"هذه ليست عملية مكافحة إرهاب، هذه حرب تقليدية ضد عدو يمتلك مدرعات ودبابات ومدفعية، وهو غني ويسيطر على أراض وينوي الدفاع عنها، ولذلك يجب علينا النظر لهذه "الحرب" على أنها حملة عسكرية تقليدية".. بهذه الكلمات عبر رئيس أركان الدفاع السابق والجنرال في القوات المسلحة البريطانية السير ديفد ريتشاردز عن رأيه في المواجهة التي تخوضها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
القائد العسكري البارز -الذي قاد قوات التحالف في جنوب أفغانستان ضد حركة طالبان بين عامي 2006 و2008- يصر على أن التكتيكات الهجومية على تنظيم الدولة عبر الضربات الجوية ستفشل في تحييده أو حتى احتوائه، ولذلك يرى وجوب الانخراط في حرب برية ضد التنظيم قوامها مائة ألف جندي على الأقل.
تصريحات السير ريتشاردز لها أثر واضح على النخبة السياسية البريطانية، فالرجل كان أول قائد عسكري في هذه المكانة الرفيعة يزف للسياسيين الغربيين الخبر غير السعيد، وهو أن الحرب على شبكة القاعدة ستفشل، وأن القضاء على المقاتلين الإسلاميين "غير ضروري ولن يتحقق"، وذلك فور توليه منصب قيادة أركان الدفاع في نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
"ديفد ريتشاردز يصر على أن التكتيكات الهجومية على تنظيم الدولة عبر الضربات الجوية ستفشل في تحييده أو حتى احتوائه، ولذلك يرى وجوب الانخراط في حرب برية ضد التنظيم قوامها مائة ألف جندي على الأقل"
دقة عسكرية
عسكريا، ما صرح به الجنرال ريتشاردز في ما يخص الحرب البرية على تنظيم الدولة دقيق، أو على الأقل مدعوم من عدة دراسات عسكرية وتجارب تاريخية.
فيوجد ما يشبه الإجماع ما بين علماء دراسات الإستراتيجية العسكرية على أن ما يصطلحون على تسميته إستراتيجية "الهجوم غير المباشر" (أبرز أمثلتها المستخدمة من قبل التحالف الدولي هو القصف الجوي الإستراتيجي أو الصواريخ الموجهة) إذا واجه إستراتيجية دفاع مباشر (أبرز أمثلتها المستخدمة من قبل تنظيم الدولة هو الدفاع المتحرك والدفاع العميق بعد السيطرة المباشرة على الأرض)، فالطرف المدافع في الصراع المسلح ستكون له الغلبة -وإن كان أضعف- بشروط، بعضها على الأقل متحقق في حالة تنظيم الدولة.
أما تاريخيا فالفترة التي شهدت تراجع نشاط الدولة الإسلامية في العراق -إحدى خمس مسميات سابقة لتنظيم الدولة- بدأت في أواخر 2007 بعد أن أرسل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش 32 ألف جندي إضافي للعراق، ليصل العدد الكلي للقوات الأميركية هناك بحلول أبريل/نيسان من العام نفسه إلى 150 ألف جندي، وهو ما عرف في الأوساط العسكرية والسياسية الأميركية بـ"التدفق".
ولم تكن هذه هي القوة البرية الوحيدة المتواجدة في حينها، فإضافة إلى قوات الجيش العراقي النظامي كانت هناك قوات مجالس الصحوات التي بدأت في التشكل منذ تدهور العلاقة بين بعض العشائر السنية في الأنبار وديالى في نهاية 2005، وبحلول أكتوبر/تشرين الأول 2008 كانت هذه المجالس تضم أكثر من 54 ألف مقاتل ثم زادت بعد ذلك، مما مثل قوة عسكرية مساعدة للقوات الأميركية والقوات النظامية العراقية.
وكانت قوات "جيش المهدي" قد تم تحييدها في المواجهات بعد أن أعلن السيد مقتدى الصدر هدنة في أغسطس/آب 2007، ثم مددها في العام اللاحق، بمعنى آخر كان في عراق 2007-2008 أكثر من أربعمائة ألف مقاتل متوزعين ما بين الجيش الأميركي والنظامي العراقي ومجالس الصحوات يسعون للقضاء على العدو نفسه الذي يسعون للقضاء عليه في عراق وسوريا 2014.
"إذا كانت الحرب على تنظيم الدولة معقدة فإن التحديات التي يواجهها صانع القرار الغربي في بريطانيا وأميركا لا تقل تعقيدا، فالتناقض شديد بين العوامل التي لا تشجع على دخول حرب جديدة وبين التهديد الذي يمثله تنظيم الدولة للغرب "
ولم تنجح هذه القوة الكبيرة في القضاء على تنظيم الدولة في العراق، وإنما نجحت مرحليا في تقليص نشاطه عمليا والحد من نفوذه إستراتيجيا، أي بالمصطلح الذي استخدم حينها من عدة أجهزة أمنية غربية (down but not out) أو "سقط ولم يُقتل" فإذا قارنا القدرات والإمكانيات العسكرية لتنظيم الدولة في العراق" في 2007 والقدرات والإمكانيات المتاحة لتنظيم الدولة في 2014 نفهم لماذا يتشكك السير ريتشاردز في نجاح الحملة الجوية دون قوة برية كبيرة.
الكلفة السياسية
فإذا كان التقدير دقيقا عسكريا فإن الاستعداد لتحمل تكلفته سياسيا محل تردد لدى الكثير من السياسيين الغربيين، فالانقسام هذه المرة أكثر تعقيدا من مجرد يمين محافظ مؤيد لتطوير العمل عسكري ويسار تقدمي معارض لذلك، وبعض نماذج الانقسام الكلاسيكي ما زالت حاضرة.
فمن أبرز المعترضين على رأي السير ريتشاردز كان نيك كليج -نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب الديمقراطيين الأحرار اليساري- الذي أصر على أن الموقف أكثر تعقيدا مما يصفه ريتشاردز، فهو يرى أن هذه ليست حربا تقليدية، وأن التعاون الدولي قد يثمر عن أدوات متعددة -أغلبها غير عسكري بالمعنى التقليدي- لمواجهة ما سماه قوات "اللادولة المتحركة".
وإذا كانت الحرب العسكرية على تنظيم الدولة معقدة فإن التحديات التي يواجهها صانع القرار الغربي في بريطانيا وأميركا لا تقل تعقيدا، فالتناقض شديد بين العوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي لا تشجع على دخول حرب برية جديدة في الشرق الأوسط من ناحية، وبين التهديد الأمني الذي يمثله تنظيم الدولة للغرب من ناحية أخرى، التهديد لا يألو التنظيم جهدا في إبرازه كلما أتيحت له الفرصة.
فعلى الرغم من تحسن الأداء الاقتصادي نسبيا في 2014 فإن عجز الميزانية في الولايات المتحدة ما زال فوق الـ483 مليار دولار، وفي بريطانيا فوق الـ172 مليار دولار، أما سياسيا فما زالت جراح حملتي العراق وأفغانستان مؤلمة وحديثة العهد لكل من المؤسسات العسكرية الغربية والناخب الغربي.
وبحسب إحصائية أجرتها مجلة "ميليتاري تايمز" في سبتمبر/أيلول الماضي، فإن 70.1٪ من الضباط والجنود الأميركيين يرفضون إرسال قوات برية للعراق أو سوريا، غير أن هذه النسبة تنخفض إلى 62٪ بين المواطنين الأميركيين بحسب إحصائية شبكة "سي إن إن" الأميركية التي أجرتها في الشهر نفسه، وتتقلص هذه النسبة لتصل إلى 28٪ في حالة استهداف تنظيم الدولة السفارة الأميركية في بغداد وتعريض حياة الدبلوماسيين الأميركيين هناك للخطر، أي أن 72٪ من عينة "سي إن إن" يؤيدون التدخل البري المباشر في تلك الحالة.
"بحسب إحصائية حديثة، فإن 70.1٪ من الضباط والجنود الأميركيين يرفضون إرسال قوات برية للعراق أو سوريا، غير أن هذه النسبة تنخفض إلى 62٪ بين المواطنين الأميركيين بحسب إحصائية شبكة "سي إن إن" الأميركية التي أجرتها في الشهر نفسه"
الحرب البرية
هل اقتربت الحرب البرية إذاً؟ عدة عوامل ستجيب عن هذا السؤال، فالحالة العراقية هي الأكثر ترشيحا لتدخل آخر مشابه لـ"تدفق" 2007، فحتى الآن يعتقد الكثير من العسكريين الأميركيين أن ما تحقق في فترة 2007-2008 كان انتصارا، وعلى رأسهم الجنرال ديفد باتريوس قائد قوات التحالف في العراق في تلك الفترة والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وإذا استمر تصاعد التأييد لتدخل بري بين المواطنين الأميركيين ردا على حملة "الذبح على الهواء" التي يتبعها تنظيم الدولة في إستراتيجيته الدعائية فإن ذلك قد يخلق مناخا مناسبا لـ"تدفق" 2014.
غير أن عوامل أخرى ستؤثر في قرار إرسال قوات برية، منها احتمالات نجاح المصالحة الوطنية في العراق، والموقف العسكري من نظام بشار الأسد، وكذلك مدى فاعلية القوات الحليفة في العراق (الجيش النظامي ومجالس الصحوات والمليشيات الموالية وقوات البشمركة) وسوريا، والأخيرة تبدو الحلقة الأضعف في ما يخص الحليف المحلي على الأرض.
وربما المثال الأبرز على الأرض هو نتيجة المواجهة العسكرية بين قوات جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، وجبهة تحرير سوريا وحركة حزم المصنفين كثوار "معتدلين" وفق الولايات المتحدة.
ففي خلال أيام استولت النصرة على معاقل "المعتدلين" في قرى جبل الزاوية بريف إدلب، ويبدو أن هناك دعما محليا من بعض الأهالي الذين تضرروا من تصرفات بعض المنتسبين لجبهة تحرير سوريا.
وبمراجعة كافة هذه العوامل سيكون على صانع القرار الغربي اتخاذ قرار مصيري قد ينهي مستقبله سياسيا، ولا يقضي على التهديد الأمني إن أخطأ في التقدير.
عبثاً ينتظر اللبنانيون. وعبثاً يأملون في أن يستفيقوا يوماً من الكابوس الذي يعيشونه منذ انقضاض «حزب الله» على الانتفاضة الشعبية التي أخرجت الجيش السوري، قبل أن يغرقهم بدلاً من ذلك في المستنقع السوري وتبعاته، بعدما فشل في إعادة السوريين مباشرة إلى لبنان من طريق حرب تموز.
بعضهم كان يأمل في أن تستعيد الجمهورية المنكوبة بعد انتهاء الاحتلال السوري شيئاً من توازنها ومسارها الطبيعي كدولة، وأن تتوصل إلى خريطة طريق لاستعادة السلم الأهلي تدريجاً، وإنهاء المظاهر المسلحة وإعادة بناء المؤسسات المحصنة بالقوانين. لكن «حزب الله» كان لهم بالمرصاد.
وبعد الابتكار السوري – الإيراني المشترك لقضية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وما عنته من تملص الحزب من اتفاق الطائف الذي قضى بتسليم السلاح غير الشرعي وحلّ التنظيمات العسكرية ودمج بعضها في الجيش وقوى الأمن، استنفدت هذه الذريعة غرضها مع انتشار القوات الدولية في الجنوب اللبناني وتوقف العمليات الحربية فيه.
وكانت نتيجة تحول رجال الحزب وسلاحه نحو الداخل اللبناني «غزوة أيار» التي تفاخر بها قادته، لكنها لم تفلح في إخضاع عدوه المشترك مع دمشق، باقي اللبنانيين، إلى أن جاءت انتفاضة السوريين على نظامهم ليجعل منها حجة أخرى لاستمرار تسلحه، بل زيادته.
وبعد ثلاث سنوات من التورط في أتون الحرب الأهلية عند الجارة التي ربط مصيره بمصير حاكمها، تبدو الأمور الميدانية في سورية سائرة في غير مشتهاه، لكن ذلك بدلاً من أن يثنيه، دفع ملكة الابتداع عنده إلى أقصاها، فوضع أمينه العام في ذكرى عاشوراء قبل يومين هدفاً جديداً لحزبه، يمهله سنوات طويلة، إن لم يكن عقوداً، يعفي نفسه خلالها من أي التزام بإعادة سيادة الدولة اللبنانية.
وبعدما كان نصرالله انتقد التدخل الأميركي والأوروبي في العراق وسورية ضد «داعش»، عاد فاستدرك شططه «الأيديولوجي» بعدما تبين أن الضربات الأميركية في العراق منسقة بشكل تام مع إيران التي تقود العمليات على الأرض، والتي أرسلت قائد «الحرس الثوري» سليماني ليتولى ذلك بنفسه، وليضمن عدم خضوع بغداد لضغوط واشنطن التي تطالبها بتسليح العشائر السنية في الأنبار.
ثم قرر أن حزبه جزء من حرب التحالف الدولي على تنظيم البغدادي، وقال: «لا مستقبل للتكفيريين، ولا حياة لمشروعهم... ستلحق بهم الهزيمة في كل المناطق والبلدان، وسيكون لنا شرف أننا كنا جزءاً من ذلك».
ما الذي يعنيه هذا الكلام بالنسبة إلى اللبنانيين؟ يعني أن عليهم انتظار حسم المعركة مع أعداء نصرالله في «كل البلدان»، التعبير الذي قد يشمل نيجيريا مثلاً. وقد طمأنهم باراك أوباما سلفاً بأن المعركة مع «داعش» قد تطول سنوات وربما عقوداً، ونصرالله لا يستطيع تفويت فرصة معركة دهرية كهذه.
ولهذا ليس بوسع مواطنيه الصابرين سوى انتظار ما قد تتفتق عنه عبقرية الحزب في ابتكار المهمات وابتداع الأهداف، في حال انهار تنظيم «داعش» تحت الضربات، أو صدرت إليه الأوامر فجأة بالعودة إلى أقبية الاستخبارات السورية والإيرانية من حيث أتى.
كانت الثورة السورية حدثاً استثنائياً عصيّاً على التحليل، مفاجئاً ومباغتاً، إلى حد لم يكن يتنبأ به أحد، وأول المتفاجئين كانت السلطة التي تعرف شعبها جيداً، والتي تعرف ماذا فعلت به في العقود الماضية. السلطة التي زرعت الخوف في كل زاوية من زوايا سورية، حتى بات الشعب السوري شعب الخائفين بامتياز. كان الخوف حياتنا جميعاً. الخوف من كل شيء كان الضابط الذي يرسم سلوكنا، الجميع يخاف من الجميع، الشعب يخاف أن تنقضَّ عليه السلطة، أن تنكّل به، وأن تحرمه لقمة عيشه، والسلطة تخاف من الشعب أن يفتك بها، إذا زال عنه الخوف يوماً واحداً. لم تكن هناك مستويات للخوف في سورية. كان يضرب الجميع وبالدرجة نفسها، القيادات تخاف، والوزراء يخافون، الموظفون يخافون، ضباط الجيش والشرطة والأمن، والمواطنون كلهم كانوا يخافون، إلى الحد الذي أصبح فيه الشعب السوري يمارس حياته بشعائرية رتيبة، وكأن الجميع كان ينخرط في تمثيلية معقدة إسمها الحياة، كان السوريون فيها الممثلين والمتفرجين في آن.
كان الجميع يعلم أنه يكذب على الجميع. السلطة تعلم أن الشعب يكذب عليها، بعواطفه التي يبديها بدافع الخوف، والشعب يعلم أن السلطة تكذب عليه. حللت الكاتبة الرائعة، ليزا ويدين، هذه الظاهرة في كتابها الغني جداً "السيطرة الغامضة"، حيث بينت أن فاعلية النظام السلطوي في سورية لا تكمن فقط في التكنولوجيا المتوفرة لمراقبة المواطنين وعقابهم، ومجازاة آخرين. لكن، أيضاً، في الطرق التي يتم، من خلالها، تحويل القوة القمعية إلى القوة الانضباطية، غالبا بممارسات بلاغية ومزيفة بوضوح، تتطلب تعاون مواطني النظام ومشاركتهم.
لقد حول النظام السوري شعباً بكامله إلى مجرد كائنات، يسكنها الخوف، ولا شيء آخر. تصفق بدافع الخوف، وترقص في الميادين في مناسبات النظام التي يشارك فيها المواطنون خوفاً. كان الخطباء يقولون كلاماً يعلمون أنه كاذب، ويعلمون أن المستمعين يعرفون أنه كاذب، وكان المصفقون للكلام الكاذب يعلمون أن الخطيب يعرف أن تصفيقهم بدافع الخوف.
"
السلطة تعلم أن الشعب يكذب عليها، بعواطفه التي يبديها بدافع الخوف، والشعب يعلم أن السلطة تكذب عليه
"
في عام 2010، وفي إحدى جلسات الاختبار التي تجريها نقابة المحامين، لنيل الإجازة في المحاماة، كان المحامي المتمرن الذي يخوض الاختبار عضواً في مجلس الشعب. سألته يومها بما أنك برلماني، فمن يملك سلطة التشريع في سورية، وبعد صمت، نظر إليَّ، ثم إلى الحضور، ورد مبتسماً: لن أجيب على هذا السؤال. خاف أن يكون السؤال فخاً يقوده إلى الحديث عن الصلاحيات الاستثنائية لرئيس الجمهورية في التشريع. هذا برلماني يفترض أن درجة خوفه أقل من أي مواطن. لكن، في سورية كلما علت رتبة الأشخاص زاد خوفهم أكثر. لم يكن الاقتراب من السلطة يعفيهم من الخوف، بل على العكس تماماً. وفي عام 2010، وكنت أترافع في إحدى الدعاوى أمام محكمة الجنايات في ريف دمشق، طلبت من رئيس المحكمة طلباً عارضاً، يتعلق بفتح تحقيق مع رئيس فرع الأمن السياسي. رفض قبول الطلب، وبعد جدال معه، صرخ بي، وأمام جميع الحضور، إذا كنت تظن نفسك شجاعاً، فاذهب، وقل هذا الكلام أمام الأمن السياسي، ولا تورطنا في هذا الموضوع. سكتّ خوفاً، لأن حجته كانت قاطعة. كنا كائنين يسكننا الخوف، قاض ومحام، لم يستطع أحدنا أن يتجاوز خوفه.
وفي مارس/ آذار من عام 2011، اختلت موازين الخوف عند السوريين، فقدوا خوفهم أو تجاوزوه، خرجوا ليتحدّوا هذا النظام، النظام الخائف منهم، والذي مارس أقصى درجات الوحشية، تعبيراً عن خوفه. استمر السوريون، على الرغم من القتل بالتظاهر، لأنهم عادوا إلى الخوف مجدداً. كانوا، هذه المرة، يخافون انتقام النظام، إذا ما فشلت الثورة، إذا ما توقفوا عن التظاهر، فبعد أن أغرق النظام نفسه والوطن ببركة الدم، لم يعد أحد قادراً عن التراجع. الشعب لا يمكن أن يتراجع، فالكلفة التي سيدفعها في حال توقفت الثورة ستكون أكبر بكثير من كلفة استمرار الثورة. والنظام، أيضاً، أغلق جميع الأبواب، ولم يعد قادراً على التراجع. وصل الطرفان إلى الحدود القصوى. كنا جميعا كمن يركب على دراجة هوائية، سيبقى جالساً عليها، ما دام يتحرك، فإذا توقف سيسقط لا محالة. كان الجميع يدرك هذه الحقيقة إن أي طرف سيتوقف عن الحركة سيكون مصيره السقوط، هو الخوف الذي يدفعنا للاستمرار، الخوف من الانتقام من القسوة والوحشية.
حتى المناطق المحررة خرجت عن سيطرة النظام، لكنها لم تخرج عن خوفها، وإن أصبح مصدر الخوف شيئاً آخر. في زيارة رسمية للرقة في نيسان من عام 2013 بهدف إجراء انتخابات في محافظة الرقة، لانتخاب مجلس محلي يدير المحافظة، بعد خروجها عن سيطرة النظام. وفي صلاة الجمعة في أحد مساجد الرقة، كان الإمام خطيبا مصرياً، وبلغة عربية رديئة، كان يتحدث عن كفر الديمقراطية وطاغوت الانتخابات. يومها تحدث بكلام مضحك، بل يمكن أن نقول إنه يثير البكاء أكثر. قال بالحرف "إن الديمقراطية اخترعها جان جاك روسو الذي اعترف أنه يمارس الشذوذ الجنسي مع جان بول سارتر". هكذا قال على المنبر، كان المسجد مليئاً بالمصلين، أطباء ومهندسين وأساتذة وغيرهم، وأغلبهم يعرف أن بين روسو وسارتر أكثر من مائة عام. نظرت إلى المحيطين بي، كان الجميع يخفض رأسه بصمت. وعندما خرجنا من المسجد، سألت مدير الأوقاف، وهو شيخ جليل، كيف توافقون على أن يكون هذا الجاهل خطيب جمعة في مدينتكم. نظر إلي، وقال إنه من جبهة النصرة، ولا نستطيع أن نقول لهم شيئاً، لأنهم باتوا الحكام الجدد. كان الخوف يسكنه، كما كان يسكن جميع المصلين.
لم يفارق الخوف السوريين، حتى بعد زوال النظام عنهم، وفي أكثر من منطقةٍ، خرجت عن سيطرة النظام، كان الخوف هو الذي يرسم تصرفات الناس فيها. يطيلون لحاهم، بسبب الخوف. يقصرّون ثيابهم بسب الخوف، يصلّون بسبب الخوف، ويقتلون، أيضاً، بسبب الخوف الذي يلاحقنا في كل مكان.
رأيت بأم عيني شباناً رائعين، خرجوا ضد فساد النظام. تظاهروا في ما سبق تحت الرصاص. لكن حكام المناطق الجدد اضطروهم للخروج من البلاد. رأيتهم وهم يعملون في مؤسسات تابعة للمعارضة، في عنتاب وفي إسطنبول. كانوا يحدثونني بألم عن مظاهر الفساد التي تعصف بهذه المؤسسات، لكنهم، في هذه المرة، لا يستطيعون التظاهر، ولا رفع الصوت، لأنهم يخشون أن يفقدوا مصدر رزقهم، وأن يصبحوا مشردين في شوارع عنتاب وإسطنبول. عاد الخوف يلجم ألسنتنا، يمنعنا من الكلام، وربما كانت هذه المفارقة الأكثر غرابة. شجعاناً كانوا في شوارع المدن السورية، يتظاهرون تحت الرصاص، لكنهم، الآن، يخافون من سلطة موهومة، يملكها مسؤول متوهم أنه سلطة، وكأن ما يحدث فصل من فصول المسرحية النبوءة لسعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحولات". لا شيء ثابت، ولا شيء كامل سوى الخوف. الخوف توأم السوريين الذي لم يفارقهم، حتى اللحظة، وكأنه قدرهم. ولن نستطيع، كسوريين، أن نبني دولة، وأن نؤسس مجتمعاً، ما دام الخوف يسكننا. عبورنا للمستقبل لن يكون إلا إذا تخلصنا منه، أياً كان مصدره.
من العبث العمل وبذل أي جهد لتحقيق أي هدف من أهداف الشعب السوري، ما دامت خلافات المعارضة السورية مستحكمة، وانقسامات الائتلاف ضاربة ويومية. ومن غير المجدي إطلاقاً الجري وراء أوهام الانتصار على النظام، إذا بقي هو موحداً ومعارضوه مشتتين محتربين، تناقضهم الرئيس بينهم وليس معه. وليس صحيحاً ما يقال حول مسؤولية النظام عن تخلف المعارضة وفوات سياساتها، داخل الائتلاف وخارجه، إذ من غير المنطقي والمقبول تحميل النظام المسؤولية عن أوضاع المعارضة بعد مرور أربعة أعوام على ثورة شعبية عارمة صمدت صمود الجبال الراسخات في وجه أعتى آلة قتل وقمع منظمة عرفها تاريخ العرب القديم والحديث، غير أنها لم تكن كافية لتوحيد مواقف وآراء نيف ومائتي شخص يدّعون تمثيلها، حوّلتها خلافاتهم وانقساماتهم إلى واحدة من نقاط ضعفها الرئيسة، بعد أن فشلت جميع الجهود في تقريبهم بعضهم من بعض، ونجحوا بامتياز في نقل صراعاتهم العبثية إلى الأرض، مع ما ترتب عليها من نتائج وخيمة أهمها اثنتان: -ضياع عام وفشل متجدد يمعنان في تمزيق صفوفها المفككة، وتفتيت جهودها المفتتة، وزيادة تضحيات شعب فقد كل شيء، يتناقص عائد نضاله السياسي والعسكري باضطراد، ويسهم في تغييب أي دور مؤثر للمعارضة، يمكنها بواسطته فرض مصالحها على خارج يدير أزمة سورية ويحتجز نضال شعبها، دون أن يجد ما، أو من يحول بينه وبين التلاعب بمصيرها، أو يكبح تصميمه على تصفية حساباته الاقليمية والدولية المتشعبة والمعقدة بدماء بناتها وأبنائها. -موقف عربي واقليمي ودولي لم يعد يرى في المعارضة شريكاً، سواء في حرب ام في سلم، يتناقص احترامه لها ويتراجع اعترافه بضرورة العمل معها، بعد أن فقدت أهليتها لتمثيل السوريين، وشرع يبحث عن بدائل من داخلها وخارجها كي يتحالف معها في المعركة ضد الارهاب، يقال ان موقعة عين العرب شرعت ترشح جماعة اوجلان من كرد سورية للعب هذا الدور ، بينما عجزت آلاف المعارك التي خاضها الجيش الحر، في جعله يلقى حظوة كهذه، حتى بعد أن بدأت أميركا والدول الغربية تدربه وتسلحه، وخاض معارك كبيرة جداً بجميع معايير الحرب والمقاومة. خلال هذه الفترة من عمر الثورة، لم تتوقف أميركا وروسيا عن تقطيع المعارضة والمقاومة إلى جهات متباينة وعن التلاعب بها، تارة باسم الحل السياسي، وطوراً بحجة الرغبة في إنهاء الصراع على سورية، الذي لا شك في أن واشنطن هي أكثر من أفاد ويفيد وسيفيد منه. تتراجع المعارضة والقوى العسكرية القريبة منها بصورة يومية. ومع ذلك، لا نراها تبذل أي جهد لتخطّي انقساماتها، ولا تخجل من حقيقة أن أربعة أعوام من القتل والدمار لم تكن كافية لدفعها إلى بلورة حد أدنى من المشتركات تحيّد بواسطته خلافاتها وتبعدها ولو قليلاً عن حقوق الشعب المضحي والمعرض لظلم مزدوج: من النظام ومنها. ومن يحضر اجتماعا للهيئة العامة للائتلاف يعتقد أنه في مسرحية كتب نصها العبثي صمويل بيكيت أو أوجين اونيل، تختبر احداثها قدرة جماعات متناحرة على أبداع خلافات حول كل شيء ، وعلى الاستمتاع بانقساماتها، وينسى انه في اجتماع سياسي لجهة تنتمي إلى شعب واحد تزعم أنها مسؤولة عن مصيره. في أجواء كهذه يشعر المرء بعبثية قول أو فعل أي شيء، ويفقد ثقته بقدرته على تغيير أو تحسين أي شيء. ولا يبقى له غير ما يقال في الجنازات ومجالس العزاء: لا اله الا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يرى البعض ومن بينهم بعض المسؤولين في أوروبا والولايات المتحدة وبعض العرب أيضا أنّ هذه المعارضة السورية المتعددة المشارب والاتجاهات غير قادرة وغير مؤهلة لأن تجنب سوريا أوضاعا كالأوضاع التي انتهت إليها ليبيا وربما أسوأ كثيرًا إنْ أُزيح بشار الأسد فجأة وفي هذه الظروف والأوضاع الإقليمية المربكة، وهذا كما يبدو هو الذي يجعل الرئيس الأميركي باراك أوباما مترددًا على هذا النحو وغير قادر على اتخاذ خطوة جريئة تضع الأمور في أنصبتها وتخلص هذا البلد المكلوم من الدمار والقتل وشلالات الدماء المستمرة والمتواصلة منذ نحو أربعة أعوام.
وفي هذا الاتجاه فإن منسق قوات التحالف الدولي جون آلن كان قد قال في حديث هامٍّ جدًّا لفضائية «العربية» قبل أيام إن بلاده، الولايات المتحدة، ملتزمة بدعم المعارضة السورية «المعتدلة» ودعم قواتها (الجيش الحر) للدفاع عن نفسها ضد «داعش» و«النصرة» وضد نظام بشار الأسد، وهذا فهِمَه الذين يطالبون بموقف أميركي أولاً ودولي ثانيًا حاسم وحازم لإسقاط هذا النظام الدموي، اليوم قبل غد، بأنه عودة للخض العدمي في قربة قرارات مؤتمر جنيف الأول التي كانت دفنتها قرارات مؤتمر جنيف الثاني والتي ماتت وشبعت موتًا، وإنّ الله جلّ شأنه هو الذي يحيي العظام وهي رميم.
لكن يبدو، رغم هذا الذي قاله جون آلن والذي تقوله الوقائع على الأرض حيث بدأت المعارضة المعتدلة تتراجع عسكريا وبخاصة في جبل الزاوية ومنطقة إدلب الاستراتيجية فعلا لحساب «النصرة» و«داعش» وهذا التنظيم الجديد الذي يسمي نفسه «جند الأقصى»، أنه لا توجد خطة ولا يوجد قرار أميركي وأيضا أوروبي حقيقي لدعم هذه المعارضة «المعتدلة» وتمكينها من الدفاع عن نفسها ضد كل هذه التنظيمات الإرهابية وضد هذا النظام وبالتالي جعلها قادرة على فرض نفسها كقوة رئيسية على كل هذه التشكيلات المتعددة المصابة بمرض الانشطارات المتتالية وجعلها مهيأة للعبور بسوريا نحو المستقبل الواعد ودون أن تمر بتجربة مُرّة كالتجربة الليبية وأيضا كالتجربة اليمنية وكالتجربة العراقية البائسة.
والواضح، كما تسرب وجرى الحديث عنه في الأيام الأخيرة، أنّ هناك خلافًا عاصفًا داخل الإدارة الأميركية حول هذه المسألة الخطيرة والمهمة المتعلقة بمستقبل هذه المنطقة وليس بمستقبل سوريا وحدها، وأن هذا الخلاف قد يُزعزع أركان إدارة أوباما (الديمقراطية) حيث تحدثت بعض المعلومات غير المؤكدة أن وزير خارجيته جون كيري ووزير دفاعه تشاك هيغل لهما رأي غير رأيه إنْ بالنسبة إلى الأزمة السورية المتفاقمة وإنْ بالنسبة إلى كل هذه الزلازل المدمرة التي تضرب الشرق الأوسط كله، وهذا الرأي هو رأي «الجمهوريين»، كما هو معروف، الذين دأبوا على انتقاد ميوعة رئيسهم وانتقاد تردده، والذين طالبوا، وما زالوا يطالبون، بحسم الأمور السورية جذريًا وبسرعة منذ بداية انفجار الأحداث في عام 2011.
وبالطبع فإن هناك من يرى ومن يقول، ومن بين هؤلاء بعض الأوروبيين وبعض العرب، إنّ كل الحق مع الرئيس الأميركي في مخاوفه مِن أن يَسقُط نظام بشار الأسد، بينما الأوضاع في هذه المنطقة هي هذه الأوضاع المأساوية التي تمر بها الآن، وبينما واقع المعارضة السورية «المعتدلة» هو هذا الواقع الذي لا يسر الصديق ولا يغيظ العدا، وإنه من الأفضل الاستمرار بالخض في قربة جنيف الأولى انطلاقًا من أنه لعلّ وعسى أن تتوفر فرصة ملائمة لتكون هناك مرحلة انتقالية تكون مدخلا سلميا للانتقال بسوريا من هذه الأوضاع، السابقة واللاحقة، المزرية ووضعها على شاطئ الأمان وتجنيبها التشرذم والانقسام والتمزق وقطع الطريق على هذه الحرب الأهلية المتعاظمة والمتصاعدة.
فهل هذا يا ترى مقنع؟ وهل هناك إمكانية لـ«إحياء عظام مؤتمر جنيف الأول وهي رميم» ما دام أنّ من أفشل قرارات هذا المؤتمر في جنيف الثانية، التي كانت واعدة بالفعل، هو إيران وروسيا تحديدًا اللتان لا تزالان تصرّان على أن نظام بشار الأسد يواجه إرهابا وليس معارضة معتدلة وإصلاحية، وما دام أن القرار الفعلي في سوريا هو قرار قاسم سليماني وهو قرار سيرغي لافروف وليس قرار من يتابعون الأمور من مكاتبهم الوثيرة في قصور دمشق على شاشات الفضائيات ومن خلال المواقع الإلكترونية..؟!
الكل شاهد الجنرال قاسم سليماني، ومن بين هؤلاء باراك أوباما نفسه، الذي سيسجل التاريخ أنه أضعف رئيس مرّ على الولايات المتحدة منذ جورج واشنطن وحتى الآن، ومن بين هؤلاء بعض المسؤولين الأوروبيين الذين «يتلطّون»، هروبًا من أي موقف حاسم، بتردد الرئيس الأميركي، وهو، أي قاسم سليماني، يقود قطاعات من الجيش العراقي في أكثر من موقع، والكل سمع تصريحات إيرانية من أعلى المستويات والمراتب بأن هذا الجنرال هو القائد الفعلي للقوات العراقية المسلحة، والمفترض أن الأميركيين يعرفون بحكم وجودهم اللصيق في بلاد الرافدين أن هذا البلد لا يزال محتلاً احتلالاً شاملاً وكاملاً من قبل دولة الولي الفقيه، وأن مندوبها، أي قاسم سليماني، هو الذي يتخذ كل القرارات الرئيسية والثانوية في هذه الدولة التي من المفترض أنها دولة عربية، ثم أن المفترض أن الأوروبيين والأميركيين سمعوا تصريحات سيرغي لافروف التي قال فيها إن روسيا تعتبر أي عمليات وأي قصف جوي لقوات التحالف ضد «داعش» و«النصرة» في سوريا عمليات «غير قانونية»!!
لقد بات ثابتًا ومؤكدًا أن هذه الحرب المسعورة والمدمرة التي يشنها بشار الأسد ضد الشعب السوري وضد المعارضة السورية «المعتدلة» والتي يقحم في جحيمها باقي ما تبقى من أبناء الطائفة العلوية «المختطفة» هي حربٌ إيرانية من الألف إلى الياء، وهي حرب روسية أيضا، وهذا يعني، ما دام أنّ القرار في دمشق هو قرار الولي الفقيه وهو قرار فلاديمير بوتين، أنه لا أمل إطلاقا بإحياء عظام جنيف الأولى التي باتت رميمًا، وأنه لا أمل إطلاقا بمرحلة انتقالية توافقية، وهكذا، وبالتالي فإنه لا يوجد هناك أي خيارٍ آخر إلاّ خيار الإسراع في تدريب وتسليح وتوحيد هذه المعارضة المعتدلة وخيار حسم مسألة اعتبار أن نظام دمشق هو أساس الإرهاب المتفجر في هذه المنطقة، وأن المواجهة الفعلية معه يجب أن تكون في الوقت نفسه الذي تجري فيه مواجهة «داعش» و«النصرة».. وهذا يتطلب موقفًا دوليًّا وعربيًّا حاسمًا تجاه هذا التدخل الإيراني والروسي السافر في الشأن الداخلي السوري وفي الشؤون الداخلية العراقية.
غير مفهوم أن تستمر كل هذه الحرب الجوية الطاحنة في بلدة عين العرب «كوباني» المسكينة بينما يفعل تنظيم «داعش» كل هذا الذي يفعله في العراق، وبينما تتمدد «النصرة» ومَن معها ويحارب حربها كل هذا التمدد في أهم المناطق الاستراتيجية السورية.. فماذا يا ترى ينتظر الرئيس الأميركي باراك أوباما؟! وماذا ينتظر يا ترى هذا الغرب الكسيح..؟! ماذا ينتظر العرب المشاركون في هذا التحالف..؟؟.. إن الإيرانيين والروس الذين دمروا مبادرة «جنيف 1» والذين يعتبرون الحرب في سوريا حربهم، وهي كذلك، لا يمكن أن يسمحوا بهذه المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها حتى وإن أرادها بشار الأسد.. إنهم سيواصلون حربهم على هذه المعارضة السورية المعتدلة، وإنهم سيأخذون هذا البلد وهذه المنطقة كلها إلى الفوضى والتمزق إن لم تكن هناك وقفة جادة وجدية غير كل هذه المواقف الاستعراضية من قبل هذا «التحالف» الدولي ومعظم الدول المنضوية في إطاره!!
كل يوم تمدنا وسائل التواصل الاجتماعي بكم كبير من الصور الصادمة، فيها كل ما يمكن أن تنتهي إليه أدوات الثأر والجريمة والعبث المجنون.
صور القتل والذبح والتفجير والدم والهدم واللحوم البشرية المتناثرة، والحرق والرجم والجلد وغيرها من الإعمال الإجرامية، أصبحت حلقات في مسلسل الرعب الذي كتب على جيلنا أن يكون شاهداً عليه بكل تفاصيله، التي فاقت حدود الخيال والمعقول.
يحدث كل ذلك باسم الله، وبأمره وحسب وصاياه، بناء على أقوال المجرمين الذين ينفذون كل تلك البشاعات باسم الدين، وتحت رايات إسلامية مختلفة، في سبيل نزواتهم التي لا تحد للوصول إلى السلطة والمجد والثروة، واستجابة لموروثاتهم القبلية والثقافية المنافية لروح الدين وسماحته.
إنها حقاً جرائم باسم الله، جرائم هي أشبه ما تكون بمنتجات فاسدة سامة قاتلة، صنعها تجار مجرمون، ثم وضعوا عليها اسم الله كـ»علامة تجارية»، وقالوا لنا إنها حسب شريعة الله، لأغراض التسويق ليس أكثر.
وفي الواقع، فإن الغالبية العظمى من أهل الأديان يتزيون بأديانهم على مستوى القول، لكنهم عند الممارسة يمارسون ثقافاتهم وتقاليدهم المختلفة. ولنكن أكثر تحديداً، بالقول إن أهل الأديان يتصرفون وفقاً لتقاليدهم الموروثة أكثر من وصايا الله، مع العلم أن هذه التقاليد الموروثة هي في معظمها ضاربة الجذور في تربة قبلية عشائرية غير مدنية وغير روحية. الذين رجموا فتاة سورية قبل أيام، ارتكبوا جريمة في حين ظنوا أنهم نفذوا حداً لله، وليس هنا محل نقاش الحدود بقدر ما هو حديث عن تنصيبهم أنفسهم وكلاء لله بدون تفويض من خلق الله، وفي زمن ملتبس، وفي ظروف غامضة، ومحاكمات غير عادلة. والذين هاجموا مسجداً للسنة في العراق في أحد أيام الجمعة وقتلوا العشرات من المصلين، ارتكبوا جريمة، ومارسوا عادة الثأر العشائري لأنفسهم، في حين زعموا أنهم يثأرون للحسين، الذي لا دخل لضحاياهم بدمه. يقول الكاتب والمفكر الأمريكي رضا أصلان في مقال له في «نيويورك تايمز» «كل دين يتجذر بعمق في التربة التي نبت فيه، ومن الخطأ الاعتقاد ان الناس يشتقون قيمهم من أديانهم، والعكس هو الصحيح: فالناس يدخلون قيمهم ضمن أديانهم، ويقرؤونها من خلال عدسات افتراضاتهم الثقافية والعرقية والقومية والسياسية.. (نيويورك تايمز 11/9/2014)
وبمناسبة أجواء عاشوراء عند المسلمين بشكل عام، فإن بعض الطقوس التي يمارسها المسلمون الشيعة ـ على سبيل المثال ترجع في أصولها إلى تقاليد وموروثات هندية قديمة، لا علاقة لها بالحسين، لكنها دخلت كجزء من الممارسات الدينية في مناسبة إحياء ذكرى استشهاد الحسين عند الشيعة، ومن هذه التقاليد «التطبير» المتمثل في إراقة الدماء في الطقوس الحسينية، وقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعية صوراً مرعبة لأطفال يكتفون، في حالة من الرعب لتشج رؤوسهم لإراقة دمائهم ضمن تلك الطقوس، في حالة تعكس ضرباً من العنف الذي تم إخراجه في ثوب ديني، على الرغم من أنه دخل على المسلمين من موروثات قديمة، لها علاقة بأجواء الثار والحروب في منحى ميثولوجي واضح.
وبعيداً عن المشاهد الحسينية الطقوسية، يمارس اليوم في كل من سوريا والعراق واليمن ضرب من العنف المغلف بالدين باستهداف المساجد ودور العبادة، وعمليات التفجير والقتل والذبح المتبادل بين المتحاربين بطريقة وحشية، تضرب بجذورها في أعماق قبلية عصبوية قديمة، لكنها تخرج للناس باسم الله، باسم علي والحسين والعباس وزينب وعمر وأبي بكر وعائشة وغيرها من الأسماء في التاريخ الإسلامي. وقد استغل كثير من خصوم المسلمين في الغرب تلك المشاهد الهمجية لتسعير حملتهم ضد الإسلام. يقول المعلق والكاتب الأمريكي بل ماهر، إن «الإسلام لا يشبه بقية الأديان، بل يشبه المافيا»، ويسجل انزعاجه من تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي قال «إن إرهابيي الدولة الإسلامية لا يمثلون الإسلام»، حيث يؤكد ماهر إن لدى الإسلام الكثير من المشتركات مع «داعش».
وبالطبع فإن ماهر جانب قواعد النزاهة والموضوعية في قوله السالف عن الإسلام، وتعمد «الانتقاء» في مقاربته، لأنه لم يفرق بين ما هو «ثأر سياسي»، يندرج ضمن أخطاء البشر وحماقاتهم الكبيرة التي تأتي ضمن صراعاتهم المستمرة على السلطة، وبين ما هو من جوهر الدين، بما هو في أصله علاقة روحية بين الإنسان والله، بعيدة كل البعد عن الموروثات القديمة التي تضرب بجذورها في عقلية قبلية تقوم على الثأر وتمجد الموت.
البشر يصطرعون دائماً على مصالحهم، ولكنهم في كل جولات الصراع لا يظهرون الأسباب الحقيقية للصراع التي تدور في معظمها، حول المصالح، بل يغطونها بغلالة دينية لها علاقة بالله، لكي يغطوا على أنانيتهم في تفجير الصراع، ولكي يستمدوا من الله شرعية لاستمرار صراعاتهم باسمه، وحتى يستمر تحشيد الأنصـــار من البسطاء الذين نتطلي عليهم حيلة الزعماء في تغطية الصراعات السياسية بثوب ديني خالص.
لا يوجد في الحقيقة عنف ديني، أو صراع ديني بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن الصراع في حقيقته مرتبط بالمصلحة، أما القيم الدينية والروحية فإن أكثر ما يمكن أن يبعد الناس عنها، هو فرضها على الناس بالقوة وتفجير الصراع من أجلها. إن الذي يقول بوجود صراع ديني، يريد منا أن نصدق أن السباق إلى السماء الواسعة لا يكون إلا بالقتال، أو أننا لكي ندل احداً على طريق الجنة، فلابد أن نقتله ليذهب سريعاً إليها. هذا منطق لا يستقيم، ولن يستقيم الأمر كله إلا بتركيز المسلمين على توظيف الدين لتعمير الأرض، أما السماء فإنها عامرة بأهلها، لن يستقيم الامر إلا بتعاونهم لنصرة أنفسهم، لا تقاتلهم لنصرة الله.
تقدمت مدينة عين العرب/ كوباني السورية على المدن الاخرى اعلاميا منذ بدا هجوم تنظيم الدولة/ داعش على حدودها وتهديدها بالغزو والاحتلال كما حصل مع غيرها من المدن التي سبقتها ولم تجن مثلها ما يعرّف بها او يعيرها مثل هذا الاهتمام. فتحولت الى اسم علم مركب، باسميها العربي والكردي، في صدر الصحف وأخبار وسائل الاعلام بكل اللغات، من خلال الهجوم عليها واستفادت منه ولكن كما بات معروفا لم يمر دون تضحيات جسيمة. فقد عانى اهلها وسيعانون من كل ما حصل لها، حتى اعلاميا. كل ذلك له اسباب كثيرة. من بينها ما تعرضه من فضائح لجهات عديدة، ارتبطت او تورطت بها او تواطأت عليها. حيث تبينت المواقف المتناقضة والصراعات الخفية بين القوى الاستعمارية والمصالح الامبريالية وشعاراتها الكاذبة. حتى اريد ان يصبح ما جرى للمدينة وسكانها عبرة لغيرها. فكل ما يعلن ويذاع لا يساوي ابدا ما تعرض له الاهالي فيها، النازحون منهم او الصامدون او المقاتلون المدافعون عنها بشجاعة وعزيمة. ولعل الاخطر في امرها هو ما تسلسل من وقائع وأحداث منذ البداية والى اليوم. فالتحالف الدولي الذي اعلن للقضاء على داعش انكشف في عين العرب/ كوباني وفضح في ممارساته وكذبه وخداعه. والأكثر فيه ما تم بينه وحليفته الرئيسية في المنطقة، تركيا، وعضويتها في حلف الناتو وتحالفاتها الاقليمية ومواقفها المتناقضة بين المشاركة مع التحالف او المخالفة له. ولعل تناقضات تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وأركان حكومته حول الموضوع تكشف تلك الجوانب، لاسيما حول الضغوط الواسعة من قبل الاكراد وحزب العمال الكردستاني/ PKK والاتفاقيات المبرمة والحلول السلمية والتفاوضية التي تعمل عليها بالتعاون والتنسيق مع ابرز دول التحالف الحالي.
عرّت عين العرب/ كوباني مواقف التحالف وتركيا بشكل سافر. وصعّدت من طبيعة التناقضات البينية بين الحلفاء وتركيا، وبين تركيا والأكراد، وبين الاكراد انفسهم، سواء من سكان كوباني او اقليم كردستان العراقي او الاكراد في تركيا، وبين التحالف الدولي والأكراد، وبين المجموع كله والدولة السورية، وبين كل طرف والسياسات الدولية المعلنة والسرية. حيث لا يمكن ان ينجز ما تسعى اليه التحالفات حاليا دون وضوح وتفاهم مشترك بين جميع هذه القوى والسلطات من جهة وأهداف التحالف الواسع المعلنة وتداعياتها على المنطقة من جهة اخرى. هذه اللوحة المتشعبة تعكس طبيعة الاوضاع ومآلها والخطط الموضوعة لها. اذ ان الحديث الامريكي عن سنوات لعلاجها واختلافها في تحديد مدياتها يدعو الى خلط واسع بين الهيمنة والاستئثار في احتلال المنطقة والقدرة على الاستمرار فيها بتطوير المصالح والصلات او التحالفات والأحلاف والقواعد العسكرية والثمن المكلف لكلها.
قدم داعش للتحالف الدولي وقيادته الامريكية وجناحها الحربي، البنتاغون، فرصة دسمة للعمل وتنفيذ المشاريع القديمة في تفتيت المنطقة والهيمنة عليها، واستنزاف طاقاتها وثرواتها وتهديد اجيالها ومستقبلها. الامر الذي انكشف من خلال تاريخ مسيرة داعش نفسه، والتخادم الواضح في تتبع الخطوات وحلقات الهجوم الامبريالي الشرسة في المنطقة اساسا. ففي الوقت الذي يشن فيه داعش هجماته على مدينة سورية يهاجم مدينة عراقية ايضا بقوة عسكرية كبيرة ويحرز تفوقا في كليهما رغم ادعاء التحالف الدولي وقوته العسكرية الضاربة والمتقدمة صناعيا وتكنولوجيا ورغم كل القدرات التقنية والاتصالات والإمكانات المادية والبشرية المتيسرة للخدمة ومقارعة داعش. مما يعني ان داعش تتوفر لديه خطط متواصلة وإمكانات غير قليلة، وان دوره مهم لأنه يشكل ضمنا حلقة من الحلقات المنتظمة في تدمير المنطقة وخرابها. وينفذ ما هو مطلوب في رسم خريطة جديدة للمنطقة باسمه وباسم التحالف الدولي وبدعم معلن من الثروات العربية، ومشاريع تدمير حاضر ومستقبل شعوب المنطقة.
المضحك حقيقة هو تهرب الداعمين الفعلين للجرائم المرتكبة والانتهاكات الصارخة للقوانين والأعراف الدولية في تصريحاتهم في المحافل الدولية بعدم تقديمهم أي دعم لداعش، وكأن داعش ولد من شق في ارض المنطقة وتسلح واحتل كل تلك المساحات من البلدين، العراق وسوريا، او هبط من السماء وتوفر له كل ما يحتاجه من بين ذلك. وهذا المثير للضحك فعلا يفضح من جانب اخر التورط في صناعة كهذه والعلم في امكانية ارتداده عليه، فيختلق الاعذار لنفسه قبل غيره ويحاول تخفيف الصدمة التي خطط لها من اعادة انتاجها ومواجهتها في بيته ايضا. وقد تكرر هذا من اغلب المشاركين في تلك الصناعة او المساهمين في توفير ظروفها وبيئاتها الحاضنة والمنتجة لها، سابقا او حاليا.
ماذا قدمت تصريحات التهرب منها امام الغارات الجوية التي دمرت البنى التحتية لمؤسسات البلدين، سوريا والعراق، للمصالح العربية والإسلامية؟. لقد عمل التحالف على اصدار قرار من مجلس الامن وجال وزير الخارجية الامريكي، وقاد الرئيس الامريكي اجتماعات واتصالات بناء تحالف دولي كبير يحارب داعش ليمنعه من التمدد اكثر مما هو عليه والوصول بخطورته الى اوروبا وأمريكا وحلفائها الاخرين.. فكل ما تم لحد الان لم يغير من وقائع حلقات الهجوم الاستعماري والداعشي منه والمخططات الموضوعة له. وتؤشر التراجعات والتجاذبات في المواقف والتصريحات الى ان كل ما جرى هو جزء من عملية الهجوم الامبريالي وان بداياته هذه تقود الى النهايات المعلومة، من اعادة احتلال واختلال وتدمير وخراب عام. فهل تقبل الشعوب بها وهل تصمت عليها ام انها تعلن رفضها بكل ما لديها من قدرات وإمكانات وتعيد لها دروسها وتجربتها من جديد؟. وهو ما يظهر الان بوضوح رغم كل ما حصل وجرى. وما يفضح اللعبة الجهنمية هو ما حصل للمواد الطبية والغذائية والأسلحة التي رمتها الطائرات الامريكية على مدينة عين العرب/ كوباني لمساعدة المقاتلين فيها ضد داعش كما اعلن ووظفت له جهود اعلامية كبيرة، حيث اعترف البنتاغون بان قسما منها ذهب الى المناطق التي تخضع لسيطرة داعش، فماذا يعني هذا؟ وماذا يدل عليه؟. وأين القدرات والذكاء الغربي والتحالف وخططه الحربية؟. ورد داعش فورا بنشر يوتيوب عن استلامه حصته من المساعدة الامريكية!.
في ترديد للخطاب الإيراني اليومي الذي يحمّل المملكة العربية السعودية المسؤولية عن إنشاء ودعم تنظيم الدولة الإسلامية، ذهب نصرالله في إحدى خطب عاشوراء إلى القول إن «الذي يتحمل المسؤولية الأولى اليوم في العالم الإسلامي عن وضع حد لانتشار هذا الفكر هو المملكة العربية السعودية»، مضيفا أنه «لا يكفي أن يؤسسوا تحالفا دوليا لتأتي جيوش العالم كي تقاتل داعش. في البداية، وهذا خطاب للكل، أغلقوا المدارس التي تخرج أتباع هذا الفكر الداعشي، وأوقفوا وأغلقوا أبواب التكفير والحكم على الناس لأنهم مشركون لأدنى الأسباب». في الخطاب الإيراني الرسمي يتردد هذا الطرح يوميا، فيما تتكفل وسائل الإعلام الإيرانية بملاحقة خبر أيّ سعودي يُقتل في صفوف تنظيم الدولة، مع أن جميع الدوائر الأجنبية والعربية تؤكد أن السعوديين ليسوا الأكثر عددا في صفوف التنظيم؛ إذ يتقدم عليهم التوانسة مثلا، وهم أبناء بلد كان متطرفا في علمانيته طوال عقود، إلى جانب قادمين من الدول الأجنبية. ليس هذا دفاعا سياسيا عن السعودية التي نختلف مع الكثير من مفردات سياستها الخارجية، لكنه دفاع عن الحقيقة التي يحاول نصرالله وجميع أركان التحالف الإيراني إنكارها ممثلة في أنهم المسؤول الأكبر عما يجري في المنطقة، وفي مقدمته تقدم تنظيم الدولة في سوريا والعراق. ربما لا يعلم نصرالله، أو لعله يعلم، ومن ورائه إيران أن الفكر المعتمد في السعودية من الناحية الرسمية، هو الفكر النقيض للفكر الذي يتبناه تنظيم الدولة، والذي يسمّى خليجيا بـ «الجامية»، أي الطرح الذي يركز على طاعة ولاة الأمر، بل اعتبار ذلك من مسائل العقيدة، ورفض إعلان أي حرب من دون إذنهم. وما من دولة نشرت هذا الفكر الأخير الذي حارب الفكر الذي يتبناه تنظيم الدولة مثل السعودية. صحيح أن المرجعية التي يتبناها الطرفان هي ذاتها، أعني الكتاب الكريم، والسنّة، «بحسب منهج السلف الصالح»، لكن النتيجة التي يصل إليها الطرفان متناقضة من الناحية السياسية. في هذا السياق ثمة نقطتان بالغتا الأهمية ينبغي أن نذكّر بهما نصرالله وعموم التحالف الإيراني، أولهما أنهم المسؤولون الحقيقيون عن إحياء فكر السلفية الجهادية الذي يتبناه عمليا تنظيم الدولة، أولا بسبب دعمهم لدموية بشار، وثانيا بسبب دعمهم لطائفية المالكي، وليتذكروا أن التنظيم كان في حالة تراجع في العراق، وليتذكروا أن أسامة بن لادن كان يقدم مما يشبه النعي لبرنامج العنف المسلح بعد الربيع العربي الذي أسماه «تحولات تاريخية»، وما أحيا هذا البرنامج هو دعم إيران لدموية بشار، وطائفية المالكي. من هنا، يمكن القول: إن تصريحات التحالف الإيراني التي تتهم السعودية هي محاولة للتهرب من مسؤوليتهم المباشرة عما جرى ويجري، وها إنهم يكررون ذات السيناريو في اليمن بدعمهم لاحتلال الحوثي، وانقلابه على ثورة شعبه، وهو الموقف الذي منح وسيمنح حاضنة شعبية للقاعدة، تماما كما منحت سياستهم حاضنة شعبية لتنظيم الدولة في العراق، وللسلفية الجهادية في سوريا. إن ما يجري هو في المقام الأول رد على غطرسة إيران، وليس نتاج أفكار، لأن الأفكار لا تصنع عنفا مسلحا، وإنما تمنحه الدافعية والمبرر لا أكثر ولا أقل. يدخلنا هذا إلى النقطة المهمة الأخرى، والتي تتمثل في سؤال يقول: إذا كانت السعودية مسؤولة عن فكر تنظيم الدولة، فمن هو المسؤول عن فكر عصائب الحق وتنظيم بدر وحزب الله- العراق؛ والميليشيات التي استخدمت أكثر أنواع العنف بشاعة ضد العرب السنّة في العراق، وحيث سمعنا لأول مرة في التاريخ عن ثقب رؤوس الناس بالـ «الدريل»، وما شابه من وسائل القتل والتعذيب الأبشع من قطع الرؤوس بالسكين؟! هنا تحديدا تبرز التعبئة المذهبية أكثر مما تبرز هناك في حالة فكر تنظيم الدولة (التكفير في الوسط الشيعي محمولا على استعادة يومية للثارات التاريخية أكثر شيوعا وإن لم يبرز إعلاميا)، مع حضورها في الحالتين، لكن العنف هنا لم يكن مبررا بأي حال، لأن العرب السنّة في العراق كانوا في حالة استضعاف بعد احتلال العراق. ونسأل نصرالله أيضا: ألم يكن حزب الدعوة العراقي الذي يعتبره واحدا من أهم مراجعه هو صاحب أول عملية انتحارية قتلت مدنيين في بيروت عام 81 ضد السفارة العراقية، والتي قتلت فيها زوجة الشاعر نزار قباني، ورثاها بقصيدته الشهيرة المعنونة باسمها «بلقيس»؟! نعيد القول: إن إيران بغرورها وغطرستها هي المسؤول الأكبر عن هذا العنف، وهذه الفوضى في المنطقة، وهي دفعت وستدفع أثمانا باهظة، ولن تصل إلى نتيجة، لأنها لن تأخذ في المنطقة أكثر ما يسمح لها حجمها، مع أن المصيبة قد طالت وستطال الجميع من دون شك. فكفاكم تزويرا للوقائع والتاريخ، ومن ضمنه ما يجري من عنف في لبنان؛ سببه الأول هو تدخل حزب الله في سوريا لصالح المجرم الذي يقتل شعبه في سوريا.
بعد سنوات من الدعم والتسليح اللذين كانت تتلقاهما جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف، وتقدُّمها لتيار الاعتدال، بعد إعلان قائدها الشهير القاضي بتنظيم صفوف المقاتلين لمواجهة داعش، هاهي اليوم تجد نفسها في لحظة فاصلة خارج المعادلة، في لعبة توازنات إقليمية ومنازعات دولية في المنطقة التي لا تخضع لسلطة النظام.
لقد عادت جبهة النصرة إلى موئلها الأول، ريف إدلب الذي شهد انطلاقتها، مثلما كان منتجاً لأهم مؤسسات العمل المدني “المجالس المحلية”، وسبّاقاً لمواجهة شاملة مع نظام الأسد منذ انتفاضة السوريين ضد الاستبداد، عبر المجموعات المدنية والعسكرية، التي شكلت نواة الجيش السوري الحر، الذي توّج جمال معروف – لاحقاً – فيه نفسه وريثاً شرعياً..دحرته النصرة، بعد سيطرتها على جبل الزاوية وجوارها، فانفرط عقد جبهته، وانشق مقاتلوه للالتحاق بالمسيطر الجديد.
في هذا السياق، ثمة مسألتان وجبت الإشارة إليهما: أولاهما أن جبهة النصرة شملها قرار مجلس الأمن 2170 وملحقاته، ويفترض أن تتم محاربتها ضمن “استراتيجيات” التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، بغاية تحجيم قدراتها العسكرية، ومنع خطوط الإمداد عنها، ومنع تمددها أسوة بداعش..فكيف تمكنت النصرة من نقل عملياتها العسكرية بمثل هذه المرونة، من القلمون والحدود اللبنانية، لتخوض معارك طاحنة مع شركائها في القتال ضدّ الأسد.
وثانيهما: أنّ جبهة ثوار سوريا التي كانت تعتبر النواة الأساسية -مع حركة حزم- لقوى الاعتدال التي كان من المفترض أن يتشكل منها الجيش الوطني المقترح، وكان مهيئاً له الانخراط في إعادة التنظيم والتدريب بإشراف أميركي-إقليمي، حيث يكون الذراع البرية للتحالف الدولي ضدّ داعش قد تراجعت نفوذها وقوتها.
هزيمة جمال معروف، بهذه الصورة الدراماتيكية، لا تظهر لنا هشاشة هذة التشكيلات فحسب، بل هي تبين عن عمق الفوضى التي تنخر جسد مؤسسات المعارضة التي يفترض أن تعمل مع هذه التشكيلات على تعزيز بنيتها التنظيمية وقدرتها القتالية، فلا تبقى خارج سيطرة القرار الموحد والمركزي لقوى المعارضة، ولا تبقى مجموعات معزولة عن بعضها البعض، يسهل اصطيادها ودفعها نحو التناحر والتنازع حول أسباب صغيرة. حيث أنّ جبهة ثوار سوريا شهدت تضخيماً لقدراتها وحجمها ودورها، وقد خسرت معركة وادي الضيف أمام نظام الأسد جراء ذلك، في الوقت الذي كانت تتلقى فيه دعماً جيداً من قوى إقليمية عديدة.
لا شك أنّ الصراعات التي تعصف بالقوى المكونة للائتلاف الوطني، بشأن الاستحواذ على سلطة المعارضة وصناعة القرار وتكوين المؤسسات “قيادة الأركان – الحكومة المؤقتة”، قد عكست أثرها المباشر في الاستفادة من الفرص الإقليمية والدولية الجديدة، بما يقود إلى تقوية المعارضة السورية، من حيث “مأسسة” أجهزتها، وإعادة تنظيم ولاءاتها وتحالفاتها وأولوياتها، تأسيساً على المطامح الوطنية. ومازالت الفرصة لم تغلق بابها بعد مع استمرار الحملة العسكرية للتحالف الدولي، وحاجته إلى شريك فعلي على الأرض في سوريا. غير أنّ المعارضة بقيت متشبثة بتناحرها في ما بينها، الذي جعلت منه غير قابل للحلّ، على الرغم من توفر كل الظروف الدافعة إلى إيجاد حل كفيل بإنهاء الصراعات مفاده؛ أن تدعم الولايات المتحدة بشكل خاص، عملية بناء جيش وطني من التجمعات والتشكيلات العسكرية المتناثرة، بمرجعية سياسية وقيادة عسكرية موحدة، خاصّة في هذا الوقت الذي زاد فيه تمدد كلّ من داعش والنصرة، وكذلك تقدم النظام في عدّة محاور. مرة جديدة، تبدو فيها هيئة الأركان والمجلس العسكري، في حالة تتسم بالضعف والعجز عن القيام بدور فعّال يجنّب قواها تبديد قدراتها في غير مواجهة النظام. وهو العجز ذاته الذي أصيبت به من قبل مرتين في الرقة: الأولى ترك الرقة وقت تحريرها دون أيّ دعم أو مساندة لملئ الفراغ، مما أسهم في استباحتها من قبل أحرار الشام والنصرة، والثانية التقاعس عن تقديم الدعم والمساندة لقوى “الجيش الحر” في مواجهة تنظيم داعش، ما أدى إلى استيلاء الدولة على كامل المحافظة، ومن ثم دير الزور وريف حلب.
عموما فإنّ المعارضة السورية بمؤسساتها الأساسية (الائتلاف الوطني، الأركان والحكومة المؤقتة) تتحمل مسؤولياتها عما آلت إليه الأمور في جبل الزاوية، وتبدو هزيمة جبهة ثوار سوريا بمثابة طلقة الرحمة على ما تبقى من “الجيش الحر” الذي لم يستطع حماية نفسه وتراجعت مواجهاته مع النظام لصالح انغماسه في إدارة المناطق التي يسيطر عليها.
ومع هزيمة معروف وما يجري في “كوباني/عين العرب” تبدو أحلام المعارضة السورية في إنشاء منطقة آمنة، بعيدة المنال، فالوضع على الأرض شديد التعقيد، والمصالح الدولية والإقليمية في وادٍ، والمطمح الوطني لقوى الثورة السورية في وادٍ آخر.
الحرب هي سلسلة من المعارك، بعضها يجري في مناطق متعددة، وبعضها الآخر يحدث في فترات زمنية مختلفة، ولكنها كلها متصلة بمنطق واحد يربط طرفي العداء والمواجهة هو تناقض أصيل في القيم وفي المصالح وفي الأهداف. والحرب في النهاية هي اختبار يكشف المجتمعات والدول، وما لديها من صلابة وقوة وقدرة على حماية أمنها القومي، والأهم من ذلك كله مجموعة القيم التي تستخدم من أجلها القوة المسلحة. ما يجري حاليا بطول العالم العربي وعرضه هو من ناحية حرب عالمية لأن لكل من طرفيها أبعادا عالمية؛ سواء كان ذلك على جانب التحالف الدولي والإقليمي المقاتل للدفاع عن المنطقة والعالم من هول الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ أو التحالف الدولي والإقليمي الملتف حول جماعة «داعش» أو دولة «الخلافة» والذي يأتي له المقاتلون من دول وقارات متعددة. الطرف الأول بدرجات مختلفة يعطي حق الاختيار لمواطنيه، ويجعل لمصالحهم في إطار الدولة الوطنية قيمة بقدر ما؛ الطرف الثاني لا يعرف درجات من أي نوع، لأنه يعتمد على فكرة هندسة المجتمعات في أنساق وسلوكيات كما فعلت النازية والفاشية من قبل. وضمن هذا الإطار يجري صب الإنسان، رجلا كان أو امرأة، في قالب بعينه، فملابسه محددة، وهيئته معروفة، وتحركاته منذ الصباح حتى ساعة النوم مقننة. هو لا يفكر، ومع ذلك فهو يعتقد أنه الأكثر تفوقا وعزيمة على كل من عاداه أو اختلف معه، أو كان له تفسير مختلف لنص.
المدهش أنه حتى الآن فإن التحالف الدولي والإقليمي لا يزال يرى في المعركة الدائرة أنها في مواجهة «الإرهاب»، ومن ثم فإن الأسلوب الأمثل للتعامل معها هو في الإطار العسكري للتعامل مع الإرهابيين أو بالإنجليزية Counter Terrorism. وهذه هي المدرسة التي تطورت في الفكر العسكري الأميركي حتى بلغت ذروتها وأكثر درجاتها نقاء مع تولي باراك أوباما الإدارة الأميركية عندما جنح بالمؤسسة العسكرية إلى هذا الاتجاه. ولمن يريد أن يعرف ما هو أكثر عن هذه المدرسة فإن عليه متابعة قصة القضاء على أسامة بن لادن حيث كانت هناك قوات خاصة عالية التدريب، ولديها أدوات اختراق دول وحدود دون حرص على سيادة أو مكانة، وتعتمد على معلومات واستخبارات كثيفة لتحديد الهدف بدقة، ثم قادرة على الانقضاض على الهدف وتدميره. وهكذا دارت المعركة الأميركية ضد الإرهاب خلال السنوات الماضية مع قتل قيادات «القاعدة» وتمزيق إطارها التنظيمي. مثل ذلك كان فعالا سياسيا بدرجة ما لرئيس أميركي لا يعرف عنه الصلابة العسكرية، وربما كان مفيدا في تغطية انسحاب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، ولكن المؤكد أنها لم تفلح في القضاء على الإرهاب بل إنه تمدد واستشرى في مناطق واسعة من العالم وخاصة في الشرق الأوسط الممتد من المغرب إلى حدود الصين، ومن تركيا حتى الصومال ونيجيريا.
وهكذا فإن الأسلوب الذي تعمل به الولايات المتحدة حاليا في التعامل مع معركة كوباني-عين العرب لا يزال يدور في فلك نفس الاستراتيجية، وكانت النتيجة أن أسابيع مرت دون حسم لأن القصف الجوي وتدعيم القوات المدافعة عن المدينة ببضع مئات من المقاتلين ليس كافيا. العجيب أن نجاح «داعش» في حصر المعركة في مدينة واحدة، أعطاه القدرة على التحرك ناحية بغداد، والتوسع في محافظة الأنبار وإعطاء جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» القدرة على الاستيلاء على قرى في إدلب السورية، بينما الجماعات المؤيدة لها، والتي بايعت إبراهيم البغدادي خليفة للمسلمين في المغرب والجزائر وتونس وليبيا تحاول كل منها أن تجعل لنفسها قاعدة أرضية تتحرك منها، فإذا فشلت فإنها تحاول أن تجعل حالة البلد التي تعيش فيها بائسة ومضطربة وغير مستقرة. الهجوم الذي قامت به جماعة أنصار بيت المقدس على جنود مصريين عند نقطة كرم القواديس جنوب الشيخ زويد قرب العريش في سيناء كان جزءا من الحرب الدائرة حتى ولو شكل معركة منفصلة بلغ ضحاياها 50 بين قتيل وجريح.
المدهش أيضا أنه في الوقت الذي تحارب فيه الولايات المتحدة بمنطق محدود وضيق، فإنها لا تدرك أن «داعش» هو قمة جبل الثلج الذي يضم شبكات هائلة من التنظيمات. في الحالة المصرية على سبيل المثال فإن شبيه وحليف «داعش» هو جماعة أنصار بيت المقدس والتي تحاول أن تجعل من سيناء قاعدتها الجغرافية، ولكنها في نفس الوقت هي قمة جبل النار الذي يضم جماعات أخرى أكثرها عددا جماعة الإخوان المسلمين التي تعمل على إشاعة القلق في الجامعات المصرية وفي الشارع المصري، وبجوار هؤلاء توجد طوائف متنوعة من الجماعات الأصولية التي لكل منها تاريخ في العنف والإرهاب. هؤلاء جميعا لهم أدوار متعددة، بعضهم يلعب دور المقاتل، والآخر السياسي، والثالث وهو الأخطر يأخذ دور «المعتدل». هذا الأخير مهمته التعامل مع القوى اليسارية والليبرالية وتطويعها نفسيا وفكريا، وربما حتى تطويع الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب كله الذي ما زال يراهن على «المعتدلين» الأصوليين، بل إنه أحيانا يراهم المقدمة الطبيعية للديمقراطية في البلدان الإسلامية. ولعل ذلك يفسر حالة الحماس الشديد التي انتابت أوباما وأقرانه إزاء نتائج الانتخابات التشريعية في تونس. الغفلة هنا مصدرها أن الأغلبية الساحقة من الإخوان المسلمين هم من «القطبيين» المنتمين إلى سيد قطب الذي كان فكره هو الأساس لكل الجماعات الإرهابية في العالم؛ ومن الجائز أن تونس نجت من هذا المصير لأنها من ناحية كانت دوما دولة مدنية عريقة، ولأن إخوانها اختلطوا بالمدنية الحديثة ومن ثم خف بعض من تشددهم وتطرفهم.
تونس هكذا قد تكون استثناء من القاعدة العامة، أما ما هو سائد بين التيارات الراديكالية المتطرفة المختلفة فهو أنها أعلنت حربا على العالم عامة، وعلى المسلمين خاصة. الحرب هنا من أجل الإخضاع لنمط من الحياة لا يليق بعالم متحضر، أو يليق بشعوب القرن الواحد والعشرين. «داعش» وأقرانه ليسوا استثناء من القاعدة العامة للحركات الأصولية التي خرجت من منابع فلسفية قوامها هندسة الحياة الإنسانية من جديد كما أسلفنا، طالما أن لديهم أصيل الاعتقاد أنهم «الجماعة الناجية من النار»، بينما غيرهم فإن مصيرهم جهنم وبئس المصير. حرب هؤلاء لا يكفي فيها «مقاومة الإرهاب»، أو ضربة جوية هنا أو هناك، أو الوقوف على أبواب مدينة محدودة المساحة والعدد لعل النصر فيها يفي بالغرض ويؤدي إلى تراجع الإرهابيين؛ الحرب هنا لا تقل في شمولها وعمقها عن الحروب العالمية التي سبقت.
أصدر البيت الأبيض خلال السنوات الماضية العديد من التصريحات التي تفيد بموافقة واشنطن على دعم المعارضة السورية المسلحة (الجيش الحر)، لكن شيئاً منها لم يتحقق فعلاً حتى الآن. بل على العكس، فقد كان الموقف الأميركي متشدداً في بداية الثورة السورية في متابعة أي عمليات تسليح نوعي تقوم/ أو قد تقوم بها بعض الدول لدعم المعارضة السورية. والحقيقة أن واشنطن كانت قد قامت مراراً -بالتعاون مع إسرائيل ودول أخرى- في إفشال وصول شحنات أسلحة إلى المعارضة السورية لاسيما خلال السنة الأولى والثانية للثورة السورية، وقد أرسلت الإدارة الأميركية مرات عديدة رسائل تتضمن تحذيرات وحتى تهديدات مباشرة لبعض الدول لتمنعها من القيام بتسليح الجيش الحر لاسيما عندما يتعلق الأمر بأسلحة من الممكن أن تمكّن هذه المعارضة من كسر تفوق النظام الجوي وتعمل على تغيير موازين القوى على الأرض لصالحها. وفي كل خطوة كان البيت الأبيض يتقرب فيها من إيران في المفاوضات النووية أو يتزايد فيها بطش النظام السوري تجاه المدنيين، كان أوباما يبيع حلفاءه في المنطقة بعض الوعود والكلام، ويجدد الحديث عن دعم المعارضة السورية المسلحة المعتدلة. بعد المجزرة الكيماوية في أغسطس 2013، سمعنا تأكيدا من البيت الأبيض على قرار تقديم دعم «غير قاتل» للمعارضة، تبيّن فيما بعد أنه عبارة عن مجموعة من الأحذية والخوذ وبعض مستلزمات الإسعاف الأولية وربما بعض وسائل الاتصال، وهي أدوات غير كافية حتى لمن يقوم برحلة صيد وليس مواجهة طائرات وصواريخ سكود وأسلحة كيماوية! ومع ذلك، فقد انتهى برنامج الدعم المزعوم هذا في ديسمبر 2013 بإغلاق الوحدة الأميركية المسؤولة عن تأمين وإيصال المساعدات للجيش الحر بسبب مشاكل في التمويل، علما أنّ المساعدات «غير القاتلة» التي أمنتها لم تتجاوز الـ15 مليون دولار فقط! في يونيو 2014، قرر أوباما طلب مبلغ 500 مليون دولار لدعم المعارضة المسلحة المعتدلة، لكن هذا المبلغ لم يصرف إلى الآن! ومع التحضير لانطلاق حملة «العزيمة الصلبة» ضد تنظيم الدولة «داعش»، عاد أوباما من جديد لاستخدام ورقة «دعم المعارضة المسلحة المعتدلة»، ووافق على برامج دعم وتسليح المعارضة المسلحة المعتدلة، وقامت عدّة دول عربية بالإضافة إلى تركيا بالتزام تنفيذ الدعم ضمن الخطة الأميركية. لكنّ الحقيقة أنّ خطوة أوباما هذه ليست سوى مناورة، فهو احتاج إلى تسويق هذا البرنامج مقابل الحصول على دعم هذه الدول للحملة من جهة، ولكي يبدو أنه يقوم بدعم المعارضة السورية في الوقت الذي يتغاضى فيه فعلاً عن نظام الأسد الذي تقوم الحملة العسكرية بتقويته عملياً على الأرض. وفيما يصرح البيت الأبيض بهذا الدعم للمعارضة المسلحة المعتدلة، يقوم موضوعيا بإفراغه من مضمونه. فعلى سبيل المثال، أنيطت مهمة بناء جيش جديد للثوار المعتدلين ضمن برنامج التدريب والتسليح الأميركي للجنرال «مايكل ناجاتا» مسؤول قيادة القوات الخاصة الأميركية، لكن البيت الأبيض لم يسمح له بالقيام بذلك عبر استغلال أو تجنيد الثوار المعتدلين الموجودين فعلياً على الأرض، مما يعني تقليص إمكانية نجاح مهمته واضطراره إلى البحث عن هؤلاء في مخيمات اللجوء في البلدان المجاورة. أكثر من ذلك، فإن برنامج التدريب والتسليح سيتضمن تدريب وتسليح 5 آلاف عنصر فقط كل سنة! (مع بقاء الفيتو على الأسلحة النوعية)، وهذا يعني أن بناء مجموعة من 15 ألف على سبيل المثال ستتطلب ثلاث سنوات، علما أن الأسد يستغل الحملة الحالية للتقدم على الأرض، ومن غير المعروف أصلا -في حال بقي الوضع على ما هو عليه الآن- إذا ما كان سيكون هناك معارضة في سوريا في ذلك الوقت أو حتى مناطق تابعة للمعارضة! وحتى إذا ما افترضنا نظريا أن التحالف نجح في تدريب وتسليح 15 ألف من هؤلاء في سنة واحدة، فإن الجنرال جون آلان منسق عمليات التحالف الدولي كان قد صرّح بشكل واضح أن «مهمّة هذه القوة لن تكون محاربة الأسد وإنما ستساعد على الوصول إلى حل سياسي»! وربما استخدامها فعليا ضد تنظيم «داعش» فقط على اعتبار أنّ الرئيس أوباما كان قد قال الشهر الماضي: إن الهدف من برنامج التدريب والتسليح هو «تقوية المعارضة لتكون أفضل موازن للتطرف»! الرئيس أوباما كان قد وعد سابقاً المعارضة السورية ومجموعة أصدقاء سوريا وحلفاءه في المنطقة بمزيد من الدعم للملف السوري لكنّه كان يفشل في كل مرّة في الإيفاء بوعوده لدرجة أن عدداً من المسؤولين الأميركيين باتوا يؤمنون تماماً بأنّ أوباما لا يريد حقيقة القيام بأي شيء لصالح المعارضة، وأن وعوده الحالية لن تؤدي إلى أي تغيير، فهي أشبه ببيع الوهم لحلفائه في المنطقة.
ماذا أفرزت لنا «داعش» غير الدمار والحرب والدماء وتشويه صورة «الإسلام» بما لم تفعله أي جماعة أصولية عنيفة من قبل، ومع ذلك ينساق إعلامنا وراء ماكينة الضخ الإعلامي «الغربية» التي تتعامل مع «داعش» على طريقة نزعات الموضة وأسلوب الحياة (الهيبز، والبانك…) بحيث تتجه أغلب الطروحات الصحافية الخفيفة نحو موضوعات عن السيلفي عند المجاهدين، واستغلال الأطفال بتعليمهم ذبح الدمى، وملكة جمال «داعش» وشكواها، والآن موضة «سبايا داعش» التي تتناقلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ينفيها المتعاطفون مع «داعش»، وتؤكدها تقارير دولية لمنظمات إغاثية، وبينهما يتم تناقل الخبر مع كثير من النكات والتلميحات الجنسية في أسلوب يعزز هذه الخدمة الجليلة لـ«داعش» دعائيا، بحيث لو دفعت «داعش» ملايين الدولارات لأي وكالة علاقات عامة لما منحتها ذلك الحضور الطاغي للصورة والغياب التام للسياق الذي يجب أن توضع فيه «داعش». لا أحد يناقش الأفكار، وهي المحرك الأول لكل هذه التصرفات الصبيانية لمجموعات مهووسة بوهم تفرد «دولة الخلافة» بأسلوب حياة وفق نموذج تاريخي متخيل.
لكن هل مشكلة «داعش» هي تلك الجرائم البشعة التي يتم نشرها على طريقة التسويق غير المباشر؟!
بالطبع لا، فليس بعد «التكفير» واستحلال الدماء، وحفلات «الذبح» المجانية، ذنب يوازي شرعنة «العنف» وليس فقط ممارسته. صحيح أننا نعيش عالما تتصاعد فيه موجات العنف والهويات الحادة والمأزومة في كل العالم.. تجده واضحا في الزمن التسجيلي الذي نعيشه وكأنه وثائقي طويل عن فوضى لا نهاية لها.
نحن نجابه أقلية بأسلحة من شأنها توسيع نطاقها، فسلاح تكفيرهم من دون مناقشة أفكار ومبادئ هذه التنظيمات، يتيح لها لبوس دور الضحية ليس أمام الرأي العام؛ فهذا غير مهم لها، لكن أمام مجموعات واسعة من الشباب المتردد بشأن «داعش»، الذي عادة ما يتبنى الفكرة العنفية أو على الأقل تبريرها من خلال سلوك مناهضيها، وهذه نقطة ليست في صالح الطائرات من دون طيار أو حتى الهجوم المجمل على «داعش» مع الاهتمام بتفاصيل تبدو هامشية جدا مهما كانت قيمتها من حيث الإثارة الإعلامية.
ما تؤكده آخر 3 استطلاعات رأي بحسب «معهد واشنطن للديمقراطية» وتقارير صحافية أخرى، أن شعبية «داعش» والعينة البحثية شملت ألف عينة عشوائية في 3 دول هي: السعودية ومصر ولبنان، وكلها دول على تماس مع أزمة «داعش» بشكل مباشر ومفصلي، وتم اختيار مواطني هذه الدول مع استبعاد العمالة والفئات غير المؤثرة، وكانت الإجابة مفاجئة جدًا ومثيرة للاهتمام، فعدا 3 في المائة من الانطباع الإيجابي لدى المصريين، فالأغلبية الساحقة مذعورة من «داعش»، بينما لم تتجاوز هذه النسبة في بلد يتم استهدافه كل يوم بمئات الفيديوهات والتغريدات كالسعودية الـ5 في المائة، وبلغت 1 في المائة في لبنان لا سيما في أوساط السنّة.
والسؤال: كيف يمكن قراءة هذه الأرقام رغم أنها تبدو إيجابية جدا إذا ما قيست بقضايا جنائية أو جرائم، لكنها أيضا مقلقة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن في مصر والسعودية مليون متعاطف وفي لبنان بضعة آلاف مع التنظيم، أعربوا عن ذلك بأنفسهم عدا من أضمر تعاطفه وقال «لا» أو امتنع عن الإجابة، وهذه النسب تزيد وتقل إذا ما أخذنا في الاعتبار باقي الأحزاب والتيارات المحظورة وفي مقدمتها «الإخوان»، حيث يشير التقرير إلى نسب مهولة ومرتفعة، وهو ما يعني رسالة واضحة؛ هي أن النجاحات الأمنية أو التشريعية أو حتى الاصطفاف السياسي لا يمكن أن تلغي دور إعادة بناء مفاهيم المجتمعات التي اختطفت منذ 3 عقود تحت أسماء كثيرة يجمعها سقف واحد وهو «الأصولية». بالطبع الدراسة شملت الموقف تجاه أحزاب شيعية ودول من «مربع المقاومة» الذي تقوده إيران، وفيها نسب كثيرة مفاجئة لا يتسع لها المقال.
سقف «الأصولية» إذن باق إلى أجل غير مسمى، وليست ثمة مؤشرات على برامج طويلة المدى لمعالجة مشكلة «الخطاب الأصولي» الذي لا يزال يراوح مكانه ويفاجئنا مرة بعد مرة في تغلغله وتمدده حتى إلى الشأن الرياضي، والأصولية الاجتماعية ذات المنزع الانفصالي هي بوابة الخروج من السلم الأهلي والدخول إلى أحد التنظيمات بمختلف أنواعها العنفي والانقلابي وحتى الثوري.
هناك حالة فراغ فكري ومفاهيمي كبيرة وفجوة سلوكية هائلة وغياب كبير لمعاني التسامح والاعتدال كجزء من مخلفات الفراغ السياسي والاضطرابات السريعة التي عشناها خلال سنوات الربيع التي كانت لحظة فاصلة واستثنائية لكنها لم تأتِ من فراغ إذا ما أخذناها في سياق 3 عقود من البحث عن معنى للذات والاصطدام بين السلطة السياسية والسلطات الأخرى التي تكونت سريعا بمعزل عن السلطة، وعلى رأسها «الإسلام السياسي» بما يملكه من سلطة اجتماعية هائلة من الصعب القفز عليها بمجرد حظره سياسيا أو التعامل الأمني الجاد معه، وهو ما يحيلنا إلى نظرية مهمة في علم الاجتماع السياسي عن «تعاضد الأقليات» وهو ما شاهدناه لدى الأقليات الدينية الصغيرة، وأخشى أن نراه مع تيارات أصولية متطرفة تعيش عقلية «الأقلية» وإن لم تكن كذلك على المستوى العددي.
الأكيد أن سبي «داعش» ليس إلا فصلا في مسرحية فوضوية طويلة، لكنه لا يساوي شيئا أمام سبي المجتمعات العربية والإسلامية فكريا ومفاهيميا.