خلافاً لآمال عقدت، وتمنيات بكسر جمود سياسيّ راكم مأساتهم وعمق جراحهم، وأطال تغريبتهم الممتدة منذ أربع سنوات، لم يحدث تشكيل تحالف دولي لمواجهة داعش وبدء الضربات الجوية في سوريّة تغييرًا جوهريًا في مسار الصراع ودينامياته. فالتحالف المنشأ، وكما بدا جليًا، كان تحالف الضرورة لا الاختيار، أنشئ سريعاً من دون استراتيجيّة متكاملة، وركز على تكتيكات عسكريّة، لمواجهة ظاهرة بالغة التعقيد كداعش، خلقت، أصلاً، في ظل عسكرتاريا طائفية.
غداة تشكيله، كتبت في "العربيّ الجديد" مقالة بعنوان "مستقبل التحالف الدولي في سورية"، خلصت فيها إلى "أن التحالف الدولي القائم، قائم على تناقضات دوله. وأن تناقضاته ستبقى رماد تحت جمرٍ، لا يعرف متى تنفخ الرياح فيها". لم تتأخر الرياح طويلاً، وهبت عاصفة من عين العرب- كوباني، فنفخت في جمرٍ أذكت ناره الأضداد، وهشّمت صورة التحالف ومرتكزاته.
كانت معركة عين العرب- كوباني فخاً نصبه داعش للتحالف، قبيل بدء الضربات. فالتنظيم، قرأ بتمعن مواقف دوله وتوجهات سياساتها الخارجية وتضاد مصالحها، كما توضح في اجتماع جدة 11 سبتمبر/أيلول، ومؤتمر باريس 15 سبتمبر/أيلول الماضي، ولعب على وتر التناقضات بأن حصر أولوياته السورية عسكرياً في اقتحام المدينة ذات الغالبية الكرديّة، والتي تعد عصب مشروع الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، خشية توظيف الأكراد في قتاله، على غرار ما جرى في شمال العراق.
وعلى الرغم من أن تدمير الإدارة الذاتية، وإضعاف (PYD) عسكريًا، يصبان عملياً في مصلحة تركيا، فإن الأخيرة لم تكن مرتاحة لاستبدال خطر بخطر أكبر، لاسيما وأن داعش اكتسب زخما عسكرياً في الشهور الأخيرة، مكّنه من تغيير خارطة المنطقة برمتها. ولتعظيم منافعها، حاولت تركيا تقليد سلوك الإدارة الأميركيّة في العراق، بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، والتي "وظفت" تقدم داعش، آنذاك، لإطاحة المالكي وكسر الهيمنة الإيرانيّة المطلقة على القرار العراقيّ، فأصبح تدخلها، ودورها "حاجة" لا يمكن الاستغناء عنها، لمواجهة التنظيم وطرده. وبناء عليه، وضمن فهمها لدورها ولأهمية موقعها الجغرافيّ، طرحت تركيا شروطها للتدخل في سوريّة؛ بإقامة منطقة آمنة، وحظر جويّ، ووضع هدف "إسقاط الأسد" في أولويات التحالف، لكن مسعاها اصطدم ببراغماتيّة أميركيّة أفشلته. وبدل مراعاتها وتفهم هواجسها، تجاوزت الإدارة الأميركيّة تركيا آنيًا، وفتحت اتصالات مع حزب الاتحاد الديمقراطيّ، ونسّقت مع ذراعه العسكري المتمثل بوحدات الحماية الشعبية (YPG)، ومدته جوًا عبر طائرات سي – 130 بحمولات تتضمن أسلحة ومواد غذائية وطبية، فأعاقت تقدم مقاتلي داعش، ومنعت سقوط المدينة، من دون أن تنجح في إزالة التهديد نهائيًا، ما دفع تركيا لتبني الخيار (ب)، والقائم على تقليص الخسائر واستبدال "العدو" بـ "صديق مكروه"، فأعلنت موافقتها على عبور مقاتلي البيشمركة إلى عين العرب – كوباني عبر أراضيها.
"لتعظيم منافعها، حاولت تركيا تقليد سلوك الإدارة الأميركيّة في العراق، بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014"
لا شك أن ضربات التحالف اليوميّة خلفت خسائر كبيرة في عتاد داعش وعديده، لكن الأخير كسب أولى الجولات وأهمها، فقد عرّى التحالف وأهداف دوله، وخصوصاً الولايات المتحدة، والتي أقر رئيسها بأن "إسقاط الأسد ليس أولويّة"، في حين تحدث وزير خارجيتها، جون كيري، عن "لا أخلاقية" ترك المقاتلين الأكراد من دون سلاح، وتجاهل، بلا أخلاقيته المعهودة، نداءات قوى المعارضة وفصائلها، لتزويدها في السلاح، لمواجهة قوات النظام والمليشيات الطائفيّة المتحالفة معها، وداعش أيضًا. من جهة أخرى، بدأ الوصف الداعشيّ للتحالف بأنه تحالف ضد الإسلام، ولخدمة إيران والأسد، يترسخ لدى شرائح شعبية واسعة في سوريّة، لاسيما بعد الرفض الأميركي الشروط التركيّة، وتسليحها الانتقائي مقاتلي وحدات الحماية الكردية دون سواها. كما دفع التقدم الميدانيّ لقوات النظام، في الأسابيع الأخيرة في مواقع استراتيجية، كما جرى في حلب ومورك وريف دمشق، فصائل من المعارضة السورية المسلحة إلى إعادة التفكير جديًا بمواقفها من داعش. فعدا عن انضمام مقاتلين وقيادات في جبهة النصرة وجيش الشام للتنظيم، وتوقيعه مع جبهة النصرة وفصائل أخرى في القلمون اتفاقًا لمواجهة حزب الله والجيش اللبناني، جمدت فصائل المعارضة معظم جبهات المواجهة والاشتباك معه، كما حصل في أحياء دمشق الجنوبيّة، والغوطتين، وجبهة اخترين في حلب. إلخ. ويؤكد ما سبق، إضافة إلى مؤشرات أخرى، كالسيطرة على قضاء هيت ومعظم محافظة الأنبار، أن التحالف لم يضعف داعش، بل زاد من قوته ماديا ومعنويًا.
لا يراعي التحالف، بأهدافه المعلنة، سوى المصالح الآنية المرتبطة بالبعد الأمنيّ للولايات المتحدة، ولا يحقق أيًا من مصالح الحلفاء الإقليميين، كانوا منخرطين فيه، مثل بعض الدول الخليجية، أو خارجه كتركيا والمعارضة السوريّة التي لم تدع، أصلاً، للمشاركة فيه. كما لا يخفى على مراقب أن استراتيجية التحالف أفادت النظام السوري، وحسّنت وضعه العسكريّ والسياسيّ، وعززت موقع إيران في الساحة العراقية، بعد سلسلة من الانتكاسات. فعلى الرغم من تشكيل حكومة جديدة، برئاسة حيدر العباديّ، فإنها عجزت، حتى الآن، عن اتخاذ خطواتٍ من شأنها رفع الحيف والظلم الذي لحق بالعراقيين من العرب السنة، أو تحقيق مطالبهم المرفوعة منذ سنتين على الأقل. في المقابل، رضخت هذه الحكومة للضغوط الإيرانية، فشرعنت المليشيات الطائفية التي كانت سببا رئيسًا في الأزمة الراهنة، ورفضت الاعتراف بانتهاكاتها وجرائمها، على الرغم من التقارير الحقوقية العراقية والدولية (جديدها تقريرا هيومن رايتس ومنظمة العفو الدولية)، وساوتها في "المكانة والمحاسبة" مع الجيش والقوات الأمنية، وجمّدت مشروع الحرس الوطني، كونها ترى في المليشيات الطائفية قوة محتملة وبديلة لملء الفراغ في المناطق "السنية" التي قد ينسحب منها داعش لاحقًا. لذلك، يخشى، أن يكون التدخل الأميركي العسكريّ المتجدد، وكما كان غزو العراق عام 2003، فرصة إيرانيّة لإعادة ترتيب المنطقة، بما يتوافق مع طموحاتها الامبراطوريّة، ومشروعها التوسعيّ، وبمساهمة عسكرية ومالية عربيّة وخليجية.
في هذا السياق، الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعوديّة، مطالبة بمراجعة حساباتها وسياساتها، وتقييم نتائج تدخلها على مصالحها الوطنيّة على أساس حسابات الربح والخسارة في المنظور الاستراتيجي العام، وليس ضمن منظور المهاترات والاستقطاب الأيديولوجي القائم.
حين تستيقظ صباحاً فتجد فجأة أكثر من ستين دولة تتقدمهم أميركا لمقاتلة تنظيم لم يمر على تأسيسه سوى سنوات بذريعة نحر صحافيين أميركي وبريطاني، بينما بحور الدماء التي تسيل في كل مكان لم تُحرك شعرة في الدول اللاهثة لحجز مكان في قطار تقوده واشنطن إلى المجهول، حيث لا تحديد فيه لأولويات هذا القطار ولا محطة وصوله ولا شيء بالمواعيد، كل ما لدى السائق هو تجربة مدمرة قادت عشرات الدول إلى دول فاشلة مع تدخلها في شؤونها، مشفوعاً بدعم الاستبداد وتفضيله على الديمقراطية رغم التشدق بها للاستهلاك المحلية وإضفاء ورقة توت رقيقة على ممارسات سياسية غير أخلاقية تمتد لعقود.
وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا حسم الأمر حين تنبأ أن المعركة ستطول لثلاثين سنة، ثلاثون سنة من المعركة التي حددت زمنها واشنطن لا يُعرف أي شيء عن تفاصيلها وما عليك إلا أن تتبع الدجال السياسي الذي تعرف تماماً نتائج عمله والسجل أمامك طافح بكوارثه وجرائمه، ولنا أن نتخيل ماذا سيتبقى من المنطقة التي دمرت أصلاً وتحولت يباباً بفعل طاغية الشام، وحلفائه مع مباركة عالمية غير مسبوقة..
الدجال الذي أنبأنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام ويسوق الناس إلى جنته المزعومة والتي هي نار في حقيقتها ..ماذا يختلف سياسياً عن الدجال الأميركي - ولست هنا في وارد إسقاط الأحاديث على ما يجري واقعياً ، لكن ما نحن فيه هو استخلاص العبر السياسية فحسب- ما دامت النتيجة واحدة في المحصلتين الخراب والدمار مع شخوص تتبع دون فهم ودون مصلحة لعباد وبلاد، وهي ترى بأم عينها تسليم الحصون والقلاع يترى حصناً بعد حصن وقلعة إثر قلعة إلى إيران..بدءاً من تسليم كابول ومروراً ببغداد ثم بيروت ودمشق وصنعاء والحبل على الجرار..
هل ثمة وضوح في الرؤية أكثر مما يجري، شعوب انتفضت بعد أن اصطبرت عقوداً على كل أنواع العسف والاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري ووو لتنتفض اليوم ضد هذا الاستبداد فيواجهها الاستبداد المحلي بالقتل والسحل والبراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية المحرمة الاستخدام بحق مدنيي الأعداء، فضلاً عن الكيماوي، ثم التحالف الشيطاني من داخل وخارج، وعرب وغرب على هذه الشعوب المنتفضة التي ذنبها شعار تصرخ به" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"..
يحرص الدجاجلة المحليون والخارجيون على تقعيد وتفسير الأمور بما يلائم ويوظف استبدادهم وطغيانهم من أن المنتفضين إرهابيون ومجرمون ويعملون على تشويه الإسلام، وكأن الأميركي والبريطاني والإيراني والعربي المتحالف معهم يحرصون على نقاء الإسلام كما يزعمون، لكن بعد تطهير الإسلام من كل مسلم لا يؤمن بجنتهم المزعومة والتي تعني الاستبداد والقمع، مقابل التخلي عن جنته التي هي الحرية والتي يقدمها تحالف الدجاجلة على أنها نار وشنار، شعارهم إما نحن أو الفوضى والخراب والدمار والقتل ..
تسونامي الخراب والدمار الذي أخذه على عاتقه تحالف الدجاجلة للأسف لم يقتصر على الشعوب التي انتفضت من أجل حريتها وكرامتها وإنما بدأت بوادره في التحرك ضد جيران الدول المنتفضة أو ممن أيدها وساندها شعارهم" إنهم أناس يتطهرون" فكل من يريد أن يتطهر من الاستبداد والقمع أو يريد أن يساهم في هذا التطهير فمصيره جنة الدجال السياسي وهي الخراب والدمار والفوضى، فتركيا وقطر وغيرهما ممن وقفت مع حرية الشعوب وكرامتها تُهدد الآن بالدجاجلة السياسيين والإعلاميين والمثقفين وكل أنواع الدجل الخادم للاستبداد، كيف لا ونحن نرى الحملة الدولية الإعلامية المنسقة بين هذا التحالف على هاتين الدولتين، والضغط على تركيا من أجل الالتحاق بهذا التحالف دون قيد أو شرط إلا أنها أصرت على موقفها المبدئي بالدخول بشروطها المعروفة من إقامة المنطقة الآمنة ومنطقة الحظر الجوي وضرب الأسد وتدريب الثوار السوريين وتسليحهم، وهو ما لا يروق للمخطط الغربي ولا الإيراني، فبعد أن كان الغرب قبل الربيع العربي يُروج للنموذج الديمقراطي الإسلامي التركي ها هو ينقلب عليه تماماً ويبدأ بتسليح حزب العمال الديمقراطي المصنف إرهابياً في تركيا والذي كان حليف نظام الأسد وأياديه ملطخة بدماء الشعب السوري وهي الأسلحة التي قد تُستخدم من قبل ربيبه حزب العمال الكردستاني بداخل تركيا ...
«الرئيس (السوري) بشار الأسد، الذي يسعى باتصالاته الدبلوماسية مع (مصر) إلى إقناعها بالتوسط لدى السعودية (حليفتها) الكبرى حاليا، لتعديل موقفها المتشدّد منه ومن نظامه، وهي اتصالات موثقة. وهو يحاول الإيحاء في اتصالاته بوجود خلافات أساسية بينه وبين إيران، وخصوصا حول دور الدين في الدولة والنظام. علما بأن تجاوب مصر حاليا قد يكون مستبعدا»!
هذه رواية نعوم سركيس، في مقاله في جريدة «النهار»، الذي يملك مصداقية تجعلنا نتوقف عندها؛ فاستعانة الأسد بالقاهرة تؤكد كل ما لدينا من معلومات؛ إنه يعيش أسوأ مراحله منذ قيام الثورة في مطلع عام 2011. فهل فعلا هو على خلاف مع الإيرانيين؟ وهل القيادة المصرية مستعدة للتوسط لإنقاذ أسوأ ديكتاتور عرفته المنطقة في مائة عام؟ وهل يعقل أن تقبل السعودية أن تعيد العلاقة معه؟
ولو بدأنا من الأخير، فإنه من المستحيل أن ترضى السعودية بعقد صفقة، مهما كان الوسيط وكان عرض الوساطة، لأسباب من بينها أن هناك ربع مليون إنسان قتلهم النظام، أمر لا يمكن أن يغتفر، مهما كانت توبة الأسد. وثانيا، لقد أصبح الصراع أكبر من الأسد. ولا أستبعد أن يلجأ الرئيس السوري، المحاصر في الزاوية، إلى مصر طلبا لشفاعتها وفك الحبل عن رقبته، إنما من المستبعد تماما أن تجد رغبته صدى في الرياض.
وإذا كان الأسد حقا يحاول التغرير بالجانبين المصري والسعودي، مدعيا الخلاف مع الإيرانيين بسبب التدخلات الدينية في دولته، فإن أحدا لن يصدقه، لأنهما يدركان أنه ليس في موقع يسمح له أن يتعالى على الإيرانيين وهم من يقومون بالقتال نيابة عنه، وقد أنفقوا الكثير في سبيل إبقاء نظام البعث السوري على قيد الحياة حتى الآن. لقد فقد النظام معظم قدرات مؤسستيه العسكرية والأمنية اللتين حكم بهما البلاد طوال أربعة عقود. ودون أن تستمر إيران في دعم النظام الأسدي فإنه يسقط في ليلة.
ولقد جرّب الأسد مرات إقناع السعودية بتغيير موقفها وفشل، لأنه لا ينوي أبدا التخلي عن السلطة، حتى في إطار مصالحة تحافظ على هيكل الدولة ببعض شخصياتها الحالية. وفي المملكة رأي عام مطابق لموقف الحكومة، وحاد جدا، يستحيل أن يقبل بمصالحة مع الأسد الذي يعتبره أبشع حاكم عرفته المنطقة في تاريخها. وبالتالي لا بد من القول إن على الأسد أن ينسى فكرة المصالحة، وأن يسلك الطريق الوحيد أمامه، أن يحزم حقيبته ويرحل إلى موسكو أو طهران. وبإمكان مصر، إن كانت تشعر بشيء نحوه أو تريد مقايضته، أن تمنحه إقامة في واحد من بيوت الضيافة العديدة، مع أن ذلك سيغضب الكثيرين.
ولا شك أن الموقف المصري محير حيال النزاع في سوريا منذ الثورة، ففي البداية أيد حكم الإخوان الطرح الإيراني بمصالحة تقوم على بقاء الأسد حاكما، مع منح المعارضة مناصب هامشية في الحكومة. وموقف الإخوان ينسجم مع علاقتهم القوية مع الإيرانيين التي بدأت منذ ثورة الخميني قبل ثلاثة عقود، ولا يزال الإيرانيون الداعم الأكبر للجماعة في مصر والسودان وغزة. ثم تبنت حكومة مرسي موقفا مختلفا في آخر أيامها، قبل الثورة الثانية، أعلنها مرسي في مناسبة واحدة عندما أعلن أنه مع تغيير النظام في دمشق أمام جمع من الجماعات الإسلامية الخليجية.
والحقيقة، ما نقوله عن الخيارات لم يعد مهما، فنحن تجاوزنا مرحلة النقاش حول النظام السوري، لأنه بات شبه منهار، ويعيش على الدعم العسكري الإيراني بشكل كامل. وهو الآن يحلم بمعجزة ما تمد في عمره في الحكم. وأنا أظن أن المعجزة الباقية أن يوسط الأسد الرئيس المصري للسماح له بالخروج من دمشق، ضمن اتفاق سياسي يحافظ على شيء من النظام، بما ينسجم مع اتفاق لقاء جنيف الأول. هذه الوساطة التي يمكن لمصر أن تلعبها، وقد تجد قبولا من المعسكر الآخر، في ظل توسع «داعش» وتورط الغرب وفشل الأسد وحلفائه.
تتدحرج منجزات النظام السوري، الواحد تلو الآخر، مجبولة بدماء بريئة، في كل مرة يتمكن فيها من جر فصول مجريات أحداث الربيع العربي على الجبهة السورية إلى ساحته الشيطانية، وجديدها فصل معركة عين العرب - كوباني التي كانت تندرج، بداية، ضمن مسعى التحالف الغربي- العربي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وإذا بها تصير رأس الجبل الجليدي لحزمةٍ لا متناهية من الأزمات والصراعات التاريخية، المتجذرة في المنطقة ذات الطابع العرقي والقومي والديني والطائفي. وفي الأثناء، يختفي من المشهد كله الصاعق الذي فجرها جميعاً، متمثلاً بالصراع على سلطةٍ، يشهد القاصي والداني بعفونتها، وبضرورة تغييرها، وفتح الآفاق أمام عملية سياسية طبيعية، قوامها التبادل السلمي للسلطة، في ظل مفردات دولة القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية.
وللتذكير فقط، عمد النظام، لمّا لم يكن قد مضى على الثورة السورية الحديثة سوى ستة أو سبعة شهور إلى حرف مسار الثورة السورية الحديثة، من خلال عسكرة المواجهة بينه وبين أبناء الشعب السوري، ممن انخرطوا في صفوفها، منادين بالحرية والكرامة، وليس الخبز في فصل، أول من فصول، التشبيح الذي تتقنه جيداً أجهزته الأمنية وفرقه العسكرية الخاصة، وأزلامه عديمو الأخلاق، وذلك قبل أن يولج الطموح السوري في التغيير السياسي إلى أتون التدخل الخارجي الذي جلب معه ميليشيات عسكرية، وشبه عسكرية، من دول الجوار، من لبنان والعراق وإيران، وتجمع هؤلاء مع النظام مفردة الطائفية البغيضة التي صبغت هذا الفصل من المشهد المتواصل، متداخلاً مع فصل آخر، ومنجز آخر يسجل للنظام بعد أن تمكن من إدامة معركة عين العرب هذه الفترة الطويلة نسبياً، وصارت الأضواء مسلطةً على طرفين فقط يتنازعان المواقع في هذه المدينة السورية الصغيرة، القوات الكردية وقوات داعش، مغيباً عن المشهد قوات تتبع لفصائل مسلحة أخرى من الثورة السورية، كانت قد بدأت حربها ضد هذا التنظيم، قبل معركة عين العرب بزمن طويل.
وبينما انطلقت عمليات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية كردة فعل على المنجز العسكري، المقابل للتنظيم في العراق، حين تمكن من السيطرة على ثالث مدن العراق ومنطقة الأنبار، وأصبح على مشارف بغداد، ها هو النظام السوري يحقق منجزه الجديد في جعل قوى التحالف تغرق في مستنقع مدينة كرديةٍ صغيرةٍ، أصبحت على ما يبدو تشكل عنوان الفصل الجديد من الصراع الدامي في سورية، عنواناً لم يعد ممكناً تخطيه في الأفق المنظور، جراء حسابات معروفة لدول الإقليم، وفي مقدمتها تركيا التي اختزلت حدودها الممتدة مع سورية على طول 800 كيلومتراً ببضع آلاف الأمتار التي تحدها مع عين العرب، أسوة باختزال أهداف قوى التحالف الغربي العربي نفسها في محاربة قوى التطرف.
"ها هو النظام السوري يحقق منجزه الجديد في جعل قوى التحالف تغرق في مستنقع مدينة كرديةٍ صغيرةٍ"
طبعاً، ما كان للنظام السوري أن يحقق هذه المنجزات غير القليلة، في طريق حرف مسار الثورة، لولا إدراك مراكز الاحتكار العالمية ووكلائها في الشرق الأوسط الخطر المحتمل في حال حققت الثورات العربية أهداف الربيع العربي، وبدأنا نرى العروش تتهاوى، واحداً تلو الآخر، ما يفسح، في المجال، أمام إمكانية ضبط إيقاع عملية النهب، المتواصلة منذ الربع الأول من القرن الماضي، لثروات المنطقة، والاستحواذ على مقدراتها ومصائر شعوبها.
هل قوى التحالف بهذا الغباء، لكي تنجر وراء سياسات نظام تعتبره، في العلن، ساقطاً شرعياً؟ بالطبع لا. لكن عملية مفاضلة بسيطة بين مآلات استحقاق التغيير السياسي وما تنطوي عليه من تهديدات حقيقة لما رسمته مراكز الاحتكار العالمية للمنطقة، طوال عقود من جهة، وبين الإبقاء على الوضع الراهن على ما هو عليه، رغم الجراحات والدماء النازفة بغزارة من الجهة الأخرى، تدفع باتجاه مواصلة اتباع استراتيجيات الهيمنة بالحديد والنار، وليس بالفكر والحوار، ولو كان ذلك على حساب سقوط المنظومة الأخلاقية في الديمقراطيات الغربية، التي دأبت على الكيل بمكيالين، عندما يتعلق الأمر بالفصل بين سياساتها الداخلية وسياساتها الخارجية، على غرار ما يحدث في الدولة العبرية، من فصل عنصري بائن، بينما تدّعي أنها إحدى أهم معاقل الأنظمة الديمقراطية في العالم.
لكن، هل يكفي للخروج من هذا النفق أن نتوقف عند هذا التحليل المبسط ظاهرياً؟ وحتى لو سلمنا بذلك، ما الأدوات الكفيلة لإنجاز ذلك؟ سؤالان يندرجان ضمن قائمة طويلة من أسئلة تفتقر مراكز الاحتكار الدولية للارادة الفكرية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية إلى الإجابة عليها، أما إذا ما توافر الحد الأدنى من تلك الإرادة العرجاء، حتى اللحظة، فإن منطلق طريق الخلاص واضح، ومستهله قراءة حقيقية صادقة لمشهد التطرف المتنوع المشارب، والذي يعم العالم بأسره، وليس منطقة الشرق الأوسط فحسب، قراءة تفضي، بالضرورة، إلى تشخيص المرض كما هو، وليس كما يرغب صانعو القرار في تلك المراكز.
وبما أن الحديث، هنا، يدور حول التطرف والإسلام السياسي، كما يقال، فإن تشخيص هذه الحالة يفضي إلى سببين رئيسين، يقفان وراء هذا المد العنفي العارم: الأول يتعلق بطول عمر الاستبداد، وانسداد أفق التغيير السياسي نحو كيانات سياسية ديمقراطية في بلدان المنشأ، باتت تشكل استحقاقا تاريخياً. والثاني لا يخرج عن دائرة إيقاظ نعرة الانتماءات الضيقة في بلدان المهجر، من خلال تنامي ظاهرة كراهية الأجانب واستشراسها، فالعنف لا يولد إلا نفسه، في نهاية المطاف.
كلمة أخيرة، إن جمهور الحراك المتطرف حول العالم عريض، شئنا أم أبينا، وهذا جزء على جانب كبير من الأهمية لتشخيص الحالة، وبالتالي، من الغباء حجب هذه الحقيقة، بالنظر إليها من غربال سياسات فوقية متعالية على الواقع، ينتجها التحالف الغربي- العربي، لمحاربة قشرة من قشور التطرف في المنطقة العربية والعالم.
تقف تركيا مترددة في المشاركة في "التحالف" الذي تشكّل من أجل الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، أو بدقة أكبر نرى أنها تعتقد أن أميركا ستكون بحاجة إليها لأن الحرب ضد داعش لن تحسم بالقصف الجوي، بل ستكون بحاجة لقوات برية، وهنا ستكون أميركا مضطرة للتفاهم مع تركيا.
ولذا وضعت شروطا للمشاركة أساسها أن الحرب يجب أن تستهدف النظام السوري كذلك، وأن الهدف يجب أن يكون إسقاطه وليس التخلص من داعش فقط، ولا شك أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك قوة عسكرية قادرة على التدخل، ويبدو أن تركيا تريد ذلك، لكن ليس بأي ثمن، بل تهدف إلى تغيير النظام السوري بالتحديد.
وربما كانت هي الوحيدة التي تمتلك هذا الطموح، لأنه لا يبدو أن أميركا قد طرحت على ذاتها هذا الأمر إلى الآن، وربما يتعلق الأمر أيضا بتطورات الوضع في العراق، وبالتفاهم الممكن مع إيران.
"تعتقد تركيا الآن بأنها أمام فرصة جديدة لكي تعيد فرض شروطها، وبالتالي تقرر من يحكم في دمشق، وهي مسألة حاسمة بالنسبة لها، وستقاتل من أجلها، لأن لسوريا أهمية كبيرة في منظور السياسة التركية "
ربما هذا التوقّع هو الذي يجعل تركيا تتشدد في رفض المشاركة دون الموافقة على شروطها، لأن الموافقة على هذه الشروط يعني أن تحدد تركيا طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، ولتشددها "تاريخ" كذلك، حيث اكتشفت بعد عام من الثورة السورية أن لأميركا سياسة لا تصبّ في مصالح تركيا التي كانت تريد تغيير النظام السوري لمصلحة قوى معارضة "حليفة" لها، بينما ذهبت أميركا للتفاهم مع روسيا على حل يعطي الأولوية للسيطرة الروسية على النظام الجديد.
تركيا الآن تعتقد بأنه باتت أمامها فرصة جديدة لكي تعيد فرض شروطها، وبالتالي أن تكون هي من يقرر من يحكم في دمشق. هذه مسألة حاسمة بالنسبة لها، ولهذا ستقاتل من أجلها، نتيجة أن لسوريا أهمية كبيرة في منظور السياسة التركية التي قررها أردوغان منذ أكثر من عقد، والتي أتت رياح الثورة السورية لتعصف بها.
ورغم ضغوط أردوغان على بشار الأسد لكي يجري تغييرا مهما في السلطة لمصلحة تشكيل "دولة تعددية"، فإن بنية النظام السوري لم تكن تسمح بأي تنازل، حتى إن كان هامشيا كما ظهر أصلا في "السياسة الإصلاحية" التي قام بها بشار الأسد، وهو ما جعل تركيا في ورطة، خصوصا أن الأمور لم تكن واضحة في أي مسار تسير سوى أن الثورة سوف تفرض تغيير النظام.
لهذا قررت بعد حوار وضغط لثلاثة أشهر أن تنقلب سريعا وتكون مع الثورة، لكن مع تحضير بديل يخضع لسيطرتها، هو المجلس الوطني المسيطَر عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين.
لقد حصل أردوغان على "امتيازات" كبيرة من بشار الأسد فترة "الصداقة الشخصية" بينهما، حيث وقّع الطرفان تحالفا إستراتيجيا، شمل تشكيل سوق حرة، الأمر الذي جعل سوريا سوقا مهمة للاقتصاد التركي، وممرا مهما للسلع إلى الخليج، إضافة إلى الامتياز السياسي الذي حصلت عليه تركيا في سعيها لأن تهيمن على سوق الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي دفعها لرفع وتيرة "الصراع" مع الدولة الصهيونية حينها. فقد كانت تسعى لأن تصبح "قوة عالمية" كما صرح "وكتب" داود أوغلو قبل سنوات. ولا شك أن ذلك يحتاج لأن تصبح هي القوة المهيمنة في "الشرق الأوسط"، فذلك هو ما يعزِّز اقتصادها وحضورها العالمي، وبالتالي يفرضها فعلا قوة عالمية.
سنلاحظ بأن كل هذا الطموح كان يتمحور حول "كسب سوريا"، التي هي إضافة إلى أنها سوق مهم، ودولة مهمة، هي الشريان الذي ينشط علاقة تركيا الاقتصادية بالخليج.
"المطلوب أميركيا هو تحجيم داعش في سوريا وليس إنهاؤها، مقابل التركيز على وضع العراق، وما يجري في سوريا من ضربات هو لقطع الإمداد عن داعش في العراق، وعليه فإن أميركا ربما لا تريد قوات برية"
ولهذا كانت تركيا معنية بأن يكون البديل عن النظام القائم نظاما يرتبط بها لكي تستمر في تكريس كل الامتيازات التي حصلت عليها من نظام بشار الأسد، وهي كبيرة ومهمة. وبهذا يمكنها أن تتحوّل إلى "قوة عالمية".
ولهذا أيضا ارتبكت حين وجدت أن أميركا تساوم روسيا على سوريا، فأسهمت في دخول "الجهاديين" من أجل أن تربك التوافقات التي كانت تجري بين كل من روسيا وأميركا، لكن عجز روسيا عن الاستفادة من التفاهم مع أميركا لترتيب بديل عن بشار الأسد خلال مؤتمر جنيف2، ومن ثم انكفاؤها بعد انفجار الصراع في أوكرانيا من جهة، ومن ثم عودة أميركا لكي تتدخل في ترتيب وضع المنطقة من جهة أخرى؛ جعل تركيا تعتقد أنه يمكن أن تعيد فرض شروطها، وتحظى بموافقة أميركية لأن تتولى ترتيب وضع النظام الجديد في سوريا.
هذا ما يجعلها تشترط، وترفض المشاركة دون موافقة أميركية على شروطها. لكن، ولتحديد إمكانيات ذلك، لا بد من طرح سؤالين: الأول هل أميركا جادة في سحق داعش، وبالتالي تحتاج فعلا لقوى برية من أجل ذلك؟ والثاني هل تريد أميركا فعلا تغيير النظام السوري؟ وإذا كانت تريد ذلك هل ستفعل ذلك بالتفاهم مع تركيا أو يمكن أن تفعله بالتفاهم مع إيران، أو أن تبقي المجال لدور روسي؟
ما يقوله المسؤولون الأميركيون هو أن المطلوب هو تحجيم داعش وليس إنهاؤها، وأن التركيز هو على وضع العراق وما يجري في سوريا من ضربات هو لقطع الإمداد عن داعش في العراق، وعليه فإن أميركا ربما لا تريد قوات برية.
وكما أشرنا في مقال سابق فأميركا تضغط من أجل التفاهم مع إيران، حيث تريد تحقيق "استقرار" الخليج عبر ذلك، ومن ثم فهي تريد تعديل وضع السلطة في العراق لمصلحة توافق أميركي إيراني، وبعد ذلك ربما تفكّر في معادلة مماثلة في سوريا، وبالتالي إذا ارتأت بأنه يمكن تغيير وضع السلطة في سوريا فسيكون ذلك بالتفاهم مع إيران بالأساس وليس مع تركيا، أو أن يتحقق تفاهم مع أطراف في السلطة مباشرة فتقوم هي برعاية التغيير لمصلحتها.
انطلاقا من ذلك ربما لا يتحقق تفاهم مع تركيا، ومن ثم تترك دون أن تحقق شيئا سوى استثارة الأكراد نتيجة "تخاذلها" في دعمهم في عين العرب، كما قد تبدو شروطها بلا معنى لأن أميركا أصلا لا تريد تدخلا عسكريا في سوريا كما يبدو أكثر من الضربات الجوية، ولعل هذا ما يجعلها تشير إلى حرب طويلة، وتدعو إلى تدريب بضعة آلاف من المقاتلين السوريين على مدى زمني ليس بالقصير، رغم أن الأمر هنا يحتاج إلى سلاح نوعي وليس إلى تدريب مقاتلين فقط.
"تركيا في مأزق كبير وفي وضع حرج، حيث إن استمرار الصراع في سوريا بالشكل القائم عبر "الحرب على داعش" ربما يؤدي إلى إعادة الحرب إلى تركيا ذاتها، وفي الوقت ذاته لا مصلحة لها في دخول حرب تبدو شكلية إلى أبعد الحدود"
يبدو أن الهدف الأميركي، إلى الآن -على الأقل- يتمثل في إرباك تركيا، وربما جرها إلى حرب لا معنى لها، لأن كل الحرب على داعش تأخذ شكلا "مظهريا"، أو ربما تسعى إلى زعزعة وضعها في سياق تصور مستقبلي، هي أصلا ليست مستعدة له نتيجة ضعفها الاقتصادي، وعجزها عن استخدام قواتها البرية بعد التحولات التي تبعت الانهيار المالي (والذي يبدو أنه سيتكرر في فترة قريبة)؟
أما تركيا فتعاود طرح طموحها الذي تعتقد أنه الضرورة التي ستجعلها قوة مهمة، فهي تعتقد بأن أميركا ستضطر للموافقة على شروطها نتيجة حاجتها لإنهاء داعش، وهي هنا تنطلق من أساس خاطئ في التحليل. لكنها في كل الأحوال لا تستطيع المشاركة في "الحرب" على داعش وفق المنظور الأميركي الذي يتجاهلها أصلا، ويركّز على إيران بدلا عنها.
لقد كانت أهمية تركيا قائمة حينما كانت أميركا تريد وقف التمدد الشيوعي جنوبا، أما اليوم فهي تريد حصار الصين بعد أن انتهى "الخطر الشيوعي"، ولهذا تحتاج إيران أكثر.
يعني هذا أن تركيا في مأزق كبير، وفي وضع حرج، حيث إن استمرار الصراع في سوريا بالشكل القائم عبر "الحرب على داعش" ربما يؤدي إلى إعادة الحرب إلى تركيا ذاتها. لكنها في الوقت ذاته لا مصلحة لها في دخول حرب ضد داعش من الواضح أنها شكلية إلى أبعد الحدود، وقد تورطها في مشكلات دون أن تحقق لها نتائج مفيدة، لأن الحرب في نهاية المطاف هي "لعبة أميركية" لأغراض سياسية ليست في صالح تركيا.
أظن أن مشكلة تركيا كانت في أنها تعاملت مع الثورة السورية من منظور ضيّق قام على أساس ترتيب سلطة بديلة تابعة لها، في وضع كانت فيه الأحزاب التي اعتمدت عليها غير جديرة بأن تكون قيادة للثورة، وعلى العكس من ذلك كانت ضارّة لأنها بنت سياساتها على أساس صراع غريزي ضد السلطة وبمنظور طائفي، كانت السلطة السورية بأشدّ الاحتياج إليه لتأكيد خطابها الذي قام على طائفية الثورة. وبالتالي كانت تركيا تضع ذاتها في المأزق من الأساس.
لنتخيل السيناريو التالي: مع أيلول/ سبتمبر 2012، غيرت لإدارة الأميركية جذرياً من نظرتها إلى "الربيع العربي". ففي ذلك التوقيت تعرضت السفارات أو القنصليات الأميركية في بنغازي والقاهرة وصنعاء وتونس لاعتداءات تباينات شدتها، على خلفية بث فيلم عُدّ مسيئاً لشخصية الرسول محمد. ومن الجلي أن البلدان الأربعة على وجه التخصيص كانت خارجة لتوها من الثورات التي أطاحت أنظمة الاستبداد السابقة، وتلقت شعوبها مساعدات أميركية متفاوتة النوع والأهمية في سبيل ذلك. ومن إحدى المفارقات أن الهجوم الأعنف وقع على القنصلية الأميركية في بنغازي، أي في المدينة التي شهدت ذروة التحالف الدولي لإطاحة القذافي. في ذلك الوقت أيضاً، كانت قوات المعارضة تتقدم بشكل حثيث نحو الإطباق على العاصمة دمشق وتقطع طريق مطارها الدولي، وبدا أن معركة دمشق الفاصلة باتت على الأبواب، وفجأة ينقطع كلياً الدعم العسكري عن فصائل المعارضة، وينقلب الوضع خلال أشهر قصيرة ليحاصر النظام غوطتي دمشق، ويستخدم الأسلحة الكيميائية ضدهما بعد نحو سنة.
خلال سنة، بين التاريخين السابقين، مُنعت المعارضة السورية من الحصول عن كافة أنواع الدعم المجدية، باستثناء ما يصلها تهريباً ولا يسد جزءاً يسيراً من حاجتها للدفاع عن نفسها فقط. مسرحية تسليم سلاح النظام الكيماوي صارت مكشوفة للجميع فيما بعد، فأهم بنودها غير المكتوبة كان الإبقاء على النظام حتى ينتهي ملف الكيماوي، والسماح له باستغلال المهلة لتعزيز مواقعه العسكرية، وقد شهدت تلك المدة مشاركة مكثفة من حلفائه في الميليشيات العراقية واللبنانية بغية تحقيق هذا الهدف، ما أدى إلى سيطرتهم على مدن ذات طابع إستراتيجي للمعارضة. حدث ذلك من دون أدنى اعتراض دولي، مع أن الجناح العسكري لحزب الله مصنف كمنظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، لم يتمكن النظام من استعادة سيطرته، ومقابل المناطق التي استعادها كانت قواته تنهزم في مناطق أخرى. ذلك لم يمنع أوباما من الغمز من قناة مقاتلي المعارضة والقول في الشهر السادس من هذا العام بأنه لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان أن ينتصروا على الأسد. قول أوباما هذا يعتبر في اللغة السياسية طلقة موجهة مباشرةً إلى المعارضة، وإشارة إلى النظام مفادها أن في وسعه الانقضاض على أولئك المزارعين وأطباء الأسنان.
في خضم التطورات السابقة كلها، أتى تقدم داعش ليشكل أكبر تهديد محتمل لنظام الأسد، بصرف النظر عن ضلوع الأخير في إبراز الجماعات المتطرفة وحتى دعمها. ولأن التطورات التي رافقت تمدد داعش في العراق وسوريا لا تزال ماثلة في الأذهان لقرب عهدها، لا حاجة للتذكير بسرعة الإدارة الأمريكية على المستويين العسكري والدبلوماسي لمواجهة داعش. ولا حاجة للقول بأن داعش بات يمثل تهديداً مشتركاً للمصالح الأمريكية والأسد معاً. أما تهديد هذا التنظيم لعموم السوريين فلا يمكن اعتباره عاملاً مؤثراً لأن استهدافهم لثلاث سنوات سابقة من قبل النظام لم يدفع المجتمع الدولي لمساعدتهم. إن أهم ما تمخضت عنه إستراتيجية التحالف الدولي ضد داعش هو اتفاق مجموعة "أصدقاء الشعب السوري" المنضوية فيه على أن تنحية الأسد ليست أولوية، وعلى أن الأولوية المطلقة هي للقضاء على داعش، الأمر الذي يستدعي وقتاً طويلاً جداً يُقاس بالسنوات، وربما بعقود منها. أما قصة تدريب خمسة آلاف مقاتل من المعارضة المعتدلة، أيضاً ضمن برنامج يستغرق عشرات الأشهر، فمسألة مثيرة للسخرية حقاً، لكنها تتمم ما قاله أوباما قبل أشهر من عدم صلاحية المقاتلين الحاليين الذين ليسوا إلا مزارعين وأطباء أسنان!
إذاً، ما الذي فعلته الإدارة الأميركية سوى تقديم حبل الإنقاذ للأسد عند كل مأزق حقيقي وقع فيه؟! وما الذي كانت عليه "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" سوى هيئة لضبط الأعضاء المتحمسين من دول أوروبية وإقليمية لإطاحة الأسد؟
ربما كانت استعادة الوقائع السابقة والأسئلة اللاحقة عليها تحيل إلى نظرية المؤامرة المذمومة، لكن نظرية المؤامرة تفترض وجود خفايا لا تعلم بها إلا دائرة ضيقة من النافذين. في حالتنا هذه لا حاجة إلى التخمين في ما وراء الكواليس. يكفي فقط بعض الفهم الجيد للتعابير والإشارات الدبلوماسي لاكتشاف المغزى الحقيقي لها. على هذا لا يصعب مثلاً اكتشاف أن التحالف الدولي ضد داعش هو في جزئه الثاني استكمال لاتفاق نزع الأسلحة الكيماوية من النظام مع ما يقرره ضمنياً من الإبقاء عليه. في أثناء الحرب على داعش ليس مطلوباً من النظام غير أن يتغير قليلاً بما يحفظ ماء وجه المتحالفين، بمعنى أن يؤهل نفسه ليكون شريكاً في تسوية سياسية قادمة، فأوباما صرّح مؤخراً بأن الأسد "لم يقل طبيب العيون" لا ينبغي أن يقود (بمفرده) العملية السياسية في سوريا.
تبقى مشكلة صغيرة أمام هذا التصور، أو بالأحرى هي معضلة كبرى، فالنظام أثبت حتى الآن لحلفائه قبل أصدقائه أنه عصي على محاولات إنقاذه. أقصى إنجاز للنظام، رغم الدعم المادي والبشري الضخم من حلفائه، أنه لم يسمح للثورة بالانتصار، لكنه لم يتمكن حقاً من تلافي عجزه عن الانتصار. لقد سُمح لحلفائه باستنفاذ كافة الوسائل لإنقاذه وفشلوا، فهل يملك التحالف الدولي الوصفة السحرية لفعل ما فشلت فيه روسيا وإيران من قبل؟
ضجيج وصخب إعلامي واسع حول معركة "كوباني" اجتاح وسائل الإعلام ودوائر السياسة والقرار في العالم؛ لكن في ظل تضارب واضح في فهم وتفسير مجريات الأحداث وتطوراتها في "كوباني"، ربما سيظهر بعد حين أن معركة "كوباني" مبالغ فيها بشكل يجافي الواقع وأنها ليست وسيلة سوى سلم لعبور الملف السوري باتجاهات جديدة مختلفة كليا.
بالعودة إلى حرب الخليج الثانية لا يمكن نسيان "أم قصر" تلك المدينة المهملة البعيدة عن بغداد وذات المرفأ الصغير، والتي تحولت إلى ما يشبه الأسطورة لما قيل عن صمودها في وجه قوات التحالف، وإعاقة تقدمهم صوب بغداد وكان لعاب المحللين العسكريين والسياسيين وعلى رأسهم وقتها محمد حسنين هيكل يسيل وهم يخترعون البطولات الوهمية ويحسبون الزمن الطويل الذي ستحتاجه قوات التحالف للوصول لبغداد بالقياس لنتائج معركة "أم قصر" العظيمة ويبشرون بالتالي بهزيمة منكرة ستصيب قواته التي ستنهك وتنقطع خطوط إمدادها ويموت جنودها عطشا قبل أن يصلوا لبغداد أو يستطيعوا محاصرتها وإسقاطها.
في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه معركة "أم قصر" الوهمية وتحظى بتغطية وتحليلات واسعة في وسائل الإعلام كانت قوات التحالف قد دخلت بغداد واحتلتها فعلا؛ منذ أن تم ذات صباح رصد تلك الدبابة الأمريكية المتوقفة فوق جسر على نهر دجلة دون أن تواجه أي مقاومة.
من المفهوم عسكريا خوض أو تاجيج معركة في مكان ما من أجل الحصول على نتائج استراتيجية بعيدة الأمد في مكان آخر أو لأهداف أخرى غير معلنة؛ ولا تهم كثيرا محدودية التأثير الناتج حتى في حال تحقيق انتصار حاسم فيها؛ وفي هذا الإطار كانت معركة "أم قصر" التي كان دورها إظهار مقاومة بطولية في مواجهة قوات التحالف وتبيان أن المعركة أمامها صعبة وطويلة، وهو الفخ الذي وقع فيه المحللون السياسيون والعسكريون وقتها.
بالعودة إلى "عين العرب" التي لم يعد الأكراد يقبلون تسميتها سوى "كوباني" في هذا الوقت الحرج ويقاتلون بشراسة من أجل ذلك رغم عدم ارتباط هذه التسمية بالثقافة الكردية أو بالتاريخ الكردي البعيد وفقط تعود لما قبل حقبة حكم البعث وآل الأسد؛ وتكاد "كوباني"، تلك المدينة الصغيرة في الشمال السوري على تخوم الحدود التركية تتحول لأسطورة في صمود القوات الكردية في وجه قوات تنظيم "داعش" من خلال الحديث الذي يدور حول المعارك الضارية وحرب الشوارع فيها والقصف الجوي المستمر لقوات التحالف على قوات داعش فيها؛ وبالطبع من يدرس جغرافيا منطقة "كوباني" بدقة يدرك مدى المبالغة والتضخيم في نقل صورة الأحداث ولكن عند البحث لمصلحة من يتم ذلك تبرز تباينات واضحة.
لا شك أن الأكراد حولوا معركة "كوباني" لمعركة قومية كردية بامتياز، وقد شاهدنا فعلا توحد صفوف الكرد سياسيا وإعلاميا في سوريا والعراق وتركيا، وحول العالم وقيامهم بنشاطات وحملات إعلامية واسعة تمجد أبطال وبطلات "كوباني" فعلى سبيل المثال قامت إحداهن بإطلاق الرصاصة الأخيرة لديها على نفسها كي لا تقع بأيدي "داعش" بينما قامت أخرى بتفجير نفسها وسط قوات "داعش".
في مقابل المشاعر القومية الكردية أججت معركة "كوباني" مشاعر وطنية سورية وقومية عربية معاكسة؛ فهي من جهة أثارت المخاوف من تقسيم البلاد التي بات الكثير من السوريين يراه يقترب أكثر فأكثر؛ ومن جهة أخرى، فإن القوميين المتشددين الأكراد ظهروا وكأنهم يريدون من "كوباني" ثأرا بل ربما انتقاما مما تعرضوا له من قمع واضطهاد على أيدي نظام البعث سواء في العراق أو في سوريا، مما سيولد مشاعر قومية معادية لدى العرب ومن الصعب تلافي ذلك في المستقبل القريب؛ فقد تجاوز الأكراد مرجعيتهم الوطنية السورية نحو القومية الكردية بشكل مباشر لأول مرالنة عبر دخول قوات البيشمركة من العراق للقتال في "كوباني"، بينما لم يتم فتح المجال والسماح بدخول بعض قوات الجيش الحر العربية الوطنية السورية للقتال مع الأكراد ضد "داعش" في الوقت الذي نشبت فيه مظاهرات عنيفة من أكراد تركيا لمطالبة الحكومة السماح لقوات "بي كي كي" المصنفة كمنظمة إرهابية للقتال في "كوباني"، مما يشي بتحول المعركة كليا بالنسبة للأكراد باتجاه قومي بحت، ومن هنا ربما يمكن فهم مخاوف العرب السوريين من عملية التقسيم التي يسعى إليها الأكراد.
ثنائية عربي –كردي ربما لن تقتصر على التعاطي الإعلامي والسياسي بعد الآن؛ ومن المرجح أن نشهد صراعات وعمليات تطهير عرقي دامية بين الطرفين، لإحكام السيطرة على الأرض، وهذا سيولد المزيد من مشاعر الكراهية التي تدفع باتجاه التنافر أكثر فأكثر بين الطرفين والقبول بحقيقة الأمر الواقع في نهاية المطاف والذي لا يمكن الخلاص منه وهو التقسيم.
باستثناء الضربات الجوية للتحالف الدولي ضد "داعش" لم تشارك أي دولة القتال في سوريا بشكل مباشر رغم وجود الكثير من الميليشيات والمقاتلين غير السوريين فيها؛ وسيكون تدخل قوات البشمركة من كردستان العراق، وفق ذلك هو التدخل الخارجي الرسمي الأول الذي تتم مباركته بل ودعمه.
لماذا أحجم التحالف الدولي ضد "داعش" عن التدخل البري معترفا بصعوبة العملية؟ وكيف تم الزج بشكل مقصود بقوات البشمركة والإيقاع بها في مستنقع من الصعب أن تخرج منه نظيفة الثياب؟ وليس أمامنا تجربة ناجحة لتدخل قوات برية دون أن يتم استنزافها وهزيمتها في النهاية، وهذا في حال افتراض أن العامل القومي بقي مسيطرا على تلك القوات الكردية دون أن تلعب المحاور الإقليمية به وتحوله لصراعات كردية داخلية.
التحالف يريد تحقيق انتصار من معركة "كوباني" مع بداية عمله، والبيشمركة والأكراد القوميون يريدون منها انتصارا قوميا يعيد إحياء الأمل لديهم بالوطن الكردي وغرب كردستان، بينما النظام يبدو سعيدا لاستنزاف القوى ولانصراف كل الأنظار باتجاه "كوباني" وتركه يضرب بعنف أكثر في الداخل السوري دون حتى تسليط الأضواء على أفعاله؛ بينما تحاول تركيا الخروج بأكثر الأرباح عبر استنزاف القوى الكردية في المعركة التي ستطول عليهم فيما بعد بلا شك، ما يضعف من قوتهم في الساحة السياسية الكردية وذلك مرهون بنتائج تدخل البشمركة على المدى البعيد.
في "كوباني" كما حصل في "أم قصر" تمت إطالة أمد المعركة بشكل مبالغ فيه رغم أنها ليست الساحة الحقيقية للمعركة؛ "كوباني" نقطة تحول وانعطاف في تطور الثورة في سوريا؛ فإما أنها ستحافظ على بعدها الوطني وتمتد لتنتشر على باقي أرجاء البلاد، وهذا يحتاج جهود المخلصين الوطنيين من كل أطياف ومكونات اشعب السوري أو تسقط في فخ الانقسام والتقسيم القومي ومن ثم الطائفي؛ وأيضا هي معركة مصيرية فعلا للأكراد، وستجل في التاريخ الكردي مهما تكن نتائجها لأنها إما ستقود لدولة كردية أو ستكون بداية النهاية لحلم عاش الأكراد بانتظاره طويلا .... بكل الأحوال "كوباني" هي البداية والمعركة ليست في "كوباني" أو من أجلها فقط بل من أجل شيء آخر بعيد هناك.
شيئاً فشيئاً، تتبلور الصورة رغم غموضها، تظهر ملامح الشرق الأوسط الجديد، مع ضبابية كثيفة ما زالت تحوم في سماء المنطقة، ربما لأن المشهد لم يكتمل بعد؛ شخصياتها تلبس زياً طائفياً، علويون ودروز يمتزجون رغم الأصوات المناهضة، يلحق بهم من خلف الحدود شيعة جنوب العراق؛ سنة سوريون وعراقيون يتحدون، يرغب مؤلف الرواية أن يصبغهم بسواد «داعش»، رغم الأنيّنِ الذي يخرج من صدورهم: لسنا إرهابيين، لسنا متطرفين، لكن هل من مجيب؟ أما الكُرد فحكايتهم حكاية، أرادهم المؤلف بداية أن يكونوا كما فعلها بهم أجداده مارك سايكس وجورج بيكو، بلا هوية، لكن المُخرج وربما المُنتج تدخل في اللحظة المناسبة، وجعل منهم أبطال الرواية.
ربما من الصعب على السوريين قبول التجربة العراقية الحالية – الطائفية وتطبيقها على الوضع السوري في ظل بقاء نظام الأسد، ولكن من يتمعن في الواقع الحالي يرى أن المشهدين متقاربين لدرجة كبيرة، فشيعة العراق تمددوا سورياً للدفاع عن نظام بشار بصلة القربى الطائفية، ولا يفصلهما عن الطائفة الدرزية سوى بعض المعارضين لنظام الأسد، وهم، أي الدروز، اختاروا الحياد في الصراع المسلح بين النظام والمعارضة، أضف لذلك أن المنطقة التي توجد فيها هذه الطوائف الثلاث متصلة ببعضها بعضا جغرافياً، وتتمحور بين جنوب العراق وسوريا، امتداداً إلى سواحل البحر المتوسط سورياً، حيث معقل الطائفة العلوية يضاف إليهم جغرافياً شيعة لبنان وإيران.
بالانتقال إلى وسط العراق وسوريا، حيث الغالبية السُنية، التي ما كانت الحدود بينهما أن تتبدد لولا أن الراوي أراد لمَّ شملِهما بجسيم إرهابي مرتدياً عباءة الإسلام، وباتت سمة الإرهاب لديه تؤخذ من الأفلام السينمائية، ورغم مناهضة السنة أنفسهم لهذا التطرف ومحاربتهم له، ورغم أن السنة المعتدلين نالوا من تنظيم «داعش» ما لم تنله أي طائفة أُخرى سوى الأكراد، فإن ربط تنظيم «داعش» نفسه بالإسلام ووجود الحاضنة الشعبية النسبية له في تلك المناطق، جعل منه والسنة المعتدلين يجريان بالاتجاه ذاته.
اختلاط الأوراق ببعضها بعضا جعل أدهى المفكرين يعجزون عن تفسير ما يجري الآن في سوريا والعراق، أو إلى أين تتجه المنطقة، فالغرب الذي حافظ على بقاء الأسد لأربع سنوات وهو يدمر البلاد، لن يرضى بسقوطه حتى تدمير ما تبقى من سوريا، ولن تجعل الأقلية العلوية تحت رحمة المعارضة السنية، بعد أن فاقم الغرب عمداً في العداء السني الشيعي (العلوي)، تمهيداً لتقسيماتٍ جديدة في ما بعد .
أما في الشمال السوري وكذلك العراقي حيث منطقة الأكراد، فما عاناه الأكراد على مرّ العقود الماضية من مفرزات اتفاقية «سايكس بيكو» الأب، واستبداد الحكومات المركزية لهم، يبدو أنها ستنجلي مع الاتفاقية الجديدة ولنسميها «سايكس بيكو الابن»، أو الشرق الأوسط الجديد، وهو ما تنبهت إليه تركيا مبكراً، فحاولت محاربة هذه الفكرة، من خلال شرخ الموقف الكُردي، ودعم أحد الأطراف على حساب الآخر، لكن الأمر تعقد مؤخراً بالنسبة لأنقرة بعد الاتفاق الأخير بين الأطراف الكُردية في دهوك، الذي يعني بشكل أو بآخر الاتفاق بين أربيل وقنديل قطبي الخلاف الكُردي، زادته الضغوطات الأمريكية على تركيا، من خلال دعم أكراد كوباني ومدّهم بالعتاد جواً، ما دفع أردوغان الى التخبط بالأوراق المتبقية لديه، فقبل طلب إقليم كُردستان العراق بعبور قوات البيشمركَة للدفاع عن كوباني، لكن بنَفس متردد! فسلك طريقاً آخر ربما يكون أقل كارثية على عرش أنقرة، فدفع بـ 1300 عنصر من الجيش الحر للقدوم إلى كوباني، بينما ترك الحُر باقي الأراضي السورية تسقط بيد النظام و»داعش» .
على أي حال، الراوي ماضٍ باستراتيجيته في الشرق الأوسط بحبكة محكمة، منطقة شيعية تسير في ظلها العلوي والدرزي، إضافة لشيعة لبنان والعراق وإيران ومركز قرارها طهران، ومنطقة سُنية تمتد في مناطق شاسعة بين العراق وسوريا، يسيطر عليها تنظيم «داعش» الآن، ريثما يتم تسليم مفاتيحها لمن يقدم الطاعة لخادم الحرمين الشريفين، أما المنطقة الكُردية، فستمتد مؤقتاً بين العراق وسوريا وستكون حليفة مباشرة للولايات المتحدة، وعلى علاقة ودية حذرة مع أنقرة، تمهيداً لتوسعتها لتشمل الحلم الكُردي في كُردستان العظمى، التي ستضم المناطق الكُردية من العراق وسوريا وتركيا وإيران، ليصبح الكُرد وبعد عقود من الظلم والاستبداد في رواية «سايكس بيكو الأب»، أبطال رواية «سايكس بيكو الابن».
إذا القوم قالوا من فتى؟ تلك الصيحة التي أطلقها طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، أظنها ما زالت تتردد في مخيالنا الجمعي، وتكمن خلف معظم أزماتنا وانحداراتنا، على الرغم من مضي القرون وتغير العصور. هي الصيحة التي تنادي القبيلة بها البطل، وتبحث عن المخلص الذي يخال أنه معني وحده، فلا يكسل ولا يتبلد، ويسارع إلى نجدتها وإنقاذها من محنتها، ورد الغزو والعدوان عنها.
وإذا كان فتى القبيلة، في ذلك العصر، هو البطل الفرد والمحارب الصنديد، فهو، في عصرنا، الزعيم والقائد الملهم، والأمين العام، والأمير أو الملك، والرئيس أخيراً. فمجتمعاتنا، كما أرى، لم تنجح، حتى تاريخه، في تجاوز تلك الصيحة. وبالتالي، في تكوين آليات جماعية مستقرة، تعبّر عن العقد الاجتماعي، وتكفل لها التضامن والحماية وتوليد قيادات، تتداول المسؤولية فيما بينها بيسر وسلام. فتبرز الزعامات الجديدة، وتقود بلادها فترة، ثم تنزاح دورياً، كما يحدث في بلدان الديمقراطيات المعروفة. في المقابل، تستمر لدينا الأزمة التي كان قد كشف عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، عندما تفاجأ الأنظمة بمرض حاكم أو موته، فتشتغل ظاهرة الاستيلاء، أو اللجوء إلى التمديد، أو التوريث، أو إلى أزمة معلقة، كما هو واضح في أزمة الرئاسة اللبنانية المستمرة، أو في إعادة انتخاب الرئيس الجزائري شبه العاجز.
لا ينطبق ذلك على أنظمتنا العربية، بل على نخبنا السياسية والثورية أيضا، ولعلها للمفارقة أكثر تجسيداً له، ما يظهر جلياً في تاريخ المعارضة السورية القريب العهد. بينما يفترض بها أن تتحلى بأرفع قيم الديمقراطية، رداً على مفاسد النظام الذي ثار عليه الشعب وطالب بإسقاطه، وأولها صلاحيات الرئاسة الوراثية وشبه المطلقة! في هذا الصدد، كانت أولى شعارات الثورة السورية رافضة شعار (الأمين إلى الأبد) الذي كرسته عملية الوراثة، وتم تعديل الدستور السوري من أجله، في ربع ساعة شهيرة، فأصبح بذلك مجرد ملحق تبريري، وفقد كل تعبير عن شرعية العقد الاجتماعي.
لكن، بدلاً من أن يؤدي ذلك الرفض، بأول مؤسسات الثورة السورية، وهي المجلس الوطني، إلى قطيعة معرفية مع الماضي وتأسيس شرعية بديلة وناضجة، تنتمي إلى المستقبل، فقد أدى إلى رد فعل انفعالي، تجلّى في تحديد نظامه الداخلي فترة ثلاثة أشهر للدورة الرئاسية! ولم يكن ذلك تعبيراً عن رؤية سياسية قصيرة النفس فقط، قامت على تصور سقوط سريع للنظام، بل كان تعبيراً كاريكاتورياً عن رد فعل مؤداه: بدلاً من رئيس إلى الأبد، نريد رئيساً مؤقتاً، ومؤقتاً جداً، أي رئيساً شكلياً وعابراً، فقد صرنا ضد كل رئيس، الأمر الذي تسبب في أكبر أزمات المجلس الوطني الداخلية، عندما استقال رئيسه الأول، برهان غليون، تحت ضغط الحملة الصاخبة التي شنّتها أوساط معارضة ضد إعادة انتخابه، ولأشهر ثلاثة فقط!
لاحقاً، تكررت الظاهرة، عندما أصبح منصب الرئاسة الشغل الشاغل لحياة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الداخلية، فمن أجله تقوم الاصطفافات، وتنقسم الولاءات، وتشتد التدخلات، ذلك أن الرئيس ما زال الفتى المخلّص، والمنقذ الذي تنتظر منه المبادرات، وما أكثرها كانت مع أول رؤسائه! أما عند وصول رئيس جديد فيجب أن تقوم قيامة الائتلاف، أو يتهدد بالانهيار عند إعادة انتخابه، أو عند الاضطرار لانتخاب خلفه.
وبالعودة إلى التاريخ السوري، كانت ظاهرة الزعيم البطل تبدو حلاً لمشكلة النزعة الفردية إلى الزعامة لدى جميع السوريين، والتي تردد أن الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، حذّر منها جمال عبد الناصر، عندما انتُخب رئيساً لجمهورية الوحدة، بقوله: أسلمك أربعة ملايين زعيم سوري، الله يعينك عليهم.
"
تضمنت النزعة الفردية السورية شيئاً من حدة العنفوان والحس بالكرامة العالية للإنسان
"
ذلك الحل يحقق التصعيد الذي تشير إليه سيكولوجيا الجماعات، عندما تتعالى كاريزمية الزعيم الملهم على ميول الزعامة والترؤس عند الأفراد، وتطفو فوقها! لكن، الوقائع برهنت أن الزعيم مسار ديكتاتور، يأمر فيطاع، ويقود الجماهير بالاستناد إلى الشرعية الثورية للحزب الواحد حيناً، أو إلى موروث المستبد العادل حيناً آخر. ودائماً في سياق تاريخي، قام على غياب العقد الاجتماعي وإلغاء الحياة السياسية والمجتمع المدني، وانتهى إلى ما نشهده من انهيارات للدولة والمجتمع معاً. وفي الواقع، إن تضمنت النزعة الفردية السورية شيئاً من حدة العنفوان والحس بالكرامة العالية للإنسان، فقد كسّرت حقبة الديكتاتورية البعثية الطويلة من ذلك إلى حد كبير، واستبدلتها بالخوف من الأمن و"بيت الخالة الشهير"، فجعلت تلك الفردية منطوية على حذر وشك، وعدم اطمئنان للآخر السوري، إلا بعد تجربة وطول تمحيص، وهيهات يتوفر الأمر.
بذلك، غدت ميول الفردية والتشكيك وجهاً آخر لظاهرة طلب الزعيم والمنقذ. وفي هذا السياق، بدلاً من أن تتوجه المعارضة السورية إلى بناء قيادة للمعارضة، أو زعامتها التي تحتاج الثورة لصناعتها حقاً، على حد قول بعضهم، فقد ذهب أبرز المعارضين مذهب التشكيك بأي محاولة لذلك. وكم نتذكر مساهمة بعض الديمقراطيين بتخوين المجلس الوطني فور ظهوره، إلى درجة تسميتهم له بالمجلس اللاوطني، ومجلس اسطنبول، ومهاجمة رئيسه، وتشبيهه ببشار عند إعادة انتخابه، واتهامه بسيطرة فئوية عليه، ثم انقلابهم للتعاون مع المجلس نفسه ورجاله داخل الائتلاف الجديد، ووضعهم يدهم مع يد من كانوا يشككون بهم من قبل! وليس من طريف المفارقة ملاحظة استمرار بعضهم في منصبه اليوم، بعد مرور ضعف ما يعادل دورتهم النظامية، أو عودة بعضهم الآخر إلى فزّاعة السيطرة الفئوية عند كل فشل انتخابي!
فهل آن أوان استخلاص الدروس حول حاجة الثورة السورية إلى قيادة؟ علماً أنه لا بد من ملاحظة الفعالية الكبيرة لثورة وسائل التواصل والإعلام وتدخلهما الكبير في هذا المجال، لا بسبب طابع الثورة العفوي، وانتشار إعلام المواطن الفرد بصورة غير مسبوقة فقط، بل بسبب استفادة إعلام النظام وحلفائه من ذلك، وتوظيفه في جهده المنظم، الذي لا شك في أنه يستهدف تحطيم صورة الثورة وقياداتها، بطبيعة الحال.
يتقدم تنظيم «داعش» بمخيلة شيطان وبإصرار مؤمن. وفيما هو يمضي في قتاله على جبهة لم تكن مرة موحدة وطويلة كما هي الآن، يتهافت عليه شبان (وشابات) من سائر أنحاء الأرض. فالأمر، والحال هذه، أكثر من فانتازيا ماضوية تخيلنا ذات مرة أنها المعنى الوحيد لـ «الخلافة».
يوم الخميس الماضي، نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً كتبه ديفيد كيركباتريك عن هؤلاء الشبان الذين يفدون إلى «داعش» من تونس، البلد الأكثر تصديراً للمجاهدين ممن يقصدون سورية والعراق، على رغم أنها تعيش لحظة ثورية تستغرق البلد وتعبئ طاقاته، كما تشي باحتمالات نجاح نسبية لم تُكتب لبقية الثورات العربية. وهذا فضلاً عن أن الوضع التونسي الجديد فتح الباب لتعددية سياسية استعرضت الأحد الماضي آخر انتخاباتها النيابية التي ستتلوها انتخابات رئاسية، ما ينم عن أن ربط الإرهاب بعامل أوحد، هو هنا القمع، قد لا يكون كافياً أو دقيقاً.
على أي حال، فإن ما ستكتفي به هذه الأسطر هو نقل بعض عبارات تفوه بها شبان تونسيون أجابوا عن سؤال الصحيفة الأميركية: لماذا الحج الجهادي إلى سورية والعراق؟
«هناك الكثير من العلامات على أن النهاية (نهاية العالم) وشيكة، بحسب القرآن»، يقول أيمن، 24 سنة، الذي كان يسترخي مع أصدقائه في المقهى. وهو، مثل سواه، امتنع عن إعطاء اسمه الكامل خوفاً من مطاردة الشرطة.
بلال، عامل في مكتب، كان يجلس في مقهى آخر، هلل لـ «الدولة الإسلامية» بوصفها قاطرة مقدسة ستطيح في النهاية الحدود العربية التي رسمتها بريطانيا وفرنسا مع نهاية الحرب العالمية الأولى: «فتقسيم البلدان (عمل) أوروبي»، كما قال بلال، 27 سنة، «ونحن نريد أن نجعل المنطقة دولة إسلامية سوية، ومن سورية ستكون البداية».
مراد، 28 سنة، وهو الذي قال إنه يحمل شهادة جامعية متقدمة في التكنولوجيا إلا أنه لم يحصل على عمل إلا في البناء، سمى «الدولة الإسلامية» الأمل الوحيد بـ «العدالة الاجتماعية»، ذاك أنها ستمتص مَلَكيات الخليج الغنية بالنفط وتعيد توزيع ثرواتها، فـ «هي الطريق الوحيد لكي تعاد للناس حقوقهم الصحيحة»، كما قال، مضيفاً: «إنها واجب على كل مسلم».
وقد أصر كثيرون على أن أصدقاءهم الذين انضموا إلى «الدولة الإسلامية» أرسلوا تقارير إلى أقاربهم عبر أجهزة الإنترنت حيث يقيمون، مثلما أرسلوا أجوراً، لا بل نساء. «إنهم يعيشون أفضل منا»، كما قال وليد، 24 سنة.
وسام، 22 سنة، قال إن صديقاً غادر قبل أربعة أشهر أخبره أنه «يعيش حياة لطيفة ومريحة حقاً» في ظل «الدولة الإسلامية».
هكذا يلوح الجهاد «الداعشي» حيزاً عريضاً يتسع لكل شيء، للإيماني والخرافي والسياسي والاقتصادي، للمحافظ وصولاً إلى معانقة السلف الصالح وللثوري حتى تدمير هذا العالم ومعانقة العدم المحض، للغيري الذي لا يفكر بنفسه وللانتهازي الذي لا يفكر إلا بنفسه، للأخلاقي الذي يترادف عنده الدين والأخلاق وللسافل الذي يستخدم الدين كي يطعن به الأخلاق، وطبعاً ودائماً للشخصي بما هو وصفٌ لعلاقة الفرد مع جماعة ولمدى تكيفه مع محيط.
هكذا يصير مفهوماً أن يتوجهَ إلى سورية أشخاص يمتون بصلة يعونها إلى الإسلام، وآخرون يمتون بصلة لا يعونها إلى إسلام لا يعونه، وعلى أطراف هؤلاء وأولئك يتسع المجال لشبان لا تربطهم بالإسلام صلة!
«للأسف العراق يتفكك». العملية السياسية «توشك ان تفشل». «التعايش بين المكونات يكاد يكون منعدماً». «للأسف النزاع السنّي - الشيعي موجود». اذا لم تعتنق الدول ذات التركيبة المتنوعة مبادئ الديموقراطية والتعايش والشراكة، فإن «كل الكيانات التي اصطنعت بعد الحرب العالمية الاولى يمكن ان تتفكك وتعود الى احوالها الطبيعية». التفكك يتعمق في سورية وعودتها الى ما كانت عليه قبل اندلاع الاحداث «امر مستبعد وشديد الصعوبة».
هذا ما قاله لي في أربيل الرئيس مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان ونشرته «الحياة» في الخامس من ابريل (نيسان) الماضي، اي قبل شهرين من استيلاء «داعش» على الموصل وما تبعها من تسارع التفكك في العراق وسورية.
تمنيت يومها، كعربي، ان يكون المتحدث مخطئاً، لكن صحة توقعاته دفعتني الى العودة الى حديثه، خصوصاً بعد تطورين لافتين. الاول موافقة برلمان كردستان على منح رئيس الاقليم حق ارسال قوات من البيشمركة للمشاركة في الدفاع عن مدينة عين العرب (كوباني) السورية. والثاني اتفاق القوى الكردية السورية على تشكيل «مرجعية سياسية موحدة» في الادارة الكردية على الاراضي السورية.
ان يرسل اقليم كردستان مقاتلين الى سورية عبر الاراضي التركية عمل يؤكد ان سورية التي كانت لاعباً وراء حدودها تحولت بالفعل ملعباً للآخرين. واتفاق القوى الكردية السورية، المتهمة اصلاً بعلاقات مع النظام، على مرجعية سياسية موحدة يكشف قناعتها بأن عودة سورية السابقة صارت متعذرة وأن القوى الكردية تستعد لبلورة «اداراتها الذاتية» داخل الكيان السوري.
كانت ولادة اقليم كردستان العراق استناداً الى الدستور العراقي الذي أقر في 2005 حدثاً كثير الدلالات. زرت مقر الاقليم في تلك السنة وكان اول ما لفتني ان المقر والرئيس يقيمان في ظل علمين: علم العراق وعلم كردستان العراق. تساءلت يومها عما سيكون عليه شعور الكردي المقيم في سورية او تركيا او ايران حين يشاهد اكراد العراق ينتخبون رئيساً يشبههم وبرلماناً يشبههم وحكومة تشبههم.
كان واضحاً ان ولادة اقليم كردستان العراق حدث لا يعني فقط المقيمين في الاقليم المقيم على حدود تركيا وسورية وإيران. تضاعفت جاذبية الاقليم حين تمكن من ترسيخ الامن في بلد مضطرب وإطلاق ورشة ازدهار في بلد يتلوى على نار مواجهات متعددة. ربما بسبب هذه الجاذبية وخطورتها كان بارزاني يمارس اقصى درجات الحذر. ردد مراراً ان الحل للأكراد في الدول الاخرى ليس استنساخ تجربة الاقليم، بل العمل من اجل نيل حقوقهم وفقاً للأوضاع في كل بلد.
كانت جاذبية اقليم كردستان مصدر قلق للدول المجاورة. قبل سنوات، دعت السلطات السورية بارزاني الى زيارتها، لكنها اشترطت استقباله بصفته رئيساً للحزب الديموقراطي الكردستاني لا رئيساً للإقليم وهو ما رفضه. بعد اندلاع «الربيع العربي» غيّرت دمشق موقفها، لكن الزيارة لم تحصل.
لم تعد القصة قصة اقليم كردستان العراق. وغالب الظن ان بارزاني لن يكون الزعيم الوحيد الجالس تحت علمين. ها نحن نسمع ان خرائط سايكس- بيكو رُسمت على عجل وبعيداً عن مشاعر من حشروا فيها. وأن هذه الخرائط شاخت وتمزقت. وأن الحدود سقطت. وأن التعايش سقط هو الآخر. ها نحن نسمع ان الدولة الأمة فشلت. وأن البحث سيدور حول تنظيم الطلاق داخل الخرائط. وأن عصر الدولة المركزية القوية انقضى. وأن علم الدولة المركزية هو مجرد غطاء للأعلام الصغيرة الحقيقية. وأن الأحداث كشفت ان زعيم كل مكون كان يخفي تحت جلده علماً صغيراً اقرب اليه من العلم الكبير. وأن الناس يموتون من اجل العلم الصغير لا من اجل العلم الكبير.
ها نحن نسمع ان السلطات المركزية ستكون ضعيفة. وأن كل مكون سيعيش في ظل حاكم محلي يشبهه. وفي ظل حرس وطني من مذهبه. وهذا سيعني عملياً ان المواطن كما الزعيم سيعيش في ظل علمين: علم المذهب وعلم البلاد. وأن هذا الامر معمول به عملياً في العراق. وأنه المستقبل المتوقع لسورية. واليمن. وليبيا. وأن هذا الحل مستورد من التجربة اللبنانية حيث يعيش كل زعيم تحت علمين وإن أخفى احدهما وحيث لا تتفق الطوائف-الأقاليم إلا على منع قيام الدولة المركزية الصارمة.
لم يجامل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أحداً في كلمته في افتتاح مؤتمر جنيف الثاني في مونترو، في 22 فبراير/كانون ثاني 2014 "وهكذا، ففي الوقت الذي لا مكان فيه لمرتكبي هذا العنف (ويعني بشار الأسد)، فإنه لا يمكن أن يكون أيضا مكان لآلاف المتطرفين العنيفين الذين ينشرون أيديولوجيتهم البغيضة، ويفاقمون معاناة الشعب السوري". كان هذا الكلام واضحاً جداً أن الولايات المتحدة الاميركية تبحث عن مكون ثالث، ليرسم مستقبل سورية. وهذا ما يلتقي، بوضوح، بما جاء في نص البند أ من الفقرة التاسعة من وثيقة جنيف لعام 2012: "إقامة هيئة حكم انتقالية، باستطاعتها أن تهيئ بيئة محايدة، تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وتمارس فيها هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى. ويجب أن تشكل على أساس الموافقة المتبادلة". وفي العلوم القانونية، يعلم الجميع أن لفظ يمكن لا يعني الوجوب، بل إمكانية حدوث الشيء. وهنا، لابد من تفسير ما هي المجموعات الأخرى التي يمكن أن تتشكل منها هيئة الحكم الانتقالي، فهذه المجموعات ليست من النظام، وليست من المعارضة.
هذان الغموض والالتباس سيسمحان للولايات المتحدة بحركة كثيرة، فإذا كان موقفها من النظام يمكن اعتباره واضحاً، فإن موقفها من المعارضة هو الأكثر التباساً، فهي دائما تتحدث عن معارضة معتدلة، وفي أحيان كثيرة، يبدي مسؤولوها شكوكهم بوجود مثل هذه المعارضة.
تشكك الولايات المتحدة، والتي تتعامل مع "الائتلاف الوطني"، باعتباره الجسم الرئيس للمعارضة، بين الفينة والأخرى، بمدى تمثيلية هذا الائتلاف، بل لقد حثته بأكثر من مناسبة على ضرورة أن يبرم اتفاقاً مع قوى المعارضة الأخرى، والمقصود بها هنا هيئة التنسيق الوطني، وهو أمر كان يرغب به الموفد الدولي السابق، الأخضر الإبراهيمي، حيث أكد، أكثر من مرة، أنه لا يمكن عقد مفاوضات مع النظام، إلا بمعارضة وازنة ومقنعة، وتمثل جزءاً مهما من الشعب السوري. ولكن، على الرغم من هذه التحفظات، تمت الدعوات في مؤتمر جنيف، ورضخ الإبراهيمي للرغبة الأميركية في عقد هذا المؤتمر، من دون توفير شروط النجاح له، الأمر الذي أدى به، في النهاية، إلى الاستقالة، وترك هذه المهمة لإدراكه أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في توفير متطلبات نجاح المؤتمر.
ومن المفارقات العجيبة، الآن، أن واشنطن التي مازالت تبحث، منذ أول الثورة السورية، عن معارضة معتدلة تتعامل معها، وجدت ضالتها، أخيراً، في صالح مسلم، والذي يعتبر بشكل ما الذراع العسكري الوحيد لهيئة التنسيق الوطني، فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتحفظ، دائماً، على دعم المعارضة المسلحة، بذريعة منع وصول السلاح إلى الأيدي الخطأ، تتخلى عن كل هذه التحفظات، وتلقي بالسلاح جواً على قوات صالح مسلم في عين العرب، ليصل جزء منها إلى الأيدي الخطأ (داعش) من دون أن يرف لها جفن.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن اللقاءات التي تمت بين حزب صالح مسلم ومسؤولين أميركيين، في باريس في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين أول الجاري، ولا يمكن فصل هذا، أيضاً، عن تصريحات رئيس هيئة التنسيق، حسن عبد العظيم، بعد لقائه المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان ديمستورا، في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، حيث استخدم عبد العظيم مصطلح ضرورة وجود معارضة وازنة ومقنعة، تبدأ بالتفاوض حول مرحلة انتقالية، بل إنه أضاف أن المعارضة المسلحة التي تقبل بالحل السياسي يمكن أن تكون ممثلة في أي عملية سياسية، مع العلم أن هيئة التنسيق كانت تدين عسكرة الثورة، وتدين جميع الفصائل المعارضة التي تحمل السلاح.
"
حضور الائتلاف القاصر في المشهد السوري الداخلي يعززه قصور الحضور في اجتماعات الائتلاف الذي يترافق عادة مع تفكير سحري، وهمي منفصل عن الواقع
"
إن تفاهم الأطراف الكردية الذي تم في دهوك في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، والذي تضمن تشكيل قيادة سياسية عليا مشتركة بين حزب صالح مسلم والمجلس الوطني الكردي، أحد المكونات الرئيسية في الائتلاف الوطني، يوضح بدقة أن جزءاً من هيئة التنسيق (حزب الاتحاد الديمقراطي) بات في تحالف واحد مع جزء من الائتلاف (المجلس الوطني الكردي)، وسيكون لهذا التحالف الجديد قوات عسكرية مشتركة. هنا يصبح مفهوماً جداً تقارب الولايات المتحدة مع صالح مسلم. فهذا التقارب لا يمكن عزله عن محاولة واشنطن بإنتاج معارضة معتدلة (كما تطلب) تشكل أساساً للحل السياسي الذي يتم تجهيز المشهدين، المحلي والإقليمي، له في الوقت الراهن. وسيكون قوام المعارضة العسكرية المعتدلة قوات مشتركة بين صالح مسلم من هيئة التنسيق والمجلس الوطني الكردي من "الائتلاف"، إضافة إلى عدد من أبناء العشائر العربية في المنطقة الشرقية، يمكن الوثوق بهم على حد تعبير السياسيين الأميركيين.
وهذا ما عبر عنه المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، الجنرال جون ألن، حيث صرح لمحطة سي إن إن، في الأول من أكتوبر/تشرين أول الجاري، إن "نيتنا بناء قوات موثوق منها، وقوات مدقق فيها، وقوات ذات مصداقية"، وأضاف أن هدف هذه القوات هو فقط محاربة داعش، وليس أي شيء آخر، حيث قال، في اللقاء نفسه، إن الأسد ليس أحد خياراتنا، وأنه في نهاية المطاف سيكون هناك محصلة سياسية.
لقد ساهم الائتلاف الوطني السوري، بتياراته السياسية وبأعضائه، في الوصول إلى هذه النتيجة التي تريدها الولايات المتحدة، فقد أثبت الائتلاف للجميع أنه غير قادر على أن يكون شريكاً للعالم، بسبب العبث السياسي الذي يمارسه، والذي يصل، أحياناً، إلى العبث البوهيمي الذي لا يمكن فهمه وتحليله والوقوف على أسبابه، فحضور الائتلاف القاصر في المشهد السوري الداخلي يعززه قصور الحضور في اجتماعات الائتلاف الذي يترافق عادة مع تفكير سحري، وهمي منفصل عن الواقع، وغير قادر على رؤية حركة الأحداث المحيطة به. وذلك كله جعل من الائتلاف جسماً أشبه بالميت سريرياً الذي يرجو الجميع له أن يسلم الروح، ليتخلص من عذاباته، من دون أن يقدم أحد على إطلاق رصاصة الرحمة على رأسه.
ويبدو أن عوامل التدمير الذاتي، والتي بلغت مداها داخل الائتلاف، إضافة إلى عدم قدرة أعضاء الائتلاف على قراءة الواقع، وإدراك حجم التوازنات الإقليمية والدولية في القضية السورية. وذلك كله سيؤدي إلى أن يتحول الائتلاف إلى ذكرى في حياة السوريين، ولن يكون هذا اليوم بعيداً في ظل غياب الائتلاف، عنصراً فعالاً وشريكاً يمكن الركون إليه في العملية السياسية، ولن يتبقى من المشهد المعارض في سورية سوى هيئة التنسيق، والتي يمكن تأهيلها، وتلميع طروحاتها "المعتدلة" بقليل من الجهد، ولا سيما وأن عملية التعاون العملي والفعلي معها قد بدأت بالتعاطي الجدي مع ذراعها العسكري، قوات صالح مسلم، والذي سنراه يوما ما يجلس على الطاولة نفسها، مقابل جميل حسن، ليقرروا مصير سورية. لن يكون هذا المشهد بعيداً جداً. لكن، هذه المرة سيكون برعاية أميركية، وبمباركة دولية وإقليمية. يومها سيقول الائتلاف الوطني "ليتنا كنا معهم لفزنا فوزاً عظيما".