 دولار العام الماضي، في شكل يؤثر في مداخيل دول مثل روسيا التي احتسبت موازنتها للعام المقبل على أساس المئة دولار، وإيران كذلك. كما يؤثر في الصين التي تتزود بالنفط الإيراني مقابل بضائع ومنتجات تتزود بها منها طهران، التي يعاني اقتصادها أصلاً من العقوبات الاقتصادية الغربية... في اختصار: إذا بقي سعر النفط عند حدود 80 دولاراً، بحسب قول الخبراء، فإن العنصر الاقتصادي يصبح عاملاً مهماً في لعبة الأمم الدائرة.
توحي العوامل الثلاثة المذكورة أننا أمام لعبة الوقت وعض الأصابع. وهي تحمل مخاطر متبادلة في توقع النتائج. وفي الانتظار تبقى دماء السوريين، لا سيما العلويين منهم، والميليشيات العراقية المقاتلة في سورية ومقاتلي «حزب الله» اللبناني، فضلاً عن المغرر بهم من مقاتلي «داعش» في العراق وسورية وغيرهم، وقوداً لتمرير الزمن قبل اتخاذ قادة الدول قراراتهم.
يطرح استمرار الضربات الجوية المكثفة على «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، من دون الحدّ من انتشاره وكبح جماحه والسيطرة على مقدراته التي تساعده في الامتداد والتوسع والاكتساح، يطرح ذلك علامات استفهام كثيرة يحار العقل في الإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تثيرها بقوة.
فهل هذا الأمر الجلل مبيَّتٌ بليل؟ وهل التلازم بين مواصلة شن الضربات الجوية من الطيران الحربي لقوى التحالف الدولي، وبين استيلاء «داعش» على مساحات إضافية من الأرض، خطة مدبرة؟ وهل التركيز على منطقة واحدة دون غيرها من المناطق التي استولى عليها «داعش» ويتحرك فيها، وهي بلدة عين العرب (كوباني) فوق التراب السوري، هو تدبيرٌ متفق عليه لتحقيق هدف لا يزال مجهولاً حتى الآن؟ وهل الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود التحالف بكل قوتها، عاجزة حتى الآن، عن تدمير «داعش»، أو على الأقل تطويقه داخل منطقة محصورة لا يتعداها إلى مناطق أخرى؟ وهل يمكن العقل أن يصدق أنها يبلغ بها العجز وقلة الحيلة إلى هذه الدرجة المحيرة والمثيرة لألف سؤال؟ وهل «داعش» «قوة عظمى» تقصر الإمكانات العسكرية والاستخباراتية المهولة لدى الولايات المتحدة الأميركية، عن احتوائها والسيطرة عليها؟
إن هذه الحرب غير المفهومة والملغومة التي تجري فوق الأراضي العراقية والسورية، تجعل المراقب يشكّك في صدقية السياسة التي تنهجها الولايات المتحدة الأميركية في الإقليم، ويرتاب في واقعية الحسابات التي تعتمدها من أجل الوصول إلى الهدف المعلن حتى الآن، وهو تدمير التنظيم الإرهابي «داعش»، كما يشكّك في الأهداف الخفية من تشكيل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، أو لنقل لمحاربة فصيل واحد من الإرهاب دون فصائل أخرى عدة.
إن من يصف هذا الوضع الغامض بأنه لغز من الألغاز، لا يجانبه الصواب، فهذا الوصف هو أقل مما ينبغي أن يقال عن هذه الحرب التي لا صفة واضحة لها ولا عنواناً معروفاً، ولا هدفاً محدداً. ولذلك يميل المرء إلى القول إن هذه ليست حربنا نحن العرب، فلا مصلحة محققة وملموسة ومباشرة لنا فيها في المدى المنظور، وإن كنا نقف من الإرهاب بكل أشكاله موقف الرفض والإدانة والصمود في وجهه والتصدي له ومحاربته. ولكنها حرب تخوضها الولايات المتحدة الأميركية لمصلحتها الخفية عنا، ولدوافع لا نستطيع الاطمئنان إلى موضوعيتها وصدقيتها وجديتها.
لقد عرفت منطقتنا حروباً عدة، منذ العقد الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم، وعاش العرب أزمات طاحنة وزلازل سياسية وتقلبات عنيفة ومتغيرات حاسمة كانت لها عواقب شديدة التأثير في الحياة العربية على المستويات كافة، سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وفكرياً، وثقافياً. ولكن ما يجري اليوم على الأرض يختلف اختلافا كبيراً عما جرى خلال قرن من الزمن. لقد وجد العرب أنفسهم مجبرين على الاشتراك في التحالف الدولي من دون أن يكونوا على بينة كاملة من الهدف الرئيس الذي يسعون إلى تحقيقه في إطار هذا التحالف الذي سمّي دولياً، وما هو بدولي بالمعنى الدقيق للمصطلح، لأن الدول المشاركة فيه مشاركة فعلية، دول محدودة للغاية، من دون أن يكون هناك غطاء سياسي دولي بقرار واضح وصريح من مجلس الأمن.
أليس ما يجري اليوم في سورية والعراق، وفي اليمن وفي لبنان، وفي ليبيا وفي الصومال، يدعونا إلى التساؤل عما يخطط للعرب، وينفذ ضد مصالحهم، ويدفع بهم نحو المجهول؟ ذلك أن محاربة الإرهاب لا تتم بهذه الطريقة، ولا ينفع أن تسلط الأضواء على بؤرة واحدة للإرهاب، وأن تشن الضربات الجوية على فصيل إرهابي واحد، ولا توقف تمدّده وخطره، وتترك بؤر أخرى عفنة من الإرهاب، تهدد سلامة الجسد العربي، وتعيث فساداً في الأرض العربية، وتصرف أنظار العرب عن متابعة ما يجري في فلسطين المحتلة من عدوان وجرائم ضد الإنسانية، حيث يوجد اليوم المسجد الأقصى في خطر حقيقي محدق به، محاصر له، متربص به، وحيث تتآمر الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية مع إسرائيل لمنع الفلسطينيين من الحصول على قرار من مجلس الأمن لتحديد جدول زمني لقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والنظام الحاكم في سورية يواصل قتل الشعب وتدمير المدن والقرى بوحشية تامة وبدعم روسي وإيراني وتدخّل مباشر لقوات إيرانية وعراقية ولبنانية ومحاربين من جنسيات أخرى مختلفة، وميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران تعيث في اليمن فساداً، ولبنان دولة من دون رئيس، بسبب الإرهاب الذي يمارسه «حزب الله» تنفيذاً للأوامر الصادرة عن النظام الإيراني الطامع في الامتداد من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط، وليبيا غارقة في مستنقع لا أحد يعلم متى الخروج منه، والعرب، على وجه الإجمال، ولا نقول الحصر حتى لا نقع في المبالغة، تائهون في متاهات السياسة الدولية التي فرضت عليهم الدخول في غياهبها؟
لا أحد من العرب اليوم يعرف معرفة مدققة أين نحن ذاهبون؟ الولايات المتحدة الأميركية، والقوى الكبرى، تعرف في أي اتجاه تسير قافلة العرب. والذين يزعمون منا أنهم يعرفون مصير العرب في هذه المرحلة، وفي المراحل المقبلة، ينطبق عليهم المثل «يهرفون بما لا يعرفون».
ألم يحن الوقت بعد ليستيقظ العرب والمسلمون، وليلتفتوا إلى أمورهم، ويصلحوا أحوالهم، ويصححوا الأخطاء التي وقعوا فيها، ويتعاملوا مع الواقع الذي يعيشونه بعيون مفتوحة، وبعقول مفكرة، وبإرادات حرة مستقلة مصممة على بناء الذات، وحماية الوجود، والدفاع عن المصالح العليا، وعن المستقبل؟
سنتكلم هنا عن السياسة وعن الواقع وليس عن الأمنيات .
طالعنا منذ يومين الرئيس التركي أوردوغان عن اقتراحه للجانب الأميركي بالسماح لإدخال 200 مقاتل من أكراد العراق مع سلاحهم الثقيل إلى عين العرب , كوباني.
ولكن ! هل هذا الكلام كان كل الإقتراح ! أم هناك بنود أخرى لم يأتي الرئيس التركي على ذكرها !؟
الأتراك يعلمون تماما أن قيام كيان كردي في جنوب تركيا سيكون سكينا في خاصرتها , كلما أرادت أمريكا أن تزعج تركيا لأي سبب من الأسباب فإن هذا السكين سيقوم بما يتوجب عليه حسب تعليمات الأميركان " نتكلم هنا في الواقع وعن طريقة تفكير الأتراك وكيف ينظرون إلى قيام الكيان الكوردي " .
واستجابة للضغوط وتهدئة للأكراد الأتراك اضطر إلى الإعلان عن السماح بمرور الـ 200 مقاتل كوردي مع أسلحتهم عبر الأراضي التركية .
ولأن أوردوغان وتركيا لن يسمحوا بقيام الكيان الكوردي " طبعا مع ماتحمله مسألة دخول مقاتلين أكراد من أكراد كوردستان العراق إلى عين العرب , كوباني من تواصل بين أكراد العراق وسوريا ومناطق الجنوب التركي ذي الأغلبية الكوردية " .
ليلة الأمس خرج علينا العقيد " عبد الجبار العكيدي " معلنا عن خطط لإرسال 1300 مقاتل من الجيش الحر , وطالب بدعم هؤلاء المقاتلين من قبل الدول الغربية .
بكل تأكيد العقيد العكيدي لايمكنه القيام بهكذا تصريح بدون الإتفاق مع الجانب التركي , خصوصا وأنهم سيدخلون عين العرب , كوباني عبر الأراض التركية .
وعلى الأغلب أن يكون الطرف التركي هو من اقترح هذا الإقتراح على العقيد العكيدي والجيش الحر .
وبهذا تكون تركيا قد منعت الأكراد من الإستفراد بعين العرب , كوباني , وأخرجت هذه السكين من خاصرتها , و "ربما " أمنت دعما عسكريا للجيش الحر ببعض الأسلحة النوعية .
في السياسة لايوجد شيئ نهائي ولاشيئ مؤكد , فهي رمال متحركة .
منذ بدء الثورة السورية، ظهر أن منظور اليسار أضيق من أن يفهم ما يجري، حيث تاه في الفارق بين ما كان يجري التوهم بأنه تموضع النظام السوري عالمياً وحراك الطبقات، التي أخذت تتململ ومن ثم تحاول التغيير، بمعنى أنه فشل في الإجابة على سؤال: هل إن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل يسمح بأن يكون النظام في موقع معاداة الإمبريالية الأميركية، أو أنه انخرط في "العولمة" عبر تطبيق السياسات، التي يفرضها عادةً صندوق النقد الدولي، ومن ثم إن الخلاف مع أميركا خصوصاً هو نتاج اختلاف سياسات، وليس نتيجة تناقض مصالح؟ هذا التكوين الاقتصادي هو الذي كان يؤسس لتفاقم الأزمة المجتمعية، وتراكم الاحتقان، ومن ثم أفضى إلى الثورة، حيث فرضت الفئة الحاكمة تعميم اللبرلة، وتطبيق شروط صندوق النقد الدولي، حتى من دون تفاهم رسمي معه.
عدم الفهم هذا أسَّس لموقف داعم للنظام، انطلاقاً من "الممانعة" التي يبديها تجاه "المخططات الإمبريالية". وبالتالي، كان "المبدأ" الذي يحكم هذا اليسار هو اعتبار الإمبريالية الأميركية العدو الرئيسي، ومن ثم دعم كل من يقف في تعارضٍ، أو تناقضٍ، معها. لكن، لم يصمد هذا المنطق أمام تزايد التعقيد في الواقع السوري، وبات يقود إلى عكس ما بدأ منه. فهذه "البساطة" (أو لنقل السطحية) في التحليل لا تصمد أمام تعقيدات الواقع دائماً.
كانت كل القوى، التي تقف مع النظام السوري ضد الثورة، والتي أسست رؤيتها على "معاداة الإمبريالية"، مع تنظيم القاعدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001، ومع النظام العراقي، ضد الإمبريالية، التي زحفت من أجل احتلال أفغانستان والعراق. وكانت ضد الدور الإيراني في العراق منذ الاحتلال، واتهمتها بأنها عملت عبر ميليشياتها على تدمير العراق، وفرض سيطرة طائفية على السلطة، التي أنشأها الاحتلال الأميركي.
ولقد دعمت تلك القوى الثورات في تونس ومصر واليمن والبحرين، لأنها ضد نظم تابعة للإمبريالية الأميركية، ومن المنظور نفسه، وقفت مع النظام السوري كونها تصنفه "ممانعة" و"مقاومة". وبالتالي، باتت الثورة "مؤامرة إمبريالية" (أميركية)، تنفّذها مجموعات إرهابية أصولية، بدعم سعودي قطري. وكان الحديث يجري عن "الجهاديين" الذين أسسوا تشكيلاتٍ، بعد عام من الثورة، ومنهم جبهة "النصرة"، التي هي فرع للقاعدة، ثم "داعش" التي باتت بديلاً للقاعدة. بمعنى أن الصراع في سورية بالنسبة إليهم بات بين نظام "وطني" و"ممانع" و"الجهاديين" مدعومين من أميركا والسعودية وقطر. هنا، انقلب الموقف من "الجهاديين"، الذين كان يطبّل لهم، حين كانوا "يقاتلون" أميركا (كما كان يجري توهم أنهم يقاتلونها). باتوا العدو، الذي يريد إسقاط نظام "ممانع"، و"يدعم المقاومة"، لكن، هذه المرة، انطلاقاً من أنهم أدوات أميركية. بالتالي، لم يعودوا ضد أميركا، كما جرى التنظير سابقاً، بل أداة بيدها.
"
الموقف الذي تريده السلطة، أصلاً، سيربك (اليسار الممانع) الذي يكسر كل منطقه، الذي كرره طوال سنوات ثلاث عن (المؤامرة الإمبريالية)، وكون (النصرة) و(داعش) أداة المؤامرة
"
الآن، أميركا تحشد ضد "داعش" و"النصرة"، وتؤلف تحالفاً دولياً من أجل هزيمتهما، ولقد بدأت الحرب ضدها، في العراق أولاً، والآن في سورية. بالتالي، يبدو أن "الرابط" الذي جرت الإشارة إليه بين أميركا وداعش لم يعد قائماً، وتقدمت أميركا للحرب ضد داعش، ولقد بدأتها. ما هو الموقف الممكن لكل داعمي النظام السوري، الذين طبلوا لقتال النظام ضد المجموعات الإرهابية، خصوصاً "النصرة" و"داعش"؟ النظام طلب التحالف، فبالنسبة إليه ليست أميركا العدو، لا الرئيسي ولا الثانوي، بل لقد اختلف معها نتيجة "تطاولها"، بالدعوة إلى تغيير شكل السيطرة على السلطة، بالدعوة لحكم "الأغلبية" (بمعناها الديني). وها هو يهلل للحرب "المشتركة" بين القوات الأميركية و"الجيش العربي السوري" ضد الإرهاب.
الفكرة الجوهرية، التي قامت عليها سياسات تلك القوى، أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، وهذا ما جعلها تدعم "الجهاديين" سابقاً. الآن، بعد أن أصبح هؤلاء "الجهاديون" العدو ضد نظام "وطني" و"ممانع"، كيف يمكن أن يستوعب العقل الأحادي الأمر. يقوم هذا العقل على مبدأ إما/ أو، مع/ ضد. الآن يتقاتل "ضدان"، أين سيكون موقفها؟ العودة إلى تأييد "الجهاديين"، أو تغيير كلية الفهم بالتخلي عن أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي؟ في كلا الحالين، سينهار كل المنطق، الذي تأسست المواقف عليه، لأنه يفرض أن يكونوا مع أميركا أو مع "داعش". أن يتخلوا عن أن داعش هي "صنيعة" أميركا، ومن ثم يجري كسر "الممانعة" بالتحالف مع أميركا، أو أن يظلوا متمسكين بـ "الممانعة"، ويكشفوا "تحالفهم" مع "داعش". ميل السلطة هو نحو أميركا، لأن كل خوفها يتمحور حول الخشية من "ضربة أميركية"، كما كان منذ بدء الثورة، ولأنها لعبت بـ"داعش"، من أجل الوصول إلى ذلك. لكن هذا الموقف الذي تريده السلطة، أصلاً، سيربك "اليسار الممانع"، الذي يكسر كل منطقه، الذي كرره طوال سنوات ثلاث عن "المؤامرة الإمبريالية"، وكون "النصرة" و"داعش" أداة المؤامرة.
رسم هؤلاء معادلة بسيطة، تنطلق من: إمبريالية (أميركا)/ ضد إمبريالية، وكان الضد هو السلطة السورية. لهذا، جرى اعتبار ما يجري مؤامرة، وباتت "داعش" (وهي التجسيد العملي لخطاب السلطة، الذي أطلقته منذ اللحظة الأولى) امتداداً لهذه الإمبريالية. لهذا، بات الصراع هو: السلطة/ "داعش" (طبعاً و"النصرة")، ومن ثم باتت الإمبريالية ضد "داعش". يفرض هذا الأمر كسر أحد الخطين هذين، الأول: أميركا/ السلطة، والثاني "داعش"/ السلطة. كما سنرى، انقلبت الأولوية في التحديد من الإمبريالية إلى السلطة، وبات الاختيار بين الإمبريالية أو "داعش".
"
السلطة تتخلى عن ممانعتها بالدعوة إلى تحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها
"
في كلا الحالين، سيظهر أن كل الخطاب، الذي كرره هذا اليسار (وكل خطاب السلطة كذلك)، كخطاب كاذب، لأن المؤامرة كانت تحققها المركب: الإمبريالية/ "داعش". السلطة تتخلى عن ممانعتها بالدعوة إلى تحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها. لكن، ما هو خيار "اليسار الممانع"؟ الوقوف على الحياد؟ وهذا يسقط المنطق، الذي أقاموا كل تصوراتهم عليه، والذي يفرض أن تكون مع طرف ضد الآخر. أو أن يقفوا ضد الطرفين؟ أيضاً، هذا يسقط منطقهم، الذي حرّم على الآخرين اتخاذ موقف ضد "داعش" و"النصرة" وأميركا. وأصلاً، كان يمكن لهم أن يتخذوا هذا الموقف منذ البدء، بحيث لا يكونون إما مع السلطة أو مع الثورة، من خلال رؤية الصراع الطبقي الواقعي وتعقيدات التناقضات العالمية. اللحظة، الآن، تعلن انهيار كل المنظور، الذي أسس هؤلاء مواقفهم عليه، وتوضح كم كانت الشكلية والسطحية مسيطرة، بحيث وضعوا العالم في "معسكرين"، لا غير، وأسسوا كل الصراعات على أساسهما، ليظهر، الآن، تهافت هذا المنظور، وخطل كل تلك المواقف، بحيث باتوا مجبرين عل اتخاذ موقف دمّر أساس منظورهم. ولهذا، وجدنا كيف ينشق "المعسكر" الذي بنوه في الخيال، بين روسيا وإيران وحزب الله، الرافضين التدخل الإمبريالي الأميركي (مثل الإخوان المسلمين السوريين بالضبط)، والسلطة السورية، التي رحبت بـالحرب "المشتركة" ضد الإرهاب. أين سيقفون؟ متاهة تكشف عن هزل التحليل، وانحراف المنطق، وأيضاً غياب الأخلاق.
الأزمة هي في العقل الأحادي نفسه، الذي هو التعبير عن سيادة المنطق الصوري، المغرق في السطحية. والذي يبسط الأمور إلى ثنائيات متعادية، فيتوه حين تتشابك الصراعات، وتتعدد التناقضات. ولأن الواقع متعدد التناقضات، بالضرورة، يلون إلى النهاية. إذن، هنا، سيندثر هذا اليسار "الممانع"، لأنه سقط في الوحل. ثنائيته وسطحيته قادتاه إلى ذلك. لكن، سنسجل أنه لعب دوراً تشويهياً كبيراً، ودافع عن سلطة مافياوية مجرمة، وبرّر لها كل القتل والتدمير، الذي مارسته، وكل الوحشية، التي ظهرت فيها. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا يمكن غفرانه.
1- "دواعش" الكُرد:
يجولون، أفراداً وجماعات، بين سيارات البث الفضائي على الحدود التركية السورية، قبالة مدينة عين العرب "كوباني" وعيونهم تقدح شرراً، ثم ما أن يقف أي مراسل تلفزيوني، أمام الكاميرا، استعداداً لنقل أخبار المعركة المحتدمة هناك، حتى يتحلقوا حوله، ويصوروه، ويسجلوا أقواله، بأجهزتهم الهاتفية، ليترجمها لهم، أحد ما، لاحقاً، ويعودوا، ليحاسبوه على أي كلمة لم تعجبهم، بالاعتداء اللفظي غالباً، والجسدي أحياناً.
هم أكراد غاضبون، بفعل المعركة التي يخوضها بنو جلدتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ويتصرفون بردة فعل متطرفة، نحو العرب، والمسلمين عموماً، ويظنون أن "التشبيح" و"البلطجة" يصلحان أسلوباً لتوجيه وسائل الإعلام.
في حمأة الغضب، ينسى "الشبيحة" الكرد، أو يتناسون، أن "داعش" ليس حزباً قومياً عربياً، كي يعتدوا على العرب انتقاماً منه، ويتجاهلون، أنه يقتل كل من يختلف معه، بلا اعتبار للانتماء القومي، أو الديني، وأن في صفوفه، مقاتلين كرداً، أحدهم، يقود معركة عين العرب، ويقف خلفه مئات المسلحين القادمين من شتى أصقاع الأرض.
الردة الشوفينية الكردية هذه، تنعكس، أيضاً، على مواقع التواصل الاجتماعي، في شبكة الإنترنت، بصراخ هستيري، يتنصل من الإسلام، ويستحضر أساطير الكرد الأولين؛ "نحن أبناء الشمس والنار".
تُرى؛ بماذا كان سيختلف، هؤلاء، عن "الدواعش"، لو أتيحت لهم قوة كقوتها؟ إنهم، يمارسون الإرهاب الأعمى ضد أناس يؤيدون قضيتهم. محامون فاشلون لقضية عادلة، كنت أقول، كلما رأيتهم يتهجمون على الصحافيين، أو قرأت ما يكتبون، وفي ظني، أن ما يحدث مجرد سلوكيات فردية، تسيء لكفاح الكرد القومي التاريخي، من أجل حقهم في تقرير المصير، على أرض وطنهم.
لكن، الأمر أبعد وأخطر، على ما اتضح لي من قرائن أخرى، بينها تجربة تهديد شخصي تعرضت له، واضطرني إلى مغادرة عين العرب؛ فهؤلاء، وباختصار، ينتمون إلى أحزاب كرديةٍ بات قادتها يتصرفون، وفق منطق ميكافيلي، يتناقض مع مبرر وجودها، كقوى ثورية تحررية، وما عادوا يتحرّجون من التنسيق والتعاون الأمني مع نظام بشار الأسد، وبيعه خدمات تضر بالثورة السورية، بينما يتعاون بعض رفاقهم مع إسرائيل نفسها.
2- فتش في عين الغرب:
ما زال تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" يخطف أضواء العالم، أو لعلها هي التي تخطفه، حتى ليبدو كأنه العنوان الوحيد للإرهاب، في هذه المنطقة من العالم، وكأن القوى الأخرى المتصارعة، كلها، حمائم، لا تفعل سوى الغناء للسلام.
نظام بشار الأسد، وحزب الله، وجماعة الحوثي، وكتائب أبو الفضل العباس، وسواهم، يفعلون يومياً مثل الذي يفعل "داعش"، وأكثر. يجتاحون المدن، ويقتلون، ويعذبون الناس. لكن، من دون أن يفاخروا بقطع الرؤوس، أمام الكاميرات، فلا يكترث المجتمع الدولي بجرائمهم الوحشية، ولا يُجيش الجيوش، للحرب عليهم، بل إن الولايات المتحدة الأميركية، ودول أوروبا الغربية، تؤازر، أحياناً، بعض هؤلاء، وأمثالهم، ضد آخرين، وفق ما يتسق مع مصالحها، وطبعاً تحت شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان.
خذ مثلاً، ومرة أخرى، هذا الذي يحدث، الآن، في عين العرب "كوباني"، وكيف أن التحالف الدولي يكرس قوته، لنصرة قوى كردية، كان الغرب يصنّفها، ولا يزال، في قوائم الإرهاب. طائراته تقصف مواقع "داعش"، وتدحر مقاتليه، عن وسط المدينة، ثم تغيب، فيتقدمون من جديد. وبين الكر والفر، تعود لتلقي بالأسلحة، والذخائر، إلى المقاتلين الكرد، من الجو، فيحدث أن تسقط صناديق المساعدات، بالخطأ، بين أيدي مقاتلي "داعش"!
هل قالوا بالخطأ؟ ومن يدري، إن كانت الحقيقة كذلك فعلاً، أو أن المراد إطالة أمد المعركة المستمرة منذ ثمانية وثلاثين يوماً، إلى أن تنجر تركيا إليها، وتتورط في ما يهدد استقرارها. فتش في عين الغرب، قلت على شاشة "الجزيرة"، وأقول، الآن، إن شئت أن ترى، من تكون قرتها التي يجب أن تظل وحدها، آمنة مستقرة، بينما يتفتت كل جوارها، ويقتتل.
ثورة الجياع غير ثورة الكرامة. هذه حقيقة يجب الالتفات إليها. قبل نحو أربع سنوات، انتفض الشعب السوري لكرامته، قبل كل شيء، كانت الشعارات التي رفعتها حشود المتظاهرين تنادي للحرية. هل ننسى شعار: الله سورية، حرية وبس؟ وكان الرد الباكر من النظام على لسان المتحدثة باسم الرئاسة، بثينة شعبان، أن أعلنت عن زيادة في الرواتب، زيادة تافهة، قياساً بمستوى الرواتب والأجور، وحتى بنسبتها إليها. لم يكن الشعب قد خرج إلى الشوارع، من أجل لقمة العيش، فعلى الرغم من القلة وتدني المستوى المعيشي لغالبية الشعب السوري، لم يكن الفقر في سورية يحمل أنياباً، لم يكن يعضّ، لكنه كان يؤجج مشاعر الهوان، ويزيد في إضرام نيران الإحساس بالظلم وهدر الكرامة، عندما كان المواطن يرى ويلمس كل يوم ازدياد البون بينه وبين شريحة من الأثرياء، يزداد ثراؤها ويزداد فجورها في الوقت نفسه، فرأس المال الذي نما بسرعة قياسية، وتبرعم مثل فطور فوق مستنقعات من الفساد، كان وثيق الصلة بالسلطة، وكان يعرف كيف يعقد التحالفات مع أركان النظام. رؤوس أموال تتكدس على حساب كرامة الشعب، قبل لقمته.
لكن، الوضع تغير الآن. الآن، ليست سورية تلك التي كانت قبل سنوات أربع. سورية نفسها يعضها الجوع، تنهشها أنياب الفاقة، تقطّع أوصالها سيوف الجحود والكفر، تحرق زيتونها براميل غبية، تشعل غلالها صواريخ حاقدة. سورية لم يعد أمام أبنائها خيار سوى الالتحاق بفيالق الحرب، من يبايع داعش، ومن يلتحق بكتائب النظام، يهددهما، ويهدّهما الجوع وانسداد الأفق.
سورية تجوع بمن بقي فيها ينتظر موته، ومن غادرها إلى مخيمات الحاجة والإذلال. قبل أربع سنوات، كان مرتب الموظف الحكومي من الدرجة الأولى، يعني في أعلى سلم الرواتب والأجور، بعد ثلاثين سنة من الخدمة بين 800 وألف دولار. صار، اليوم، يعادل 250 دولاراً تقريباً، هذا بعد 30 عاماً من الكدّ والتعب والجهد. صار الرغيف هو ما يسد الرمق، وغلا ثمنه. الزيتون والزيت والسمن والسكر والأرز والقمح والحبوب والبقول والشاي، هذه المواد عناصر المؤونة المنزلية ومفردات العيش للمواطن السوري العادي، صارت تكوي مرتين، مرة بالمغامرة بشرائها، ومرة بالحلم المستحيل بها. الأرض السورية الخيّرة استبيحت، فلم تعد تنبت فيها الحياة إلاّ بمقدار، الخضر والفواكه جميعها جُنّت دفعة واحدة، حياة عاقر يعيشها المواطن السوري، وفوق هذا، يقع بين أيدي تجار الحروب والأزمات، حتى السلل الغذائية التي توزع على النازحين تباع في السوق السوداء.
سورية الخيّرة التي كان الناس يشترون فيها الخضر والفواكه الموسمية من سوق الخضر بالصناديق، صار بائعوها، اليوم، يستخدمون الموازين الرقمية التي تقارب دقتها موازين الذهب، وصار المواطن يحسب كم لقمةً، يمكنه أن يقدم لكل ولد من أولاده من هذه المادة، أو تلك، ويحسب ثمنها، ثم يطلب من البائع أن يكيل بالمال وليس بالوزن. أعطني بـ 200 ليرة بامية. فكيلو البامية الخضراء في موسمها بخمسمائة.
"
ثورة الجياع شيء آخر غير الثورات الأخرى، قد تبدو ثوراتنا، بكل ما حصدت، مترفة تجاه ثورة جوع
"
لم يكن منظر النباشين غريباً فيما مضى. لكن، الغريب أنهم ينبشون، اليوم، ليأكلوا بينما كانوا يجمعون الخردوات فيما مضى. بلى، في سورية رأيت أطفالاً وكباراً ينبشون في الحاويات، ويستخرجون أشياء يضعونها بلهفة في أفواههم ويلتهمون. في سورية، يسرح الشحاذون في الشوارع من كل الفئات العمرية، يطلبون ثمن رغيف، الطفل يقول لك: أنا جوعان، أعطيني حق سندويشة. هذه هي سورية المدمرة الجائعة التي تكالبت عليها كل القوى الطامعة، ودفعت بزبانية الموت إليها. سورية المستباحة التي اشتغل عليها الإعلام، الموجه على مدى أربع سنوات، ليفتت المجتمع، ويؤجج الضغينة والثأرية والغرائز، تجوع بينما العالم بأنظمة قوته يتحالف لمحاربة بدعة وحشيةٍ، صنعوها ودججوها بعقائد الموت، وموّلوها من موارد لا تنضب، ويتحالفون ليدفعوا المليارات في حربهم الخلبية، بينما الشعب يجوع.
إذا لم يبق مجتمع على ماذا تراهنون؟ من سيبني دولة ومؤسسات؟ من سيحمي مفهوم الوطن والمواطنة؟
واربتم الحقيقة، وكنتم أكثر الناس اطلاعا عليها، أشحتم بوجوهكم عن الفئة المارقة التي تسللت، باكراً، إلى صفوف الشعب، حتى استفحلت واستفشرت، وصارت الخطر الأكبر على الإنسان وحقوقه في هذا الوطن. نسيتم أن شعاراتكم هي الحرية، وأنتم تعرفون أنها فاشية دينية، خطرها أكبر من كل الفاشيات، وأنها عدوة الحرية. تركتم هذا الغول يكبر، ويزداد تغوّله على حياة الشعب، اجتمعتم ونصّبتم أنفسكم أوصياء عليه، وانفصلتم عن الواقع، والشعب يُطحن ويعجن ويخبز، بأيد تتناوب عليه. لم تلعبوا سياسة، موالاة ومعارضة. لعبتم بالشعب وبمقادير الناس وأرواحهم وحيواتهم، لعبتم بأرض الوطن، ومؤسسات الدولة التي هي ملك للشعب، حتى لو كان من يديرها نظام تفرد في الاستبداد، حتى ثار الشعب عليه.
ها هو الشعب يتمزق ويتبدد في بقاع الأرض، ومن بقي يعود إلى الوراء، يمشي بعكس التاريخ، ينكص نحو بريته، يقترب شيئاً فشيئاً من غريزيته. الشعب يجوع، والجوع كافر، بل "أبو الكفار". ثورة الجياع شيء آخر غير الثورات الأخرى، قد تبدو ثوراتنا، بكل ما حصدت، مترفة تجاه ثورة جوع.
قليلون من توقفوا لحظةً، من أجل أن يتأملوا الأحداث، ويقرأوها ويرصدوا أخطاءهم. أغلبهم ماضون في قصورهم وتعنتهم، ومنهم في غيهم، وبعضهم في انبطاحهم لأرباب مصالحهم، ومن يدفعون لهم.
ثورة بلا غطاء فكري، أو برنامج، أو خارطة طريق، كان لا بد لها أن تتشتت، وأن تنزلق إلى مزالق خطيرة، مثل الذي حدث ويحدث في سورية. تُرك الشعب ليكون حقل تجارب، وتتلقفه المصالح العمياء التي لا ترى غير أنانيتها، وتبث أفكارها، وتؤدلج بما يخدم هذه المصالح، ليكون الشعب أداة في سياساتها. أصيب المجتمع السوري في بنيته، بدلاً من أن تُقدم له أسباب المناعة، لكي يتخلص من أمراضه الموروثة، قدمت له السموم ليدخل في نوبات من الهستيريا الجماعية والحقد والثأرية. الثأر من أي شيء، من الآخر، من الأرض، من الدولة، من الحاضر، من المستقبل، كله تحت شعار مضلل: الشعب يريد إسقاط النظام. كل مواطن استفاق وعيه كان يريد إسقاط النظام. لكن، ما الذي قدمتموه لكي يسقط النظام؟ وهل النظام يتركز في شخص وحيد، أم إنه مجموعة من الأنظمة المتشابكة، المحبوكة بعضها ببعض، على مر عقود من الاستبداد؟ آن لكم أن تراجعوا أنفسكم، وتعترفوا بأخطائكم التي ساهمت بمسؤولية كبيرة في دفع البلاد إلى ما هي عليه، أن تقتنعوا، كما كتب الكاتب خطيب بدلة، في مقالته في (العربي الجديد) يوم الأحد 12/10/2014:
"وأما أنا، فقد وصلت إلى قناعةٍ مفادها أن أكبر خطأ ارتكبناه، نحن الثوار السوريين، هو إضاعة الوقت في الحديث عن إسقاط النظام، ولم نكلف خاطرنا بمناقشة المسائل الأساسية الكبرى التي تعطي للثورة ملامحها، وترسم شخصيتها، وتوصلها إلى إسقاط النظام فعلاً، وهي المتعلقة بدستور الدولة المقبلة، بعَلمها، باسمها، بمصادر التشريع فيها، وبكل آليات تداول السلطة فيها".
بعد انهيار المجتمع، وتردي الوعي إلى الدرك الأخير، واستلاب الجوع للأجساد والنفوس، وتهديده حياة المواطنين السوريين، لن يكون هناك مفر من انتقام الجائعين، لن يكون مفر من هياج غريزتهم بأعتى صورها وممارساتها. ثورة الجياع أوشكت أن تندلع، فمن يغيثك أيها الوطن المذبوح؟
الحرب المعتمدة على ضربات جوية لفترة طويلة ومفتوحة، من دون تغيير في المواقع على الأرض، قد تأتي بتطوّرات مفاجئة وخطيرة وتتسبّب بإرباكات إضافية لـ «التحالف» الدولي... هذه خلاصة تقديرات لسياسيين وعسكريين، عرب وغربيين، خصوصاً إذا كان تنظيم «داعش» يحتاج إلى عاصمة ما لتدعيم عناصر «دولته». فهو يواصل من جهة الإيحاء بأن هجومه على بغداد «وشيك» وأن معركته الكبرى المقبلة ستكون ضدّها، فيما تتوالى تأكيدات عراقية وأميركية وحتى إيرانية بأن الإجراءات المتخذة كفيلة بصدّ أي هجوم وإفشاله. ومن جهة أخرى، وبمعزل عما ستفضي إليه معركة عين العرب (كوباني)، قد يجد «داعش» أن في مناطق سيطرة المعارضة السورية شمالاً، وفي انقساماتها وضعف قواتها، وضعاً مناسباً يغري باجتياحها، ليضع بعدئذ مقاتليه أمام خيار الزحف نحو دمشق.
هذا الاحتمال وارد، في رأي الخبراء، وسواء كان ممكناً أم لا، فإنه ينطوي على تهديدٍ للنظام السوري، بالتالي فإنه يتيح اختباراً أخيراً لـ «داعش» وهل يمكن أن يستهدف النظام لإسقاطه خلافاً لمؤشرات سابقة إلى تنسيقه معه، بمقدار ما قد يمتحن إمكان مدّ الإدارة الأميركية يدها، في مرحلةٍ ما، إلى هذا النظام الذي سبق أن عارضت، بل أحبطت إسقاطه بأيدي المعارضة، منتصف عام 2012، معتبرةً أن معادلة ميدانية «متكافئة» من شأنها الضغط على بشار الأسد للقبول بـ «حل سياسي»، لكن النظام توصل لاحقاً إلى نسف هذا «الحل» عبر تغيير «المعادلة» بمساندة مباشرة من الإيرانيين و «حزب الله» وميليشيات عراقية.
ومنذ عودة الأميركيين وسواهم إلى العراق، في حرب أخرى عنوانها «الإرهاب»، تزايدت في الغرب الآراء والأصوات التي يدعو أصحابها إلى عمل ما يلزم لتجنّب إرسال قوات للقتال على الأرض، ويطرحون تساؤلات، أو «مبادرات» خارج المألوف، تعكس اقتناعاً عاماً بأن لا هذه الحرب ولا تلك التي سبقتها ستتمكّن من القضاء على هذه الظاهرة التي تنتمي، في نظرهم، إلى مجتمعات لم تفعل الشيء الكثير لإنهائها. ويمكن إجمال هذا النقاش في أربعة اتجاهات:
الأول يعبر عنه التساؤل هل يجب أن/ أم يجب ألّا نقصف «داعش»؟ والمنطلقات هنا أخلاقية في الحالين: فالقصف واجب لدى فريق عملاً بـ «مبادئ» الغرب وقيمه، والقصف غير واجب لدى فريق آخر لأنه يعني، شكلاً وموضوعاً، قتلاً جماعياً بـ «عقلية إبادة» طالما أن لا هدف له سوى القتل. لكن الجرائم التي يرتكبها «داعش» ضد الأقليات والنساء والأفراد المشكوك بمبايعتهم «الخليفة»، فضلاً عن حملات عسكرية كالتي يخوضها ضد عين العرب أو مواقع في الأنبار، تبرر التصدّي له ووضع حدٍّ لدمويته.
والثاني قد يتجاوز الوسيلة (القصف) ليسائل الهدف، فهل يمكن قتل جميع «الدواعش» وهل القضاء عليهم ينهي ظاهرة الإرهاب، وما الذي يضمن ألّا تولد تنظيمات «ما بعد داعشية» على درجة غير متصوَّرة من الهمجية والوحشية، واستطراداً كيف ومتى ستبدأ مواجهة الأطراف (دول وأنظمة وحكومات وأجهزة ومرجعيات دينية) التي لعبت أدواراً في زرع بذور التطرّف ورعايتها ثم استخدامها في صراعات السياسة والنفوذ. ويشار في هذا المجال إلى أن الخطاب «التحالفي» بدأ يستعيد كل ما قيل سابقاً عن «المعركة الأساسية»، غير العسكرية التي تطمح وفق باراك أوباما إلى مواجهة «منظومات التطرّف المتجذّرة في أجزاء من المنطقة العربية» مستفيدة من الطائفية والانقسام السياسي. وخلال زيارة وفد الجامعة العربية لبغداد، قبل أيام، أشار الأمين العام نبيل العربي إلى أن «المواجهة العسكرية جزء من مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف»، مشدداً على ضرورة أن «تكون المواجهة عقائدية وفكرية واقتصادية شاملة». ويبدو هذا الكلام وريثاً لما تردد قبل عشرة أعوام عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية، بصرف النظر عما يعنيه أو ما إذا كان «الربيع العربي» إفرازاً غير موفق للطموحات التي سبق تحديدها.
والثالث يدعو إلى اعتماد استراتيجية قوامها «ضرورة التحدث إلى الإرهابيين» أو على الأقل إلى البدء بالتفكير فيها، وهو توجّه يتحمّس له سياسيون وخبراء محترفون أو لدوافع «بزنسية» لترويج خبراتهم أو لتجريب بدائل متى بدا أن الخيار العسكري لا يحقق النتائج المتوخّاة أو لمجرّد طرح «أفكار باردة من خارج الاستراتيجيات المتّبعة»، كما جوناثان باول الذي استند إلى تجربته في التفاوض مع «الجيش الجمهوري الإرلندي» بتكليف من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وإلى تجارب أخرى في جنوب أفريقيا وإندونيسيا. غير أن مجمل الحالات التي عرضها كنماذج في كتابه «التحدث إلى الإرهابيين» لا تشابه الحال التي يمثلها تنظيما «داعش» و «القاعدة»، فالمراد أن يقود الحديث إلى التفاوض، والتفاوض إلى اتفاق، والاتفاق يتطلّب تنازلات متبادلة، لذلك فهو يمكن أن ينجح عندما يتعلّق بفريق يلجأ إلى العنف للحصول على حقوقه التي تجاهلها فريق آخر في البلد نفسه، وعلى قاعدة احترام الاثنين واعترافهما بالدولة والمؤسسات. أما بالنسبة إلى «داعش» وأشباهه، فهو يريد «إمارته» أو «دولته» وليس عند الطرف الآخر ما يتنازل له عنه. ولعل التجارب الوحيدة التي توصلت إلى نتائج كانت تلك التي تم تبادل فيها الأسرى (أميركا مع «طالبان»، نيجيريا مع «بوكو حرام»، كمثال). لكن يعتقد البعض أن التفاوض مع عسكريين وعشائريين عراقيين قد يكون خياراً متاحاً، لأنهم انضموا إلى «داعش» اضطراراً أو بحكم الأمر الواقع، وليس عسيراً البحث في مطالبهم إذا أمكن التعامل معها في إطار الدولة والعملية السياسية.
أما الرابع، فهو اتجاه غربي لا يمانع أصحابه سراً أو علناً، وبينهم سياسيون منتخبون وشخصيات ذات حيثية لدى الرأي العام، «العمل مع الأسد ونظامه» لأن في ذلك مصلحة، ومن الواضح أنهم يميلون بسهولة وسرعة إلى نسيان جرائم هذا النظام، فقط لأنهم تقبّلوا أن يذبح «شبّيحته» آلاف السوريين فيما لم يظهر أيٌ منهم في شريط مصوّر كذاك «الداعشي» الذي ينحر صحافياً أميركياً أو عامل إغاثةٍ بريطانياً. ولعل هذا التوجّه يندرج في السياق العام الذي أظهر خلال أربعة أعوام، تكيّف المجتمع الدولي مع عجزه عن حماية الشعب السوري وعن محاسبة النظام وقتلته، كذلك مع فكرة لا تنفك تشيع وهي أن «الديكتاتورية أفضل من داعش» وكأن مصير سورية وشعبها بات ينحصر بين هذين الخيارين المقزّزين. وكان نظام الأسد حظي منذ بدء أزمته بجدار حماية تضافرت على تأمينه روسيا (التسليح) وإيران (القتال المباشر) وإسرائيل (الديبلوماسية الصامتة وإحباط فكرة تسليح «الجيش الحر»)، كلٌ لأسبابها وأهدافها المتقاطعة وأحياناً المتعارضة، فيما تولّت أميركا إدارة الأزمة من وراء هذا الجدار. وعلى رغم يقين هذه الأطراف بأن النظام لعب دوراً فاعلاً في اجتذاب «داعش»، بعدما خذلته «جبهة النصرة»، إلا أن «الحرب على داعش» باتت تشكّل في نظرها الفرصة الأخيرة لاستبقاء النظام أو قطع منه لا تزال قابلة للاستخدام في ترتيبات ما بعد الحرب.
في أي حال، يمكن القول إن «داعش» الذي رسم جغرافيا أولية لـ «دولة الخلافة»، باستيلائه على المحافظات السنّية في العراق وإلغاء الحدود لربطها بمحافظتين سوريتين، أي بعبثه بخريطة «سايكس - بيكو»، ربما أسدى خدمةً لأطراف دولية أو إقليمية تتطلّع الى تغيير خريطة الشرق الأوسط. ذاك أن «داعش» وفّر الذريعة لهذه الأطراف، وفي طليعتها إسرائيل والنظام السوري، فضلاً عن إيران. ولولا الملف الكردي الشائك وتداعياته المحتملة على خريطة تركيا نفسها لما أبدت هذه أي حذر أو تخوّف من أي تغيير. أما الذريعة، فهي أن ظاهرة «داعش» رسّخت ما بدأته ممارسات النظام السوري من جعل التعايشات الوطنية مستحيلة. كما أن «داعش» يطرح «دولته» كـ «حلّ» لمناطق السنّة التي لا تريد استعادة حكم تحت الهيمنة الإيرانية، سواء في سورية أو في العراق. وفي غياب بدائل واضحة حالياً، رغم محاولة المبعوث الأممي ستيفن دي ميستورا طرح «حل سياسي» في سورية، فإن الدعوات إلى التحدّث مع الأسد أو مع «داعش» توحي بأن أي تسوية لاحقاً ستأخذ هذين الاثنين في الاعتبار.
تأخرت تركيا كثيرا في اكتشاف أن إيران، بتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لسوريا، تستهدفها وتستهدف وحدتها وأمنها واستقرارها ومكانتها في هذا الإقليم والمنطقة كلها، لكن لا بأس فالمثل يقول: «أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا». والحقيقة أن إيران، التي يحكمها منذ عام 1979 معمَّمون أصحاب «تقية»، هي التي دفعت رجب طيب إردوغان وزملاءه في نظام حزب العدالة والتنمية إلى الخروج عن صمتهم، الذي استطال أكثر من اللزوم، والرد على اتهام طهران لبلدهم بالسعي نحو فكرة العثمانية الجديدة على خلفية موقف أنقرة من الملف السوري والأزمة السورية المستفحلة.
والمعروف أن نظام حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان، بقي، بالنسبة إلى الدور الخطير جدا الذي لعبته إيران في الأزمة السورية واستمرت في لعبه حتى الآن، يغلب المصالح الاقتصادية على المواقف السياسية وبقي يضع رجلا في الفلاحة والرجل الأخرى في البور حفاظا على هذه المصالح، وذلك إلى أن طفح الكيل وإلى أن تمادى الإيرانيون في اللعب بالساحة التركية وتجاوزوا الخطوط الحمراء كلها، التي من المفترض ألا تتجاوزها طهران لو أنها بالفعل حريصة على علاقاتها «الأخوية» مع دولة «شقيقة» تربطها بها علاقات كثيرة.
وهكذا، فإنه ما كان من الممكن أن تنفجر الأوضاع بين هذين البلدين لو لم يتجاوز الإيرانيون في استهدافهم الأوضاع الداخلية التركية كل الحدود وتضطر أنقرة إلى دعوة طهران إلى الصمت «خجلا» بسبب دعمها النظام السوري، وحيث قال الناطق باسم الخارجية التركية، طانجو بيلغيج، إن تركيا غير مضطرة إلى أخذ إذن من أحد عند اتخاذ التدابير اللازمة حيال ما يهدد أمنها القومي. ولعل ما يدل على كم أن الأوضاع باتت متوترة بين هاتين الدولتين وأنها اقتربت من الانهيار الحقيقي، أن هذا المسؤول التركي وجه اتهامات مباشرة لإيران بقوله: «كنا ننتظر من دولة داعمة لنظام دمشق، المسؤول الحقيقي عن ولادة مصيبة الإرهاب المحيط بنا وتفاقمها لهذا الحد، أن تلتزم الصمت، على الأقل من باب الخجل حيال الكوارث الإنسانية في المنطقة، وفي مقدمتها كوباني».
ولعل الأكثر وضوحا على مدى تردي العلاقات بين هذين البلدين، أن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو لم يكتفِ بالطلب من إيران، في حديث لفضائية عربية، يوم الأربعاء قبل الماضي، سحب قواتها من سوريا، بل هو تعدى هذا إلى القول في أول تصريح لمسؤول تركي بكل هذه الحدة وبكل هذه الصراحة: «إن جهود الإيرانيين لتشكيل إطار شيعي (هلال شيعي) أمر سيزيد التوتر السني والشيعي والصراع الطائفي»، محذرا من أن هذا التعاطي المذهبي هو السبب في بروز التيارات المتطرفة بالمنطقة.
وبالطبع، فإن ما لا خلاف عليه هو أن ما جعل طهران تتجاوز كل الخطوط الحمراء وتتهم تركيا بـ«السعي نحو فكرة العثمانية الجديدة في المنطقة» هو الموقف المستجد المفاجئ الذي اتخذه رجب طيب إردوغان، بعد تردد طويل إزاء الأزمة السورية المتفاقمة استمر نحو أربعة أعوام، بإعلانه، والإصرار على هذا الإعلان، ضرورة إسقاط نظام بشار الأسد «لأنه وراء استدراج الإرهاب إلى هذه المنطقة» ومطالبته بمنطقة محمية (عازلة) داخل الأراضي السورية بالقرب من الحدود التركية لنقل اللاجئين السوريين في بلاده إليها مع فرض حظر الطيران العسكري فوق هذه المنطقة.
إن هذا في حقيقة الأمر هو ما جعل إيران تبادر إلى هذا الهجوم الكاسح وتتهم تركيا بـ«السعي نحو فكرة العثمانية الجديدة في المنطقة»، كأنها هي لا تسعى، ليس الآن وإنما منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979 وقبل ذلك، إلى إحياء «أمجاد» الإمبراطورية الفارسية القديمة! كأنها لا تعتبر نفسها امتدادا للدولة الصفوية! وكأنها أيضا لم تقرن الأفعال بالأقوال وتلجأ إلى كل هذا التمدد الاستخباري والعسكري (الاحتلالي) والسياسي في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن! وكأنها لم تحاول احتلال مملكة البحرين! وكأنها لا تفعل كل هذا الذي تفعله في هذه المنطقة كلها ولا تتدخل كل هذا التدخل في الشؤون الداخلية لمعظم الدول العربية!
إنه ما كان من الممكن أن يتجاوز رجب طيب إردوغان كل الحواجز وأن يتخلى عن تردده السابق، الذي استمر نحو أربعة أعوام، ويعلن تصميمه على إسقاط نظام بشار الأسد - لو أنه لم يتأكد وبالأدلة القاطعة والحاسمة أن إيران تمادت كثيرا في اللعب بالساحة التركية وفي التدخل في شؤون هذا البلد الداخلية، وأنها في حقيقة الأمر قد تمكنت من تحويل سوريا هذا النظام إلى رأس جسر متقدم لها في هذه المنطقة؛ على غرار رأس الجسر الإيراني المتقدم الذي أقامه «حزب الله» في لبنان، ورأس الجسر المتقدم الذي أقامته «حماس» في غزة، ورأس الجسر المتقدم الذي أقامه «الحوثيون» في اليمن.. ورأس الجسر المتقدم الذي كان أقامه عمر حسن البشير على شواطئ البحر الأحمر السودانية.
لقد أدرك رجب طيب إردوغان بعد نحو أربعة أعوام من المماطلة والتردد أن عدم إسقاط نظام بشار الأسد سيجعل إيران، بتطلعاتها الصفوية وبأحلامها الفارسية وبإصرارها على التمدد في كل الاتجاهات بعد سيطرتها على العراق وسيطرتها على سوريا وسيطرتها أيضا على لبنان وعلى اليمن، إمبراطورية تحادد بلده من الجنوب، والمؤكد أنه يعرف أن دولة الولي الفقيه قد حققت اختراقا كبيرا في تركيا من خلال احتوائها غالبية العلويين الأتراك «العرب»، وأنها هي التي حركت هؤلاء لإثارة أحداث الشغب السابقة واللاحقة في إسطنبول، وأنها هي التي قامت بتجنيد نحو أربعة آلاف من شبان علويي تركيا «العرب» للقتال ضد الثورة السورية دفاعا عن نظام بشار الأسد، وأن هؤلاء وغيرهم سيتحولون إلى ثورة مضادة داخل الدولة التركية، وكل هذا والمفترض أن المعروف أن الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، قد تمكن من إحداث اختراقات كبيرة ومؤثرة في صفوف مقاتلي حزب العمال الكردستاني - التركي من خلال ما يسمى «الاتحاد الوطني الديمقراطي» الكردي الذي تم تنشيطه مع بدايات انفجار الأزمة السورية بإشراف مخابرات بشار الأسد التي باتت تعتبر تابعة للمخابرات الإيرانية وجناحا من أجنحتها العاملة في هذه المنطقة.
ولهذا، فإن تركيا، خلافا لما يريده الأميركيون، بادرت إلى رفض تسليح أكراد مدينة كوباني الذين هم أكراد أتراك كلهم ومن دون أي استثناء والذين هم في حقيقة الأمر من مقاتلي حزب العمال الكردستاني - التركي الـ(P.K.K) الذي جدد علاقته بالمخابرات السورية ومن ثم بالمخابرات الإيرانية، ولذلك فإن مع رجب طيب إردوغان كل الحق عندما يرفض تسليح مقاتلي الحزب الديمقراطي الآنف الذكر، وذلك لأنه يعرف أن إيران تعتبر هؤلاء رأس جسرها في جنوب شرقي تركيا، على غرار اعتبار العلويين رأس جسرها في الجنوب الغربي - إنْ داخل الأراضي التركية في أضنة والإسكندرون وإنطاكيا، وإنْ داخل الأراضي السورية في جبال النصيريين وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط في اللاذقية وبانياس وطرطوس.
ولذلك واستنادا إلى هذا كله، فإن مسألة إسقاط نظام بشار الأسد أصبحت بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مسألة دفاع عن النفس ومسألة دفاع عن تركيا، التي غدت مستهدفة بالتمدد الإيراني الصفوي بتطلعات فارسية، وهذا يعني أن معادلات الأزمة السورية قد أصبحت مختلفة عن معادلات بداياتها، وأن الصراع في هذه المنطقة بات يتخذ طابعا جديدا ومن ثم فإنه لم يعد بإمكان الأتراك الاستمرار في هذه اللعبة بالطريقة السابقة.