يمثل الواقع السوري، إحدى أهم الساحات التي شغلت العالم في السنوات الأربع الماضية في المستويات السياسية، وتبدو خلاصة الانشغالات اليوم كما يقدمها رجال السياسة والإعلام بمؤسساته وأجهزته في ثلاثة مستويات متراتبة؛ أولها المستوى الدولي، وثانيها المستوى الإقليمي، وثالثها المستوى المحلي، وفي كل واحد من المستويات تفاصيل وحيثيات، تبين بعضا من الاختلافات، التي تحمل تقاربات واختلافات في الطروحات حول الواقع السوري.
ويركز الانشغال الدولي حول سوريا بصورة أساسية على موضوع الحرب على الإرهاب، انطلاقا من تنامي نفوذ الجماعات الدينية المتطرفة ولا سيما تنظيم داعش وجبهة النصرة في بلاد الشام، وهو الأمر الذي ولد في مواجهته التحالف الدولي ضد الإرهاب، قبل أن يطلق الأخير هجماته الصاروخية والجوية على مواقع مختلفة في سوريا ولا سيما في شمال وشرق البلاد بهدف تدمير مقرات ومعسكرات «داعش» وأخواتها من النصرة وخلية خراسان. وفي غمرة الاهتمام بموضوع الحرب على الإرهاب، تتم مقاربات محدودة في علاقات الأطراف الإقليمية والسورية بموضوع الحرب على الإرهاب وخاصة فيما يتعلق بموقف نظام الأسد والمعارضة السورية في شقيها السياسي والعسكري.
وبالتوازي مع الموقف الدولي في النظر للوضع السوري، يبدو الموقف الإقليمي في انشغالاته بموضوع الحرب على الإرهاب وتنظيماته، وهذا موقف أكثرية الدول القريبة أو المحيطة بسوريا، وإن كان ثمة تمايزات، فإنها تكاد تكون قليلة في موقف قلة من الدول مثل إيران التي تربط الحرب على الإرهاب بضم نظام الأسد إلى تلك الحرب بخلاف جارتها تركيا، التي ترى أن الحرب على الإرهاب ينبغي أن تشمل نظام الأسد، فيما تبدي مصر تحفظا مكتوما على فكرة أن تؤدي الحرب على الإرهاب إلى إسقاط لنظام الأسد بالقوة من خلال تلك الحرب.
وبطبيعة الحال فإن الواقع السوري، يتضمن طيفا واسعا ومتناقضا في انشغالات أطرافه بما يجري في سوريا وبصددها من سياسات ومواقف. فنظام الأسد يركز من جهة على الحرب على الإرهاب وجماعاته وضرورة صيرورته شريكا في تلك الحرب كطريق لاستعادة شرعيته ومكانته الإقليمية والدولية، لكنه في الجهة الأخرى يركز في حربه الدموية على تغيير ميزان القوى على الأرض عبر هجمات في مختلف جبهات الصراع ضد قوى المعارضة العسكرية من الجنوب في درعا والقنيطرة إلى ريف دمشق، وجبهة حماه الغربية إلى حلب في الشمال محاولا استعادة سيطرته على المدينة عبر حصارها.
أما المعارضة السورية بالشقين السياسي والعسكري فمشغولة بالبحث عن مكانة لها في الحرب الدولية على الإرهاب وما يمكن أن تتمخض عنه من نتائج على القضية السورية والمعارضة سواء في شقها السياسي على نحو ما عليه حال الائتلاف الوطني السوري أو في الشق العسكري كما في حال التشكيلات العسكرية للمعارضة ومنها جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وغيرها، دون أن يمنع ما تقدم انشغال تلك الأطراف بموضوعات ذات اهتمام خاص مرتبطة بالتطورات الراهنة، كما في انشغال الائتلاف الوطني بمشاكله الداخلية ومنها موضوع الصراعات بين كتله وفي تشكيل الحكومة السورية المؤقتة، ووحدة تنسيق الدعم، والأوضاع التنظيمية داخل الائتلاف، ومثل ذلك انشغالات التشكيلات العسكرية بالصراعات والتناحرات فيما بينها كما هو الصراع على تشكيل المجلس العسكري الأعلى الذي حله رئيس الائتلاف قبل أكثر من شهرين والمجلس العسكري الأعلى الذي تشكل بمبادرة من رئيس الحكومة السورية المؤقتة بمساعدة بعض الأطراف في الائتلاف الوطني السوري في محاولة للتأثير على نتائج اختيار رئيس الحكومة المؤقتة في اجتماعات الائتلاف الأخيرة.
أما انشغالات جماعات التطرف السوري وفي مقدمتها تنظيما «داعش» والنصرة، فإن انشغالها الأساسي مركز على تمددها وخاصة في المجال العسكري، حيث تواصل «داعش» حربها للسيطرة على عين العرب (كوباني) في حرب ضروس ضد القوات الكردية الـpyd وقوات الجيش الحر، التي انضمت إليها للدفاع عن المدينة الصغيرة، فيما تقوم قوات جبهة النصرة بالتمدد في مدينة إدلب ومحيطها في حرب مزدوجة ضد قوات النظام بمدينة إدلب من جهة وفي مواجهة قوات جبهة ثوار سوريا المصنفة في عداد الجيش الحر.الفصا
وسط انشغال الأطراف المختلفة الدولية والإقليمية والمحلية بالموضوع الرئيسي وهو الحرب على الإرهاب وتنظيماته، والانشغالات التفصيلية للأطراف السورية، يبدو أن الجميع يركزون على إدارة الأزمة السورية ومتابعتها بدل الذهاب إلى حل القضية السورية سواء في التوجه إلى حلها سياسيا أو عسكريا، أو توظيف الجهد العسكري للضغط على النظام من أجل الذهاب إلى حل سياسي، وهو الأمر الذي يضمن إذا تم تحقيقه تجاوز الأهم في الانشغالات الراهنة سواء كانت رئيسية أو تفصيلية، لأن من شأن التوجه إلى حل للقضية السورية، تحقيق سلام في سوريا وحولها أو التمهيد له، وتوفير بيئة أفضل للانتقال نحو نظام جديد، لا يكون فيه مكان للتطرف وللإرهاب سواء كان من جانب النظام أو الجماعات المتطرفة، ووضع سوريا والسوريين على عتبة استعادة حياتهم ومسارهم نحو الحرية والعدالة والمساواة.
ومما لا شك فيه أن الأخطاء والخطايا القائمة في التعامل مع القضية السورية من قبل الأطراف المنخرطة فيها أو القريبة منها، ينبغي وضع حد لها، ليس من أجل وقف مسار الدم والدمار في سوريا فقط، بل لأن تداعيات القضية السورية الإقليمية والدولية، يمكن أن تزداد وتتزايد على طريقة كرة الثلج المتسارعة في منحدر حاد لا قرار له لتأخذ العالم من القريب إلى الأبعد إلى تطورات يصعب معالجتها.
بعد قرابة الأعوام الثلاثة من عمر الثورة السورية، التي فشلت الإدارة الأميركية في التعامل معها جديا، وبعد التدخل الأميركي - الدولي الآن ضد «داعش»، كشف تقرير أممي عن أن عدد المقاتلين الأجانب المتدفقين إلى سوريا والعراق ارتفع ليبلغ نحو 15 ألف مقاتل من 80 بلدا.
والقصة لا تقف عند هذا الحد، حيث تم الكشف عن مذكرة سرية كتبها وزير الدفاع الأميركي للبيت الأبيض، ينتقد فيها استراتيجية بلاده في سوريا، مطالبا بوضع استراتيجية أكثر وضوحا للتعامل مع بشار الأسد، هذا عدا عن الكشف عن أن الضربات الموجهة لـ«داعش» قد تساعد الأسد، وبشكل مؤقت، كما ذكر.
وعليه، فمتى ستعترف الإدارة الأميركية بفشلها في سوريا؟ ومتى تعترف بأن هذا الفشل قد شكل قنبلة موقوتة من شأنها أن تنفجر في وجه 80 بلدا حول العالم، ويكفي التذكير هنا بأن لدى بريطانيا وحدها أكثر من 500 مقاتل بسوريا؟ واعتراف إدارة أوباما بالفشل لا يعني فقط الإقرار بذلك، بل ضرورة أن يصار إلى وضع استراتيجية حقيقية، والإقدام على مواقف فعالة على الأرض، خصوصا أن كل وعود الإدارة الأميركية، وتصريحاتها، حيال الأزمة السورية باتت موضع تندر، ودليل فشل.
في كل فصول الأزمة السورية، ومع اشتداد المراحل، كان يقال في واشنطن إن الخشية هي أن الوقت قد فات لفعل شيء ما بسوريا، لكن ثبت فشل ذلك، حيث اتضح أن كل يوم يمضي دون التعامل الجاد مع الأزمة السورية هو ما يؤدي إلى تعقيدها أكثر، ويتطلب من الغرب، وتحديدا أميركا، القيام بأمر أصعب مما مضى. ولذا فإن الانتظار والتبرير أمر غير مجدٍ، بل هو دليل فشل صارخ. إدارة أوباما جربت كل الأعذار الواهية بسوريا: لامت الحلفاء، ثم اعتذرت.. لامت المعارضة المعتدلة، أي الجيش الحر، ثم عادت تقول إنها ستدعمه.. هددت بالتدخل إذا قام الأسد بتجاوز الخطوط الحمراء، وتجاوزها، ولم تفعل إدارة أوباما شيئا. والحقيقة أن إدارة أوباما جربت كل شيء بسوريا إلا الأفعال، فمتى تقر هذه الإدارة بفشلها الذريع والخطير؟
اليوم يشير التقرير الأممي إلى زيادة تدفق الإرهابيين إلى سوريا، والأخطر أن التقرير الذي أعدته لجنة مراقبة نشاط «القاعدة» في مجلس الأمن الدولي يقول إنه منذ عام 2010 بات عدد الإرهابيين الأجانب بسوريا والعراق «يزيد بعدة مرات عن عدد المقاتلين الأجانب الذين تم إحصاؤهم بين عامي 1990 و2010»! فما الذي تنتظره إدارة أوباما بعد هذه المعلومات المؤكدة أيضا من الاستخبارات الأميركية؟ متى تعلن هذه الإدارة فشلها وتشرع بإقرار خطة فاعلة على الأرض تبدأ بدعم حقيقي للجيش الحر، ومواز لضرباتها على «داعش»؟ فمن دون ذلك فإن كل ما تفعله إدارة أوباما بحربها على «داعش» هو خدمة للتنظيم المتطرف، وجبهة النصرة، وبشار الأسد، فمتى تواجه إدارة أوباما الحقائق، وتكف عن اللعب بمصير سوريا، والمنطقة ككل؟
جرت الانتخابات البرلمانية في تونس بنجاح مشهود. وبذلك، تم عبور المرحلة الثانية من الانتقال إلى الديمقراطية، بعد مرحلة إقرار الدستور الذي أسس لمشاركة جميع ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، وقبيل المرحلة الثالثة الخاصة بانتخابات الرئاسة، وهذه حدد الدستور وظائفها، فخلصها من تاريخها السيء الصيت محلياً وعربياً، وأعادها إلى رمزية تمثيل الوطن وسيادة الدولة.
وقد شهدت المرحلة الانتقالية، التي استمرت حوالي أربع سنوات، صعوبات ومنعرجات، لم تخل من مثيلاتها بلدان أخرى. لكنها أثمرت، أيضا، تجربة غنية من مشاركات المجتمع المدني والسياسي، تمثّلت في حوارات وممارسات ووثائق كثيرة ستبقى مرجعاً لكل دارس. في هذا المجال، تميز على الخصوص، نضج مسار حركة النهضة وقيادتها التي تمكنت من تجاوز مأزق جماعات الإسلام السياسي الأخرى في العالم العربي، عندما تخّلت عن فكرة الاستئثار بالسلطة والحاكمية، وتقبلت واقعياً فكرة المشاركة والاعتراف بالتعددية. وليس أدل على ذلك من مباركتها نجاح حزب نداء تونس، وتقدمه عليها في الانتخابات. في المقابل، تمكنت الحركة العلمانية من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسية والاجتماعية على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة، ورفضت إقصاء الآخرين، وتجلى ذلك بإعلان حزب نداء تونس، الفائز الرئيس في الانتخابات، أنه لن ينفرد بتشكيل الحكومة، على الرغم من حيازته المرتبة الأولى.
هذا المسار الناجح، لا شك أنه استند إلى خصوصية التجربة التونسية، وتاريخ دولتها بعد الاستقلال، الذي كرّس مدنية الدولة، والحريات الأساسية، فبقي تأثيرهما قوياً، على الرغم من لواحق استبداد زعيم الاستقلال، الحبيب بورقيبة، وخلفه زين العابدين. وإذا كانت تونس أوّل بلد افتتح الربيع العربي، فها هي تمضي بصورة جليّة، في مسار الديمقراطية المزدهر، بينما ما زالت باقي بلدان الربيع العربي تتعثر، وقد دخل بعضها مسار الحرب الأهلية من دون آفاق منظورة.
ويمكن المضي طويلاً في ملاحظة الفروق بين تجربة المسار التونسي ومسار البلدان الأخرى، ومتابعة تحليل عواملها المختلفة، كالنفط والموقع والمكانة والأدوار الإقليمية والدولية وتدخلاتها إلخ. لكن، ما تلفت النظر بين ذلك كله العوامل الذاتية التي كان لها، في رأينا، الدور الحاسم في نجاح مسار الثورة التونسية، وفي تعثر باقي ثورات الربيع العربي، ومنها خصوصاً الثورتيْن المصرية والسورية. وهو دور يتعلق بالبشر الفاعلين، بوعي ونضج الحركة السياسية، بالممكنات التاريخية، بين كل ما يجري الحديث عنه من عوامل موضوعية وذاتية وحتمياتّ.
"
تمكّنت الحركة العلمانيّة من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسيّة والاجتماعيّة على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة
"
ذلك أن ما قامت به حركة النهضة لم تقم به جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل قامت بعكسه بالضبط. وذلك تمثّل في توجه "الإخوان" إلى الاستئثار بجميع السلطات، من البرلمان إلى الرئاسة إلى القضاء، على عكس ما كانت قد أعلنته في بداية الثورة، ثم تراجعت عملياً عنه. وبغض النظر عن نجاحها في انتخابات الرئاسة والشرعية وممارساتها، فقد أثار ذلك مخاوف الآخرين من الإقصاء، وعلى صورة تلك المخاوف أو أوهامها، تأسس حلف مضاد ومماثل في إقصائيته، تطورت معه الأزمة التي أدت بالثورة والمجتمع المصري إلى تعثّر وصراع مستمرين.
أما في سورية، فمنذ البدء، رفض النظام فكرة المشاركة وتقبل الآخر، الذي عبّر عنه الحراك السلمي في معظم أرجاء البلاد، وما طالب به الخارجون إلى المظاهرات بعد صمت طويل. وحقاً، كانت لسورية خصوصيتها هي الأخرى في هذا المجال، فهي لم تكن تملك تراث الدولة المدنية، ولا حرياتها الأساسية، بل استندت، طويلاً، إلى قاعدتي الحزب القائد والوراثة الأبوية. ومع دعم الحليف الإيراني الذي اعتبر النظام السوري قلعته الأمامية، والحليف الروسي الجديد الذي وجدها فرصة للعودة إلى المسرح الدولي، لم يكتف النظام برفض المشاركة، بل ذهب، في ذلك، إلى حده الأقصى، في محاولة لإلغاء الآخر، أو إسقاط الشعب، كما ورد في صياغة ساخرة، لكنها شديدة التعبير. وذلك، حين استخدم القوة الفائقة والعنف غير المسبوق في قتل شعبه وتدمير بلداته، كما عمد إلى تهجير الملايين، وتغيير البنية السكانية في مدن ومناطق مختلفة من سورية.
سيتحدث كثيرون عن حتميات ما حدث، وسينشغل المؤرخون والباحثون بالأسئلة عن ضروراته ولزومه، على الرغم، من درس تونس الراهن الذي يشير إلى نجاح البشر الفاعلين في صناعة الممكن تاريخياً، وانشغال ساستهم بما ينفع الناس، بدلاً من تمترس آخرين، أنظمة وأحزاباً ورجالاً، خلف عقائد وممارسات، أحالها التاريخ إلى متحفه. وستزداد الأسئلة مرارة عن سورية، حين نتابع نتائج رفض المشاركة والاعتراف بالآخر، وتحولها على يدي النظام وصنوه الداعشي، إلى إرهاب يعصف بحياة السوريين وأحوالهم تحت سمع العالم وبصره.
يتساءل اللبنانيون، بكثير من الخوف والقلق، عن المصير الغامض الذي يواجهه الوطن الصغير، وسط المتغيرات التي تعصف بمستقبل دول المنطقة.
ومثلهم يتساءل أيضاً الأردنيون الذين رمتهم الأحداث في عين العاصفة منذ صدامات «أيلول الأسود». أي منذ باشر الأمين العام لـ «الجبهة الشعبية» الدكتور جورج حبش عمليات التحدي لسلطة الملك حسين. وكان ذلك في 6 أيلول (سبتمبر) 1970 يوم اختطف أنصاره أربع طائرات مدنية واحتجزوا مئات الرهائن. وقد توقع حبش في حينه إسقاط النظام الأردني والاستيلاء على الحكم.
والثابت أن الملك الراحل كان ينتظر تلك المواجهة، بدليل أنه شكل حكومة عسكرية برئاسة وصفي التل استهدفت كل المنظمات الفلسطينية بما فيها «فتح» وجماعة ياسر عرفات.
ولما استخدم الجيش الأردني السلاح الثقيل ضد تلك المنظمات، طلب الفدائيون الدعم العسكري من سورية. وأحدث ذلك المطلب خلافاً صامتاً بين حافظ الأسد ومنافسه على القيادة صلاح جديد، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على ساحة المعركة المحتدمة في الأردن.
وعلى رغم ذلك الخلاف المستحكِم بين أقوى شخصيتَيْن عسكريتين علويتين في دمشق، فقد قرر حافظ الأسد السيطرة على مدينة إربد في شمال الأردن. وكان الهدف من وراء تلك الخطوة إقامة منطقة آمنة يلجأ اليها الفدائيون لعلها تساعدهم على التفاوض مع الملك حسين. وفي الوقت ذاته، أمر بإرسال رتل من الدبابات لمحاصرة الأردن، ومنع حكومة وصفي التل من استكمال خطة المطاردة التي دفعت عدداً من الفدائيين للهرب الى اسرائيل.
في العشرين من أيلول، اتصل العاهل الأردني بإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون طالباً منها المساعدة. وكان طلبه بصورة استغاثة لأن موسكو حاولت استخدام حليفتها سورية لإسقاط النظام الاردني. واستغل هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، التدخل السوفياتي ليطلب من اسرائيل التدخل بطيرانها الحربي، ومنع تقدم الدبابات السورية باتجاه الأردن.
وبعد اشتباكات عنيفة دامت يومين، فقدت خلالها دمشق عدداً كبيراً من الدبابات، أمر حافظ الأسد قواته بالانسحاب. خصوصاً بعدما رفض تنفيذ اقتراح صلاح جديد بضرورة إرسال مساندة جوية، رداً على هجمات الطيران الأردني والاسرائيلي.
واستغل صلاح جديد عصيان وزير الدفاع (حافظ الأسد)، ليقابله بالدعوة الى مؤتمر طارئ للقيادة القومية، بغرض محاسبته. وجاء رد الأسد مفاجئاً بحيث إنه قابل تلك الدعوة بإعلان الحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني /نوفمبر 1970)، فأمر باعتقال صلاح جديد وجميع أعضاء القيادة البعثية آنذاك. وبقي جديد في سجن المزّة مدة 23 سنة، الى أن توفي في 19 آب (اغسطس) 1993.
بعد انقضاء أكثر من سبع سنوات على فرار منظمة التحرير الى لبنان، عقد آرييل شارون مؤتمراً صحافياً أعلن فيه شعار المرحلة المقبلة بأن «الأردن هو فلسطين». وهاجم في ذلك المؤتمر غولدا مائير، واتهمها بارتكاب خطأ تاريخي كونها انحازت الى الملك حسين أثناء نزاعه مع ياسر عرفات، لاعتقادها بأن «الخيار الأردني سيجنّب اسرائيل الحاجة الى مواجهة القضية الفلسطينية».
وتحاشياً لتكرار ذلك الخطأ، اقترح شارون اعتماد سياسة مناقضة لسياسة مائير حيال عمّان. أي الامتناع عن مساعدة الأردن ضد مهددي النظام في حال تعرّض لأزمة وجود. وقال، في معرض الدفاع عن موقفه، إن استيلاء الفلسطينيين على الحكم في الأردن عام 1970، كان يمكن أن يوفر على اسرائيل ممانعتها الخفية لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة.
والثابت في هذا السياق، أن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو تبنى خيار شارون، وقرر توسيع عملية الاستيطان في القدس المحتلة، على رغم اعتراض إدارة اوباما.
وترى مصادر عربية في واشنطن أن التلاسن بين جماعة اوباما وجماعة نتانياهو ليس أكثر من مسرحية متَّفق عليها بغرض تحرير الرئيس الاميركي من التبعات المترتبة عليه تجاه السلطة الفلسطينية.
ويتوقع الرئيس محمود عباس استمرار التمثيلية المفتَعلة طوال مدة السنتين المتبقيتَين من حكم اوباما، الأمر الذي يوفر لإسرائيل الوقت الكافي لابتلاع القدس الشرقية وزيادة حجم التوسع الاستيطاني.
وقد نبّه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الى أخطار التصعيد الاسرائيلي، وحذر من انعكاساته السلبية على اتفاق وادي عربة للسلام بين الأردن واسرائيل.
ويتردد في عمّان أن اسرائيل قد تستغل التظاهرات والاضرابات التي يدعو اليها زعماء التيارات السلفية الجهادية في عمّان والمدن الأخرى، لزيادة حملات التحريض. لهذه الأسباب وسواها، أبلغ العاهل الأردني كتلة التجمع الديموقراطي أن بلاده لن تدخل على خطوط الاشتباك البري مع قوات تنظيم «الدولة الاسلامية». وكان ذلك التبليغ بمثابة إعلان موقف سياسي واضح بأن الأردن لن يعطي اسرائيل الذريعة المطلوبة لاستغلال الخلافات الداخلية من أجل تسويق مشروع شارون الذي تبناه نتانياهو: «الأردن هو فلسطين».
بالعودة الى مخاوف اللبنانيين وقلقهم من أن تكون أحداث عرسال وطرابلس مقدمة لإعلان انفصال المتمردين، فإن الجيش اللبناني حسم هذا الموضوع، وألغى فكرة إقامة إمارات متطرفة. ويرى أهل طرابلس أن مدينتهم ألفت هذه الأساليب المتطرفة خلال الحرب الأهلية. وقد برز في حينه الشيخ سعيد شعبان الذي أعلن إمارته بدعم من ايران. ثم ظهر في الفترة ذاتها أمير الميناء هاشم منقارة، وأمير باب التبانة أبو عربي.
وفي عام 1986 قرر الجيش السوري وضع حد لهذه الظواهر السياسية النافرة التي روَّعت عاصمة الشمال بأعمالها الاستفزازية. تماماً مثلما فعل الجيش اللبناني الأسبوع الماضي.
وتبيّن من التحقيق مع المتهم أحمد ميقاتي أن كل المتمردين كانوا يحاولون تقليد «داعش». والمَثل على ذلك أن ميقاتي كان يسعى الى احتلال قرى مصايف آل كرامي، أي عاصون وسير الضنيّة وبقاعصفرين، تمهيداً لاعلانها ملاذاً آمناً للمسلحين. كما تبيّن أيضاً أن شادي المولوي وأسامة منصور كانا على علم مسبق بخطة ميقاتي، ودعوته الى ربط القلمون السورية بالساحل اللبناني. وذكر في التحقيق أن هذه الخطة مستوحاة من قيادة «داعش» التي تريد استكمال السيطرة على سورية، والقطاع اللبناني الملاصق لحدودها بدءاً من عرسال حتى طرابلس.
بعض المنظرين اللبنانيين يعتمد في قراءة مستقبل الوطن الصغير على اللاءات التي حملها السفير الاميركي دين براون الى الرئيس حافظ الأسد. وأهم ما جاء في تلك اللاءات الثلاث المحافظة على النظام اللبناني كثمن للقبول بدخول القوات السورية عام 1976. ومثلما اشترطت اسرائيل في ذلك الحين منع إقامة كوبا عربية في جنوب لبنان... يمكن أيضاً أن تكرر الشرط ذاته مع «حزب الله». مع فارق أساسي هو أن «حزب الله» ليس جسماً غريباً مثل منظمة التحرير، وأن موقفه المعادي لإسرائيل ينطلق من قرار جماعي تضمنته وثيقة الطائف. لهذه الأسباب وسواها يبقى قرار المحافظة على سلامة النظام اللبناني رهناً بمشيئة اللبنانيين وحدهم.
ومن أجل إعادة تثبيت هذا الموقف، قامت فعاليات من منطقتي البقاع وبعلبك بصوغ «وثيقة شرف» تدعو الى نبذ العصبيات والعنف... وتحذر من عدو جديد تكفيري ووحشي لا يتردد في ذبح الناس وتدمير تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.
ويبدو أن هذه المسكنات لم تقنع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي أكد للمسؤولين في بيروت أن الاستقرار اللبناني هو أولوية بالنسبة الى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. وهذا ما كرره مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، تيري رود لارسن، الذي وصف عملية نزع سلاح «حزب الله» بأنها أصبحت أكثر تعقيداً بسبب وجود «داعش» وجبهة النصرة. وقال إن وجود هذه المنظمات قد يدفع المواطنين الى حرب أهلية أخرى، الأمر الذي يشجع على دعم دور الجيش كونه يمثل قوة الاستقرار الحيادية الوحيدة في لبنان.
وترى مصادر سياسية أن هذا الاستقرار يعتمد في بعض جوانبه على تطور العلاقات الايرانية - الاميركية، بحيث يؤثر ذلك في موقف «حزب الله» ومدى تعاونه مع الدولة. خصوصاً أن زعماء 14 آذار ينتقدون سياسة الحزب، لأنه، في نظرهم، يمثل الجمهورية الايرانية لا الجمهورية اللبنانية، وأن اداءه السياسي والعسكري كثيراً ما يُحرِج الحكومة التي يشترك فيها. وهم يطرحون موضوع مساندته العسكرية للنظام السوري، حليف ايران لا حليف لبنان. وبسبب ذلك التحالف نشبت معارك في لبنان بتأثير الحرب الأهلية في سورية.
مصادر مؤثرة في «حزب الله» تتوقع خروج بشار الأسد من أزمته الداخلية والخارجية. وهي ترى أنه يسيطر على ما نسبته 25 في المئة من مساحة الدولة الأصلية. أي على دولة العلويين ومدن الساحل والممر الاستراتيجي الذي يربط دمشق باللاذقية. ولكن هذا التصور لا يعفي مسؤولية الأسد عن مقتل 180 ألف نسمة، بينهم شريحة كبيرة من الجيش النظامي. كما لا يعفيه من تشريد خمسة ملايين مواطن، موزعين بين تركيا والأردن ولبنان والعراق وكردستان وبعض العواصم الاوروبية.
ويعتبر الوزير رشيد درباس أن حصة لبنان من النازحين تشكل عبئاً مالياً واجتماعياً وتربوياً وإنسانياً يصعب تحمله من دون مساندة خارجية، عربية أكانت أم أجنبية. ولقد فوجئ أثناء زيارته لمخيم الزعتري في الأردن بأن سجلات النازحين السوريين تضم معلومات واسعة عن كل فرد، وأن تحركاتهم تخضع لمراقبة متواصلة.
يروي الشاعر سعيد عقل - أطال الله في عمره - حكاية صديقه الراحل ايليا أبو جودة، يوم دخل المستشفى في سويسرا لإجراء عملية في عينه. ولما حدد له الطبيب المختص موعد العملية بعد أسبوعين، قرر البقاء في الفندق في جنيف. ولكنه فوجئ بزيارة موظف الأمن الداخلي الذي أبلغه بضرورة مغادرة البلاد، لأن وجوده أصبح غير قانوني... ولأن هذا الوجود يخضع لـ «كوتا» المغتربين التي لا يجوز أن تزيد على واحد ونصف في المئة.
ومنعاً للإزعاج، طلب أبو جودة من فرع البنك الذي يخصه في جنيف دفع ضمانة تتعدى الأربعة ملايين دولار. وكان جواب الموظف حاسماً، بأن ضبط ميزان الدخول الى سويسرا لا يخضع للصفقات المالية... بل لقواعد النظام المحلي!
في تحقيقات تلفزيونية عن اللاجئين السوريين، ثمة أمر يتكرر. نساء يخفضن رؤوسهن أو يغطين وجوههن أو ينسحبن بسرعة من أمام جولات العدسات التلفزيونية المتطفلة. بعض الرجال يفعل أيضاً...
حرمة الأموات في الصراعات، وهنا الصراع السوري تحديداً، انتهكتها الشاشات فماذا عن حرمة الأحياء؟ هل يسأل الصحافيون النسوة والرجال الذين يبدو بعضهم أيضاً شديد الحرج من ظهوره بهذه الصورة، عن إمكان تصويرهم قبل القيام بذلك، أو أنهم يعتبرون أنهم يؤدون لهم خدمة بعرضهم على العالم ليتفرج على مأساتهم ويتعاطف معها؟
مع كل الصور التي تظهر الفظائع والأفراد في سورية بأوضاع غير إنسانية، بات الدفاع عن حق الفرد بالخصوصية أمراً ضرورياً. مجموعة «أبو نضارة» السينمائية السورية تدافع اليوم عن «حق الصورة» كأحد الحقوق الإنسانية.
المجموعة التي تبث أسبوعياً فيلماً على الشبكة يتمحور حول الحرية والكرامة لكل السوريين وتلقي الضوء عبر شهادات أفراد على كل جوانب الصراع السوري، فازت أخيراً بجائزة تمنحها الحكومة الهولندية للمبدعين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فهي «عبر لغة السينما تكشف الصراع على الصعيد الإنساني وتدافع عن حق السوريين في صورة كريمة».
المجموعة ترغب عبر الصورة بخلق صلات بين سورية وبقية العالم خارج إطار الحرب السياسية. وتصف المؤسسات الإعلامية بأنها «منفلتة العقال»، فالحق بالصورة نتعرض اليوم لانتهاكات متزايدة مع «تطور وسائل الاتصال وضرورات الإعلام» مما يسيء في شكل خاص للمواطنين غير القادرين على مواجهة كل من يعبث بصورتهم أو يستغلها. وقد وجهت رسائل للإعلام العربي والغربي بهذا الخصوص. وفي مقالة نشرتها أخيراً صحيفة «لوموند»، تلوم المجموعة التلفزيونات الأوروبية التي لم تنظر كما يجب للمجتمع السوري منذ بداية انتفاضته وبدلاً من إعطاء «صورة» لشعب يأمل بديموقراطية استسلمت لصور «الثائر» النمطية ثم استبدلتها بعد تعقد الأوضاع بمفهوم «الشرق المعقد»، مفضلة تأكيدات الماضي على محنة الواقع. لقد حُصر السوري في صورة معينة وحرم من كرامته وأذل على الشاشات وساهم ذلك في أن يبدو قابلاً للتصديق في عيون المشاهدين ما يحصل اليوم من «إعلان للخلافة»، كما أدى إلى تعرف «مذلولين» من فرنسا وبريطانيا على أنفسهم في إخوتهم السوريين المنذلين ونخوتهم للذهاب لنجدتهم.
إن صورة السوري في الإعلام عموماً، تنتهك من خلال عرض صور أجسادهم المعذبة على شاشات العالم من دون موافقتهم الأمر الذي يسيء لكرامتهم كما للإنسانية جمعاء بحيث بات من الضروري التأكيد على حق الإنسان في صور كريمة مهما كانت الظروف. إن صعوبات العمل الصحافي، بخاصة في سورية، وسرد ما يجري يجب ألا يمنع المحطات من احترام مبادئ الكرامة الإنسانية والتعامل بحدود متطلبات الأخبار ونشر الصور.
إن الحقب التاريخية يصعب تمييزها قبل أن تنتهي. فلم يصبح عصر النهضة معروفا بعصر النهضة إلا في وقت لاحق. ويصدق نفس القول على العصور المظلمة (أو القرون الوسطى) التي سبقت عصر النهضة، أو أي عصور أخرى. والسبب بسيط: فمن المستحيل أن نعرف ما إذا كان أحد التطورات الواعدة أو المثيرة للقلق يأتي منفردا أو يمثل بداية اتجاه دائم.
بيد أنني أزعم -رغم ذلك- أننا نشهد اليوم نهاية حقبة من تاريخ العالم وبزوغ فجر حقبة أخرى جديدة. لقد مر ربع قرن من الزمان منذ سقط سور برلين ونهاية أربعين سنة من الحرب الباردة. ثم أعقب ذلك عصر التفوق الأميركي، والازدهار المتزايد الذي تحقق لكثيرين، وظهور عدد كبير من المجتمعات والأنظمة السياسية المنفتحة نسبيا، وانتشار السلام، بما في ذلك التعاون الملموس بين القوى الكبرى. والآن، انتهى ذلك العصر أيضا، لكي تبدأ حقبة جديدة أقل خضوعا للنظام وأقل سلمية.
الشرق الأوسط الآن يعيش المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عاما، حيث من المحتم أن تعمل الولاءات السياسية والدينية على تأجيج صراعات مطولة ووحشية أحيانا داخل وعبر الحدود الوطنية. ومع سلوكها في أوكرانيا وأماكن أخرى، تتحدى روسيا ما كان يُعَد نظاما أوروبيا مستقرا في الأغلب والذي تأسس على المبدأ القانوني الذي يقضي بعدم إمكانية الاستحواذ على الأرض بالقوة العسكرية.
ومن جانبها، ظلت آسيا في سلام في الأغلب الأعم. ولكنه سلام غير مستقر، سلام قد يتلاشى في أي لحظة نظرا لعدد كبير من المطالبات التي لم يبت فيها بالسيادة على بعض الأراضي والمناطق المختلفة، وهو ما من شأنه أن يثير النزعات القومية، فضلا عن الافتقار إلى الترتيبات الثنائية أو الإقليمية القوية بالقدر الكافي لمنع المواجهات أو تهدئتها.
ومن ناحية أخرى، فإن الجهود العالمية الرامية إلى إبطاء تغير المناخ، وتعزيز التجارة، ووضع قواعد جديدة للعصر الرقمي، ومنع أو احتواء تفشي الأمراض المعدية، غير كافية.
الواقع أن بعض الأسباب وراء حدوث كل هذا تعكس تغيرات جوهرية في العالم، بما في ذلك انتشار وتفتت القوة إلى عدد متزايد من الدول والكيانات الفاعلة غير التابعة لدولة بعينها، والتي تتراوح بين المنظمات الإرهابية والمليشيات المسلحة إلى الشركات الكبرى والمنظمات غير الحكومية.
ولن تكون إدارة الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري العالمي والتدفقات العالمية من المخدرات والأسلحة والإرهابيين ومسببات الأمراض بالمهمة السهلة حتى في ظل أفضل الظروف، وتزداد المهمة صعوبة وتعقيدا بسبب الافتقار إلى الإجماع بشأن ما ينبغي القيام به من عمل والافتقار إلى الإرادة اللازمة للعمل حتى في حالة التوافق عليه.
وهناك أسباب أخرى وراء الفوضى العالمية المتنامية تتعلق بالولايات المتحدة. فكانت حرب العراق في عام 2003 سببا في تفاقم التوترات بين السُنّة والشيعة وإزالة حاجز بالغ الأهمية أمام الطموحات الإيرانية.
وفي وقت أقرب إلى الحاضر، دعت الولايات المتحدة إلى تغيير النظام في سوريا، ولكنها بعد ذلك لم تفعل إلا أقل القليل لتحقيق تلك الغاية، حتى بعد استخدام القوات الحكومية للأسلحة الكيميائية بشكل متكرر، في تجاهل للتحذيرات الأميركية. وكانت النتيجة نشوء الفراغ الذي شغله تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة.
وفي آسيا، فَصَّلَت الولايات المتحدة سياسة جديدة من المشاركة المتزايدة (أو ما أسمته تحويل "المحور" الإستراتيجي إلى المنطقة)، ولكن ما فعلته بعد ذلك لم يكن كافيا لتحويل ذلك الأمر إلى حقيقة واقعة.
وكانت نتيجة هذه الأحداث وغيرها نشوء شكوك واسعة النطاق حول مصداقية الولايات المتحدة وجدارتها بالثقة. ونتيجة لهذا، بدأ عدد متزايد من الحكومات وغيرها من الكيانات في التصرف بشكل مستقل.
وهناك أيضا تفسيرات محلية لتنامي حالة عدم الاستقرار العالمية. فالشرق الأوسط يعاني من قدر كبير من عدم التسامح ونقص كبير في الوفاق، سواء بشأن الحدود بين الحكومة والمجتمع أو الدور الذي يلعبه الدين داخلها. ومن ناحية أخرى، لا تفعل البلدان في المنطقة وبالقرب منها إلا أقل القليل لمنع صعود التطرف أو مكافحته متى ظهر وأينما ظهر.
وتبدو روسيا بقيادة فلاديمير بوتين عازمة على استخدام الترهيب والقوة لاستعادة الأجزاء المفقودة من إمبراطوريتها. وتفتقر أوروبا بشكل متزايد إلى السبل أو العقلية اللازمة للاضطلاع بدور عالمي كبير. وتتسامح حكومات عديدة في آسيا مع النزعات القومية أو حتى تشجعها بدلا من إعداد الشعوب لتنازلات وتسويات صعبة ولكنها ضرورية مع الجيران.
ليس المقصود من كل هذا أن أزعم أننا مقبلون على عصور مظلمة. فالترابط المتبادل يعمل بمثابة المكابح لما يمكن أن تفعله الحكومات دون أن تلحق الأذى بنفسها. فقد تعافى الاقتصاد العالمي بعض الشيء بعد أن بلغ أدنى مستوياته قبل ستة أعوام. وأوروبا مستقرة في الأغلب الأعم، كما هي حال أميركا اللاتينية وقسم متزايد من أفريقيا.
وهناك أيضا إمكانية صد ودحر الفوضى الجديدة. فقد تسفر المفاوضات الدولية عن نتيجة من شأنها أن تجعل إيران بعيدة بالقدر الكافي عن القدرة على إنتاج الأسلحة النووية، وهو ما من شأنه أن يبدد الشعور لدى جيرانها بالحاجة إلى مهاجمتها أو العمل على إنتاج أسلحة مماثلة.
ومن الممكن اتخاذ خطوات لإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية عسكريا، والحد من تدفق المجندين والدولارات إليه، ودعم بعض الكيانات التي يستهدفها التنظيم. وقد تدفع العقوبات وانخفاض أسعار النفط روسيا إلى قبول التسوية بشأن أوكرانيا. وقد تختار الحكومات الآسيوية اتخاذ الترتيبات الإقليمية الكفيلة بدعم السلام.
ولكن من المرجح أن يكون ما قد يمكن إنجازه محدودا بفِعل السياسة الداخلية للبلدان المختلفة، وغياب الإجماع الدولي، وانحسار نفوذ الولايات المتحدة، التي لا تستطيع أي دولة أخرى أن تحل محلها، والتي قد ترغب قِلة من البلدان حتى في دعمها في تعزيز النظام.
والنتيجة هي عالم أقل سلاما وأقل ازدهارا وأقل براعة في التصدي للتحديات التي يواجهها مقارنة بحال العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
رغم كثافة الاتهامات المتبادلة وتناقضها بين الفصائل الموصوفة بالمعتدلة مثل جبهة ثوار سوريا وحركة حزم من جهة، وجبهة النصرة والفصائل القريبة منها من جهة أخرى، إلا أن هناك بضع وقائع مؤكدة يمكن الركون إليها لبناء قراءة متوازنة للصراع الذي انفجر بين الطرفين مؤخرا في شمال سوريا.
أول تلك الوقائع أن الطرفين كانا متأهبين لقتال بعضهما منذ زمن طويل، وأن الأصابع كانت على الزناد، فالأطراف المعتدلة المدعومة أميركيا تتوجس الريبة من الجهاديين، الذين تعتقد أنهم يتحينون الفرصة لابتلاعها وإعلان إمارة خاصة بجبهة النصرة وحلفائها على غرار دولة “داعش”، فيما يتحسب الجهاديون من أجندات محاربة الإرهاب التي لابد أن تكون قد أرفقت بالدعم الكبير الذي يتلقاه فصيل جمال معروف على وجه التحديد.
ثاني تلك الوقائع هي أن جبهة النصرة في طريقها إلى الاختصاص بمنطقة شمال غرب سوريا، وجعلها منطقة نفوذ مقصورة عليها، فهي منذ أن هزمت في شرق البلاد وطردت على يد “داعش”، بدأت بتجميع قواتها في هذه المنطقة، وعينها على جبل الزاوية، الذي يقع تحت نفوذ جبهة ثوار سوريا، وهو مكان يصلح لأن يكون قاعدة ومقر قيادة لحرب عصابات طويلة الأمد، سواء مع النظام أو مع القوى الغربية، وما هجومها الخاطف والناجح نسبياً على مدينة إدلب، ومن ثم بسط سيطرتها على عدد من البلدات والمدن في يوم واحد، سوى مؤشر على ذلك الاستعداد المسبق لخطتها، على أن هذا الحصن الطبيعي ليس كل ما يفوز به من يسيطر على شمال سوريا الغربي، فهناك أيضاً المعابر الحدودية الرسمية مع تركيا، وطرق التهريب المختلفة، وعائداتها مورد مالي لا يستهان به، إضافة إلى الكميات المهولة من السلاح المخزن لدى الفصائل المختلفة هناك، وبعضها نوعي قدم لها على خلفية كونها فصائل معتدلة، أما وقوع هذه المنطقة بمحاذاة اللاذقية وجبال العلويين وصولاً إلى البحر المتوسط، ووقوعه بين عاصمة الشمال حلب والعاصمة السورية دمشق مروراً ببوابة حماة، فيمنحها موقع حاكم ليس في الشأن السوري وحسب بل على مستوى الإقليم، ولا يمكن مقارنة أهمية تلك المنطقة بالصحارى الفارغة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية على سبيل المثال.
ثالث تلك الوقائع أن الصدام حدث عندما طاردت جبهة ال ثوار سوريا بضعة عشرات من عناصرها الذين انشقوا بسلاحهم والتحقوا بجبهة النصرة، وهو مؤشر أول على ارتدادات السياسة الأميركية الأنتقائية ضد الإرهاب على حلفائها المحليين، فهي تستهدف التنظيمات المتطرفة السنية، وتدعم أو تغض النظر عن التنظيمات الشيعية المتطرفة، فالكفة الآن داخل جمهور الثورة السورية، وخاصة من المقاتلين، بدأت تتحول من التعاطف مع الجهاديين، إلى الوقوف إلى جانبهم ضد حرب الحلفاء، ومن يواليهم من السوريين.
أما رابع الوقائع فهي عزوف القوى الدولية والإقليمية المتنطعة للحرب على الارهاب عن دعم الفصائل المعتدلة بشكل جدي، رغم تحريضها الدائم لها، وتمييزها عن الآخرين بتقديم بعض الأسلحة والذخائر، لكنها كانت دون المستوى المطلوب.
وكانت الضربة القاصمة لهذه القوى، هو عدم اعتمادها كطرف سوري في الحرب التي يشنها التحالف العربي الغربي على “داعش”، وإبقائها على الحياد، بعيدة عن مجريات هذا الحدث بشكل صريح وعلني عبر عنه الجنرال جون آلن منسق عمليات التحالف عندما قال إن “هذه القوات لن يكون لها دور في الحرب الحالية، ولن ندعمها لمحاربة نظام الأسد، بل للدفاع عن نفسها، ونعدها لتشارك مع هذا النظام في صياغة الحل السياسي المستقبلي، الذي سيكون الأسد شخصيا خارجه”.
والخلاصة أن الاستراتيجية الأميركية تسعى في جانب منها إلى تقوية الفصائل الجهادية، وتأمين ما يمكن وصفه بالتغذية الراجعة لها، ويبدو أنها غسلت يديها من فكرة إسقاط نظام بشار الأسد واستبداله بالمعارضة الحالية العاجزة والضعيفة، وتركز اهتمامها، فقط، على جعل سوريا بلدا تتقاسمه قوتا أمر واقع مرفوضتان من قبلها، هما نظام الأسد والجهاديون السنَّة، وإخلاء الحلبة لهما حتى ينهكا بعضهما البعض.
وعلى نيران الحرب التي ستزداد اضطراما هناك، سيتم إنضاج عدة طبخات إقليمية في آن واحد، من إيران إلى مصر، مرورا بالعراق ولبنان وفلسطين، أما السوريون فعليهم في هذه المرحلة أن يعتبروا بلادهم منطقة عمليات عسكرية، وأن يحزموا حقائبهم ويغادروا إلى بلدان اللجوء، فالمجتمعون في مؤتمر برلين الخاص بسوريا، أعلنوا بلا مواربة أنهم يسعون لإيجاد حلول تمتد لسنوات لللاجئين السوريين، وبأعداد متزايدة!
فيما أعين العالم مفتوحة على ما يجري شمال سوريا، يتقدم الثوار في جنوبها بهدوء ويحققون انتصارات، ويعتقد كثيرون أن تغيير موازين القوى سيأتي من هناك.
سيطر ثوار سوريا، مؤخرا، في درعا بجنوب سوريا على آخر المقرات العسكرية والحواجز التي تفصلهم عن المعبر الحدودي الرئيسي مع الأردن، وباتوا على بعد مئات الأمتار عن هذا المعبر، وإن سيطروا عليه، فإن البوابات البرية السورية الواصلة بالعالم الخارجي ستصبح بيد المعارضة، ما عدا البوابات مع لبنان.
يعتبر المراقبون أن السيطرة على المعبر الرئيسي مع الأردن لن يكون مجرد حدث عسكري عابر، بل هو هدف استراتيجي من شأنه قلب الموازيـن العسكرية، لكن وضعاً إقليميا معقـدا يدفـع الثوار لعدم إحكام السيطـرة على هـذا المعبـر في الـوقت الـراهن.
ما يلفت الانتباه أن غالبية الكتائب التي شاركت في السيطرة على المنطقة الجنوبية من سوريا هم من كتائب الجيش السوري الحر، وهي كتائب شبه منضبطة -نسبيا- ولا علاقة عضوية لها بالقاعدة أو بتنظيم الدولة الإسلامية، وإن كان بعضها له علاقات جيدة بجبهة النصرة، لكنها، بالمجمل، من الكتائب القليلة التي تقوم بعملياتها العسكرية ضد النظام باسم الجيش السوري الحر، وترفع علم الثورة، وتؤكد في بياناتها على المبادئ الأساسية للثورة التي انتفض السوريون من أجلها قبل ثلاث سنوات ونصف.
يضم آخر معبر حدودي سوري مع الأردن قوات عسكرية ضخمة للنظام، ولهذا ليس من السهل السيطرة عليه، لكن قـوات النظام هناك باتت محاصرة بعد أن قطع الثوار الطريق الدولي الذي يصل العاصمة بجنوب سوريا وبكل منطقة الخليج العربي، وهذا الطريق هو الطريق الوحيد للتصدير والحركة التجارية بين لبنان وتركيا وأوروبا من جهة، ودول الخليج العربي من جهة ثانية.
لطالما اعتبر أن السيطرة على المعبر الحدودي بين سوريا والأردن هدفا غير مرحب به من قبل جميع الأطراف، فالنظام لا يريد أن يخسره، فعبره يُدخل قطع الغيار والعديد من المستوردات الأساسية غير المسموح له باستيرادها نظاميا بسبب العقوبات الأوروبية والأميركية، كما يُدرّ عليه ملايين الدولارات من حركة الدخول والخروج، فضلا عن أنه موقع استراتيجي عسكرياً ومعنوياً.
كذلك للأردن مصلحة أن لا يقع هذا المعبر بيد المعارضة، لأنه يجني ملايين الدولارات من تجارة الترانزيت عبره، كما يخشى أن تؤدي سيطرة المعارضة السورية المسلحة عليه لتدفق المقاتلين المتشددين منه ذهابا وإيابا.
أما دول الخليج العربي -حليفة المعارضة السورية- فهي تخشى إغلاق طريق الشاحنات التي تنقل البضائع من البحر المتوسط إليها، وكذا الأمر لا تريد الولايات المتحدة تشتيت أنظار العالم في الوقت الراهن عما يحدث في شمال سوريا وحربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية هناك.
لكن بعض المراقبين يرون أن هنـاك تغييرا دراماتيكيا يحصل الآن في المنطقة الجنوبية من سوريا، ويعتقـدون بوجود قـرار دولي بأن تصبح المنطقة العازلة في جنوب سـوريا لا في شمـالهـا، وأن تنطلق أي قوات مدرّبـة للمعارضـة السـورية من جنوب سوريا لأنهـا أكثـر قـرباً مـن العـاصمة دمشـق، ولأن توريد الأسلحـة أسهـل عن طـريق الحـدود الجنوبية لسوريا، ولعدم وجود تنظيـم الدولـة الإسلاميـة هنـاك.
في واقع الحال، إذا أردنـا معرفة تطـورات الأوضاع العسكرية في سوريا علينا أن ننظر لجنوب سوريا لا لشمالها، والكثير من المسؤولين عن الملـف السـوري في دول غربية يشيرون إلى أهمية استثنائية مستقبلية لجنوب سوريا في وضع حد للأزمة رغم عدم وضوح أي مخطـط عسكري لهذا الجنوب، لكن قراءة أولية تشير إلى أن المعارضة المسلح تتقدم بهدوء وثقة في جنوب سوريا، وسيطرت على كامل الحدود مع إسرائيل، وعلى 90 بالمئة من الحدود مع الأردن، وأصبحت على بعد 40 كم عن أطراف دمشق، ولها حاضنة شعبية مؤيدة بالمطلـق، كمـا أن ممتلكاتها من الأسلحة تتطـور باستمـرار، وتُشـرف على الإدارة المحلية والإغاثة والأمن والصيـانة في البلدات والقرى التي تسيطر عليها.
سلاح الطيران السوري هو العـامل الوحيد الذي يمنع الثوار في جنـوب سـوريا من التقدّم والسيطرة على المزيـد مـن المناطـق والاقتراب أكثر فأكثر من دمشق، وهم بحاجة، فقط، لحظر جوي ليقلبوا المعادلة، ويطالبون بحظر جوي مشابه للحظر الجـوي غير المعلن المفروض على طول الحدود السورية-الإسرائيلية، التي لم تعد تشهد هجمات جوية للنظام، بعد أن أسقط الطيران الإسرائيلي الشهر الماضي طائرة حربية اقتربت من تلك المنطقة الحدودية.
نادرا ما تقوم الكتائب الثورية بجنوب سوريا بتصريحات استعراضية، أو بمبالغات فوضوية، ويقدّر تعداد مقاتليها بنحو ثلاثين ألفا، وعندما لا تستطيع السيطرة على منطقة تعترف بذلك، وعندما تُسيطر على أخرى تُعلن ذلك ببيان مختصر يحمل توقيع الجيش السوري الحر وحده، ونادراً ما يتم ذكر أسماء الكتائب المشاركة في المعارك.
يتواجد على الطريق الفاصل بين الثوار في درعا ودمشق أربع فرق عسكرية للنظام، مدججة بأسلحة ثقيلة ومدفعية وصواريخ، وتراهن المعارضة على أن النسبة الكبرى من عناصر الجيش ستنشق إن تم فرض حظر طيران وبدأت الكتائب الثورية بالزحف نحوها.
درجة سخونة الجبهة الجنوبية السورية تتصاعد بشكل متسارع، ويتقدم الثوار ببطء لكن دون تراجع، ويسيطرون على مراكز عسكرية صغيرة ومتوسطة، وعلى منصات رادار ودبابات وناقلات جنود ومدافع أحياناً، ويبدو أن النظام عاجز عن استعادة ما يخسره هناك، بل وربما غير قادر تماماً على أن يحتفظ بما بين يديه، ويخشى تحريك الفرق العسكرية خوفا من انشقاق جنودها الذين بغالبيتهم غير معنيين ببقاء النظام، وينتمون لمدن دمّرها ولطوائف آذاها.
إن تم السماح للمعارضة السـورية المسلحة بالسيطـرة على المعبر الأخير بين سوريا والأردن، فإن هـذا يعني أن الخطة الأميركية لتلك المنطقة قد بدأت، وستبدأ مرحلة إدخال مقاتلين مهرة مدربين، وغالبا مرحلة حظر طيـران غير معلـن من قبل الثوار أنفسهم بأسلحة نوعية تصلهم بين ليلة وضحاها، وإن بقي المعبر بيد النظام، فهذا يعني أن الخطة الأميركية مؤجّلة، أو غير مكتملة، وأن هناك فترة أخرى مـن الدمار لجنوب سوريا، ولا شك أن النظام سيستمر بتدميرها ما لم يُضرب هناك بيد من حديد.
مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة. فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدريهمات التي جمعها كي يتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن، كما لو أنه قادر على تعويض الزمان!
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح!
لقد عرفت أناساً كثيرين تركوا بلدانهم، وشدوا الرحال إلى بلاد الغربة لتحسين أحوالهم المعيشية. وكم كنت أتعجب من أولئك الذين كانوا يعيشون عيشة البؤساء لسنوات وسنوات بعيداً عن أوطانهم، رغم يسر الحال نسبياً، وذلك بحجة أن الأموال التي جمعوها في بلدان الاغتراب يجب أن لا تمسها الأيدي لأنها مرصودة للعيش والاستمتاع في الوطن. لقد شاهدت أشخاصاً يعيشون في بيوت معدمة، ولو سألتهم لماذا لا يغيرون أثاث المنزل المهترئ، فأجابوك بأننا مغتربون، وهذا البلد ليس بلدنا، فلماذا نضيّع فيه فلوسنا، وكأنهم سيعيشون أكثر من عمر وأكثر من حياة!
ولا يقتصر الأمر على المغتربين البسطاء، بل يطال أيضاً الأغنياء منهم. فكم أضحكني أحد الأثرياء قبل فترة عندما قال إنه لا يستمتع كثيراً بفيلته الفخمة وحديقته الغنــّاء في بلاد الغربة، رغم أنها قطعة من الجنة، والسبب هو أنه يوفر بهجته واستمتاعه للفيلا والحديقة اللتين سيبنيهما في بلده بعد العودة، على مبدأ أن المــُلك الذي ليس في بلدك لا هو لك ولا لولدك!! وقد عرفت مغترباً أمضى زهرة شبابه في أمريكا اللاتينية، ولما عاد إلى الوطن بنا قصراً منيفاً، لكنه فارق الحياة قبل أن ينتهي تأثيث القصر بيوم!! كم يذكــّرني بعض المغتربين الذين يؤجلون سعادتهم إلى المستقبل، كم يذكــّرونني بسذاجتي أيام الصغر، فذات مرة كنت استمع إلى أغنية كنا نحبها كثيرا أنا وأخوتي في ذلك الوقت، فلما سمعتها في الراديو ذات يوم، قمت على الفور بإطفاء الراديو حتى يأتي أشقائي ويستمعوا معي إليها، ظناً مني أن الأغنية ستبقى تنتظرنا داخل الراديو حتى نفتحه ثانية. ولما عاد أخي أسرعت إلى المذياع كي نسمع الأغنية سوية، فإذا بنشرة أخبار.
إن حال الكثير من المغتربين أشبه بحال ذلك المخلوق الذي وضعوا له على عرنين أنفه شيئاً من دسم الزبدة، فتصور أن رائحة الزبدة تأتي إليه من بعيد أمامه، فأخذ يسعى إلى مصدرها، وهو غير مدرك أنها تفوح من رأس أنفه، فيتوه في تجواله وتفتيشه، لأنه يتقصى عن شيء لا وجود له في العالم الخارجي، بل هو قريب منه. وهكذا حال المغتربين الذين يهرولون باتجاه المستقبل الذي ينتظرهم في أرض الوطن، فيتصورون أن السعادة هي أمامهم وليس حولهم.
كم كان المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير توماس كارلايل مصيباً عندما قال: « لا يصح أبداً أن ننشغل بما يقع بعيداً عن نظرنا وعن متناول أيدينا، بل يجب أن نهتم فقط بما هو موجود بين أيدينا بالفعل».
لقد كان السير ويليام أوسلير ينصح طلابه بأن يضغطوا في رؤوسهم على زر يقوم بإغلاق باب المستقبل بإحكام، على اعتبار أن الأيام الآتية لم تولد بعد، فلماذا تشغل نفسك بها وبهمومها. إن المستقبل، حسب رأيه، هو اليوم، فليس هناك غد، وخلاص الإنسان هو الآن، الحاضر، لهذا كان ينصح طلابه بأن يدعوا الله كي يرزقهم خبز يومهم هذا. فخبز اليوم هو الخبز الوحيد الذي بوسعك تناوله.
أما الشاعر الروماني هوراس فكان يقول قبل ثلاثين عاماً قبل الميلاد: «سعيد وحده ذلك الإنسان الذي يحيا يومه ويمكنه القول بثقة: أيها الغد فلتفعل ما يحلو لك، فقد عشت يومي».
إن من أكثر الأشياء مدعاة للرثاء في الطبيعة الإنسانية أننا جميعاً نميل أحياناً للتوقف عن الحياة، ونحلم بامتلاك حديقة ورود سحرية في المستقبل- بدلاً من الاستمتاع بالزهور المتفتحة وراء نوافذنا اليوم. لماذا نكون حمقى هكذا، يتساءل ديل كارنيغي؟ أوليس الحياة في نسيج كل يوم وكل ساعة؟ إن حال بعض المغتربين لأشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد. وعندما يحين التقاعد ينظر إلى حياته، فإذا بها وقد افتقدها تماماً وولت وانتهت.
إن معظم الناس يندمون على ما فاتهم ويقلقون على ما يخبئه لهم المستقبل، وذلك بدلاً من الاهتمام بالحاضر والعيش فيه. ويقول دانتي في هذا السياق:» فكــّر في أن هذا اليوم الذي تحياه لن يأتي مرة أخرى. إن الحياة تنقضي وتمر بسرعة مذهلة. إننا في سباق مع الزمن. إن اليوم ملكنا وهو ملكية غالية جداً. إنها الملكية الوحيدة الأكيدة بالنسبة لنا».
لقد نظم الأديب الهندي الشهير كاليداسا قصيدة يجب على كل المغتربين وضعها على حيطان منازلهم. تقول القصيدة: «تحية للفجر، انظر لهذا اليوم! إنه الحياة، إنه روح الحياة في زمنه القصير. كل الحقائق الخاصة بوجود الإنسان: سعادة التقدم في العمر، مجد الموقف، روعة الجمال. إن الأمس هو مجرد حلم انقضى، والغد هو مجرد رؤيا، لكن إذا عشنا يومنا بصورة جيدة، فسوف نجعل من الأمس رؤيا للسعادة، وكل غد رؤيا مليئة بالأمل. فلتول اليوم اهتمامك إذن، فهكذا تؤدي تحية الفجر».
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي، أو من أجل التشوق إلى حديقة زهور سحرية في الأفق البعيد؟
كم أجد نفسي مجبراً على أن أردد مع عمر الخيام في رائعته (رباعيات): لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.
تجدُّ إيران في شد الولايات المتحدة إلى جانبها في المعركة الإقليمية الواسعة، تحديدا في سوريا والعراق واليمن وغزة، وكذلك البحرين. وهذه هي المرة الأولى التي يبدل فيها الإيرانيون استراتيجيتهم بعد أن كانت في الماضي تقوم على تحييد القوة الأميركية، بتهديدها أو إخافتها، كما جربت في أفغانستان والعراق ولبنان. اليوم، تتبنى طهران سياسة التقارب مع الأميركيين، وتقدم نفسها على أنها حليف يمكن الاعتماد عليه في حسم، وليس فقط إدارة الأزمات الإقليمية، وكذلك الاتكال عليه كقوة إقليمية في تأمين المصالح الغربية الرئيسية.
وهذا التوجه انقلاب كبير في التفكير الإيراني، ويعبر عن حالة من الاعتراف بفشل السياسة القديمة التي قامت على إثارة القلاقل ضد الشيطان الأكبر، وفرض إيران قوة نووية، الآن هي تتطلع إلى اتفاق شامل مع واشنطن أبرز عناوينه النووي.
لكن لا يزال أمام النظام الإيراني مسافة ليست بالقصيرة عليه أن يسيرها حتى يتمكن من التوصل إلى اتفاق واسع يتجاوز النووي ويجعله شريكا في الأمن الإقليمي. على طهران أن تثبت أنها قادرة ميدانيا على إدارة المعارك وفرض خياراتها السياسية، سواء في مواجهة تنظيمات إرهابية مثل «داعش»، أو تمكين بغداد من فرض سلطتها على كل التراب العراقي، وهزيمة الثوار في سوريا، وإعلاء دور الحوثيين وحلفائهم في اليمن، وتحقيق الاستقرار في لبنان عبر «حزب الله»، وأخيرا ضمان سلوك جيد من قبل حليفتها حركة حماس في غزة.
تحقيق المهمة أكبر من قدرات إيران، لكنها إن نجحت في أزمة واحدة، مثلا سوريا، ستستطيع إطفاء الأزمة في العراق، وليس صعبا عليها تقييد حركة حماس في غزة. والأرجح أن ما يقال عن تقارب أميركي إيراني يبدو صحيحا لكنه مبني على أوهام أن إيران قادرة على حسم القضايا الصعبة، بدعوى أنها أصلا طرف فيها. وفي رأيي ليس صعبا إثبات خطأ التفكير الأميركي الذي يصدق بنفوذ إيران. وحتى تفشل، ولا توهم العالم أنها مفتاح المنطقة الذهبي، وأنها في واقع الأمر ليست إلا طرفا قادرا على التخريب فقط، وفاشلا في إصلاح أي أزمة، حتى نثبت ذلك لا بد من العودة إلى المربع السوري. هذه المعركة تحتاج إلى حسم؛ والإيرانيون يدعون أنهم على وشك تحقيقه، ويقنعون التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بالتعاون معهم بدعم جيش النظام السوري، بالمعلومات واختيار الأهداف، لضرب الجماعات الإرهابية، وتقزيم الجيش الحر. وهنا نلاحظ أن الجانب الأميركي يستخدم عبارة إجبار الأسد على العودة إلى التفاوض! وهي عبارة مطاطة قد تعني المشروع الروسي الإيراني السابق بالاحتفاظ بنظام الأسد، والأسد رئيسا، مع بعض المناصب الوزارية للمعارضة، والمعارضة هنا نوعان؛ واحدة من اختراع الأسد نفسه مرفوضة تماما من معظم السوريين، والمعارضة الشرعية التي حضرت في مؤتمر جنيف الثاني. إجبار الأسد على التفاوض بدلا من الخروج، يصب في مصلحة إيران، بفرض نظام ملائم لها، يمكنها لاحقا من الهيمنة على العراق ولبنان، وتصبح الدولة شبه الوحيدة التي تملك ضمانات سلامة أمن إسرائيل، وصاحبة كلمة مهمة في اتفاق سلام إقليمي مقبل.
من المهم استيعاب كل المشهد وليس مجرد معاركه المتفرقة، نحن أمام تفكير جديد وانقلاب في السياسة الإيرانية، ونتعامل مع رئيس أميركي، فعلا، مصاب برهاب مشاكل الشرق الأوسط ويريد تحاشيها، ويعتقد أن العرب يعيشون مرحلة خمول، خاصة مع غياب دولهم الكبرى. وربما صار الرئيس باراك أوباما مستعدا لأي صفقة مريحة، لهذا تنازل كثيرا لإيران من خمسمائة جهاز طرد مركزي إلى 3 أضعاف هذا الرقم، ومستعد لرفع العقوبات عن إيران دون المرور على الكونغرس، بما يُبين رغبته الشديدة في التوصل إلى اتفاق سريع. ونحن ندرك أنه سيحصل على نصر إعلامي، بأنه إنجاز تاريخي لكنه اتفاق سيطلق عنان نظام إيران، الذي هو مصدر شرور المنطقة منذ عام 1979. وسيكتشف الأميركيون لاحقا أنهم مكنوا الفوضى والقوى الشريرة من كل المنطقة!
على المعسكر العربي أن يفكر جديا في خطورة تبعات ما يحدث. هذه ليست مؤامرة بل لعبة شطرنج، وسوريا حجر أساسي فيها، وهي في نظري منطقة الضعف في الاستراتيجية الإيرانية التي يصعب عليها النجاح فيها، رغم كل ما تدعيه. فسوريا، بخلاف العراق، 80 في المائة من سكانها ضد أي نظام موالٍ لإيران، برئاسة الأسد أو غيره. والنظام لا يحكم اليوم سوى أقل من ثلث البلاد. والجيش الحر، رغم ما أصابه من تهشيم، نفذه بجدارة تنظيما داعش وجبهة النصرة، يبقى المعسكر القتالي الوحيد المؤهل للتطوير والحكم لاحقا، ويمثل مكونات الشعب السوري بأطيافه. بدعمه، ودفعه، ستضطر الولايات المتحدة للتعامل معه، وسيفشل مشروع إيران بالسيطرة على دمشق، وستضعف تلقائيا في لبنان والعراق. لكن، وبكل أسف، لاحظنا تراجع الدعم للجيش الحر إلا من الوعود الأميركية، التي، حتى وإن ثبت تحقيقها لاحقا، ستكون مشروطة على «الحر» بالقبول بصفقة حكم جائرة في دمشق، أي ستضعف «الحر» ولن تخدم أهدافه؛ سيكون مجرد كتيبة عسكرية في المشروع الإيراني الأميركي لسوريا الجديدة.
وهنا على الدول العربية التي تحاول شق الائتلاف والجيش الحر، وكذلك تركيا، أن تدرك أنها ترتكب خطأ سياسيا جسيما، والنتيجة ستمكن الإيرانيين من دمشق، كما مكنوا «حزب الله» من بيروت في سنوات العقد الماضي، والتي يدفع ثمنها اللبنانيون والعرب إلى اليوم بكل أسف. لقد ضربتم الاعتدال اللبناني قبل 10 سنوات، والآن تضربون المعارضة السورية المدنية المعتدلة.
العالم كله وعلى رأسه الأمم المتحدة وأمينها العام بان غي مون أُستنفر لمواجهة خطر أبيولا المزعوم الذي لم يقتل سوى أميركياً واحداً حتى الآن.. تحركت الدول وشركات الطيران والمطارات وشركات الأدوية أولاً وأخيراً إذ إنها الهدف الأول والأخير ربما من وراء هذه الحملة المستعجلة وبدأت التقارير تتحدث عن إنتاج عقار لهذا المرض، لكن لن يكون ولوجه السوق قبل نهاية العام المقبل، ورُصدت المليارات لمواجهة خطر أبيولا، لم ينس العالم كله ظهور مرض انفلونزا الدجاج قبل سنوات المفاجئ تماماً كاختفائه؟!!.
ربما غدا اسم أبيولا خلال أيام على لسان الغربيين وغيرهم أشهر من طاعون الأسد الذي فتك بشعبه وبجواره وبالعالم كله على مدى سنوات، لم يأبه أحد طوال سنوات الدم والقتل والخراب التي ألمت بالشام وأهلها بتجريد حملة عالمية لمواجهته وحصره على الأقل في الشام قبل أن يتمدد إلى لبنان وتركيا والعراق وغيرها، لكن العالم كله جرّد حملة بموازنة خرافية قدر أمدها وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا بثلاثين عاماً لمواجهة تنظيم الدولة الذي لم يفعل عشر ما فعله طاغية الشام من قتل لربع مليون شخص وجرح مليون وتدمير أكثر من مليوني مسكن بنسبة تقدر بـ 60% من سوريا، وفوق هذا تشريد أكثر من 10 ملايين شخص، واجهه العالم بحشد 60 دولة لكن للفتك بتنظيم الدولة وليس بالطاعون وبأصل المرض وإنما بعرضه، وتسارع صدور القرارات الدولية المؤيدة لتدميره، واختفت معها كل أصوات الفيتو رغم أن القرار 2170 ينص على وقف تدفق كل المليشيات إلى الشام والعراق ولكن ما دامت المليشيات الإيرانية من أهل البيت فلا تثريب ولا قصف عليها..
طاعون الأسد الذي هشم النسيج المجتمعي لسوريا، امتد ليفتك بالعراقيين وبالأتراك أيضاً عبر التحريض عليهم وجرهم إلى مواجهة مع العالم كله من خلال سيده الحصري إيران، وسبقه زحف الطاعون الأسدي على لبنان، فيحق للبنانيين أن يدعموا ويساندوا ويجاهروا بالوقوف إلى جانب الإجرام الأسدي؟ ولكن حين يقرر بعضهم الوقوف إلى جانب الثورة والثوار، والسوريين حتى ولو بدعمهم في إبقائهم على قيد الحياة من خلال استقبالهم كمهاجرين أو تمرير بعض المساعدات الإنسانية لهم فهذه جريمة يجب أن يعاقب عليها صاحبها، بل وتستدعي دخول الجيش على الخط لصالح حزب الله الذي أسر البلد كله لمشروع الأسد، وعطل انتخاب رئيس للجمهورية على مدى أربع عشرة جلسة برلمانية، وضرب بعرض الحائط قرارات دولية ووطنية في نزع سلاحه ورفضه الانسحاب من سوريا حيث ورط فيها لبنان كله وخالف بذلك الإجماع اللبناني ..
أي الطاعونين أخطر وأي الطاعونين سيلحقان أفدح الضرر بالانسانية كلها وبأرضيتها الأخلاقية التي صمتت على هولوكوست السوريين لسنوات إما بالوقوف إلى جانب الأسد كحال إيران وروسيا والصين والعراق ولبنان وغيرهم، أو بالوقوف ضد الثورة والسوريين من خلال حرمانهم من أبسط حقوقهم في الحصول على مضادات جوية يحمون بها مدنهم التي تُدك يومياً على مرأى ومسمع من العالم كله، وللتاريخ لو أن السوريين حصلوا على المضادات الجوية منذ اليوم الأول لما رأى العالم اليوم دمار مدن السوريين فألجأتهم إلى الهجرة، ولكنه الحقد العالمي على الشام، فإن كان السوريون سيتذكرون الفيتو الروسي الواقف جداراً صلداً لدعم الأسد، فإنهم سيتذكرون كذلك الفيتو الأميركي بحرمانهم من المضادات الجوية..
أخيراً كعادة القوى العالمية في حرف المسار من الأسد إلى أبيولا، فقد نجحت بحرف الأنظار عن الأسد إلى تنظيم الدولة "داعش" وعين العرب ـ كوباني، وكأن الوضع السوري قد استتب واستقر ولم يعد للعالم ما يُشغله سوى عين العرب وكوباني، في حين الكل يعلم أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الوليد الشرعي لحزب العمال الكردستاني التركي والذي كان يُمسك بالوضع في عين العرب قبل هجمات تنظيم الدولة، هو الحزب المتحالف للعظم مع نظام الأسد، وبالتالي ما يفعله التحالف الدولي ليس فقط حرفاً للبوصلة من قتال الأسد إلى قتال تنظيم الدولة، وإنما للأسف اصطفاف كامل إلى جانب حلفاء الأسد وإنقاذهم، وإلا فلم عدم القبول بالشروط التركية المتمثلة في مقاتلة التحالف للأسد أسوة بقتال تنظيم الدولة، إن كانت ادعاءات أكثر من 114 دولة تدعي الصداقة للثورة وللسوريين ضد الأسد؟!...
باختصار ... خذوا كل من يُسمون بأصدقاء الشعب السوري الذين قُدر عددهم بأكثر من 114 دولة وأعطوا السوريين صديقاً واحداً كصديق النظام السوري مثل إيران وروسيا وسترون العجائب في سرعة سقوط نظام الاستبداد..
الوقائع تقول، بصوت مسموع، إن الطريق لإفساد الثورات العربية يبدأ من المعسكر الأميركي الصهيوني، ويمر بجامعة الدول العربية، ولا ينتهي عند جنرالات الانقلابات العسكرية.
عد بالذاكرة إلى الوراء، ستكتشف أن أول مسمار دق في نعش الثورة السورية -التي لا تزال تقاوم- جاء من ذلك المبنى الكئيب في ميدان التحرير بالقاهرة، مقر الجامعة، التي أخذت على عاتقها، منذ البداية، مهمة تحويل الثورة الشعبية إلى عملية إصلاحية، ومحاولة إذابة المد الثوري الهادر في حمض كبريتيك المفاوضات .
والحاصل أننا بصدد حقيقة ملموسة تقول إن الأمين العام للجامعة العربية، نبيل العربي، ظهر منحازاً لانقلاب السيسي، المحمول فوق ظهر ثورة مضادة في مصر، للإجهاز على ربيع يناير، ومن ثم من السذاجة توقع مسار مغاير حال دخول الجامعة على خط الثورة السورية هذه الأيام.
والمدقق في الخبر الذي نشره موقعنا، أمس، عن منع السلطات المصرية دخول الأمين العام لائتلاف الثورة السورية، نصر الحريري، وعضو هيئته السياسية، خالد الناصر، وإعادتهما على الطائرة ذاتها التي حملتهما إلى مطار القاهرة، مع السماح لرئيس الائتلاف، السيد هادي البحرة، بالمرور، بناء على دعوة من الجامعة العربية، سيكون أمام احتمالين لا ثالث لهما: الأول إن القاهرة ليست مجرد دولة مقر للجامعة، بل صاحبة ولاية ووصاية عليها، تفرض عليها أن تستقبل هذا وتمنع ذاك. والاحتمال الثاني أن يكون المنع تم بناء على رغبة الجامعة العربية، وأنها طلبت من السلطات المصرية إغلاق الباب في وجه الضيفين وإعادتهما إلى حيث أتيا.
إن الخلط بين الجامعة العربية والحكومة المصرية بلغ حداً جعل الناس في التباس شديد، بشأن ذهاب وفد الائتلاف السوري للقاهرة، فمن ناحية، تروج وسائل إعلام تابعة لانقلاب السيسي أن مبادرة مصرية مطروحة للحل في سورية، ومن ناحية أخرى، تؤكد مصادر الائتلاف، مثل الدكتور أحمد طعمة، رئيس الحكومة المؤقتة، إن الزيارة كانت بدعوة من الجامعة العربية.
ومن المهم، هنا، التذكير بتصريحات نقلتها وكالة أنباء الأناضول، منذ فترة، عن السيد هيثم المالح، رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف السوري، والتي قال فيها إن الائتلاف "لديه معلومات حول قيام القيادة المصرية بالتحري عن بعض الشخصيات المعارضة" السورية من أجل "إعداد مبادرة" لحل الأزمة"
وتقول لنا التجربة العملية إن السلطة المصرية تضطلع بدور الوكيل الحصري لإجهاض الربيع العربي ودفنه، كما فعلت في القاهرة، وتحاول أن تفعل الآن في ليبيا، وتشارك بالصمت على الانقلاب الطائفي في اليمن، وكل ذلك بتنسيق وتعاون مع الجامعة العربية التي تخلى أمينها العام، في لحظةٍ، عن دوره كلاعب إقليمي، إلى لاعب محلي في فريق السيسي.
في التجربة الليبية، لم يقف دور مصر الانقلابية بالتعاون مع الجامعة عند حدود الرعاية عن بعد، بل صار معلوماً من الاستراتيجية بالضرورة أن التدخل المصري في الحرب ضد الثورة الليبية تجاوز الإمداد بالمعدات والذخائر لجحافل الثورة المضادة، وقطع شوطاً أبعد من توجيه ضربات جوية مكثفة، إلى الانخراط في القتال على الأرض، من خلال إرسال قوات بشرية، تحارب في صفوف الثورة المضادة.
وبناء على ما سبق، لا بد أن يعي الأشقاء في الثورة السورية خطورة الاستجابة لمبادرات ملغومة من السلطة في مصر، تهدف إلى صناعة مشهد مماثل لما يدور على الأرض في ليبيا، وتبحث عن "حفاترة"، للقيام بمهمة قتل ثورةٍ قدمت أكثر من مائة وعشرين ألفا من الشهداء حتى الآن.